الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف محقق بالمشاهدة وأيضا ظاهر قوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس يدل على إرادةالمعاصي من الكثير ليستحقوا بهم جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الأستعداد جعل خلقهم مغنيا بها مبالغة بتشديد المعد الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف ألا تراهم يقولون للقوي جسمه للمصارعة وللبقر : هي مخلوقة للحرث
وفي الأكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك وأمأ الإرادة فليست مقتضى اللام إلا إذاعلم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلىهذا لا يحتاج إلى تأويل فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليه وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم وتعوق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية وهذا معنى مكشوف انتهى فتأمل وقيل : المراد بالعبادةالتذلل والخضوع بالتسخير وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن وكافر وبر وفاجر ونحو ما قيل : المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذولوا لقضائي وقيل : المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي ويراد بالعبد العبد بالإيجاب وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى : إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لكن قيل عليه : إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء وقيل : العبادة بمعنى التوحيد بناءا على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا كنا مشركين وعليه قول من قال : لا يدخل النار كافر أو المراد كما قال الكلبي : إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدةوالبلاء دون النعمة والرخاء كما قال عز و جل : فإذا ركبوا في الأفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله فذكر العبادةالمسببة شرعاعن الأمر أو اللازمة له وأريد سببها أو ملزومها مجاز وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذاكان غير المكلفين كالأطفال الذين يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم وقال مجاهد : إن معنى ليعبدون ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد ولعل السرفيه التنبيه أن المعتبر هب المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل : وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز و جل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى وقد جاء كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز و جل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في منتهى المدارك وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثامنية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النبي ص - ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف وكذا قال الزركشي والحافظ ابن حجر وغيرهما : ومن (27/21)
يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول : إنه ثابت كشفا وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور والتصحيح الكشفي شنشنة لهم ومعذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى وقيل : أل في الجن والإنس للعهد والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى : ولقد ذرأنا الآية أي بناءا على أن اللازم فيها ليست للعاقبة ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان وأيد بقوله تعالى قبل : فإن الذكرى تنفع المؤمنين وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله عنهما ومن الناس من جعلها للجنس وقال يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنون الطائعون وهو في المآل متحد سابقه ولا إشكالأ على ذلك في جعل اللام للغايةالمطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجو تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الأستكمال بالغير كما ذهب إليه كثير من السلف والمحدثين وقد سمعت أن منهم من يقسم الإرادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها وعليه يجوزأن يبقى الجن والإنس على شمولها للعاصين ويقال : إن العبادة مرادة منهم أيضالكن بالأرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة
هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذه الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم على تقدير كون الإشارة إلى الإختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها ودفعه بعضهم بكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذامن تعقيب ذلك بقوله سبحانه : مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون
57
- وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ومالك ملاك العبيد نفي عز و جل أن يكون إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه : ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي وذكر الإمام فيه وجهين : الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة والثاني أن يكون لتقرير كونهم كخلوقين لها وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفة لكن العبيد على قسمين : قسم لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبدي الملوك وقسم يتخذون للأنتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لأصلاحها فكأنه قال سبحانه : إني خلقتهم ولابد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومنيقرب الطعام وليسوا كذلك فما أريد أن يطعمون فإذا هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم والظاهر أن المعنى ما أريد منهم رزق لي لمكان قوله سبحانه : وما أريد أن يطعمون وإليه ذب الإمام وذكر في الآية لطائف : الأولى أنه سبحانه كرر نفيا لإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء (27/22)
حوائجه من حفظ المال وإحظار الطعام من ماله بين يديه فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الإرادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي بيان غناه عز و جل كأنه قال سبحانه : لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم الثالثة أنه سبحانه قال : ما أريد منهم من رزق دونما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل وقال سبحانه : ما أريد أن يطعمون دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الإستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة إليه للفعل نفسه الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الإستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل : ما أريد منهم من عين ولا عمل والخامسة أن ما لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الأستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى فتأمله
ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق ليولهم وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولاغيرهم وما أريد أن يطعمون أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى ونحوه ما قيل : المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه وأسند الإطعام إلى سبحانه لأن كلهم عيال الله تعالى ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه وفي الحديث يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني فإنه كما يدل عليه ةخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه وقيل : الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه : قل لا أسألكم عليه أجرا والغيبةفيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبةوالخطاب وقد قريء بهما في قوله تعالى : قل للذين كفروا ستغلبون وقيل : المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في منهم و يطعمون ولاينافي ذلك قراءة أني أنا الرزاق فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول أو الأئتمار لا لعدم الإرادة نعم لا شك فيأنه قول بعيد جدا إن الله هو الرزاق الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز و جل عن الرزق ذو القوة أي القدرة المتين
58
- شديد القوة والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الإمام : كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا وكونه عز و جل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه : وما أريد أن يطعمون لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل : ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين وكان الظاهر أني أنا الرزاق كما جاء في قراءة له صلى الله عليه و سلم لكن التفت إلى الغيبة والتعبير بالأسم الجليل لاشتهاره بمعنى المعبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى : إن الباطل كان زهوقا والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر وتحتاج القراءة الأخرى إلى ما ذكرناه آنفا وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل : لأن في ذو كما قالأ ابن الهيتي وغيره تعظيم ما أضيفت إليه والموصوف بها والمقام يقتضيه ولذا جيء (27/23)
بالمتين بعد ولم يكتف بهعن الوصف بالقوة وقال الإمام : لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الأستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغةالمبالغةلأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغةفيه لكفايته في تقرير عدم الأستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل ثم قال : إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى : ليعلم الله من من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز وفي قوله تعالى : إن الله هو الرزاق الخ لما اقتضى المقام ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر وقرأ ابن محيصن الرزاق بزنة الفاعل وقرا الأعمش وابن وثاب المتين بالجر وخرج على أنه صفة القوة وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالأقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث أو لأجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة لذو وجر على الجوار كقولهم هذا حجر ضب خرب وضعف فإن للذين ظلموا أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلا آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا من العبادة وإشراكهم بالله عز و جل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة و السلام وهم أهل مكة وإضرابهم من كفار العرب ذنوبا أي نصيا من العذاب مثل ذنوب أي نصيب أصحابهم أي نظرائهم من الأمم السالفة وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماءل أو القريبة من الأمتلاء قال الجوهري : ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التيمي يمدح الحرث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا يوم عين أباغ : وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب يروى أن الحرث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ومن استعمالها في النصيب قول الآخر : لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب وهو استعمال شائع وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز : إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب وإن أبيتم قلنا القليب فلا يستعجلون
59
- أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الأتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه ويقال : استعجلت كذا أن طلبت وقوعه بالعجلة ومنه قوله تعالى : أتى أمرالله فلا تستعجلون وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين فويل للذين كفروا (27/24)
أي فويل لهم ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما فيحيز الصلة الكفر وإشعارا بعلة الحكم والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الإستعجال على ذلك و من في قوله سبحانه : من يومهم الذي يوعدون
60
- للتعليل والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه به على قول والمراد بذلك اليوم قيل : يوم بدر ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث أنه ذنوب من العذاب الدنيوي وقيل : يوم القيامة ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية والله تعالى أعلم
ومما قاله بعض أهل الإشارة في بعض الآيات : والذاريات ذروا إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعترضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة فالحاملات وقرا إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين فالجاريات يسرا إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال فالمقسمات أمرا إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الأستقامة وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب وقد قال العاشق المجازي : خذ من صبا نجد أمانا لقلبه فقد كاد رياها يطير بلبه وإياكما ذاك النسيم فإنه متى هب كان الوجد أيسر خطبه ومنها الحاملات وقرا دواء قلوب العاشقين كما قيل : أيا جبلي نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذاما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها ومنها الجاريات من مهاب حضرات القدرس إلى أفئدة أهل الأنس بسهولة لتنعش قلوبهم ومنها المقسمات ما جاءت به مما عبق من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع والسماء ذات الحبك إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز و جل إن المتقين في جنات وعيون إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة وبالأسحار هم يستغفرون يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر ومن كل شيء خلقنا زوجين إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقة بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الأمكان وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته فقروا إلى الله بترك ما سواه عز و جل وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون أي ليعرفون وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا من روايته ص - عن ربه سبحانه أنه قال : كنت كنزا مخفديا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلظ كنت كنزا لاأعرف فخلق خلقا فعرفتهم بي (27/25)
فعرفوني إلى غير ذلك وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفي عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها معروف لها معرفة وجودية فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث فخلق الخلق لأن معرفته الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب تفاوت الأستعدادات فعرفوا أنفسهم بالجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله : لا أعرف بدل مخفيا وثالثا مخفيا بمعنى ظاهرا من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه وترتيب قوله سبحانه : فأحببت أن أعرف الخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهوكما ترى لا يخلو عن بحث وأما إطلاق الكنز عليه عز و جل فدق ورد روي الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن مكنه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين والشيخ محيي الدين قدس سره ذكر في معنى الكنز غير ذلك فقال في الباب الثلثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته : لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني الحادث في قوله : كنت كنزا الخ فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلامكتنزا في شيء فلم يكن كنو الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى وهو مطلق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالىالتوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه
الطور
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي وثمان وأربعون في البصري وسبع وأربعون في الحجازي ومناسبة أولها لآخر ما قبله اشتمال كل على الوعيد وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفر ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الأشتراك في غير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم والطرر
1
- الطور اسم لكل جبل على ما قيل : في اللغة العربية عند الجمهور وفي اللغة السريانية عند بعض ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا طور سينين الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده ويقال له : طور سيناء أيضا والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة وقال أبو حيان في تفسير سورة والتين : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام وقال في تفسيره : هذه السورة في الشمام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال قيل : وهوالذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي وقيل : جبل من جبال (27/26)
الجنة وروي فيه ابن مردويه عن أبي هريرة وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته
وكتاب مسطور
2
- مكتوب على وجه الأنتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا وقال الكلبي : هو التوراة وقيل : هي والأنجيل والزبور وقيل : القرآن وقيل : اللوح المحفوظ وفي البحر لا ينبعي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الأحتمال والتنكير قيل : للأفراد نوعا وذلك على القول بتعدده أو للأفراد شخصا وذلك على القول المقابل وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب ليجزي قوما ففي التنكير كمال التعريف والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكر أو عرف ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى : في رق منشور
3
- والرق بالفتح ويكسر وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال ترقرق الشيء إذا لمع أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها والمنشور والمبسوط والوصف به قيل : للأشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرض النظر كل ناظر آمنا عليه من الأعتراض لسلامته عما يوجبه وقيل : هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناءا على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظاهر للملائكة عليهم السلام يرجعو إليه بسهولة في أمورهم بناءا على أنه اللوح أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والأهتداء بهديه بناءا على الأقوال الأخر وفي البحر منشور منسوخ ما بين المشرق والمغرب والبيت المعمور
4
- هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياكرم الله تعالى وجهه فقال : ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك الخ وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط عليها
وروي عن مجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت وقال الحسن : هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة وأنت تعلم أن من المجاز المشهور مكان معمور بمعنى مأهول مسكون نحل الناس في محل هو فيه فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا والسقف المرفوع
5
- أي السماء كما رواه جماعة وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد (27/27)
أو قائم والبحر المسجور
6
- أي الموقد نارا
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال : قال علي كرم الله تعالىوجهه لرجل من اليهود : أين موضع النار في كتابكم قال : البحر فقال كرم الله تعالى وجهه : ما أراه إلا صادقا وقرأ والبحر المسجور وإذاالبحار سجرت وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحدمبن كعب والأخفش وقال قتادة : المسجور المملوء يقال : سجره أي ملأه والمراد به عند جمع البحر المحيط وقيل : بحر في السماء تحت العرش وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وفي البحر إنهما قالا فيه ماء غليظ ويقال له : بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به الفضاء الواسع المملوء ملائكة وعن ابن عباس المسجور الذي ذهب ماؤه وروي ذو الرمة الشاعر وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الأضداد وحمل كلامه رضعنه على إرادة البحر المعروف وأن ذهاب مائه يوم القيامة وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عني المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه وقيل : المسجور المختلط وهو نحو قولهم للخليل المخالط : سجير وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودة صاحبه والمراد بهذا الأختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض وعن الربيع اختلاط عذبها بمحلها وقيل : اختلاطها بحيوانات الماء وقيل : المفجور أخذا من قوله تعالى : وإذا البحار فجرت ويحتمله ما أخرجه ابن المنذرعن ابن عباس من تفسيره بالمرسل وإذااعتبر هذا مع ما تقدم عنهآنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الأضداد أيضا وقال منبه بن سعيد : هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموجها والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا وبه أقول وبأن المسجور بمعنى الموقد ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح وهو ههنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز و جل معكونها متعلقة بالمبدأوالمعاد فالطور مكالمة موسى عليه السلام ومهبط آيات البدأوالمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل والبيت المعمور لأنه مطاف الرسل السماوية ومظهر لعظمته تعالى ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا والسقف المرفوع لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات وفيه الجنة : والبحر المسجور لأنه محل النار وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يجعله عليها كثير لزعم أن الرق المنشور لا يناسبها لأنها كانت في الألواح ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في رق وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم وقال الإمام : يحتمل أن تكون الحكمة في القسم بالطور وبالبيت المعمور والبحر المسجور أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز و جل بما خاطب وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قال عنده : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي (27/28)
ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما البحر فليونس عليه السلام قال فيه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ذكر وجها آخر ولعمري إنه لم أت بشيء فيهما والواو الأولى للقسم وما بعدها على ما قال أبو حيان للعطف والجملة المقسم عليها قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع
7
- أي لكائن على شدة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة و السلام أمان له صلى الله تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما واقع بدون لام وقوله تعالى : ما له من دافع
8
- خبر ثان لأن أو صفة لواقع أو هو جملة معترضة و من دافع إما مبتدأ للظرف أو مرتفع به على الفاعلية و من مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال : قدمت المدينة على رسول الله ص - لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ والطور إلى إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب وهو لا يأبى أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة ومن غريب ما يحكى أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال : تهيأ لما لا يسر فقال له : من أين أخذت هذا فقال : من قوله عز و جل : والطور إلى إن عذاب ربك لواقع فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص وقوله سبحانه : يوم تمور السماء مورا
9
- منصوب على الظرفية وناصبه واقع أو دافع أو معنى النفي وإيهام أنه لا ينتفي دفعه في غير ذلك بناءا على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أمهلهم ومنع مكي أن يعمل فيه واقع ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر ومعنى تمور تضطرب كما قال ابن عباس أي ترجح وهي في مكانها وفي رواية عنه تشقق وقال مجاهد : تدور وأصل المور التردد في المجيء والذهاب وقيل : التحرك في تموج وقيل : الجريان السريع ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل وتسير الجبال سيرا
10
- عن وجه الأرض فتكون هباءا منبثا والإتيان بالمصدرين للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما فويل يومئذ أي إذازقع ذلك أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك للمكذبين
11
- الذين هم في خوض يلعبون
12
- أي في اندفاع عجيب في الأباطيب والأكاذيب يلهون وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع (27/29)
في كل شيء وغلب في الحوض في الباطل كالأحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الأحضار للعذاب
يوم يدعون إلى نار جهنم دعا
13
- أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها وقرأ زيد بن علي والسلمي ابو رجار يدعون بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون دعا حالا أي ينادون إليها مدعوين و يوم إما بدل من يوم تمور أو ظرف لقولمحكي به قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون
14
- أي فيقال لهم ذلك يوم الخ ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها وقوله تعالى : افسحر هذا توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل : كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحرا أيضا وتقديم الخبر المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ
أم أنتم لا تبصرون
15
- أي أم أنتم عمى عن المخبر كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذاعليه وكانت هذه جملة واردة تقريعا مثل هذه النار الخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتيب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدر كنتم تقولون إلى آخره ودل عليه قوله تعالى : في خوض يلعبون وقوله سبحانه : هذه النار التي كنتم بها تكذبون وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم : هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول : أفباطل هذا ! تعيره بالألزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدرلابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ و أم كما هو الظاهرمنقطعة وفي البحر لما قيل لهم : هذه النار وقفوا على الجهتين اللتينيمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما يكون ثم سحر يلبس ذات المر أي وإما أن يكون في ناظر اختلال والظاهر أنه جعل أم معادلة والأول أبعد مغزى
أصلوها فاصبروا أولا تصبروا أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه
سواء عليكم أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه فسواه خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدرفي الأصل وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك وقوله تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون
16
- تعليل للإستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع
إن المتقين في جنات ونعيم
17
- شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب وجوز أن يكون من جملة المقول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر والتنوين في الموضعين للتعظيم أي جنات عظيمة ونعيم عظيم وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وعوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوى كما لا يخفى
فاكهين متلذذين بما آتاهم ربهم من الإحسان وقريء فاكهين بلا ألف ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر والجار والمجرور أعني الواقع خبرا لأن وقرأ خالد فاكهون بالرفع على أنه (27/30)
الخبر وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للإهتمام ومن أجاز تعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر ووقاهم ربهم عذاب الجحيم
18
- عطف على في جنات على تقدير كونه خبرا كأنه قيل : استقروا في جنات ووقاهم ربهم الخ أو على أتاهم إنجعلت ما مصدريةأي فاكهين بإتيانهم رهم ووقايتهم عذاب الجحيم ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول وجوزه بعض بتقديرالراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه من المستكن في الخبر أو في الحال وإما من فاعل آتي أو من مفعوله أو منهما وإظهار الرب في موقع الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل وقرأ أبو حيوة وقاهم بتشديد القاف كلوا واشربوا هنيئا أييقال لهم كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشرارا هنيئا فالكلام بتقدير القول و هنيئا نصب على المصدريةلأنه صفة مصدر أو على أنه مفعول به وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة بما كنتم تعملون
19
- أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق بكلوا واشربوا على التنازع وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير : هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت فإنما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدرالمحذوف فعله وجوبا بالكثرة الأستعمال كأنه قيل : هنؤ لعزةالمستحل من أعراضنا وحينئذ كما يجوزأن ما هنا فاعلا على زيادةالباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم الخ وفيه نوع تكلف متكئين نصب على الحال قال أبو البقاء : من الضمير في كلوا أو في وقاهم أو في آتاهم أو في فاكهين أو في الظرف يعني في جنات واستظهر أبو حيان الأخير على سرر جمع سرير معروف ويجمع على أسرة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف (27/31)
مصفوفة مجعولة على صف وخط مستو وزوجناهم بحور عين
20
- أي قرناهم بهن قاله الراغب ثم قال : ولم يجيء في القرآن زوجناه محورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة وقرأالفراء : تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين وقيل : فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الألصاق واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسبالمقامإذ العقد لا يكونفي الجنةلأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببيةوالتزويج ليس بمعنىالإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين وقرأ عكرمةبحورعين على إضافةالموصوف إلى صفتهبالتأويل المشهور وقوله تعالى : والذين آمنوا الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهلالجنةإثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الأيمان والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم وقوله تعالى : واتبعتهمذريتهم عكفعلى آمنوا وقيل اعتراض للتعليل وقوله تعالى : بإيمان متعلق بالإتباع أي أتبعتهم ذريتهم بأميانفي الجملة قاصرعلى رتبة إيمان الآباءإما بنفسه بناءا على تفاوت مراتب نفس الأيمان وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل الاباء إليه واعتبار هذا القيد للأيذان بثبوت الحكم في الأيمان الكامل أصالةلا إلحاقا قيل : هو حال من الذرية وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم وقيل : منهما وتنوينه للتنكيروالمعول عليه ما قدمنا ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبيحاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى ذريةالمؤمن معه في درجته في الجنةوإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه ثم قرأ الآية وأخرجه البزاز وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي روايةابن مردويه والطبراني عنه أنه قال : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنةسأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهملم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي واهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس الآية وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكاتهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحيانا ولو للزيارة وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز و جل وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذريةالتابعون لكن لا أظم صحته وما ألتناهم أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من عملهم أي من ثواب عملهم من شيء أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان وقال ابن زيد الضمير عائد علىالأبناء أيوما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الأحتمال قوله تعالى : كل امريء بما كسب رهين وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآيةعلى ما ذهب إليه المعظم في الكبارمن الذرية وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار
وروي عن الحبر والضحام أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الأيمان بآبائهم (27/32)
المؤمنين وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا بسبب إيمانا لآباءبهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر اتبعتهم ذريتهم بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم وجوز أن يتعلق بإيمان بأتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى وقيل : الموصول معطوف على حور والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوابالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسةالأخوان المؤمنين وقوله تعالى : واتبعتهم عطف على زوجناهم وقوله سبحانه : بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم أو بسبب إيمان ذاني المنزلةوهو إيمان الدرجة الذرية كأنه قيل : بشيء من الأيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره وقيل عليه : إنه تعصب منه والإنصاف أن المتبادر الأستئناف وإن أحسن الأوجه في الآيةوأوفقه للمقام ما تقدم
وقرأ أبو عمرو وأتبعناهم بقطع الهمزة وفتحها وإسكان التاء ونون العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهمفي الأيمان وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا وابن عامر كذلك رفعا وقرأ ذرياتهم بكسر الذال واتبعتهم ذريتهم بتاء الفاعل ونصب ذريتهم على المفعولية وقرأالحسن وابن كثير ألتناهم بكسراللام من ألت يألت كعلم يعلم وعلى قراءةالجمهور من باب ضرب يضرب وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت وابن مسعود وأبي لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش ورويت عن شبل وابن كثير وعن طلحة والأعمش أيضا لتناهم بفتح اللام قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهلا للغة آلت بالمد كما قرأ هرمز وقريء ولتناهم من ولت يلت ومعنىالكل واحد وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أميرالمؤمنين أي لا تغلظ عليه كلامريء بما كسب أي بكسبه وعمله رهين
21
- أيمرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز و جل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ولذا قال جل وعلا : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما اطابوه من كسبهم
ووجه الأتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز و جل وفر عليهما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : هو البر الرحيم ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين المدعوعين والمتقين وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر ما أعد لهم قال في الكشف : (27/33)
ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الأعتراض تحقيق التوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداءا لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد وقيل : رهين فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امريء بما كسب راهن أي دائم ثابت وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شبء فالجملة تعليل لما قبلها وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الأتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى
وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون
22
- أي وزدناهم على ما كان لهم من مباديء التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء وأصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ثم شاع في الزيادة وغلب الإمداد في المحبوب والمد في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المد نفسه يتنازعون فيها كأسا أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامي بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل : نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وقيل : التنازع مجاز عن التعطي والكأس مؤنث سماعي كالخمر ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الأمتلاء وقد تطلق على الخمر نفسها مجاز العلاقة المجاورة وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر وبعضهم بالخمر والأول أوفق بالتجاذب والثاني بقوله سبحانه : لا لغو فيها أفيشربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام ولا تأثيم ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لوفعله في دار التكليف كما هوديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمو بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لا لغو ولاتأثيم بفتحهماويطوف عليهم أي بالكأس غلمان لهم أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقلغلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذي كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدافي الدنيا أن يكون خادماله في الجنة فيحزم بكونه لا يزال تابعا وقيل : أولادهم الذين سبقوهم فالأختصاص بالولادة لا بالملك وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلا الأولاد لاتناسب الأمتنان كأنهم لؤلؤ مكنون
24
- مصوم في الصدف لم تنله الأيد كما قال ابن جرير ووجه الشبه البياض والصفاء وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزم إلا الحسن الغالي الثمن وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادةقال : بلغني أنه قيل : يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم فقال عليه الصلاة و السلام : والذينفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائرالكواكب وروي أن أدنى أهل الجنةمنزلة من يناديالخادم من خدامه فيجيء ألفببابه لبيك لبيك
وأقبلبعضهمعلى بعض يتساءلون
25
- أي يسأل كل بعض منهمبعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون (27/34)
كل بعض سائلاومسئولالا أنه بعض معين بعضا آخر معينا ثمهذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر وحكى الطبري عن ابن عباس أنهإذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح لبعده جدا قالوا أي المسئولون وهم كل واحد منهمفي الحقيقة إنا كنا قبل أي قبل هذا الحال فيأهلنا مشفقين
26
- أرقاءالقلوب خائفين من عصيان الله عز و جل معتنين بطاعته سبحانه أووجلين من العاقبة و في أهلنا قيل : يحتمل أنهكناية عن كون ذلك في الدنيا ويحتمل أن يكون بيانالكون إشفاقهم كان فيهموفي أهليهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى : فمن الله علينا أي بالرحمة والتوفيق ووقانا عذاب السموم
27
- أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به وقال الحسن : السموم اسم من أسماء جهنم عاما ولأهلهم فالمراد بيان ما من الله تعالى عليهم من اتباع أهلهم لهم وقيل : ذكر في أهلنا لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوالأ بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولاأرى فيه بأسا نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليس بشيء وقيل : لعلالأولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز و جل : إناكنا من قبل ندعوه إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني للأول ادعاءا للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعدادما كانواعليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية إنه هو البر أي المحسن كماد يدل عليه اشتقاقه منالبر بسائر موادهلأنهاترجع إلى الإحسان كبر في يمينه أي صدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير وأبر الله تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة وأبر فلان على أصحابه أي أعلاهم لأنه غالباينشأ عن الإحسان لهمفتفسير باللطيف كما روي عن ابن عباس أوالعالي في صفاته أوخالق البر أو الصادق فيما وعد أو لياءه كماروي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات أو غايات ذلك البر الرحيم الكثير الرحمة الذي إذاعبد أثاب وإذاسئل أجاب وقرأ أبو حيوة ووقانا بتشديد القاف والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي أنه بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه فذكر فأثبت على ما أنت عليه من التذكيربماأنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما خير فيه من الأباطيل
فما أنت بنعمت ربك بكاهن هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن وخص الراغب الكاهن بمنيخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك والعراف بمن يخبر بالأخبار المستقلة كذلك والمشهور في الكهانة الأستمداد من الجن في الأخبار عن الغيب والباء في بكاهن مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن ولا مجنون
29
- واختلف في باء بنعمة فقالأ أبو البقاء : للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن أو مجنون والتقدير ما أنت كاهنولا مجنونملتبسابنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة و السلام ما زال ملتبسابنعمة ربهD وقيل : للقسم فنعمة ربك مقسم به وجواب القسم ما علم من الكلام وهو ما أنت بكاهن ولا مجنون وهذا كما تقول : ما زيد والله بقائم وهو بعيد والأقرب عندي أن الباء للسببية (27/35)
وهو متعلق بمضمون الكلام والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنو بسبب نعمة الله تعالى عليك وهذا كماتقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه والمراد الرد على قائل ذلك وإبطال مقالتهم فيه عليهالصلاة والسلام وإلافلا امتنان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس وقيل : الأمتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيته ص - من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وممن قال كاهن : شيبة بن ربيعة وممن قال مجنون : عقبةبن أبي معيط أم يقولون أي بل أيقولون شاعر أي هو شاعر نتربص أي ننتظر به ريب المنون
30
- أي الدهر وهو فعول منالمن بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها ومنه حبل منين أي مقطوع والريب مصدر رابه إذاأقلقه أريد به حوادث الدهر وصرفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أينزل والمراد بنزوله إهلاكه وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر : تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموتحليها وبيت أبي ذؤيب أمن المنون وريبه يتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع قيل : ظاهره ذلك وكذلك قول الأعشى : أأن رأت رجلاأعشى أضر به ريب المنون ودهر متبل خبل ولهذا أنشده الجوهري شاهداله وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بينالمعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا : المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه وقد يراد به المنية فيؤنث وقد روي ريبها وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلاتغفل وهو أيضامن المن بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات ولذا قيل : المنية تقطع الأمنية وريب المنو عليه نزول المنية وجوز أن يكون بمعنى حادث الموت بيانية روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرة آراؤهم فيه عليه الصلاة و السلام حتىقال قائل منهم وهم بنو عبد الدار كما قال الضحاك تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت وقرأزيد بن علي يتربص بالياء مبنياللمفعول وقريء ريب بالرفع على النيابة
قل تربصوا تهكم بهم وتهديد لهم فإني معكم منالمتربصين
31
- أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي وفيه عدة كريمة بإهلاكهم أمتأمرهمأحلامهم أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي وذلك على ما قال الجاحظ لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ! فقال : تلك عقول كادها الله عز و جل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم (27/36)
ولعلها تدل على ضد ذلك بهذا التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادةوالمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون وأمر الأحلام بذلك مجاز على التأدية بعلاقة السببية كماقيل وقيل : جعلت الأحلام آمرة على الأستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيهامضمرا وتثبت له الأمر عن طريق التخييل أم هم قوم طاغون
32
- مجازون الحدود فيالمكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسدادولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحضة الخارجة عن دائرة العقول وقرأمجاهد بل هم أميقولون تقوله أي اختلقه من تلقاء نفسه
وقال ابن عطية : معناه قالأ : عن الغير أنه قاله فهو عبارة عنكذبمخصوص وضمير المفعول للقرآن بل لا يؤمنون
33
- فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا واحدمن العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافةالأمم من العرب والعجم فليأتوا بحديث مثله مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها منحيث النظم ومن حيث المعنى إن كانوا صادقين
34
- فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم لهعليه الصلاة السلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك فالكلام رد للقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة و السلام والقرآن بالتحدي فإذاتحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدعي وجوز أن يكون ردالزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادامنه ومع ذلك إذاظهر فساد زعمهم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم وقرأالجحدري وأبو السمال بحديث مثله على الإضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في كونه أميالم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده أو مثله في كونه واحدامنهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا أم خلقوا من غي شيء أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالف وقال الطبري : المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات وقيل : المعنى أمخلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون و من عليهللسببية وعلىما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من القوالأ ما قدمنا وسيأتي إن شاءالله تعالى زيادة إيضاح له ويؤيده قوله سبحانه :
أم هم الخالقون
35
-
أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز و جل ولا يلتفتون إللارسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة وإرادةخلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى :
أم خلقوا السماوات والأرض
إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا وقال ابن عطية : المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته
بل لا يوقنون
36
-
أيإذاسئلوا من خلقكم وخلق السماوات (27/37)
والأرض قالوا : الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لماأعرضوا عن عبادته تعالى فإن منعرف خالقه وأيقن به امتثل أمره وانقاد له أم عندهم خزائن ربك أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ويمسكوها عمن شاءوا وقال الرماني : خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه وقال ابن عطية : المعنى أم عندهم الأستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من ألأشياء من خزائن الله تعالى وقال الزهري : يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان سيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه
أم هم المصيطرون
37
-
الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب وفي معناه قول ابن عباس : المسلط الفاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغراكما يتوهم ولم يأتعلى هذه الزنة إلآ خمسة ألفاظ أربعة من الصفات وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر وواحدمن الأسماء وهو مجيمر اسم جبل وقرأالأكثر المصيطرون بالصاد لمكان حرف الأستعلاء وهو الطاء وأشم خلفعن حمزة وخلاد عنهبخلاف الزاي
أم لهم سلم
وهو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيجري به السلامة ثم جعل اسمالكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء
يستمعون فيه
أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالاوالظرفية على حقيقتها وقيل : هو متعلق بيستمعون على تضمينه معنى الصعود
وقال أبو حيان : أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسدبعض ومفعول يستمعو محذوف أي كلام الله تعالى قيل : ولو نزل منزلة اللازم جاز فليأت مستمعهم بسلطان مبين
38
- أي بحجة واضحة تصدق استماعه أم له البنات ولكم البنون
39
- تسفيه لهم وتركيك لعقولهم وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلاعن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والألتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ أم تسئلهم أجرا أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم فهم لأجل ذلك من مغرم مصدر ميمي من الغرم والغرامة وهو كما قال الراغب ماينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول مثقلون
40
- أي محملون الثقل فلذلك لايتبعونك أم عندهم الغيب أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب فهم يكتبون
41
- منه ويخبرون به الناس قاله ابن عباس وقال ابن عطية : أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك منسيرهم وقال قتادة : أم عندهم الغيب فهم يعلهم متى يموت محمد ص - الذي يتربصونبه وفسر بعضهم يكتبون بيحكمون أم يريدون كيدا بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير وهذا من الأخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول الرسول قبلها كما تدل عليه الآثار فالذين كفروا هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاةوالسلام (27/38)
ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولاأوليا هم المكيدون
42
- أي الذينيحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادواأن يكيدوه وكان وباله في حقأولئك قتلهم يومبدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل : ولذا وقعن كلمة أم مكررة هنا خمس عشرة مرة للأشارة لما ذكر ومثله على ما قال الشهاب : لا يستبعدمن المعجزات القرآنية وإن كان الأنتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته أم لهم إله غير الله يعينهم ويحرسهم من عذابه عز و جل
سبحان الله عما يشركون
43
- أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية أو عن شركة الذي يشركونه علىأنه موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف وإن يروا كسفا قطعة فهو مفرد وقد قريء في جميع القرآن كسفاوكسفا وإفراداإلا هنا فإنه على الإفراد وحده وتنويه للتفخيم أي وإن يروا كسفاعظيما
من السماء ساقطا
لتعذيبهم (27/39)
يقولوا
من فرط طغيانهم وعنادهم
سحاب
أي هو سحاب (27/0)
مركوم
44
-
متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهمحسبما قالوا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفالقالوا هو سحاب متراكميمطرنا ولم يصدقوا أنهكسف ساقط لعذابهم
فذرهم فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف حتى يلقوا وقرأأبو حيوة يلقوا مضارع لقي يومهم الذي فيه يصعقون
45
- على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد : من صعقته الصاعقة أو من أصعقته وقرأالجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل : يصعقون بفتح الياء والعين والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوميوم بدر وقيل : وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض وتعقب بأنهلا صعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى : يوم لا يغني عنهم كيدهمشيئا أي شيئامن الإغناء بدل من يومهم ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعابالأنتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر وأما النفخة الأولى فليست مما يجري في مدافعته الكيد والحيل وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضايصعقون وهم داخلون في عموم من وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح وعن الثاني بأن الكلام على نهج قوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان وقيل : هو يوم القيامة وعليه الجمهور وفيه بحث وقيل : هو يوم موتهم وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل ولا هم ينصرون
46
- من جهةالغير في دفع العذاب عنهم وأن للذين ظلموا أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولاأوليا عذابا آخر دون ذلك دون ما لا قوه من القتل أي قبله وهو كما قال مجاهد (27/0)
القحط الذي أصابهم سبع سنين
وعن ابن عباس هوما كان عليهم يوم بدر والفتح وفسر دون ذلك بقبل يوم القيامةبناءا على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك وعنه أيضا وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير وذهب إليه بعضهم بناءا على أن دون ذلك بمعنى وراء ذلك كما في قوله
يريك القذى من دونه وهو دونها
وإذافسراليوم بيوم القيامة ونحوه و دون ذلك بقبله وأريد العموم من الموصول فهذا العذابعذاب القبر أو المصائب الدنيوية وفي مصحف عبد الله دون ذلك قريا ولكن أكثرهم لا يعلمون
47
- إن الأمر كما ذكر وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا أو لا يعلمون شيئا
واصبر لحكم ربك بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم فإنك بأعيننا أي في حفظنا وحراستنا فالعين مجاز عن الحفظ ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في طه لإضافته إلى ضمير الواحد ولوح الزمخشري في سورة المؤمنين إلى أن فائدة الجمع للدلالة علىالمبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظايلكؤونه بأعينهم وقال العلامة الطيبي : إنهأفرد هنالك لأفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام وههنألما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز و جل انتهى ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيبوالكليم عليهمأفضل الصلاة والسلام وأكمل التسليم ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور وقرأأبو السمال بأعينا بنون مشددة وسبح بحمد ربك أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفاتنة الحصر والمراد سبحه تعالى واحمده حين تقوم
48
- من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوبإليك فسئل عن ذلك فقال : كفارة لما يكون في المجلس والآثار في ذلك كثيرة وقيل : حين تقوم إلى الصلاة أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال : حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول : سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : وسبح بحمد ربك حين تقوم وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية : حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وحكاه في البحر عن ابن عباس وأخرج عنه ابنمردويه أنه قالأ : سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة وروي نحوه عن ابن السائب وقال زيد أسلم : حين تقوممن الفائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر وقوله تعالى : ومنالليل فسبحه إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل وإدبارالنجوم أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح وقيل : التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء وإدبار النجوم ركعتا الفجر وعن عمر رضي الله تعالى عنه (27/40)
وعلي كرمالله تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل و إدبارالنجوم ركعتا الفجر وقرأسالم بن أبي الجعد والمنهالبن عمرو ويعقوب أدبار بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقب أي أعقابها إذا غربت أو خفيت بشعاع الشمس
هذا ونظم الآيات من قوله تعالى : أم يقولون شاعر إلى قوله سبحانه : أم لهم إله غير الله الخ فيه غرابة ولم أر أحداكشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه الله تعالى خيرا ولغاية حسنه وكونه مما لا مزيد عليه أحببت نقلهبحذافيره لكن مع اختصار ما فأقول : أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه والثاني أنه تدرجمنه سبحانه في حكايةما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكي على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة و السلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءالتكذيبهم بالمنبيء والنباوالمنبأب فالمتعين هوالثاني ووجهه والله تعالى أعلم أن قوله : فذكر معناه إذ ثبت كون العذاب واقعاوكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفافي هذه الدار ومنزلة ورفعة في دار القرار ومن قوله تعالى : فما أنت إلى قوله سبحانه : هم المكيدون تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة و السلام منهم وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شد من عضد التسلي وقوله سبحانه : فما أنت بنعمة ربك الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحدهذين وبدأ بقولهم المتناقض ليبينه أولاعلى فساد آرائهم ويجعله دستورا في إغراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأياوأرجحهم عقلاوأبينهم آيامنذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد عن الجنون والكهانة علىأنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون ثم ترقى مضرباإلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدماقيل : أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم وقوله تعالى : قل تربصوا من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد فهذا بابمن إنكارهم هدمه سبحانه أولاتلويحا بقوله : بنعمة ربك وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا أم تأمرهم أحلامهم كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الأضطراب ففيها عبرة ثم قيل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز و جل فقد باء بغضبه ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الأفتراء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لأن الأفتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدقعلى أن كونه افتراءا وعجزهم عن الأتيان بأقصر سورة من هذا المفترى متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر في الأحقاف ولأنالشاعر لا يعتمد الكذب لذاته ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار والتدرج عن الشعر ههنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن الكلام ههنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والصلام ونفي رسالته وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل : إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة وأين هذا من ذاك وللتنبيه على التوغل (27/41)
جيء بصريح حرف الأضطراب في الرد فقيل : بللا يؤمنون وعقب بقوله تعالى : فليأتوا ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفترى أدخل في الكذب من الشاعر ثم أخذ في أسلوبأبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ثم الشعر ثم الأفتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنهخلق من غير شيء أيمقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ومن حسب أنه مستغن عن الموجدمسب رسوله إلى الجنون والكهانة لابل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهمأفهو ينسبه إلى الإفتراء حيث لم يرسله ثم اضرب صريحا عنه بقوله تعالى : بل لايوقنون ومن لا إيقان له بمثل هذأ البديهي لا يبعدأن يزنك بما وزن فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد ثم بولغ فيه فجيء بما يدل علىأن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم فالأول لما لم تعدد الآلهة إنما يدل علىافترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا ألبتة وأدمج فيه إنكارهم للمعاد ونسبتهم إياه ص - في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن أم عندهم الغيب إشارة إلى خزائن العلم ولما كانالمقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : أم هم المسيطرون من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوأعليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم وقيل : بل لهم سلم يستمعون وذيل بقوله تعالى : أم له البنات إشعارابأن من جعل خالقه أدون حالامنه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ثم قيل : أم تسألهم أجرا أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرامالاأو جاها أو ذكرا وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لايبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لاموقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعيمهم إحدى الثلاث ثم قيل : أم عندهم الغيب على معنى بل أعندهماللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب والمقصود من هذا نفي المنبأبه أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجاعكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : أم لهم سلم فقدسلف أن مصعب العرض حديث النبأوالمنبأوالمنبأ به فقضي الوطر من الأولين معالرمز إلى الأخير ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءا لحق الإعجاز ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العمل أشمل موردامن القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه وهذا من تلك الحيثية ومن حيث أنهم ما عملوا بإرسال غيره إياه أيضامعإحاطةعل لكنه غير مقصود قصداأوليا ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلىالأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدافهم ينصبو لك الحبائل قولا وفعلا (27/42)
لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولاوفعلاوحجة وسيفا وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : أم لهم إله غير الله فينجيهم من كيده وعذابه لاوالله سبحان الله عن أن يكون إله غيره ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا أظهر في هذا المساق انتهى وكأن ما بعد تأكيدا لأمر طغيانهم ومزيد للوعيد ومبالغة في التسلية ويعلم مما ذكره لا زالت رحمة اللهتعالآ عليه متصلة أن أم في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الأضرابية والأضرا ههنأ واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهي ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين وحكى الثعلبي عن الخليل أنه متصلة والمراد بها الأستفهام وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالآ أعلم
ومما ذكروه من باب الإشارة في بعض الآيات والطور إشارة إلى قالب الإنسان وكتاب مسطور إشارة إلى سره فيرق منشور إشارة إلى قلبه والبيت المعمور إشارة إلى روحه والسقف المرفوع إشارة إلى صفته والبحر المسجور إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر وقيل : الطور إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك والكتاب المسطور في الرق المنشور إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائفالآفاق والبيت المعمور إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص والسقف المرفوع إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة والبحر المسجور إشارة إلى بحر القدرة المملوء منأنواع المقدرات التي لا تتناهى وقيل : إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون ووصفه بالمسجور إما لأنه مملوء منهم وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز و جل وقيل : غير ذلك فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون أي يخوضون في غمرات البحر اللجي الدنيوي ويلعبونفيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذى أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك فاكهين بماآثارهمربهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ووقاهم ربهم عذاب الجحيم وهو عذاب الحجاب كلوا من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية وأشربوا من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية وسبح بحمد ربك حين تقوم أي مقام العبودية ومن الليل فسبحه أيعند نزول السكينة عليك وإدبار النجوم أي عند ظهور نور شمس الوجه وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالأحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة و السلام (27/43)
سورةوالنجم
وتسمى أيضاسورة النجم بدون واو وهي مكية على الأطلاق وفي الإتقان استثنى منها الذين يجتنبون إلى اتقى وقيل : أفرأيت الذي تولى الآيات التسع ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنه مدنية ولاأرى صحة ذلك عنه أصلا وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي وإحدى وستونفي غيره وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون وأخرج البخاري ومسلم وأبود داود والنسائي عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعدذلك قتل كافراوهو أمية بن خلف وفي البحر أنه عليه الصلاة و السلام سجد وسجدمعهالمؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا فيحتمل أنه وأمية فعلاكذلك وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى : إدبار النجوم وافتتحت هذه بقوله سبحانه : والنجم وأيضافيمفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه ص - من التقول والشعر والكهانة والجنون وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة و السلام يختلق القرآن وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم الآية فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود إذاهلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : كذبت ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك وهوأعلم بكم الآية كلها وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين : ألحقنا بهم ذريتهم الخ قالأ سبحانه هنا في الكفار أو فيالكبار : وأن ليس للأنسان إلا ما سعى خلاف ماد خل في المؤمنين الصغار ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادى التضاد وفي صحة كون قوله تعالى : هو أعلم بكم الآية نزل لما ذكر نظر عندي وكون قوله تعالى : ألحقنا بهم ذريتهم في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل بسم الله الرحمن الرحيم والنجم إذا هوى أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روي عن الحسن ومعمر بن المثنى ومنه قوله : فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها ومعنى هوى غرب وقيل : طلع يقالأ هوى يهوى كرمىيرمي هويابالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له وهويا لضم للعلو والطلوع وقيل : الهوى بالفتح للأصعاد والهوى بالضم للأنحدار وقيل : الهوى بالفتح والضم السقوط ويقال أهوى بمعنى هوى وفرق بعض البلغويين بينهما بأن هوى إذاانقض لغير صيد وأهوى (27/44)
إذا انقض له وقالالحسن وأبو حمزة الثمالي : وأقسم سبحانه بالجوم إذاانتثرت في القيامة وعن ابن عباسفي رواية أقسم عزوجل بالنجوم إذاانقضت في إثر الشياطين وقيل : المراد بالنجم معين فقالأ مجاهد وسفيان : هوالثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها ومنه قوله ص - : إذاطلع النجم صباحاارتفعت العاهةوقول العرب : طلع النجم عشاءا فابتغى الراعي كساء طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسيةوفسرهويها بسقوطها مع الفجر وقيل : هو الشعري المرادة بقوله تعالى : وأنه هو رب الشعري والكهانيتكلمون على المغيبات عند طلوعها وقيل : الزهرة وكانت تعبد وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد : النجم المقدر النازل من القرآن على النبي ص - وإذا هوى بمعنى إذا نزل مع ملك الوحي جبريل عليه الصلاة و السلام وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج وجوز على هذا أن يراد بهويه صعودهوعروجه عليه الصلاة و السلام إلى منقطع الأين وقيل : هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقيل : العلماء على إرادة الجنس والمراد بهويهم قيل : عروجهم في معارج التوفيق إلى حضائر التحقيق وقيل : غوصهم في بحار الأفكار لاستخراج دررالأسرار وأظهر الأقوال القولبأن المراد بالنجم جنس المعروف فإن أصله اسم جنس لكل كوكب وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا وراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة و السلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل : والنجم الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل ما ضل صاحبكم أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرةفهو استعار وتمثيل لكونه عليه الصلاة و السلام على الصواب في أقواله وأفعاله وماغوى
2
- أي وما اعتقد باطلاقط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ما ضل من عطف الخاص على العام اعتناءابالأعتقاد وإشارة إلى انه المدار
وأما علىالثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة و السلام ومدار رشاده كأنه قيل : وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ما ضل عنها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وماغوى فهو من باب
وثناياك أنها إغريض (27/45)
والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته ص - مما نفى عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة و السلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة و السلام ومشاهدتهم لمحاسن شئونه العظيمة مقتضية لذلك حتماففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم واختلف في متعلق إذاقال بعضهم : فاوضت جار الله في قوله تعالى : والنجم إذا هوى فقال : العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت : كيف يعمل فعل الحالفي المستقبل ! وهذا لأن معناه أقسم الآن لاأقسم بعد هذا فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف والتقدير وهوى النجم إذاهوى فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الأستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره وقال عبد القاهر : إخبار الله تنعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع (27/0)
إذا لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي وقيل : إنه متعلق بعامل هو حال من المنجم وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا وأن إذا للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالامقدرة أوتجرد إذا لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدابه فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الأطلاق كما ذكره النحاة أو النجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه على ما قيل ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الأستقبال وهو الذي اختاره في المغنى وتخصيص القسم بوقت الهوى ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة وأما على القولين فقيل : لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب وإنما يهتدي به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو وقيل : لادلالته على حدوته الدال على الصانع وعظيم قدرته عز و جل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام لا أحبالآفلين وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثلهذا التركيب فلا تغفل وما ينطق أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه : صاحبكم والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعنفي قوله تعالى : عن الهوى
3
- وقيل : هي بمعنى الباء وليس بذلك أي بذاك ما يصدر نطقة فيما آتاكم به من جهته عز و جل كالقرآن أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلافإن المراد استمرار النفي كما مر مرارافي نظائره إن هو أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق إلا وحي من الله عز و جل يوحى
4
- يوحيه سبحانه إليه والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للأستمرار التجددي وقيل : ضمير ينطق للقرآن فالآية كقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وهو خلاف الظاهر وقيل : المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة و السلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا
واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الأجتهاد له عليهالصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ووجه الأحتجاج أن اللهتعالى أخبر بأن جميع ما ينطق بهوحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مماينطق وأجيب بأن الله تعالآإذا سوغ له عليه الصلاة و السلام الأجتهاد كان وما يسند إليه وحيالا نطقا عن الهوى وحاصله منع كبر القياس واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي تستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا وأجيب بأن النبي عليه الصلاة و السلام أوحي إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين وقال القاضي البيضاوي : إنه حينئذ بالوحي لا وحي وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام : متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي ما ألقيته في قلبك فهو مردي فيكون وحياحقيقة والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديثالقدسية والأستدلال بها على أنه عليه الصلاة و السلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلففي دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف ولا يبعدعندي أن يحمل قوله تعالى : وما ينطلق عن الهوى على العموم فإن من يرى الأجتهاد له عليه الصلاة و السلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة (27/46)
لا يقولبأن ما ينطق به صلى الله تعالى عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوىالنفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالةعن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه : إن هوإلا وحي للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل إذاكان شأنه عليه الصلاةوالسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه واستمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيعه الأقاويل فقيل : ما هو إلا وحي يوحيه الله عز و جل إليه ص - فتأمل وفي الكشف أن في قوله تعالى : ما ينطق مضارعا مع قوله سبحانه : ما فضل وما غوى ما يدلعلىأنه عليهالصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميزوقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبء وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم علمه الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن أو الوحي وجوزأبو حيان كون الضمير للقرآن وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة و السلام شديد القوى
5
- هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع فإنهالواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها علىجناحه ورفعها إلى السماءثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ماقرروه في الحكمة الجديدة ذومرة ذوحصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم فكأن الأول وصف بقوة الفعل وهذا وصف بقوة النظر والعقل لكن قيل : إن ذاك بيان لما وضع اللفظ فإن العرب تقول لكل فوي العقل والرأي ذو مرة من أمررت الحبل إذاأحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة وعن سعيد بن المسيب ذوحكمة لأن كلام الحكماء متين وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال : ذو شدة في أمر الله عز و جل واستشهد له وحكى الطيبي عنه أنهقال : ذو منظر حسن واستصو به الطبري وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن : وهو في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تحل الصدقة لغني ولالذي مرة سوى بمعنى ذي قوة وفي الكشف إن المرة لأنها في الأصل تدلعلى المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فاستوى
6
- أي فاستقام علىصورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادي النبوة وكان له عليه الصلاة و السلام كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود ستمائة جناح كلجناح منها يسد الأفق فالأستواء ههنأبمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب وهو المراد بالأستقامةلا ضد الأعوجاج ومنه استوى الثمر إذانضج وفي الكلام على ما قال الخفاجي : طي لأنوصفه عليهالسلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل علىأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : فهل رآه على صورته الحقيقية : فقيل نعم رآه فاستوى الخ وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى : ما أوحى بيان لكيفية التعليم وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر ومن هنا قيل : إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على علمه على معنى علمه على غير صورته الأصلية ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام وقيل : : (27/47)
استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم
وهو بالأفق الأعلى
7
- أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن : هو أفق المشرق والجملة في موضع الحال من فاعل استوى وقال الفراء والطبري : إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبريل عليه السلام وجوز العكس والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين ثم دنا أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى
8
- فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة و السلام في الهواء ومنه تدلت الثمرة ودلي رجليه من السرير والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتر عسل : تدلى عليها بين سب وخيطة بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها ومن أسجاع ابنة الخس كن حذرا كالقرلي إن رأى خيرا تدلى وإن رأى شرأئ تولى فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادةالدنوكما في الأيضاح نعم إن جعل بمعنى النزيل من علة كما يرشد إليه الأشتقاق كان له وجه فكان أي جبريل عليه السلام منالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاب قوسين أي من قسى العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم والقاب وكذا القيب والقاد والقيد والقيس والمقدار وقرأ زيد بن علي قاد وقريء قيد وقدر وقدر وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما ويقالأعلى ما بين مقبض القوس وسيتها وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان وفسر به هناقيل : وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابي قوس وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحددون قلب وعن مجاهد والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال : الخفاجي إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعلهإذاتحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكونذلك إشارة إلى أن أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف أي فكان ذا قاب قوسين ونحوه قوله : فادرك إبقاء العرادة ظلعها وقد جعلتني من خزيمة أصبعا فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبامنه وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة يتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة إلى اعتبار الحذف وليس بذاك أو أدنى
9
- أي أو أقرب من ذلك و أ للشك من جهة العباد على معنى إذارآه الرائي يقول : هو قاب قوسين أو أدنى والمراد إفادة شدة القرب فأوحى أي جبريل عليه السلام إلى عبده أي عبد الله وهو النبي صلى الله عليه و سلم والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام ومنه ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة (27/48)
وقوله سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة القدر ما أوحي
10
- أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا وإبهام الموحي به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم وقالأبو زيد : الضمير المستتر لله عز و جل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلىجبريل والأول مروي عن الحسن وهو الأحسن وقيل : ضمير أوحى الأول والثانيلله تعالى والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى ما كذب الفؤاد أي فؤاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما رأى
11
- ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب وقيل : أي ما كذب الفؤاد البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر ما كذاب مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها وفي الكشف أنه لما قال سبحانه : إن هوإلا وحي أي من عند الله تعالى يوحى ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحي وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى علم صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات وقوله تعالى : فاستوى وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه فيصورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يتشبه عليه بوجه وقوله تعالى : ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة و السلام وإتباعه بالمنزل وقوله سبحانه : فأوحى أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه : ما أوحى ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن وإيثار بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الإختصاص وإيثار الضمير على الأسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبداإلا له عز و جل فلا ليس لشهرته بأنه عبد الله لا غير وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد ثم قالسبحانه : ما كذبالفؤاد ما رأى على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولوتصور بغير تلك الصورة إنه جبريل فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وسيأتيذلك إن شاء الله عز جل بما وعليه أفتمارونه علىما يرى
12
- أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه فتمارونه عطف على محذوف علىما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدر فشبه به الجدال لأن كلا من المتحادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج دره
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف أفتمرونه بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال : مريتهحقه إذاجحدته وأنشدوا لذلك قول الشاعر : لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا (27/49)
أو مضارع مريته إذاغلبته في المراء على أنه من باب المغالبة ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدي اتلفعل بعلى وكان حقه أن يعدى بفي لتضمينهمعنىالمغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم وقرأعبد الله فيما حكى ابن خالويه والشعبي فيما ذكر شعبة أفتمرونه بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قالأ أبو حاتم : وهو غلظ والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام وعبر بالمضارع استحضاراللصورة الماضية لما فيها من الغرابة وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد وقيل : المراد أفتمارونه على ما يرى من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعدما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره ولقد رآه أي رأى النبي جبريل صلى الله عليه و سلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها نزلة أخرى
13
- أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مر يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤيةفي هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر وقال الحوفي وابن عطية : إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية لرأى من معناه أي رؤية أخرى وفيه نظر والمراد من الجملة القيمسة نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء عند سدرة المنتهى هيشجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعى على المشهور وفي حديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم في السماء نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقة
والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصلالجحيم وقيل : إطلاقالسدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس فيظل السدرة و المنتهى اسم مكان وجوز كونه مصدراميميا وقيل : لها سدرة المنتهى لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياءعليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله تعالى عندها أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقاأو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها وإضافة سدرة إلى المنتهى من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه وقيل : يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز و جل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي سدرة الله الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه : وأن إلى ربك المنتهى وعد ذلك من باب الحذف والأيصالأ ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد عندنا أي عند السدرة وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهونازل عن رتبة القبول جنة المأوى
15
- التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن واستدل به على أن الجنة في السماء وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة : (27/50)
هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون وقيل : هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية وقيل : من إضافة الموصوفإلى الصفة كما فيمسجد الجامع وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به والجملة حالية وقيل : الحال هو الظرفو جنة مرتفع على الفاعلية وقرأعلي كرم الله تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحدم بن كعب وقتادة : جنه بهاء الضمير وهو ضمير النبي ص - وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه به أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن المأوى مصدر ميمي أو اسم مكان وجنه بمعنى ستره قال أبو البقاء : شاذوا المستعمل أجنه ولهذا قالت عائشة رضعنها وكذأ جمع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين : من قرأ به فأجنه الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر وأنت تعلم أنه إذاصح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الأستعمال وعائشة قد حكى عنها الإجازة أيضا
وإذايغشى السدرة ما يغشى متعلق برآه وقيل : بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على ما النافية للتوسع في الظرف والغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه والأول هو الأليقبالمقام وفي إبهام ما يغشى من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارالصورتها البديعة وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الفشيان بطريق التجدد وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلائق سبحانه وعن ابن عباس غشيها رب العزة عز و جل وهو من المتشابه وقالأ ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم : يغشاها جراد من ذهب وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا
وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال : استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأذنلهم فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة و السلام وفي حديث رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائمايسبح الله تعالى وقيل : يغشاها رفرف من طير خضر والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم
ما زاغ البصر أي ما مال بصر رسول الله ص - عما رآه وما طغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحامستيقنا وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه أو ما عدل عن رؤية العجائبالتي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
18
- أي والله لقد رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج فالكبرى صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه بعد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع وجوز أنتكون الكبرى صفة المذكور على معنى و لقد رأى بعضا من الآيات الكبرى ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرأى الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة معكون من مزيدة وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس مجمعا على جوازه وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة و السلام أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قالفي (27/51)
الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها والذيينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة و السلامآيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى هذا وفي الآيات أقوال غيرما تقدم فعنالحسنأن شديد القوى هو الله تعالى وجمه القوى للتعظيم ويفسر ذو مرة عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكونوصفا لهD وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى : فاستوىوهو بالأفق الأعلى عليه له سبحانه أيضا وقال : إن ذلكعلى معنى العظمة والقدرةوالسلطان ولعل الحسنيجعل الضمائر في قوله سبحانه : ثم دنل فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى له عز و جل أيضا وكذا الضميرالمنصوب في قوله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى لقد رأىصص ربه وفسردنوه تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلى الله عليه و سلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس ويقاللهذاالجذب : الفناء في الله تعالى عند المتأهلين وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه
ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه وجوزأن تكون الضمائر في دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى على ما روي عن الحسن للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة و السلام من ربه سبحانه فكان منه عز و جل قاب قوسين أو أدنى والضمائر في فأوحى الخ لله تعالى وقيل : إلى عبده ولم يقل إليه للتفخيم وأمر المتشابه قد علم وذهب غير واحد في قوله تعالى : علمه شديد القوى إلىقوله سبحانه : وهو بالأفق الأعلى إلى أنه في أمر الوحيوتلقيه من جبريل عليه اتلسلام على ما سمعت فيما تقدم وفي قوله تعالى : ثم دنا فتدلى الخ إلى أنه في العروج إلى الجانب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياهجل وعلا فالضمائر في دنا وتدلى وكان و أوحى وكذا الضمير المنصوب في رآه لله عز و جل ويشهد لهذاما في حديث أنس عند البخاريمن طريق شريك بن عبد الله ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودناالجبارفتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنىفأوحى إليه فيما أوحىخمسين صلاة الحديث فأنه ظاهر فيما ذكر
واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبرالأمةابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك أخرج مسلم عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشةثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالىالفرية قلت ما هن قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وقال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى : ولقد رآه بالأفق المبين ولقد رآه نزلة أخرى فقالت : أنا أول هذه الأمة عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا إنما هو جبريل لم أره على صورته اليذ خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض الحديث وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق فقالت : أنا أول من سألأر صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذافقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك فقال : إنما رأيت جبريل منهبطا ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة و السلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في رآه ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام وشاع أنها تنفي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا وتستدل لذلك بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقوله (27/52)
سبحانه وماكان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا وهو ظاهرما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة وقالبعضهم : إنها إنما تنفي رؤية تدل عليهاالآيةالتي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق
وحاصل ما روي عنها نفي صحة الأحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة و السلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضميرفيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياها وحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوابها لا على أنه نفي للرؤيةالمخصوصة وهي يظن التي دلالة الآية عليهاويرجع إلى نفيالدلالةولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق والأنصاف أن الأخبار ظاهرةفي أنهاتنفي الرؤية مطلقا وتستدل عليه بالآيتين السابقتين وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكورفي محله
والظاهرأن ابن عباس لم يقلبالرؤية إلا عن سماع وقد أخرج عنه أحمد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ربي ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأنقول عائشة محمول علىنفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوتبأنه لا يقوم له بصر وقوله ابن عباس محمولعلى ثبوت رؤيتهتعالى في نوره الذيلا يذهببالأبصاربقرينةقوله في جوابعكرمةعن قوله تعالى : لا تدركه الأبصار : ويحك ذاك إذاتجلىبنوره الذيهو نوره وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيمعن قتادة عن عبد الله بنشقيق عن أبي ذر قال : سألتر صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك قال : نوراني أراهومنطريق هشام وهمامكلاهما عن قتادة عن عبد الله قال : قلتلأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسألته فقال : عن أي شيء كنتتسأله قال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال أبو ذر : قد سألته فقال : رأيتنورا فيحملالنور في الحديثالأول على النور القاهر للأبصار بجعلالتنوين للنوعيةأو للتعظيم والنور في الثانيعلى ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية وإن صحت رواية الأول كماحكاه أبو عبد الله المازريبلفظ نوراني بفتح الراء وكسرالنون وتشديد الياءلم يكناختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنىالمنسوب إلى النور علىخلاف القياس ويكونالمنسوب إليه هو نوره الذيهو نوره والمنسوبهو النور المحمول على الحجابحمل مواطأة في حديث السبحاتفي قوله عليه الصلاة و السلام : حجابه النور وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر
ثم إن القائلين بالرؤيةاختلفوا فمنهممن قال : إنه عليه الصلاة و السلامرأىربه سبحانه بعينه وروي ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبيهريرة وأحمد بن حنبل ومنهم من قال : رآهD بقلبه وروي ذلكعن أبي ذر أخرج النسائي عنه أنه قال : رأىر صلى الله عليه و سلم ربهبقلبهولميره ببصره وكذا رويعن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبدبن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا : يا رسول الله رأيت ربك قال : رأيته بفؤاديمرتين ولم أرهبعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى وفي حديث عن ابن عباس يرفعه فجعل نور بصريفي فؤاديفنظرت إليه بفؤاديوكان التقدير في الآيةعلى هذا ما كذبالفؤاد فيما رأى ومنهم من ذهب إلى أن إحدىالرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه عز و جل مرتين مرةببصرهومرة بفؤاده ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي (27/53)
في الرؤية بالعين وقال : إنهليس عليه دليل واضح قال في الكشف : لأنالروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا وعن الإمامأحمد أنهكانيقول : إذاسئلعن الرؤيةرآهرآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزمصاحبالكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسمما بين النبي وجبريلصلاة الله تعالىوسلامه عليهماأي وأن المرئيهو جبريلعليه السلام وإذاصح خبر جوابه عليه الصلاة و السلاملعائشة رضي الله تعالى عنهالم يكن لأحد محيص عن القول به وقالالعلامةالطيبي : الذييقتضيه النظمإجراء الكلام إلىقوله تعالى : وهو بالأفق الأعلى على أمر الوحي وتلقيهمن الملك ورفعشبهالخصوم ومن قوله سبحانه : ثم دنافتدلى إلى قولهسبحانه : من آيات ربه الكبرى على أمر العروج إلىالجانب الأقدس ثم قال : ولا يخفىعلى كل ذي لب إباءمقام فأوحى الحمل على أن جبريلأوحى إلى عبد الله ما أوحى إذ لا يذوق منه أربابالقلوبإ معنى المناغاةبين المتساويين وما يضيق عنه بساط الوهمعنه ولا يطيقهنطاق الفهم وكلمة ثم على هذا للتراخيالرتبيوالفرق بين الوحيينأن أحدهما وحي بواسطة وتعليم والآخر بغير واسطةبجهة التكريم فيحصلعنه عندهالترقيمن مقام وما مناإلا له مقام معلوم إلى مخدع قابقوسينأو أدنى وعن جعفر الصادق عليه الرضاأنه قال : لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنهلا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف وذلك قوله تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى أي كانما كان وجرى ما جرىقال الحبيب للحبيب ما يقولالحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبهوأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحوهذا يشيرابن الفرض بقوله : ولقد خلوتمع الحبيب وبيننا سرادق من النسيم إذا سرى ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو اللهD من النبيصص ودونوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك وقال بعضهم في قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى : ما زاغبصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما التفتإلى الجنةومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق وماطغى عن الصراط المستقيم وقال أبو حفصالسهروردي : ما زاغالبصر حيث لميتخلف عنالبصيرة ولم يتقاصر وما طغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدىمقامه وقال سهل بن عبد الله التستري : لم يرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التيأوجبتالثبوت في ذلك المحل وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى : وهو بالأفقالأعلى إلى النبي عليه الصلاة و السلام وهو منتهى وصول اللطائف وفسر سدرة المنتهى بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبه من جذبات الحق وقالوا في قاب قوسين ما قالواوأنا أقول برؤيته ص - ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهبت فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلىما قاله الطيبيفتأمل والله تعالى الموفق
أفرأيتم اللات والعزة
19
- ومناة الثالثة الأخرى
20
- هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة : لثقيف بالطائف وأنشدوا وفرت ثقيفإلى لاتها بمنقلب الخائبالخاسر (27/54)
وقال أبو عبيدة وغيره : كان بالكعبة وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش ورجح ابن عطية قول قتادة وقال أبو حيان : يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامافأخبر عن كل صنم بمكانه والتاء فيه قيل : أصلية وهي لامالكلمة كالباء في باء وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة ل ي ت موجودة فإنوجدت مادة لو ت جاز أن تكون منقلبة من واو وقيل : تاء العوض والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة أو يلتون عليه أي يطوفون فخففبحذف الياء وأبدلت واوه ألفا وعوض عن الياء تاءا فصارت كتاء أخت وبنت ولذا وقفعليها بالتاء وقرأابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بتشديد التاء علىأنه اسم فاعل من لت إذا عجن قيل : كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك وعن مجاهد أنهكان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمروبن لحي : إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلماتوفي جعلوا قبره وثنا وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان وقيل غير ذلك والعزي لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة كما قال قتادة وأصلها تأنيث العز وأخرج النسائي وابن مردويه عنالطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعثخالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزي فأتاها خالد وكانت ثلاث فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثن أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئافرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون ياعزي فأتاهافإذاامرأته عريانة ناشرة شعرها تحثوالتراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة و السلام : تلك العزي وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليها خالدافقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول : يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ورجع فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام : تلك العزي ولن تعبد أبدا وقال ابن زيد : كانت العزي بالطائف وقال أبو عبيدة : كانت بالكعبة وأيده فيالبحر بقول أبي سفيان في بعض الحروف للمسلمين لنا العزي ولاعزي لكم وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم ومناة قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة عنابن عباس لثقيف وعن قتادةللأنصار بقديد وقال أبوعبيدة : كانت بالكعبة أيضا واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال : لأن المخاطب في قوله تعالى : أفرأيتم قريش وفيه بحث ومناة مقصورة قيل : وزنها فعلة وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمني عندهأ أي تراق وقرأابن كثير على ما في البحر مناءة بالمدة والهمزكما في قوله : ألا هل أتىتيم بنعبد مناءة على النأي فيما بيننا ابن تميم ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة والهمزة أصل وهي مشتقة من النون كأنهم كانوا (27/55)
يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها والظاهر أن الثالثةالأخرى صفتان لمناة وهما على ما قيل : للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لماتقدمها معلوم غير محتاج للبيان وقال بعض الأجلة : الثالثة للتأكيد و الأخرى للذم بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعالذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف : هي اسم ذم يدل على وضاعةالسابقتين بوجه أيضا لأن أخرى تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذاأتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملابمفهوما الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليست ثالثة أيضااستدعت المشاركة قضاءا لحق التفضيل وكأنه قيل : الأخرى في التأخر انتهى وهوحسن وذكر في نكتة ذممناة بهذا الذم أنالكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك
وقال الإمام : الأخرى صفة ذم كأنه قال سبحانه : ومناة الثالثة الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي والعزي صورة نبات ومناة صورة صخرة فالآدمي أشرف من النبات والنبات أشرف من الجماد فالجماد متأخر ومناة جماد فهي في أخريات المراتب وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال وقيل : الأخرى صفة للعزي لأنها ثانية اللات والثانية يقاللها الأخرى وأخرت لموافقة رءوس الآي وقال الحسن ابن المفضل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير والعزي الأخرى ومناة الثالثة ولعمري إنه ليس بشيء والكلام خطاب لعبدةهذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علواكبيرافقي لهم توبيخاوتبكيتا : أفرأيتم الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر منشؤنالله تعالىالمنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز و جل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى
وقوله تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى
21
- توبيخ مبني ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز و جل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور ومناط الأول نفس تلك النسبة وقيل : المعنى أرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته وقيل : المعنى أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآية السابقة وقيل : المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونهاتنفعكم وقيل المعنى أفرأيتم هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم ولا يخفى أن قوله تعالى : لكم الخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامه علىالقول السابق وقيل : ن قوله سبحانه : ألكم الخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكمالذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جانب الله تعالى العزيز الجليل منغير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه ما صور أمر الوحي تصويراتامماوحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآي به وعرفه حق المعرفة قالسبحانه : أفتمارونه على ما يرى على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحققة لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديامهديا وأنى يبقى للمراء مجال وقد رآه نزلة أخرى ! (27/56)
وعرفه حق المعرفة ثم قيل : لقد رأى من آيات الخ تنبيهاعلى أن ما عد منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية
وقوله تعالى : أفرأيتم عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون علىما أنتم عليه من المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاداله تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى : ألكم الخ زيادة للإنكارفعلى هذا ليس أفرأيتم في معنى الإستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى أفتمارونه فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى والقول مقدر أي فقللهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكما وتنبيها على أنه نتيجة مراتبهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هوفيه منالنقص انتهى وما ذكره أولاأولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا تلك إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الإستفهامية إذاقسمة ضيزي
22
- أي جائرة من حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزي ابن عباس وقتادة وفي معناه قول سفيان منقوصة وابن زيد مخالفة ومجاهد ومقاتل عوجاء والحسن غير معتدلة والظاهر أنه صفة واختلف في ريائه فقيل : منقلبة عن واو وقيل : أصلية ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى ثم كسرت لتسليم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه بضم فعل الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداءل لما ذهبإليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لميجيء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكا بورود ذلك فدق حكى ثعلب مشية حيكى ورجل كيصي وغيره امرأة عز هي وامرأة سعلي ورد بأنه من النوادروالحمل على الكثير المطرد في بابه أولى وأيضا يمكن أن يقالأ في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزي ويمنع ورود عز هي وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة وجوز أن يكون ضيزي فعلى بالكسر ابتداءا على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة ومجيء هذا الوصف في المصادر كما ذكر والأسماء الجامدة كدفلي وشعري والجموع كحجلي كثير وقرأ ابن كثير ضيئزي بالهمزعلى أنه مصدروصف به وجوز أن يكون وصفاوهو مضموم عومل معاملة المعتل لأنه يؤول إليه وقرأابن زيد ضيزي بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو ككسرى ويقالأ ضؤزي بالواو والهمز وضم الفاء وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزا بالهمز وأنشد الأخفش : فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب فسهمك مضئور وأنفك راغم والأكثر ضاز بلا همز كما في قول امريء القيس : ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق إنهي الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التيتدعونها إلا أسماء محضة ليس فيها شيء ما أصلا من معنىالألوهية وقوله تعالى : سميتموها صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعنى جعلتموها أسماء فإن التسمية نسبة بين الأسم والمسمى فإذا قيست إلى الأسم فمعناها جعله اسماللمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للأسم وإنما اختير ههنا (27/57)
المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعاكما في قوله سبحانه : ما تعبدون من دونهإلا أسماء الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية وقيل : هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والأعزاز والتقرب إليها بالقرابين وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخاصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب اللوهية عنها كما هو زعمهم المشهوفي حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من الأشاء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى الأهواء الباطلة ما أنزل الله بها من سلطان برهان يتعلقون به إن يتبعو أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها إلا الظن إلا توهم أن ما هم عليه حق توهماباطلا فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن وما تهوى الأنفس أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن ما موصولة وعائدها مقدر وأل في الأنفس للعهد أو عوض عن المضاف إليه وجوز كون ما مصدرية وكذا جوز كون أل للجنس والنفس من حيثهي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل والألتفات في يتبعون إلى الغيبة للأيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الأغراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم وقرأابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر تتبعون بتاء الخطاب ولقد جاءهم من ربهم الهدى حال من ضمير يتبعو مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى والمراد بالهدى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن العظيم علىأنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة ما يتبعونإلا ذل : والحال لقد جاءهم من ربهم جلشأنهما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق
وحاصله يتبعون ذلك في حال ينافيه وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك أم للإنسان ما تمنى
24
- أم منقطعة مقدرة ببل وهي للأنتقالأ من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوىأنفسهم إلى بيان أن ذلك ممالا يجدي نفعاأصلا والهمزة وهي للأنكار والنفي أي بل ليس للأنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه ومفاده قيل : رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبة جزئية وإليه يشير قولبعضهم : المراد نفي أن يكو للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنة عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكاله مختصابه يتصرف فيه حسب إرادته ويتضم ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الأنسان خاصا بهم كما قيل وقوله تعالى : فلله الآخرة والأولى
25
- تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعابه تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأموربل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشألم يكن وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهم أطاعهم عندهممن الفوز فيها ولذا أردف ذلك بقوله تعالى : (27/58)
وكم منملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا وإقناطهم عما طعموا به من شفاعة الملائكة عليهمالسلام موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الأبتداء والخبر الجملة المنفية وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عدنالله تعالى شيئامن الإغناء في وقت من الأوقات إلآ من بعدأن يأذن الله تعالى لهم في الشفاعة
لمن يشاء أن يشفعوا له ويرضة
26
- ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والأيمان وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم منإذن الله تعالى بمعزل وعنه بألف ألفمنزل وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز و جل أهلالها وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذاكان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكرنا فما ظنهم بحال الأصنام والكلام قيل من باب :
على لا حب لا يهتدي بمناره
فحاصله لا شفاعة لهمولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه الخ وقيل : هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقرأزيد بن علي شفاعتهبإفراد الشفاعة والضمير وابن مقسم شفاعاتهم بمجمعها وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان : لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحدلم تغن شفاعتهم شيئا إن الذين لا يؤمنون بالآخرة وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي ليسمون الملائكة المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق تسمية الأنثى
27
- فإنهم كانوا يقولو الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون والملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحدمن الملائكة تسمية الأنثى أي يسمونه بنتالأنهم إذاقالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتا فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسكل واحد منا حلة والإفراد لعدم اللبس ولذالم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى وما ذكر أولاقيل : مبني على أن تسمية الأنثى في النظمالجليل ليس نصبا على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضا وفي تعليقالتسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة غب الآخرة بحيث لا يجتريء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا وقوله تعالى : وما لهم به من علم حال من فاعل يسمون وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الأعتبار ذكر أو باعبار القول أي يسمونهم إناثا والحال لا علم لهم بما يقولون أصلا وقرأأبيبها أي بالتسمية أو بالملائكة إن يتبعون أي ما يتبعون في ذلك إلا الظن أي التوهم الباطل وإن الظن أي جنس الظن كان يلوح به الإظهار في موضع الإضمار وقيل : الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل
لا يغني من الحق شيئا من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذاكان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتد بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الأعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل وإنما يعتد به في العمليات وما يؤدي إليها
وفسر بعضهم الحق بالله عز و جل لقوله سبحانه : ذلك بأن الله هو الحق واستدلبالآية من لم يعتبر (27/59)
التقليد في الأعتقاديات وفيه بحث والظاهرية على إبطاله مطلقاوإبطالالقياس ورده على أتم وجه في الأصول وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال : قال عمر بن الخطاب : احذروا هذا الرأي على الدين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالىكان يريه وإنما هو من تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا هو أحدأدلتهم على إبطال القياس أيضا وقد حكى الآدمي فيالأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : قال ابن عمر : اتهموا الرأي عن الدين فإن الرأي منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وأجاب عنه غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله وأن المراد بقوله : إن الظن الخ استعمالأ الظن في مواضع اليقين وليس المراد إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة ويقالأ نحو هذافي كلام عمر رضي الله تعالى عنه وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك فليراجعه فأعرض عن من تولى عن ذكرنا أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم المنطوي على بيان الأعتقادات الحقة المشتمل على علومالأولين والآخرين والمذكر للآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها والمراد بالأعرض عنه ترك الأخذبما فيه وعدم الأعتناء به وقيل : المراد بالذكر الرسول ص - وبالأعرض عنه ترك الأخذ بما جاء به وقيل : المراد به الأيمان وقيل : هو على ظاهره والأعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز و جل ولم يرد إلا الحياةالدنيا
29
- راضيابها قاصرانظره عليها جاهدافيما يصلحها كالنظر بن الحرث والوليد بن المغيرة والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانتمنتهى همته وقصارى سعيه وقوله تعالى : ذلك أي أمر الحياة الدنيا المفهوممن الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة وقيل : أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا وقيل : ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه وقيل : إلى جعلهم الملائكة بنات الله سبحانه وكلاالقولين كما ترى مبلغهم من العلم أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه واعتراض مقررلمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا
والمراد بالعلم مطلق الإدراك للظن الفاسد وضمير مبلغهم لمن وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه وقوله سبحانه : إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى
30
- تعليل للأمر بالأعراض وتكرير قوله تعالى : هو أعلم لزيادة التقرير والإنذار بمكال تباين المعلومين والمراد بمن ضل من أصر علىالضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا و بمن اهتدى من شأنه الأهتداء في الجملة أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا وبمن يقبل الأهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلاتتعب نفسك في دعوتهم ولاتبالغ في الحرص عليهم فإنهم من القبيل الأول وقوله تعالى : ولله ما فيالسماوات وما في الأرض أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقاوملكالا لغيره عز و جل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا ويشعر بفعل يتعلق به (27/60)
وقوله تعالى : ليجزي الذين أسآئوا بماعملوا أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر بالأساءة بيانا لحاله أو بمثل ما عملوا أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير ويجزي الذين أحسنوا أي اهتدوا بالحسنة أي بالمثوبة الحسنة التي هي الجنة أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قيل لأنه سبحانه لماأمره عليه الصلاة و السلام بالإعراض نفى توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى وفي العدول عن ضمير ربك إلى الأسم الجامع ما ينشيء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بد منضال ومهتد ومن أن يلقى كل ما يستحقه وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يلقى الحسنة جزاءا لتبليغه وهميلقون السوأي جزاءا لتكذيبهم وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الأعتنار والتنبيه على تباين الجزائين
وجوز أن يكون معنى فأعرض الخلا تقابلهمبصنيعهم وكلهم إلى ربك أنه أعلم بك وبهم فيجزي كلا ما يستحقه ولا يخفى ما فيالعدول عن الضميرين في بمن ضل وبمن اهتدى وجعل قوله تعالى : ليجزي على متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : إن ربك هو أعلم أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم ليجزي الخ وقوله سبحانه : ولله ملك السماوات جملة معترضة تؤكد حديث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل : هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق ليجزي بقوله تعالى : ولله ما في السماوات كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد أي هو أعلم بهم وإنما سوى هذا الملك للجزاء ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مر وجوز في جملة لله ما في السماوات كونها حالا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أولا وفي ليجزي تعلقه بضل واهتدى على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى أعلم بمن ضل ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعلمه و بمن اهتدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى ولا يخفى بعده وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه : لا تغني شفاعتهم كما ذكره مكي وقرأزيد بن علي لنجزي ونجزي بالنون فيهما الذين يجتنبون كبائر الإثم بدل من الموصول الثاني وصيغة الأستقبال في صلته للدلالة على تجدد الأجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر محذوف و الأثم الفعل المبطيء عن الثواب وهو الذنب وكبائره ما يكبر عقابه وقرأحمزة والكسائي وخلف كبير الأثم على إرادة الجنس أوالشرك والفواحش ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام وقيل : الفواحش والكبائر مترادفا إلآ اللمم ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره ومنه لمه الشعر لأنها دون الوفرة وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة والغمزة والقبلة وهومن باب التمثيل وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وعليه قول الرماني هو الهم بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع وقول ابن المسيب : ما خطر على القلب وعن ابن عباس وابن زيد هو ما ألموا به منالشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قدكنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف على ما في البحر وقيل : هو مطلق الذنب (27/61)
وفيرواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب والمعظم على تفسيره بالصغائروالأستثناء منقطع وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلا و إلا صفة بمعنى غير إما لجعلالمضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الأثم في حكم النكرة أو لأن غير و إلا التي بمعناها قد يتعرفانبالإضافة كما في غير المغضوب وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع إلا صفة كونها تابعة لجمع منكر غيرمحصور ولم يوجد هنا ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب وسيبويه يرى جواز وقوعها صفةجواز الأستثناء فهو لا يشترط ذلك وتبعه أكثر المتأخرين نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الأنقسام وقالوا : سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ ألو إسحاق الأسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين في الإرشاد وتقيالدين السبكي وابن القريشي في المرشد بل حكاه ابن فروك عنالأشاعرة واختاره في تفسيره فقالمعاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالأضافة وحكى الأنقسام عند المعتزلة وقال : إنه ليس بصحيح وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرةإلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر وبوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن مسعود لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة والجمهور على الأنقسام قيل : ولا خلاف في المعنى وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق لإجماع الكل على أن المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله عز و جل وشدة عقابه سبحانه وإجلالا له جل شانه عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي : لا يليق إنكارالفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حد الكبيرة فقيل : هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء وقيل : كل معصية أوجبت الحد وبه قال البغوي وغيره والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حد فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي : إنهم إلى ترجيحه أميل وقيل يقال : يرد على الأولأيضاأنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد
وقيل : هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدوترك فريضة تجب فورا والكذب في الشهادةوالرواية واليمين زاد الهروي وشريح وكل قول خالف لأجماع العام وقيل : كل جريمة تؤذنبقلة اكتراث مرتكبها بالدينورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط وتعقب بأنه بظاهره ديتناول صغيرة الخسة والإمام كما قال الأذرعي إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط نعم هو أشمل من التعريفين الأولين وقيل : هي ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه وقيل : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كانفاحشة فالزنا كبيرة وبحليلة الجارفاحشة والصغيرة ما تنقص رتبته عن رتبته المنصوص عليه أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم (27/62)
كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعووغيره عن القاضي حسين عن الحليمي وقيل : هي كل فعل نصالكتاب على تحريمه أي بلفظالتحريم وهو أربعة أشياء أكل الميتة ولحم الخنزير ومال اليتيم والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر وقيل : إنها كل ذنب قرن به حد أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصومافظهر أنه مستحقي لدمه أو طيء امرأة ظاناأنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال : هو التحقيق وقيل : غير ذلك واعتمد الواحدي أنها لا حدلها يحصرها فقل الصحيح أنالكبيرة ليس لها حديعرفها العباد به وإلالاقتحم الناس الصغائر واستباحوه ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ونظير ذلك إخفاء الأسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة وقالالعلامة ابن حجر الهيتمي : كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب وإلآ فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه وذهب جمع إلى تعريفها بالعد فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
وقيل : هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير واستدل له بما فيالصحيحين اجتنبوا السبع الموبقات الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلاتالمؤمنات وقيل : خمس عشرة وقيل : أربع عشرة وقيل : أربع وعن ابن مسعود ثلاث وفي رواية أخرى عشرة وقال شيخ الإسلام العلائي : المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك وقال أبو طالب المكي : هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من النكر وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر واثنان في الفرج الزنا واللواط واثنتان في اليد القتلة والسرقة وواحدة في الرجل الفرارمن الزحف وواحدة في جمع الجسد عقوق الوالدين وفيه ما فيه وروي الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له : كم الكبائر سبع هي فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الأستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وقد ألف فيها غير واحد من العلماء وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه فليراجع والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن ربك واسع المغفرة حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر فالجملة تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز و جل وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأوهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي واسع المغفرة لهم ليس بشيء كما لا يخفى
هو أعلم بكم أي بأحوالكم من كل أحد إذ أنشأكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام (27/63)
من الأرض إنشاءا إجماليا حسبما مر بحقيقه وقيل : إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه من الأغذية التي منشؤها من الأرض وأيا ما كان فإذا ظرف لأعلم وهو على بابه من التفضيل
وقال مكي : هو بمعنى عالم غذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه وتعقب بأنه قد يتعلق علم منأطلعه الله تعالى من الملائكة عليه وقيل : إذ منصوب بمحذوف والتقدير اذكروا إذ أنشأكم وهو كما ترى وإذ أنتم أجنة ووقت كونكم أجنة في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لو لا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله فالجملة استئناف مقررلما قبلها وذكر فيبطون أمهاتكم مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه وقيل : لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة والفاء في قوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدمكونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذاكان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل أشركوا والله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه هو أعلم بمن اتقى المعاصي جميعاوهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيهابأسرها كذافي الإرشاد وقيل : اتقى الشرك وقيل : اتقى شيئا من المعاصي والآية نزلت على ما قيل : في قوم من المؤمنين كانوايعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنهإذاكان بطريق الإعجاب أو الرياء أماإذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعدفاعله منالمزكين أنفسهم ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعد منها التسمية بنحو برة أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب وكذا غير عليه الصلاة و السلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي جابر : إن عشت إن الله أنهى أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة محمول كما قالالنووي على إرادة أنهى نهي تحريم والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوص بما إذاكان الإشعار قويا كما إذاكان الأسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التزكية مستعملافيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذالم يكن كذلك كسعيد وحسن وقد كان لعمرو رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها : عاصية فسماها رصص جميلة كذا قيل والمقام بعد لا يخلو عن بحث فليراجع وقيل : معنى لا تزكوا أنفسكم لا يزكي بعضكم بعضا والمراد النهي عنتزكية السمعة أو المدح للدنيا أو تزكية على سبيل القطع وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود
أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال كانت اليهود إذاهلك لهم صبي صغيرة قالوا : هو صديق فبلغ ذلك النبي صصفقال : كذبتيهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها فأنزل الله سبحانه عند ذلك هو أعلم بكم الآية (27/64)
أفرأيت الذي تولى
33
- أي عن اتباع الحق والثبات عليه وأعطى قليلا أي شيئا قليلا أو إعطاءا قليلا وأكدي
34
- أي قطع من قولهم حفر فأكدي إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر قال مجاهد وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله ص - وجلس ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له : أتترك ملة آبائك ! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن علي أن تعطي كذا من المال فوفقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث أعطى خمس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأمور وقال محمدبن كعب : في أبي جهل قال : والله يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه : أعنده علم الغيب إلى آخره وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل كما قال ابن عطية ولا أصل له وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثلذ ذلك و أفرأيت هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول والثاني الجملة الأستفهامية والفاء في قوله تعالى : فهو يرى للتسبب عما قبله أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنهيومالقيامة ما يخافه وقيل : يرى أن ما سمعه من القرآن باطل وقال الكلبي : المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حق وأيا ما كان فيرى من الرؤية القلبية وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفى عن غيره مما هو غيب أم لم ينبأ أي بل ألم يخبر
بما في صحف موسى وهي التوراة وإبراهيم وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه الذي وفى أي وفر وأتم ما أمر به أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى : وقال ابن عباس : وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحدغيره وهي ثلاثوسهما منها عشرة في براءة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآيات وعشرة في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الآيات وست في قدأفلح المؤمنون الآيات التي في أولها وأربع في سأل سائل والذين يصدقون بيوم الدين الآيات وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه وفى بأربع ركعات يصليهن في كل يوم وفي رواية يصليهن أول النهار
وأخرج أحمد من حديث معاذبن أنس مرفوعا أيضا ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفي أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسو وحين تصبحون الآية وقال عكرمة : وفي بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره وقيل وقيل : والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قالأ : ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتمالأما لايحتمله غيره وفي قصة الذبح ما فيه كفاية (27/65)
وخص هذا النبيان عليهما السلام بالذكر قيل : لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وأبيه وعمه وخاله والزوج بامرأته والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام وتقديمه لماصحفه أشهر عندهم وأكثر وقرأأبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السمقيع وزيد بن علي وفي بتخفيف الفاء ألا تزر وازرة وزر أخرى أي أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن أن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما فيصحف موسى أو الرفع على أنه خبر مبتدأمحذوف والأستئناف بياني كأنه قيل : ما في صحفها فقيل : هو أن لا تزر الخ والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن ذلك وزر الإضلال الذي وهو وزره لا وزر غيره وقوله تعالى : وأن ليس للأنسان إلا ما سعى
39
- بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره وأن كأختها السابقة و ما مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه أو إلا الذي سعى به وفعله واستشكل بأنه أخبار وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عنالميت منها ما أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال : نعم وكذا بنعالحج
أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال : أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة و السلام : لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال : نعم قال : فحق الله أحق بالقضاء وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعأ فكأنه بسعيه وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وأجيب أيضابأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الأيمان فكأنه سعيه ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنةوأن هشاماابنهنحر حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : أما أبوك فلوكان أقر بالتوحيدفصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك وأجيب بهذا عما قيل : إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضاالقصر على سعيه وحده وأنت تعلم ما في الجواب من النظر وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الأنتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتفيد بمالا يهبه العامل وسأل وإلى خراسان عبد الله بن طاهر الحسبن بن الفضل عن هذه الآية مع قوه تعالى : والله يضاعف لمنيشاء فقال : ليس لهبالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين وقالأ عكرمة : كان هذاالحكمفي قول إبراهيم وموسى عليهما السلام وأما هذه الأمة فللأنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة هل لأمي إذا تطوعت عنها قال ص - : نعم وقال الربيع : الأنسان هنا الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود (27/66)
والنحاس كلاهما في الناسخ وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفاولا نسخ في الأخبار وما يتوهم جوابامن أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهم السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى ثم من بعدذلك ترتفع إرادته وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه وقيلأ : اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضافانها وعظ للذي تولى وأعطى قليلاوأكدي والذي أميل إليه كلام الحسين ونحوه كلام ابن عطية قال : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه : للأنسان فإذاحققت الشيء الذي حق الأنسان أن يقول فيهلي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة أو رعاية أبصالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو نحو ذلكفليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاقبما هو حقيقة انتهى
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذاجعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لاتلحق الأموات وهو مذهب الإماممالك بل قال الإمام ابن الهمام : إن مالكا والشافعيلا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة غيرها كالصدقة والحج وفي الأذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل فالأختيار أن يقول القاريء بعدفراغه اللهمأوصل ثواب ما قرأنه إلى فلان والظاهر أنه إذاقال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلانبقلبه كفى وعن بعضهم اشتراط نية أول القراءة وفي القلب منه شيء ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما غذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذالأجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوماعند أهل السنة والجماعة وفيه ما علمت ما مر آنفا
وقالالخفاجي : هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعد حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة أما الصوم فلا وماورد في حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه وكذا غيره من العبادات فقالأ الطحاوي : إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنهبدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضلهD كالصدقة عن الغير فاعرفه انتهى فلا تغفل وأن سعيه سوف يرى
40
- أي يعرض عليه ويكشف له يومالقيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء وفي البحر أه حاضر والقيامة ويطلعون عليهتشريفاللمحسن وتوبيخاللمسيء ثميجز به أي يجزى الإنسان سعيه يقالأ : جزاه الله عز و جل بعمله وجزاه على عمله وجزاهعمله بحذف الجار وإيصالأالفعل وقوله تعالى : (27/67)
الجزاء الأوفى
41
- مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له وجوز كونه مفعولا بهبمعنى المجزيبه وحينئذيكونالفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصاللا التوسع فيجيء فيه الخلاف وبعضهم يجعل الجزاء منصوبابنزع الخافض وجوز أن يكون الضمير المنصوب في يجزاه للجزاء لا للسعي و الجزاء الأوفى عليه عطف بيان أو بدل كما في قوله تعالى : وأسروا النجوى الذينظلموا وتعقبه أبو حيان أن فيهإبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع وأن إلى ربك المنتهى
42
- أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرونولهذا قال غير واحد : أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الأنتهاء وقيل : المعنى أنه عز و جل منتهى الأفكار فلا تزال الأغكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز و جل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية : لا فكرة في الرب وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري وروي عنه عليه الصلاة و السلام إذا ذكر الرب فانتهوا وأخرجابن ماجة عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا نفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قالأ : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا
واستدلبذلك من قال باستحالة معرفته عز و جل بالكنه والبحث في ذلك طويل وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع وقرأأبو السمال وإن بالكسر هنا وفيما بعدعلى أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف وأنه هوأضحكوأبكى
43
- خلق فعلى الضحك والبكاءوقالالزمخشري : خلق قوتي الضحك والبكاء وفيه دسيسة اعتزال وقال الطيبي : المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة ولذا قرن بقوله تعالى : وأنه هو أمات وأحيا
44
- وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الأماتة وأحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالباوالإحياء عند الولاد الضحك وما أحسن قوله : ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سرورا فاجهدلنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار وقيل : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي أنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه وكذا في أنه هو أمات وأحيا فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز و جل والقاتل إنماينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل اللهتعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى
45
- من نوع ألإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز و جل من نطفة إذا تمنة
46
- أي تدفق في الرحم (27/68)
يقال : أمني الرجل ومني بمعنى وقال الأخفش : أي تقدر يقالأ مني لك الماني أي قدر لك المقدر ومنه المنا الذي يوزن به فيما قيل والمنية وهي الأجل المقد للحيوان وأن عليه النشأة الأخرى
47
- أي الأحياء بعدالإماتة وفاءابوعده جل شأنه وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه وفي الكشاف قال سبحانه : عليه لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الأحسان والإساءة وفيه مع كونه طريق الأعتزالنظر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بالمد وهي أيضامصدر نشأة الثلاثي وأنه هو أغنى وأفنى
48
- وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى : أغنى لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها وفي البحر يقال : قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضابالهمزة والتضعيف فيقالأ : أقناه الله تعالى مالاوقناه الله تعالى مالا وقال الشاعر : كممن غني أصاب الدهر ثروته ومن فقير يقني بعدإقلال أي يقني المال وعن ابن عباس أغنى مول وأقنى أرضى وهو بهذا المعنى مجاز منالقنية قال الراغب : وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية منالرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن ولله تعالى در من قال : هل هي إلا مدة وتنقضي ما يغلبالأيام إلا من رضى وعن ابن زيد والأخفش اقتنى أفقر ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى وقيل : إنهما جعلا أقنى بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في أمات وأحيا وأضحك وأبكى وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال أغنى نفسه سبحانه و أفقر الخلائق إليه عز و جل والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أنيكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل وعندي أن أغنى سبحانه نفسه كأوجدجل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه وأنه هو رب الشعرى
49
- هي الشعرى العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعدالواو وتقال الشعري أيضاعلى الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناة تحتية وصاد مهملة ومد والأولى فيالجوزاء وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجردة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذاطلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما يتبع الصائدأو الصيد والثانية في ذراع الأسد المبسوطة وإنما قيل لها الغميصاء لأنهابكت من فراق سهيل فغمصت عينيها والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق وذلك من زعم العرب أنهما اختا سهيل وفي القاموس منأحاديثهم أن الشعري العبور العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا وقيل : زعموا أن سهيلا و الشعري كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعري فعبرت المجرة فسميتالعبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياءا وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرماوأكثر ضياءاوهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية
قال السدي : عبدتها حمير وخزاعة وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة أو هو سيدهم (27/69)
واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي ص - : ابن أبي كبشه شبهوه لمخالفته قومه في عبادة الأصنام وذكر بعضهم أنه أحدأجداده عليه الصلاة و السلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أثوله فيقولون نزع إليه عرق كذا وعرق الخال نزاع وقيل : هو كنيةوهب بن عبد مناف جده صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل أمه وقولهم له عليه الصلاة و السلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة وقيل : كنية زوج السعدية مرضعته عليه الصلاة و السلام وقيل : كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز و جل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا ولمزيدالأعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل
ومن العرب من كان يعظمها يعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمو على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : وأنه هو رب الشعري إشارة لى نفي تأثيرها
وأنه أهلك عادا الأولى
أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور وقال الطبري : وصفت بالأولى لأن في القبائل عادا أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال وقال المبرد : عاد الأخرى هي ثمود وقيل : الجبارون وقيل : عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى وفي الكشاف الأولى قوم هود والأخرى إرم والله تعالى أعلم
وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف وقرأ قوم عاد الولي محذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها وقرأنافع وأبو عمرو عاد الولى بإدغام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة وعاب هذه القراءة المازني والمبرد وقالت العرب : في الأبتداء بعدالنقل الحمر والحمر فهذه القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها وأتى قالون بعدضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله :
أحب الموقدين إلى مؤسى
وكما قرأ بعضهم على سؤقه وفيه شذوذ وفي حرف أبي عاد غير مصروف للعملية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط وثمود عطف على عادا ولا يجوز أن يكون مفعولا لأبقى في قوله تعالى : فما أبقى لأن ما النافية لها صدر الكلام والفاء على ما قيل : مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها وقيل : هو معمول لأهلك مقدر ولا حاجة إليه وقرأعاصم وحمزة ثمود بلا تنوين ويقفان بغير ألأف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف والظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم أي أخذهم بذنوبهم وقيل : أي ما أبقى منهم أحدا والمراد ما أبقى من كفارهم وقوم نوح عطف على عادا أيضا من قبل أي من قبل إهلاك عاد وثمود وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين
إنهم كانوا همأظلموأطغى
أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذبيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى إلى هذا وأنا يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأالصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما وقيل : ضمير إنهم يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة و السلام (27/70)
ما لا يخفى و هم يجوز أن يكون تأكيداللضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقعبين معرفة وأفعل التفضيل وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان جار مجرى خبر المبتدأ وحذفه فصيح فيه فكذلكفي خبر كان والمؤتفكة هي قرة قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم ومنهالإفك لأنه قلب الحق وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه
وقرأالحسن والمؤتفكات جمعا أهوى أي أسقطهأ إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء وقال المبرد : جعلها تهوى
والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة وجوز أن يكون المؤتفكة معطوفا على ما قبله و أهوى مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم
فغشاها ما غشى فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ما مفعولاثانياوالفاعلأ ضميره تعالى ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف ما هي الفاعل فبأي الآءربك تتمارى تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغةفي الفعل وقيل : إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها والخطاب قيل : لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير وقيل : للأنسان على الإطلاق وهو أظهر والأستفهام للإنكار والآلاء جمع إلى النعم والمراد بها ما عدفي الآيات قبلوسمي الكل بذلك مع أن منه نقمالمافي النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والأنتفاع للأنبياء والمؤمنينفهي نعم بذلك الأعتبار أيضا وقيل : التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له وقرأ يعقوب وابن محيصن ربك تمارى بتاء مشددة هذا نذير من النذر الأولى الإشارة إلى القرآن وقال أبو مالك : إلى الأخبار عن الأمم أو الإشارة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والنذير يجيء مصدراوةوصفا والنذر جمعه مطلقاوكل من الأمرين محتمل هنا ووصف النذر جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة أو الجماعة واختير على غيره رعاية للفاصلة وأيا ما كان فالمراد هذانذير من جنس النذر الأولى
وفي الكشف أن قوله تعالى : هذا نذير الخ فذلكة للكلام إما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل أزفت الأزفة أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن فأل في الآزفة كاللعهد لا للجنس وقيل : الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا وقيل : لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة ليس لها من دون الله أي غير الله تعالى أو ألآ الله عز و جل كاشفة
58
- نفس قادرة على كشفهأ إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها والمراد بالكشف الإزالة وقري من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهومراد الزمخشري بقوله : أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير وقيل : معناه لو وقعت الآن لم يردها إلى وقتها أحدإلا الله تعالى فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة وقال الطبري والزجاج : المعنى (27/71)
ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات ة فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى : لا يجليها لوقتها إلا هو والتاء في كاشفة على جميع الأوجه للتأنيث وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت وبعضهم يقدر الموصوف حالا والأول أولى وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز و جل وفيه نظر وقال الرماني وجماعة : يحتمل أن يكون كاشفة مصدرا كالعافية وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى أفمن هذا الحديث أي القرآن تعجبون
59
- إنكارا وتضحكون استهزاءا مع كونه أبعد شيء من ذلك ولا تبكون
60
- حزنا علىما فرطتم في شأنه خوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة وأنتم سامدون
61
- أي لا هون كما روي عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد : ليت عادا قبلوا الحق ولم يبدوا جحودا قيل : قم فانظر إليهم ثم دع عنك السمودا وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود فقال : البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا وقال الراغب : السامد اللامي الرافع رأسه من سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه وقال أبو عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية أسمديلنا أي غني لنا وروري نحوه عن عكرمة وأخرج عبد الرزاق والبزاز وابن جرير والبيهقي في سننه وجماعة عن ابن عباس أنه قال : هو الغناء باليمانية وكانواإذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه وقيل : يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه والجملةالإسمية على جميعذلك حال من فاعل لا تبكون ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود وقال المبرد : السمود الجمود والخشوع كما في قوله : رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا والجملةعليه حال من فاعل تبكون أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفي والإنكار وارد على نفي البكاء والسمو معا فلا تغفل وفي حرف أبي وعبد الله تضحكون بغير واو وقرأ الحسن تعجبون تضحكون بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء واستدل بالآية كما في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع القرآنوقراءته أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : لما نزلت أفمن هذا الحديث الآية بكىأصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة و السلام : لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخلالجنة مصر على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون ما ضحك النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إلا أن يتبسم ولفظ عبد بن حميد فما رؤي النبي عليه الصلاة و السلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا وفيه سد باب الضحك عند قراءة القرآنولو لم يكن استهزاءا والعياذ بالله (27/72)
فاستجيبوا لله واعبدوا
62
- الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلتهبما يليق به ويدلعلى عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم وقد سجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندها
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابنمسعود قال : أولسورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا الحديث
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود وكذا عمر رضي الله تعالى عنه أخرج سعيد ابن منصور عن سبرة قال : صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع ولا يرى مالك السجود هنا واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يسجد فيها وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدلعلى نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة و السلام سجد بعد وكذا زيد رضي الله تعالى عنه نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز أو لعذر لم نطلع عليه وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة ناف وضعيف وكذا قوله فيما رواه أيضا عنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها على أن الترك إنما ينافي كما سمعت الوجوب والله تعالى أعلم
سورة القمر
وتسمى أيضا اقتربت وعن ابن عباس أنها تدعىفي التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال : إنه منكر وهي مكية في قول الجمهور وقيل : مما نزل يوم بدر وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات أم يقولون إلى وأمر واقتصر بعضهم على استثناء سيهزم الجمع الخ ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال : أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سيهزم الجمع ويولون الدبر وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله أي جمع يهزم فلما كان يوم بدروانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر فكانت ليوم بدر وفي الدر المنثور : أخرج البخاري عن عائشة قالت : نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ويرد به وبما قبله ما حكى عن مقاتل أيضا وقيل : إلا أن المتقين الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه : ثم أزفت الآزفة وهنا اقتربت الساعة وقال الجلال السيوطي : لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق (27/73)
للتسمية في التسمية لما بين النجم والقمر من الملابسة وأيضا إن هذه بعد تلك كالأعرافبعد الأنعام وكالشعراءبعد الفرقان وكالصافات بعد يس في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح إلى قوله سبحانه : والمؤتفكة أهوى
بسم الله الرحمن الرحيم اقتربت الساعة أي قريب جدا وانشق القمر
1
- انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة و السلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس أن اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق لا يعول عليه وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشهدوا ومن حديثه أيضا انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة و السلام فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء في السفار فأخبروهم بذلك أبو داود والطيالسي وفي رواية البيهقي فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا : رأيناه فأنزل الله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال : اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحرث فقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع لهم النبي صلى الله عليه و سلم : إن فعلت تؤمنوا قالوا : نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ربه عز و جل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثلنصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا
والأحاديث الصحيحة في الأنشقاق كثيرة واختلف في تواتره فقيل : هو غيرمتواتر وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب : الصحيح عندي انشقاق القمر متواترمنصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمتري في تواتره انتهى باختصار وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحةعن جماعةمن الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن مسعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكنمولودا إذ ذاك وكأنسفإنه ابن أربع أو خمس بالمدينة وهذا لا يطعن في صحةالخبر كما لا يخفى ووقع في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة و السلام كان ليتئذ بمكة فالمراد أن الإنشقاق كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الأنشقاق (27/74)
عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث وأما الإجماع فغير مسلم وفي المواهب قال الحافظ ابن حجر : أظن أن قوله : بالإجماع يتعلق بانشق لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الأنشقاق في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل قائل مرتين أراد فرقتين وهذا الذيلا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنىفي خبرابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتينوهي بمعنى فرقتين ومرتين معا والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤيةوتعددها لا يقتضي تعدد الأنشقاقبأن يكون رآه منشقا فصرف نظره عنه ثم أعادهفرآه كذلك لم يتغير ففيهإشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال : انتهى أهل مكةإلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله فهبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلةيروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلةأربع عشرةفانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى اقتربت الساعةوانشق القمر فلوقال أحدهؤلاء رأيت القمرمنشقا ثلاث مرات على معنى الرؤيةصح بلا غبار ولم يقتض تعدد الأنشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذاالطرز ليجمع بين الروايات ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشارإليه البوصيري في قوله : شق عن صدره وشق له البلد رومن شرط كل شرط جزاء من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمرليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامةابن حجر الهيتي في شرحه : الظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا ولعله أراد بالبدر مطلق القمر ويؤيد كونه ليلةالبدر ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : سحر القمر فنزلت اقتربت الساعة إلى مستمر فإن الكسوف وإن جاز عادةأن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشرإلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورةإلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الإنشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهايةأن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعته السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالىعلى من وضعه وما في خبر أبي نعيم الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما علىالصفا والآخر على المرة قدرما بين العصرإلى الليلينظرون إليه ثم غاب لا يعول عليه كيف وقد تضمن ذلك الخبرأن الأنشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا سحر مستمر هم وهو مخالف لما نطقت به الأخبارالصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع وقد شاع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشارإلى القمر بسبابته الشريفة فانشق ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم (27/75)
وأنكر الفلاسفة أصل الأنشقاق بناءا على زعمهماستحالة الخرق والألتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنىنسمةمن نسمات أفكار أهلالحق العلويين خرقا لا يقبل الألتئامكما بين في موضعه وقال بعض الملاحدة : لو وقعلنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس في شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التيسير والتنجيم ولذكره أهل الأرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع طلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة وأيضا لا يعقل لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشدمن أصواتالصواعق المهلكة بأضعافمضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أخلالأرض منه وأيضا متى خرق وصار قطعتينذهبت منه قوة التجاذبكالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلةوكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم رؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والأعتناءبأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلةأهلها لحظة غير مستبعد والأنشقاق لا تختلفبه منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوةسير لتلحق أختها الغربية واي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله تعالىسبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمةالجديدة : إن بين الأرض والشمس ثلثمائةألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرضفي مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلمسبب كلحادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤيةالكواكب قريبةمع بعدهاالمفرطفقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفيفي ذلكعدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقةولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم بخواص البصرمع كونه قطعة شحم صغيرةمعروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون
ومن سلمتأثيرالنفوس إلى حدأن يصرعالشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناكسبب نحو ذلك وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممنله عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين وربما تصور له من رمل فينظرإليه ويفلقهفينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاةوإلا فإراة الله تعالى كافية في الأنشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومثله ذهاب التجاذبوالجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرمالقمر والرض فيها ويمكن أن يكون إحدىالقطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حد جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلكالقطعة عدم الخروج عن حد الجذبعلى أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبت الأمكان وشمول قدرته عز و جل وأنه سبحانه فعال لما يريد
والحاصلأنه ليس عند المنكر سوىالأستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليلعلى الأستحالةالذاتية ولو انشق والأستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم وروي عن الحسن أنه قال : هذا (27/76)
الأنشقاق بعد النفخة الثانية والتعبيربالماضي لتحقق الوقوع وروي ذلك عن عطاء أيضا ويؤيد الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الأنشاق قبل يوم القيامة وكذا قوله تعالى : وإن يروا آية يعرضوا فإنه يقتضيأن الأنشقاقآية رأوها وأعرضوا عنها وزعم أن انشقاق القمرعبارةعن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الأنفلاقبالأنشقاقكمافي قوله النابغة : فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داعي وزعم آخر أن معنى انشقالقمروضح الأمر وظهر وكلا الزعمينمما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولا أظن الداعيإليهما عند من يقربالسعةالتي هي أعظم من الأنشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الأتفاق سوى عدم ثبوتالأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة و السلام عندهومنشأ ذلك القصور التاموالتمسك بشبه هي على طرف الثمام ومع هذا لا يكفر المنكر بناءا على عدمالأتفاق على تواتر ذلك وعدمكون الآية نصا فيه والأخراج من الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالىالموفق
والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني وكلآت قريب وزمان العالم مديد والباقيبالنسبةإلى الماضي شيء يسير ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغيلأحد إنكارها واستعمالالأقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال لعل في قوله تعالى : لعل الساعةتكون قريبا مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمرآية ظاهرة على هذا القرب وعلى الأول قيل : هو آية لأصل الأمكان الذي يقتضيه الوقوع وقيل : هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلى الله عليه و سلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه بأنه إذا قربت الساعة انشق القمرمعجزة وكلاهما كما ترى واختاربعضهم أنه آية لصدق النبيE في جميع ما يقول ويبلغ ربهسبحانه لأنه معجزه له صلى الله عليه و سلم ومنه دعوىالرسالة والأخبار باقترابالساعةوغير ذلك و آية نكرة في سياق الشرط فتعم فالمعنى وإن يروا كل آيةيعرضوا عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها ويقولون سحر أي هذا أو هو أي ما نراه سحر مستمر
2
- أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآياتوتتابع المعجزات
وقال أبو العالية والضحاك : مستمر محكم موثقمن المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدرمررت الحبل مرةإذافتلته فتلا محكما فأريدبه مطلق المحكم مجازا مرسلا وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء واختارهالنحاس مستمرأي مار ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهمومنوها بالمانيالفارغة كأنهم قالوا : إن حاله عليه الصلاة و السلام وما ظهر من معجزاته سبحانه
سحابةصيف عن قريبتشفع
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وقيل : مستمر مشتد المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدةمرارته يقال : مر الشيء وأمرإذاصارمراوأمر غيره ومره يكون لازما ومتعديا وقيل : مستمر يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات وقيل : مستمر مار من الأرضإلى السماءأي بلغ من سحره أنه سحر القمروهذا ليس بشيء ولعلالأنسب (27/77)
بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه وقريء وأن يروا بالبناء للمفعول من الإرادءة وكذبوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبماأظهره الله تعالى على يدهمن الآيات واتبعواأهواءهم التي زينها الشيطان لهم وقيل : كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر واتبعوا أهواءهم وقالواسحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله والعطف على الجزاء السابق وصيغةالماضي للدلالة على التحقق وقيل : العطف على اقتربت والجملة الشرطيةاعتراضيةلبيان عادتهم إذاشاهدوا الآيات وقوله تعالى : وكل أمرمستقر
3
- استئناف مسوق للرد على الكفارفي تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنععلة شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغةمن عدم استقرار أمره عليه الصلاة و السلام حسبما قالوا : سحر مستمر ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومنجملتها أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسيصير غاية يتبينعندها حقيته وعلو شأنه وللإشارة إلىظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة و السلام لميصرح بالمستقر عليه وفي الكشاف أي كل أمرلا بد أن يصيرغاية يستقر عليها وأن أمره صلى الله عليه و سلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حقأو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة و السلام وأمرهم مستقرأيسيثيب ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادةأو شقاوة في الآخرة قال في الكشف : والكلام على الأول تذييل جارمجرى المثلوعلى الثاني تذييل غير مستقر وقرأ شيبة مستقر بفتح القاف ورويت عن نافع وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار وحمله على كل أمر بتقديرمضاف أي ذومستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار أو ذو موضعاستقرار وتعقب بأن كون كل أمر لا بد من زمان أو مكان أمرمعلوم لا فائدةفي الأخبار به وأجيب بأن فيه إثبات الأستقرارله بطريق الكناية وهيأبلغ من التصريح
وقرأزيد بن علي مستقر بكسر القاف والجر وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربتالساعة واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها قالفي الكشف : وفيه شمةمن التجريد وتهويل عظيم حيث جعلفي اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع وقوله تعالى : وانشق القمر على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها وإما منزلمنزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة وقوله سبحانه : وإن يروا آية الخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر
واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير أكلت خبزا وضربتخالدا وإن يجيء زيد أكرمه ورحلإلى بنيفلان ولحما بعطف لحما على خبرا ثم قال بللا يوجد مثله في كلام العرب وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذادلعلى العطف الدليل لا يعدذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا ولا يخفى وقال صاحب اللوامح إن مستقر خبر كل والجرد للجوار واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس يجيد لأن الجرد علىالجوار في غاية الذوذ في مثله إذا لم يعهدفي خبر المبتدأ وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده واستظهركون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت أومعمول به ونحوه ممايشعر به الكلام أو مذكور بعدوهو قوله تعالى : حكمة بالغة وقد اعترض بينها بقوله سبحانه : ولقد جاءهم في القرآن من الأنباء أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة والجار والمجرور (27/78)
في موضع الحال منما في قولهD : ما فيه مزدجر
4
- قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه و من للتبعيض أو للتبيين بناءا على المختار من جواز تقديمه على المبين قال الرضي : إنماجازتقديم من المبينة على المبهمفي نحو عندي من المال ما يكفي لأنه في الأصل صفة لمقدرأي شيء من المال والمذكزر عطف بيان للمبين المقدرقبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجارلهم ومنع عما هم فيه من القبائح أو موضعازدجار ومنع وهي أنباء التعذيب أو أنباء الوعيد وأصل مزدجر من تجر بالتاء موضعالدال وتاء الأفتعال تقلب دالامع الدال والذال الراء للتناسبوقريء مزدجر بقلبها وايا وإدغام الزاي فيها وقرأزيد بن علي من جر اسم فاعل من أزجر أي صار زجر كأعشب صار ذا عشب حكمةبالغة أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها ورفع حكمه على أنها بدل كل أو اشتمال من ما وقيل : من مزدجر أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسلوإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى أو إلى ما في النباء أو إلى الساعة المقتربة والآية الدالة عليها كما قاله الإمام وتقدم آنفا احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد وقرأاليماني حكمة بالغة بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو نكرة موصوفة ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني
فما تغن النذر
5
- نفي للأغناء أو الأستفهام إنكاري والفاءلترتيب عدم الإغناء علىمجيء الحكمةالبالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغةالمضارع للدلالة على التجدد والأستمرار و ما علىالوجه الثاني في محلنصبعلى أنهامفعول مطلق أي فأي إغناءتغنيالنذر وجوزأن تكون في محل رفع على الأبتداء والجملة بعدها خبر والعائد مقدرأي فما تغنيه النذر وهو جميعبمعنى المنذر وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار وتعقب بأن حق المصدرأن لا يثنيولا يجمعوأن يكون كالأنذار وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله فتول عنهم الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمربه والسبب عدم الإغناء أو العلم به والمراد بالتولي إما عدم القتال فالآية منسوخة وإما تركالجدال للجلاد فهيمحكمة والظاهر الأول يوم يدع الداع ظرف ليخرجون أو مفعول به لا ذكر مقدرا وقيل : لا تنظر وجوز أن يكون ظرفا لتغني أو لمستقروما بينهما اعتراض أو ظرفا ليقول الكافر أو لتول أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة أو هو معمولله بتقدير إلى وعليه قوله الحسن فتول عنهم إلى يوم
والمراد استمرار التولي والكل كما ترى والداعي إسرافيل عليه السلام وقيل : جبرائيل عليه السلام وقيل : ملك غيرهما موكل بذلك وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في كن فيكون على القول بأنه تمثيل فالداعيحينئذ هو الله عز و جل وحذفت الواو من يدع لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ والياء من الداع تخفيفا وإجراءا لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه والشيء يحمل على ضده كما يحملعلى نظيره إلى شيء نكر أي فظيعتنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنىبالنكر عن الفظيعلأنه في الغالب منكرغير معهود وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقراروأيما كان فهووصف على فعل بضمتين وهو قليلفي الصفات ومنه روضة أنف لم ترع ورجلشلل خفيففي الحاجة سريع حسن الصحبة (27/79)
طيب النفس وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل نكر بإسكان الكاف كما قالوا : شغل وشغل وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف أو السكون هو الأصل والضمللأتباع وقرأمجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي نكر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر خشعا أبصارهم حال من فاعل يخرجون أي يخرجون من الأجداث أيالقبور اذلة أبصارهم من شدة الهول أذلاء من ذلك وقدمالحال لتصرف العامل والأهتمام وفيهدليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا ويرده أيضاقولهم : شتى تؤب الحلبة وقوله : سريعا يهون الصعب عند ألي النهي إذا بر جاء صادققابلوا البأسا وجعل حالامن ذلك لقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا إلى قوله تعالى : خاشعة أبصارهم وقيل : هو حال من الضمير المفعول المذحوف في يدع الداع أي يدعوهم الداع وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوعالبصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعلهمفعول يدعو على معنى فريقا خاشعاأبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل وقيل : هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى : فتولى عنهم وفيه ما لا يخفى وأيضافاعل خشعاوطابقه الوصففي الجمع لأنه إذاكسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذاجمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذارفعالظاهر المجموع على اللغة الفصيحةدون لغة أكلوني البراغيث لكن الجمع حينئذفي الأسم أخف منه في الفعل كما قال الرضي ووجهه ظاهر وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسماظاهرامجموعافإن تكسيرها كمررت برجل قيام غلمانه فهو أولىمن إفرادها كمررتبرجل قائم غلمانه وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهدله كقوله : وقوفابها صحبى على مطيهم يقولونلا تهلك أسى وتجملي وقوله : بمطرد لدن صحاح كعوبه وذي رونقعضب يقدرالقوانسا وقال الجمهور : الإفراد أولى والقياس معهم وعليه قوله : ورجالحسنأوجههم من إياد بن نزار بن معد وقيل : إن تبعمفردا فالأفراد أولى كرجل قائم غلمانه وإن تبع جمعافالجمع أولى كرجال قيام غلمانهم وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلوني البراغيث وجوز أن يكون خشعا ضمير مستتر و أبصارهم بدلامنه وقرأابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي خاشعا بالإفراد وقرأأبي وابن مسعود خاشعة وقريء خشع على أنه خبر مقدم و أبصارهم مبتدأو والجملة في موضع الحال وقوله تعالى : كأنهم جرادمنتشر
7
- حال أيضاوتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والأنتشار في الأقطار وجاء تشبيههم بالفراشالمبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل وقيل : يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدونأين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها ثم كالجراد المنتشر إذاتوجهوا إلى المحشرفهما تشبيهان باعتبار وقتين وحكى ذلك عن مكي بن أبي طالب
مهطعين إلى الداع مسرعين إليه قال أبو عبيدة : وزاد بعضهمماديأعناقهم وآخر مع هز ورهق ومد بصر (27/80)
وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع : تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشدالبيت وقيل : خافضين ما بين أعينهموقال سفيان : شاخصة أبصارهم إلى السماء وقيل : أصل الهطع مد العنق أو مدالبصر ثم يكنىبه عن الإسراع أو عن النظر والتأملفلا تغفل يقول الكافرون هذا يوم عسر
8
- صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنهعلى المؤمنين ليسكذلك كذبت قبلهم قوم نوح شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للزدجارونوعتفصيل لهاوبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى : فما تغنى النذر والفعل منزل منزلة اللازم أيفعلت التكذيب قبلتكذيب قومك قوم نوح وقوله تعالى : فكذبوا عبدنا تفسير لذلك التذكيب المبهم كما في قوله تعالى : ونادىنوح ربه فقال الخ وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب وجوز أن يكون المعنى تكذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مثله أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأساكذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل والفاعلية عليه سببية وقيل : معنى كذبت قصدتالتكذيب وابتدأته ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله : قدجبر الدين الإله فجبر
وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم لهعليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه
وقالوا مجنون أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وازدجر
9
- عطف على قالوا وهو إخبار منه عز و جل أي وزجر عن التبليغ بأنواعالأذية والتخويف قاله ابن زيد وقرا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين وقال مجاهد : هو من تمام قولهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته والأول أظهر وأبلغ وجعل مبنيا للمفعول لغرضالفاصلة وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة علىأنفعلهم أسوأمن قولهم فدعا ربه أني أي بأني
وقرأابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي ورويتعن عاصم إني بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين مغلوب من جهة قومي ماليقدرة على الأنتقام منهم فانتصر
10
- فانتقم ليمنهم وقيل : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك وقيل : المراد بمغلوب غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلابعد اليأس من إيمانهم والتأكيد لمزيدالأعتناء بأمر الترحمالمقصود من الأخبار
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر
11
- أي منصب وقيل : كثير قال الشاعر : أعيناي جودابالدموع الهوامر على خير باد من معدوحاضر والباء للآلهة مثلها فيفتحت الباب بالمفتاح وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من اليحاب بانصباب أنهارانفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء وهو الذي ذهب إليه الجمهور وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس (27/81)
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلامن السحاب وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوفالتقى الماآن وفي رواية لم تقلع أربعين يوما وعن النقاشأنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة والمعروف من الأرصادأن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا والله تعالى أعلم
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبونالمطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأابن عامر أبو جعفر والأعرج ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب والظاهر أن جميع القلة هنا للكثرة وفجرنا الأرض عيونا وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عبيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير فالتمييز محول عن المفعول وجعله بعضهم محولاعن الفاعل بناءاعلى أنه الأكثر والأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكونعن فاعلفعل آخر يلاقيه في الأشتقاق وهذا منه وهو تكلف لا حاجة إليه ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب عيونا حالا مقدرة وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أيصيرنا بالتفجير الأرض عيوناوكان ذلك على ما في بعض الروايات يوما وقرأعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم فجرنا بالتخفيف فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض والإفراد لتحقيقأن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بلبطريق الأختلاط الأتحاد وقرأعلي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمدبن كعب والجحدي الما آن والتثنية لقصد بيان اختلاط النوعين وإلا فالماء شامل لماء السماء وماء الأرضونحوه قوله : لنا إبلان فيهما ما علمتم فعن أيها ما شئتم فتنكبوا وقيل : فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الأفراد وقرأ الحسن أيضا ماوان بقلب الهمزة واواكقولهم : علباوان كما قال الزمخشري ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالابعلة أنها غير أصلية لأنها زائدة للإلحاق كذلك ههنا لأنها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنهاأجريت مجرى البدل عن الواو في النسبة فيه : ما وي وجاء في جمعه أمواء كماجاءأمواه ولا يبعد أن يكون من ثناه بالواو قاسه على النسبة كذا في الكشف وعنه أيضاالمايان بقلب الهمزة ياءا
على أمر قد قدر أي كائنا على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج
وقيل : إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملاأربعين وقيل : ماء الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز و جل أو على أمر قدره الله تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالىفيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هؤلاء و على عليه للتعليل ويحتمل تعلقها بالتقى وفيه رد علىأهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عداالزهرة في برج مائي وقرأ أبو حيوة وابن مقسم قدر بتشديدالدال وحملناه أي نوحا عليه السلام على ذات ألواح أخشاب عريضة ودسر أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب وقيل : (27/82)
دسر كسقف وسقف وأصل الدسر الدفع الشديدبقهر فسمى به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة وقيل : حبال من ليف تشدبها السفن وقال الليث : خيوط تشدبها ألواحها وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه وروي عن ابن عباس نحوه وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة وأيا ما كان فقوله تعالى : ذات ألواح ودسر من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم : حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو فصيح الكلام وبديعه ونظير الآية قول الشاعر : مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل : تراءى الهافيكل عين مقابل ولو في عيون النازيات بأكرع فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه علىما في المفصل وغيره فكلام نحوي تجري بأعيننا بمرأى منا وكني به عن الحفظ أي تجرد في ذلك الماء يحفظنا وكلاءتنا وقيل : بأوليائنا يعني نوحاعليه السلام ومن آمن معه يقال : مات عين من عيون الله تعالى أي ولي من أوليائه سبحانه وقيل : بأعين الماء التي فجرناها وقيل : بالحفظة من الملائكة عليهم السلام سماهم أعيناوأضافهم إليه جل شأنهوالأول أظهر وقرأزيد بنعلي وأبو السمال بأعينا بالإدغام
جزاء لمن كان كفر
14
- أي فعلنا ذلك جزاءالنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي من الله تعالى على أمته وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضاأي جحدت نبوته فالكفر عليه ضد الإيمان وعلى الأول كفران النعمة وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل : غضبا وانتصارالله عز و جل وهو كماترى وقرأ مسلم بن محارب كفر بإسكان الفاء خففت فعل كما في قوله :
لو عص منه البان والمسك انعصر وقرأيزيد بن رمان وقتادة وعيسى كفر مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قدخبرالكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة وجوز أن تكون كان زائدة كأنه قيل : جزاءالمن كفر ولم يؤمن ولقد تركناها أي أبقينا السفينة آية بناءاعلى ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودى حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة أو أبقينا خبرها أو أبقينا جنسها وذلك إبقاء السفن أو تركنا بمعنى جعلنا وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين فهل من مذكر أي معتبر بتلك الآية الحرية الأعتبار وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية مذكر بالذال المعجمة على قلب تاء الأفتعال ذالا وإدغام الذال في الذال وقالأ اللوامح : قرأ قتادة فهل من مذكر بتشديد الكاف من التذكير أي نفسه أو غيره بها وقريء مذتكر بذالمعجمة بعدهاتاء الأفتعال كما هو الأصل فكيف كان عذابي ونذر
15
- استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا علي كيفية هائلة (27/83)
لا يحيط بها الوصف و النذر مصدر كالإنذار وقيل : جمع نذير بمعنى الإنذار وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه وليس بشيء وكذا جعله بمعنى المنذر وكان يحتمل أن تكونناقصة فكيف في موضع الخبر وتامة فكيففي موضع الحال ولقد يسرنا القرآن الخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : ولقد جاءهم الخوتنبيهاعلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الأدكار كافية في الأزدجار ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد للذكر أي للتذكر والأتعاظ فهل من مدكر إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكدهيدل على أنه لا يقدر أحدأن يجيب المستفهم بنعم وقيل : المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروه عن الوحشي ونحوه فلهتعلق بالقلوب وحلامة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال : يسرنا القرآن هونا قراءته
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لو لا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعامثله
وأخرج ابن المنذرعن ابن سيرين أنه مر برجل يقول سورة خفيفة فقال : لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول : ولقد يسرنا القرآن للذكر والمعنى الذي ذكر أولاأنسب بالمقام ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيراللآية وجوز يسرنا بهيأنا منقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ويسر فرسه للغزوإذا أسرجه وألجمه قال الشاعر : وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع كذبت عاد شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والأتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم ذكروا بعنوا الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو عاد ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولميتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للأختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الأزدجار من العذاب وقوله : فكيفكان عذابي ونذر
18
- لتوجيه قلوبالسامعين نحو الإصغاء إلى ما لا يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعدبيانهكما قبله وما بعدهكأنه قيل : كذبت عاد فهل سمعتم أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم وقيل : هو التهويل أيضالغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذاالنوع من العذاب وفيه بحث وقوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا استئناف لبيان ما أجمل أولا والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك وقيل : شديدة الصوت وتمام الكلام قد مر في فضلت
فييوم نحسشؤم عليهم مستمر
19
- ذلك الشؤم لأنهم بعدأن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة والمراد باليوم مطلق الزمانلقوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحاصرصرافي أيام نحسات وقوله سبحانه : سخرنا عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما والمشهور أنه يوم الأربعاء (27/84)
وكان آخر شوال على معنىأن ابتداء إرسال الريحكان فيه فلا ينافي آيتي فصلت والحاقة
وجوز كون مستمر صفة يوم أي في يوم استمرعليهمحتىأهلكهم أو شمل كبيرهمصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة علىأن الأستمرار بحسب الزمان أو بحسبالأشخاص لكن على الأوللا بدمن تجوز بإرادة استمرار نحسه أو بجعلاليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر وجوزكون مستمر بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له وجوز كونه بدلا أو عطف بيان وهو كما ترى وقرأالحسن يوم نحس بتنوينيوم وكسر حاء نحس وجعله صفة ليوم فيتعين كون مستمر صفة ثانية له وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يومنحس مستمر وأخذبذلك كثير من الناس فتطيروا منهوتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له : أربعاء لا تدور وعليه قوله : لقاؤك للمبكر فأل سوء ووجهك أربعاء لا تدور وذلك مما لا ينبغي والحديث المذكور في سنده ميلمة بن الصلت قال أبو حاتم : متروك وجزم ابن الجوزي بوضعه قال ابن رجب : حديث لا يصح رفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفاعلى ابن عباس وقال السخاوي : طرقه كلها واهية وضعفوا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر والآية قد علمت معناها وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يومالأربعاء بعيد الزوال وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنه ما بديء شيء يوم الأربعاء إلاوتم وهو خلق الله تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه لخبر ابن حبان والديلمي عن جابر مرفوعامن غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال : سبحان الباعث الوارث أتته أكلها نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا لو لا أن تكره لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء وأحب الأيام إلي الشخوص فيها يوم الخميس وهو غير معلوم الصحة عندي
وأخرج أبو يعلى ابن عباس وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعايوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحديوم غرس وبناء ويوم الأثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء ويوم الخميس يوم الحوائج والدخول على السلطان والجمعة يوم خطبة ونكاح وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف وروي ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه الحاكم من طريقين آخرين لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص وكره بعضهم عيادة المريض فيه وعليه قيل : لم يؤت في الأربعا مريض إلا دفناه في الخميس وحكى عن بعضهم أنه قاللأخيه : أخرج معي في حاجة فقال : هو الأربعاء قال : فيه ولد يونس قال : لا جرم قدبانتله بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله تعالى قال : وفيهولد يوسف عليه السلامقال : فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال : وفيه نصر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال : أجل لكن بعدأن زاغتالأبصار وبلغتالقلوب الحناجر ونقل المناوي عن البحر أن (27/85)
أخباره عليه الصلاة و السلام عن نحوسة آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليسمن الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنهيوم عطارد وهو نحس من النحوس سعدمع السعود فإنه قول باطل ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أياحذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيهمن الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفاأن يلحقكم فيه بؤسكما وقع لمن قبلهم وهذا كما قال حين أتى الحجر : لا تدخلوا على هؤىء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك وحكى أيضاعن بعضهم أنه قال : التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء فيمصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة إباحة الإمساك فيه لمن كرهته النفس لا اقتفاءا للتطيرولكن إثباتاللرخصة في التوفي فيه لمن يشاء معوجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ونقل عن الحليمي أنه قال : علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا ويقابل النحس السعد وإذاثبت الأول ثبت الثاني أيضا فالأيام منها نحس ومنها سعدكالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد لكن زعم أن اليام والكواكب تنحس أو تسعدباختيارها أوقاتاوأشخاصا باطل والقول إن الكواكب قد تكون أسباباللحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده مما لا بأس به ثمقال المناوي : والحاصل أن توفي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ومن تطير حاقت به نحوسته ومن أيقن أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز و جل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل : تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور انتهى وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء ومامن ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث الله تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الأعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار والنهار في الليل إلآ يلاد الحوادث وقد قيل : ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات وقد حكى أنه ثمود العذاب يوم الأحد وورؤدفي الأثر أظنه يصح نعوذ بالله تعالى من يوم الأحذ فإن له حدا أحد من السيف ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه وزعم بعضهم أن من المجرب الذيلم يخط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم غير مسلم وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء وفيه أنزل إبليس إلى الأرض وفيه خلق جهنم وفيه سلط الله تعالىملك الموت على أرواح بني آدم وفيه قتل قابيل هابيل وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام وفيه ابتلي أيوب الحديث وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير ففي رواية مسلم خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء وإذا تتبعت التواريخ وقفت على حوادث عظيمة في سائر الأيام ويكفي هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقدقال سبحانه : سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيامحسوما فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها ! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيصكل يوم بعمل كما (27/86)
يزعمه كثير من الناس ويذكرونفي ذلك أبياتانسبها الحافظ الدمياطي لعلي كرم الله تعالى وجهه وهي فغنم اليوم يوم السبت حقا لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه تبدي الله في خلق السماء وفي الأثنين إن سافرت فيه سترجع بالجناح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يومادواءا فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاءحاج فإن الله يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويجوعرس ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يدريه إلا نبي أو صبي الأنبياء ولاأظنها تصح وقصارى ما أقول : ما شاءالله كان وما لم يشألم يكن لأدخل في ذلك لوقت ولا لغيره فنعم لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذاك واللهتعالى يتولى هداك وقوله تعالى : تنزع الناس يجوز أن يكون صفة للريح وأن يكون حالامنها لأنها وصفت فقربت من المعرفة وجوز أن يكون مستأنفا وجيءبالناس دون ضمير عاد قيل : ذكورهموإنهائهم والنزع القلع روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى
كأنهم أعجاز نخل منقمر
20
- أي منقلع عن مغارسهساقط على الأرض وقيل : شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأنالريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجساداوجثثا رؤوس ويزيدهذا التشبيه حسناأنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى : أعجاز نخل خاوية واعتبار كل في من الموضعين للفاصلة والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة وقال الطبري : في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم الخ فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك وقرأأبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع وقوله تعالى : فكيف كان عذابي ونذر
21
- تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعدبيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم وقيل : إن الأول لما حاق في الدنيا لما يحيق بهم في الآخرة و كان للمشاكلة أو للدلالةعلى تحققه على عادته سبحانه في إخباره وتعقب بأنهترتيب الثاني على العذاب الدنيوي
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
22
- الكلام فيه كالذي مر كذبت ثمود بالنذر
23
- بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع وجوز أن يكون مصدرا أو جمعاوأن يكون جمع نذير بمعنى المنذرمنه فلا تغفل
فقالوا أبشرا منا أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لبشرا وانتصابه بفعل يفسره نتبع بعدأي أنتبع بشرا واحدا أي منفردا لا تبع له أو واحدامن آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنطير (27/87)
الدال علىعدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلامن الجنسية والحدة مما يمنع الأتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه وقرأأبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابهالكامل وأبو عمرو الداني أبشر منا واحد برفعهما على أن بشر مبتدأ وما بعده صفته وقوله تعالى : نتبعه خبره ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع بشر ونصب واحدا وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع بشر إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر وإما على الأبتداء والخبر جملة نتبعه ونصب واحدا على الحال إما من ضمير النصب في نتبعه وإما من الضمير المستتر في منا وخرج صاحب اللوامح نصب واحدا هلى هذا أيضا وأما رفع بشر فخرجه على الأبتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما وتقدم الأستفهام يرجحتقدير فعل يرفع به إنا إذا
أي إذا اتبعنا بشرامنا واحدا لفي ضلال عظيم عن الحق وسعر
24
- أي نيران جمع سعير
وروي أن صالحاعليه السلام كان يقول لهم : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا : إن اتبعناك كنا كما تقول فالكلام من باب التعطيس والقول بالموجب وجمع السعير باعتبار الدركات أو للمبالغة وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال : أي لفي بعد عن الحق وعذاب وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنهاسم مفرد بمعنى ذلك يقال ناقة مسعورة إذاكانت تفرطفي سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر : كأن بها سعرا إذا العيس هزها ذميلوإرخاء من السير متعب والأول أوجه وأفصح ألقى الذكر عليه من بيننا أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينامن هو أحق منه بذلك والتعبير بألقى دون أنزل قيل : لأنه يتضمنالعجلة في الفعل بل هو كذاب أشر
25
- أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب : دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيامبحقها ووضعها إلى غير وجهها ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدة بطره وطلبه التعظيم علينا على ادعاء ذلك وقرأ قتادة وأبو قلابة بل هو الكذب الأشر بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباما في ذلك وقوله تعالى : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر
26
- حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدالقومه والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم وقيل : يومالقيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه وعليه قول الطرماح : ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الحوائج وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح أي سيعلمون البتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حملهأشره وبطره على ما حمله أصالح أم من كذبه والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الأبهام إيماءا إلى أنه مما لا يكاد يخفى ونحوه قول الشاعر : (27/88)
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيي وأيك فارس الأحزاب وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش ستعلمون بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبالهم وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الألتفات قال صاحب الكشف : أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سبيل الألتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب فتولى عنهم وقال يا قوم لقدأبلغتكم بعدما استؤصلوا هلاكاوهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعى عليهم جناياتهم وأما في خطابه عز و جل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الألتفات وعلى التقديرينلا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل هو أبلغ انتهى ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الألتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل وقرأمجاهد فيما ذكره صاحباللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيفالراء ويقال : أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها
وحكى الكسائي عن مجاهدضم الشين دون الهمزة فهو كندس وقرأأبو حيوة الأشر أفعل تفضيل أي البلغ فيالشرارة وكذا قرأقتادة وأبو قلابة أيضاوهو قليل الأستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة :
بلال خير الناس وابن الأخير وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير و الأشر إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت وقال الجوهري : لا يقال الأشر إلا في لغة رديئة وقوله تعالى : إنا مرسلوا الناقة الخ استئناف مسوق لبيان مباديء الموعود على ما هو الظاهر وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة والإرسالحقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجوا الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها فتنة لهم امتحانا وجوز إبقاؤها على معناها المعروف فارتقبهم فانتظرهم وتبر ما هم فاعلون واصطبر
27
- على اذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى ونبئهم أن الماء وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم قسمة بينهم مقسوم لها يوم ولهم يوم و بينهم لتغليب العقلاء وقرأمعاذ عن أبي عمرو قسمة بفتح القاف كل شرب نصيب وحصة منه محتضر
28
- يحضره صاحبه في نوبته فتحتضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى وقيل : يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل : يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنمسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن فينوبتها والمعنى كل شرب من الماء واللبن يحضرونه أنتم فنادوا أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة فنادوا لعقرها صاحبهم وهو قدار بن سالفأحمير ثمود وكان أجرأهم فتعاطى العقر أي فاجترأ على تعاطيه مععظمته غير مكترث به
فعقر
29
- فأحدث العقر بالناقة وجوز أن يكون المرادفتعاطى الناقة فعقرها أو فتعاطى اتلسيف فقتلها
وعلى كل فمفعول تعاطي محذوف والتفريع لا غبار عليه وقيل : تعاطي منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث (27/89)
ما هية التعاطي وقوله تعالى : فعقر تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى : فعقروا الناقة لأنهم كانوا راضين به فكيف كان عذابي ونذر
30
- الكلام فيه كالذي تقدم إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباحيوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم فكانوا أي فصاروا كهشيم المحتظر
31
- أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء
وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر و المحتظر الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطولالزمان تطؤه البهائم فيتهشم وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة والحظيرة والزريبة التي تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع
وقرأ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد المحتظر بفتح الظاء علىأنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل : ويقدر له موصوف أي كهشيم الحائط المحتظر أو لا يقدر على أن المحتظر الزربية نفسها كما سمعت وجوز أن يكون مصدراأي كهشيم الأحتظار أي ما تفتتحالة الأحتظار ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل منمدكر
32
- كما مر كذبت قوم لوط بالنذر
33
- علىقياس النظر السابق إنا أرسلنا عليهم حاصبا ملكاعلى ما قيل يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح التي تحصب ولم يرد الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير وقالابن عباس : هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح وعليه قول الفرزدق : مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور إلا إل لوط خاصته المؤمنين به وقيل : آله ابنتاه نجيناهم بسحر
34
- أي في سحر وهو آخر الليل وقيل : السدسالأخير منه وقال الراغب : السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاءالنهار وجعل أسما لذلك الوقت ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بسحر داخلين فيه نعمة من عندنا أي إنعامامناوهو علة لنجينا ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه أو بنجينا لأن النتيجة إنعام فهو كقعدت جلوسا كذلك أي مثل ذلك الجزاء العجيب نجزي من شكر
35
- تعمتنا بالأيمان والطاعة ولقد أنذرتهم لوط عليه السلام بطشتنا أخذتنا الشديدة بالعذاب
وجوز أن يراد بها نفس العذاب فتماروا فكذبوا بالنذر
36
- متشاكين فالفعل مضمن معنىالتكذيب ولولاهتعدي بفي ولقد راودوه عن ضيفه صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعضللجميع لرضاهمبه فطمسنا أعينهم أيأزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه وهو كما قال أبو عبيدة وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاءوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقهم بجناحه فتركهم عميانايترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام (27/90)
وقال ابن عباس والضحاك : إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه
وقرأابن مقسم فطمسنا بتشديد الميمللتذكير في المفعول فذوقوا عذابي ونذر
37
- أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام فالقول في الحقيقة لهموأسند إليه تعالى مجازالأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول تمثيل والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه
ولقد صبحهم بكرة أول النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس وقرأ زيد بن علي بكرة غير مصروفة للعلمة والتأنيث على أن المراد بها أول النهار مخصوص
عذاب مستقر
38
-
يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار أو لا يدفع عنهم أو يبلغ غايته
فذوقواعذابي ونذر
39
-
حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديداللعذاب أو هو تمثيل
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر
40
-
تقدم ما فيه من الكلام
ولقد جاء آل فرعون النذر
41
-
صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الأعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للأتعاظ والأكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأننفسه أولى بذلك فإنهرأس الطغيان ومدى الألوهية والقول : بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه و النذر إن كان جمع نذير بمعنى الأنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهمالأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي بالله تعالى لقد جاءهم المنذرون أوالأنذارات أو الأنذار وقوله تعالى : كذبوا بآياتنا كلها استئناف مبني على سؤالمن حكاية مجيء النذر كأنه قيل : فماذاقيل آل فرعون حينئذ فقيل : كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهمعليهم السلام فإن تكذيب البعض للكل أو هي الآيات التسع وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه : بآياتنا من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها وزعم بعض غلاة الشيعة وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد بالآيات كلها علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى : وكل شيء أحصيناهفي إمام مبين وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسىعليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا وهذا من الهذيان بمكان نسأل الله تعالى العفو والعافية فأخذناهم أي آل فرعون وزعم بعضأن ضمير كذبوا وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى : النذر وليس بشيء والفاء للتفريع أي فأخذناهم وقهرناهم لأجل تكذيبهم (27/91)
أخذعزيز
لا يغالب مقتدر
42
-
لا يعجز شيء ونصب أخذالمصدرية لا على قصد التشبيه
أكفاركم خيرمن أولاءكم
أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفر العدد والعدة أوباعتبار لين الشكية في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيريةأقل عناداوأقرب طاعةوانقيادا وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيثقالوا : أكفاركم يا معشرالعرب خير الخ والأستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل : ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة أو بأن يكونوا ألينشكيمة في الكفر والعصيان (27/0)
والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشهها من زينة الدنيا أو أسوأحالامنهم في الكفر وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك وكذا قيل : في الخطاب في قوله تعالى : أم لكم براءة في الزبر وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل : بل الكفار كم براءة وأمن من تبعا ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب المساوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون واختار بعضهفي هذا أنه خاص بالكفار وقالوا في قوله تعالى : أم يقولون نحن جميع منتصر
44
- إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الألتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام أو منتصر من الأعداء لا يغلب أو متناصر ينصر بعضنا بعضا
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكةأو العرب وهو ظاهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا وطور سينائ ويوم الأحدولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم ويجوز أن يعتبر في أكفاركم ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو لهم فيها دار الخلد فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم وفي ذلك من المبالغة ما فيه ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول على أأنتم وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز و جل لهم : لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهمليكون ذلك سبباللأمن من حلول نحو عذابهم بكم أم أعطاكم الله عز و جل براءة من عذابه أنتم أعز نمنهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل فأسروا كلام الله تعالى لا تتناهى ثم لا تعجل بالأعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا ثم إن جميع على ما أشير إليه بمعنى التي أمرها مجتمع وليسمن التأكيد في شيء بل هو خبر نحن وجوز أن يكو بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو أمرنا والجملة خبر نحن وأن يكون هو الخبر والإسناد مجازي و منتصر على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال : نصره فانتصر إذا منعه فامتنع
والمرادبالأمتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون والأفتعال بمعنى التفاعل كالأختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمغ معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم أم تقولون بتاء الخطاب وقوله تعالى : سيهزم الجمع رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جميعهم البتة ويولون الدبر
45
- أي الأدبار وقد قريء كذلك والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن أو لأنه في تأويل يولي كل واحدمنهم دبره على حد كسانا الأمير حلة الرعاية المذكورة أيضاوقدكان هذا يوم بدر وهو دلائل النبوة لأن الآية مكية وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر (27/92)
رضي الله تعالى عنه : يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار ولم يتعرضلقتال أحد منهم وقد تقدم الخبر
ومما أشرنا إليه بعلم أن قول الطيبيفي هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في أم يقولون الخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشيء عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه وقرأأبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم ستهزم الجمع بفتح التاء وكسر الزاي خطابالرسولأالله صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية وقرأأبو حيوة أيضا ويعقوب سنهزم بالنون مفتوحة وكسرالزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة سيهزم الجمعبفتح الياء مبنياللفاعل ونصب الجمع أي سيهزم اللهتعالى الجمع وقرأ أبو حيوة وداود بن بن أبي عمرو وتولون بتاء الخطاب بل الساعة موعدهم أي ليس هذا تمام عقوبتهمبل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه والساعة أدهى أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدي إلى الخلاص عنه وأمر
46
- وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس وقيل : أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها إن المجرمين من الأولين والآخرين في ضلال في هلاك وسعر
47
- ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيرانفي الآخرة وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في خسران وجنون وقوله تعالى : يوميحسبون أي يجرون في النار على وجوههم متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا مس سقر
48
- وجوز أن يكون متعلقابمقدر سفهم مما قبل أي يعذبون أو يهانون أو نحوه وجملة القول عليه حال من ضمير يسحبون وجوز كونه متعلقا بذوقوا على أن الخطابللمكذبين في قوله تعالى : أكفاركم الخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساووهم في الدنيا وهو كما ترى والمراد بمس سقر ألمها علىأنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الأستعمال وفي الكشاف مس سقر كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسابذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو ينقضون عهد اله ويحتمل غير ذلك وسقر علم لجهنم أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذوالرمة يصف ثور الوحش : إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها بأفنان مربوع الصريحة معبل وعدمالصرف للعلمية والتأنيث وقرأعبد الله إلى النار وقرأمحبوب عن أبي عمرو من سقر بإدغام السين في السين وتعقب ذلك ابن مجاهدبأن إدغامه خطأ لأنه مشدد والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم إنا كل شيء من الأشياء خلقناه بقدر أي مقدرا مكتوبا في اللوحقبلوقوعه فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف وروي الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون (27/93)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وأخرج البخاريفي تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن عدي وابن مردويه عنابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : صنفانمن أمتي ليسلهما في الإسلام نصيب المرجئةوالقدرية أنزلت فيهم آية في كتاب الله إن المجرمين في ضلالوسعر إلى آخر الآيات وكانابن عباس يكره القدرية جدا وأخرج عبد بن حميد عن أبي يحيىالأعرج قال سمعتابن عباس وقد ذكر القدرية يقول : لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال : الزنابقدر والسرقة بقدر وشربالخمر بقدر
وأخرج عن مجاهد أنه قال : قلتلابن عباس : ما تقول فيمن يكذب بالقدر قال : أجمع بيني وبينه قلت : ما تصنعبه قال أخنقه حتى أقتله وقد جاء ذمهم في أحاديثكثيرة منها ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمران أن رسول الله ص - قال : لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولونلا قدر إ مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوافلا تشهدوهم وجوز كون المعنى إنا كل شي خلقناه مقدرأمحكما مستوفي فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين فالآية من باب وخلق كل شيء فقدره تقديرا ونصب كل بفعل يفسره ما بعدهأي إنا خلقنا كل شيء خلقناه وقرا أبو السمال قال : ابن عطية وقوممن أهل السنة برفع كل وهو على الأبتداء وجملة خلقناه هو الخبر و بقدر متعلق به كما في القراءة المتواترة فتدلالآية أيضاعلى أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة ة ويجعل الخبر بقدر لاختلافالقراءتين معنى حينئذ والأصل توافق القراآت وقال الرضي : لا يتفاوتالمعنى لأن مراده تعالىبكل شيء كل مخلوق سواء نصبت كل أو رفعته وسواء جعلت خلقناه صفة مع الرفع أو خبراعنه وذلك إنا خلقنا كل شيءبقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء علىكل منها وحينئذ نقول : إن معنى كلشيء خلقناه بقدر على أن خلقناه هو الخبر كل مخلوق مخلوق بقدر وعلى أن خلقناه صفة كل شيء مخلوق كائن بقدر والمعنيان واحدإذ لفظ كل في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خلقناه صفة له أو خبرا وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول : إذاجعلنا خلقناه صفة كلالمعنى كل مخلوق متصف بأنهمخلوقنا كائن بقدر وعلةهذا لا يمتنع نظراإلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك فلا تندرج تحت الحكم وأما إذاجعلناه خبراأو نصبا كل شيء فلا مجال لهذا الأحتمال نظراإلى نفس المعنى المفهوم منالكلام فقد اختلف المعنيان قطعاولا يجديه نفعامتصف بتلك الصفة في الواقع لأنه يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذيلا احتمال فيه وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكونالنصب نصافي المقصود اتفقت القرآت المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجحعلى الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه
وما أمرنا إلا واحدة أيما شأننا إلا فعلة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الأيجاد بلا معالجة ومشتقة أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى : كن فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور فإذا أراد عز و جل شيئاقال له : كن فيكون كلمحبالبصر
50
- أي في السير والسرعة وقيل : هذا في قيام الساعة فهوكقوله تعالى : وما أمر الساعةإلا كلمح البصر ولقد أهلكنا أشياعكم أي أشباهكم فيالكفر (27/94)
من الأمم السالفة وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالبمن جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه أوبطريق الأستعارة والحال قرينة على ذلك وقيل : هو باقعلى حقيقته أي أتباعكم فهل من مدكر متعظ بذلك وكل شيء فعلوه من الكفر والمعاصي والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد وجملة فعلوه صفة شيء والرابط ضمير النصب وقوله تعالى : في الزبر متعلق بكون خاص المبتدأأيكل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه وتفسير الزبر بالملوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء ولم يختلف القراء في رفع كل وليست الآية من باب الأشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الأسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى ههنا حينئذ فعلوا في الزبر كل شيء إن علقنا الجار بفعلوا أو هم لم يفعلوا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب أوفعلوا كل شيء مكتوب في الزبر إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا وكل صغير وكبير من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وقيل : منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة مستطر مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهومنالسطر بمعنى الكتب ويقال : سطرت واستطرت بمعنى وقرأالأعمش وعمران وعصمة عن أبيبكر عن عاصر مستطر بتشديد الراء قال صاحب اللوامع : يجوز أن يكون من طر النبات والشارب إذاظهر والمعنى كل صغير وكبير ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الأستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول جعفر ويفعل بالتشديد وقفا أي أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى : إن المجرمين الخيستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانهمالهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا : إن المتقين أي من الكفر والمعاصي وقيل : من الكفر
في جنات عظيمة الشأن ونهر أي أنهار كذلك والإفراد للأكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل وعن ابن عباس تفسيره بالسعة وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة كما في الدر المنثور أو قيس بن الخطيب كمافيالبحر يصف طعنة : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم مندونها ما وراءها أي أوسعت فتقها والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر وقيل : سعة الرزق والمعيشة وقيل : ما يعمهما وأخرج الحكيم والترمذيفي نوادرالأصول عن محمد بن كعب قال : ونهر أي في نور وضياء وهو على الأستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات وقرأالأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان ونهر بسكون الهاء وهو بمعنى نهر مفتوحها وقرأ الأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني ونهر بضم النون والهاء وهو جمع نهر المفتوح أو الساكن كأسد وأسد ورهن ورهن وقيل : جمع نهار والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل (27/95)
عندهم كماحكى فيما مر وقيل : قريء بضم النون وسكون الهاء في مقعد صدق في مكان مرضي علىأن الصدق مجاز مرسل في لازمهأو استعارة وقيل : المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله ص - أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام فالإضافة لأدنى ملابسة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز و جل لهم النظر إلى وجهه الكريم وإفراد المقعد ذعلى إرادة الجنس
وقرا عضمان البتي في مقاعد على الجمع وهو توضح أن المراد بالمقعد المقاعد عند مليك أي ملك عظيم الملك وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الأشباع مقتدر
55
- قادر عظيم القدرة والظرف في موضع الحال من الضميالمستقر في الجار والمجرور أو خبر بعد خبر أو صفة لمقعد صدق أو بدل منه والعندية للقرب الرتبي وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر مليكا ومقتدرا للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز و جل لا تدري الإفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عينرأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكل دونهالأذهان
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : إن المتقين الخ قال : إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأعليهم القرآن وقد جلس كل امريء منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب بالأعمال فلا تقرأعينهم قط كما تقر بذلك ولم يسمعوا شيئاأعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل ولهذين الأسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء مافيبعض الآثار
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحدغيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال : أيها الممتليئفرقالا تفرق ولا تفزع وقل اللهمإنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لكقال : فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول : اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن عليوانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين
سورة الرحمن عز و جل
وسميت في حديثأخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاعروس القرآن ورواه موسى ابن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه لأظهار كذلك وهي مكية في قول الجمهور وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عنابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة وحكى ذلك عن مقاتل وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا وحكى أيضاقولاآخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى : (27/96)
يسأله من في السماوات والأرض الآية وحكى الأستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعنيه وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي وسبع وسبعون في الحجازي وست وسبعون في البصري
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وامر ثم وصف عز و جل حال المجرمين في سقر وحال المتقين في جنات ونهر فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأبوصف مرارة الساعة والإشارة إلى شدتها ثم وصف النار وأهلها ولذا قال سبحانه : يعرف المجرمون بسيماهم ولم يقل الكافرون أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك : إن المجرمين ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم : ولمن خاف مقام ربه جنتان وذلك هو عين التقوى ولم يقل آمن أو أطاع أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها وقال أبو حيان في ذلك : أنهتعالى لما ذك هناك مقر المجرمين في سعر ومقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر وذكر سبحانه هنا شيئامن آيات الملك وآثاره القدرة ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان هناك على جهة الأختصار ولما أبرز قوله تعالى : عند مليك مقتدر بصورة التنكير فكأن سائلايسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين فقيل : الرحمن الخ والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنهتعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز و جل وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعي عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاضعلى كافة النام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم إثر كل فنمنها إخلالهم بمواجب شكرها وهذا التكرار أحلى من السكر إذا تكرر وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضي التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب واشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا : علىأن ليس عدلا من كليب إذاما ضيم جيران المجير علىأن ليس عدلامن كليب إذا رجف العضاه من الدبور على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة من الخدور على أن ليسعدلا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جاش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولو لا خوف الملل لأوردتها ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله وقسم في الأتفاق التكرار إلى أقسام وذكر أن منه ما هو لتعدد بأن يكون المكرر ثانيا متعلقابغير ما تعلق به الأول ثم قال : وهذأ القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان فإنهما وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة (27/97)
تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد الخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمنع وإن لزم منه التأكيد فافهم وبدأسبحانه من النعيم بتعليم القرآن فقال عز قائل : بسم الله الرحمن الرحيم الرحمن
1
- علم القرآن
2
- لأنه أعظم النعم شاناوأرفعها مكانا كيف لا وهو مداره للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنوا إليه أحداق المم إلا وهو منشؤه ومناطه ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه ونصبه على أنه مفعول ثان لعلم ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه أي علم الإنسان القرآن وهذا المفعول هو الذي كان فاعلاقبل نقل فعل الثاني إلى فعل المضعف وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال : علم لا بد له من مفعول ثان وترك للأشارة إلى ان النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص ويمكن أن يقال : أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذاالمفعول فلا جزم بسهوه وقيل : المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى القولين يتضمن ذلك الإشارة إلى أن القرآن كلام الله عز و جل والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام مكن الملائكة الكرام تردد بناءا على ما في الإتقان نقلاعنابنالصلاح من أن قراءة القرآن كرامةأكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة علىأن جبريل عليه السلام كان يقرأالقرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثنى منه جبريل عليه السلام وقيل : علم من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر أو علامة للنبوة ومعجزة وهذا على ما قيل : يناسب ما ذكر في مفتتح السورة الساقة من قوله تعالى : وانشق القمر وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة
وقد أبعد القائل ولوأبدى ألف مناسبة فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم والمراد بتعليم القرآن قيل : إفاده العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتد به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئافيه
أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعاإن الله لو أغفل شيئالأغفل الذرة والخردلة والبعوضة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن وقال ابن عباس : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثمر صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة ثم ورث عنهم التابعونلهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل الصحابة ما حمل الصحابة والتابعومن علومه وسائر فنونه وفسر بعضهم التعليم بتبنيه النفس لتصور المعاني وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن كقوله تعالى : ولقديسرنا القرآن للذكر وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى و الرحمن مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر وإسناد (27/98)
تعليمه إلى اسم الرحمن للإيذانبأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر وفيهمن تعظيم شأن القرآن ما فيه وقيل : الرحمن خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوفأي الله الرحمن أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز و جل وهو خلاف الظاهر ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقالتعالى : خلق الإنسان
3
- لأن أصل النعم عليه وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها وقيل : لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإنكان الأمر بالعكس خارجا والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة ثم أتبع عز و جل ذلك بنعمة تعليم البيان فقال سبحانه : علمه البيان
4
- لأن البيان هو الذي بهيتمكن عادة من تعلم القرآن المراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير
والمراد بتعليمه نحو ما مر وفي الإرشاد أن قوله تعالى : خلق الإنسان تعيين للمتعلم وقوله سبحانه : علمه البيان تبيين لكيفية التعليم والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه ومن فهم بيان غيرهإذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن وقيل : بناءا على تنقدير المفعولالمحذوف الملائكة المقربين إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعافهم قدعلموه قبل خلق الإنسان وربما ثيرمز إليه قوله تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث أنه تعالى ذكر أموراعلوية وأموراسفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا وقال الضحاك : البيان الخير والشر وقال ابن جريج : سبيل الهدى وسبيل الضلالة وقال يمان : الكتابة والكل كما ترى وجوز أن يراد به القرآنوقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه : هذا بيان وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة : الإنسان آدم و البيان علم الدنيا والآخرة وقيل : البيان أسماء الأشياء كلها وقيل : التكلم بلغات كثيرة وقيل : الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ونسبهذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه
وقالابن كسيان : الإنسان محمد ص - وعليه قيل : المراد بالبيان بيان المنزل والكشف عن المراد به كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة و السلام ويليقبه المعاني السابقة ولعل ابن كسيان يقدر مفعولأعلم الإنسان مرادابه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا وهذه أقوال بين يديك المتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأكجملة علم القرآن وكذا قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان
5
- والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى الشمس والقمر كائن أومستقر بحسبان أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران أن بمعنى الحساب كما قال قتادة وغيره أي هما يجريان بحسبان مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب وقال الضحاك وأبو عبيدة : هو جمع حساب كشهبان وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما وقال مجاهد : الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة وعليه فالباء للظرفية والجار والمجرور في موضع (27/99)
الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم والمراد كل من الشمس والقمر في فلك والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا وأن القمر يجري على الرض والأرض تجري على الشمس وقد سمعنا أنهم عدلوا منذر أعوام عن ذلك غزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدامثل حالهم بالأمس ونحن مع الظواهر حتىيقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع ومثل هذه الجملة قوله تعالى : والنجم والشجر يسجدان فإن المعطوف على الخبر خبر والمراد بالنجم النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له وبالشجر النبات الذي له ساق وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا شبه جريهما على مقتضى طبيعتهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه لهثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية وقال مجاهد وقتادة والحسن النجم نجم السماء وسجوده الغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستداره عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهدأن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يرد سبحانه بهما طبعا والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولاقبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه وإن كان تقدم الشمس والقمر يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلامما تضمنتهمستقلة تقتضي الشكر وقصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة
وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان ومن حيث أن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الإنقياد لأمر الله عز و جل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الأرتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشمس والقمر بتسخيره غيره تعالى ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له كذا قالوه وفي الكشف : تبيينالما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال : زيد أعناك بعدفقر أعزك بعد ذلك كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك فيشيء ولما قضى الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور
وجملة الشمس والقمر بحسبان ليست من أخبار المبتدأ والزمخشري إنما سألعن وجه الربط وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذيعد عليه أصول النعم ليثيب على ما طلب منه من الشكر وهذا كما تقول في المثال الشابق بعد قولك : فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكه ولم يخرجأحدمنحياطة عدله ونصفته فلا يشك ذو أرب أنها جمل (27/100)
منقطعة عنالأولى إعرابا متصلة بها اتصالامعنوياأورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لآخر وقريب من هذا الأتصال اتصال قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم الآية بقوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب الآية انتهى
وقد أبعدالمغزي فيما أرى إلآ أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كون قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان من الأخبار فتأمل والسماء رفعها أي خلقها مرفوعة ابتداءا لا أنها كانت مخفوضة ورفعها والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي ويجوز أن يكونالمراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عدن من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز و جل وقراأبو السمال والسماء بالرفع على الأبتداء ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه إسمية معطوفة على مثلها وإنما الإشكال في النصب لأنهبفعل مضمر على شريطة التفسير أييرفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة النجم والشجر يسجدان الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوف والمعطوف عليها بالإسمية والفعلية وهو خلاف الأولى وإن عطفت على جملة يسجدان الصغرى لزم أن تكون خبرا للنجم والشجر مثلها وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى الشمس والقمر بحسبان وأجاب أبو علي باختيار الثاني وقال : لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء وتلاقولهممتقلدا سيفاورمحا وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذاتضمن نكتة قال الطيبي : الظاهر أن يعطف على جملة الشمس والقمر بحسبان ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر وأسجدالنجم والشجر فعدل إلى معنى دوام التسخير والأنقياد فيالجملتين الأوليين ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل فيكتب النحو ووضع الميزان
7
- أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه ووفى في كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة و السلام : بالعدل قامت السماوات والأرض أي بقيتاأبلغ نظام وأتقن إحكام وقال بعضهم : المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لو لا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا وأما الملأالأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل فذكرهم للمبالغة والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض جميعه ولا شلك أنه لو لا العدل لم يكن العالم منتظما ومنشأما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل فيالحكم لفصل الخصومات ونحوه وليسكما ظن بل المراد به عدل الله عز و جل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المرادبه ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال ونحوهما والمعنى خلقه موضوعامخفوضاعلى الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق وقيل : هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى اذهانهم من لفظ الميزان سواه وقيل : المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام (27/101)
ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشد ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل وقد قرأعبد الله وخفض الميزان والأول بانه أتم فائدةفزن ذلك بميزان ذهنك ألا تطغوا في الميزان أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن أن ناصبة و لا نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى : وضع الميزان وجوز ابن عطية والزمخشري كون أن تفسيرية و لا ناهية
واعترضه أبو حيانبأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل أن مفسرة وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهمالسلام وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه وفيه ما لا يخفى وفي البحر قرأ إبراهيم ووضع الميزان بإسكان الضاد وخفض الميزان على أن وضع مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل وضع مرفوع أو منصوب فإن كان مرفوعافالظاهر أنه مبتدأ وأن لا تطغوا بتقدير الجار في موضع الخبر وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل وضع الميزان أو وضع الميزان أن لا تطغوا الخ وقرأعبد الله لا تطغوا بغير أن على إرادة القول أي قائلا أو نحوه لا قل كما قيل و لا ناهية بدليل الجزم
وأقيموا الوزن بالقسط قوموا وزنكم بالعدل وقال الراغب : هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال وعن مجاهدأن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذوالإعطاء وقال سفيان بن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب والظاهر أن الجملة عطف علىالجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب وجعل بعضهم لا في الأولى مطلقاناهية حرصاعلى التوافق ولا تخسروا الميزان
9
- أي لا تنقصوه فإن منحقه أن يسوي لأنهالمقصود من وضعه وكرر لفظ الميزان بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك وقريء ولاتخسروا بفتح التاء وضم السين وقرأزيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين
وحكى ابن جني وصاحب اللوامح عن بلاب أنه قرأبفتحهما وخرج ذلك الزمخشري على أن الأصل ولا تخسروا في الميزان فحذف الجار وأصل الفعل بناءاعلى أنه لم يجيء إلالازما وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعدياكقوله تعالى : خسروا أنفسهم وخسر الدنيا والآخرة فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذفالمفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسرين يوم القيامة بسبب الميزان بان لا تراعوا ما ينبغي فيه والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال : إن قوله تعالى : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة فيالوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه : من خفف موازينه وكلا المعنيين متلازمان وقيل : المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان أو جعل الميزان مجازاعن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل والأرض وضعها خلقها موضوعة مخفوضة عن السماءحسبما يشاهد وقال الراغب : الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر وقيل : أي خفضها مدحوة على الماء (27/102)
والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها تخلق مدحوة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز و جل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه منزبده للأنام
10
- قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والشعبي ومجاهدعلى ما في مجمع البحرين : الحيوان كله وقال الحسن : الأنس والجن
وفي رواية أخرى عن ابنعباس هم بنو آدم فقط ولمأر هذا التخصيص لعيره رضي الله تعالى عنه ففي القاموس الأنام الخلقأو الجن والأنس أو جميع ما على وجه الأرض ويحتمل أنه أراد أن المرادبههنا ذلك بناءاعلى أن اللام للأنتفاع وأنه محمول على الأنتفاع التام وهو للنس أتم منه لغيرهم والأولى عندي ما حكى عنه أولا وقرأأبو السمال والأرض بالرفع وقوله تعالى : فيها فاكهة الخ استئنافمسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كونه الأرض موضوعة لنفع الأنام وقيل : حال مقدرة من الأرض أو من ضميرها فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور و فاكهة رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به والنخل ذات الأكمام
11
- هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع كم بكسر الكاف وقد تضم وهذافي كم الثمر وأما كم القميص فهو بالضم لا غير أو كل ما يكم ويطغى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا واختارهمناخت ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف والحب هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ذو العصف قيل : هو ورق الزرع وقيده بعضهم باليابس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب وعن السدي والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ماينبت وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا واختار جمع ما روي عنه أولاوفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف والريحان
12
- هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد وأخرج عن الحسن أنه قال : هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس : كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر وعليه قول بعض ألأعراب وقد قيل له : إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز و جل ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو والريحان بالجر عطفاعلى العصف إذ يبعدعليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل : والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم وذو اللب الذي هو رزق لكم وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفاعلى فاطهة كما في قراءة الرفع والجر للمجاورة وهو كما ترى والزمخشري بعد أن فسر الأكمام بما ذكرناه ثانيا فيها والريحان باللب قال : أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التغذي والتلذذ وهو ثمر النخل ومايتغذى به وهو الحب وهوعلى ما في الكشف بيان لإظهار وجه الأمتنان أنه مستوعب لأقسام ما يتناول فيحال الرفاهية لأنه إماللتلذذ الخالص وهو الفاكهة أوله وللتغذي أيضا (27/103)
وهو ثمر النخل أو للتغذي وحده وهو الحب ولما كان الأخيران أدخلأ في الأمتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا وأنت تعلم إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كماقيل به في قوله تعالى : فيها فاكهة ونخل ورمان وإذاكان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفري فالعطف ليس على ذلك وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير الأكام بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا ثم قال : ولا ينافي جعله منه في قوله تعالآ : فيها فاكهة الخنظراإلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والحب ذا العصف والريحان بنصب الجمع وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب الخ وقيل : يجوز تقدير أخص وفيه دغدغة وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف والأصل وذو أو وذاالريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه و الريحان فيعلان من الروح فأصله ريوحان قبلت الواو ياءالاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياءفصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل : ريحان كما قيل : ميت وهيبسكون الياء
وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياءاللتخفيف وللفرق بينه وبين الروحان بمعنى ماله روح فبأي ءالآء ربكما تكذبان
13
- الخطاب للثقلينلأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه أو لأن الأنام عبارة عنهما علىما روي عن الحسن وسينطق بهما في قوله تعالى : سنفرغ لكم أيهالثقلان وفي الأخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ما يؤيده وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم وأبعد أكثر منه من قال : إنه خطاب على حد ألقيا في جهنم ويا شرطي أضربا عنقه يعني أنه خطاب للواحدبصورة الأثنين والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعمان وصنوف الآلاء الموجبة للأيمان والشكر حتما والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونهمنه عز و جل مع عدم الأعتراف بكونه نعمة فينفسه كتعليم القرآنوما يستند إليه من النعم الدينية وإما إنكار كونه منه تعالآمع الأعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا صريحا أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها والتعبير على كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشمر شهادة منها بذلك فكفربها فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد نعم ما لككما ومربيكما بتلك النعم تكذبان مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد فقد أخرج البزاز وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الأفراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأسورة الرحمن على أصحابه فسكتوا فقال : مالي أسمع الجن أمحسن جوابامنكم ما أتيت على قول الله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا : لا بشيء من نعمتك ربنا نكذب فلك الحمد
وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر عن عبد الله نحوه وقريء فبأي بالتنوين في جمع السورة (27/104)
كان حذف منهالمضاف وأبدل منه آلاء ربكما بدل معرفة من نكرة
خلق الإنسان من صلصالكالفخار
14
- تمهيدللتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين والمرادبالإنس آدم عند الجمهور وقيل : الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة وأصله كما قال الراغب تردد الصوت من الشيء اليابس ومنه قيل : صلالمسمار وقيل : هو المنتن من الطين من قولهم : صل اللحم وكأن أصله صلال فقلبت إحدىاللامين صادا ويبعدذلك قولهسبحانه : كالفخار وهو الخذفأعني ماأحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناثم حما مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدهما وبين ما نطق بأحدالآخرين وخلق الجان هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن وقال مجاهد : هو أبو الجن وليس بإبليس وقيل : هو اسم جنس شامل للجن كلهم من مارج من لهب لا دخان فيه كما هو رواية عن ابن عباس وقيل : هو اللهب المختلط بسواد النار أو بخضرة وصفرة وحمرة كما روي عن مجاهد من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط و من لابتداء الغاية وقوله تعالى : من نار
15
- بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل : خلق من نار خالصة أو مختلطة على التفسيرين وجوز جعل من فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالتسبة إلى الإنسان وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة (27/105)
فبأي آلاء ربكما تكذبان
16
-
مماأفاضعليكما فيتضاعيف خلقكما منسوابغ النعم
رب المشرقين ورب المغربين
17
-
خبر مبتدأ محذوف أي هو رب الخ أو الذي فعل ما ذكرمن الأفاعيا البديعة رب مشرقي الشمس صيفاوشتاءاومغربيها كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة أن المشرقين مشرقا الشتاء ومشرق الصيف و المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكالشمس وقيل : المشرقان مشرقا الشمس والقمر والمغربان مغرباهما
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشرقين مشرق الفجر ومشرق الشفق و المغربين مغرب الشمس ومغرف الشفق وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلعالشمس والمعولأماعليه الأكثرون من مشرقيالشتاء ومغربيهما ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات وقيل : رب مبتدأوالخبر قوله تعالى : مرج الخ وليس بذاك
وقرأأبو حيوة وابن أبي عبلة رب بالجر على أنه بدل من ربكما فبأي آلاء ربكما تكذبان
18
- ممأ في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته
مرج البحرين أيأرسلهما وأجراهما من مرجت الدابة في المرعى أرسلتها فيه والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب يلتقيان
19
- أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين وقيل : أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه وروي هذا عن قتادة لكنه (27/0)
أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى : مرج البحرين هذاعذب فرات وهذاملحأجاج والقرآن يفسر بعضه بعضا وعليه قيل : جملة يلتقيان حال مقدرة إن كان المراد إرسالهما إلى المحيط أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه بينهما برزخ أي حاجز من قردة الله تعالى أو من أجرام الأرض كما قال قتادة لا يبغيان
20
- أي لا يبغي أحدهما على ىلآخر بالممازجة وإبطالالخاصية بالكلية بناءا على الوجه الأول فيما سبق أو لا يتجاوزان أن حديهما بإغراض ما بينهما بناءا على الوجه الثاني وروي هذا عن قتادةأيضا وفي معناه ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن لا يبغيان عليكم فيغرقانكم وقيل : المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها فبأي ىلآء ربكما تكذبان
21
- مما لكما ذلك من المنافع يخرج منهما اللؤلؤ صغار الدر والمرجان
22
- كباره كما أخرج ذلكعبد بن حميد وابن جرير عن علي كرم الله تعالة وجهه ومجاهد وأخرجه عبد عن الربيع وجماعةمنهم المذكورون وابن المنذر وابن أبيحاتم من طرق عن ابن عباس وأخرج ابن جريرعنه أنه قال : اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار
وأخرج هو وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والأبتداء عن مجاهد وأظنأنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفيالمرجان معنىالمرج والأختلاطفالأوفقلذلك ما قيل : ثانيا فيهما وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبريعن ابن مسعود أنه قال : المرجان الخرزالأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف و اللؤلؤ عليهشاملللكباروالصغار ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل : لا يحفظ منه فيكلامالعرب أكثرمنخمسةهو والجؤجؤ الصدروقرية بالبحرين والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين أو ثمان وتسع وعشرين أوثلاث ليال من آخره والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل والسيد الظريف ورأسالمكحلة وإنسان العين ووسطالشيء واليؤيؤآخر لحروف طائر كالباشق ورأيتفي كتباللغة على هذا البناء غيرها الشؤضؤ الأضل للطائر والنؤنؤ بالنون المكثرتقليبالحدقة والعاجز الجبان ومن ذلك شؤشؤ دعاءالحمار إلىالماء وزجر الغنموالحمار للمضي أو هو دعاء للغنم لتأكل أو تشرب وأما المرجان فقد ذكره صاحب القاموس في مادة مرج ولم يذكر مايفهم منه أنه معرب وقال أبو حيان في البحر : هو اسم أعجمي معرب وقال ابن دريد : لم أسمع فيه بفعل متصرف
وقرأ طلحة اللؤليء بكسراللامالأخير وقريءبقلب الهمزة المتطرفة ياءا ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة وقرأ نافع وأبو عمرو يخرج مبنياللمفعول من الإخراج وقريء يخرج مبنيا للفاعلمنه ونصب اللؤلؤ والمرجان أي يخرج الله تعالى واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذبوالملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج اللؤلؤوالمرجان من أحدهما وهو الملح فكيف قال سبحانه : منهما وأجيببأنهما لما التقياوصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال : يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره وقد ينسب إلى الأثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعوما صدر من واحد منهم ومثله ما في الأنتصاف على رجل من القريتين عظييم وعلى ما نقل عن الزجاج (27/106)
سبع سماوات طباقاوجعل القمر فيهن نورا وقيل : إنهما لا يخرجان إلامن ملتقى العذب والملح ويرده لمشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولاآخر بل ذكره لتقوية الأتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى
وقال أبو عليالفارسي : هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل وجعل من القريتين من ذلك وهو عندي معنى لا تقدير إعراب وقالأ الرماني : العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى أي بواسطتهما وقالابن عباس وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواههافتتكون منه ولذا تقل في الجدب وجعل عليهضمير منهما للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناءاعلى ما أخرجه ابن جرير عنه أنالمراد بالبحرين بحرالسماء وبحر الأرض
وأخرج هو وابن المنذر عنابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناءا على تفسيره بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا : إنه يتكون فينيسان وقال بعض الأئمة : ظاهر كلام الله تعالى أولى بالأعتبار من كلام الناس ومن علم أن اللؤلؤلا يخرج من الماء العذبوهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح ولكن لم قلتم أن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى منالماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوخمةبها في أوائل حملها حتى خرج لم يمكنه العود وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذينقطعوا المفاوز وداروا فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم والله تعالى أعلم ومن غريب التفسير ما أخرجه ابن مردويهعن ابن عباس قال : مرج البحرين يلتقيان علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما بينهما برزخلا يبغيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين رضعنهما
وأخرج عن إياس بن مالك نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ وذكر الطبرسي منالمامية في تفسيره مجمع البيان الأول بعينه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري والذي أراه أن هذا إن صح ليسمن التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير منالآيات وكل من علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علماوفضلا وكذا من الحسين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتبجاوزت حد الحسبان فبأي الآء ربكما تكذبان
23
- مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الطباء أن اللؤلؤ يمنع الخفقان والبحر وضعف الكبد والكلي والحصى وحرقة البول والسدد واليرقان وأمراض القلب والسموم والوسواس والجنون والتوحش والربوشربا والجذام والرص والبهق والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك وأن المرجان أعني البسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا ونفثالدم والطحال شربا والدمعة والبياض والسلاق والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور ذفي كتبهم ولهالجوار السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السماوات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم لا يخرجها من ملكه عز و جل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منهD وقرأعبد الله والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو الجوار (27/107)
بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله : لهاثنايا أربع حسان وأربع فكلها ثمان المنشآت أي المرفوعات الشرع كما قال مجاهد من أنشأه بمعنى رفعه وقيل : المرفوعات على الماء ولبس بذاك وكذا ما قيل المصنوعات وقرأالأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه المنشآت بكسر الشين أي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن أو اللاتي ينشئن السير إقبالاوإدبارا وفي الكل مجاز وشدد الشين ابن أبي عبلة وقرأالحسن المنشآت وحدالصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى : أزواج مطهرة وقلب الهمزة ألفاعلى حد قوله
إن السباغ لتهداء في مرابضها
يريد لتهدأوالتاء لتأنيث الصفة كتبت تاءاعلىلفظها في الصل في البحر كالأعلام
24
- كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل فبأي ءالآء ربكما تكذبان
25
- من خلق مواد السفن والإرشاد إلىأخذهاوكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى كل منعليها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات و من للتغليب أو للثقلين فإن
26
- هالك ويبقى وجه ربك أي ذاته عز و جل والمراد هو سبحانه وتعالى فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس وهو مجاز شائع وقيل : أصله الجهة واستعماله في الذاتمن باب الكنايةوتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ
والظاهر أن الخطاب في ربك للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة و السلام وقيل : هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته وفي الآية عند المؤولين كلام كثير مكنه ما سمعت ومنه ما قيل : الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود أي ويبقى ما يقصدبه ربك عز و جل من الأعمال وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه وأقرب منه ما قيل : وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز و جل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنهبالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كل من عليها وقيل : وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها علآ الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حد ذاته فإنه فإن في كل وقت وقيل : المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى والإضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حد ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غيرمرتبط بعلته أعني الوجود الحق كان معدومالأن ظهوره إنما نشأمن العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا وقول العلامة البيضاوي : لو استقرت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف فمنهم من يجعل قوله : لو استقريت الخ تتمة لتفسيره الأول (27/108)
ومنهم من يجعل وجهاآخر وهو على الأول أخذ بالحاصل وعلى الثاني قيل : يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافاحقيقياب يكون الوجود زائداعليها قائمابها وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود بها قائمابها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء وإليه ذهب المتأهلون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتأهلين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حصرةالوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى والطرقإلى الله تعالى بعدد انفاس الخلائق فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضهلشيء ولا قيامهبه ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلي وينجلي فيه نوره فالله نور السماوات والأرض والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لهاصفات متكثرة وشؤنات متعددة وتجلياتمتجددة قل الله ثم ذرهم والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين
ووجه التطبيق على الول أن يقال : المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن وإن كان موجوداحقيقة عند الجمهور لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات وجهة الأستفادة ليست هي الذات ولا شيئاآخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلومية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحلعن الوجوب الذاتي المنافية له وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتيجهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوباوإن كان بالغير ولذا يعقبه فيضان الوجود ولذا تسمعهم يقولون : الممكن ما لم يجب لم يوجد
ووجه التطبيقعلى الثاني أن يقال : الوجه الذي يلي جهته تعالى هوتلكالنسبة المخصوصةالمصححة لإطلاق لفظالموجود عليها ولو مجازا فالمعنى كل من عليها فان معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازاإلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهراله سبحانه ووجه التطبيق على الثالث أن يقالأ : المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شئونات واعتبارات له تعالى فالمعنى كل منعليها معدوم من جميع الوجوه والأعتبارات إلا من الوجه الذي جهته سبحانه والأعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز و جل وهو كونه شأنامنشئونه واعتبارامن اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينأبالله عز و جل
ذو الجلال والإكرام
27
- أي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنهتعالى شأنه فهذا راجع إلى مآله سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز و جل أو الذي يقالأفي شأنه : ما أجلك وما أكرمك أي هو شبحانه من يستحق أن يقالأفي شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ماله تعالى منالكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه أو من عندهالجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم وفسر بعض المحققين الجلال بالأستغناء المطلق والإكرام بالفضل التام وهذا ظاهر ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها ثم ألحق بالحقيقة ولذا قال الجوهري : عظمة الشيء الأستغناء عن غيره وكل محتاج حقير وقال الكرماني : (27/109)
إنه تعالى لهصفات عدمية مثل لا شريك له وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجل عن كذا جل عنكذا وصفات وجودية كالحياة والعلم وتسمى صفات الإكرام وفيه تأمل
والظاهر أن ذو صفة للوجه ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء من عليها لا يخل بشأنه عز و جل لأنه الغني المطلق والإشارة إلى أنه تعالىبعد فنائهم يفيضعلى الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة ووصف الوجه بما وصف يبعدكونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفاوكأنمن يقول بذلك يقول : ذو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له ثم قطعت عن التبعية ويؤيده قراءة أبي وعبد الله ذيالجلال بالياء على أنه صفة تابعة للرب وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز و جل ولم يستعمل في غيره فهو من أجل أوصافه سبحانه ويشهد له ما رواهالترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا ألظوا بيان الجلال والإكرام أي ألزموه وأثبتوا عليهوأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم وروي الترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لأصحابه أتدرون بما دعا قالوا : الله ورسوله أعلم قال : والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظمالذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى
فبأي آلاء ربكماتكذبان
28
- مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء والحياة الأبدية والإثابية بالنعمة السرمدية وقال الطيبي : المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجل النعم ولذلك خص الجلال والإكرام بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب والتحذير من مثل ذلك نعمة فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى : فبأي آلاء الخ وليس بذاك يسئله منفي السماوات والأرض قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثاوبقاءاوفي سائر أحوالهم سؤالامستمرابلسان المقال أو بلسانالحال فإنهمكافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا في كل آن سائلون
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنأبي صالح يسأله من في السماوات الرحمة ومن في الأرض المغفرة والرزق وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج يسأله الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة ز وأهل الأرض يسألونهما جميعاوما تقدم أولى ولا دليل على التخصيص
والظاهر أن الجملة استئناف وقيل : هي حال من الوجه والعامل فيها يبقى أي هو سبحانه دائم في هذه الحال ولا يخفى حاله على ذي تمييز كل يوم كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات
هو في شأن
29
- من الشؤن التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشيء أشخاصا وينفي آخرين ويأتي بأحوال ويذهببأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز و جل المبنية على الحكم البالغة وأخرج البخاري فيتاريخه وابن ماجه وابنحبان وجماعة عن أبيالدرداء عن النبي صأنه قال في هذه الآية : من شأنه (27/110)
أن يغفر ذنباويفرج كرباويرفعقوماوي آخرين زاد البزاز ويجيب داعيا وقيل : إن الله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر عسكر من الأصلاب إلى الأرحام وعسكر من الأرحام إلى الدنيا وعسكر من الدنيا إلى القبور والظاهر أن المرادبيان كثرة شئونه تعالى في ادلنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا
وقال ابن عيينة : الدهرعند الله تعالى يومان أحدهمااليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء وثانيهما اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا : إن الله تعالىلا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز و جل بذلك وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جفبما هو كائن إلآيوم القيامة فقال : شئون بيديها لا شئونيبتديها وانتصب كل يوم على الظرف والعامل فيه هو العامل في قوله تعالى : في شأن و هو ثابت المحذوف : فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم فبأي آلاء ربكما تكذبان
30
- مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينافحينا سنفرغ لكم الفراغ فياللغة يقتضي سابقة شغل
وقرأللشيء يقتضي لا حقيقته أيضا والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن فجعل انتهاءالشؤن المشار إليها بقوله تعالى : كل يوم هوفي شأن يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغالهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال : فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء وأخذهتعالى في جزائهم فحسب بحال من فرغله وجازت الأستعارة التصريحية التبعية في سنفرغ بأن يكون المراد سنأخذفي جزائكم فقط الأشتراك الأخذفي الجزاء فقط والفراغ عن جميع المهام إلى واحد فيأن المعنى به ذلكالواحد وقيل : المراد التوفر في الأنتقام والنكاية وذلك أن الفراغللشيء يستعمل في التهديد كثيراكأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبقله شغل غيره فيدل على التوتر المذكور وهو كناية فيمن يصح عليه ومجاز في غيره كالذي نحن فيه ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما كماأخرج ابن جرير عنهما هذأ وعيدمن الله تعالىلعباده ما ذكر والخطاب عليه قيل : للمجرمين وتعقب بأن النداء الآتي يأباه نعم المقصود بالتهديد هم وقيل : لا مانع من تهديد الجميع ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يومالقيامة وقول ابن عطية : يحتمل أن يكون ذلك توعدابعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه وقيل : إن فرغ يكوبمعنى قصد واستدلعليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير : ألآن وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كتنتلهم عذابا أي قصدت وأنشد النحاس
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث لأتفرغن لك الحديث قاله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبابه أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك ونقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقاتنجيزيا يجزائهم وقرأحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي بياء الغيبة وقرأقتادة والأعرج سنفرغ بنون العظمة وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها وهو لغةتميم كما أن سنفرغ في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز وقرأأبو السمال وعيسى سنفرغ بكسر النون وفتح الراء وهي على ما قال أبو حاتم لغة سفلى مضر وقرأالأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما وابن أبي عبلة والزعفراني (27/111)
سيفرغ بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ عيسىأيضا سنفرغ بفتح النون وكسر الراء والأعرج أيضا سيفرغ بفتح الياء والراء وهي لغة وقريء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده وقرأأبي سنفرغ إليكم عداه بإلى فقيل : للحمل على القصد أو لتضمينه معناه أي سنفرغ قاصدين إليكم أيه الثقلان
31
- هما الأنس والجن من ثقل الدابة وهوما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والأنس والجن ثقلاها وما سواهما على هذا كالعلاوة وقال غير واحد : سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شانهما ويقالألكم عظيم القدر مما يتنافس فيه : ثقل ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وقيل : سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف وعن الحسن لثقلهما بالذنوب فبأي آلاء ربكما تكذبان
32
- التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب يا معشر الجن والإنس هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبيء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنهلما ذكر سبحانهأنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز و جل ذلك ببيان أنهم لا يقدرونعلى الخلاص من جزائهوعقابه إذا أراده فقالأ سبحانه : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم إن قدرتم وأصل الستطاعة طلب طواعيةالفعل وتأتيه
أن تنفذوا من أقطار السكاوات والأرض أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله تعالى فارينمن قضائه سبحانه فانفذوا فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابهD والأمر للتعجيز لا تنفذون لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان
33
- أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل روي أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به وقيل هذا أمر يكون في الدنيا قالأ الضحاك : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب بالجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة وقيل : المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا وقيل : المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السماوات والأرض فانفذوا لتعلموا لكن لا تنفذون ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم وروي ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى
وقرأزيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فبأي آلاء ربكما تكذبان
34
- أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة وقيل : على الوجه الأخير فيما تقدم أيمما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلا يرسل عليكما استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما شواظ هو اللهب الخالص كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه أبو حيان قول حسان : هجوتك فاختضعت لنا بذل بقافية تأجج كالشواظ (27/112)
وقيل : اللهب المختلط بالدخان وقالمجاهد : اللهبالأحمر المنقطع وقيل : اللهب الأخضر وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب وقيل : هو الناروالدخان جميعا وقرأعيسى وابن كثير وشبل شواظ بكسر الشين من نار متعلق بيرسل أو بمضمر هو صفة لشواظ و من ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم ونحاس هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشدله قول الأعشى أو النابغة الجعدي : تضيء كضوءالسراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا وروي عنه أيضا وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤسكما صفر مذاب والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال : وذلك لشبهه في اللونبالنحاس وقرأابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو ونحاس بالجر على أنهعطف على نار وقيل : على شواظ وجرللجوار فلا تغفل
وقرأالكلبي وطلحة ومجاهد بالجر أيضالكنهم كسروا والنون وهو لغة فيه وقرأابن جبير ونحس كما تقول يوم نحس وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا ونحس مضارعا وماضيه حسه أي قتله أيونقتل بالعذاب وعن ابن أبي إسحاق أيضا ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير وحنظلة ابن عثمان ونحس بفتح النون وكسر السين والحسن وإسماعيل ونحس بضمتين والكسر وهو جمع نحاس كلحاف ولحف وقرأزيد بن علي نرسل بالنون شواظا بالنصب ونحاسا كذلك عطفاعلى شواظا فلا تنتصران
35
- فلا تمتنعان وهذا عندالضحاك في الدنيا أيضا
أخرجابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية : تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا وقال في البحر : المرادتعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليههذا فلا يقدر على الأمتناع مما يرسل عليه فبأي آلاء ربكما تكذبان
36
- فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والأنتقام من الكفار من عداد الآلاء فإذا انشقت السماء أي انصدعت يوم القيامة وحديث امتناع الخرق وحديث خرافة ومثلهما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الأنشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور فكانت وردة أيكالوردة فيالحمرة والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج وقتادة وقالأابن عباس وأبو صالح : كانت مثل لون الفرس الورد والظاهر أن مرادهماكانت حمراء
وقالأ الفراء : أريد لون الفرس الورد يكونفي الربيع إلى الصفرة وفي الشتاء إلى الحمرة وفي اشتداد البرد إلى الغبرة فشبه تلونالسماء بتلون الورد من الخيل وروي هذا عن الكلبي أيضا وقال أبو الجوزاء : وردة صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة ونصب وردة على أنه خبر كان وفي الكلام تشبيه بليغ وقرأعبيد بن عمير وردة بالرفع على أن كان تامة فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة : فلئن بقيت لأرحلن بغزوة نحو المغانم أو يموت كريم حيث عني بالكريم نفسه وقوله تعالى : كالدهان
37
- خبرثان لكانت أو نعت لوردة أو حال (27/113)
من اسم كانت على ما رأى من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى : كالمهل وهو درديالزيت وهو ما جمع دهن كقراط وقراط أو اسملما يده به كالحزام والأدام وعليهقوله في وصف عينينكثيرتي التذارف : كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تدهنا بدهان وهو الدهن أيضاإلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على ما قيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة وقيل اللمعان وقيل الحسن أي كالدهان المختلطة لأنها تتلون ألواناوقالأ ابن عباس : الدهان الأديم الأحمر ومنه قول الأعشى : وأجرد من كرامالخيل طرف كأن على شواكله دهانا وهو مفرد أو جمع واستدل للثاني بقوله : تبعن الدهان الحمر كل عشية بموسم بدر أو بسوقعكاظ وإذاشرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان أو وجدت أمراهائلا أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا كان مفرعاومسبباعما قبله في إرسال الشواظ ما هو سببلحدوث أمر هائل أو رؤيته في ذلك الوقت فبأي آلاء ربكما تكذبان
38
- فإن الأخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أي لطف ونعمة أي نعمة فيومئذ أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر
لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان
39
- لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين في موقف آخر قاله عكرمة وقتادة وموقف السؤالأعلى ما قيل : عند الحساب وترك السؤال عند الخروج من القبور وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقدير وحيث نفي فهو استخبار محض عن الذنب وقيل : المنفي هو السؤال عن اذلنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه وأنت تعلم أن الآيات ما يدل على السؤالعن نفس الذنب
وحكى الطبرسي عنالرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى وضمير ذنبهللإنس وهو متقدم رتبةلأنه نائب عن الفاعل وإفراده باعتبار اللفظ وقيل : لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل : لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جني وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد ولا جأن بالهمز فرارامن التقاء الساكنين وإن كان على حده فبأي آلاء ربكما تكذبان
40
- يقال فيه نحو ما سمعت في سابقه يعرف المجرمون بسيماهم استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال و المجرمون قيل : من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهم المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى : لا يسأل عن ذنوبهم الجرمون و سيماهمعلى ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون وقيل : ما يعلوهم من الكآبة والحزن وجوز أن تكون أموراأخر الكعمى والبكم والصمم
وقرأحماد بن سليمان بسيمائهم فيؤخذبالنواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس والأقدام
41
- جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة والجار والمجرور نائب الفاعل (27/114)
وقالأأبو حيان : إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدي بها أي فيسحب بالنواصي الخ وفيه بحث وظاهر كلام غير واحد أن أل عوض عن المضافإليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم ونص عليه أبو حيان فقال : أل فيهما عوض عن الضمير على مذهب الموفيين والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم وأنت تعلم أن الخلافبين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضميرالمربط ولا احتياج إليه هنا نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميهفي سلسلة من وراء ظهرهثم يكسر ظهرهويلقيه في النار وقيل : تأخذالملائكة عليهم السلام بعضهم سحبابالناصية وبعضهم سحبا بالقدم وقيل : تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذالنواصي وتارة بأخذالأقدام فالواو بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين وقيل : للرمز إلى عظمتهفقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جنهم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان يقال فيه نحو ما تقدم وقوله تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون مقول قول مقدر معطوف علىقوله تعالى : يؤخذ الخ أي ويقال هذه الخ أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع أو حال من أصحاب النواصي بناءا على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم وما فيالبين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل التي يكذب بها المجرمون التي كذبتم بها فعدل عنه للدلالة على استمرار ذلك وبيانلوجه توبيخهم وعلته
يطوفون بينهاأي يترددون بين نارها وبين حميم ماء حار إن
44
- متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها قال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله تعالىجهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم وقيل : يحرقون في النار ويصب على رؤسهمالحميم وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم وقيل : يغمسوفي واد فيجهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقدأحذث الله تعالآلهم خلقاجديدا وعن الحسن أنه قال : حميم آن النحاس انتهى حره وقيل : آن حاضر
وقرأ السلمي يطافون والأعمش وطلحة وابن مقسم يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة وقريء يطوفون أي يتطوفون فبأي آلاء ربكما تكذبان
45
- هو أيضا كما تقدم ولمن خاف مقام ربه الخ شروعفي تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة و مقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي ولمن خاف قيام ربه وكونهمهيمناعليه مراقباله حافظالأحواله فالقيام هنا مثله في قوله تعالى : أفمن هو قائمعلى كل نفس بما كسبت وهذا مروي عن مجاهدوقتادة أو هو اسم مكان والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز و جل وحده فيه بحسب نفس الأمر والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه : يقوم الناس لرب العالمين منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسةوليس بشيء وقيل : المعنى ولمن خاف مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه وإضافته (27/115)
للرب لأنهعنده تعالآ فهي مثلها فيقولهم : شاة رقوب الحلب وهي بمعنى عند الكوفيين أي رقود عند الحلب وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضاثم إن المراد بالعندية هنا مما لايخفى وجوز أن يكونمقحماعلى سبيل الكناية فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ ومثله قول الشماخ : ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف والظاهر أن المرادولكل فرد فرد من الخائفين : جنتان
46
- فقيل : إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابهله والأخرىمنزل أزواجه وخدمه وإليه ذهب الجبائي وقيل : بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته وأين هذا ممن يطوف بين النار وبين حميم آن
وجوز أن يقالأ : جنة لعقيدته وجنة لعمله أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي أو جنة يثاببها وأخرى يتفضل بها عليه او إحداهماروحانية والأخرى جسمانية ولا يخفى أن الصفاتظاهرة في الجسمانية
وقال مقاتل : جنة عدن وجنة نعيم وقيل : المرادلكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني فإن الخطاب للفريقين وهذأ عندي خلافالظاهر وفي الآثار ما يبعده فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد 0 عمر رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجدوالعبادة فعشقته جاريةفأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلكفشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال : يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه فانطلق لإأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخر فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال : لك جنتان لك جنتان
والخوففي الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب : والخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات ولذلك قيل : لا يعدخائفامن لم يكن للذنوبتاركا ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته
وقول مجاهد : هوالرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع اذلنب والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم وقد يقاتل : إن ارتكاب الذنب قديجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفامن عقابه تعالى عليه وأيد ذلك بما أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الصول ز وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأهذه الآية ولمن خافمقام ربهجنتان فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام : الثانية ولمن خاف مقام ربهجنتان فقلت : وإن زنى وإن سرق فقال الثالثة : ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت : وإنزنى وإن سرق قال : نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال : سمعت محدمبن سعديقرأ ولمن خافمقام ربه جنتان وإزنى وإن سرق فقلت ليه فيهوإن زنى وإن سرق (27/116)
فقال : سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلكحتة أموت وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل وجاءفي شأن هاتين الجنتين من حديث عيض بن غنم مرفوعا إن عرض كل واحدةمنهما مسيرة مائة عام والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبي بكر
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخفي العظمةعنعطاء أن أبا بكر الصديق رضعنه ذكر ذات يوم وفكر في يوم القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثارالكواكب فقال : وددت أني كنت خضرامن هذه الخضر تأتي علي بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان
47
- ذواتا أفنان
48
- صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهاعلى أن تكذيب كلمن الموصوف والصفة موجب للأنكار والتوبيخ وجوز أن يكون خبر مبتدأمقدر أي هما ذواتا وأيا ما كان فهو تثنية ذات بمعنى صاحبة فإنه إذاثني فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا والأخرى ذواتا بردهإلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها وقدقالوا : أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا وفرقا بين الواحدوالجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنيةالجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الشجار والثمار وروي ذلكعن ابن عباس وابنجبير والضحاك وعليهقول الشاعر : ومن كل أفنان اللذاذة والصبا لهوت به والعيش أخضر ناضر وإما جمع فنن وهو ما دقولأن م الأغصانكما قال ابن الجوزي وقديفسر بالغصن وحمل على التسامح وتخصيصهابالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضالأنها هي التي تورق وتثمر فمنها تمتد الظلال ومنها تجنى الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل : ذواتا ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية وهي أخضر وأبلغ وتفسيره بالأغصان على أنه جمع فنن مروي عن ابن عباس أيضا وأخرجه ابن جرير عن مجاهدقال أبو حيان : وهو أولى لأن أفعالآئ في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين كفن ويجمع هو على فنون
فبأي الآء ربكما تكذبان
49
- فيهمأعينان تجريان
50
- صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأالمقدرأي في كل منهما تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسنيم والأخرى بالسلسبيل وروي هذا عن الحسن وقال عطية العوفي : عينان إحداهمأمن ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين وقيل : عينان من الماء تجريان حيث شاصاحبهمأمن الأعالي والأسافل من جبل مسك وعن ابن عباس عينان مثل الدنيا أضعافامضاعفة تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة
فبأي الآء ربكما تكذبان
51
- فيهما من كل فاكهة زوجان
52
- صنفان معروف وغريب لم يعرفوهفي الدنيا أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب وأخرجعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال ابن عباس في هذه الآية : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل ونقل هذافي البحر عن ابن عباس أيضابزيادة إلا أنه حلو والجملة كالجملة التي قبلها
فبأي آلاء ربكماتكذبان
53
- متكئين حال من قولهتعالى : ولمن خاف وجمع رعاية للمعنى بعدالإفراد (27/117)
رعاية اللفظ وقيل : العامل محذوف أي يتنعمون متكئينوقيل : مفعول به بتقدير أعني والإتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب والمعنى متكئينفي منازلهم على فرش بطائنها من استبرق من ديباجثخين قال ابن مسعود كما رواه عنه جمع وصححهالحاكم أخبرتمبالبطائن فكيف بالظاهر وقيل : ظهائرهامن سندس وعن ابن جبير من نور جامد وفي حديث من نور يتلألأ وهو إن صح وقف عنده
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنهقيل له : بطائنها منإستبرق فماذا الظواهر قال : ذلكمما قال الله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وقال الحسن : البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة وقال الفراء : وقدتكون البطانة الظهارة والظهارة البطانةلأن كلامنهمأيكونوجها والعربتقول : هذا ظهالسماء وهذا بطن الساء والحق أن البطائن هنا مقابل الظاهر على الوجه المعروف وقرأأبو حيوة فرش بسكونالراء وأخرج عبد بن حميدعن الضحاك قال : قرأعبد الله سرر وفرش بطائنها من استبرق وجني الجنتين أي ما يجنيويؤخذمن أشجارهما من الثمار فجنياسمصفة مشبهة بمعنىالمجني دان
54
- قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع قالابنعباس رضعنهما : تدنو الشجرة حتى يجتبيها ولي الله تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاءمضطجعا وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعدولا شوك وقرأعيسى وجنى بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت اللفقد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو حتى نرى اللهجهرة وقريء وجني بكسر الجيم وهو لغة فيه
فبأي آلاء ربكما تكذبان
55
- فيهن أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدم اعتبار الجمعة في قوله تعالى : متكئين وقال الفراء : الضمير لجنتان والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعدما سمعت وقيل : الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر وقيل : يعود على الفرش قال أبو حيان : وهذا قول حسن قريب المأخذ وتعقب بأن المناسب للفرش على وأجيب بأنه شبه تمكهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثاره للأشعار بأن أكثر حالهن الأستقرار عليها ويجوز أن يقال : الظرفية للإشارة إلىأن الفرش إذاجلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه وقيل : الضمير للآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني والمراد معهن قاصرات الطرف أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن قال ابن رشيق فيقول امريء القيس : من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغي زوجها ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتني : (27/118)
وخضر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا انتهى فلا تغفل والأكثرون علىأول المعنيين اللذينذكرناهمابل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي
أخرج ابن مردويهعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك لا ينظر إلا إلى أزواجهن ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجكوجعلكزوجي و الطرف في الأصل مصدر فلذلك وحد لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان
56
- قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان وفيه إشارة إلى أن الضمير قبلهن للأزواج ويدل عليه قاصرات الطرف وفيالبحر هو عائدعلى من عادعليهالضمير في متكئين وأصلالطمث خروجالدم ولذلك يقال للحيض طمث ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم وقيل : ثم عمم لكلجماع وهو المروي هنا عن عكرمة وإلى الأول ذهب الكثير وقيل : إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدنأبكارا كلماجومعن ونفي طمثهن عن الأنس ظاهر وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن : قدتجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوجاسم الله تعالى فنفي هنا جميع المجامعين وقيل : لا حاجة إلى ذلكإذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانهمنهم ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكومع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال : كتب قوممن أهل اليمن إلى مالك يسألونهعن نكاح الجن وقالوا : إن ههنا رجلامن الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلكبأسأفي الدين ولكن أكره إذاوجدت امرأةحامل قيل : من زوجك قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعاحقيقيا مع أزواجهنإذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء وقوله تعالى : وشاركهم في الموال والأولاد غير نص في المراد كما لا يخفى وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجننوعهم فالمعنى لم يطمث النسيات أحدمن الإنس ولا الجنيات أحدمن الجن قبل أزواجهن وقدأخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم وظاهره أن ما للجن لسنمن الحور
ونقلالطبرسي عنه أنهن من الحور وكذاالأنسيات ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهميقال لذلك إنسيات وحوراللجن يشاكلنهم يقال لهن جنيات ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحداويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيرهفي هذه النشأة ويقالأ : ما يعطاه الأنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله ومايعطاه الجني لميطمثهاجني قبلهوبهذا فسر البلخي الآية وقال الشعبي والكلبي : تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئنالنشأة الآخرة خلق قبل والذييعطاهالإ زوجتهالمؤمنية التي كانت له في الدنيا ويعطيغيرها من نسائها المؤمنات أيضا وكذا الجني زوجتهالمؤمنة التيكانت له في الدنيا من الجن ويعطى غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضا ويبعد الجني من نساء الدنيا الإنسيات في الآخرة (27/119)
والذي يغلب على الظن أن الأنسي يعطى من الإنسيات والحور والجني يعطى من الجنيات والحور ولا يعطى إنسي جنية ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو جنيامن الحور شيء يليق به وتشبيه نفسه وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقوفيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى (27/0)
والأوزاعي وعليه الأكثر كما ذكره العيني في شرح البخاري من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية ويدخلون الجنة فإنظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الأولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات الثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد علىدخولها الثالثة التوقف قالأالكردي : هو في أكثر الروايات وفي فتاوي أبي إسحاق بن الصفار أن الإمام يقول : لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم اللهتعالى
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربضالجنة وقيل : هم أصحاب الأعراف وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل : نراهم ولا يرونا عكس ما كانواعليه في الدنيا وإليه ذهب الحرث المحاسبي وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهمفي الدنيا وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل : إن تنعمهم بغير رؤيته عز و جل فإنهم لا يرونه وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها علىما حكاهأبو إسحاق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله وقرأطلحة وقرأطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله يطمثهن بضم الميم هنا وفيما بعد وقرأأناس بضمه في الأول وكسره في الثاني وناس بالعكس وناس بالتخيير والجحدري بفتح الميم فيهما والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة فبأي آلاء ربكما تكذبان
57
- وقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان
58
- إما صفة لقاصرات الطرف أو حال منها كالتيقبل أي مشبهات بالياقوتوالمرجا وقول النحاس : إن الكاف في موضع رفععلى الأبتداء ليس بشيء كما لا يخفى أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ وعن الحسن نحوه وفي البحرعن قتادة في صفاء الياقوت وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف وقيل : مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدرفي بياض البشرة وصفائها وتخصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضامن الكبار وقيل : يحسنهنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى : كأنهن بيض مكنون فلا تغفل
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصحبه والبيهقي فيالبعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : كأنهن الخ قال : ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيئما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوباينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك
وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال : إن المرآة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراءاللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء
فبأي آلاء ربكما تكذبان
59
- وقوله تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
60
- استئناف مقررلمضمونما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وقيل : المراد ما جزاء التوحيد إلا الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفروس وابن النجار في تاريخه عن أنس قال : قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (27/120)
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فقال : وهل تدرون ما قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليهبالتوحيد إلا الجنة وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعابلفظ قال الله عز و جل هل جزاء من أنعمت عليه الخ ووراءذلك أقوال تقربمن مائة قول واختير العموم ويدخلالتوحيددخولاأولي والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما في الحديثأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قالوا : فهو اسم يجمع أبواب الحقائق وقرأابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن فبأي آلاء ربكما تكذبان
61
- وقوله تعالى : ومن دونهما جنتان
62
- مبتدأو ومن دون تينك الجنتين في المنزلةوالقدر جنتانأخريان قال ابن زيد والأكثرونالأو للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويهعن أبي موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله سبحانه : ومن دونهما جنتان قال : جنتان من ذهب للمقربين من ورق لأصحاب اليمين وقال الحسن : الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين وروي موقوفاوصححه الحاكعن أبي موسى وزعم بعضهم أن الأولين للخائفين والآخرين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجدله مستندامن الآثار وحكى في البحر عن ابن عباس أنه قال : ومن دونها فيالقرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأولين وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى
فبأيآلاء ربكما تكذبان
63
- وقوله تعالى : مدهامتان
64
- صفة لجنتان وسط بينها الأعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حيقي بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر بها عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذالم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون ويقال : ادهام أدهيمامامدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وجماعة بخضراوان بل أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضعنه قال : سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : مدهامتان فقال عليه الصلاة و السلام : خضراوان والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذااشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبيصالح قيل : إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارابأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن فيوصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بانها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالأقتصار في كل منهما على أحد المرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لاوالجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلآمن الجنة القليلة الظلال والثمار ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونهأغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولوإذا مدحوابستاناأشجاره خضر يانعة وهو أظهر من مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان وهو يشعر أيضابكثرة مائهوالأعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك (27/121)
فبأي آلاء ربكما تكذبان
65
- فيهما عينان نضاختان
66
- فوارتانبالماء على ما هو الظاهر وفي النضخ فوران الماء وفي الكشاف وغيره النضخ أكثر من النضح بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضلالجنتين الأوليين دون الجري فالمدح به دون المدح به وعليه قول البراء بن عازبفيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاحتين ومن ذهب إلى تفضيل هاتينيقول في الفوران جري مع زيادةحسفإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطراتكحبات اللؤلؤ المتناثرة كمايشاهد في الفوارات المعروفة أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس نضاختان بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر علىأهلالدنيا أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد نضاختان بالخير ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير
فبأي آلاء ربكما تكذبان
67
- فيهمافاكهة ونخل ورمان
68
- عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانالفضهما وقيل : إنهما في الدنيالما لم يخلصا للتفكهفإنالنخ فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء عدا جنساآخر فعطفاعلى الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناأو رطبالم يحنث وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه
أخرج ابن المبارك وابن أبيشيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفهاكسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرهاأمثالأالقلال أشد بياضامن اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاأصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب الخ
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاقالأE : نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى فيالجنتين السابقتين : فيهمأ من كل فاكهة زوجان ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينةالمقام نظير ما قيل في قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت فيكون في قوة فيها كل فاكهة ويزيد ما في النظم الجليل علىما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها وقال الإمام الرازي : إن ما هنا كقولهتعالى : فيهما من كل فاكهة زوجان وذلكلأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخلوغيرها من الشجريات فقال تعالى : مدهامتان لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض وأحدهما حار والآخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة وأحدهمأأشجار تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى : رب المشرقين ورب المغربين انتهى ولعل الول أولى فبأي آلاء ربكما تكذبان
69
- وقوله تعالى : فيهن خيرات صفة أخرى لجنات أو خبر بعد خبر للمبتدأالمحذوف كالجملة التي قبلها (27/122)
يجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالأكلامفيه في قوله تعالى : فيهن قاصرات الطرف و خيرات قال أبو حيان : جمع خيرة وصف بنيعلى فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة وقال الزمخشري : أصله خيرات بالتشديد فخففت كقوله عليهالصلاة والسلام : هينون لينون وليس جمع بمعنى أخير فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصاإذا نكر وقرأبكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم خيرات بتشديدالياء وهو يؤيد أن أصله كذلك وروي عن أبي عمرو خيرات بفتح الياءكأنه جمع خائرة جمع على فعلة حسان
70
- قيل : أي حسان الخلق والخلق
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادةأنه قال في الآية : خيرات الأخلاق حسان الوجوه وأخرجذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا
فبأي آلاء ربكما تكذبان
71
- وقوله تعالى : حور بدلمن خيرات وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضاعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقالابن الأثير : الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وفي القاموس الحور بالتحريك أنيشتد بياض بياض العين وسواد سوادهاوتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بنس آدم بل يستعار لها وإذاصح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله ص -
مقصورات في الخيان
72
- أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق قال كثير عزة : وأنت التي حببت كل قصيرة إلي ولم تشعر بذاكالقصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت : وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتغفل عن أبياتهن فتعذر وهذاالتفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال : مقصورات قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن والأول أظهر و في الخيام عليه متعلق بمقصورات وعلى الثاني يحتمل ذلك ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل والخيام جمع خيمة وهو على ما في البحر بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقالأله خيمة وقال غير واحد : هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضاعلى خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب والخيامهنا بيوت من لؤلؤ أخرج ابن أبي شيبةوجماعة عن ابن عباس أنه قال : الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخلها أربعة آلاف مصراع من ذهب وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال : الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعوبابامن در وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستونميلافي كل زاوية منها للمؤمن (27/123)
أهل لا يراهم الآخرونيطوف عليهم المؤمن ةإلى ذلك من الأخبار وقوله سبحانه : فيهن الخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز و جل : فيهن قاصرات الطرف إلى قوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في مقصورات على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم أو يجعلقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل
جوهرة أحقاقها الخدور
ومن ذهب إلىتفضيل الأخيرتين يقول : هذاأمدح لعموم خيرات حسان الصفات الحسنة خلقاوخلقا ويدخلفي ذلكقصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن و قاصرات الطرف ربما يوهم أن القصر باختيارهنفمتى شئن قصرن ومتى لم يشأ لم يقصرن
فبأي آلاء ربكما تكذبان
73
- وقوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان
74
- الكلامفيه كالكلام في نظيره فبأي آلاء ربكما تكذبان
75
- وقوله سبحانه : متكئين قيل : بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين والضمير لأهل الجنتين المدلولعليهم بذكرهما على رفرف اسم جنس أو اسم جمعواحده رفرفة وعلى الوجهينيصح بقوله تعالى : خضر وجعله بعضهمجمعالهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل وفسره في الآية علي كرم الله تعالىوجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه وقال الجوهري : الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابسواشتقاقه من رف إذا ارتفع وقال الحسن فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه هيالبسط
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كسيان وقال الجبائي : الفرش المرتفعة وقيل : ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب وقال الراغب : ضرب من الثياب مشبهة بالرياض وأخرجابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : الرفرف رياض الجنة وأخرجعبد بنحميدنحوه عن ابن عباس وهو عليه كما في البحر من رف النبت نعم وحسن ويقالالرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء وعبقري هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبوإليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أرى عبقريايفري فريه ولتناسي تلك النسبة قيل : إنه ليس بمنسوب هلهو كرسي وبختيكما نقل عن قطرب والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع هو قوله تعالى : حسان
76
- حملا على المعنى وقيل : هو اسم جمعأو جمعواحدهعبقرية وفسره الأكثرون بتعلقالزرابي وعن أبي عبيدة هو كاكلهوشيء من البسط
وروي غير واحدعن مجاهد أنه الديباج الغليظ وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف
وقرأعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيص (27/124)
ورهبر الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف حضر بسكون الضاد وعباقري بكسر القاف وةفتح الياء مشددة وعنهم أيضاضم الضاد وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارفللمشاكلة وإلا فلا وجه لمنعالصرف مع ياءيالنسبإلا في ضرورة الشعر انتهى
وقال ابن خالويه قرأ على رفارف خضر وعباقري النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والجحدري وابن محيصن وقدروي عمن ذكرنا علىرفارف خضر وعباقري بالصرف وكذلكروي عن مالك بن دينار وقرأأبو محمد المروزيوكاننحويا على رفاف خضار بوزن فعال وقال صاحب الكامل : قرأ فارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الأختيار لقوله تعالى : حضر وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن وروي عنهما التنوين
وقال ابن عطية : قرأزهير القرقبي رفارف بالجمع وترك الصرف وأبو طعمة المدني وعاصم فيمارويعنه رفارف بالصرف وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك وعباقي بالجمع والصرف وعنه وعباقري بفتحالقافوالياء علىأن اسم الموضع عباقر بفتح القاف والصحيحفيه عبقر وقال الزمخشري : قريء عباقري كمدايني
وروي أبو حاتم عباقريبفتح القاف ومنع الصرفوهذا لا وجهلصحته وقال الزجاج : هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت : عباقرة نحو مهلبي ومهالبةولاتقولمهالبي
وقال ابن جني : أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس شذوذمع استعماله وقالأابن هشام : كونه من النسبتة إلى الجمع كمدايني باطل فإن من قأبذلك قرأرفارف خضر بقصدالمجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفهكمداينيوقد صحت الرواية بمنعه الصرفعن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو منباب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنهاخالفت القياس في زيادة ما بعدالألف على المعروفكما ذكره السهيلي وقال صاحب الكشف : فتح القافلا وجه له بوجه والمذكور في المنتقي عن النبي صلى الله عليه و سلم الكسر
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حديذهبنفينجدوغورا وإضافته إلى حسان مثل إضافة حور إلى عينفي قراءة عكرمة كأنه قيل : عباقري مفارش أو نمارق فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحدالوصفين قائم مقام الموصوف ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى فأحط بجوابالكلام ولا تغفل وقرأابن هرمز خضر بضم الضادوهي لغة قليلة ومن ذلكقول طرفة : أيها القينات في مجلسنا جردوا منها واردا وشقر وقول الآخر وما انتميت إلى خود ولا كشف ولا لئام غداة الروع أو زاع فشقر جمع أشقر وكشف جمع أكشف وهو منينهزم فيالحرب هذا والوصف بقوله تعالى : متكئين على رفرف الخ دون الوصف بقوله سبحانه : متكئين على فرش بطائنها من استبرق عند القائلبتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر ممايعجز عنها الوصف ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرحعليها الرفرف مذكورفيجوز أن يكونترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع (27/125)
إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينهالإمام يشيرإلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات وقد يقال غير ذلكفتأمل وينبغي على القول يتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خافأن لا يفسر من خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم أو يقال إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى ولمنخاف مقام ربه أضا جنتان صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين وعليه قيل : جنتان عطف على جنتان قبله ومن دونهما في موضع الحال وذهببعضهم إلى أن هاتينالجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربهD فلهيوم القيامة أربع جنان
قال الطبرسي : والأخيرتان دون الأوليين أي أقربإلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروفمن طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعدعن الملل الذي طبع عليه البشر وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالاظاهرالكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا إذ حكم مثله حكم المرفوع لم يكن لنا العدول عما يقتضيه وقد روي عنه أيضاحديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس
وأخرج عند أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم أنه قال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهماوجنتان من فضة حليتهماوآنيتهماوما فيهما ومابين القوم أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان ومعنى قوله تعالى : ولمن خاف الخ عليه مما لا يخفى ثم إن قاصرات الطرف إن كن من الإنس فهن أجل قدراوأحسنمنظرا من الحور المقصورات في الخيام بناءا على أنهن النساء المخلوقات في الجنة
فقد جاء من حديث أم سلمة قلت يا رسول الله : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة قلت : يا روبم ذاك قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبداألاونحن الناعمات فر نبأس أبداطوبى لمن كنا له وكان لنا إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيداللقول بتفصيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما تقدم سبحانه ذكر الأتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز و جل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه : ولمنخاف مقام ربه جنتان فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعاراظاهرا وهو الإتكاء فإنه من شأن الآمنين وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزلمن طعام وشراب وقينة تكون فيه وإذا قلنا : إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع وقال الإمام في ذلك : إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب ومنهم من يكومترددافي طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فلله عز و جل قال في أهل الجنة : متكئون قبل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعدالأجتماعليعلم أنهم دائمون على السكون ولا يخفى أن هذاعلى ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل (27/126)
أن يقول لم لميعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا ثم ذكر في ذلك وجهاثانياوهو على ما فيهمبني على ما لا مستند لهفيه من الآثار فتدبر فبأي آلاء ربكما تكذبان
77
- وقوله عز و جل : تبارك اسم ربك تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنهالفائضة على الإمام فتبارك بمعنى تعالآلأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصفالآتي وقدورد في الأحاديث تعالى اسمه أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرتبهالسورة من اسم الرحمن المنبيء عن إفاضة الآلاء المفصلة وارتفعمما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائهوتكذيبها وغذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانهكذلكفما ظنكبذاته الأقدس الأعلى
وقيل : الأسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها وقيل : هو مقحم كما في قول من قال : ثم اسم السلام عليكما وقيل : هوبمعنى المسمى وزعم بعضهم إن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة وهو تعدد الآلاء والنعم تفسير تبارك بكثرت خيراته ثم إنهلا بعدفي إسناده بهذا المعنى لاسمهتعالآ إذا به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان وقولهسبحانه : ذي الجلالوالإكرام
78
- صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلالما ذكر من التنزيه والتقرير وقرأابن عامر وأهل الشام ذو ج بالرفع على أنه وصف للأسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح
هذا ومنباب الإشارة في بعض الآيات الرحمن علم القرآن إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانيةالإجمال عنداستوائه عز و جل على عرش الرحمانية خلق الإنسان الكاملالجامع علمه البيان وهو تفصيلتلك العلوم الإجمالية فإذا قرأناهفاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه والشمس والقمر بحسبان يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الأستعدادات و النجم القوى السفلية والشجر الأستعدادات العلوية يسجدان يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه والسماء سماء القوى الإلهية القدسية رفعها فوق أرضالبشرية ووضع الميزان القوة المميزة أن لا تطغوا فيالميزان لا تتجاوزا عند أخذالحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية
وجوز أن يكون الميزان الشريعة المطهرة فإنهاميزان يعرف بهالكامل من الناقص والأرض أرضالبشرية وضعها بسطها وفرشها للأنام للقوى الأنسانية فيها فاكهة من فواكه معرفة الصفات الفعلية والنخل ذات الكمام وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظموذات أطوار كل طور مستور بطور آخر والحب هو الحب المبذور في مزارعالقلوب السلمية الدغل ذو العصف أوراق المكاشفات والريحان ريحان المشاهدة رب المشرقين ورب المغربين رب مشرق شمس النبوة ومشرققمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني مرج البحرين بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية يلتقيان بينهمابرزخ حاجز القلب يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان أنواع من أنوار الأسرار ونيران الأشواق وله الجوار المنشآت سفنالخواطر المسخرة في بحر الإنسان كل من عليها فان ماشم رائحة الوجود ويبقى وجه ربك الجهة التي تليهسبحانه وهي شئوناته عز و جل ذو الجلال أي الأستغناء التام عن جميع المظاهر والإكرام الفيض العام يفيض على القوابل حسبمااستعدت له وسألتهبلسان (27/127)
والأرض الخ واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه : كل يومهو في شأن على شرفالتلون وكذا استدل به على عدم بقاء الجواهرآنين وعلى هذا الطرز ما قيل في الآيات بعد وذكر بعض أهلالعلمأن قوله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان قد ذكر إحدى وثلاثين مرة وثمانية منها عقيب تعداد عجائب عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد وسبعة عقب ذكر ما يشعر بالناروأهوالها على عدد أبواب جهنم وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنةفكأنه أشيربذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولىوعمل بموجبهااستحقكلتاال الله تعالى ووقاهم جهنم ذاتالأبواب السبعة والله تعالىأعلم بإشارات كتابه وحقائقخطابه ودقائقكلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسك ربك ذو الجلال والإكرام
سورة الواقعة
مكية كما أخرجه البيهقيفي الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير واستثنى بعضهم قوله تعالى : ثلة الأولين وثلة من الآخرين كما حكاه في الإتقان وكذا استثنى قوله سبحانه : فلا أقسم بمواقع النجوم إلى تكذبون لما أخرجهمسلمفي سببنزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى وفيمجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي وسبع وتسعون في البصري وست وتسعون في الكوفي وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار وقالفي البحر : مناسبتها لما قبلها أنه تضمنالعذابللمجرمين والنعيم للمؤمنين وفاضلسبحانه بين جنتي بعضالمؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلىكافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذهالسورة منكونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين وقال بعض الأجلة أنظر إلى اتصال قوله تعالى : إذاوقعت الواقعة بقوله سبحانه : فإذاانشقت السماء وأنه اقتصر في الرحمنعلى ذكر انشقاق السماء وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكان السورتين لتلازمهماواتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء وقد عكسالترتيب فذكر في أول هذه ما فيتلك وفي آخر هذه ما فيتلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان ثمصفة يوم القيامة ثم صفة النار ثم صفة الجنة وهذهابتداؤها بذكر القيامة ثم صفة الجنة ثم صفة النار ثمخلق الإنسان ثمالنبات ثمالماء ثم النار ثم ذكرت النجوم ولم تذكر فيالرحمن كما لم يذكرهنا الشمس والقمر ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلكوكالمتضمنة لرد العجز على الصدر وجاء في فضلها آثار
أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحرث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنابنمسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : من قرأسورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا وأخرج ابن مردويه عن أنسعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : سورة الواقعة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم (27/128)
وأخرج الديلمي عنه مرفوعاعلمو نسائكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى
بسم الله الرحمن الرحيم إذا وقعت الواقعة
1
- أيإذا حدثت القيامة على أن وقعت بمعن حدثت و الواقعة علم بالغلبة أو منقول للقيامة وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في جاءني جاء فإنه لغو لدلالة كل فعل علىفاعل له غير معين وقال الضحاك : الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور وقيل : الواقعة صخرة بيت المقدستقع يوم القيامةوليس بشيء و إذا ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب بوقعت كسائر أسماء الشرط ولسيت مضافةإلى الجملة والجمهور على إضافتها فقيل : هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا وقيل : لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس وصنيع الزمخشري يشعر باختياره
وقيل : بمحذوفوهو الجواب أي إذا وقعتالواقعة كان كيت وكيت قال في الكشف : هذا الوجه العربي الجزل فالنصببإضمار اذكر إنما كثر في إذ وبليس إنما يصح إذاجعلت لمجرد الظرفية وإلالوجوب الفاء فيليس وأبو حيان تعقب النصب بليس لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك ما وهي لا تعمل فكذا ليس فإنها مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان والقول : بأنها فعل على سبيل المجاز والعامل في الظرفإنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه ثم ذكر ما ذكر صاحب الكشف منوجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية واعترض دعواه أن ما لا تعملبأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفي وأنه يكفي لهرائحة الفعل ويقاس عليها في ذلك ليس وكذا دعوى وجوب الفاء في ليسإذا لم تجرد إذا عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعالالجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به وأما إذا فدخلوا الفاء في جوابها على خلاف الأصل وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران وبعد القيل والقال الأولى كون العامل محذوفاوهو الجواب كما سمعت وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة
وقوله تعالى : ليس لوقعتها كاذبة
2
- إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية و كاذبة اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس وقيل : مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به و الواقعة السقطة القوية وشاعت في وقوعالأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك : كتبته لخمس خلوان أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب لهتعالى في أنها تقعوهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبامكذبا بلصادقامصدقا وقيل : على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة وأن قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين مجاب عنه بما هو مذكور في محله أواللام على حقيقتها و كاذبة صفة لذلك المحذوف أيضاأي ليسلوقعتها نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحدولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها (27/129)
بلسانالحال لن تكوني وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذب أحدفيقول إنه غير واقع وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطباإلا على ذلكإما على سبيل التخييل من باب لو قيل : للشحم أين تذهب وهو الأظهر وإما على التحقيق وجوز كون كاذبة منقولهم كذبت نفسه وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم واللام قيل : على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتعريه عليها
وفي الكشف إن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما في الوجه الأول وجوز أيضا كون كاذبة مصدرا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة وروي نحوه عن الحسن وقتادة وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس في كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ماالليث كذب عن أقرانه صدقا ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب للوقعة كذببلهي وقعةصادقة لا تطاق على نحو حملة صادقة وحملة لها صادق أو علىمعنىليس هي في وقوعها كذب لأنهحق لا شبهة فيه ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم وإن روي نحوه عمن سمعت نعم قيل : عليها إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر وقوله عز و جل : خافضة رافعة
3
- خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قالابن عباس وأخرجه عنه جماعة والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة وتقديم الخفض على اىلرفع لتشديد التهويل أو بيان لمايكون يومئذ من حطالأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات وعلى هذا قول عمر رضعنه : خفضت أعداء الله تعالى إلى النارورفعت أولياءه إلى الجنة أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارنتها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب والضحاك بعد أن فسر الواقعة بالصيحة قال : خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى رافعة ترفعها لتسمع الأقصى وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وعكرمة وقدر أبو علي المبتدأ مقرونابالفاء أيفهي خافضة وجعل الجملة جواب إذافكأنه قيل : إذا وقعت الواقعة خفضت قوماورفعت ةخرين وقرأزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره خافضة رافعة بنصبهما ووجهه أن يجعلا حالين عنالواقعة عما أن ليس لوقعتها كاذبة اعتراض أو حالين عن وقعتها وقوله سبحانه : إذا رجت الأرض رجا
4
- أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بيناء وجبل متعلق بخافضة أو برافعة على أنه من باب الأعمال أو بدل من إذا وقعت كما قال به غير واحد وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : إذا رجت في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأالذي هو إذا وقعت وليست واحدة منهما شرطية بل هيبمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض وادعى ابن مالكأن إذا تكون مبتدأ واستدل بهذه الآية وقال أبوحيان : هو بدل من إذا وقعت وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهوقوله تعالى : فأصحاب الميمنة والمعنى إذا كان كذا وكذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظمما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم (27/130)
عند الله عز و جل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم وفيه بعد وبست الجبال بسا
5
- أي فتت كما قال ابن عباس ومجاهد حتى صارنت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته وقيل : سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنك إذا ساقها فهو كقوله تعالى : وسيرت الجبال
وقرأ زيد بن علي رجت وبست بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها عينها وصلاها راج وهي تمشي وتفاج فكانت فصارت بسبب ذلك هباء غبارا منبثا
6
- متفرقا والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين وقال ابن عباس : هو ما يثور من شعاع الشمس إذا دخلت من كوة وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت
وقرأ النخعي منبتا بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع والمراد من البث بالمثلثة وكنتم للأمة الحاضرة والأمة السالفة كما ذهب إليه الكثير وقال بعضهم : خطاب للأمة الحاضرة فقط والظاهر إن كان أيضا بمعنى صار وصرتم أزواجا أي أصنافا ثلاثة وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج قال الراغب : الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيهما وفي غيرهما كالخف والنعل ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وقوله تعالى : فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة
8
- وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة
9
- تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قيل تفصيلها والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ وقوله تعالى : ما أصحاب الميمنة ما فيه استفهامية مبتدأ ثان و أصحاب خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير وكذا يقال في قوله تعالى : وأصحاب المشأمة الخ والأصل في الموضعين ما هم أي أي شيء هم في حالم وصفتهم فإن ما وإن شاعت مفهوم الأسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد فيقال : عالم أو طيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال وقيل : جملة ما أصحاب خبر القول على ما عرف في الجملة الإنشائية إذا وقعت خبرا في حقهم ما أصحاب الخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر و الميمنة ناحية اليمين أو اليمن والبركة والمشأمة ناحية الشمال من اليد الشؤمي زهي الشمال أو هي من الشؤم مقابل اليمن ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل واختلفوا في الفريقين فقيل : أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح وهو مجاز شائع وجوز أن يكون كناية وقيل : الذين يؤتون صفائحهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم وقيل : الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقيل : أصحاب اليمين وأصحاب الشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم (27/131)
بمعاصيهم وروي هذا عن الحسن والربيع وقوله تعالى : والسابقون السابقون هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق مع جميع الوجوه
واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان وروي هذا عن عكرمة ومقاتل وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في حز قيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه كل منهم سابق أمته وعلي أفضلهم وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدموا أهل الأديان وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة وعن علي كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه
وأخرج عبد بن جميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز و جل وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر وقال كعب : هم أهل القرآن وفي البحر في الحديث سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ورجل ابتكر الشرفي حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال وعن ابن كسيان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى السابقون إلى رحمته سبحانه أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنة والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد
وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى : أولئك المقربون
11
- مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني وقيل السابقون السابق مبتدأ والسابقون اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : فأصحاب الخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الأتستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما يقل السابقون ما السابقون على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب والإشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل (27/132)
و المقربون من القربة بمعنى الخطوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا خطوة ومكانة عند الله تعالى وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش درجاتهم
هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : فأصحاب الميمنة خير مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : وأصحاب المشأمة وقوله جل شأنه : والسابقون فإن المترقب عند بيان الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنبائا إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الأستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله على أنها خبر لما بعدها فغن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في ما أصحاب المشأمة وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : السابقون مبتدأ والإظهار في مقام الأضمار للتفخيم و أولئك مبتدأ ثان أو بدل من الأول وما بعده خبر له أو للثاني والجملة خبر للأول انتهى وقيل عليه : إنه ليس في جعل جملتي الأستفهام وقوله سبحانه : السابقون إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر ما أصحاب اليمين و ما أصحاب الشمال في التفصيل وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه هلى هذا الوجه ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للأعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الأنقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الأستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم ما أصحاب الميمنة وكذا يقال في وأصحاب المشأمة الخ ويجعل أيضا السابقون صفة للسابقون قبله والتأويل في الوصفية كالتأويل في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع وما يقال : إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون أل في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث فتأمل ولا تغفل وقوله تعالى : في جنات النعيم
12
- متعلق بالمقربين أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر أو نهي ولذا قيل : في جنات النعيم دون جنات الخلود ونحوه وقيل : خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الأخبار (27/133)
بكونهم فيها بعد الأخبار مقربين ليس فيه مزيد مزية وأجيب بأن الإخبار الأول للأشارة إلى اللذ الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية
وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد وقوله تعالى : ثلة من الأولين
13
- خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة الخ وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم أو خبرا أولا أو ثانيا لأولئك وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر على سرر والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلت وقال الزمخشري : الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله : وجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد وقوله تعالى بعد : وقليل الخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالأستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التفنن بل هي إما للكثرة والإشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال غلب على الكثير فالمعنى جماعة كثير من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وقليل من الآخرين
14
- وهم الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة و السلام : إن أمتي يكثرون سائر الأمم أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي الماقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك
وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائمة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال : كثرة سابقي الأولين ليسن بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا أكثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته بالكثرة ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم (27/134)
وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلا قليل فنزلت نصف النهار ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فنسخت وقليل من الآخرين وأبى ذلك الزمخشري فقال : إن الرواية غير صحيحة لأمرين : أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين والثانية في أصحاب اليمين والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار
وقيل : يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والأخبار يتبعه وعلى هذا البيضاوي وقيل : يجوز عن الماضي وعليه الإمام الرازي والآدمي وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظاهر خبر أبي هريرة الثاني ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول صاحب الكشف : لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء وأقول : قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال : إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فحزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى
وقو أبي هريرة فنسخت وقليل من الآخرين إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : الفرقتان أي في قوله تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل وقيل : هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين
وقال أبو حيان : جاء في الحديث الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل انتهى وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال : هما جميعا من الأمة وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز و جل : وكنتم أزواجا ثلاثة لهذه الأمة فقط على سرر موضونة حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى : في جنات النعيم بناءا على أنه في موضع الحال كما تقدم وقيل : هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولا بثلة وفيه وجه آخر أشرنا إليه فيما مر وموضونة من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى : ومن نسج داود موضونة تسير مع الحي عيرا فعيرا واستعير لمطلق النسج أو لنسج محكم مخصوص ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب وفي رواية عنه بقضبان الفضة وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت وقيل : موضونة متصل بعضها ببعض كحلق الدرع والمراد متقاربة وقرأ زيد بن علي وأبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم وكلب يفتحون (27/135)
على فعل جمع المضعف نحو سرير متكئين عليها حال الضمير المستقر في الجال والمجرور أعني على سرر وقوله تعالى : متقابلين
16
- حال منه أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين
والمراد كما قال مجاهد : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن وقوله تعالى : يطوف عليهم حال أخرى أوستئناف أي يدور حولهم للخدمة ولدان مخلدون
17
- أي مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحول عن ذلك والإك أهل الجنة مخلد لا يموت وقال الفراء وابن جبير : مقرطون بخلدة وهي ضرب من الإقراط قيل : هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها وروي هذا أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعن الحسن البصري واشتهر أنه عليه الصلاة و السلام قال : أولاد الكفار خدم أهل الجنة وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه أخرج البخاري وأبو داو والنسائي عن عائشة قالت : توفي صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافيلا الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أو تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار لهذا أهلا ولهذا أهلا وفي رواية خلقهم لهما وهم في أصلاب آبائهم
وأخرج أبو داود عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من ىبائهم فقلت : يا رسول الله بلا عمل قال : الله أعلم بما كانوا عاملين قلت : يا رسول الله فذراري المشركين قال : من آبائهم فقلت : بلا عمل قال : الله أعلم بما كانوا عاملين وقيل : إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وأدخل الجنة ومن أبي أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا
ومن الغريب ما قيل : إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم وفي الكشف الأحاديث متعارضة في المسئلة وكذلك المذاهب والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عز و جل أعلم انتهى والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك بأكواب بآنية لا عرا لها ولا خراطيم والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوكب وأباريق جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل : وعروة وفي البحر أنه من أواني الخمر وأنشد قول عدي بن زيد : ودعوا بالصبوح يوما فجاءت في قينة في يمينها إبريق وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق وذكر غير واحد أنه معرب آب ريزاي صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب آب ري بلا زاي وأيا ما كان فهو ليس مأخوذا من البريق نعم الإبريق بمعمى المرأة الحسنة البراقة والقوس فيها تلاميع مأخزذ من ذلك ولعله يقول بأنه عربي لا معرب وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله : مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا أو لأنه غالبا يتخذ له نوع برق كالبلور والفضة وكأس من معين
18
- أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا وقيل : ظاهرة للعيون مرئية لأنها كذلك أهنا وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة لا يصدعون عنها أي بسببها وحقيقته (27/136)
لا يصدر صداعهم عنها والمراد أنهم لا يلحق رؤسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدميا وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأياب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق
وقرأ مجاهد لا يصدون بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى : يومئذ يصدعون بقتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سواء الأدب ليس من حسن العشرة ولا ينزفون
19
- قال مجاهد وقتادة والضحاك : لا تذهب عقولهم بسكرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف وقيل : هو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف
وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد ولا ينزفون بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه ومعناه صار ذا نزف ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا ولا ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي قال : في المجمع وهو محمول على أنه لا يفني خمرهم والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر على الأجسام والثانية لبيان نفي الضرر على العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك وفاكهة مما يتخيرون
20
- أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه ولحم طير مما يشتهون
21
- مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة ينالها القائم والقاعد والنائم وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي من الطيور الجنة فيقع في يده ملقيا نضجا وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة
وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللخم وأجيب بأن ذلك والله تعالى أعلم حالة الإجتماع والشرب ويفعلون ذلك للإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والإحترام وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتنائا بشأنه وإظهارا لمحبته والأحتفال به وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب متقلدا سيفا ورمحا أو من بابه المعروف وتقديم الفاكهة على اللخم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإن الفاكهة أميل منه إلى اللحم وجوز أن يكون ذلك لأن عادة هل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا أو أقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا
ويعلم من الوجه الأول وجه تخيص التخير بالفاكهة والأشتهاء باللحم وفيه إشارة إلى أن الفاكهة (27/137)
لم تزل حاضرة عندهم بمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه وقيل : وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التغعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وحور عين
22
- عطف على ولدان أو على الضمير المستكن في متكئين أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي هذا كل وحور أو مبتدأ حذف خبره أي لهم أو فيها حور وتعقب الوجه الأول بأن لا يناسب حالهن وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن وأن الطواف في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهن مقصورات فيها أو أن العطف على معنى لهم ولدان وحور والثاني بأنه خلاف الظاهر جدا والثالث بكثرة الحذف و عين جمع عيناء وأصله عين على فعل كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا وليس في كلام العرب ياءا ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة قبلها كسرة
وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة عن عاصم وحمزة والكسائي وحور عين بالجر وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياءا والضمة قبلها كسرة في حور فقال : وحير على الأتباع لعين وخرج على العطف على جنات النعيم وفيه مضاف محذوف كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الأستعارة المكنية وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة في فهي باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز وذهب إلى العطف المذكور الزمخشري وتعقبه أبو حيان فقال : فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض وهو فهم أعجمي وليس كما قال كما لا يخفى أو على أكواب ويجعل من باب متقلدا سفيا ورمحا كما سمعت آنفا فكأنه قيل : ينعمون بأكواب وبحور وجوز أن يبقي على ظاهره المعروف وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم وإلى هذا ذهب أبو عمر وقطرب وأبي ذلك صاحب الكشف فقال : أما العطف على الولدان على الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طواهم بالأكواب والقلب إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه وكون الجر للجوار يأباه الفصل أو يضعه وقرأ أبي وعبد الله وحورا عينا بالنصب وخرج على العطف على محل بأكواب لأن المعنى يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا كله وحورا وقرأ قتادة وحور بالرفع مضافا إلى عين وابن مقسم وحور بالنصب مضافا وعكرمة وحواء عيناء على التوحيد اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب كأمثال اللؤلؤ المكنون
23
- أي في الصفا وقيد بالمكنون أي المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير وفي الحديث صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ووصف الحسنات بذلك شائع في العرب ومنه قوله : قامت تراءى بين سجفي كلة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد (27/138)
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد والجار والمجرور في موضع الصفة لحور أو الحال والإتيان بالكاف للمبالغة في التشبيه ولعل الأمر عليه نحو يد قمر جزاء بما كانوا يعملون
24
- مفعول له لفعل محذوف أي يفعل بهم ذلك جزاءا بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء لا يسمعون فيها لغوا لا يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى الغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل قبيح لغوا ولا تأثيما
25
- أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم تفسيره بالكذب وأخرجه هناد عن الضحاك وهو من المجاز كما لا يخفى والكلام من باب
ولا ترى الضب ينجحر
إلا قليلا أي قولا مصدر مثله سلاما سلاما
26
- بدل من قيلا كقوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما وقال الزجاج : هو صفة بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله والمراد لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده والمعنى إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما وقيل : هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما والتكرير للدلالة على فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام والأستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن يكون من الضرب الأول منه وهو أن يستثنى منصفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا داخلا فيما قبل فيفيد التأكيد من وجهيم وأن يكون من الضرب الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لا يقدر ذلك ويجعل الأستثناء من أصله منقطعا فيفيد التأكيد من وجه ولولا ذكر التأثيم على ما قاله السعد جاز جعل الأسنثناء متصلا حقيقة لأن معنى السلام الدعاء وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام ولو لا ما فيه من فائدة الإكرام وإنما منع التأثيم الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بألستثناء المتصل من الأول مثل أن تقول : ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر الرجل وقريء سلام سلام بالرفع على الحكاية وقوله تعالى : وأصحاب اليمين الخ شروع في بيان تفاصيل شؤنهم بعد بيان تفاصيل شئون السابقين وأصحاب مبتدأ وقوله : ما أصحاب اليمين
27
- جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا : إما للمبتدأ وقوله سبحانه : في سد مخضود خبر ثان له أو لمبتدأ محذوف أي هم في سدر والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله عز و جل : ما أصحاب اليمين من علو الشأن وإما معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه : في سدر وجوز أن تكون الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين : أولئك المقربون في جنات النعيم أي وأصحاب اليمين المقول فيهم ما أصحاب اليمين كائنون في سدر الخ والظاهر أن التعبير بالميمنة فيما مر وباليمين هنا للتفنن وكذا يقال في المشأمة والشمال فيما بعد وقال الإمام : الحكمة في ذلك أن في الميمنة وكذا المشأمة (27/139)
دلالة على الموضع والمكان والأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم فلذا يؤت بذلك اللفظ ثانيا والسدر شجر النبق والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون إن الله تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال : وما هي قال : السدر فإن له شوكا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أليس الله يقول : في سدر مخضود خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك أنه الموقر حملا على أنه من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثني الأغصان كني به عن كثير الحمل
وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن أعظم من القلال والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والأنتفاع بما ذكر وطلح منضود قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر الموز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وأخرده جماعة من طرق عن ابن عباس رواه ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعبد بن حميد عن الحسن ومجاهد وقتادة وعن الحسن أنه قال : ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب وقال السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وقيل : هو شجر من عظام العضاه وقيل : شجر أم غيلان وله نوار كثير طيب الرائحة وظل ممدود ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وظاهر الآثار يقتضي أنه ظل الأشجار
أخرج أحمد والبخري ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم وظل ممدود
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عامة لا يقطعها وذلك الظل الممدود
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا وعن مجاهد أنه قال : هذا الظل من سدرها وطلحها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال : الظل الممدود مسيرة سبعين ألف سنة وماء مسكوب قال سفيان وغيره : جار من غير أخاديد وقيل : مناسب حيث شاءوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنواها أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال : كاننوا يعجبون بوج وظلاله من طلحه وسدره فأنزل الله تعالى : وأصحا اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود الخ وفي رواية عن الضحاك نظر السلمون إلى وج فأغجبهم سدره وقالوا : يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية (27/140)
وقيل : كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة فيها مياه وأشجار زظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي وذكر الإمام مدعيا أنه مما وفق قوله تعالى : في سدر مخضود وطلح منضود من باب قوله سبحانه : رب المشرق والمغرب لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والطلح يعني الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين فيراد جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا بأس به وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وطلع بالعين بدل وطلح بالحاء وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد قال : قرأت على علي كرم الله تعالى وجهه وطلح منضود فقال : ما بال الطلح أما تقرأ وطلع ثم قرأ قوله تعالى : لها طلع نضيد فقيل له : يا امير المؤمنين انكحها من المصحف فقال : لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما نبه ذلك الطيبي وكيف يقر أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس أو كيف يظن بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو عغلوا عنه هذا والله تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان عظيم
ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي : حمل في سدر مخضود الخ على معنى التضليل وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي لأن الفواكه مستغنى عنها بعد وليقابل قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم قوله سبحانه : وأصحاب اليمين الخ فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به لكن قال صاحب الكشف : إن وصف الطلح بكونه منضودا لا يظهر له كثير ملاءمة لكون المقصود منفعة التظليل وينبغي أن يحمل الطلح على أنه من عظام العضاه على ما ذكره في الصحاح فشجر أم غيلان والموز لا ظل لهما يعتد به ثم قال ولو حمل الطلح على المشموم لكان وجها انتهى وقد قدمنا لك خبر سبب النزول فلا تغفل وفاكهة كثيرة أي بحسب الأنواع والأجناس على ما يقتضيه المقام
لا مقطوعة في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا ولا ممنوعة عمن يريد تناولها بوجه من الوجوه ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وقريء وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة بالرفع في الجميع على تقدير وهناك فاكهة الخ وفرش جمع فراش كسراج وسرج وقرأ أبو حيوة بسكون الراء مرفوعة منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وجماعة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام ولا تستبعد ذلك من حيث العروج والنزول ونحوهما فالعالم عالم آخر وراء طور عقلك
وأخرج هناد عن الحسن أن ارتفاعهما مسيرة ثمانين سنة وليس بمثابة الخبر السابقق وقال بعضهم : أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأيا ما كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليه وقال أبو عبيدة المراد بها النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهن في الأقدار والمنازل
وقيل : على الأرائك وأريد إرادة النساء بقوله تعالى : إنا أنشأنهن إنشاء
35
- لأن الضمير في الأغلب (27/141)
يعود على مذكور متقدم وليس إلا الفرش ولا يناسب العود إليه إلا بهذا المعنى والأستخدام بعيد هنا وعلى القول في الفرش الضمير للنساء وإن لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها فهو تتميم بيانا لمقدر يدل على السياق كأنه قيل وفرش مرفوعة ونساء أو وحور عين ثم استؤنف وصفهن بقوله سبحانه : إنا انشأناهن تتميما للبيان زيادة للترغيب لا لتعليل الرفع وقيل : إن المرجع مضمر وتقدير المنزل وفرش مرفوعة لأزواجهم أو لنسائهم فإنا الخ استئناف علة للرفع أي وفرش مرفوعة لأزواجهم لأنا أنشأناهن والأول أوفق لبلاغة القرآن العظيم والمراد بأنشأناهن أعدنا إنشاءهن من غير ولادة لأن المخبر عنهن بذلك نساءكن في الدنيا
فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد والترمذي وآخرون عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في الآية إن المنشآت اللاتي كن في الدنيا عدائز عمشا رمصا وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وجماعة عن سلمة بن مثد الجعفي قال : سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاءا الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا وأخرج الترمذي في الشمائل وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال : أتت عجوز فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي قال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول : إنا أنشأناهن إنشاءا الخ وقال أبو حيان : الظاهر أن الإنشاء هو الأختراء الذي لم يسبق بخلق ويكون ذلك مخصوصا بالحور العين فالمعنى إنا ابتدأناهن ابتداءا جديدا من غير ولادة ولا خلق أول فجعلناهن أبكارا
36
- تفسير لما تقدم والجعل إما بمعنى التصيير و أبكارا مفعول ثان أو بمعنى الخلق و أبكارا حال أو مفعول ثان والكلام من قبيل ضيق فم الركبة وفي الحديث إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا أخرجه الطبراني في الصغير والبزاز عن أبي سعيد مرفوعا عربا متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر وروي هذا عن جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات ولا يخفى أن الغنج أسباب التحبب وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام وفي رواية عن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد هن العواشق لآزواجهن ومنه على ما قيل قول لبيد : وفي الخدور عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر وفي رواية أخرى عن مجاهد أنهن الغلمان اللاتي يشتهين أزواجهن وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا خير نسائكم العفيفة الغلمة وقال إسحاق بن عبد الله بن الحرث النوفلي : العروب الخفرة المبتذلة لزوجها وأنشد : يعرين عند بعولهن إذا خلو وإذا هم خرجوا فهن خفار ويرجع هذا إلى التحبب وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : عربا كلامهن عربي ولا أظن لهذه صحة والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر
وقرأ حمزة وجماعة منها عباس والأصمعي عن أبي عمرو وأخرى منها خارجة وكردم عن نافع وأخرى منها حماد وأبو بكر وأبان عن عاصم عربا بسكون الراء وهي لغة تميم وقال غير واحد : هي للتخفيف كما في عنق وعنق أترابا
37
- مستويات في سن واحد كما قال أنس وابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة (27/142)
وقتادة وغيرهم كأنهن شبهن في التساوي بالترائب التي هي صلوع الصدر أو كأنهن وقعن معا على التراب أي الأرض وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن
وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين والمراد بذلك كمال الشباب وقوله تعالى : لأصحاب اليمين
38
- متعلق بأنشأنا أو بجعلنا وقيل : متعلق بأترابا كقولك فلان ترب لفلان أي مساوله فهو محتاج إلى التأويل وتعقب بأنه مع هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر وقيل : بمحذوف هو صفة لأبكارا أي كائنات لأصحاب اليمين وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير لطول العهد أو للتأكسد والتحقيق وقوله تعالى : ثلة من الأولين
39
- وثلة من الآخرين
40
- خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة أو خبر ثان لهم المقدر مبتدأ مع في سدر أو لأصحاب اليمين في قوله تعالى : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين أو مبتدأ خبره محذوف أي منهم أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه وجعل اللام بمعنى من كان في قوله :
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
لا يخفى حاله والأولون والآخرون المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم هذا ولم يقل سبحانه في حق أصحاب اليمين جزاءا بما كانوا يعملون كما قاله عز و جل في حق السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره ثم الظاهر أن ما ذمر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة ولا يمكن أن يقال : إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل والله تعالى أعلم
والكلام في قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال
41
- في سموم على نمط ما سلف في نظيره والسموم قال الراغب : الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم وفي الكشاف حر نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى : وحميم
42
- وهو الماء الشديد الحرارة وظل من يحموم
43
- أي دخان أسود كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن زيد والجمهور وهي على وزن يفعول وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم وتسميته ظلا على التشبيه التهكمي وعن ابن عباس أيضا أنه سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم وقال ابن كسيان : هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود بهيم نعوذ بالله تعالى منها وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا : هو جبل في النار أسود يفزع أهل النار ذراه فيجدونه أشد شيء والجار والمجرور في موضع الصفة لظل وكذا قوله سبحانه : لا بارد ولا كريم
44
- صفتان له وتقديم الصفة الجار والمجرور المفردو كما صرح به الرضيوغيره أي لا بارد كسائر الظلال ولا نافع لمن يأوى إليه من أذى الحر وذلك كرمه فهناك استعارة ونفي ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الأسترواح إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى : من يحموم والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للأثبات ومن ذلك جاء التهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون (27/143)
أشجى لحلوقهم لتحسرهم وقيل : الكرم باعتبار أنه مرضي في بابه فالظل الكريم هو المرضي في برده وروحه وفيه أنه لا يلائم ما هنا لقوله تعالى : لا بارد وجوز أن يكون ذلك نفيا لكرامة من يستروح إليه ونسب إلى الظل مجازا والمراد أنهم يستظلون به وهم مهانون وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين ليحموم ويلزم منه وصف الظل بهما وتعقب وصف اليحموم وهو الدخان بذلك ليس فيه كبير فائدة وقرأ ابن أبي عبلة لا بارد ولا كريم برفعهما أي لا هو بارد ولا كريم على حد قوله
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي لا أنا حرج ولا محروم وقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين
45
- تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب وسلك هذا المسلك في تعليل الأبتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك بصنع ما يشاء لا يمنع والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز و جل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل وقيل : هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والإذعان له والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله عز و جل وما جاء منه سبحانه وقيل : هو الذي اترفته النعمة أي أبطرته وأطغته وقريب منه ما بل : هو المنعم المنهمك في الشهوات وعليه قول أبي السعود أي أنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل ولا يرد هذا على ما قدمناه من القوليه كما لا يحغى
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصي عن الأعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذمر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله وقيل : 0 المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة وهو ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه وكانوا يصرون يتشددون ويمتنعون من الإقلاع ويداومون على الحنث أي الذنب العظيم
46
- وفسر بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالة في وصفه بالعظيم كما وصف الطود وهو الجبل العظيم به أيضا والمراد به كما روي عن قتادة والضحاك وابن زيد وهو الظاهر
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى وكانوا يصرون على حنث عظيم وفي رواية عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الإطلاق وقال التاج السبكي في طبقاته : سألت الشيخ يعني والده تقي الدين ما الحنث العظيم فقال : هو القسم على إنكار المشار إليه بقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إلى آخره للزوم التكرار وأجيب بأن المراد بالأول (27/144)
وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالتالي وصفا بالأستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده والمراد بقولهم : كنا ترابا وعظاما كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا وبعضها عظاما نخرة وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث وإذا متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى : ءنا لمبعوثون
47
- لامبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله وهو نبعث وهو المرجع للأنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيه إليه منافيه له بالكلية وهذا كالستدلال على ما يزعمونه وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحاية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد وقوله سبحانه : أو آباؤنا الأولون
48
- عطف على محل إن واسمها أو على الضمير المستتر في مبعوثون للفصل بالهمزة وإن كانت حرفا واحدا كما قال الزمخشري ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها وقولهم : الحرف إذا كرر للتأكيد فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم أطراده لورود
ولا للماء بهم أبدا دواء
وأمثاله وجوز أن يكون آباؤنا مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه الطعف المذكور والمعنى أيبعث آباؤنا على زيادة الأستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وابطل وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل
قل ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق إن الأولين والآخرين
49
- من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم وتقديم الأولين المبالغة في الرد حيث إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي لمجموعون بعد البعث وقريء لمجمعون إلى ميقات يوم معلوم
50
- وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند الله عز و جل والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما وإضافته إلى يوم بيانية كما في خاتم فضة وكون يوم القيامة ميقاتا لأنه وقت به الدنيا و إلى للغاية والأنتهاء وقيل : والمعنى لمجموعون منتهين إلى ذلك اليوم وقيل : ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها ثم إنكم أيها الضالون عطف على إن الأولين داخل في حيز القول و ثم للتراخي الزماني أو الرتبي المكذبون
51
- بالبعث أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولا أوليا للسياقث على ما قيل والخطاب لأهل مكة وأضرابهم لأكلون بعد البعث والجمع ودخول جهنم من شجر من زقوم
52
- من الأولى لبتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدءون للأكل من شجر هو زقوم وجوز كون الأولى تبعيضية و من الثانية على حالها وجوز كون من زقوم بدلا من قوله تعالى : من شجر فمن تحتمل الوجهين وقيل : الأولى زائدة وقرأ عبد الله من شجرة فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى : فمالئون منها البطون
53
- أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما (27/145)
لا يؤكل وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه : فشاربوا عليه أي عقيب ذلك بلا ريث من الحميم
54
- أي الماء الحار في الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل وقال يعضهم : التأنيث أولا باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ فقيل عليه : إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المتعارف فلو أعيد الضمير المذكر على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى بحث ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول وقيل : هو مطلقا عائد على الأكل وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل
فشاربون شرب الهيم
55
- قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الأستسقاء يصيب الأبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال : جمل أهيم قال الشاعر : فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها وجعل بعضهم الهيم هنا الهيماء وقيل : هو جمع هائم أو هائمة وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ وعن ابن عباس أيضا وسفيان الهيم الرمان التي لا تروي من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خففت وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم الياء ويخف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه وقال ثعلب : هو بالضم كقرادة وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل : لأن الإفراط بعد الأصلي وقيل : لأن كلا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام يشرب غير الحميم والشرب الذي لا يحصل الري ناشيء عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية : إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم بالضم مصدر وقيل : اسم لما يشرب وقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما شرب بفتح الشين وهو مصدر شرب المقيس وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي هذا الذي من ألوان العذاب نزلهم يوم الدين
56
- يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى ونظير ذلك قوله : وكنا إذ الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول : وقوله تعالى : (27/146)
نحن خلقناكم فلو لا تصدقون
57
- تلوين للخطاب وتوجيه إلى الكفر بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة نحن خلقناكم ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبيء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك وقيل : المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم أئنا لمبعوثون فيكون الكلام إشارة إلى الإستدلال بالأبداء على الإعادة فإن من قدر عليها حتما والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء الله تعالى أفرأيتم ما تمنون أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ ابن عباس وأبو الثمال تمنون بفتح التاء من مني النطقة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة ءأنتم تخلقونه أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام الخلقة فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو تجوزا وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي أأنتم تخلقونه وتنشئون نفس ذات ما تمنونه أم نحن الخالقون
59
- له من غير دخل شيء فيه وأرأيتم قد مر الكلام غير مرة فيه ويقال هنا : إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الأستفهامية مفعوله الثاني وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الأستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب وجوز في أنتم أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير واختاره أبو حيان و أم قيل : منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الأستفهام للتقرير وقال قوم من النحاة : متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل : أأنتم تخلقونه أم نحن ثم جيء بالخالقون بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة نحن قدرنا بينكم الموت قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة وقرأ ابن كثير قدرنا بالتخفيف وما نحن بمسبوقين
60
- أي لا يغلبنا أحد على أن نبدل أمثالكم أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز على الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل على لازمه والظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلى والجملة في موضع الحال من ضمير قدرنا وكأن المراد قدرنا ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم
وننشئكم في ما لا تعلمون
61
- من الخلق والأطوار التي لا تعدونها وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها وقيل : المعنى وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا وقيل : المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوثت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه وقوله تعالى : على أن نبدل الخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين (27/147)
أو عازمين على تبديل أمثالكم والجملة السابقة على حالها وقال الطبري : على أن نبدل متعلق بقدرنا وعلة له وجملة وما نحن بمسبوقين اعتراض والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن ولقد علمتم النشأة الأولى من خلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وقال قتادة : هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده فلو لا تذكرون
62
- فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثاق وهذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل : لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذي بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة يسعى لدار الغرور
وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف أفرأيتم ما تحرثون
63
- ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه ءأنتم تزرعونه تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية أم نحن الزارعون
64
- أي المنبتون لا أنتم والكلام في أنتم و أم كما مر آنفا وأخرج البزاز وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه وابن حبان كما قال الخفاجي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى يقول : أفرأيتم ما تحدثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة و السلام أخذ النهي من هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع وقال القرطبي : إنه يستحب للزراع أن يقول بعد الأستعارة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزراع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين قيل : وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع وإنتاجه لو نشاء لجعلناه حطاما هشيما متكسرا لشدة يبسه بعدما أنبتناه وصار بحيث طعمتم في حيازة غلاله فظلمتم بسبب ذلك تفكهون
65
- تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقال الحسن : تندمون أي على ما تبعتم فيه وأنفقتم عليه من غير حصول نفع أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي وقال عكرمة : تلاومون على ما فعلتم وألأالتفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كني به في الآية عن التعجب أو الندم أو التلاوم على اختلاف التفاسير وفي البحر كل ذلك تفسير باللازم ومعنى تفكهون تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية العتكي عنه فظلتم بكسر الظاء كما قالوا : مست بالكسر ومست بالفتح وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش وقرأ عبد الله والجحدري فظللتم بلامين أولاهما مكسورة وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر وقرأ أبو حزام تفكنون بالنون بدل الهاء قال ابن خالويه : تفكه بالهاء تعجب وتفكن بالنون تندم إنا لمغرمون
66
- أي معذبون (27/148)
مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر : إن يعذب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي والمراد مهلكون بهلاك رزقنا وقيل : بالمعاصي أو ملزمون غرامة بنقص رزقنا وقرأ الأعمش والجحدري وأبو بكر أئنا بالأستفهام والتحقيق والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين أو تقولون ذلك بل نحن محرومون
67
- محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق كأنهم لما قالوا إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا : بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا أو لما قالوا : إنا ملزومون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا : بل نحن محرومون الرزق بالكلية أفرءيتم الماء الذي تشربون
68
- عذبا فراتا وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشراب أهم المقاصد المنوطة به ءأنتم أنزلتموه من المزن أي السحاب واحدته مزنة قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها وقيل : هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب أم نحن المنزلون
69
- له بقدرتنا
لو نشاء جعلناه أجاجا ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار وقيل : الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار فإما أن يراد ذلك أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو ههنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى جاز حذف لم أر في قول أوس : حتى إذا الكلاب قال لها كاليوم مطلوبا ولا طلبا والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره وان الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا ولم أره أتى بما يشرح الصدر وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر : إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى
فلو لا تشكرون
70
- تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال : الحمد لله الذي سقانا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا أفرءيتم النار التي تورون
71
- أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ءأنتم أشأتم شجرتها التي منها الزناد وهي المرخ والعفار وقيل : (27/149)
المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل : نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة
أم نحن المنشئون
72
- لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبيء عن بديع الصنع النعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل في كل شجر نار واستمجد المرخ والغفار كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى : ثم أنشأناه خلقا آخر لذلك نحن جعلناها تذكرة استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أعدوا به أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة صلى الله تعالى عليه وسلم ناركم هذه توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في ألول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك وقيل : تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج من النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده وقيل : تبصرة في الظلام يبصر بضوئها وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة ومتاعا ومنفعة للمقوين
73
- للذين ينزلون القواء وهي الفقر من أقوى دخل كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطربين إلى الأقتداح بالزناد
وقيل : للمقوين أي المسافرين ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون الفقراء والمفاوز وقيل : للمقوين الفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلحون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في الفقر الفقر فقيل : أقوى فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل وقال ابن زيد : للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا على ما قيل لأن غيرهم ينتعم بها متاعا وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسد خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ وقال عكرمة ومجاهد : الموقين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز قال العلامة الطيبي والطبرسي : وعلى هذا القول المقوى من الأضداد يقال للفقير : مقو لخلوه من المال وللغني مقوه لقوته على ما يريد يقال : أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى
وفيه بحث لا يخفى ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالأقواء الأحتياج والمستمتع محتاج إليها فتدبر وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النر لأن الأحتياج إليه أشد وأكثر والأنتفاع به أعم وأوفر وقال بعضهم : قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد ثم ذكر بعده ما به قوام الأنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغنى عند الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى واستحسن بعضهم من القاريء أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة : بل أنت يا رب فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن حجر المروي (27/150)
قال : بت عند علي كرم الله تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين السماء فسبح باسم ربك العظيم
74
- مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز و جل وودائع نعمه سبحانه وتعالى والمراد على ما قيل : أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة و السلام غير معرض عنه وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث فالمراد تجديد التسبيح وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك أو الاسم مجاز عن الذكرفإن إطلاق الأسم للشيء ذكره والباء للإستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء والعظيم صفة للأسم أو للرب وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عز و جل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو للمنعم في الحقيقة أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها وسبحان للتعجب مجازا مشهور فسبح بمعنى تعجب وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر
هذا وجوز أن لا يكون في باسم ربك إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى : كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز و جل بالطريق الأولى وعلى طريق الكناية الرمزية وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء وجعلها زائدة خلاف الظاهر وحال كونها للتعدية قد سمعته وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغو معين فقال : إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في الاسم والذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه : فسبح باسم ربك على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو المتبادر المعروف
وفي الكشف إن المراد بذلك تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لاثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد : فلا أقسم وعلى الأول لا بد من إضمار أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به فأقسم أنه لقرآن والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح وأنا أقول يتأتى الأنطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس يقال : تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز و جل قال سبحانه : فسبح باسم ربك أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه وأقبل على إنذارهم بالقرآن الأحتجاج عليهم بعد الأحتجاج بما ذكرنا فأقسم أنه لقرآن كيت وكيت (27/151)
فلا في قوله عز و جل : فلا أقسم مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله
أعوذ بالله من العقراب
واختاره أبو حيان ثمقال : هو وإن كان قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام
ويؤيد قراءة الحسن وعيسى فلا قسم وهو مبني على ما ذهب إليه تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال : والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر
ليعلم ربي أن بيتي واسع
وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للأستقبال وهو خلاف المراد والذي اختاره ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الأستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل : لأقسمن وحذفها ضعيف جدا ومن هنا خرجوا قراءة الحسن وعيسى على أن اللام لام الأبتداء والمبتدأ محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم وقيل : نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الأشباع وتعقب بأن المبتدأ إذا دخل عليه لام الأبتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الأعتناء به وحذفه يدل على خلافه وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة : لا نفي ورد لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل : فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل : أقسم الخ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم لا وخبرها في غير جواب سؤال نحو لا في جواب هل من رجل في الدار وقيل : الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واتئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو لا وأطال الله تعالى بقاءك وقال : بعضهم إن لا كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الأستفتاح كما في قوله : لا وأبيك ابنة العامري لا يدعى القوم إني أفر وقال أبو مسلم وجمع : إن الكلام على ظاهره المتبادر منه والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا يحتاج إلى قسم ما فضلا عن أن هذا القسم العظيم فقول مفتي الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخير ناشيء عن الغفلة على ما لا يخفى على ظن بمواقع النجوم
75
- أي بمساقط كواكب السماء ومغاربها كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر دائم رلا يتغير ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا أو لأن ذلك وقت المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى وأول نزول الرحمة والرضوان عليهم
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الإنكدار يوم القيامة قيل : وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز و جل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث وعن أبي جعفر وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الأنقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين وقد مر لك تحقيق أمر هذا الأنقضاض فلا تغفل وقيل : مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية (27/152)
أنهم يمطرون بها ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء الله تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال : على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى من الدليل عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان وقال جماعة منهم ابن عباس : النجوم نجوى القرآن ومواقعها أوقات نزولها
وأخرج النسائي وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أن قال : أنزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق السنين وفي لفظ ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أسم بمواقع النجوم وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد : إنه لقرآن يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعد كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى ولعل الكلام من باب
وثناياك إنها إغريض
وقرأ ابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي بموقع مفردا مرادا به الجمع
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
76
- مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى : إنه لقسم عظيم معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه : إنه لقرآن كريم
77
- وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له وقوله عز و جل لو تعلمون معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب لو إما متروك أريد به نفي علمهم أو حذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه ووجه كون ذلك القسم عظيما قد أشير إليه فيما مر أو هو ظاهر بناءا على أن المراد بمواقع النجوم ما روي عن ابن عباس والجماعة ومعنى كون القرآن كريما أنه حسن مرضي في جنسه كمن الكتب أو نفاع جم المنافع وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد والكرم على هذا مستعار كما قال الطيبي من الكرم المعروف
وقيل : الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والأتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه حقيقة وجوز أن يراد كريم على الله تعالى قيل : وهو يرجع لما تقدم وفيه تقدير من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل : إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الأخبار عنه بأنه تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا أنه أنشأه كما زعمه الكفار وقوله تعالى : في كتاب مكنون
78
- وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره وقيل : أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه إذ ذاك مصاحف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال : في كتاب أي التوراة والإنجيل وحكى ذلك في البحر ثم قال : كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه فالمعنى على الأستشهاد بالكتب المنزلة انتهى
والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل وجوز إرادة هذا المعنى المجازي (27/153)
على غير هذا القول من الأقوال وقيل : الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى
وقيل : المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى : وإنا له لحافظون والمعول عليه ما تقدم وجوز تعلق الجار بكريم كما يقال زيد كريم في نفسه والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كرينا عند الكفار والوصفية أبلغ كما لا يخفى وقوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون
79
- إما صفة بعد صفة لكتاب مرادا به اللوح فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن مدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية وقيل : عن كدر الأجسام ودنس الهيلولي والطهارة عليهما طهارة معنوية ونفي مسه كناية عن لازمه وهو نفي الأطلاع عليه وعلى ما فيه وإما صفة أخرى لقرآن
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه الحديث وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل لا ناهية وثانيها أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل وثالثها أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس ورابعها أن عبد الله قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروي من عدة طرق عن ابن عباس وكذا أخرجه جماعة عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في لا يمسه مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال : في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس وأخرجاهما وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال : في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال : قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية لا يمسه إلا المطهرون أنها بمنزلة الآية التي في عبس كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروي عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام وعطاء وطاوس وسالم
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان يعني الفارسي رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن فقال : سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا لا يمسه إلا المطهرون وقيل : الجملة صفة لقرآن والمراد بالمطهرون المطهرون من الكفر والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى : إنا لمسنا السماء أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر ولم أر هذا عن أحد من السلف والنفي عليه على ظاهره ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون وإن كان في تعظيمه وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب وفيه نظر وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر
وفي الأحكام للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في (27/154)
اختيار ذلك والأحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس وقتادة عدل الأكثرون عن الأستدلال بها على ذلك إلى الأستدلال بالأخبار فقد أخرج الإمام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمرو بن حزم ولا تمس القرآن إلا على طهور
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يمس القرآن إلا طاهر إلى غير ذلك وقال بعضهم : يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الأحتمالين الآخرين أيضا وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما والمس بغير طهرمخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله من راجعه نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الأعتناء بشأنه ولا ينحصر الأعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه
وقيل : حرام كالمس باليد المتنجسة وكون القراءة في مكان نظيف والقاريء مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه والأستياك لقراءته والترتيل والتدبر والبكاء أو التباكي وتحسين الصوت بالقراءة ولا يتخذه معيشة وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه فقد أخرج أبو داود وغيره عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آيو أوتيها رجل ثم نسيها وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل : بكفر من يفعل ذلك إلى أمور أخر مذكورة في محالها وفي وجوب كون القاريء طاهرا من الأحداث خلاف فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن وروي ذلك أيضا عن الإمام أبي حنيفة وعن عمر أحب إلى أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر
وقرأ عيسى المطهرون اسم مفعول مخففا من أطهر ورويت عن نافع وأبي عمرو وقرأ سلمان الفتارسي رضي الله تعالى عنه المطهرون بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي المطهرون أنفسهم أو غيرهم بالأستغفار لهم والإلهام وعنه أيضا المطهرون بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء ورويت عن الحسن وعبد الله بن عون وقريء المتطهرون على الأصل تنزيل من رب العالمين
80
- صفة أخرى للقرآن أي منزل أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل
وجوز كونه خبر محذوف أي هو تنزيل على الأستئناف وقريء تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا أفبهذا الحديث أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم أنتم مدهنون
81
- متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به وأصل الأدهان كما قيل : جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينا محسوسا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية ولذا تجوز به هنا التهاون أيضا لأن المتهاون بالأمر (27/155)
لا يتصلب فيه وعن ابن عباس والزجاج مدهنون أي مكذبون وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أوللى والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه : وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل : أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جازمون وعلى الإصرار عليه عازمون ولا يخفى بعده وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى وتجعلون رزقكم شكركم أنكم تكذبون
82
- تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي وحسنه والضياء في المختارة وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إما إشارة منه عليه الصلاة و السلام إلى أن في الكلام مضافا مقدرا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان بمعنى شكره ونقل عن الكرماني أنه نقل في شرح البخاري أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله ما حكاه الهيثم وفي البحر وغيره أن عليا كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قرأ شكركم بدل رزقكم وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ علي كرم الله تعالى وجهه الواقعة في الفجر فقال : وتجعلون شكركم أنكم تكذبون فلما انصرف قال : إني قد عرفت أنه سيقول قائل لم قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا : أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى وتجعلون شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب
تحية بينهم ضرب وجيع
ومنه قول الراجز : وكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقء الأعين وأكثر الروايات أن قوله تعالى : وتجعلون الخ نزل في القائلين : مطرنا بنوء كذا من غير تعريض لما قبل
وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي عليه الصلاة و السلام : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا : هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج ابن حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلى الله عليه و سلم أن لا يحملوا من مائمة شيئا ثم ارتحلوا ونلوا منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام عليه الصلاة و السلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتم بالنفاق إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء بل قال ابن عطية : أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجودها جل جلاله (27/156)
وقد صح ذكره مع الإيمان أخرج البخاري وسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما أقبل علينا فقال : هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : قال : ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي والآية على القول بنزولها في قائلي ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر وقيل : تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة
هذا وقيل : معنى الآية وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب
وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسابقه وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به ألسنة المقبولة وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه وذلك بأن يقال : إنه عز و جل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه : تنزيل من رب العالمين فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناءا على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز و جل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا : أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع اقتضاه الحال من التكذيب بالقثرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيا به لا ينتطح فيه كبشان وهذا لا تمحل فيه وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون تكذبون على معنى تكذبون بكونه أي المطر من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أنتم مدهنون أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم تجعلون موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من تكذبون أو من قوله سبحانه : أنتم مدهنون لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم وحال عطف تجعلون رزقكم أنكم تكذبون على ما قبله لا يخفى على نبيه فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم (27/157)
وقرأ المفضل عن عاصم تكذبون بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه وحاشاه افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر : إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه وقوله تعالى : فلو لا إذا بلغت الحلقوم
83
- الخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى : نحن خلقناكم الخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت مبلكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم ولو لا للتخصيص بإظهار عجزهم و إذا ظرفية و الحلقوم مجرى الطعام وضمير بلغت للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى : يسألونك عن الروج قل الروح من أمر ربي جسم لطيف جدا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل : المراد ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل : فلو لا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن وأنتم أيها الخاسرون حول صاحبها حينئذ أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها تنظرون
84
- إلى ما يقاسيه من الغمرات وقيل : تنظرون حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك
وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ ونحن أقرب إليه أي المحتضر المفهوم من الكلام منكم والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للإطلاع والعلم وقال غير واحد : المراد القرب علما وقدره أي نحن أقرب إليه في كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا عن كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المتسولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت ولكن لا تبصرون
85
- لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلهم بشؤننا وقد علمت أن الخطاب للكفار وقيل : لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الأستدراك من تنظرون والأبصار من البصر بالعين تجوز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب وقيل : أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز و جل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلو لا إن كنتم غير مدينين أي غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم ومنه قيل للعبد : مدين وللأمة مدينة قال الأخطل : ربت وربا في حجرها ابن مدينة تراه على مسحاته يتركل والكلام ناظر إلى قوله تعالى : نحن خلقناكم فلو لا تصدقون وقيل : هو من دان بمعنى انقاد وخضع وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم كما تدين تدان أي فلو لا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرا لإنكارهم البعث وليس بشيء ترجعونها أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي ترجعون تعلقها كما كان أولا (27/158)
إن كنتم صادقين 87
في اعتقادكم عن خالقيته تعالى فإن عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على مذهبهم وفي البحر وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبديء المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء دونه عز و جل وترجعون المذكور هو العامل بإذا الظرفية في إذا بلغت الحلقوم وهو المحضض عليه بلو لا الأولى و لو لا الثانية تكرير للتأكيد و لو لا الأولى مع ما في حيزها دليل جواب الشرط الأول أعني إن كنتم غير مدينين والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له وقدم أحد الشرطين على ترجعونها للأهتمام والتقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الأعتقاد الباطل فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم وحاصل المعنى أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة وقوله تعالى : وأنتم حينئذ تنظرون جملة حالية من فاعل بلغت والأسمية المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذ لأن التنوين عوض عن جملة أي فلو لا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك وقوله سبحانه : ونحن أقرب الخ اعتراض يؤكد ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم سبحانه منهم وفي جواز جعله حالا مقال
وقال أبو البقاء : ترجعونها جواب لولا الأولى وأغنى ذلك عن جواب الثانية وقيل : عكس ذلك
وقيل : إن كنتم شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدما في التقدير أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان وما ذكرناه سابقا اختيار جار الله وأيا ما كان فقوله تعالى : فأما إن كان من المقربين
88
- إلى آخره شروع في بيان حال المتوفي بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة وضمير كان للمتوفي مما مر أي إن كان المتوفي الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم فروح أي فله روح على أنه مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه لأنه نكرة وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه روح أي استراحة والفاء واقعة في جواب أما قال بعض الأجلة : تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح الخ إن كان من المقربين فحذف مهما يكن من شيء وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء أما فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه : إن كان من المقربين لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول والفاء في فروح وأخويه جواب أما دون إن وقال أبو البقاء : جواب أما فروح وأما إن فاستغنى بجواب أما عن جوابها لأنه يحذف كثيرا وفي البحر أنه إذا اجتمع شرطان فالجواب للسابق منهما وجواب الثاني محذوف فالجواب ههنا لأما وهذا مذهب سيبويه
وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب إن وجواب أما محذوف وله قول آخر موافق لمذهب سيبويه
وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معا وقد أبطلنا المذهبين في شرح التسهيل انتهى والمشهور أنه لا بد من لصوق الأسم لأما وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية والذاهبون إلى الأول قالوا : هي بتقدير فأما المتوفي إن كان وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا إطراد الحكم ثم إن كون أما قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا يطرد في نحو أما قريشا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشا (27/159)
فأنا أفضلها وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وآخرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ فروح بضم الراء وبه قرأ ابن عباس وقتادة ونوح القاري والضحاك والأشهب وشعيب وسليمان التيمي والربيع بن خثيم ومحمد بن علي وأبو عمران الجوني والكلبي وفياض وعبيد وعبد الوارث عن أبي عمرو ويعقوب ابن حسان وزيد ورويس عنه والحسن وقال : الروح الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم أو بسبب لحياته الدائمة فإطلاقه عليها من باب الأستعارة أو المجاز المرسل وروي هذا عن قتادة أيضا وقال ابن جني : معنى هذه القراءة يرجع إلى الروح فكأنه قيل : فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول : الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش وفسر بعضهم الروح بالفتح بالرحمة أيضا كما في قوله تعالى : ولا تيأسوا من روح الله وقيل : هو بالضم البقاء وريحان أي ورزق كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك في رواية أخرى عن الضحاك أنه الأستراحة وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال : هو هذا الريحان أي المعروف
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة ثم قرأ فأما إن كان الخ
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة فيشمهما ثم يقبض وجنت نعيم
89
- أي ذات تنعم فالإضافة لامية أو لأدنى ملابسة وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه أن يكونوا أصحاب نعيم
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان : هذا له عند الموت وفي قوله تعالى : وجنة نعيم تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا وعن بعض السلف ما يقتضي أن يكون الكل في الآخرة
وأمآ إن كان من أصحاب اليمين
90
- عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبيء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين وقوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين
91
- قيل : هو على تقدير القول أي فيقال لذلك المتوفي منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع تقدير القول من للأبتداء كما تقول سلام من فلان على فلان وسلام لفلان منه
وقال الطبري : معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين فمن أصحاب اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام بتقدير القول أيضا وكأن هذا التفسير مأخوذ من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك : تأتيه الملائكة من قبل الله تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت وأنه على المعنى السابق في الجنة
وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم وهذا كما تقول لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ البال من ولدك فإنه في راحة ودعة والخطاب لمن يصلح له أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه قيل : يجوز أن يكون (27/160)
ذلك تسلية له عليه الصلاة و السلام على معنى أنهم غير محتاجين إلى شفاعة وغيرها ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح الآيات أنهم كفال وما لهم من ولي ولا شفيع يطاع وكونهم من أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسما على حدة قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف
وأما إن كان من المعذبين الضآلين
92
- وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ذما لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب هنا على عكس ما تقدم ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلى الله عليه و سلم في دعوى الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة و السلام بأن يشافه بكل جملة منه من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة و السلام المشعر بسبب الأبتلاء بالعذاب كرامة له صلى الله عليه و سلم وتنويها بعلو شأنه ولما كان الكلام السابق داخلا في حيز القول المأمور عليه الصلاة و السلام بأن يشافه به أولئك الكفرة لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذ من باب مادح نفسه يقرئك السلام ويجوز أن يقال أيضا إن الكلام في حال الكافر المحتضر والتكذيب لكونه مقابل التصديق إلا بالقلب وهو لم يتعطل منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدن هنا ويرشد إلى هذا ما قالوه في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء والإيمان بالإماتة
وقال الإمام في ذلك : إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل الله تعالى ولم يصلوا إليه ثم كذبوا رسله وقالوا أئذا متنا الخ فكذبوا بالحشر فقال تعالى : أيها الضالون الذين أشركتم المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون وأما هنا فقال سبحانه لهم : أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هناك مع الكفار فقال سبحانه : أيها الذين أشركتم أولا وكذبتم ثانيا والخطاب هنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يبين له عليه الصلاة و السلام حال الأزواج الثلاثة كما يدل عليه فسلام لك فقال سبحانه : المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلامة وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى وعليه بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال وقوله تعالى : فنزل بتقدير فله نزل أو فجزاؤه نزل كائن من حميم قيل : يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل وتصلية جحيم
94
- أي إدخال في النار وقيل : إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة وقيل : هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : لا يخرج (27/161)
الكافر حتى يشرب كأسا من حميم وقرأ أحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو وتصلية بالجر عطفا على حميم إن هذا أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لو حق اليقين
95
- اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى لهو عين اليقين فهو على محو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم وقال بعض آخر : إنها بيانية على معنى من وقدر بعضهم هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه وفي البحر قيل : إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر والفاء في قوله تعالى : فسبح باسم ربك العظيم
96
- لترتيب التسبيح أو الأمر به فإن حقيقة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسبح باسم ربك العظيم قال : اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال : اجعلوها في سجودكم
ومما قاله السادة أرباب الإشارة متعلقا ببعض هذه السورة الكريمة أن الواقعة اسم لقيامة الروح كما أن الآزفة اسم لقيامة الخفى و الحاقة اسم لقيامة السر و الساعة اسم لقيامة القلب وقالوا : إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوي قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك فليس لوقعتها كاذبة بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ثم أنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس وقالوا في مواقع النجوم : إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية وقيل : في قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات وهو الحدث الأصغر ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات وهو الحدث الأكبر أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي لمن لم يكن طاههر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة وقيل : أيضا يجوز أن يقال المعنى (27/162)
لا يصل إلى أدنى حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات
وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب الكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام وكان المعنى لا يطلع عليه إلى الملائكة عليهم السلام كان في ذلك رد على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه وقال لهم : إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ
وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير وبكل من ذلك نطقت الآثار وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح ومع هذا كله من ادعى وقوع الأطلاع فعليه البيان وأني به وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وأما إذا قيل فيه غير ذلك أنجر البحث إلى وراء ما سمعت واتسعت الدائرة
ومن ذلك قولهم : إن الألواح أربعة لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول ولوح القدر أي لوح النفس النطاقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقدراه وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ولوح الهيولي القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله : وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكرامتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك وطرق اطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإرادته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع وورود ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين والله تعالى أعلم
وقال في قوله تعالى : ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان وقيل : مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار وقيل : طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا استقر وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين وقيل : علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الأخلاص فيها وحق اليقين المشاهدة فيها وقيل : وقيل : ونحن نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل (27/163)
سورة الحديد
أخرج جماعة عن ابن عبس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجمع المفسرين ولم يسلم له فقد قال قوم : إنها مكية نعم الجمهور كما قال ابن الفرس على ذلك
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ويشهد لها ما أخرجه البزاز في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فأسلم ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا ويسن أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلا أربع سنين وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف وهي تسع وعشرون آية في العراقي وثمان وعشرون في غيره ووجه اتصالها بالواقعة أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمرية وكان أولها واقعا موقع العلة للأمرية فكأنه قيل : سبح باسم ربك العظيم لأنه سبح له ما في السماوات والأرض وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات والأرض التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما وحيث أسند ههنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها قال الجمهور : المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص وذهب بعض إلى أن التسبيح حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل وقد صرح به جمع الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قلي وإن تفاوت الأمر وقيل : معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى (27/164)
عموم المجاز وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها في قول الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد سبحان ما سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى والظاهر أنها في الوجهين موصولة وقال بعضهم : إنها نكرة موصوفة وأن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت صفتها مقامها ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى
وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى : وتسبحوه للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له وقيل : للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه وفيه شيء لا يخفى وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجير أه وديدنه و أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الأستمرار إلى زمان الأخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضى للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غب تسبيح وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك وقيل : الإيذان والدلالة على الأستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل على الأستمرار إلى زمان الأخبار والمضارع على الأستمرار في الحال والأستقبال فشملا معا جميع الأزمنة وقال الطيبي : افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب عن جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وإن من شيء إلا يسبح بحمده وهو العزيز القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء الحكيم
1
- الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم وكذا قوله تعالى : له ملك السماوات والأرض أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات وقوله سبحانه : يحيي ويميت أي يفعل الأحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال وقوله تعالى : وهو على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة قدير
2
- مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله هو الأول السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات والآخر الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية
ومن هنا قال ابن سينا : الممكن في حد ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض (27/165)
الموجودات الممكنة لا تفي كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حد ذاتها أمر لا ينفك عنها و وقد يقال : فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير وقيل : هو الأول الذي تبتدي منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها والآخر الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى إليه المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة وقيل : الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل : ما رأيت إلا رأيت الله تعالى بعده وقال حجة الإسلام الغزالي : إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولا وآخرا جميعا بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود لاحظت سلسلة الموجودات المترتبة فالله تعالى بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود منه سبحانه وأما هو عز و جل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو ةخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخرا انتهى
والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم
والظاهر أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر والباطن بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول وقال حجة الإسلام : هذان الوصفان من المضافان فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالأستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري ثم قال : إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال : إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا (27/166)
وأبدا وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى وهو حسن فلا تغفل
وعليه فالتذليل بقوله تعالى : وهو بكل شيء عليم
3
- لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه وجل كما في الشاهد وقال الأزهري : قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العالم لما ظهر وبطن وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى : لا شرقية ولا غربية أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قولهم ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة لكن قيل : في الآثار ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر
أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها : قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أقض عنا الدين وأغننا من الفقر وقال الطيبي : المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والإستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه يلتجيء إليه ملتجيء وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك وأيضا في دلالة الباطن على ما قال : خفاء جدا على أنه للو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فإن الخبر صحيح وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجه ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلى الله عليه و سلم من أسائه تعالى غير ما في الآية ويحتمل أنه عليه الصلاة و السلام أراد بقوله : فليس دونك شيء ليس أقرب منك شيء ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال : بلغنا في قوله تعالى : هو الأول الخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عره والذي يترجح عندي ما ذكر أولا وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه : هو الأول الخ لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر أو ظاهر أو باطن فإذا كان الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن لا غيره كان كل ما يتصور موجودا هو سبحانه لا غيره وأيدوه بما في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله قال أبو هريرة ثم قرأ النبي صلى الله عليه و سلم هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه وقد قال الترمذي : فسر أهل العلم (27/167)
الحديث فقالوا : أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة و السلام على ما قبله وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك : وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول الآية
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش بيان لبعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره ومرارا يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها مر بيانه في سور سبأ وهو معكم أين ما كنتم تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا وقيل : المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة وقد أول السلف هذه الآية بذلك أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم
وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال : علمه معكم وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا تؤول إلا ما أوله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أولوا أولنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأوسيل غيره وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى : ثم استوى على العرش ويسخرون من القرآن الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق
والله بما تعملون بصير
4
- عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم وقيل : إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز و جل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه وقوله تعالى : له ملك السماوات والأرض تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة : وإلى الله ترجع الأمور
5
- أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج ترجع مبنيا للفاعل من رجع رجوعا وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل مر تفسيره مرارا وقوله تعالى : وهو عليم أي مبالغ في العلم بذات الصدور
6
- أي بمكنوناتها (27/168)
اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها وجوز أن يراد بذات الصدور نفسها وحقيقتها على الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه أي حعلكم سبحانه خلفاء عنه عز و جل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الأنفاق أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم وفيه أيضا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه أنه لا يدوم لغيره فيسهل إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان وفي الحديث يقول ابن آدم : ما لي ما لي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى : له ملك السماوات والأرض وعليه ما حكى أنه قيل لأعرابي : لمن هذه الإبل فقال : هي لله تعالى عندي ويميل إليه قول القائل : وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل فالذين آمنوا منكم وأنفقوا حسبما أمروا به لهم بسبب ذلك أجر كبير
7
- وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة إسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا وأعيد ذكر الإيمان والأنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير ووصف بالكبير وقوله عز و جل : وما لكم لا تؤمنون بالله استئناف قيل : مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الأستقرار أي أي شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط ونظيره قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد يتوجه الإنكار والنفي مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى : وما لي لا أعبد الخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه وقوله تعالى : والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم حال من ضمير لا تؤمنون مفيدة على ما قيل : لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه ولام لتؤمنوا صلة يدعو وهو يتعدى بها وبإلى أي وأي عذر في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه وجوز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه : وقد أخذ ميثاقكم حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير تؤمنون والتخالف بالإسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية (27/169)
والتمكين من النظير فقوله تعالى : والرسول يدعوكم إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي
وقال البغوي : هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا وعليه لا مجاز والأول اختيار الزمخشري وتعقبه ابن المنير فقال : لا عليه أن يحمل على العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع ووجب الإيمان به وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفي أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا لألزامهم الإيمان به وقال الطيبي : يمكن أن يقال إن الضمير في أخذ إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي الخ لأن المعنى فإما يأتينكم مني هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم ويدل على الأول قوله سبحانه : والرسول يدعوكم لتؤمنوا وعلى الثاني هو الذي ينزل على عبده آيات الخ وإن كان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد ولعل الميثاق ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت با يعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى
ويضعف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه
والخطاب قال صاحب الكشف : عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعد الإنفاق في سبيله
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه وما لكم لا تؤمنون الخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه : إن آمنوا كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزمن استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه ما فيه ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده : أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل وقريء وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله وقرأ أبو عمرو وقد أخذ ميثاقكم بالبناء للمفعول ورفع ميثاقكم إن كنتم مؤمنين
8
- شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه وقال الواحدي : أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان بأن وظهر لكم على يدي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى : وما لكم لا تؤمنون وقال الطبري (27/170)
في ذلك : المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن وقيل : المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة و السلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن وقيل المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة والكل كما ترى
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي وقال في هذا الشرط : يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل على ما بعد هو الذي ينزل على عبده حسبما يعن لكم من المصالح آيات بينات واضحات والظاهر أن المراد بها آيات القرآن وقيل : المعجزات ليخرجكم أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وقريء في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف
وقرأ الحسن بالوجهين وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا وإن الله بكم لرؤف رحيم
9
- مبالغ الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه وقريء في السبعة لرؤوف بواوين وقوله عز و جل : وما لكم ألا تنفقوا توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار و أن مصدرية لا زائدة كما قيل واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر فالمصدر المؤل في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى : في سبيل الله لتشديد التوبيخ والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الإستعارة التصريحية أي أب شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز و جل من المصارف أو ما انتقل إليكم من غيركم وسبنتقل منكم إلى الغير ولله ميراث السماوات والأرض أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقي لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف
وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز و جل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل : وما لكم في ترك إنفاقها في سبيل الله تعالى والحال أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز و جل وإظهار الأسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة وقوله تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل (27/171)
وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الإنفاق أصلا وقسيم من أنفق محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد وهو المشهور فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاءا وقال الشعبي : هو فتح الحديبية وقد مروجه تسميته فتحا في سورة الفتح وفي بعض الآثار ما يدل عليه
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاءا ابن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة و السلام : يوشك أن يأتي يوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا : من هم يا رسول الله أقريش قال : لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله قال : لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن فصل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح الآية
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما قبل بغير من أولئك إشارة لى من أنفق والجمع بالنظر إلى معنى من كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم ومحله الرفع على الإبتداء والخبر قوله تعالى : أعظم درجة أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا
من الذين أنفقوا من بعد بعد الفتح وقاتلوا وذهب بعضهم إلى أن فاعل لا يستوي ضمير يعود على الإنفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده و من أنفق مبتدأ وجملة أولئك أعظم خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والإنفاق بعده وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكأن ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند الله وأعظم رغبة فيه ولا كذلك الذين أنفقوا بعد وكلا أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط وعد الله الحسنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة وقيل : أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا وقرأ ابن عامر وعبد الوارث وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله : وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدأ وقالوا : لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوبون بهذه القراءة وقول بعضهم : فيها إن كل خبر مبتدأ تقديره وأولئك كل وجملة وعد الله صفة كل تأويل ركيك وفيه زيادة حذف على أن بعض النحاة منع وصف كل بالجملة لأنه معرفة بتقدير وكلهم وقال الشهاب : الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر (27/172)
في غي كل وما ضاهاها في الأفتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه إجماع وهو محل نزاع
والله بما تعملون خبير
10
- عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناءا على الخلاف السابق والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم فلذلك قال : أولئك ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك نعم هو أكمل الإراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ما له وبذل نفسه معه عليه الصلاة و السلام ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس أحد أمن على بصحبته من أبي بكر وذلك يكفي لنزولها فيه وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه قال الطيبي : الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ أحدهم ولا نصيفه وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا الآية وإلا فقد قيل : إن الخطاب يقتضي الحظور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة
وأقول شاع الأستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناءا على ما قالوا : إن إضافة الجمع تفيد الأستغراق وعليه صاحب الكشف واستشكل أمر الخطاب وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حد خطاب الله تعالى الأزلي لكن في بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة
أخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن ابن عوف : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل قال الجلال المحلي : كون الخطاب في لا تسبوا للصحابة السابين وقال : نزلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر وقوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالإستفهام ليس على حقيقته بل للحث والقرض الحسن الإنفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات أن يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء وأن يكون المرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى : وأن يكتم ذلك وأن لا يتبعه بالمن (27/173)
والأذى وأن يقصد به وجه الله تعالى وأن يستحقر ما يعطي و إن كثر وأن يكون من أحب أمواله إليه وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحملة إلى بيته ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر
وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ما له في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه فيضاعفه له فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله
وله أجر كريم
11
- أي وذلك الأجر المضموم إليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حالية لا عطف على فيضاعفه وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الأضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر ونصب بضاعفه على جواب الأستفهام بحسب المعنى كأنه قيل : أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك : من جاءك اليوم إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغةفي الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مستقبل وعلى هذا يؤل كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع وقرأ غير واحد فيضاعفه بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقوع وهو إما عطف على يقرض أو على فهو يضاعفه وقريء فيضعفه بالرفع والنصب يوم نرى المؤمنين والمؤمنات ظرف لما تعلق به أوله أو لقوله تعالى : فيضاعفه أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله عز و جل : يسعى نورهم حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار وإليه ذهب الجمهور والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا
بين أيديهم وبأيمانهم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط وقال بعضهم : يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم وفي البحر الظاهر أن النور قسمان : نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها ونور بأيمانهم يضيء ما خواليهم من الجهات وقال الجمهور : إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك وقيل : الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم وذكر الأيمان لشرفها انتهى ويشهد لهذا المعنى (27/174)
ما أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي من خلفي وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل : يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك قال : غر محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم الخبر وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو في العموم وكذا ما أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز و جل إلى الجنة ولا ينافي هذا كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى وكذا إيتاء الكتب بالإيمان ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى
ويمكن أن يقال : إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الأمتياز وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها وقيل : أريد بالنور القرآن وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة وبإيمانهم بكسر الهمزة وخرج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني بين أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك العتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى : بشريكم اليوم جنات أي بسبب إيمانهم يقال لهم ذلك وجملة القول إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم والقائل الملائكة الذين يتلقونهم
والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات وما قيل : البشارة لا تكون بالأعياء فيه نظر وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عن عين الدخول وجملة قوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار في موضع الصفة لجنات وقوله سبحانه : خالدين فيها حال من جنات قال أبو حيان : وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في بشراكم إلى ضمير الغائب في خالدين ولو أجري على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها : ذلك هو الفوز العظيم
12
- يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات ويحتمل أن يكون الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل وقريء ذلك الفوز بدون هو (27/175)
يوم يقول المنافقون والمنافقات بدل من يوم ترى وجوز أن يكون معمولا لا ذكر
وقال ابن عطية : يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل : إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضادة أبدع وأفخم وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقديره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو وصفه وهو العظيم لجاز أي الفوز الذي عظم أي قدره يوم انتهى وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر للذين آمنوا انظرونا أي انتظرونا نقتبس من نوركم نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به
وقيل : فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتي ذلك فقالوه وأصل الأقتباس طلب القبس أي الجذرة من النار وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس الخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على حذف ذلك خلاف الظاهر وقولهم : للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها وروي أنه يكون ذلك على الصراط
وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه عباده وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم وقال المؤمنون : أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا
وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة ييجمع الله تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتي الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله تعالى نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم اللمؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون : أنظرونا نقتبس من نوركم الخبر والأخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه
وقرأ زيد بن علي وأبو وثاب والأعمش وطلحة وحمزة أنظرونا بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الإمهال يقال أنظر المديون أي أمهله وضع أنظرونا بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الإستعارة بعد سبق تشبيه الحالة مبالغة في العجز وإظهار الأفتقار وقيل : هو من أنظر أي أخر والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم
وقال المهدوي : أنظرونا وأنظرونا وهما من الإنتظار تقول العرب : أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى أمهلونا قيل القائلون على ما روي عن ابن عباس المؤمنون وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم السلام
ارجعوا وراءكم قال ابن عباس : أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة فالتمسوا نورا هناك قال مقاتل : هذا من الأستهزاء بهم كما استهزءوا بالمؤمنين (27/176)
في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين وذلك قوله تعالى : الله يستهزيء بهم أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا وقال أبو أمامة : يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه : يخادعون الله وهو خادعهم وقيل : المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الأقتباس منه والغوض التهكم والأستهزاء أيضا
وقيل : أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لا رجعوا
وقيل : لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل : ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع مكانا أوسع لك فضرب بينهم أي بين الفريقين وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير فضرب مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عز و جل بسور أي بحاجز قال ابن زيد : هو الأعراف وقال غير واحد : حاجز غيره والباء مزيدة له باب باطنه أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة فيه الرحمة الثواب والنعيم الذي لا يكتنه وظاهره الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار من قبله أي من جهته العذاب
13
- وهذا السور قيل : يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس
أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال : وقد تلا قوله تعالى : فضرب بينهم بسور هذا موضع السور عند وادي جهنم وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن فضرب بينهم بسور هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمو المسجد وظاهره من قبله العذاب يعني وادي جهنم وما يليه
وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل : ما يبكيك فقال : ههنا أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله فإن صح الخبر لم يسعنا الإيمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال : ولعله لا يصح عنهم ينادونهم استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب فقيل : ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات ألم نكن في الدنيا معكم يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر قالوا بلى كنتم معنا كما تقولون ولكنكم فتنتم أنفسكم محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وتربصتم بالمؤمنين الدوائر وأبصرتم وشككتم في أمور الدين وغرتكم الأماني الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام (27/177)
وقال ابن عباس : فتنتم أنفسكم بالشهوات واللذات وتربصتم بالتوبة وارتبتم قال محبوب الليئي : شككتم في الله وغرتكم الأماني طول الآمال وقال أبو سنان : قلتم سيغفر لنا حتى جاء أمر الله أي الموت وغركم بالله الغرور الشيطان قال لكم : إن الله عفو كريم لا يعذبكم
وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله تعالى في النار
وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم قال ابن جني : وهو كقوله : وغركم بالله تعالى الأغترار وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله تعالى سلامة الأغترار ومعناه سلامتكم منه اغتراركم
فاليوم لا يؤخذ منكم أيها المنافقون فدية فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا وفيه حجة على من منع ذلك وقرأ أبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ بالتاء الفوقية ولا من الذين كفروا أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين ثم الظاهر إن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد وفي الحديث إن الله تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار فيقول : نعم يا رب فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك مأواكم النار محل أويكم هو مولاكم أي ناصركم من باب تحية بينهم ضرب وجيع والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب ونحوه قولهم : أصيب بكذا فاستنصر الجزع ومنه قوله تعالى : يغاثوا بماء كالمهل وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة : أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد : فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف قال الزمخشري : وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل : هو مئنة للكرام أي مكان لقول القائل : إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من أن التحقيقية وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال : هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعلى مولاه على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال : أحد معاني المولى الأولى
وحمله في الخبر عليه لأنه إرادة غيره يجعل الأخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق (27/178)
فهو لا يرد الأستدلال إذ يكفي للمرتضي أن يقول : المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما ففي رده الأستدلال أيضا تردد وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو وهو لم يبينه والحق أنه لو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الأستدلال بالخبر على الأمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم الله تعالى وجهه لما بين في موضعه وفي التحفة الأنثى عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق
وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام : إن المولى بمعنى موضع الولي وهنو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه وأنت تعلم أن الأخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه ورضوانه على التهكم بهم وقيل : أي متوليكم أي المتصرفة فيكم كمتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للأحراق والتعذيب وقيل : مشاكلة تقديرية وبئس المصير
15
- أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر عن الأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت ألم يأن الآية
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : ألم يأن الآية وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن
وأخرج عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكمم وقد نزل في ضحككم آية ألم يأن للذين الخ قالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك قال : تبكون بقدر ما ضحكتم وفي خبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة و السلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث و يأن مضارع أني الأمر أنيا وأناءا وإناءا بالكسر إذا جاء أناه أي وقته أي ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز و جل
وقرأ الحسن وأبو السمال ألما بالهمزة ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع (27/179)
وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق وقال أبو العباس : قال قوم : إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وما نزل من الحق أي القرآن وهو عطف على ما ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو
هو الملك القرم وابن الهمام
فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى وقال الطيبي : يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الخق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو للقرآن انتهى ولا يخفى بعد ذلك جدا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن ولما يخس مما بعد من نوع تأييد له وفسر الخشوع للقرآن بالأنقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور والظاهر أنه اعتبر كون صلة الخشوع وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعون إلى الطاعة على أكمل وجوهها وفي الآية حض على الخشوع وكأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال : بلى يا رب بلى يا رب وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرءون من القرآن أقل مما تقرؤن فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق وروي السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت : ما هذا فقالوا : كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت : ما هي فقيل : قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول : أما آن للهجران أن يتصرما وللغصن غصن البان أن يتبسما وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتابا حكى نقش الوشي المنمنما ثم قال : إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاءا شديدا فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه : أقيلوني فلست بخيركم وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهر وردي قدس سره : معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغر به حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين : إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه وقرأ غير واحد (27/180)
من السبعة وما نزل بالتشديد والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه نزل مبنيا للمفعول مشددا وعبد الله أنزل بهمزة النقل مبنيا للفاعل
ولا يكونوا كالذين أوتواالكتاب من قبل لا نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو المعنى نهي أيضا وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوبي وحمزة في رواية عن سليم عنه ولا تكونوا بالتاء الفوقية على سبيل الألتفات للأعتناء بالتحذير وفي لا ما تقدم والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة
فطال عليهم الأمد أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم وقيل : أمد انتظار القيامة والجزاء وقيل : أمد انتظار الفتح وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية وقرأ ابن كثير في رواية الأمد بتشديد الدال أي الوقت الأطول فقست قلوبهم صلبت فهي كالحجارة أو أشد قسوة وكثير منهم فاسقون
16
- خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى وعن عيسى عليه السلام لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسوا قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز و جل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز و جل : إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لأحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قد بينا لكم الآيات التي من جملتها هذه الآيات لعلكم تعقلون
17
- كي تعقلوا ما فيهاوتعلموا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين
إن المصدقين والمصدقات أي المتصدقين والمتصدقات وقد قرأ أبي كذلك وقرأ ابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز و جل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى : وأقرضوا الله قرضا حسنا وقيل : الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصدق وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته وعطف أقرضوا على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل : إن الذين أصدقوا أو صدقوا على القراءتين وأقرضوا (27/181)
وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة صلة بأجنبي وهو المصدقات وذلك لا يجوز وقال صاحب التقريب : هو محمول على المعنى كأنه قيل : إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل : إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة وفيه بعد ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر ومن هنا قيل : إنه قريب ولا يبعد تنزيل ما تقدم عن أبي علي والزمخشري عليه وقيل : العطف على صلة أل في المصدقات واختلاف الضمائر أنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذين عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى ومثله ما قيل : هو من باب كل رجل وضيعته إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة أو يقدر خبر أي إن المصدقين والمصدقات يفلحون وأقرضوا في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاعف بعد صفة قرضاأو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين واختر أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل : والذين أقرضوا فيكون مثل قوله : فمن يهجر رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه قال : وأقرب منه أن يقال : إن المصدقات منصوب على التخصيص كأنه قيل : إن المتصدقين عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول : إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا
ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالىأقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل ثم قال : ولما لم يكن األأقراض غير ذلك التصدق قيل : وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه ولو قيل : والمقرضين لفاتت النكتة انتهى
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر وأما ما ذكره في نكتة العدول على المقروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي والزمخشري وعلى تخريج أبي حيان وقال الخفاجي : القول أي قول أبي البقاء بأن أقرضوا الخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر يضاعف لهم الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا والجار والمجرور نائب الفاعل وقيل : هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وقريء بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز و جل لهم ثواب ذلك ولهم أجر كريم
18
- قد مر الكلام فيه
والذين آمنوا بالله ورسله قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى : أولئك مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا وقوله سبحانه : (27/182)
هم مبتدأ ثالث وقوله عز و جل : الصديقون والشهداء خبر الثالث والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني وقوله تعالى : عند ربهم متعلق على ما قيل : بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز و جل وفي حكمه سبحانه هم الصديقون والشهداء
والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله تعالى شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة وقيل : لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده وقيل : لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة وقيل : غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمنى مفعول على اختلاف التأويل وقوله عالى : لهم أجرهم ونورهم خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر أو لهم الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير لهم للموصول والضميران الأخيران للصديقين والشهداء والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الأتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل : أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور والموعودان لهم وقال بعضهم : وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس فعند ربهم متعلق بالشهداء والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز و جل أو نحو ذلك ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن مؤمنين أمتي شهداء ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده : كلكم صديق وشهيد قيل له : ما تقول يا أبا هريرة قال : اقرءوا والذين آمنوا بالله ورسله الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية وأخرج عبد بن حميد ونحوه عن عمرو بن ميمون وأخرج ابن حبان عن عمرو ابن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا قال : من الصديقين والشهداء وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كمال في ذلك يعتد به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتد بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا (27/183)
ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه مالكم إذا رأيتم الله تعالى عنه مالكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه قالوا : نخاف لسانه قال : ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء وقال ابن الأثير : أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جلة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبيائها وكذا بقوله عليه الصلاة و السلام : اللعانون لا يكونون شهداء بناءا على أحد القولين فيه
وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية والذين آمنوا بالله ورسله أولئك الصديقون والشهداء ثم قال هذه فيهم ثم قال : الفرارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابم مريم في درجته في الجنة ويجوز أن يراد من قوله : هذه فيهم أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا ويقال : في قوله عليه الصلاة و السلام : مع عيسى في درجته المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى وقيل : الشهداء مبتدأ و عند ربهم خبره وقيل : الخبر لهم أجرهم والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى : الصديقون وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون هذه مفصولة سماهم صديقين ثم قال : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم
وروي جماعة عن مسروق ما يوافقه واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل : الشهداء في سبيل الله تعالى
وحكى ذلك عن مقاتل بن سليمان وقيل : الأنبياء عليهم السلام يشهدون للأمم عليهم وحكى ذلك عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم أولئك الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أصحاب الجحيم
19
- بحيث لا يفارقونها أبدا واعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد بعدما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني وأشير إلى أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الأطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب ولهو تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه وزينة لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وتفاخر بالأنساب والعظام البالية وتكاثر بالعدد والعدد وقرأ السلمي وتفاخر بينكم بالإضافة ثم أشير إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال وشيكة الأضمحلال بقوله سبحانه : كمثل غيث مطر أعجب الكفار أي راقهم نباته أي النبات الحاصل به والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون (27/184)
البذور في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز و جل فأعجب بها ولذا قال أبو نواس في النرجس : عيون من لجين شاخصات على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا قم يهيج يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له وقيل : أي يجف بعد خضرته ونضارته فتراه يا من تصح منه الرؤية مصفرا بعد ما رأيته ناضرا مونقا وقريء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل : إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب على رؤيته كذلك وقيل : للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ثم يكون حطاما هشيما متكسرا من اليبس ومحل الكاف قيل : النصب على الحالية من الضمير في لعب لأنه في معنى الوصف وقيل : الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل الخ ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى وضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا : وفي الآخرة عذاب شديد لأنه من نتائج الأنهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا ومغفرة عظيمة من الله ورضوان عظيم لا يقادر قدره وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب لن يغلب عسر يسرين
وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
20
- لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها وروي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة سابقوا إلى مغفرة أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة من ربكم والكلام على الأستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر وقيل : المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر وقيل : سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغرووه وخداعه عن ذلك وهو كما ترى
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : كن أول داخل المسجد وآخر خارج وقال عبد الله : كونوا في أول صف القتال وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أي كعرضهما لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا (27/185)
كان العرض وهو أقصر الأمتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالأقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه وقيل : المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الأبعاد وتقدم قول آخر تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية
أعدت للذين آمنوا بالله ورسله أي هيئت لهم واستدل بذلك على أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى : أعدت بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدى بالباء غير مسلم كذا قالوا ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الإيمان يعتد بها وقيل : بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الأستدلال الثاني في الجنة كما لا يخفى وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا بسابقوا وفي آية آل عمران بسارعوا وبالسماء هنا وبالسماوات هناك وبكعرض هنا وبعرض بدون أداة تشبيه ثم كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون وبالذين آمنوا هنا هم دون أولئك حالا فتأمل ذلك أي الذي وعد من المغفرة والجنة فضل الله عطاؤه والغير الواجب عليه يؤتيه من يشاء إيتاءه والله ذو الفضل العظيم فلا يبعد منه عز و جل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها
مآ أصاب من مصيبة أي نائبة أي نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها
وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر و من مزيدة للتأكيد وأصاب جاء في الشر كما هنا وفي الخير كقوله تعالى : ولئن أصابكم فضل من الله وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصواب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم وكلاهما يرجعان إلى أصل العموم وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه وعليه قوله تعالى : ما تسبق من أمة أجلها والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أي مصيبة في الأرض كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها ولا في أنفسكم كمرض وآفة كالجرح والكسر إلا في كتاب أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ وقيل : في علم الله عز و جل
من قبل أن نبرأها أي نخلقها والضمير على ما روي عن أبن عباس وقتادة والحسن وجماعة للأنفس وقيل : للأرض واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذظر وقال جماعة يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر وقيل : المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة قيل : وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية واللوح متناه وهو لا يكون (27/186)
ظرفا لغير المتناهي ولذا جاء جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وفي الآية تخصيص ىخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب وفي أهلها بل لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه وقيل : بأن كناية الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناءا على ما يقولون : إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماك الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه إن الأوفق بما تقدم من شرح الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر لكان تاما مطلقا إن ذلك أي إثباتها في كتاب على الله لا غيره سبحانه يسير
22
- لا ستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة وإن أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز و جل وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية وجاء ذلك في خبر مرفوع أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسده شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب مصيبة الآية
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا : إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة الدار فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول ولكن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة الآية لكيلا تأسوا أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا ولا تفرحوا بما آتاكم أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن كل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة لا يعم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأولإلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز و جل كما حقق في موضعه وعليه قول الشاعر : فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرج على الباقي وسائله لم بقى ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله أوتيتم مبنيا للمفعول أي أعطيتم وقرأأبو عمرو أتاكم من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغي الملهي عن الشكر وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الأستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والأعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه في الآية : ليس إلا هو وهو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا وقوله تعالى : (27/187)
والله لا يحب كل مختال فخور
23
- تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والأختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالماء والجاه
وذكر بعضهم أن الأختيار في الفعل والفخر فيه وفي غيره والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز و جل وأولا بالإثابة والتعذيب ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله : إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن إن هذا الحكم أكثري لا كلي وقوله تعالى : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل بدل من كل مختال بدل كل من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا وبأمر غيره بذلك والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة وقيل : كانوا قدرة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين الخ أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الأنفاق الغني عنه الله عز و جل ويدل عليه قوله تعالى : ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد
24
- فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فأن الله سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الأعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله وقيل : تقديره مستغني عنهم أو موعودون بالعذاب أو مذمومون وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت لكل مختال فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء وقال ابن عطية : جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الأشعار بالتهديد لمن تولى وقرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني بإسقاط هو وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل قال أبو علي : ولا يحسن أنيكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم لقد أرسلنا رسلنا أي من بني آدم كما هو الظاهر بالبينات أي الحجج والمعجزات وأنزلنا معهم الكتاب أي جنس الكتاب الشامل للكل والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان وقيل : مقارنة بتنزيل الأتصال منزلة المقارنة والميزان الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره وإنزاله إنزال أسبابه ولو بعيدة وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته
ليقوم الناس بالقسط علة لأنزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان في أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي من الأتصاف به معاشا ومعادا
وأنزلنا الحديد
قال الحسن : أي خلقناه كقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وهو تفسير بلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه
وقال قطرب : هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف فيه بأس أي عذاب شديد لأن آلات الحرب تتخذ منه وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس وقوله تعالى : ومنافع للناس أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا (27/188)
والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش ومن يقوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع وليتم القيام بالقسط كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده والجملة الظرفية موضع الحال وقوله سبحانه : وليعلم الله من ينصره ورسله عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للأشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذ المعطوف وأقيم متعلقه مقامه وقوله تعالى : بالغيب حال من فاعل ينصر أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه وقوله عز و جل : إن الله قوي عزيز
25
- اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر إلى الثواب فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام وفسر البينات كما فسرنا بناءا على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الأقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاههر وإنزال الميزان بيمعنى الآلة عنده على حقيقته قال : روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال : مر قومك يزنوا به وفسره كثير بالعدل وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان وروي أنه نزل ومعه المر والمسحاة وقيل : نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والأبرة والمطرقة والميقعة وفسرت بالمسن وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها وقيل : ما تحد به الرحى وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالياسنة وهي آلات الصناع وقيل : سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم
واستظهر أبو حيان كون ليقوم الناس بالقسط علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى وقوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا وتكرير القسم لإظهار مزيد الأعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم
وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم وفي مصحف عبد الله والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو فمنهم أي من الذرية وقيل : أي من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين مهتد وكثير منهم فاسقون
26
- خارجون عن الطريق المستقيم ولم يقل ومنهم ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه ومعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم ثم قفينا على آثارهم برسلنا أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل (27/189)
الشيء خلف القفا وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما وقيل : لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحافإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه وقيل : للذرية وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وقفينا بعيسى ابن مريم جعلناه بعد
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة و السلام وآتيناه الإنجيل بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصةصلبه المفتراة وقرأ الحسن الأنجيل بفتح الهمزة قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له قال الزمخشري : وأمره أهون من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه وجعلنا في قلوب الذين اتبعون رأفة ورحمة أي خلقنا أو صيرنا ففي قلوب في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رحماء بينهم والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل : إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشرب ورأب الصدع وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقريء رآفة على فعالة كشجاعة ورهبانية منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية
ابتدعوها فهو من باب الأشتغال واعترض بأنه يشترط فيه كما قال ابن الشجري وأبو حيان أن يكون الأسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الأبتداء ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الأسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم : شر أهر ذا ناب
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قيل وجملة ابتدعوها في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف وقال : الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والأنقطاع عن الناس وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف من رهب كخشيان من خشي وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءا على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره وفائدة في قلوب على هذا التصوير على ما قيل ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الأنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا (27/190)
التأويل أو أعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن ويراد في ابتدعوها وما بعده وليس الداعي للتأويل الأعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل
وقريء رهبانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب : يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال : إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطي حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال وقوله تعالى :
ما كتبناها عليهم
جملة مستأنفة وقوله سبحانه : إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزمواأنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى وقوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث أن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز و جل
واستدلبذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه وجوز أن يكون قوله تعالى : ما كتبناها الخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لأنفسه كما في الوجه الأول وقوله سبحانه : إلا ابتغاء الخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ابتدعوها و ما كتبناها عليهم الخ حيث أن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء الخ ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال : الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولا ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والداريات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم يعني الآية والظاهر أن ضمير فما رعوها لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن الأبتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في بنو تميم قتلوا زيدا والقاتل بعضهم
وقال الضحاك وغيره : الضمير في فما رعوها للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة و السلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم (27/191)
إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أجرهم أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة و السلام وليس بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر ويجوز أن يقال : إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة و السلام قال الزجاج : قوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها على ضربين : أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم والآخر وهو الأجود أن يكونوا حيث بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية ودليل ذلك قوله تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم الخ انتهى فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة و السلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى : وكثير منهم فاسقون
27
- على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم ومقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالأتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام
وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلهم على دين الله وعيسى ابن مريم وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي وصدقوني وكثير منهم فاسقون الذين حجدوا بي وكفروا وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية على ذم البدعة مطلقا والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وةبناء المدارس والربط وغير ذلك ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك والحرام والمكروه ظاهران فعلم أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كل بدعة ضلالة من العام المخصوص
وقال صاحب جامع الأصول : الأبتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء (27/192)
وفعل المعروف ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح : نعمت البدعة هذه يأيها الذين آمنوا استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا : إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا : يا رسول الله إنا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله سبحانه : أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يءمن بكتابكم فله كأجوركم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا الآية أي أي رادا عليهم قولهم : ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم
وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان اتقوا الله اثبتوا على تقواه عز و جل فيما نهاكم عنه
وآمنوا برسوله واثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة و السلام يؤتكم بسبب ذلك
كفلين من رحمته قال أبو موسى الأشعري : ضعفين بلسان الحبشة وقال غير واحد : نصيبين والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل : يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقون بين أحد من رسله
وقال الراغب : الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ولا دلالة على التخصيص
ويجعل لكم نورا تمشون به يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويغفر لكم ما سلف منكم والله غفور رحيم
28
- أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله قيل : متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا الخ وقيل : متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و لا مزيدة مثلها في قوله تعالى : ما منعك أن لا تسجد ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و أن مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي أنهم وقيل : ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا يظلون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة و السلام فقولهم : من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل (27/193)
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : لما نزلت أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا فخر مؤمنوا أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوال : لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة و السلام فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا الخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب وقال الثعلبي : فأنزل الله تعالى يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه : لئلا يعلم الخ وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا أملاك فضله عز و جل فيزوره على المؤمنين ويستبدوا به دونهم وقوله تعالى : وأن الفضل بيد الله عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم وقوله سبحانه : يؤتيه من يشاء خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل : حال لازمة أو استئناف وقوله عز و جل : والله ذو الفضل العظيم
29
- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله
وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن يؤمن منهم بعد : فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أي اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الإيمان به عليه الصلاة و السلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلى الله عليه و سلم وأيد ذلك بما في صحيح البخاري من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى ولذا قيل : الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليهم الإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابواعلى العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام
وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فأن الأيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا وقيل : إن لا في لأن لا يعلم غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه أو أنهم أي النبي عليه الصلاة و السلام والمؤمنون لا يقدرون الخ على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه : وأن الفضل الخ معطوفا على أن لا يعلم داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل : فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناءا على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين وقرأ خطاب بن عبد الله لأن لا يعلم بالإظهار وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم وقرأ الجحدري أيضا وليعلم على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياءا (27/194)
لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة وروي ابن مجاهد عن الحسن ليلا مثل ليلى اسم المرأة يعلم بالرفع ووجه بأن أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة وعليه قوله : أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار للا فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام المدغمة ياءا نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث أن الأصل قراط ودنار فأبدلوا أحد المثلين فيهما ياءا للتخفيف فصار ليلا ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع وروي قطرب عن الحسن أيضا ليلا بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر وعن ابن عباس كي يعلم وعنه أيضا لكيلا يعلم وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة لكي يعلم
وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع والله تعالى أعلم
ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها هو الأول والآخر والظاهر والباطن قالوا : هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل وقالوا في قوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز و جل وقوله تعالى : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإضافة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات
وقال سبحانه : اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الأشتغال بمداواة القلب الميت فما رعوها حق رعايتها أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات ويرجع ما قالوه فيها على ما قيل إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية ويجعل لكم نورا من نور ذاته عز و جل وهو على ما قيل : إشارة إلى البقاء بعد الفناء وقيل : هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : هو نور النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز و جل : تمشون به وفي بعض الآثار من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم وقال سبحانه : اتقوا الله ويعلمكم الله وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز و جل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم
تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون ويليه الجزء 28 (27/195)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف وتسمى سورة قد سمع وسميت في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه الظهار وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى مدنية قال الكلبي : وابن السائب : إلا قوله تعالى : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وعن عطاء : العشر الأول منها مدني باقيها مكي وقد انعكس ذلك على البيضاوي وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير واثنتان وعشرون في الباقي وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد
ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل الله تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك وقال بعض الأجلة ذلك : لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة ومنها الظاهر والباطن وقال سبحانه : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجه والبخاري تعليقا حين نزلت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى قد سمع الخ وذكر سبحانه بعد ذلك ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية وهي تفصيل لأجمال قوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الأفتتاح بسبح إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأهل
بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله بإظهار الدال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن بادعائها في السين قال خلف بن هشام البزاز : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليبس بعربي ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان قول التي تجد لك في زوجها أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظاهر وقريء تحاورك والمعنى على ما تقدم وتحاورك أي تسائلك وتشتكي إلى الله عطف على تجادلك فلا محل للجملة من الأعراب وجوز كونها حالا أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى وفيه بعد معنى ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون إسمية واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما أنطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز و جل وهو من الشكو وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها (28/2)
فقيل : خولة بنت ثعلبة بن مالك وقيل : بنت خويلد وقيل : بنت حكيم وقيل : بنت الصامت وقيل : خويلة بالتصغير بنت ثعلبة وقيل : بنتمالك بن ثعلبة وقيل : جميلة بن الصامت وقيل : غير ذلك والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وقيل : هو سلمة بن حجر الأنصاري والحق لهذا قصة أخرى والآية نزلت في خولة وزوجها أوس وذلك أن زوجها أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه وكان هذا أول ظهار في الأسلام فندم من ساعته فدعاها فأبت وقالت : والذي نفس خولة بيده لاتصل إلى وفد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فينا و فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها فقال عليه الصلاة و السلام : والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن وفي رواية ما أراك إلا قد حرمت عليه قالت : ما ذكر طلاقا وجادلت رسول الله عليه الصلاة و السلام مرارا ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه وفي رواية قالت : أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : يا خولة أبشري قالت : خيرا فقرأ عليه الصلاة و السلام عليها قد سمع الله الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول : قد سمع الله تعالى لها
وروي ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال : ويحك أتدري من هذه قال : لا قال : هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة والله لو لم تنصرف حتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها وفي رواية للبخاري في تاريخه أنها قالت له : قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول فقال رجل : يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه : وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل قد سمع الله الآيات والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقةالسببية أو كناية عن ذلك و قد للتحقيق أوللتوقع وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محققأو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول والمراد توقع المخاطب ذلك وقد كان صلى الله عليه و سلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة وفرج عن المجادلة كربها وفي الأخبار ما يشعر بذلك والسمع في قوله تعالى : والله يسمع تحاوركما على ما هو المعروف فيه من كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم أوكونه راجعا إلى صفة العلم والتحاور المرادة في الكلام وجوز أن يراد به الكلام المردد ويقال : كلمته فما رجع إلى حوارا وحويرا ومحورة أي ما رد علي بشيء وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين والجملة استئناف (28/3)
جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحاقها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة و السلام إياها علمه عز و جل بحاملها من دواعي الأجابة وقيل : هي حال كالجملة السابقة وفيه أيضا بعد وقوله تعالى : إن الله سميع بصير
1
- تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله من قضية ذلك أن يسمع سبحانه تجاورهما ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع والأسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الأسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين وقوله عز و جل : الذين يظهرون منكم من نسآئهم شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكاؤها بطريق الأستئناف
والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الضهر ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض فيقال : ظاهر زيد عمرا أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه وإن لم يقابل حقيقة بإعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال : قوي ظهره غذا نصره وظاهربين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب وظاهر من امرأته إذا قال لها : أنت علي كظهر أمي وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا وهو لا يمنع الأشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات
وعرفه الحنفية شرعا بأنه تشبيه المنكوحة أو عضوا منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه
وحكى عن الشافعية أنه تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة أو عضو منه لا يذكر للكرامة كالد والصدر وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الظهار هو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقا في الجاهلية قيل : وأول الأسلام
وحكى بعضهم أنه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه وقيل : لم يكن طلاقا من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقا مؤكدا باليمين على الأجتناب ولذا قال الشافعية : إن فيه الشائبتين وسيأتي إن شاء الله تعالى الأشارة إلى حكمه الشرعي وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقا وهو مبعد والظهر في قولهم : أنت علي كظهر أمي قيل : مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن فكظهر أمي أي كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو المصارف عن الحقيقة من النكات وقيل : خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج ومنثم سمي المركوب ظهرا وقيل : خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراما فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ وإقحام منكم في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكي عن المالكية ومن هنا قال الشافعية : يصح من الذمي والحربي لعموم الآية وكذا الحنابلة والحنفية (28/4)
يقولون : لا يصح منهما وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي والرواية المعول عليها عدم الصحة لأنه ليس من أهل الكفارة وشنع الشافعية في قولهم بصحته منه اشتراطهم النية في الكفارة والإيمان في الرقبة وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن وقال بعض أجلتهم إن الكفار شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالأعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه عبادة بدنية ولا ينتقل عنه للأطعام لقدرته عليه بالأسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضا ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه أو يقول : لمسلم أعتق قنك عن كفارتي فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسر منع منالوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى
وفي كتب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإيرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم وقرأ الحرميان وأبو عمرو يظهرون بشد الظاء والهاء والأخوان وابن عامر يظاهرون مضارع لظاهر وأبى يتظاهرون مضارع تظاهر وعنه أيضا يتظهرون مضارع تظهر والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون وأقيم دليله وهو قوله تعالى : ما هن أمهاتهم مقامهأو هو الخبر نفسه أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت
وقرأ المفضل عن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة تميم وقرأ ابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء قال الزمخشري : في لغة من ينصب أي بما الخبر وهم الحجازيون يعني أنهم الذين يزيدون الباء دون التميميين وقدم تبع في ذلك أبا علي الفارسي ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي : لعمرك ما معن بتارك حقه ولا منسيء معن ولا متيسر إن أمهاتهم أي ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدتهم فلا يشبه بهن في الحزمة إلا من ألحقها الله تعالىبهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات وأما الزوجات فأبعد شيء منالأمومة وإنهمليقولون منكرا منالقول ينكره الشرع والعقل والطبع أيضا كما يشعر به التنكير ومناط التأكيد كونه منكرا وإلا فصدوا القول عنهم أمر محقق وزورا أي وكذبا باطلا منحرفا عن الحق ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخبارا كاذبا علق عليه الشارع الحرمة والكفارة ظاهر وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الأستماع في الشرع كالطلاق على ما هو الظاهر فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية وإن الله لعفو غفور
2
- أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفرما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقا أو بالتوبة ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا : إنه كبيرة لأنفيه إقداما على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه وهذا أخطر منكثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لو لا خلو الأعتقاد عن ذلك واحتمال الأعتقاد عن ذلك واحتمال التشبيه لذلك وغيره ومن ثم سماه عز و جل منكرا من القول وزورا وإنما كره على ما ذكره بعض الشافعية أنتعلي حرام لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى وثم علىما قالوا : كفارة يمين وقوله تعالى : والذين يظاهرون من نسآءهم ثم يعودون لما قالوا الخ تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمرا منكرا (28/5)
بطريق التشريع الكلي المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا والموصول مبتدأ وقوله تعالى : فتحرير رقبة مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة أو فاعل فعل مقدر أي فيلزمهم تحرير أو خبر مبتدأ مقدر أي فالواجب عليهم تحرير وعلى التقادير الثلاثة الجملة خبر الموصول ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط و ما موصولة أو مصدرية واللام متعلقة ب يعودون وهو يتعدى بها كما يتعدى بإلى وبقي فلا حاجة إلى تأويله بأحدهما كما فعل البعض والعود لما قالوا على المشهور عند الحنفية العزم على الوطء كأنه حمل العود على التدارك مجازا لأن التدارك من أسباب العود إلى الشيء ومنها لمثل عاد غيث على ما أفسد أي تداركه بالأصلاح فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يتداركونه بنقضه وهو العزم على الوطء فالواجب عليهم إعتاق رقبة
من قبل أن يتمآسا أي كل من المظاهر والمظاهر منها والتماس قيل : كناية عن الجماع فيحرم قبل التكفير على ما تدل عليه الآية وكذا دواعيه من التقبيل ونحوه عندنا قيل : وهو قول مالك والزهري والأوزاعي والنخعي ورواية عن أحمد فإن الأصل أنه إذاحرم حرم بدواعيه إذ طريق المحرم محرم وعدم إطراد ذلك في الصوم والحيض لكثرة وجودهما فتحريم الدواعي يفضي إلى مزيد الحرج وقال العلامة ابن الهمام : التحقيق أن الدواعي منصوص على منعها في الظهار فإنه لا موجب لحمل التماس في الآية علىالمجاز لإمكان الحقيقة ويحرم الجماع لأنه من أفراد التماس كالمس والقبلة وقال غيره : تحرم أقسام الأستمتاع قبل التكفير لعموم لفظ التماس فيشملها بدلالة النص ومقتضى التشبيه في قوله : كظهر أمي فإن المشبه به لا يحل الأستمتاع به بوجه من الوجوه فكذا المشبه ويحرم عند الشافعية أيضا الجماع قبله وكذا يحرم لمس ونحوه من كل مباشرة لا نظر بشهوة في الأظهر كما في المحرر وقال الإمام النووي عليه الرحمة : الأظهر الجواز لأن الحرمة ليست لمعنى يخل بالنكاح فأشبه الحيض ومنثم حرم الأستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام
وحكى البيضاوي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أننقض القول المراد بالعود بإباحة التمتع بها ولو بنظرة بشهوة وحمل ذلك على استباحة التمتع بمباشرته بوجه ما دون عده مباحا من غيرمباشرة
ولعله أريد بالمباشرة بوجه ما مباشرة ليست من التماس الذي قالوا بحرمته قبل التكفير وأيا ما كان فظاهر تعليق الحكم بالموصول يدل على ما في حيز الصلة أعني الظهار والعود له فهما سببان للكفارة وهذا أحد أقوال في المسألة
قال العلامة ابن الهمام : اختلف في سبب وجوبها فقال في المنافع : تجب بالظهار والعود لأن الظهار كبيرة فلا يصلح سببا للكفارة لأنها عبادة أو المغلب فيها معنى العبادة ولا يكون المحظور سببا للعبادة فعلق وجوبها بهما ليخف معنى الحرمة باعتبار العود الذي هو إمساك بمعروف فيكون دائرا بين الحظر والأباحة وعليه فيصلح سببا للكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة وقيل : سبب وجوبها العود والظهار شرطه ولفظ الآية أي المذكورة يحتملهما فيمكن كون ترتيبها عليهما أو على الأخير لكن إذا أمكن البساطة صير إليها لأنها الأصل بالنسبة إلى التركيب فلهذا قال في المحيط : سبب وجوبها العزم على الوطء والظهار شرطه وهو بناء على أن المراد منالعود في الآية العزم على الوطء واعترض بأن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة متكررة بتكرر الظهار لا العزم وكثير من مشايخنا على أنه العزم على إباحة الوطء بناءا على إرادة المضاف في الآية أي يعودون لضد ما قالوا أو لتداركه ويرد عليه ما يرد على ما قبله ونص صاحب المبسوط على أن بمجرد (28/6)
العزم لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت من بعد العزم فلا كفارة فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظاهر ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة : يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء انتهى
ولا يخفى أن إرادة المضاف غير متعين بناءا على ما نقل عن الكثير من المشايخ وأن ظاهر الآية يفيد السببية كما ذكرنا آنفا ويكون الموجب للكفارة الأمران وبه صرح بعض الشافعية وجعل ذلك قياس كفارة اليمين ثم قال : ولا ينافي ذلك وجوبها فورا مع أن أحد سببيها وهو العود غير معصية لأنه إذا اجتمع حلال وحرام ولم يمكن تميز أحدهما عن الآخر غلب الحرام وظاهر كلام الأمام النووي عليه الرحمة أن موجبها الظهار والعود شرط فيه وهو بعكس ما نقل عن المحيط ثم إن من جعل السبب العزم أراد به العزم المؤكد حتى لو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنها وجبت بنفس العزم ثم سقطت كما قاله بعضهم لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع وذكر ابن نجيم في البحر عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة ثم قال : إن كون كفارة الظهار كذلك على قول من جعل السبب مركبا من الظهار والعود ظاهر لكون الظهار محظورا والعود مباحا لكونه إمساكا بالمعروف ونقضا للزور
وأما على القول بأن المضاف إليه وهو الظهار سبب وهو قول الأصوليين فكونه دائرا بين الحظر والأباحة مع أنهمنكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية واستظهر بعد أنه لا ثمرة للأختلاف في سببها معللا بأنهم اتفقوا على أنهلو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم ولو عزم ثم ترك فلا وجوب ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهارلم يصح ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصا إذاصار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصولة إلى الجنة انتهى ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائرا بين الحظر والأباحة فإنه كما ترى
وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا : فيريدون الوطء قال الزيلعي : وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأها وعزم عليه فقد رجع عما قال ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر وقيل : العود الرجوع والمراد بما قالوا ماحرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهوالتماس تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : ونرثه ما يقول والمعنى ثم يريدون العود للتماس وفيه تجوزان وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى ثم يعودون ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة كأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة (28/7)
واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود وأيضا لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة فتحرير الخ والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأنيمسكها علىالزوجية ولو جهلا ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكررا للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جن عند وجودها زمن إمكان فرقة شرعا فلا عود في نحو حائض إلا بالأمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدمفعله صار ناقضا له متداركا لما قال فلو اتصل بلفظ الظهارفرقة بموت أو فسخ أوانفساخ بنحو ردة قبل وطء أوطلاق بائن أورجعي ولم يراجع (28/0)
أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو منطلقها رجعيا عقب الظهار أو ارتد متصلا وهي موطوءة ثم أسلم فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالأسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والأستباحة أمر يترتب عليه إلا غذا أمسكها بعده زمنا يسع الفرقة وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها منمقطوعها في المدة للخبر أيضا ولأن الحل منتظر بعدها فالأمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الأمساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود
واعترض ما قالوه بأن ثم تدل على التراخي الزماني والأمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف بثم بل بالفاء ورد بأن مدة الأمساك ممتدة ومثله يجوز فيه العطف بثم والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثما مننفس الظهار حتى يقال عليه : إنهغير مسلم ولا إلى قول الإمام أنه مشترك الإلزام بين الشافعية والحنفية القائلين : بأنالعود استباحة الأستمتاع فيمنع أيضا لأن الأستباحة المذكورة عقب الظهار قولا نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية
واعترض أيضا بأنالظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روي عن الأمام مالك في المراد بالعود روايتان : احدهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها ثم قال : ومن أصحابنا منقال : العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه
وابن حجر نسب القول : بأنه العزم على الوطيء إلىالإمام مالك والإمام أحمد والقول : بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة وذكر أنهما قولان للأمام الشافعي في القديم وما حكاه عن الأمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه وحكاه الزيلعي عن الأمام مالك ولم يحك عنه غيره وحكاه أبوحيان في البحر عن الحسن وقتادة وطاوس والزهري وجماعة وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك ثانيتهما أنه العزم على الأمساك والوطء
واعترض القول به ممن كان وكذا القول : بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت وأمر صلى الله عليه و سلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطيء أو عزم على الوطء والأصل عدم ذلك والوقائع القولية كهذه يعممها الأحتمال وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العود سابقا عليه فكيف يكون هو الوطء ! وأجاب القائل : بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأنذلك لعلمه عليه الصلاة و السلام به منخولة فقد أخرج الأمام أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال : حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : في وفي أوس بن الصامت أنزلالله تعالىصدر سورة المجادلة كنتعندهوكان شيخا كبيرا قد ساءخلقه فدخلعلي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنتعلي كظهر أمي ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت : كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكمالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فينا ثم جئت إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام فذكرتله ذلك فما برحت حتى نزل القرآنالخبر فإن ظاهر قولها : فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع (28/8)
ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي وذكر ذلك له عليه الصلاة و السلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام
وأجيب من جهة القائل : بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعا والوطء أولا حرام موجب للتكفير وهو كما ترى ونقل عن الثوري ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالأسلام ثم يعودون لمثله فكفارة منعاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها فحملا العود والقول على حقيقتهما وفي اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للأستمرار فيما مضى وقتا فوقتا وأخذ القطع من دلالة ثم على التراخي وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى حكايته
وتعقب ذلك بأن فيه أن الأستمرار ينافي القطع ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالأسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الأسلام لأنه مسوق لبيان حكمه وعليه ينطبق سبب النزول وهو يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجبا للكفارة وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهادا فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب الأحكام وغيره وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه فيجوز أن يشترطذا لوجوب الكفارة شيئا مما مر لكن لا يقولون : إنه المراد بالعود فيها وقال أهل الظاهر : المعنى الذين يقولون هذا المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانيا فكفارته تحرير رقبة الخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضا
وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن عبد الله بن الأشج والفراء أيضا وحكاه أبو حيان رواية عنالإمام أبي حنيفة ولا نعلم أحدا من أصحابه رواه عنه وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل : يعودون لهفإنهأخصر ولا يبقى لكلمة ثم حسن موقع هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى والمنزل فيه أعني قصة خولة يدفعه إذ لم ينقل التكرار ولأسأل عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا الدفع قوي وأما ما قيل : فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه صريحا في التحريم فلعله يسبق لفظه به منغير قصد لمعناه فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى لما قالوا لقصد التأكيد بالأظهار وأن العطف بثم لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار وقول الزيلعي في الأعتراض عليه : إن اللفظ لا يحتمله لأنهلو أريد ذلك لقيل : يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الأعادة لا من العود جهل ناشيء من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم وقال أبو مسلم الأصفهاني : معي العود أن يحلف أولا على ما قال منالظهار بأن يقول : والله أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونهمؤكدا للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار منغير قسم عنده وهذا القول إلغاء للظهار معنىلأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه وأيضا المنزل فيه يدفعه إذا لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم والأصل عدمه وقيل : عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة وتعد مباشرته ذلك تكريرا للظهار وليس بشيء كما لا يخفى وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه فإذا قال إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة (28/9)
المفروضة حتى يمسكها أعقب الأفاقة أو تذكره وعلمه بوجوب الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام
وعندنا أيضا يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر ولا يبقى بعد مضي المدة نعم لو ظاهر واستثنى يوم الجمعة مثلا لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهرا بخلاف الأبانةالمعلقة كما بين في محله وقال الأخفش : في الآية تقديم وتأخير وتقديرها والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا : ثم يعودون إلى نسائهم ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش وفي قوله تعالى : من نسائهم دليل لنا وكذا للشافعي وأحمد وجمع كثير منالصحابة والتابعين رضي الله تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوأة أو غيرها لا يصح وبيان ذلك أنه يتناول نساؤنا والأمة وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الأطلاق لا تستلزم الحقية لأن حقيقة إضافة النساء إل رجل أورجال إنما تحقق مع الزوجات دون الأماء لأنهالمتبادر حت يصبح أن يقال : هؤلاء جواريه لا نساؤه وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطءا حلالا عند الجمهور وبلا هذا القيد عندنا عل أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الأضافة حت يشمل المعن الحقيقي وهن الزوجات والمجازي أعني الماء بعموم المجاز لأنكن للأتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الأماء كتوبته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولالزوم عندنا أيضا ليثبت بطريق الدلالة لأن الماء لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل واستدل أيضا بأن القياس شأنه أنلا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق منلها حق الأستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس وبأن الطهار كان طلاقا فنقل عنه إلى تحريم مغيا بالكفارة ولا طلاق في الأمة وهذا ليس بشيء للمتأمل
ونقل عن مالك والثوري صحة الطهار في الأمة مطلقا وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الموطوءة ثمك إن الشرط كونها زوجة في الأبتداء فلو ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها بقي الظهار فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كما صرحوا به والمراد بالزوجة المنكوحة التي يصح إضافة الطلاق إليها فلا فرق بين مدخول بها وغيرها فلا يصح الظهار من مبانة ومنه ما سمعت آنفا ولامن أجنبية إلا إذا أضافه إلى التزويج كأن قال لها : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها فإنه يكون مظاهرا نعم في التاتار خانية : لو قال إذا تزوجتك فأنتطالق ثم قال : إذاتزوجتك فأنتعلي كظهر أمي فتزوجها يقع الطلاق ولا يلزم الظهار في قول أبيحنيفة وقال صاحباه : لزماه جميعا وعن مالك أنه ظاهر من أجنبية ثم نكحها لزم الظهار أضافه إلى التزوج أم لا
وقال بعض العلماء لا يصح ظهار غير المدخول بها وقال المزني : لا يصح ظهار المطلقة الرجعية وظاهر الذين يظاهرون يشمل العبد فيصح ظهاره وقد ذكر أصحابنا أنه يصح ظهار الزوج البالغ العاقل المسلم ويكفر العبد بالصوم ولا يتصف لما فيه منمعنى العبادةكصوم رمضان ومثله المحجور عليه بالسفه على قولهما المفتى به (28/10)
وحكي الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهار العبد ولا تدخل المرأة في هذا الحكم فلو ظاهرت منزوجها لم يلزم شيء كما نقل ذلك في التاتارخانية عن أبي يوسف وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة وقال الأعزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر فلانة فهي يمين تكفرها وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظهار ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها انتهى والرقبة من الحيوان معروفة وتطلق على المملوك وذلك من تسمية الكل باسم الجزء كما في المغرب وهو المراد هنا
وفي الهداية هي عبارة عن الذات المرقوق من كل وجه فيجزيء في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ولو رضيعا لأن الاسم ينطلق على كل ذلك ومقتضى ذلك إجزاء إعتاق المرتد والمرتدة والمستأمن والحربي وفي التاتارخانية أن المرتد يجوز عند بعض المشايخ وعند بعضهم لا يجوز والمرتدة تجوز بلا خلاف أي لأنها لا تقتل وفي الفتح إعتاق الحربي في دار الحرب لا يجزيه في الكفارة وإعتاق المستأمن يجزيه وفي التاتارخانية لو أعتق عبدا حربيا في دار الحرب إن لم يخل سبيله لا يجوز وإن خلى سبيله ففيه اختلاف المشايخ فبعضهم قالوا : لا يجوز وشمل الرقبة الصحيح والمريض فيجزى كل منهما واستثني في الخانية مريضا لا يرجى برؤه فإنه لا يجوز لأنه ميت حكما وفي جواز إعتاق حلال الذم كلام : فحكى في البحر أنه إذا أعتق عبدا حلال الدم قد قضي بدمه ثم عفي عنه فلو كان أبيض العينين فزال البياض أو كان مرتدا فأسلم لا يجوز
وفي جامع الفقه جاز المديون والمرهون ومباح الدم ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنه حي ولا بد أن تكون الرقبة غير المرأة المظاهرة منها لما في الظهيرية والتاتارخانية أمة تحت رجل ظاهر منها ثم اشتراها وأعتقها كفارة ظهارها قبل : تجزي وقيل : لا تجزي في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف ويجوز الأصم استحسانا إذا كان بحيث إذا صيح عليه يسمع وفي رواية النوادر لا يجوز ولا تجزي العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين وكذا مقطوع إبهام اليدين ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من جانب واحد والمجنون الذي لا يعقل ولا يجوز إعتاق المدبر وأم الولد وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال وإن اشترى أباه أوابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باقيه لم يجز عند الإمام وجاز عند صاحبيه وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع ثم أعتق باقيه لم يجز عنده لأن الأعتاق يتجزأ عنده وشرط الأعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص وإعتاق النصف حصل بعده وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس واشتراط الشافعي عليه الرحمة كون الرقبة مؤمنة ولو تبعا لأصل أو دار أو ساب حملا للمطلق في هذه الآية على المقيد في آية القتل بجامع عدم الأذن في السبب
وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوما عقليا إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوبا إدخاله في الوجود مطلقا ومقيدا كالصوم في كفارة اليمين ورد مطلقا ومقيدا بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها والكلام في تحقيق هذا الأصل في الأصول
قالوا على تقدر التنزل إلى أصل الشافعية من الحمل مطلقا : إنه لا يلزم منالتضييق في كفارة الأمر الأعظم (28/11)
وهو القتل ثبوت مثله فيما هو أخف منه ليكون التقييد فيه بيانا في المطلق وما ذكروه من الجامع لا يكفي ووافقوا في كثير مما عدا ذلك وخالفوا أيضا في كثير فقالوا : يشترط في الرقبة أن تكون بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزي صغير ولو عقب ولادته وأقرع وأعرج يمكنه منغير مشقة لا تحتمل عادة تتابع المشي وأعور لم يضعف نظر سليمته حتى أخل بالعمل إخلالا بينا وأصم وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته مما يحتاج إليه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه وأسنانه وعنين ومجبوب ورتقاء وقرناء وأبرص ومجذوم وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وولد زنا وأحمق وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه وآبق ومغصوب وغائب علمت حياته أوبانت وإن جهلت حالة العتق لا زمن وجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الأعتاق أو فاقد يد أو رجل أشل أحدهما أو فاقد خنصر وبنصر معا من يد أو أنملتين من غيرهما أو أنملة إبهام كما قال النووي عليه الرحمة ولا هرم عاجز ولا من هو في أكثر وقته مجنون ولا مريض لا يرجى عند العتق برء مرضه كسلال فإن برأ بعد إعتاقه بأن الإجزاء في الأصح ولا من قدم لقتل بخلاف من تحتم قتله في المحاربة قبل الرفع للأمام ولا يجزي شراء أو تملك قريب أصل أو فرع بنية كفارة ولا عتق أم ولد ولا ذو كتابة صحيحة قبل تعجيزه ويجزي مدبر ومعلق عتقه بصفة غير التدبير وقالوا : لو أعتق معسر نصفين له منعبدين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما أو باقي أحدهما حرا إلى غير ذلك
وفي الإتيان بالفاء في قوله تعالى : فتحرير الخ دلالة على ما قال بعض الأجلة : على تكرير وجوب التحرير بتكرر الظهار فإذا كان له زوجتان مثلا فظاهر من كل منهما على حدة لزمه كفارتان
وفي التلويح لو ظاهر من امرأته مرتين أوثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة وفي إطلاقه بحث فقد ذكر بعضهم أنه لو قصد التأكيد في المجلس الواحد لم تتعدد وفي شرح الوجيز للغزالي ما محصله : لو قال لأربع زوجات : أنتن علي كظهر أمي فإن كان دفعة واحدة ففيه قولان وإن كان بأربع كلمات فأربع كفارات ولو كررها والمرأة واحدة فإما أن يأتي بها متوالية أولا فعلى الأول إن قصد التأكيد فواحدة وإلا ففيه قولان : القديم وبه قال أحمد واحدة كمالو كرر اليمين على كل شيء واحد والقول الجديد التعدد وبه قال ذأبو حنيفة ومالك وإذا لم تتوال أو قصد بكل واحدة ظهارا أو أطلق ولم ينو التأكيد فكل مرة ظهار برأسه وفيه قول : إنه لا يكون الثاني ظهارا إن لم يكفر عن الأول وإن قال : أردت إعادة الأول ففيه اختلاف بناءا على أن الغالب في الظهار أن معنى الطلاق أو اليمين لما فيه من الشبهين انتهى
وظاهر بعض عبارات أصحابنا أنهلو قيد الظهار بعدد اعتبر ذلك العدد ففي التتارخانية لو قال لأجنبية : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي مائة مرة فعليه أي إذا تزوجها لكل كفارة وتدل الآية على أن الكفارة المذكورة قبل المسيس فإن مس أثم ولا يعاود حتى يكفر فقد روي أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس أن رجلا وهو سلمة بن صخر الأنصاري كمافي حديث أبي داود والترمذي وغيرهما ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ما حملك على ذلك ! فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر وفي لفظ بياض ساقها قال عليه الصلاة و السلام : فاعتزلها حتى تكفر ولفظ ابن ماجه فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفر قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ونفى كونه صحيحا رده المنذري في مختصره بأنه صححه الترمذي ورجاله ثقات مشهور سماع بعضهم من بعض (28/12)
وروي الترمذي وقال : حسن غريب عن ابن إسحاق بالسند إلى سلمة المذكور عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قالفي المظاهر يواقع قبل أن يكفر : كفارة واحدة تلزمه ويرد به على مجاهد في قوله : يلزمه كفارة أخرى ونقل هذا عن عمرو بن العاص وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة وعلى منقالتلزمه ثلاث كفارات ونقل ذلك عن الحسن والنخعي وبه وبما تقدم يرد على ما قيل : من أنه تسقط الكفارة الواجبة عليه ولا يلزمه شيء ولا ترتفع حرمة المسيس إلا بها لا بملك ولا بزوج ثان حتى لو طلقها من بعد الظهار ثلاثا فعادت إليه من بعد زوج آخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظاهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر وهو واجب على التراخي على الصحيح لكون الأمر الدالة عليه الآية مطلقا حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الأمكان ويكون مؤديا لا قاضيا ويتعين في آخر عمره ويأثم بموته قبل الأداء ولا تؤخذ من تركته إنلم يوص ولوتبرع الورثة في الأعتاق وكذا في الصوم لا يجوز كذا في البدائع فإن أوصى كان من الثلث وفي التاتارخانية لو كان مريد التكفير مريضا فأعتق عبدهعن كفارته وهو لا يخرج من ثلث ما له فمات من ذلك المريض لا يجوز عن كفارته وإن أجازت الورثة ولو أنه بريء منمرضه جاز وللمرأة مطالبته بالوطء والتكفير وعليها أن تمنعه من الأستمتاع بها حتى يكفر وعلىالقاضي أن يجبره على النكفير دفعا للضرر عنها بحبس فإن أبى ضربه ولو قال : قد كفرت صدق ما لم يكن معروفا عند الناس بالكذب
هذا وبقيت مسائل أخر مذكورة في كتب الفقه ذلكم الإشارة إلى الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول أو لهم ولغيرهم من الأمة توعظون به أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات والمراد بيان أنالمقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواببمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكموزجركم عن مباشرة مايوجبه كذا في الأرشاد وهو ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها لذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناءا على أنالكفارات زواجر كالتعازير أو جوابر للخلل ورجح ابن عبد السلام الثاني لأنها عبادة لافتقارها للنية أي فهي كسجود السهو
والفرق بينها على الثاني وبين الدفن الكفارة للبصق على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الأثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يداوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك وعلى الأول الممحو هوحق الله تعالى من حيث هو حقه وأمابالنظر لنحو الفسق بموجبها فلا بد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى
ومتى قيل : بأنالأعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بد مناستتباعه الثواب وكون ذلك لا يعد ثوابا لا يخلو عن نظر ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب وإن تضمنه في الجملة فتأمل والله بما تعملون خبير من الأعمال كالتكفير وما يوجبه من جناية الظهار
3
- أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تحلو بشيء منها فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا (28/13)
أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس والمراد بمن لم يجد منلم يملك رقبه ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم وقدر الكفاية منالقوت للمحترف قوت يوم والذي يعمل قوت شهر على مافي البحر ومنله عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم وهذا بخلاف من له مسكن لأنهكلباسه ولباس أهله وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنا فاضلا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثا لا بد منه وعن دينه ولو مؤجلا
وقالوا : إذا لم يفضل القن أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أوضخامة كذلك بحيث يحصل له يعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أوبممونه فلا عتق عليه لأنهفاقد شرعا كمن وجد ماءا وهو يحتاجه لعطش وإلى اعتبار كون ذلك فاقدا كواجد الماء المذكور ذهب الليث أيضا
والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه وماستعماله محظور عليه بخلاف الخادم واليسار والأعسار معتبران وقت التكفير والأداء وبه قال مالك وعن الشافعي أقوال في وقتهما أظهرها كما هو عندنا قالوا : لأن الكفارة أعني الأعتاق عبادة لها بدل من غير جنمسها كضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها وغلب الثاني كمذهب أحمد والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب كما لو زنى قن ثم عتق فإنه يحد حد القن والثالث الأغلظ منالوجوب إلى الأداء والرابع الأغلظ منهما وأعرض عمابينهما
ومن يملك رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدرعلى أخذه من مديونه فهوفاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال وجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين وأما قبله فقيل فاقد أيضا بناءا على قول محمد أنهتحل له الصدقة المشير إلىأن ماله لكونه مستحقا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكما وقيل : واجد لأنملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه
وفي البدائع لو كان في ملكه رقبة صالحة للنكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واجد حقيقة وحاصله أنالدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل وصرح بذلك النووي وغيره من الشافعية فقالوا : لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة والفرق بينهمابتكرر ذلك ضعيف وعلى الأول كما قال الأذرعي وغيره نقلا عن الماوردي واعتمدوه لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل وكذا لو غاب ماله فيكلف الصبر إلى وصوله أيضا ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى
وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما ثم أعتق عن ظهار الأخرى ففي المحيط في نظير المسألة ما يقتضي عدمإجزاء الصومعن الأول قال : عليه كفارتا يمين وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمالفلا يجزئه ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص (28/14)
فمن صام بالأهلة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزأه ذلك وإن غم الهلال اعتبر كما في المحيط كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلا بد من ستين يوما كما في فتح القدير ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضا وقالوا : إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعدهبالهلال لتمامه وأتمالأول منالثالث ثلاثين لتعذر العلال فيه بتلفقه من شهرين وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل وإن أفطر يوما من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لوم الأستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة وقال أبو حيان : إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب والحسن وعطاء وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه : يبنى أه وإن جامع التي ظاهر منها منخلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف : لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به وإنجامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيا لا يستأنف عند الأمام أيضا كما لو أكل ناسيا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة وتقدمها على المسيس شرط حلها فبالجماع ناسيا في أثنائه يبطل حكم الصومالمتقدم في حق الكفارة ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطالما أوجب الله تعالى وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيد وأيام التشريق لأنالصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل
وفي البحر : المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر وفي المريض روايتان وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع ومن قدر على الأعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الأعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذ تظوعا والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه شرع فيه نسقطا لا ملتزما خلافا لزفر
وفي تحفة الشافعية لو بان صومهما أنله ما لا ورثه ولم يكن عالما به لم يعتد بصومه على الأوجه اعتبارا بما في نفس الأمرأي وهو واجد بذلك الأعتبار وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمنتيمم وفي رحله ماء غبره ولم يعلم به منصحة تيممه الأعتداد بالصوم ههنا وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماءا ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعد مبطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليراجع فمن لم يستطع أي صيام شهرين متتابعين وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن الهمام وغيره وعليه أكثر الشافعية وقال الأقلون منهم كالأمام ومنتبعه وصححه في الروضة : يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء قال ابن حجر : ويظهر الأكتفاء بقول عدل منهم وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإنلم تبح التيمم فيمايظهر غير مستطيع وكذا من خاف زيادة مرض وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال : والله يا رسول الله (28/15)
إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني الخبر وعدوا من أسباب عدم الأستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة
واستدل بما أخرج الأمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن سلمة بن صخر قال : كنت رجلا قد أوتيت منجماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها إلى أن قال فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال : أنت بذاك قلت : أنا بذاك فقال : أنت بذاك قلت : أنا بذاك وها أناذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال : اعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها قال : فصم شهرين متتابعين فقلت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال : فأطعم ستين مسكينا الحديث فإنه أشار بقوله : وهل أصابني الخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين وإنما لم يكن عذرا في صوم رمضان قالابن حجر : لأنهلا بد له وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرا ابتداءا لفقده حينئذ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر وانتقل عنه للأطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى : فمن لم يستطع
فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو صاع شعير ودقيق كل كأصله وكذا السويق وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في فتح القدير والصاع أربعة أمداد
وقال الشافعية : لكل مسكين مد لأنه صح في رواية وصح في الأخرى صاع وهي محمولة على بيان الحواز الصادق بالندب لتعذر النسخ فتعين الجمع بما ذكر فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط ولو للبلدي فلا يجزيء نحو دقيق مما لا يجزي في الفطرة عندهم ومذهب مالك كما قال أبو حيان مد وثلث بالمد النبوي وروي عنه ابن وهب مدان
وقيل : مد وثلثا مد وقيل : ما يشبع من غير تحديد ولا فرق بين التمليك والأباحة عندنا فإن غدي الستين وعشاهم أو غداهم مرتين أوعشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك ويعتبر اتحاد الستين فلو غدي مثلا ستين مسكينا وعشي ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء ولو أطعم مائة وعشرين مسكينا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزأه واشترط الشافعية التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الأباحة ونحن نقول : المنصوص عليه هنا هو الأطعام وهو حقيقة في التمكين منالطعم وفي الإباحة ذلك كما في التمليك وفي الزكاة الإيتاء وفي صدقة الفطر الأداء وهما للتمليك حقيقة كذا في الهداية قال العلامة ابن الهمام : لا يقال : اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر مشتركا معمما أو في حقيقته ومجازه لأنا نقول : جواز التمليك عندنا بدلالة النص والدلالة تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مكع التأفيف (28/16)
فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره وذكر الواني أن الأطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته ىكلا وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال قالوا : والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل
ويجوز الجمع بين الأباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذاملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءا وعشاءا وكذا لرجل واحد في إحد روايتين كأن غداه مثلا وأعطاه مدا وإن أعطي مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سد خلة المحتاج والحاجة تتجدد في كل يوم فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره وهذا في الأباحة من غير خلاف وأماالتمليك منمسكين واحد بدفعات فقد قيل : لا يجزيه وقيل : يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص وخالف الشافعية فقالوا : لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزيء الدفع لواحد في ستين يوما وهو مذهب مالك والصحيح من مذهب أحمد وبه قال أكثر العلماء لأنه تعالى نص على ستين مسكينا وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سد خلة المحتاج الخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز وأصحابنا أشد موافقة لهذا الأصل ولذا قالوا : لا يجزيء الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أنتفريق الدفع غيرمصرح به وإنماهو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنهالمستلزم وغاية ما يعطيه كلامهمأنهبتكرار الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم منالستين حقيقة أو حكما
ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه فإن قلت : المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيهالتعدد الحكمي ما هو قلت : هو الحاجة فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أنالعدد ممايقصد لما في تعميم الجميع منبركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء قاله في فتح القدير وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا منالحنطة وبعضا منالشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع منبر ونصف صاع منشعير وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود وهوالأطعام ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه وهو البر والشعير ودقيق كل وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاعتمر يبلغ قيمة نصف صاع بر ولا يجوز فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنمآ الأعتبار في غير المنصوص عليه ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا (28/17)
ولا يجوزفي الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع منالبر مثلا فقط ففي التاتارخانية لو أعطي ستين مسكينا كل مسكين مدا منالحنطة لم يجز وعليه أن يعيد مدا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأطى ستين آخرين كلا مدا لم يجز ولو أعطى كلا من المساكين مدا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدا لم يجز وكذا لو أعطى المكاتبين مدا مدا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر وعليه فالمراد بستين مسكينا ستون مسكينا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره فإن أمر غيره فأطعم أجزأ لأنهاستقراض معنى فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه والمراد بالمسكين ما يعم الفقير وقد قالوا : المسكين والفقير إذااجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ويشترط أن لا يكون المطعم أصله أو فرعه أوزوجته أومملوكه أو هاشميا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة ولا حربيا ولو مستأمنا لمزيد خسته فليس أهلا لأدنى منفعة ويجوز أن يكون ذميا ولو دفع بتحر فبان أنه ليس بمصرف أجزأه عندهما خلافا لأبي يوسف كما في البدائع
واستنبط الشافعية منالتعبير بعدم الوجود عند الأنتقال إلى الصوم وبعدم الأستطاعة عند الأنتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الأطعام كما سمعت ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والأعتاق والأطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره ويجب تقديم الأطعام على المسيس فإن قرب المظاهر المظاهرة في خلاله أثم ولم يستأنف لأنهD ما شرط فيه أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين والوجوب قيل : لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الأطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهما القربان قبل الأطعام ثم اتفق قدرته فلزم التكفير به لزم أن يقع العتق التماس والمفضي إلى الممتنع ممتنع
وتعقب بأن فيه نظرا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداءا بل يثبت الأستحباب ورعا فالأولى الأستدلال عل حرمة المسيس قبل الأطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث اعتزلها حت تكفر ونحوه وما ذكر من أنه لو قدر عل العتق مثلا خلال الأطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية
قال ابن حجر عليه الرحمة : لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الطعام ولو لمد كما لو شرع في صوم يوم منالشهرين فقدر على العتق أجاز بعض المسيس في خلال الأطعام من غير إثم ونقل ذلك عن أبي حنيفةرض عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الأستئناف وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاثة في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الأطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم
وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الأطعام دليلا لأبي حنيفة في قوله : بعدم الأستئناف أي مع الأثم
وتعقبه ابن المنير في الأنتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة : إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس (28/18)
في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرا في أحد الحكمين دون الآخر وهلالتخصيص إلا نوع من التحكم ثم قال : وله أن يقول : اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير وقد نطقت الآية بالمتفرقة فلم يصرفها إلىما وقع الأتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام
وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية : استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه ثم الباقي إذا أيسر والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تماما ولم يبال بأضرار المرأة بذلك لأن الأيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع ولم أراجع حكم المسألة في الظهار عند الحنفية وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجز عن الخصال الثلاثة وفيه : فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال : تصدق به فقال : أعلى أفقر مني يا رسول الله فو الله ما بين لابتيها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدتنواجذه ثم قال : خذه فاطعمه أهلك في لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد منالتكفير وجمهور العلماء على قوله وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن للشافعي في هذا العاجز قولين : أحدهما لا شيء عليه واحتج له بحديث الأعرابي المذكور لأنه عليه الصلاة و السلام لم يقل له : إن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له إطعام عياله والثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره وأماالحديث فليس في نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنهأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة و السلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقكط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الأنفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي وإنما لم يبين عليه الصلاة و السلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة انتهى
ومن الناس من قال : لم يكن هناكط تأخير بيان وإنما اكتفى صلى الله تعالى عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالأستقرار والأخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي
ومسائل الظهار كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة ومن أراد كمال الأطلاع فليرجع إلى كتب الفروع ولو لا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئا منها ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم
ذلك إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم ومحله إما الرفع على الأبتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتعلموا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم (28/19)
عليه في جاهليتكم وتلك الأحكام المذكورة حدود الله التي لا يجوز تعديها فألزموها وقفوا عندها وللكافرين أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها عذاب أليم
4
- على كفرهم وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا لزجره ونظير ذلك قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
إن الذين يحادون الله ورسوله أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حد وجهة غير حد الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه وقيل : إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما منالمحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها والأول أظهر وفي ذكر المحادة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دونالمعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد وقال ناصر الدين البيضاوي : أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور
قال المولى شيخ الأسلام سعد الله جلبي : وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون والله تعالى المستعان على ما يصفون أه وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله : وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما وقد قال الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ولكن أين من يعقل ! انتهى
وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به (28/20)
إياك أن تقول في مجلسنا : المسألة شرعا كذا وقد أصابني منه عامله الله بعد له لعد ولي عن قوله مزيد الأذى واتفق أن قال لي بعض خاصته يوما : أرى ثلثي الشرع شرا فقلت له وإن كنت عالما أن في أذنيه وقرا : نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الأشارة والذي ينبغي أن يقال في ذلك : إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليق ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الأمام كأنواع التعاذير وللأمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الأمام حق الله تعال للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج والقواعد لا تأباه نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الأفراط والتفريط وقد شاهدنا في الغراق مما يسمونه جزاءا ما القتل أهون منه بكثير ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير
وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق ورجم الزاني المحصن وما فصل في حق الطريق منقطع الأيدي والأرجل منخلاف وغيره مما فصل في آيتهم إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه شرعا ولا نسميه قانونا و أصولا وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشته لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز و جل
وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا لعمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهمفهو مما لا بأس فيه وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس ولا يجري هذا التفصيل فيماوصفه رسول الله عليه الصلاة و السلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه موافقة ولا مخاتلفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والأباحة فإن دخل في عمومات الأباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد وأمرتكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصا لها بعد ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول : وإن تلك الأحكامأصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها ويقول كلما ذكرها : الأصول المستحسنة وكان يرشح كلامه بنفي رسالةالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في أكثر المسائل والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك (28/21)
الأنتظام ويصلح أمر الخاص والعام ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الأمام فليس ذلك من المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة و السلام ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للأمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي والذي يستوفيه الأمام هو حق الله تعالى للمصلحة وفي كتاب الخراج للأمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضا ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم لأن المراد كماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو عموما ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه نعم القانونالذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادما لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي : إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم ثم إن الآية على ما في البحر نزلت في كفار قريش كتبوا أي أخزوا كما قالقتادة أو غيظوا كما قالالفراء أو ردموا مخذولين كما قال ابن زيد أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش
وعن أبيعبيدة أن تاءه بدل من الدال والأصل كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي : لعنوا وقيل : الكبت الكب وهو الألقاء على الوجه وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق وقيل : إلى ما كان يوم بدر وقيل : معنى كتبوا سيكبتون على طريقة قوله تعال : أت أمر الله وهو بشارة للمؤمنين بالنصر عل الكفار وتحقق كبتهم
كما كبت الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية المحادين لله عز و جل ورسله عليهم الصلاة والسلام وقد أنزلنا آيات بينات حالمن واو كبتوا أي كبتوا لمحادتهم والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم وقيل : آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به وللكافرين أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا عذاب مهين
5
- يذهب بزعمهم وكبرهم يوم يبعثهم الله منصوب بما تعلق به اللام من الأستقرار (28/22)
أو بمهيمن أو بإضمار اذكر أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا وقيل منصوب بيكون مضمورا على أنهجواب لمنسألأ متى عذاب هؤلاء فقيل له : يوم يبعثهم أي يكون يوم الخ وقيل : بالكافرين وليس بشيء وقوله تعالى : جميعا حال جيء به للتأكيد والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد فينبئهم بما عملوا من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رءوس الأشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم وقوله تعالى : أحصاه الله استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل : كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراضمتقضية متلاشية فقيل : أحصاه الله تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء وقوله تعالى : ونسوه حينئذ حال منمفعول أحصى بإضمار قد أو بدونه أو قيل : لم ينبئهم بذلك فقيل : أحصاه الله تعالى ونسوهفينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير واللهعلى كل شيء شهيد
6
- لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا والجملة اعتراض تذييلي مقرر لأحصائه تعالى أعمالهم وقوله تعالى : ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز و جل يعلم ما فيهما منالموجودات سواء كان ذلك بالأستقرار فيهما أو بالجزئية منهما
وقوله تعالى : ما يكون مننجوى ثلاثة الخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى و يكون من كان التامة و من مزيدة و نجوى فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض أ لأن السر يصان فكأنه رفع منحضيض الظهور إلى أوج الخفاء وقيل : أصل ناجيته منالنجاو وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهو مضافة إلى ثلاثة ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى أو يؤول نجوى بمتناجين فثلاثة صفة للمضاف المقدر أو لنجوى المؤول بما ذكر
وجوز أن يكون بدلا أيضا التأويل والتقدير المذكوران ليتأتى الأستثناء الآتي من غير تكلف وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المساوون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب : إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد وقد يوصف به فيقال : هو نجوى وهم نجوى قال تعالى : وإذ هم نجوى وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل
وقرأأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة ما تكون بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري : على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي و من فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى واختار في الكشف الثاني فقال : هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود من ولا معنى لأن المعنى شيء منها فالتذكير هو الوجهلفظا ومعنى وهو قراءة العامة انتهى وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس (28/23)
قالتعالى : وما تاتيهم من آية من آيات ربهم ما تسبق من أمة أجلها فتأمل وقوله سبحانه : إلا هو رابعهم استثناء مفرغ من أعم الأحوال والرابع لأضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حالمن الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث أنه عز و جل يطلع أيضا على نجواهم وكذا قوله تعالى : ولا خمسة أي ولا نجوى خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى أي ولا نجوى أدنى من ذلك أي مما ذكر كالأثنين والأربعة ولا أكثر كالستة وما فوقها
إلا هو معهم يعلم ما يجري بينهم أين ما كانوا من الأماكن ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة وجهان : أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا واله تعالىمعهم يعلم ما يقولون فالآية تعريض بالواقع على هذا وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدثون فقال : أحدهم أترى أن الله يعلم ما نقول فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأنمن علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم مجتباة من أولي الأحلام والنهي وأول عددهم الأثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم به الأستصواب فذكر عز و جل الثلاثة والخمسة وقال سبحانه : ولا أدنى من ذلك فدل عل الأثنين والأربعة وقال تعالى : ولا أكثر فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف
في الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجو فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إل الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى : ولا أدنى من ذلك دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الأثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك ولأنه تعالى وتر يحب الوتر انتهى
وقد يقال : إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا والأليق أن يكون وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الأختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى
وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل عليه بدل قوله لهم : نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم وقد قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وتربة العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو من اعتبار كل ممكن حتى (28/24)
أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة أشياء : الموضوع والمحول والحد الأوسط بل القضية التي يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها وكذا بضربالحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبهة بالثلاثة من حيث أنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها في التناجي وكذا عدد الحواس الظاهرة ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى : ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هومعهم ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى
وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا وقال ابن عيسى : كلسرار نجوى وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل
وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة و خمسة بالنصب على أن الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه وفي مصحف عبد الله إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهمولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك إلا الله معهم إذا انتجوا وقرأالحسن وابن أبيإسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب ولا أكثر بالرفع قال الزمخشري : على أنه معطوف على محل لا أدنى كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة ويجوز أن يعتبر أدنى مرفوعا علىهذه القراءة ورفعهما على الأبتداء والجملة التي بعد إلا هي الخبر أو على العطف على محل مننجوى كأنه قيل : ما يكونأدن ولا أكثر إلا هو معهم و أكثر على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نجوى كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم وأن يكون مفتوحا لأن لا لنفي الجنس وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد ولا أكبر بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ثم ينبئهم بما عملوايومالقيامة تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم
وقريء ينبئهم بالتخفيف والهمز وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء
إن الله بكل شيء عليم
7
- لأن نسبة ذاته المقتضى للعلم إلى الكل على السواء وقد بدأ الله تعالى في هذهالآيات بالعلم حيث قال سبحانه : ألم تر أن الله يعلم الخ وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال الله تعالى : إن الله الخ ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز و جل : رابعهم و سادسهم و معهم أن المراد به كونه تعالىكذب بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤولون وكأنهم لم يعدوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفاظه بما يدل عليه دلالة لأخفاء فيها ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولونليس على إطلاقه ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت فياليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم يتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهمشكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم وقال مجاهد : نزلت في اليهود (28/25)
وقال ابن السائب : في المنافقين والخطاب للرسول عليه الصلاة و السلام والهمزة للتعجيب من حالهم وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة وقوله تعالى : ويتناجون بالأثم والعدوان ومعصيت الرسول عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعد على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وذكره عليه الصلاة و السلام بعنون الرسالة بين الخطابين المتوجهين وإليه صلى الله عليه و سلم لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم
وقرأحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس وينتجون بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى وقرأ أبو حيوة العدوان بكسر العين حيث وقع وقريء معصيات بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله صح منرواية البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن أناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : السلام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة و السلام : وعليكم قالت عائشة : وقلت : عليكمالسام ولعنكم الله وغضب عليكم وفي رواية عليكمالسام والذام واللعنة فقالE : يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام ! فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أو ما سمعت أقول : وعليكم ! فأنزل الله تعالى وإذا جاؤك الآية
وأخرج أحمد والبهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوايقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم : لو لا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية وإذا جاؤك الخ والسام قال ابن الثير : المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني ولم يذكر فيه الهمز وتركه
وقالالطبرسي : من قال : السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز وجعل البيضاوي منالتحتية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة و السلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك وقوله تعالى : ويقولون في أنفسهم أي فيمابينهم وجوز إبقاؤه على ظاهره لولا يعذبنا الله بما نقول أي هلا يعذبنا الله بسبب ذلك لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول منالتحتية أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الأسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأشير إليها بقوله تعالى : سلام على المرسلين وسلام على عباده الذين اصطفى وما جاء في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة اللهوبركاته ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الأكتراث ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة والقول بالكراهة غير يعيد
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدي بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله لهتأديبه لتركه سنة السلام انتهى وأنعم صباحا نحو صبحك الله بالخير غاية ما في الباب أنه (28/26)
مجلسه صلى الله تعالى عليه وسلم والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة و السلام فإن لكل أجد منهم مجلسا وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان كان صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة و السلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منأهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إل المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : السلامعليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم سلموا عل القوم فردوا عليهم فقامواعل أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا الخ وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب منر صلى الله عليه و سلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك (28/27)
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة ينشاحون في مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت يا أيها الذين آمنوا الخ والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسخ لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة و السلام ومصاف القتال وغير ذلك وقريء في المجلس بفتح اللام فإما أنيراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الأستعمال وإما أن يراد به المصدر والجار متعلق بتفسحوا أي إذا قيللكمتوسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه فافسحوا يفسح الله لكم أيفي رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال
وقال بعضهم : المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدونالفسح فيه أي مما ذكر وغيره وأنتتعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل وإذا قيل انشزوا أي انهضوا للتوسعة على المقبلين فانشزوا فانهضوا ولا تتثبطوا وأصلهمنالنشز وهو المرتفع من الأرضفإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك : المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا وقيل : إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقوموا وهذا لأنه عليه الصلاة و السلام كان يؤثر أحيانا الأنفراد في أمر الأسلامأو لأداء وظائف تخصه صلى الله تعالى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكتمل بدون الأنفراد وعمم الحكم فقيل : إذاقال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ينبغي أن يجاب وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة انشزوا فانشزوا بكسر الشين منهما
يرفع الله الذين آمنوا منكم جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشزوا يرفع عز و جل المؤمنين منكم في الآخرة (28/0)
دعاء كان يستعمل في الجاهلية نعم تحيتهم به له عليه الصلاة و السلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف حسبهم جهنم عذابا يصلونها يدخلونها أويقاسونحرها أو يصطلون بها
فبئس المصير
8
- أي جهنم يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم في أنديتكم وفي خلواتكم
فلا تتناجوا بالأثم والعدوان ومعصيت الرسول كما يفعله المنافقون فالخطاب للخاص تعريضا بالمنافقين وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم
وقرأالكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس فلا تنتجوا مضارع انتجى وقرأ ابن محيصن فلا تناجوا بإدغام التاء في التاء وقريء بحذف إحداهما وتناجوا بالبر والتقوى بمايتضمن خير المؤمنين والأتقاء عن معصية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واتقوا فيما تأتون وما تذرون الله الذي إليه وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا تحشرون
9
- فيجازيكم على ذلك إنما النجوى المعهودة التي هي التناجي بالأثم والعدوان والمعصية منالشيطان لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها وقوله تعالى : ليحزن الذين آمنوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوبتهم أنها في نكبة أصابتهم وقريء ليحزن بفتح الياء والزاي فالذين فاعل وليس بضآرهم أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين شيئا من الأشياء أوشيئا من الضرر إلا بإذن الله أي بإرادته ومشيئته عز و جل وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم وعلى الله فليتوكل المؤمنون
10
- ولا يبالوا بنجواهم
وحاصله أنما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز و جل ولا يحزنوا منه فهذا الكلام لإزالة حزنهم ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير ليس بضارهم للحزن وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضافإنه غذا قيل : إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم هذا ومن الغريب ما قيل : إن الآيةنازلة في المنامات التي برأها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزم منها فكأنها نجوى يناجي بها وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذاكنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك ولما نهي عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز و جل من قائل : يأيها الذين آمنواإذا قيل لكم تفسحوا في المجالس الخ أو لما نهي عز و جل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قاللكم قائل كائنا منكان : توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها من قولهم : أفسح عني أيتنح والظاهر تعلق في المجالس بتفسحوا وقيل : متعلق بقيل
وقرأالحسن وداود بن أبيهند وقتادة وعيسى تفاسحوا وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس والجمهور في المجلس بالأفراد فقيل : على إرادة الجنس لقراءة الجمع وقيل : على إرادة العهد والمراد به (28/28)
جزاءا للأمتثال والذين أوتوا العلم الشرعي درجات أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام وعطف الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا منعطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدهم كأنهم جنس آخر ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا فضل العالم العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الأسلام فبينه وبين النبيين درجة وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة وعنه عليه الصلاة و السلام يشفع يومالقيامة ثلاثة : الأنبياء ثن العلماء ثم الشهداء فأعظم بمرتبة بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلى الله تعالى عليه وسلم وعن ابن عباس خير سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمالفاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعا له
وعن الأحنف كاد العلماء يكونون أربابا وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير وعن بعض الحكماء : ليست شعري أي شيء أدرك منفاتهالعلم وأي شيء فاته من أدرك العلم والدالعلى فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى وأرجى حديث عندي في فضلهم ما رواه الأمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يجمع الله تعالى يوم القيامة فيقول : إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابنمسعود أنه قال : ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات وجعل بعضهم العطفعليه للتغاير بالذات بحمل الذين آمنوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالىيرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن الذين أوتوا معمول لفعل محذوف والعطفمنعطف الجمل أي ويرفع الله الذين أوتوا العلم خاصة درجات ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنهقال في الآية : يرفع الذين أوتوا العلم منالمؤمنين على الذين لم يؤتواالعلم درجات
وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى تقدير العامل والمعنى على ذلك منغير تقدير واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر وقال : يضمر المذكور أحط منهمما يناسب المقام نحو أن يقال : يرفعالله الذين آمنوافي الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما لا يليق بهم من غرف الجنات ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم وجوز كون المراد الموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات وكون العطف منعطف الخاص على العام هو الأظهر وفي الأنتصاف في الجزاء يرفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه منالجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك (28/29)
يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي برفع الدرجات كقوله : من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عز و جل
وقيل : إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص منرفعة المجالس وحبهم للتصدير وهذا منمغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الأنتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم ولا أظن بالذين أوتوا العلم المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرض بهم الخفاجي نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير ن علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا لكن كثير من هؤلاء إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته ومع ذلك قد امتلأ قلبه منحب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العالم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا وهو بناء على ما تقدم منمعناها لدلالتها على فضل العالم على غيره منالمؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل
وقالالجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكمدرجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ففيه دليل على رفع العلماء المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن معنى المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمالبعيد ويظهر منهأيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤالعن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك ويحتمل أنه علم أنهمجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه المتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله والله بما تعملون خبير
11
- تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره وقريء بما يعملون بالياء التحتانية يأيها الذين آمنواغذا ناجيتم الرسول أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة و السلام لأمر ما من الأمور فقدموا بين يدي نجواكم صدقة أي فتصدقوا قبلها وفي الكلام استعارة تمثيلية وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالأنسان وإثبات اليدين تخييل وفي بين ترشيح على ما قيل ومعناه قبل وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه و سلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة و السلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه و سلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيكفرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه الصلاة و السلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت واختلف في الأمر للندب أو للوجوب لكنه نسخ بقوله تعالى : أأشفقتم الخ وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا وقيل : نسخ بآية (28/30)
الزكاة والمعول عليه الأول ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما نزلت يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الخ قال لي النبي صلى الله عليه و سلم : ما ترى في دينار قلت : لا يطيقونه قال : نصف دينار قلت : لا يطيقونه قال : فكم قلت : شعيرة قال : فإنكلزهيد فلما نزلت أأشفقتم الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم : خفف الله عن هذه الأمة ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه وأخرج الحاكموصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهمعنهكرم الله تعالى وجهه أنه قال : إنفي كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أيها الذين آمنواإذا ناجيتم الرسول الخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه و سلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت أأشفقتم الآية وقيل : وهذا على القول بالوجوب محمول على أنهلم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم واختلف في مدة بقائه فعن مقاتل أنه عشرة ليال وقال قتادة : ساعة من نهار وقيل : إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا
وقريء صدقات بالجمع لجمع المخاطبين ذلك أي تقديم الصدقات خير لكم لما فيه من الثواب وأظهر وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الأكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها وفيه إشاة إلى أنفي ذلك إعداد النفس لمزيد الأستفاضة من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند المناجاة
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم
12
- أي لمن لم يجد حيث رخص يبحانه له في المناجات بلا صدقة أظهرإشعارا بالوجوب
أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول أشفقتم محذوف و أن على إضمار حرف التعليل ويجوز أن يكون المفعول أنتقدموا فلا حذف أي أخفتم تقديمالصدقات لتوهم ترتب الفقرعليه وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة منتقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر من استمرار الأمر وتقديم صدقات وهذا أولى مما قيل : إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وتاب الله عليكم بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة وفيه على ما قيل : إشعار بأن أشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤي منهم من الأنقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام توبتهم وإذ على بابها أعني أنها ظرف لما مضى وقيل : إنها بمعنى إذ الظرفية للمستقبل كما في قوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم
وقيل : بمعنى إن الشرطية كأنه قيل : فإن لم تفعلوا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة والمعنى على الأولإنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة واعتبرت المثابرة لأن المأمورينمقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة وعدلعن فصلوا إلى فأقيموا الصلاة ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كمالها لا على أصل فعلها فقط ولما عدلعن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقلوزكوا لئلا يتوهم أن المراد بتزكية النفس كذا قيل فتدبر وأطيعوا الله ورسوله أي في سائر الأوامر ومنهاما تقدمفي ضمن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذاقيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا الآيات وغير ذلك (28/31)
والله خبير بما تعملون
13
- ظاهرا وباطنا
وعن أبي عمرو يعملون بالتحتية ألم تر تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين وفيه على ما قال الخفاجي : تلوين بصرفه عن المؤمنين إلى اتلرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي ألمتنظر إلى الذين تولوا أي والوا قوما غضب الله عليهم وهم اليهود ما هم أي الذين تولوا منكم معشر المؤمنين ولا منهم أي من أولئك القوم المغضوب عليهمأعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك وفي الحديث مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين أي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع
وجوز ابن عطية أن يكون هم للقوم وضمير منهم للذين تولوا ثم قال : فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة وجوز كونها حالا من فاعل تولوا ورد بعدمالواو وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الأسمية المثبتة أو المنفية إذاوقعت حالا بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا وما ههنا أتت بالضمير أعني هم وعلى ما قالابن عطية : في موضع الصفة لقوم
وذكر المولى سعد الله أن في منكم التفاتا وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلى الله عليه و سلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر ويحلفون على الكذب عطف على تولوا داخل في حيز التعجيب وجوز عطفه على جملة ما هم منكم وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف وقوله تعالى : وهم يعلمون
14
- حال من فاعل يحلفون مفيدة لكمالشناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح واستدلبه على أن الكذبيعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظإذ عليهما لا حاجة إليه وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وهم يعلمون بمعنى خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين والأحتمال يبطل الأستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الأسلام حقيقة وقيل : إنهم ما شتموا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بناءا على ما روي أنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال : إنكم سيأتيكمإنساتن ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة و السلام حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك فقال : ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا فنزلت وهذا الحديث أخرجه الأمام أحمد والبزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره فأنزل الله يوم يبعثهم جميعا فيحلفون لهكما يحلفون لكم الآية والتي بعدها ولعله يريد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهمما شتموا
وفي البحر رواية ذلك عن السدي ومقاتل وهو أنه عليه الصلاة و السلام قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية فقال صلى الله عليه و سلم : (28/32)
علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له : فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت والله تعالى أعلم بصحته
وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الياء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحرث بن قيس الأنصاري الوسي ذكره ابن الكلبي والبلا ذري في المنافقين وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر : إنه أطلع على أنهتاب وأما قوله في القاموس : عبد الله ابن نبيل كأمير منالمنافقين فيحتمل أنه هو هذا واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره أعد الله لهم بسبب ذلك عذابا شديدا نوعا من العذاب متفاقما إنهم سآء ما كانوا يعملون
15
- ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتخذوا أيمانهم الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جنة وقاية وسترة عنالمؤاخذة وقرأ الحسن إيمانهم بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين قال في الأرشاد : والأتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل : تستروا بما أظهروه منالإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لهاإلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى : فصدوا أي الناس
عن سبيل الله في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الأسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم وقيل : فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم : صدوا لازم والمراد فأعرضوا عنالأسلام حقيقة وهو كما ترى فلهم عذاب مهين
16
- وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم وقيل : الأول عذابالقبر وهذا عذاب الآخرة ويشعر به وصفه بالأهانة المقتضية للظهور فى تكرار
لن تغني عنهم أموالهم ولآ أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار همفيها خالدون
17
- قد سبق مثله في سورة آل عمران وسبق الكلام فيه فمنأراده فليرجع إليه يوم يبعثهم الله جميعا تقدم الكلام في نظيره غير بعيد فيحلفون له أي لله تعالى يومئذ قائلين : والله ربنا ما كنا مشركين كما يحلفون لكم في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناءا على ما قدمنا من سبب النزول ويحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الفاجرة على شيء من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية ألا إنهم هم المكذبون
18
- البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسرواعلى الكذب بين يدي علام الغيوب وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه عز و جل كما تروجه عند المؤمنين استحوذ عليهم الشيطان أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم وقال الراغب : الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال : حاذ الإبل يحوذها أي ساقها (28/33)
سوقا عنيفا وقوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان أي استاقهم مستوليا عليهم أو من قولهم : استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها أه
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الأستيلاء ومثله الأحواذ والأحوذي وهو كما قال الأصمعي : المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك واستحوذ مما على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس كاستنوق واستصوب وإن وافق الأستعمال المشهور فيه ولذا لم يحل استعماله بالفصاحة وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل فأنساهم ذكر الله في معنى لم يمكنهم من ذكره عز و جل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أولئك الموصوفون بما ذكر منالقبائح حزب الشيطان أي جنوده وأتباعه
ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون
19
- أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايفين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى
إن الذين يحآدون الله ورسوله استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران الشيطان عبر عنهمبالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم أولئك الموصوف بما ذكر في الأذلين
20
- أي في جملة من هو أذل خلق الله عز و جل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز و جل غير متناهية كانت ذلة من حاده كذلك كتب الله استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم وعن قتادة قال : وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه : لأغلبن أنا ورسلي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقول صالح وقوم لوط وغيرهم والحرب بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة و السلام وكذا لأتباعهم يعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله عز و جل لا لطلب ملك وسلطنةوأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا وخص بعضهم الغلبة بالحجة لأطرادهاوهو خلاف الظاهر ويبعده سبب النزول فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا : نرجوا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي : أتظنونالروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أنتظنوا فيهم ذلك فنزلت كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي على نصر رسله عزيز
21
- لا يغلب على مرادهD (28/34)
وقرأ نافع وابن عامر ورسلي بفتح الياء لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر آدون منحاد الله ورسوله خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له و تجد إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى : يوادون الخ مفعوله الثاني وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة وقيل : صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بذاك والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل أن منالممتنع المحال أنتجد قوما مؤمنين يوادون المشركين والغرض منه أنهلا ينبغي أن يكونذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب فيمجانبة أعداء الله تعالى وحاصل هذا على ما في الكشف أنه منفرضغير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان وإنما الواقع نفي الأنبغاء فخيل أنههو فالتصوير في جعل ما لا يمتنع ممتنعا وقيل : المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان علىهذه الحال فالنفي باق على حقيقته والمراد بموادة المحادين موالاتهم ومظاهرتهم والمضارع قيل : لحكاية الحال الماضية و من حاد الله ورسوله ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق والأخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان : يرون أنالآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا يقول اللهتبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهملا تجعل لفاجر في رواية ولا لفاسق على يدا ولا نعمة فيوده قلبي فإني وجدت فيماأوحيت إلى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وحكى الكواشي عن سهل أنه قال : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكلهولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوةوالبغضاء ومن داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن ومنتجبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزغ الله تعالى نور الإيمان منقلبه ومن لم يصدق فليجرب انتهى
ومنالعجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة وليس منهم ولا قلامة ظفر يوالي الظلمة بل منلا علاقة له بالدين منهم وبنصرهم بالباطل ويظهر منمحبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس وإذا تليت عليه آيات الله تعالىوأحاديث رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول : سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته إن كانت بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته وهذا لعمري هو الضلال البعيد وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء ولو كانوا أي من حاذ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام والجمع باعتبار معنى منكما أن الأفراد فيما قبل باعتبار لفظها آباءهم أي الموادين أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم فإن قضية الإيمان بالله تعالى (28/35)
واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة وليس المراد بمنذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف وثني بالأبناءلأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم : أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجاء بغير سلاح وختم بالعشيرة لأن الأعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الأخوان غالبا : لو كنت منمازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذا لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا وقرأ أبو حيان رجاء وعشائرهم بالجمع أولئك إشارة إلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : كتب في قلوبهم الإيمان أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ بالمنتهى للتأكيد والمبالغة وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه
وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم كتب مبنيا للمفعول الإيمان بالرفع على النيابة عن الفاعل
وأيدهم أي قواهم بروح منه أي من عنده عز و جل على أن من ابتدائية والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية وجوز كونه استعارة وقول بعض الأجلة : إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون في القلب وبه الأدراك فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى أو المراد به القرآن على الأحتمالين السابقين واختيرت الأستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر وإطلاق الروح على شائع أقوال
وقيل : ضمير منه للإيمان والمراد بالروح الإيمان أيضا والكلام على التجريد البديعي فمن بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله تعالى : ويدخلهم الخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد الآبدين وقوله تعالى : رضي الله عنهم استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز و جل العاجلة والآجلة وقوله تعالى ورضوا عنه بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وقوله تعالى : أولئك حزب الله تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه : ألا إن حزب الله هم المفلحون
22
- بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة بإلا وإن على ما مر في أمثالها والآية قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فصكه (28/36)
أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أفعلت يا أبا بكر قال : نعم قال : لا تعد قال : والله لو كان السيف قريبا مني لضربته وفي رواية لقتلته فنزلت لا تجد قوما الآيات
وقيل : في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تجد الخ وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد وقال الواقدي في قصة إياه : كذلك يقول أهل الشام وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا : توفي أبو قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الأسلام انتهى
والحق أنه قتله في بدر أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال أي أبو عبيدة قتل أباه وهو منجملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته وقيل : نزلت فيه حيث قتل أباه وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : دعني أكون في الرعلة الأولى وهي القطعة من الخيل قال : متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحرث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر
وتفصيل ذلك ما رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز إلى قوله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة ابن الحرث فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة
هذا ورتب بعض المفسرين ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه وقيل : إن قوله تعالى : لا تجد قوما الخ نزل في حاطب بن أبي بلتعة والظاهر على ما قيل : إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى والله تعالى أعلم (28/37)
سورة الحشر
قال البقاعي : وتسمى سورة بني النضير وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر قال : قل : سورة بني النضير قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد ههنا إخراج بني النضير
وهي مدنية وآيها أربع وعشرون بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وفي أول هذه فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله وأن في الأولى ذكر المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة لا ترد له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أبو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل وكان عليه الصلاة و السلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفة من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل : أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها : الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة و السلام وهو على حمار مخطوم بليف
وقيل : على جمل واستعمل على المدينة ابن مكتوم حتى إذا نزل صلى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب وقيل : استمهلوه عليه الصلاة و السلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون أخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة و السلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم على ما قال ابن هشام في سيرته ست ليال وقيل : إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا مننصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة و السلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا منالمتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام (28/38)
ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيقد قال لهم : معنى ألفان منقومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز و جل : بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم
1
- إلى قوله تعالى : والله على كل شيء قدير وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد وكرر الموصول ههنالزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح وقولهتعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز و جل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق والمراد بالذين كفروا بنو النظير بوزن الأمير وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهنبن هارون كما في البحر ويقال : إنهم نزلوا قريبا من المدينة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلى الله عليه و سلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى
وقيل : إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق وقال لهم : لا تستحيوا منهمأحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله تعالى والله لأدخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان وروي عن الحسن أنهمبنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب والثاني متعلق بأخرج وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا وضمير هو راجع إليه تعالى بعنوان العزة والحكمة إما بناءا على كمالظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة منالمقام أو على جعله مستعارا لاسم الأشارة كما في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم علىقلوبكم من إله غير الله يأتكمبه أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج الخ ففيه إشعار بأنفي الأخراج حكمة باهرة وقوله تعالى : لأول الحشر متعلق بأخرج واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون ومآلها إلى معنى في الظرفية ولذا قالوا هنا أيفي أول الحشر لكنهملم يقولوا : إنها بمعنى في إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها للأختصاص لأن ما وقع فيوقت اختص بهدون غيره من الأوقات وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ماحشروا وأخرجوا ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهمجلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناءا على أنهملم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم أو لم يصبهمذلك في الأسلام أو على أنهمأول محشورين من أهل الكتاب في جزيرة العرب إلى الشام ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر وبعضهميعتبرها فمعنى أول الحشر أنهذا أولحشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمررض عنه إياهم من خيبر إلى الشام وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأنالمحشر يكون بالشام
وعن عكرمة منشك أن المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى لأولحشرهم (28/39)
إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل وهو يوم القيامة من القبور ولا يخفى أنهضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا : المعنى لأول موضع الحشر وهوالشام وفي الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال لهم : اخرجوا قالوا : إلى أين قال : إلى أرض المحشر ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا وقيل : آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة إي هذا أوله والقيام من القبور آخره وهو كماترى وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى الله عليه و سلم أو حشره الله عز و جل لقتالهم لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ولذا قيل : إنهالظاهر وتعقب بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة و السلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة مع المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا نعم يشترط فيه كونالمحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير ومشروعية الإجلاء كانتفي ابتداء الإسلام وأما الآن فقد نسخت ولا يجوزإلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا لشدة بأسهم ومنعتهم ورثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم
وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله أي ظنوا أن حصونهم ما نعتهم أوتمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ وما نعتهم خبر مقدم والجملة خبر أن وكان الظاهر لمقابلة ما ظننتم أنيخرجوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للأشعار بتفاوت الظنين وأنظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء بمانعتهم وحصونهم مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الأختصاص فكأنهلا حصن أمنع من حصونهموبمايدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهمفي عوة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أويطمع فيمعازتهم فجيء بضمير هم وصير اسما لأنوأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي وفي كونذلك من باب التقوى بحث ومنع بعضهم جواز الأعراب السابق بناءا على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا وصحح الجواز في المشتق دون الفعل نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون حصونهم فاعلا لما نعتهم لاعتماده على المبتدأ
وجوز كون ما نعتهم مبتدأ خبره حصونهم وتعقب بأن فيه الأخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأنقصد استمرار المنع فتأمل وكانت حصونهم على ما قيل : أربعة الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة وزاد بعضهم الوحدة وبعضهم شقا والذيفي القاموس أنهموضع بخيبر أو واد به فأتاهم الله أي أمره سبحانه وقدرهDالمتاح لهم من حيث لم يحتسبوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج (28/40)
قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقل شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة وقيل : ضمير أتاهم و لم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهمنصر الله من حيث لم يحتسبوا وفيه تفكيك الضمائر
وقريءفآتاهم الله وهو حينئذ متعد لمفعولين ثانيهما محذوف أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وقذف في قلوبهم الرعب أيالخوف الشديد من رعبت الحوض إذا ملأته لأنهيتصور فيه أنه ملأ القلب وأصلالقذف الرمي بقوة أو من بعيد والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركوزه في قلوبهم
يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وأيديالمؤمنين حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ولماكان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم وبهذا الأعتبار عطفت أيدي المؤمنين على أيديهم وجعلت آلة لتخريبهم مع أنالآلة هي أيديهم أنفسهم فيخربون على هذا إما منالجمع بين الحقيقة والمجاز أو منعموم المجاز والجملة إما فيمحل نصب على الحالية منضمير قلوبهم أو لا محل لها من الأعراب وهي إما مستأنفة جواب عنسؤالتقديره فماحالهمبعد الرعب أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الأتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو يخربون بالتشديد وهو للتكثير في الفعلأو في المفعول وجوز أن يكون في الفاعل وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد وأخرب تركالموضع خرابا وذهب عنه فالإخراب يكون أثر التخريب وقيل : هما بمعنى عدي خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فاعتبروا يأولي الأبصار
2
- فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار واتقوا مباشرة ما اداهمإليه من الكفر والمعاصي واعتبروا من حالهم في غدرهمواعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهممكرهين إلى حالأنفسكم فلا تعولوا علىتعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز و جل بل توكلوا عليه سبحانه
واشتهر الأستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي وقالوا : إنه تعالى أمر فيها بالأعتبار وهوالعبور والأنتقال من الشيء إلى غيره وذلك متحقق فيالقياس إذافيه نقل الحكممن الأصل إلى الفرع ولذا قالابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية والأصل في الأطلاق الحقيقةوإذ ثبتالأمر وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ثبتت مشروعيةالعملبالقياس واعترض بعد تسليم ظهورالأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الأعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الأتعاظ لأنهالمتبادر حيث أطلق ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرتهيقال : إنهغير معتبر ولو كان القياس هو الأعتبار لم يصح هذا السلب سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة فيكفي فيالعمل بها العمل بالقياس العقلي سلمنا لكن العام مخصص بالأتفاق إذ قلتم : إنهإذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم وإن كان أسود (28/41)
وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أنالخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم وأجيب بأنه لو كان الأعتبار بمعنى الأتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الأنتقال المذكور لأنه متحقق في الأتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الأنتقال وهو القياس والآيتان على ذلك ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة وأطلق النفي إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به والآية إن دلت على العمومفذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها وقد برهن على أنالعام التخصيص حجة وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يومالقيامة قد انعقد الإجماع عليه ولا يضر الخلاف فيشمول اللفظ وعدمه على أنهإن عم أو لم يعم هو على الخصوم في بعض محل النزاع ويلزم من ذلك الحكمفي الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق
هذا وقال الخفاجي في وجه الأستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالأعتبار وهو رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه وهذا يشمل الأتعاظ العقلي والشرعي وسوق الآية للأتعاظ فتدلعليه عبارة وعلى القياس إشارة وتمامك الكلام على ذلك في الكتب الأصولية ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لعذبهمفي الدنيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم وجلوا عنها خرجوا وبرزوا ويقال أيضا : جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأنالجلاء ما كان مع الأهل والولد والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد
وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة ويقال فيه : الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة وأنمصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأنكما توهمه عبارة الكشاف وقد صرح بذلك الرضي وقوله تعالى : ولهم في الآخرة عذاب النار
3
- استئناف غير متعلق بجواب لو لا أي أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهوالجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوينأمر الجلاء على أنفسهم بنافع وفيه إشارة إلى أنالقتل أشد من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عندهإلى عذاب النار إنما أوثر الجلاء لأنهأشق عندهموأنهم غير معتقدين لما أمامهممن عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لا حتياجها للتأويل لعدم المقارنة
ذلك أي ما نزل بهم وما سينزل بأنهم بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله وفعلوا مافعلوا من القبائح ومنيشاق الله وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال والأقتصار على ذكر مشاقته عز و جل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة و السلام وفيه من تهويل أمرها ما فيه وليوافق قولهتعالى : فإن الله شديد العقاب
4 (28/42)
وهذه الجملةإما نفس الجزاء وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل : ذلك الذي نزل وسينزل بهم منالعقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قطعتم منلينة هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة وتجمع على ألوان وقالابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة وقال أبو عبيدة وسفيان : ما تمرها لون وهو نوع من التمر قالسفيان : شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج وقال أبو عبيدة أيضا : هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هي العجوة وقال الأصمعي : هي الدقل وقيل : هي النخلة القصيرة وقال الثوري : الكريمة من النخل كأنهماشتقوها من اللين فتجمع على لين وجائ جمعها ليانا كما في قول امريء القيس : وسفالة كسحوق الليان أضرم فيه القوي السعر وقيل : هي أغصان الأشجار للينها وهو قول شاذ وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة : كأنقنودي فوقها عش طائر على لينة سوقاء تهفو جنوبها ويمكن أن يقال : أراد باللينة النخلة الكريمة لأنهيصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبهبه إلى ذلك المعنى و ما شرطية منصوبة بقطعتم و من لينة بيان لها ولذا أنث الضمير في قوله تعالى : أوتركتموها قآئمة على أصولها أيأبقيتموها كانتولم تتعرضوا لها بشيء ما وجواب الشرط قوله سبحانه : فبإذن الله أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى الله عليه و سلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز و جل وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بنعلي قوما على وزن فعل كضربجمعقائم وقريء قائما اسم فاعل مذكر على لفظ ما وأبقى أصولها على التأنيث وقريء أصلها بضمتين وأصله أصولها فحذفت الواو اكتفاءا بالضمة أوهوكرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف
وليخزي الفاسقين
5
- متعلق بمقدر علىأنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنينوليخزي الفاسقين أي ليذلهمأذن عز و جل في القطع والترك وجوز فيه أن يكون معطوفا علىقوله تعالى : بإذن الله وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم واعتبار القطع والترك فيالمعللهو الظاهروإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الأنتصاف
قال بعضهم : وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاءوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم منعزته (28/43)
على صاحبه غير الغارس له وقد سمعت بعض الغارسين يقول : السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانتالمقطوعة النخلة الكريمة أظهر وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمينإن كانتهي المتروكة والذي تدل عليه بعض الآثار أن الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى الله عليه و سلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار والثاني بأنه اسبقاء الكريمة للمسلمين وكان ذلك أولنزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا : يا محمد كنتتنهى عن الفساد في الأرض فما بالقطع النخل وتحريقها ! فنزلت الآية وماقطعتم من لينة الخ ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه وأما التعرض للترك مع أنه بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا في سلك ما ليسبفساد إيذانا بتساويهما في ذلك
واستدلبالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنهإن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة وقوله تعالى : ومآ أفآء اللهعلى رسوله منهم شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه و سلم من أولئك الكفرة وهم بنو النضير و ما موصولة مبتدأ والجملة بعدها صلة والعائد محذوف كما أشرنا إليه والجملة المقترنة بالفاء بعد خبر ويجوز كونها شرطية والجملة بعد جواب والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهمأموالهم التيبقيت بعد جلائهم والمراد بإعادتها عليه عليه الصلاة و السلام تحويلها إليه وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلى الله عليه و سلم نظير ما قيل في قوله تعالى : أولتعودن في ملتنا ظاهر وإن اقتضى سبق الحصولفيما ذكر مجازا وفيه إشعار بأنهاكانت حرية بأن تكونله صلى الله عليه و سلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها وكذاشأن جميع أموال الكفرة التي تكونفيئا للمؤمنين لأنالله عز و جل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموالليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكونللمطيعين ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة : فيء مع أنه منفاء الظل غذا رجع ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أغراض ادلنيا يجري مجرى ظل زائل و أفاء على ما في البحر بمعنى المضارع أما غذاكانت ما شرطية فظاهر وأما إذاكانتموصولة فلأنها إذا كانتالفاء في خبرها تكونمشبهة باسم الشرط فإن كانتالآية نازلة قبل جلائهم كانتمخبرة بغيب وإن كانتنزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صكانت بيانا لمايستقبل وحكم الماضي حكمه والذي يدل عليه الأخبار أنها نزلت بعد روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوارباعهم وأموالهم طلب المسلمونتخميسها كغنائم بدرفنزل ما أفاء اللهعلى رسوله منهم فمآأوجفتم عليه الخ فكانتلرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عنعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمونعليه بخيل ولا ركاب وكانتلرسول اللهص خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى (28/44)
وقال الضحاك : كانت له صلى الله عليه و سلم خاصة فآثر بها المهجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة أعطاهم لفقرهم وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر الأولين ولم يذكر الحرث وكذا لم يذكره ابن سيد الناس وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبيالحقيق كان له ذكر عندهم ومعنى ما أوجفتم عليهم ماأجريتم على تحصيله منالوجيف وهو سرعة السير وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب : ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولو لا أنتلم توجف الركب وقالابن هشام : أوجفتم حركتم وأتعبتم في السير وأنشد قول تميم بن مقبل : مذ أويد بالبيض الحديث صقالها عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا والمآل واحد و من في قوله تعالى : من خيل زائدة في المفعول للتنصيص على الأستغراق كأنهقيل فماأوجغتم عليه فردا من أفراد الخيل أصلا ولا ركاب ولا ما يركب من الأبلغلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح : راكب لمنكان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال : فارسونحوه وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا وإنما لم يعلموا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بن النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان على حمار أو على جمل كما تقدم لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها وكان المراد إن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتد به منكم ولهذا لم يعط صلى الله تعالى عليه وسلم الأنصارإلا منسمعت وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونه غرباءفنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد ولماأشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز و جل : ولكن الله يسلط رسلهعلى من يشاء أيولكن سنته عز و جل جارية على أن يسلط رسلهعلى من يشاء من أعدائهمتسليطا خاصا وقد سلط رسوله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أنتقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم ويكونأمرها مفوضا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم والله على كل شيء قدير
6
- فيفعل ما يشاء كما يشاءتارة علىالوجوهالمعهودة وأخرى على غيرها وقيل : الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحتبه الأخبار والواقع من القتال شيء لا يعتد به
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم منقرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه منبني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جوابسؤال مقدر ناشيء مما فهم من الكلام السابق فكأنقائلا يقول : قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى منبني النضير فما حكمما أفاء عز و جل من غيرهم فقيل : ما أفاء الله علىرسوله من أهلالقرى الخ ولذا لم يعطف على ما تقدم ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم (28/45)
الفيء لا الغنيمة ولا الأعم وفرقوابينهما قالوا : الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة وماصولحوا من غير نحو قتال وما جلواعنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة وما لمرتد قتل أو مات على ردته وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا منذميين فإنه لهم لا يخمس وحكمها مشهور
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا : الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أنتخمس وباقيها للغانمين خاصة والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ونقل هذا الحكمابن حجر عمنعدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن راجع إلينا من الكفار واختلاف السبب بالقتالوعدمه لا يؤثر والذينطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قالخاطبا : اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أنالسواد فتح غنوة وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين ولذا قالبعض الشافعية : إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق وما جعله الله تعالى من ذلك لمنتضمنه قوله تعالى : فللهوللرسول إلى ابن السبيل هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم : لمن ذكر الله عز و جل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد وذكره تعالى كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماواتوما في الأرض وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة و السلام
وقال أبو العالية : سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته وهو الكعبة المشرفة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس ويلزمه أن السهام كانتستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك وسهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع وهو خمس الخمس وكان ينفق منه نفسه وعياله ويدخر منهمئونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين وسقط عندنا بعد وفاتهE قالوا : لأن عملالخلفاء الراشدين على ذلك وهم أمناء الله تعالى على دينه ولأن الحكم معلق بوصف مشتق وهوالرسول فيكون مبدأ الأشتقاق وهو الرسالة علة ولم توجد في أحد بعده وهذا كما سقط الصفي
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة و السلام كان يستحقه لإمامته دونرسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ والأكثرون منالشافعية أنما كان له صلى الله تعالى عليه وسلم منخمس الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين والأئمة والمؤذين ولو أغنياء وسائر من يشتغل على نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم والحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه ويقدم الأهم فالأهم وجوبا (28/46)
وأهمها سد الثغور ورد سهمه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة و السلام في الخبر الصحيح : ما لي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها الأصناف ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس والمراد بذي القربى قرابته صلى الله عليه و سلم والمراد بهمبنو هاشم وبنو عبد المطلب لأنهص وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس ومنذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلكبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم حتى كأنهم على قلب رجل واحد قيل : لذي القربى دون لذوي بالجمع
قال الشافعية : يشترط في هذا السهم الغني والفقير لأطلاق الآية ولأعطائه صلى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا بل قيل : كان له عشرونعبدا يتجرون له والنساء لأنفاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه ويفضل الذكر كالآرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظي الأنثى ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالأرث ويثبت كون الرجل هاشميا مطلبيا بالبينة وذكر جمع أنه لا بد معها من الأستفاضة وبقول الشافعي قال أحمد وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم إن كان أمره أهم من أمرهم
وقال المزني والثوري : يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة والغني واتلفقير سواء لأطلاقالنص ولأنالحكمالمعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الإشتقاق وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم مستقل ولا يعطون مطلقا وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهملاندراجه في اليتامى والمساكين وابن السبيل لكنيقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم : سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وعلي كرم الله تعالى وجههفي خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل ويحمل على الرجوع إلىرأيهم إن صح عنه أنهكان يقول : سهم ذوي القربى على ما حكى عن الشافعي وفائدة ذكرهم على القول بأناستحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه منقبيل الصدفة ولا تحل لهم ومنتتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوايسهمونهممطلقا وهو رأي علماء أهل البيت واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أنكلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الأقتصار عندنا على صنف واحد كأنيعطى تمام الخمس لابن السبيل وحدهمثلا
والكلام مستوفي في شروح الهداية والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية : اليتيم هو صغير لا أبله وإن كان له جد ويشترط إسلامه وفقره أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة وفائدة ذكرهممع شمولالمساكين لهم عدم حرمانهملتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفسه في بيت المال ولا بد في ثبوت اليتيم (28/47)
والإسلام والفقر منالبينة ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلايمين وإن أتهما نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيالأنه يكلف بينة انتهى واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف وهو شافعي بعد أن اختار جعل للفقراء بدلا من ذي القربى وما عطف عليه من تضمنهقوله تعالى : والذين تبوءوا إلى قوله سبحانه : والذين جاءوا من بعدهم على معنى أن له عليه الصلاة و السلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وقال : إنهاللمقاتلين الآن على الأصح وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهمما لم يوجد تبرع والمرتزقة الأجناد الموصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلى الله عليه و سلم وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أنهذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة و السلام منخمس الخمس فجعله ما كان يأخذه صلى الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما منخمسة وعشرين وكان علي ماقالالروياني : يصرف العشرين التي له عليه الصلاة و السلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر وقال الغوالي : كان الفيء كله له صلى الله عليه و سلم في حياته وإنما خمس بعد وفاته
وقال الماوردي : كان له صلى الله تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها وقالالزمخشري : إن قوله تعالى : ما أفاء الله الخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة وظاهره أن الجملة استئناف بياني والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادتالجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأنما يوضع موضع الخمس منالغنائم هو الكل لا أن خمسه كذلك والباقي وهو أربعة أخماسه لمنتضمنه قوله تعالى : والذين تبوءوا إلى قوله سبحانه : والذين جاءوا من بعدهم على ما سمعت سابقا وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في منهم أعني بنيالنضير وعدل عن الضمير إلى ذلك على ما في الإرشاد إشعارا بشمول ما في ما أفاء الله لعقاراتهم أيضا واعترض صاحبالكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم ووجهالآية بما أيد به مذهبه ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر
وقال ابن عطية أهل القرى المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكمأموالبني النضير فإن تلك كلها له صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهذه قسمها كغيرها وقيل : المراد بما أفاء الله تعالى على رسوله خيبر وكان نصفها لله تعالى ورسولهصص ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة و السلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة وكان الذيللمسلمين الشق وكانثلاثة عشر سهما ونطاة وكانتخمسة أسهم ولم يقسم عليه الصلاة و السلام منخيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله (28/48)
ابن عمرو الأنصاري روي هذا عن ابن عباس وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج
وعن الزهري أنه قال : بلغني أنه ذلك وأنت قد سمعت أنعمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على إبقاءسواد العراق بأيادي أهله وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكنليس ذلك إلا لأن وصول مفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم
وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الأعتناء وفيه على ما قيل : تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما ووجه إفراد ذي القربى قد ذكرناه غير بعيد ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قيل : وابن السبيل بالإفراد كما قيل : ولذي القربى وعلى ذلك قوله : أيا جارتا إنا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نسيب كي لا يكون تعليل للتقسيم وضمير يكون لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء دولة هي بالضم وكذا بالفتح ما يدول أي مايدور للأنسان منالغناء والجد والغلبة وقالالكسائي وحذاق البصرة : الدولة بالفتح في الملك بالضم و الدولة بالضم في الملك بالكسر أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل : وفي الجاه وقيل : هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد وجمهور القراء قرأوابضم الدال والنصب وبالياء التحتية في يكون على أن اسم يكون الضمير و دولة الخبر أي كي لا يكونالفيء جدا بين الأغنياء منكم أي بينهمخاصة يتكاثرون به أو كي لا يكون دولة وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمةويقولون من عزيز وقيل : المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء خاصة بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا منالفقراء
وقرأ عبد الله تكون بالتاء الفوقية على أنالضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ورفع دولة بضم الدالعلى أن كان تامة و دولة فاعل أي كي لا يقعدولة وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا ونصب دولة بفتح الدالعلى أن كان ناقصا اسمها ما سمعت و دولة خبرها ويقدرمضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانهكان للتيمنعند الأكثرين لا لأن له عز و جل سهما وكذا يجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا وما اشتهر منقوله عليه الصلاة و السلام : الفقر فخري لا أصلله وكيف يتوهممثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أحب خلقهإليه سبحانه حتى قالبعضالعارفين : لا يقال له صلى الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه اتلصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك وقيل : إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الأنقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز و جل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمنبعد لا محذورا فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنهلا يعطي أغنياء ذوي القربى وإنما يعطي فقراؤهم وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكونفيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر ولا يلزم أن كل من يدفع إليه (28/49)
شيء منه فقيرا وما آتاكمالرسول أي ما أعطاكم من الفيء فخذوه لأنه حقكم الذي أحله اللهتعالى لكم ومانهاكمعنه أي عن أخذه منه فانتهوا عنه واتقوا الله في مخالفته عليه الصلاة و السلام إن الله شديد العقاب
7
- فيعاقب من يخالفه صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في العموم وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل ولذلك عقب بقوله تعالى : واتقوا الله تعميما على تعميم فيتناول كل ما يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول وروي ذلك عن ابن جريج
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى فبلغ ذلك امرأة منبني أسد يقال لها أم يعقوب وكانتتقرأ القرآن : فأتته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب اللهD فقالت : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته قال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت قوله تعالى : وماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : بلاى قال فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنه وعن الشافعي أنه قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عبد الله بن محمد بن هرون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور فقال : قال الله تعالى : وما أتاكمالرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أي بكر وعمر
وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور هذا من غريب الأستدلال وفيه على علاته ككلام ابن مسعود حمل ما في الآية على العموم وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا قيل : والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكمله : قيل : والأول أقرب لأنه لا يقال : أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا تركه للفقرآء المهاجرين قال الزمخشري : بدل من قوله تعالى : لذي القربى والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من لله وللرسول ومابعد وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله عز و جل أخرج رسوله عليه الصلاة و السلام من الفقراء في قوله سبحانه : و ينصرون الله ورسوله وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة و السلام عن التسمية بالفقير وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز و جل وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لأن فيه سوء أدب انتهى
وعني أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ماذكر قال الإمام : فكأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين وما ذكر من الأبدال من لذي القربى وما بعده مبني على قول الحنفية إنه لا يعطي الغني من ذوي القربى وإنما يعطي الفقير ومن يرى كالشافعي أنه يعطي غنيهم كما يعطي فقيرهم خص (28/50)
الأبدال باليتامى وما بعده وقيل : يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر يفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة و السلام لم يعط غنيا شيئا منه والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر
وفي الكشف أن للفقراء ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل : لله وللرسول وللمهاجرين وقال ابن عطية : للفقراء الخ بيان لقوله تعالى : اليتامى والمساكين وابن السبيل وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبين أن البدل هو منها وقيل : اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى : كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم كأنه قيل : ولكن يكون للفقراء المهاجرين
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الأحتمال بناءا على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج فخرجوا منها وهذا وصف باعتبار الغالب وقيل : كان هؤلاء مائة رجل يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي طالبين منه تعالى رزقا قالفي الدنيا ومرضاة في الآخرة وصفوا أولا بما دل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام وينصرون الله ورسوله عطف على يبتغون فهي مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة أولئك الموصون بما ذكر من الصفات الجليلة هم الصادقون
8
- أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله ولم يثبت منه ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الأستدلال على صحة إمامة أبيبكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنهصحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عنمثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة ومنهمعلي كرم الله تعالى وجهه ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الأكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا والذين تبوءوا الدار والإيمان الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين والمراد بهم الأنصار والتبوؤ النزول في المكان ومنه المباءة للمنزل ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر وأما نسبته إلى الإيمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الأستعارة المكنية التخييلية والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم
وقال غير واحد : الكلام من باب
علفتها تبنا وماءا باردا
أيتبوأو الدار وأخلصوا الإيمان وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان وقيل : في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الأضافة وفي الإيمان حذف مضاف أي ودار الإيمان (28/51)
فكأنه قيل : تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنتتريد زيدا ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى وقيل : الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين وهو أيضا ليس بشيء وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك منقبلهم أي من قبل المهاجرين والجار متعلق بتبوأوا والكلام بتقدير مضاف أي من قبلهجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ولا يلزم منه سبق إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس وجوزأن لا يقدر مضاف ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل يبقهم إياهمفي التمكن فيه لأنهملم ينازعوا فيه لما أظهروه
وقيل : الكلام على التقديم والتأخير والتقدير تبوأوا الدار والإيمانفيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا وقيل : لا حاجة إلى شيء مما ذكر وقصارى ما تدل الآية عليه تقدممجموع تبويء الأنصاري وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههناتبوؤ الدار وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال : بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهمعلى تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يحيونمنهاجر إليهم في موضع الحالمن الموصول وقيل : استئناف والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدمالأستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم وقيل : على ظاهره أييحبون المهاجر إليهممنحيث مهاجرته إليهملحبهمالإيمان ولا يجدون في صدورهم أي ولا يعلمون في أنفسهم
حاجة أي كطلب محتاج إليه مما أوتوا أي مما أعطي المهاجرونمن الفيء وغيره وحاصله أن نفوسهملم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمع إلى شيء منه تحتاج إليه فالوجدان إدراك عملي وكونه في الصدر من باب المجاز والحاجة بمعنى المحتاج إليه وهو استعمالشائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاهمنمالهحاجته و من تبعيضية وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مر في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس
ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون في أنفسهمما يحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها وقيل : على أنها كناية به عماذكر لأنهلا ينفكعن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم وما تقدم أولى وقولبعضهم : أي أثر تقدير معنى لا إعراب و من في قوله تعالى : مما أوتوا تعليلية ويؤثرون أي يقدمونالمهاجرين على آنفسهم في كل شيءمن الطيبات حتى أنمنكان عندهامرأتانكان ينزل عن إحداهماويزوجها واحدا منهم ويجوز أنلا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن (28/52)
أبيهريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقالE : ألارجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما ويؤثرون الخ
وأخرج الحاكم وصححه وابنمردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذامنا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخرحتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأولفنزلت ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهمخصاصة أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانهمنالفرج والفتوح والجملة في موضع الحال وقد تقدموجه ذلك مرارا ومنيوقشح نفسه الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال : يمارس نفسا بينجنبيه كزة إذا همبالمعروف قالت له مهلا وأضيف إلى النفس لأنه غزيرة فيها وأما البخل فهو المنعنفسه وقال الراغب : الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أنيبخل الأنسان بما في يده والشح أن يشح على ما في يدي الناس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبيشيبة وابنأبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكموصححه وجماعة عن ابن مسعود أنرجلا قال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك قال : إني سمعت الله تعالى يقول : ومن يوق شح نفسه الآية وأنارجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكلمال أخيك ظلما وأخرجابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليسالشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنماالشح أنتطمح عين الرجل إلى ما ليس له ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح ولعل المراد أنهالبخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يود جود الغير به وتنقبض نفسه منهويسعى في أن لا يكون أو بحيث يبلغ به الحرص إلىأن يأكل مال أخيه ظلما أوتطمح عينه إلى ما ليس لهولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل
وقرأ أبو حيوة وابن أبيعبلة ومن يوق بشد القاف وقرأ ابن عمر وابن أبيعبلة شح بكسر الشين وجاء فيه لغة أيضا ومعنى الكل واحد ومعنى الآية ومنيوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شحنفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق فأولئك هم المفلحون
9
- الفائزون بكل مطلوب الناجون من كلمكروه والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ منومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى : (28/53)
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا ويفهم من الآية ذم الشح جدا وقد وردت أخبار كثيرة بذمه أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا ما محق الإسلام محق الشح قط وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبيهريرة مرفوعا لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنمفي جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا
وأخرج أبو داود والترمذي وقالغريب والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبيسعيد الخدري مرفوعا خصلتانلا يجتمعان في جوف مسلمالبخل وسوء الخلق وأخرجابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها : انطقي فقال : قد أفلح المؤمنون فقال الله عز و جل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنالشح قد أهلك من كان قبلكمحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم إلى غير ذلك من الأخبار لكن ينبغي أنيعلم أن تقوي الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه وقوله تعالى : والذين جآءوا من بعدهم عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين والمراد بهؤلاء قيل : الذين هاجروا حين قوي الأسلام فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة وضمير من بعدهم للمهاجرين الأولين وقيل : همالمؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان وضمير من بعدهم للفريقين المهاجرين والأنصار وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريحفيه فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين وجملة قوله تعالى : يقولون الخ خالية وقيل : استئناف ربنا اغفر لنا ولإخواننا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الذين سبقونا بالإيمان وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم ولا تجعل في قلوبنا غلا أي حقدا وقريء غمرا للذين آمنوا على الإطلاق ربنآ إنك رءوف رحيم
10
- أي مبالغ في الرأفة والرحمة فحقيق بأن تجيب دعاءنا وفي الآيةحث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم وأخرج عبد بن حميد وابنالمنذر وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أمرواأنيستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية والذين جاءوا الخ
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه (28/54)
فقرأعليه للفقراء المهاجرين الآية ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت قال : لا ثم قرأعليه والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية ثم قال : هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت قال : لا ثم قرأ عليه والذين جاءوا من بعدهم الآية ثم قال : أفمن هؤلاء أنت قال : أرجو قال : لا والله ليس من هؤلاء منسب هؤلاء
وفي رواية أنابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نالمن عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال وقالالإمام مالك : من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهمقول سيء أو بغض فلاحظ له في الفيء أخذا من هذه الآية وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في أيام ثلاثة يطلع عليكمالآنرجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله : هذه التي بلغت بك وهي التيلا نطيق وفي رواية أنه قال : لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله : لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها واللهلقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بينا هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : والذين تبوأوا الخ مبتدأ وجملة يحبون الخخبره والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار وجوز كون ذلك معطوفا على أولئك فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق وجملة يحبون الخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال منضمير تبوأوا وإلى أن قوله تعالى : والذين جاءوا الخ مبتدأ وجملة يقولون الخ خبره والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه منالجملة السابقة لمدح الأنصار
واستدل لعدم عطف الذين تبوأوا على المهاجرين بما روي أن النبي عليه الصلاة و السلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولميعط الأنصار إلا ثلاثة كماتقدم وقال عليه الصلاة و السلام لهم : إن شئتمقسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا : بل نقسم لهم أي المهاجرين من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولانشاركهم فيها فنزلت الآية والذينتبوأوا الدار والإيمان إلى آخره وبعضالقائلين بالعطف يقولون : إن قوله تعالى : والذينتبوأوا الخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أنله عليه الصلاة و السلام أنيعم الناس بها حسب اختياره وأنالأنصار مصرف من المصارف ولكن قد اختار صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة و السلام لهم وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم رمزإليه على أن في الأخبار ما هوأصح وأصرح فيالدلالة على عطفهم على ما تقدم وأنهم يعطون من الفيء وكذا عطف الذين جاءوا من بعدهم فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن مالك ابن أوسبن الحدثان في حديث طويل أنعمر رضي الله تعالى عنه قال أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه وعمهالعباس رضي الله تعالى عنه في فدك وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن (28/55)
يعملا فيها بما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعملبه فيها فتنازعا إن الله تعالى قال : ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليهم من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله علىكل شيء قدير فكانتلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة ثم قال سبحانه : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى إلى آخر الآية ثم واله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناوينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه : والذينجاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا إلى قوله تعالى : رحيم فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمكهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون للفقراء بدلا من لذي القربى وما بعده ولا مما بعده دونه وكذا ظاهر ما في مصحفعبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش ما أفاء اللهعلى رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات وفي صدق ذلك عليهم بعد وكذا يقتضي كونابن السبيل كذلك وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني وذلك أنهمكانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى : فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أنالمذكورين مصرف الخمس ولميعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا : فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي فقيل : تكون الأخماس الأربعة أو يكون الباقي للفقراء المهاجرين إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك
ألم تر إلى الذين نافقوا حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم والخطاب لرسول الله عليه الصلاة و السلامأو لكل أحد ممتن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس نزلت في رهط من بني عوف منهمعبد الله بن أبي بن سلوان ووديعة بن مالك وسويد وداعش بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى : يقولون الخ
وقال السدي : أسلم ناس من بني قريظة والنظير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى والمعول عليه الأول وقوله سبحانه : يقولون استئناف لبيان المتعجب منه وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم أولاستحضار صورته واللام في قوله عز و جل : لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب للتبليغ والمراد بأخوتهم الأخوة في الدين واعتقاد الكفرة أو الصداقة وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر إخوان ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة وقل خلاف ذلك واللام في قوله تعالى : لئن أخرجتم موطئة للقسم وقوله سبحانه لنخرجن معكم جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم ألبتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم (28/56)
ولا نطيع فيكم في شأنكم أحدا يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه أبدا وإن طال الزمان وقيل : لا نطيع فيقتالكم أو خذلانكم قال في الإرشاد : وليس بذاك لأن تقدير القتالمترقب بعد ولآن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليسمجرد طاعتهم لمنيدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى : إن قوتلتم لننصرنكم أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عنر صلى الله عليه و سلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانتعند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم ولا ريب في أنما يفعله عليه الصلاة و السلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم وأماالخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدعوا أن خروجهم معهم لمابينهممنالصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين ونوقش في ذلك وجواب إن محذوف و لننصرنكم جواب قسم محذوف قبل إن الشرطية وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط والله يشهد إنهم لكاذبون
11
- في مواعيدهم المؤكدة بالإيمان وقوله تعالى : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهمعلى التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال ولئن قوتلوا لا ينصرونهم وكان الأمر كذلك والإخبار عن خلقهم في الميعاد قيل : من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز وهذا مبني علىأن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل : يدل على خلافه
وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : يقولونلئن أخرجتم الخ من باب الإخبار بالغيب بناءا على ما يروى أنعبد الله بن أبي دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة و السلام على ما دسه ولئن نصروهم على سبيل الفرض والتقدير ليولن أي المنافقون الأدبار فرارا ثم لا ينصرون
12
- بعد ذلكأي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لطهور كفرهم أو ليولن أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين وقيل : الضمير المرفوع في نصروهم لليهود والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء وكأنهدعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاةبين لا ينصرونهم ولئن نصروهم على الوجه السابق وقد أشرنا إلى ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله لأنتم أشد رهبة أي أشد مرهوبية على أن رهبة مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنون مرهوب منهم لا راهبون في صدورهم من الله أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز و جل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز و جل ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى لشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك قيل : إن في صدورهم على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلك أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى بأنهم بسبب أنهم قوم لا يفقهون
13
- شيئا حتى يعلموا عظمة الله عز و جل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى والمراد بهؤلاء اليهود وقيل : المنافقون وقيل : الفريقان لا يقاتلونكم (28/57)
أي اليهود والمنافقون وقيل : اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم جميعا أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إلا في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها أو من ورآء جدر يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبادرزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبكم ومزيد رهبتهم منكم
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب جدر بإسكان الدال تخفيفا ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من الكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدالوهي مفرد الجدر والقصد فيه إلى الجنس أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان
وقرأ جمع منالمكيين وهارون عن ابن كثير جدر بفتح الجيم وسكون الدال قال صاحب اللوامح : وهو الجدار بلغة اليمن وقال ابن عطية : معناه أصل بنيان كسور وغيره ثم قال : ويحتمل أن يكون منجدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقي به عند المصافة بأسهم بينهم شديد استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب تحسبهم جميعا أي مجتمعين ذوي ألفة واتحاد وقلوبهم شتى جمع شتيت أي متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون من عند قوس واحدة وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم
وقرأ مبشر بن عبيد شتى بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق وعبد الله وقلوبهم أشت أي أكثر أو أشد تفرقا ذلك بأنهم أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قوم لا يعقلون
14
- شيئا حتىيعلموا طرق الألفة وأسباب الأتفاق وقيل : لا يعقلون أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهمبحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك وقوله تعالى : كمثل الذينمن قبلهم خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر كما قالمجاهد أو كبني قينقاع كما قال ابن عباس وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالي المدينة غزاهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة و السلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير
وقيل : أي مثل هؤلاءالمنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية قريبا ظرف لقوله تعالى : ذاقوا وبال أمرهم أي ذاقواسوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم (28/58)
وقيل : انتصاب قريبا بمثل إذ التقدير كوقوع مقل الذين وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن الكلاممضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثلفكأنهقيل : مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد (28/0)
شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح
وقيل : إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب وقيل : متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع وكلا القولين كما ترى ولا يبعد تعلقه بماتعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في ومن قريب فيفيد أن قبليتهم فبلية قريبة ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه وجملة ذاقوا مفسرة للمثل لا محل لها من الأعراب ويتعين تعلق قريبا بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقوا الأمم الماضية فتدبر ولهم في الآخرة عذاب أليم
15
- لا يقادر قدره والجملة قيل : عطف على الجملة السابقة وإن اختلفتا فعلية وإسمية وقيل : حالمقدرة من ضمير ذاقوا وأياما كان فهو داخل المثل وقيل : عطف على جملة مثلهم كمثل الذين من قبلهم ولا يخفى بعده وقوله تعالى : كمثل الشيطان جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير مثلهم ههنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير وقال بعضهم : ضمير مثلهم المقدر في الموضعين للفريقين وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى : كمثل الذين على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني النضير والثاني يخص المنافقين وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضمير هما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل : مثل أولئكالذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهمعلى القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان إذ قالللإنسان اكفر أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل استعارة فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين
16
- تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولمينفعه ذلك كما قال سبحانه : فكان عاقبتهما أنهمافي النار خالدين فيها أبد الآبدين وذلك أي الخلود في النار جزآؤا الظالمين
17
- على الإطلاق دون المذكورينخاصة والجمهور على أنالمراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله : إني أخاف الخ
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر : لا غالب لكم اليوم منالناس وإني جار لكم فيما وقعوا فيما وقعوا قال : إني بريء منكم إنيأرى ما لا ترونإني أخاف الله الآية وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقينمن أهل الكتاب بحالأهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر ومعنى اكفر علىتخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض وقال الخفاجي : لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل (28/59)
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالىوجههأن رجلا كانيتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لهاشيء فأتوه بها فزينت له نفسهفوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : أنا الذي زينتلك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم (28/0)
تبرأ منه وقال له ما قال فذلك قوله تعالى : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر الآية وهذا الرجل هو برصيصا الراهب وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص وفي البحرإن قول الشيطان : إني أخاف الله كان رياءا وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقريء أنابريء وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم فكانعاقبتهما بالرفع على أنه اسم كان وأنهما الخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور
وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة خالدان بالألف على أنه خبر إن وفي النار متعلق به وقدم للأختصاص وفيها تأكيد له وإعادة بضميره وجوز أن يكون في النار خبر إن و خالدان خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال منالضمير في الجار والمجرور يأيها الذين آمنوا اتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه أو لأن الدنيا كيوم الآخرة غده يكون فيها أحوال غير الحوال السابقة وتنكيره لتفخيمهوتهويلهكأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لغاية عظمه وأما تنكير نفس فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها ومنه ظهر كما في الكشف أن جعله من قبيل قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت غير مطابق للمقام أي فهو كما في الحديث الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل منالقليل والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور ولا ينظر إليه ما لم يأتمر وجوز ابن عطية أن يراد بعد يوم الموت وليس بذاك وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحرث ولتنظر بكسر اللام وروي ذلك عن حفص عن عاصم وقرأ الحسن بكسرهاوفتح الراء لام كي وكان المعنى ولكن تنظر نفس ماقدمتلغد أمرنا بالتقوى واتقوا الله تكرير للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذافي ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه : إن الله خبير بما تعملون
18
- أي من المعاصي وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى وقيل : إن التقوى شاملة لترك مايؤثم ولاوجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الإهتمام بأمرها فالتأكيد أولى وأقوى وفيه منع ظاهر وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذاقيل ولعل من يقول بالتأكيد يقول : إنقوله سبحانه : إن الله خبير الخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا ولعلك مع هذا تميل للتأسيس (28/60)
ولا تكونوا كالذين نسوا الله أي نسوا حقوقه تعالى شأنه وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجبأمره سبحانه ونواهيه عز و جل حق رعايتها فأنساهم الله تعالى بسبب ذلك أنفسهم أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها أو أراهمجل جلاله يوم القيامة من الأهوال ما أنساهمأنفسهم أي أراهمأمرا هائلا وعذابا أليما ونسيان النفس حقيقة قيل : مما لا يكون لأن العلم بها حضوري وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه أولئك هم الفاسقون
19
- الكاملون في الفسوق
وقرأ أبو حيوة ولا يكونوا بياء الغيبة على سبيل الألتفات وقال ابن عطية : كناية عن نفس المراد بها الجنس (28/0)
ولا يستوي أصحاب النار الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار وأصحاب الجنة الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبيء عنه عدم الأستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهومعدم الأستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادةالزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص وعليه قوله تعالى : هل يستوي الأعمى والبصير أمهل تستوي الظلمات والنور إلى غير ذلك
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لأن صفته ملكة لصفة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها والمراد بعدم الأستواء عدم الأستواء في الأحوال الأخروية كما ينبيء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة وكذا قوله تعالى : أصحاب الجنة هم الفائزون
20
- فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الأستواء بينهما أي الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه وهذا كما تقول لمن عق أباه : هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا : لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز و جل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتوقيع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين فالمقام يقتضي التباين في حكم الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في المدار وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون : إن العموم مدلول نفي المساوات لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ وقول الحنفية : إن الأستواء مطلقا أعم من الأستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه والنفي إنما دخل على الأستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع ألا ترى أن من قال : ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا وتمام ذلك في كتب الأصول والأنصاف أن كون المراد هنا نفي الأستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الأستدلال بها على ما ذكر
لو أنزلنا هذا القرآن العظيم الشأن على المنطوي على فنون القوارع على جبل من الجبال أو جبل عظيم لرأيته مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشعا متصدعا من خشية الله أي متشققا منها
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى : (28/61)
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
21
- فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى : لو أنزلنا الخ وإلى أمثاله فالكلام بتقدير وقوع تلك أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة هو الله الذي لا إله إلا هو وحده سبحانه عالم الغيب وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق والشهادة وهو ما يشاهده مخلوق
قال الراغب : الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر وألفيه للأستغراق إذ لا قرينة للعهد ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى : علام الغيوب فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل : مراد الفقهاء في قولهم : مدعى علم الغيب كافر وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى وذكر الشهادة مع أنه كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز و جل : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقيل ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس
وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان وقال الحسن : الغيب السر والشهادة العلانية وقيل : الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها وقيل : الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها وفيه أن ثبوت المجردات خلافا قويا وأكثر السلف على نفيها وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة وقيل : لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب وصاحب القيل الأخير يقول : إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ووجهه ما أشرنا إليه وتتضمن على ما قيل : دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالأختيار كما هو الواقع في نفس الأمر والخلق بالأختيار يستحيل بدون العلم ومن هنا قيل : الأستدلال بها على هذا المطلب أولى من الأستدلال بقوله تعالى : والله بكل شيء عليم هو الرحمن الرحيم
22
- برحمة تليق بذاته سبحانه والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفى كما حقق في التمييز وغيره
هو الله الذي لا إله إلا هو كرر لإبراز كمال الأعتناء بأمر التوحيد الملك المتصرف بالأمر والنهي أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الإذلال أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل أو المنفرد بالعز والسلطان أو ذو الملك والملك خلقه أو القادر أقوال حكاها الآمدي وحكى الأخير عن القاضي أبي بكر القدوس البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به أو الذي لا يحد ولا يتصور وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي القدوس بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة فقد قالوا : فعول بالضم كثير وأما بالفتح فيأتي (28/62)
في الأسماء كسمور وتنور وهبود اسم جبل باليمامة وأما في الصفات فنادر جدا ومنه سبوح بفتح السين السلام ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة وقيل : أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف المؤمن قيل : المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة أو واهب عباده الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنية في قلوبهم أو بإخبارهم أو لا خوف عليهم وقيل : مؤمن الخلق من ظلمه وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا وقال النحاس : في شهادتهم على الناس يوم القيامة وقيل : ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه وقيل : غير ذلك وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أبو جعفر المدني المؤمن بفتح الميم على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى : واختار موسى قومه أي المؤمن به
وقال أبو حاتم : لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي المهيمن الرقيب الحافظ لكل شيء مفعيل من الأمن بقلب همزته هاءا وإليه ذهب غير واحد وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء وإذا قلت : أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز و جل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من غير ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى : ومهيمنا عليه وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبيء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياءا كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاءا كما في هراق الماء وقولهم في إياك : هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين وحرف الأستعلاء كمهيمنا عليه لتضمين معنى الأطلاع ونحوه وأنت تعلم أن الأشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء
وقال المبرد : إنه مصغر وخطيء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز و جل العزيز الغالب
وقيل : الذي لا مثل له وقيل : الذي يعذب من أراد وقيل : الذي عليه ثواب العاملين وقيل : الذي لا يحط عن منزلته وقيل : غير ذلك الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه : ويقال في فعله : أجبر وأمثلة المبالغة تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة وقيل : إنه من جبره بمعنى أصلحه ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها وقيل : هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي : جبارة وقيل : هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره
وقال ابن عباس : هو العظيم وقيل : غير ذلك المتكبر البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكلف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ أو الذي (28/63)
تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا سبحان الله عما يشركون
23
- تنزيه لله تعالى عما يشركون به سبحانه أو عن إشراكهم به عز و جل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا هو الله الخالق المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة أو مبدع الأشياع من غير أصل ولا احتذاء ويفسر الخلق بإيجاد الشيء من الشيء الباريء الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة وقيل : المميز بعضها عن بعض بالأشكال المختلفة المصور الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد
وقال الراغب : الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها وهي ضربان : محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة ومعقولة تدركها الخاصة دون العامةكالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه : خلقناكم ثم صورناكم إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبيبلتعة والحسن وابن السمقيع المصور بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للباريء وأريد به جنس المصور وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول نحو الضارب الغلام وفي الخانية إن قراءة المصور بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد غذا أجراه حينئذ على الله سبحانه وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر
له الأسماء الحسنى الدالة على محاسن المعاني يسبح له ما في السماوات والأرض من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان أو بلسان المقال الذي أوتيه كلمنها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين وقد تقدم الكلام فيه وهو العزيز الحكيم
24
- الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به العزيز بناءا على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به الحكيم بناءا على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فتأمل ولا تغفل
ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من قال : حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل اللهبه سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي بتلك المنزلة
وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر
وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فرائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعليابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه : أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة و السلاممما خصه به جبريل مما بعث به الارحمن عز و جل قال : يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أولالحديد عشر آيات وآخر الحشر ثم قل : يا منهو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو الله يا براء لو دعوت علي لخسف بي (28/64)
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام أنهقال في قوله تعالى : لو أنزلنا إلى آخر السورة هي رقية الصداع وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال : أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقري البغدادي يعرف بغلاف ابن شنبوذ أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لو أنزلنا هذا القرآن على جبل قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآيات قال : ضع يدك على رأسكفإني قرأتعلى الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على بد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رءوسكما فإني قرأتعلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي : ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلى قال : ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت إلى غير ذلك من الآثار والله تعالى أعلم
سورة الممتحنة
قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة وفي جمال القراء تسمى أيضا الأمتحان وسورة المودة وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إمامن باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة وهي ثلاث عشرة آية بالأتفاق
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيها قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلحالحديبية ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الأفتتاح بسبح
بسم الله الرحمن الرحيم يآيها الذينآمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلعتة وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزي أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب فخذوه منها فأوتي به فخرجنا حتى أتبنا الروضة فإذا نحن بالظغينة فقلنا : اخرجي الكتاب قالت : ما معي من كتاب قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب ابن أبي بلعتة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة و السلام ما هذا يا حاطب ! قال : لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان (28/65)
من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة و السلام : إنه شهد وما يدرك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أيها الذين آمنوالا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الخ
وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه قاتل عليه الصلاة و السلام بعث عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه : والله ما كذبنا ولا كذبناارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا : والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت : أدفعه إليكما على أ لا ترداني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها وفيه على ما في الدر المنثور أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش وفي الكشاف يقال لها : سارة مولاة لأبيعمرو بن صيفي بن هاشم وفي صحة خبر أنس تردد وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد وقيل : إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوافرسانا والمعول عليه ما قدمنا والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عنعبد الرحمن بن حاطب المذكور وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال : كانتوالدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته
وصور الكتاب على ما في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز ما وعده وفي الخبر السابق على ما قيل : دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا وفيه بحث وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز و جل وتغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم وفيه رمز إلى معنى قوله : إذاصافى صديقك من تعادى فقد عاداك وانقطع الكلام والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواجب ونصب أولياء على أنه مفعول ثان لتتخذوا وقوله تعالى : تلقون إليهم بالمودة تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الأعراب والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز
وقيل : الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس وقيل : هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تتخذوا أو صفة لأولياء ولم يقل تلقون إليهم أنتم بناءا على أنه لا يجب مثل هذاالضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو سواء في ذلك الأسم والفعل كما في شرحالتسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس (28/66)
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الأسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية أو يقال : إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى : وقد كفروا بما جاءكم من الحق حالمن فاعل لا تتخذوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تلقون حالية أيضا أو منفاعل تلقون وهي متداخلة على تقدير حاليتها وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا
وقرأ الجحدري والمعلي عن عاصم لما باللام أي لأجل ما جاءكمبمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يخرجون الرسول وإياكم أي منمكة أن تؤمنوا بالله ربكم أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكمبالله عز و جل والجار متعلق بيخرجون قيل : حال من فاعل كفروا أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل : كيف كفروا وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر وهذا أرجح منالوجه الأول لطباقه للمقام وكثرة فوائده والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة والأستمرار غير مناسب للمعنى وفي تؤمنوا قيل : تغليب للمؤمنين والألتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال : بي إلى ما في النظم الجليل للأشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي متعلق بقوله تعالى : لا تتخذوا الخ كأنه قيل : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تتخذوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية ولا بد فيها من الواو وأنترد حيث يكون ضد المذكور أولى كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك وما هنا ليس كذلك
وأجيب بأن ابن جني جوزه وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمنتحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك : لا تخذنني إن كنت صديقي تهييجا للحمية وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول وقوله تعالى : تسرون إليهم بالمودة استئناف بياني كأنهملما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا فقيل : تسرون الخ وجوز أن يكون بدلا من تلقون بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر
وقال أبو حيان : هو شبيه ببدل الأشتمال وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم تسرون والكلام استئناف للأنكار عليهم وأنت تعلم أن الأستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه كلامهم كالباء فيما تقدم وقوله تعالى : وأنا أعلم بما أخفيتم وماأعلنتم (28/67)
في موضع الحال و أعلم أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي منكم وأجاز ابن عطية كونه مضارعا والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة و ما موصولة أو مصدرية وذكر ما أعلنتم مع الأستغناء عنه للأشارةإلى تساوي العلمين في علمه عز و جل ولذا قدم ما أخفيتم وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودةإليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار ومنيفعله أي الإسرار
وقال ابن عطية وجمع : أي الأتخاذ منكم فقد ضل سوآالسبيل
1
- أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سواء من إضافة الصفة إلى الموصوف ونصبه على المفعول به لضل وهو يتعدى كأضل وقيل : لا يتعدى و سواء ظرف كقوله
كماعسل الطريق الثعلب
إن يثقفوكم أي إن يظفروا بكم وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ومنه رجل ثقف لقف وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يكونوا لكمأعدآء أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى : ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري فوقوع يكونوا الخ جواب الشرط بالأعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في السورة ومثله قول بعضهم : أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبواعليها أحكامها وقيل : المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنهقيل : إن يثقفوكميظهر لكم عدمنفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم وقوله تعالى : وودوا لو تكفرون
2
- عطف على الجوابوهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب ويؤول كما أول سابقه بأن يقال على ما في الكشف المراد ودادةيترتب عليها القدرة علىالرد إلى الكفر أو يقال على ما قالالبعض المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الأستقبال للأشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم (28/68)
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الإفراد فعبر بالماضي نظرا للأولوجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني وآثر الخطب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى : ثم لا ينصرون في السورة قبل وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون عند جمع قال : لأن ودادتهم أنيرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة وإلى ذلك ذهب أبو حيان وجوابه يعلم مما ذكرنا وقريب منه ما قيل : إنودادة كفرهم بعد الظفر لماكانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتد بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الوداد قبل الظفر فيكونللتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة
وقال بعض الأفاضل : إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء : الأول أن يكونكل منهماجزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك الثاني أن يكون الجواء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذاجاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه الثالث أن يكونالمقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب ومنه قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك (28/0)
الله ما تقدممن ذنبك وما تأخر الآية وما في النظم الجليل هنا قيل : محتمل للأزل لاستقبال الودادة من بعض الأعتبارات كما تقدم وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث أن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه وأهم شيء عند العدو أنيقصد أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأنيكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة قيل : وللثاني أيضا بأن يكونالجزاء هو يبسطوا وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة الأرتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادةالمسبب وهو مضار الدارين وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكممضار الدنيا والدين وما ذكر دليله أقيم مقامه وقيل : عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح
وعن بعضهم أن الواوواو الحاللا واو العطف والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه ولا يخفى أن العطف المتبادر وكونه على الجزاء أبعد مغزى وإخراج الشرط والجزاء علىنحو ذلك أكثر من أن يحصى
لن تنفعكم أرحامكم دفع لما عسى ان يتخيلوا كونه عذرا نافعا من أن الداعي للأتخاذ وإلقاء المودة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك والرحم في الأصل رحم المرأة واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازا عن القريب أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى : ولآ أولادكم أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم يوم القيامة بدفع ضر أو نفع يفصل بينكم استئناف لبيان عدمنفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم منالآخر حسبمانطق به قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه الآية فلا ينبغي أنيرفض حق الله تعالىوتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو الظاهر وجوز تعلقه بيفصل بعده
وقرأحمزة والكسائي وابن وثاب يفصل بضم الياء وتشديد الصاد مبنيا للفاعل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا وطلحة والنخعي نفصل بالنون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر يفصل بالياء والتشديد والبناء للمفعول وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا ونائب الفعل إما بينكم وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل والله بما تعملون بصير
3
- فيجازيكم به
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهم والذن معه تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب ف الله والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الأئتساء والأفتداء وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسي ويقتدي بها وعلى نفس الشخص المؤتسي به (28/69)
ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو
وللضعفاء في الرحمن كاف
وفي البيضة منا حديد وكل من ذلك قيل : محتمل في الآية ورجح إرادة الخصلة لأن الأستئناف الآتي عليها أظهر و لكم للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك أو هو متعلق بكان على رأي من يجوز تعلق الظرف بها وأسوة اسمهاو حسنة صفته و في إبراهيم خبرها أو لكم هو الخبر و في إبراهيم صفة بعد صفة لأسوة أو خبر بعد خبر لكان أو حالمن المستكن في لكم على ما قيل أو في حسنة ولم يجوز كونه صلة أسوة بناءا على أنها مصدر أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل قيل : وإذا قلنا : إنها ليست مصدرا ولا اسمه أو قلنا : إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للأتساع فيه جاز ذلك
والظاهر أن المراد بالذين معه عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري وجماعة : المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا من عصره عليه الصلاة و السلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرءوا منهم فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ : ما على الأرض منيعبد الله تعالى غري وغيرك وأنتتعلم أنه لا يلزم وجود الأتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم ويكون التبري المحكي في قوله تعالى : إذ قالوا لقومهم إنا بآؤا منكم الخ وقت وجودهم وإذا قيل : ظرف لخبر كان والعامل الجار والمجرور أو المتعلق أو لكان نفسها على ما مر أو بدلمن أسوة وبرآء جمع بريء كظريف وظرفاء
وقرأ الجحدري براء كظراف جمع ظريف أيضا وقرأ أبو جعفر براء بضم الباء كتؤام وظؤار وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر وقال الزمخشري : إنذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل وتعقب بأنه ضم أصلي والصيغة من أوزان أسماء الجموع وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة ورويت هذه القراءة عن عيسى قال أبو حاتم : زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه براء على فعال كالذي في قوله تعالى : إنني براء مما تعبدون في الزخرف وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره وتأكيد الجملة لمزيد الأعتناء بشأنها أو لأن قومهم المشركين مستبعدون ذلك شاكون فيهحيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم : إنابرآء منكم
ومماتعبدون من دون الله من الأصنام والكواكب وغيرها كفرنا بكم بيان لقوله سبحانه : إنابرآء إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبماتعبدون من دون الله ويكون المراد بكم القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين والكفر بذلك مجاز أو كناية عن الأعتداد فكأنه قيل : إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء
وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به ثم اكتفى بكفرنا بكم لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به ولا سيما وقد تقدمه إنابرآء فسر بأنا لا نعتد الخ تنبيها على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفر لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الأستهجان والذم وما ذكرناه أقرب وهو معنى ما في الكشاف دونه وأما ما قيل : إن في الكلام معطوفا (28/70)
على الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون وحذف اكتفاءا بدلالة السياق فليس بشيء
وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حتى تؤمنوا بالله وحده وتتركوا ما أنتمعليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة وفسر الفيروزابادي البغضاء بشدة البغض ضد الحب وأفاد أن العداوة ضد الصداقة وفسر الصداقة بالمحبة فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الألتئام قلبا وقال نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب ثم قال : يقال : بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء وهونحو كلام الفيروزابادي والذييفهم منكلام غير واحد أنه كثيرا ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب
إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك استثناء من قوله تعالى : أسوة حسنة كما قاله قتادة وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا لأسوة بالأقتداء منقطع بلا ريب وأما على تقدير أن يراد بها مايؤتسى به فقيل : هو متصل وقيل : منقطع وإليه ذهب الأكثر توجيه الأستثناء إلى العدة بالأستغفار لا إلى نفس الأستغفارالمحكي عنه عليه السلام بقوله تعالى : واغفر لأبي الآية أنه المراد قيل : لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه ويعلم من ذلك استثناء نفس الأستغفار بطريق الأولى وجعلها بعضهم كناية عن الأستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم كما لا يخفى وكأنهذهالعدة غير العدة السابقة في سورة مريم في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام : سأستغفر لك ربي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها وحكيت ههناعلى سبيل الأستتثناء
وفي الأرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها على طريق التوكيد القسمي واستثناء ذلك من الأسوة الحسنة قيل : لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنهيموت على الكفركما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسىبه أصلا إذ المراد به ما يجب الأئتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى بعد : ومنيتول فإنالله هو الغني الحميد فاستثناؤه عما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجق إيمانه وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل وأما عدم جوازه فلا دلالة للأستثناء عليه قطعا وزعم الإمام على ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك ولا يلزم أن يكون الأستغفار منه عليه الصلاة و السلام معصية لأنه كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الأستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع
وعن الطيبي ما حاصله : إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه : لأرجمنك واهجرني مليا بقوله : سأستغفر لك ربي رحمة ورأفة به ولم يكن عارفا بإصراره علىالكفر وفي بوعده وقال : واغفر لأبي فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه فظهر أن استغفاره لم يكن منكرا وهوفي حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بفوله تعالى : لن تنفعكم الخ وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل : لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين (28/71)
له كما تبين لكم انتهى وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الأستغفار بعد تبين الأمر وقد كان استغفاره عليه السلام قبله ومنبيء عن كون الأستغفار مؤتسي به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الأئتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق
واستظهر أبو حيان أن الأستثناء منمضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم الخ وجزم باتصال الإستثناء عليه وكذا جزم الطيبي باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك ولا يخفى أن التقدير خلاف الظاهر ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور بقي أنه قيل : إنالآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الأستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى أعني طلب الإيمان له لا منع عنه
وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على الأستغفار ليس مما يجب الأئتساء به حتما لا على منعه وحرمته ثمإنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الأستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده وقد تقدم في سورة التوبة قول : بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الأخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنهعليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة وهي استغفار أي استغفار فيه ولو كان تبين أنه يموت كافرا في الدنيا لم يكن ليشفع ويطلب على أتم وجهالمغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل والذاهبون إلى أنالتبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة وهو صحيح الذي أجزم به اليوم أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار وأتهموا وأنجدوا في الجواب عنها وقد تقدم جميع ماوجده لهم فارجع إليه واختر لنفسك ما يحلوا
ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أنالأستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك
والتزم أنامتناع جواز الأستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أنيغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم وأنه عليه السلام لم يكن إذ استغفر عالما بالوحي امتناعه ومعنى الآية والله تعالى أعلم إن لكم الأقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة منالكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الأقتداء به فيه ومآله يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الأستغفار وإبدالالرأفة فليس لكم الذي اعتبرناه في الأستثناء من باب قوله تعالى : وما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين الخ ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ماقدمناه ووراءه كلام مبني على قول من قال : ليس لله عز و جل قضاء مبرم ونقل ذلك عن القطبالشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وشيد بعض الأجلة أركانه في رسالة مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلكلكنها لا تخلو عن بحث والله عالى أعلم وقوله سبحانه : وما أملك لك من الله شيء منتمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل لأستغفرن ومورد الأستثناء نفس الأستغفار لا قيده فإنه في نفسه (28/72)
من خصال الخير لكونه إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى الله عالى فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دونالقيد
وفي الكشف أنه وإن كان في نفسه كلاما مطابقا للواقع حسنا أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله : لأستغفرن لك تحقيقا للوعد كأنه قيل : لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة وفيه أنه ملك أكثر من ذلك لفعل وعلى هذا فهو حقيق بالأستثناء وقوله عز و جل : ربنا علك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
4
- إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الأعراب متصلة معنى بقصة إبراهيم عليه السلام ومنمعه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز و جل وقشر العصا ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز و جل لا لحظ نفسي وقيل : اتصالها بماتقدم لفظي على أنها بتقدير قول معطوف على قالواإنا برآء أي وقالوا : ربنا الخ وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمرا منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليما منه عز و جل لهم وتتميما لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والأئتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهموتنبيها على الإنابة إلى الله تعالى والأستعاذة له منفتنة أهل الكفر والأستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل : وجه حسن لا يأباه النظم الكريم وفيه شمة من أسلوب انتهوا خيرا لكم لأنه سبحانه لما حثهم على الأئتساء بمنسمعت في الأنتهاء عن الكفر وموالاة أهله ثم قالسبحانه ما يدلعلى اللجأ إليه تتعالى يكون في المعنى نهيا عن الأولوأمرأ بالثاني
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على لا تتخذوا أي وقولوا ربناالخ وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنهقيل : ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك ربنالا تجعلنا فتنة للذينكفروا أيلا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا قاله ابن عباس فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذاأذابها فكأنه قيل : ربنا لا يجعلنا معذبين للذين كفروا وقال مجاهد : أي لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب منعندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك
وقال قريبا منهقتادة وأبو مجلز والأول أرجح ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل المعدودة وكذا الجملة الآتية وقيل : إن هذه الجملة بدل مما قبلها ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء واغفر لنا ما فرط منا ربنا إنك أنت العزيز الغالب الذي لا يذل منالتجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه الحكيم
5
- الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة لقد كان لكم فيهم أيفي إبراهيم عليه السلام ومنمعه أسوة حسنة الكلام فيه نحو ما تقدم وقوله تعالى : لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر أيثوابهتعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليومالآخر خصوصا والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة لحسنة أوصفة وجوزكونه بدلا من لكم بناءا على ما ذهب إليه الأخفش منجواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب وكذا من ضمير المتكلم بدلالكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب وأنيبدل من الكل بدلالبعض وبدل الأشتمال بدل الغلط
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض والأشتمال والغلط (28/73)
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدلالكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى : تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء وجملة لقد كان الخقيل : تكرير لما تقدممن المبالغة في الحث على الأئتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي : إن لم ينظر لقوله تعالى : إذ قالوا فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما بعد تخصيص وهو مأخوذ منكلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا الخ وفي قوله سبحانه : لمنكان الخ إشارة إلى أنمن كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الأقتداء بهم وإنتركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفرة كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى : ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد
6
- فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة
عسى الله أن يجعل بينكموبين الذين عاديتم منهم أي من أقاربكم المشركين مودة بأن يوافقوكم في الدين وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهمومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهمفتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه منمسلمة الفتح من أقاربهم المشركين
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طرق الكلبي عن أبيصالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كانت المودة التي جعل الله تعالىبينهم تزوج النبيصص أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارتت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين وأنت تعلم أن تتزوجها كان وقت هجرة الحبشة ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره وفي ثبوته عن ابن عباس مقال والله قدير مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليبالقلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة والله غفور مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لمافرط منكم في موالاتهم رحيم
7
- مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز و جل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المفت مقة وقيل : يغفر سبحانه لمنأسلم من المشركين ويرحمهم والأول أفيد وأنسب بالمقام
لا ينهاكم اللهعن الذين يقاتلونكمفي الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى على البر بهؤلاء كما يقتضيه كون أن تبروهم بدل اشتمال من الموصول وتقسطوا إليهم أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل فالفعل مضمن معنى الأفضاء ولذا عدي بإلى إن الله يحب المقسطين
8
- أي العادلين
أخرج البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أأصلها فأنزل الله تعالى لا ينهاكم الله الخ فقال عليه الصلاة و السلام : نعم صلي أمك وفي رواية الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنتعبد العزي على ابنتهاأسماء بنت أبي بكر بهدايا : (28/74)
أخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير وابن مردويه بسند حسن وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن : كانت المرأة إذا جاءت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض وبالله ما خرجتمن بغض زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وما خرجت إلا حبا للهورسوله وفي رواية عنه أيضا كانتمحنة النساء أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر عمر ابن الخطاب فقال : قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة و السلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا الخ الله أعلم منكل أحد أو منكم بإيمانهن فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن والجملة اعتراض فإن علمتموهن أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد الأمتحان مؤمنات في نفس الأمر فلا ترجعوهن إلى الكفار أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح ويشعر بذلك التعبير بالأسم في الأولى والفعل في الثانية
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين : إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاما بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيه الأخلال والتغيير من جانبهن وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانا بأن ذلك الحكم مستمر الأمتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغير باستبدال الهدى بالضلال وجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكسوالتبديل كالذي في قوله تعالى : هن لباس لكموأنتم لباس لهن ولعل الأول أولى واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الأنتصاف والقول : بأن المخاطب في حق المؤمنة هي وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله وقرأ طلحة لا هن يحللن لهم وآتوهم ما أنفقوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن منالمهور قيل : وجوبا وقيل : ندبا رويأنه صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب : باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناسويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا منقريش بغير إذن وليه رده عليه ومنجاء قريشا من محمد لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأن لا إسلال ولا إغلال وأنهمن أحبأن يدخل في عقد محمد وعهده دخلفيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا جندلابن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة و السلام أحد من الرجال إلا رده في مدة العهد وإن كان مسلما ثم جاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت أول المهاجرات فخرج أخواها عمار والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكلماه في أمرها ليرده عليه الصلاة و السلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة و السلام ثم أنكحها صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه
وأخرج ابن أبيحاتم عن مقاتل أنه جاءتامرأة تسمى سبيعة بنت الحرق الأسلمية مؤمنة وكانت تحتصيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية وروي أنها كانت تحت (28/75)
صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسألأر صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى لا ينهاكمالله الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها
وقتيلة هذه على ما في التحرير كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء حقيقة وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أما مجازا والأول هو المعول عليه وقال الحسن وأبو صالح : نزلت الآية في خزاعة وبني الحرث بن كعب وكنانة ومزبنة وقبائل من العرب كانواصالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه وقالقرة الهدماني وعطية العوفي : نزل في قوم من بني هاشم منهم العباس
وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة وقال مجاهد : في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروافكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة وقيل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة أي مع القدرة عليها وقال النحاس والثعلبي : نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذينلم يستطيعوا الهجرة والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة وعلى ذلك قال الكيا : فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحربوعلى وجوب النفقة للأب الذمي دونالحربي لوجوب قتله ويخطر لي أني رأيت في الفتاوي الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الأستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه لكن راجعت تلك الفتاوي عند كتابتي هذا البخث فلم أظفر بذلك ومع هذا وجته تقل في آخر الفتاوي الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف منشره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى ولميتعقبه بشيء ثم إن في كونالقيام منالبر مطلقا ترددا وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية : وللميل أو للمال يخدم كافر وللميل للأسلام لو قام يغفر ومنالناس منيجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيما والله تعالى أعلم ونقل الخفاجي عن الدر المنثور أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : اقتلوا المشركين الآية والأستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إنتم إنما يتم على بعض الأقوال فيها
إنما ينهاكمالله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم كمشركي مكة فإن بعضهم سعوا في إخرج المؤمنين وبعضهم أعانواالمخرجين أن تولوهم بدلمن الموصول بدل اشتمال أيضا أي إنماينهاكمسبحانه عن أن تتولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون
9
- لوضعهم الولاية موضع العداوة أو همالظالمونلأنفسهم بتعريضها للعذاب وفي الحصر من المبالغة ما لا يخفى
يأيها الذين آمنوا بيان لحكممن يظهرالإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين إذا جاءكم المؤمنات أي بحسب الظاهر مهاجرات منبين الكفار وقريء مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات فكأنه قيل : إذا جاءكم مهاجرات فامتحنوهن فاختبروهن بمايغلب على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان (28/76)
مسافر المخزومي وأنه أعطي ما أنفق وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وطلبواردهافنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة و السلام وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل ولعل سبب النزول متعدد وأيا ما كان فالآية على ما قيل : نزلت بيانا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دونالنساء وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومنوافقه ونسب الزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظبل يجعلها مطلقات والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام والحنفية يجوزونه لا يقال : إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العملبالخطاب كانبعد مجيء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش وهذا ذهب إليه بعضالشافعية أيضا ومنهممن زعم أن العميم كانمنهصص عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال : نسخ بالآية ومن لم يجوز قال : بالسنة أي امتناعه صلى الله تعالى عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة و السلام
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تاتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذيأنفق عليها وللنبي صلى الله تعالى عليه وسلم منالشرط مثل ذلك وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة أمانسخ العهد فلماأمرفيها من النبذ وأمانسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ والذي عليه معظم الشافعية أنالغرامة لأزواجهن غير ثابتة وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة والقول بالتخصيص والقول : بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلى الله عليه و سلم ثم قال : وأما على قول الضحاك أي السابق فهو مشكل ووجهه أنه حكم فيمخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز و جل خص الحكمبالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم ولا جناح عليكمأن تنكحوهن أي في نكاحهن حيث حالإسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفارإذآ آتيتموهنأجورهن أي وقت إيتائكمإياهن مهورهن فإذا لمجرد الظرفية ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل وعلى التقدير يفهم اشتراطإيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن وليس المراد بإيتاء الأجورإعطاءها بالفعلبل التزامها والتعهد بها وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى : وآتوهم ما أنفقوا أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد معذلك من إصداقهن وقيل : لا يخلو إماأن يراد بالأجورما كانيدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن أدائه وإماأنيراد أن ذلك إذادفع إليهنعلى سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكنبه بأس وإما أن يبين إليهم أن ما أعطى لأزواجهن لا يقوممقامالمهر وهذاما ذكرناه أولا من الظاهر وهو الأصح في الحكم والوجهان الآخران ضعيفان فقها ولفظا
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذاخرج من دار الحرب مسلما أو بذمة (28/77)
وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملا وهذا للحديث المشهور الذيتجوز بمثله الزيادة على النص من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقينماءه زرع غيره ومذهب الشافعي على ما قيل : إنهلا تقع الفرقة إلا بإسلامها وأما بمجرد الخروج فلا فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة وتعقب الأحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر نعمقد احتج بها على عدمالعدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة ووجهبأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجهفينكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر ولميقيد جل شأنه بمضي العدة فلو لا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثابتا ومع هذا فقد قيل : الجواب على الأصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليستعرضا للعدم وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع وكونها حاملا بالأتفاق فتأمل ولا تمسكوابعصم الكوافر جمعكافرة وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث وقال الكرخي : الكوافر يشمل الإناث والذكور فقال له الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة فقال : أليسيقال : طائفة كافرة فرقة كافرة قالالفارسي : فبهت وفيه أنهلا يقال : كافرة في وصف الذكور إلا تابعا للموصوف أو يكونمحذوفا مرادا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان و عصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به عقد وسبب والمراد نهيالمؤمنين عن أن يكون بينهم الزوجات المشركات الباقية في دار الحربعلقة من علق الزوجية أصلا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناءا على أنه لا عدة لهن قالابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها مننسائه لأناختلاف الدارين قطع عصمتها منه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال : نزل قوله تعالى : ولا تمسكوا الخ في المرأة منالمسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد بريء منها
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وسعيد بن جبير محوه وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنتأبي أمية بنالمغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيانوامأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي وكذا طلق طلحة زوجته أرويبنت ربيعة وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية والشافعية أما عند الحنفية فلأنالفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلاموأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حين اللفظ وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية وقرأ أبو عمرو ومجاهد بخلاف عنه وابن جبير والحسن والأعرج تمسكوا مضارع مسك مشددا والحسن أيضا وابن أبيليلى وأن عامر في رواية عبد الحميد أبو عمرو في رواية معاذ تمسكوا مضارع تمسك محذوف إحدىالتاءين والأصل تتمسكوا
وقرأ الحسن أيضا تمسكوا بكسر السين مضارع مسك ثلاثيا وسئلوا مآ أنفقتم أي واسألواالكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم وليسئلوا مآ أنفقواأي ليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم وظاهره أمر الكفار وهومن باب وليجدوا فيكمغلظة فهوأمر للمؤمنين بالأداء مجازا وقيل : المراد (28/78)
التسوية ذلكم الذي ذكر حكم الله أي فاتبعوه وقوله عز و جل : يحكم بينكم كلام مستأنفأو حال من حكم بحذف الضمير العائد إليه وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم أو العائد إليه الضمير المستتر في يحكم يجعل الحكم حاكما مبالغة كأنالحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر واللهعليم حكيم
10
- يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة وروي أنهلما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مماأمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى : وإن فاتكم أي سبقكموانفلت منكم شيء من أزواجكم إلى الكفار أيأحد من أزواجكموقريءكذلك وإيقاع شيء موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصا وفي الكشف لك أن تقول : أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن منفات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان وكانت الفائتات ستا على ما نقله في الكشاف وفصله أو إن فاتكم شيء من مهور أزواجكم على أن شيء مستعملفي غير العقلاء حقيقة و من ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول فعاقبتم من العقبة لا من العقاب وهي في ألأصل التوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور أولئك نسائ أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى أو شبه الحكم بالأداء المذكوربأمر يتعقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار
فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا من مهر المهاجر التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكونقصاصا ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة وهذا كما تقول : إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيرهأخرى ولا تريد أنهاتعاقب غيرها من الأبل في ذلك وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عنالزهري أنه قال : يعطيمنلحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم
وعن الزجاج أن معنى فعاقبتم فغنمتم وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي عن ابن عباس يعطي الذيذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئا وقال ابن جني : وينا عن قطرب أنه قال : فعاقبتم فأصبتم عقبا منهم يقال : عاقب الرجل شيئاإذا أخذ شيئا وهو في المعنىكالوجهقبله
وقرأ مجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني فعقبتم بتشديد القاف منعقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يقفى صاحبه والأعرج وأبو حيوة أيضاوالنخعي وابن وثاب بخلاف عنه فعقبتم بفتح القاف وتخفيفها والزهري والنخعي أيضا بالكسر والتخفيف ومجاهد أيضافأعقبتم أي دخلتم فيالعقبة وفسر الزجاج هذه القراآت الأربعة بأن المعنى فكانت العقبىلكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنهاالعاقبة التيتستحق أن تسمى عاقبة واتقواالله الذي أنتمبه مؤمنون
11
- فإن الإيمان به عز و جل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى يا أيها النبي غذا جاءك المؤمنات يبايعنك (28/79)
أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة على أنلا يشركن بالله شيئا أي شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك ولا يسرقن ولا يزنين ولايقتلن أولادهن أريد به على ما قال غير واحد : وأد البنات بالقرينة الخارجية وإن كان الأولاد أعم منهن وجوز إبقاءه على ظاهره فإنالعرب كانتتفعل ذلكمن أجلالفقر والفاقة وانظرهل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي ولا يقتلن بالتشديد لا اتين ببهتان بفرينه بين أيديهن وأرجلهن
قال الفراء : كانتالمرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول : هذاولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن و وذلك أن الولد إذاوضعته الم سقط بين يديها ورجليها وفي الكشاف كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذيتلصقه بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدينوفرجها الذي تلده به بين الرجلين وقين : كني بذلكعن الولد الدعي لأن اللواتي كنيظهرن البطون لأزواجهن فيبدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانا عليهم وكن يبدين في ثاني الخال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرا لتينك الحالتين وتهجينا لما كن يفعلنه وأيا ما كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال بعض الأجلة : معناه لا يأتين ببهتام منقبل أنفسهن واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية : هذا ما كسبت يداك أو معناه لا يأتينببهتان ينشئنه في ضمائرهن وقلوبهن والقلب مقره بين الأيدي والأرجلوالكلام على الأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن وعلى الثانيكناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني
وقالالخطابي : معناه لا يبهتن الناس كفاحا ومواجهة كمايقال للأمر بحضرتك : إنه بين يديك ورد بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه : وهو بين رجليك وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت الأيدي تبعا فلا والكلام قيل : كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة وروي عن الضحاك حملذلك على القذف وقيل : بين أيديهنقبلة أو جمةوأرجلهن الجماع وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالتميمة وأرجلهن فروجهن بالجماع وهو وكذا ماقبله كما ترى
وقيل : البهتان السحر وللنساء ميل إليه جدا فنهين عنه وليسبشيء ولا يعصينك في معروف أيفيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر والتقييد بالمعروف مع أن الرسول ص - لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق ويرد به على زعم منالجهلة أن طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما أخرج الإمام أحمد والترمذيوحسنه وابن ماجه وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة : ما هذا المعروف الذي لا ينبغي أننعصيك فيه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تنحن الحديث ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير والحق العموم وما ذكر في الأخبار من باب الأقتصار على بعض أفراد العاملنكتة ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها وتخصيص الأمور المعدودةبالذكر في حقهن لكثرة (28/80)
وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا فبايعهن بضمان الثواب على الوفاء بهذهالأشياء وتقييد مبايعتهت بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليه واستغفر لهن الله زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب إن الله غفور رحيم
12
- أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز و جل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه وهذه الآية نزلت على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح فبايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجاء أنه عليه الصلاة و السلام بايع النساء أيضا بنفسه الكريمة
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا حتى بلغ ولا يعصينك في معروف فقال : فيما استطعن وأطقن قلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا قال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد عن الشعبي قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا وفي بعض الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوى ومن يثبت ذلك يقول بالمافحة وقت المبايعة والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه وكأنهذا بدلالمصافحة والله تعالى أعلم بصحته
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة وممن بايعنه عليه الصلاة و السلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلى الله تعالى عليه وسلم عليهن الآية فلما قال : على أن لا يشركن بالله شيئا قالت هند : وكيف نطمع أن يقبلمنا مالم يقبله من الرجال يعني أن هذا بين لزومه فلما قال ولا يسرقن قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك فقال أبو سفيان : ما أصبت منشيء فيما مضى وفيماغبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعرفها فقاللها : وإنك لهند بنت عتبة قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : ولا ولا يزنين فقالت : أو تزني الحرة تريد أن الزنا في الإماء بناءا على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبا وإنما يزني في الغالب الإماء وإنماقيد بالغالب لما قيل : إن ذوات الرايات كن حرائر فقال : ولا يقتلن أولادهن فقالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية أنها قالت : قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد ! فضحك فقال : ولا يأتين ببهتان فقالت : والله إن البهتانلأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال : ولا يعصينك في معروف فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وكأن هذا منها دونغيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله (28/81)
صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية ويروى أن أول من بايع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن
يا أيها الذينآمنوالا تتولوا قوما غضب الله عليهم عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز و جل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم وروي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوايواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت وقيل : هم اليهود والنصارى وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش وقال غير واحد : هم عامة الكفرة وهذه الآية على ما قال الطيبي : متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وهي قولهسبحانه : ومن يتولهم فأولئكهم الظالمون وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكمالمؤمنات الخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم ولمافرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى وفي الأنتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الأستطراد وهو ظاهر على القول : بأن المراد بالقوم اليهود و أهل الكتابمطلقا وقوله تعالى : قد يئسوا من الآخرة استئناف والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المنعوت في كتابهمالمؤيد بالآيات والمعجزات الباهرات وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها
كما يئس الكفار من أصحاب القبور
13
- أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن من بيانية والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنواالقبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم وقيل : كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة وكون من بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد وهو اختيار ابن عطية وجماعة واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كمايئسوا من موتاهم أن يبعثواويلقوهم في دار الدنيا وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة فالمراد بالكفار أولئك القوم ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا لكفرهم وإشعارا بعلة يأسهم وقرأ ابن أبي الزناد كما يئس الكافر بالإفراد على إرادة الجنس
هذا ومنباب الإشارة في بعض الآيات ما قيل : إن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكمأولياء الخ إشارة للسالك إلى ترك مولاة النفس الأمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل : أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك وهي لا تزالكارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولاتنفك عن ذلك حتى تكونمطمئنة راضية مرضية وإليه الإشارة بقوله تعالى : عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتممنهم مودة وقوله سبحانه : لا ينهاكم الله الخإشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمنجماحها جاز إعطاؤهاحظوظها المباحة وإليه الإشارة بما روي أنلنفسك عليك حقا وفي قوله سبحانه : يا أيها النبي إذاجاءك المؤمنات يبايعنك الخ إشارة إلى مبايعةالمرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الأختيار وتفويض الأمور إلى الله عز و جلوأنلا يرغب فيما ليسله بأهل وأن لا يلج في شهوات النفس وأنلا يئذ الوارد الإلهاميتحت ترابالطبيعة وأن لا يفتريفيزعم أن الخاطر السري خاطر (28/82)
الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك وأن لا يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز و جل وأن يطلب من اللهسبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده وحاصله أن يطلب له البقاءبعد الفناء وذلك فضل اللهيؤتيه من يشاء
سورة الصف
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام وهي مدنية في قولالجمهور وروي ذلك عنابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وقالابن يسار : مكية ورويذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا والمختار الأول ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد اللهبن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحبإلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه سبح للهما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها وروي هذاالحديث مسلسلا يقرأهاعلينا وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر : إنهأصح مسلسل يروى في الدنيا إن وقع في المسلسلاتمثله فيمزيد علوه وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قولشباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذاولميفعلوا وماروي عن ابنزيد من أنه قولالمنافقينالمؤمنين : نحن منكم ومعكمثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك
وآيها أربععشرة آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه
بسم الله الرحمن الرحيم سبح لهه ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم
1
- الكلام فيه كالكلام المار في نظيره والنداء يوصف الإيمان في قوله تعالى : يآ أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون
2
- على ما عداالقول الأخير في سبب النزول ظاهر وعليه قيل : هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم و لم مركبة من اللامالجارة وما الأستفهامية قد حذفألفها على ما قال النحاة للفرق بين الخبر والأستفهام ولم يعكسحرصا على الجواب وقيل : لكثرة استعمالهامعا فاستحقالتخفيف وإثباتالكثرة المذكورة أمر عسير وقيل : لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه وبين بأن قولك : لم فعلتمثلاالمستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلولاللام والفعل مدلول ما لأنها بمعنى أي شيء والمفيد لذلك المجموع وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل وحدهوهو كما ترى والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه منالخير والمعروف ! على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدمفعلهم وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقطبل الوعد أيضا وقد كانوايحسبونه معروفا ولو قيل : لم لا تفعلونما تقولونلفهم منهأن المنكر هو ترك الموعود كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
3
- بيان (28/83)
لغاية قبح ما فعلوه و كبر من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة يعده و أن تقولوا هو المخصوصبالذم وجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه : لم تقولون أي كبر هو أي القول مقتا و أن تقولوا بدل منالمضمر أوخبر مبتدأ محذوف وقيل : قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كمافي قوله : وجارة جساس أبأنابنابها كليبا غلت نابكليب بواؤها ومعنى التعجب تعظيم الأمرفي قلوب السامعين واسند أن تقولوا ونصب مقتا على تفسيره دلالة على أن قولهم : ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراحتى جعل أشده وأفحشه وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة وقال ابن عطية : المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد واستدلبالآية عل وجوب الوفاء بالنذر وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا فسكت فقيل له : حدثنا فقال : وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله عز و جل وقوله سبحانه : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص
4
- بيان لما هو مرضي عندهسبحانه وتعالبعد بيان ما هو ممقوت عندهجل شأنه وظاهره يرجع أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتالدون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهملأوعدهم وصف مصدروقع موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول ونصبه على الحال من ضمير يقاتلون أي صافين أنفسهم أو موصوفين و كأنهم الخ حالمنالمستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهمببنيان الخ وهذا ما عناه الزمخشري بقوله : هما أي صفا و كأنهم الخ حالان متداخلان وقول ابن المنير : إن معنى التداخل أنالحالالأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الأتصاف هي هيئة الأرتصاص خلافالمعروف من التداخل في اصطلاح النحاة وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير
وقال الحوفي : هو في موضع النعت لصفا وهوكما ترى والمرصوص على ما قال الفراء ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص ويراد به المحكم وقال المبرد : رصصت البناء لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة ومنه الرصيص وهو انضمام الأنسان والظاهرأن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث أنهم لا فرجه بينهم ولا خلل وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماعالكلمة كالبنيان المرصوص والأكثرون على الأول وفي أحكام القرآنفيه استحباب قيام المجاهدين والقتالصفوفا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سد الفرج والخلل في الصفوف وإتمام الصف الأول فالأول وتسوية الصفوف عدمتقدم بعض على بعض فيها وقال ابن الفرس : استدل به بعضهمعلى أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص إنما يمكن منهم ثم قال : وهو ممنوع انتهى ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوممن أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فمايتوصل به إلىتحصيل الأتصاف بذلكمما لا ينبغي أن يتكاسل فيتحصيله وقرأ زيد بن علي (28/84)
يقاتلون بفتح التاء وقريء يقتلون وقوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وإذا منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان حيث قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إلى قوله تعالى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون وأصروا على ذلك كل الأصرار وآذواه عليه السلام كل الأذية فوبخهم على ذلك بقوله : يا قوم لم تؤذونني بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به وقد تعلمون أني رسول الله إليكم جملة حالية مؤكدة لأنكار الإيذاء ونفي سببه وقد لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك للمقام وصيغة المضارع للدلالة على الأستمرار أي والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة ومنقضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فلما زاغوا أي أصروا على الزيغ والأنحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام واستمروا عليه أزاغ الله قلوبهم أي صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال وقيل : أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب الإرادة والإرادة على حسب العلم والعلم على حسب ما عليه الشيء في نفس الأمر وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب وقوله تعالى : والله لا يهدي القوم الفاسقين
5
- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها شاملة للكل والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام الإضمار لذمهم وتعليل عدم الهداية به أو جنس الفاسقسن وهم داخلون في حكمهم دخولا أوليا قيل : وأيا ما كان فهو ناظر إلى ما في قوله تعالى : فافرق بيننا وبين القوم الفاسقسن وقوله سبحانه : فلا تأس على القوم الفاسقين هذا وقيل : إذ ظرف متعلق بفعل مقدر يدل عليه ما بعده كزاغوا ونحوه والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة
وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم وإذ قال عيسى ابن مريم إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها يا بني إسرائيل ولعله عليه السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال : يا بني إسرائيل لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم وفيه من الأستعطاف ما فيه وقيل : إن الأستعطاف (28/85)
بما ذكر لما فيه من التعظيم وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقا فنصب مصدقا على الحال من الضمير المستتر في رسول وهو العامل فيه و إليكم متعلق به وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه الصلام وقوله تعالى : ومبشرا برسول من بعدي معطوف على مصدقا وهو داع أيضا إلى تصديقه عليه السلام من حيث أن البشارة بهذا الرسول صلى الله عليه و سلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس : منها أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر : يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره فيه والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى إلى غير ذلك ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جميعا من تقدم ومن تأخر وجملة يأتي الخ موضع الصفة لرسول وكذا جملة قوله تعالى : اسمه أحمد وهذا الأسم الجليل علم لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم وعليه قول حسان : صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس قدمي وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية وجوز أن يكون من المحمودية بناءا على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي وقريء من بعدي بفتح الياء هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان وقولهم : لو وقعت لذكرى في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة وإذا سلمت قلنا : بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاءا بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد حبا لدينهم أولأمرما غير ذلك أسقطوها كذا قيل وأنا أقول : الأناجيل التي عند النصارى أربعة : إنجيل متي من الأثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالأسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا وإنجيل يوحنا وهوحبيب المسيح جمعه بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدةإصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز و جل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي (28/86)
إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعا ونحو ذلك وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض ألأحوال والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح : إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء وقال يوحنا أيضا : قال المسيح : من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم ولو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب وقال أيضا : إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عندهبل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب وقال أيضا : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم من قريب والفار قليط لفظ يؤذن بالحمد وتعين إرادته صلى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه الصلاة و السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه وقد فسره بعض النصارى بالحماد وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة و السلام أحمد وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى عليه السلام : فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان التخليص فستدل به على ثبوت رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا وزعم بعضهم أن الفار قليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبى ذلك إذ لم يتقدم لهم غيره فلما جاءهم أي عيسى عليه السلام بالبينات أي بالمعجزات الظاهرة
قالوا هذا سحر مبين مشير إلى ما جاء به عليه السلام فالتذكير بهذا الأعتبار وقيل : مشيرين إليه عليهالسلام وتسميته سحرا للمبالغة ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب هذا ساحر وكون فاعل جاءهم ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه وقيل : هو ضمير أحمد عليه الصلاة و السلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات قالوا الخ
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام أي أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلىالإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الأفتراء على الله عز و جل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا فإن الأفتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المنفي أي لا أظلم من ذلك والمراد أنه أظلم من كل ظالم وقرأ طلحة يدعى مضارع ادعى مبنيا للفاعل وهوضميره تعالى و يدعى بمعنى (28/87)
يدعو يقال : دعاه وأدعاه نحو لمسه والتمسه وقيل : الفاعل ضمير المفتري وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الأنتماء والأنتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيا أنه مسلم وليس بذاك وعنه يدعى مضارع ادعى أيضا لكنه مبني للمفعول ومعناه كما سبق والآية فيمن كذب من هذه الآمة على ما يقتضيه ما بعد وهي إن كانت في بني إسرائيل جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم
والله لا يهدي القوم الظالمين
7
- أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم تمثيل في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة منينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم كما تقول الناس : هو يطفيء عين الشمس وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الشمس دينه تعالى الحق كما روي عن السدي على سبيل الأستعارة التصريحية وكذا في قوله سبحانه : والله متم نوره و متم تجريد وفي قوله تعالى : بأفواههم تورية وعن ابن عباس وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول وقالابنبحر : يريدون إبطالحجج اللهتعالىبتكذيبهم وقال الضحاك : يريدون هلاك الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالأراجيف وقيل : يريدونإبطالشأنالنبي صلى الله عليه و سلم وإخفاءظهوره بكلامهم وأكاذيبهم فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالىنور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلى الله عليه و سلم فنزلت يريدون إلى آخره وفي يريدون ليطفئوا مذاهب : أحدهما أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في : لا أبالكلتأكيد معنى الإضافة ثانيها أنهازائدة للتعليل ومفعول يريدون محذوف أي يريدونالأفتراء لأن يطفئوا ثالثها أنالفعل أعني يريدون حال محلالمصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للأطفاء والكلام نظير تسمع بالمعيدي خير من أن تراه من وجه رابعها أن اللام مصدرية بمعنة أن من غير تقدير والمصدر مفعوا به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر خامسها أن يريدون منزل منزلة اللازم لتأويله بيوقعون الإرادة قيل : وفيه مبالغة لجعل كل إرادةلهم للأطفاء وفيه كلامفي شرح المغنى وغيره
وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابنمحيصن متم بالتنوين نوره بالنصب على المفعولية لمتم ولو كرهالكافرون
8
- حال منالمستكن في متم وفيهإشارة إلى أنه عز و جل متم ذلكإرغاما لهم هو الذيأرسلرسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى بالقرآن أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهد مبالغة ودين الحق والملة الحنيفية ليظهره عل الدين كله ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عز و جل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الأسلام
وعن مجاهد إذانزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام ولا يضر في ذلك ما ورد من أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الإستمرار وقيل : المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلكأمر مستمر أبدا ولو كره المشركون
9 (28/88)
ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك الشرك وقريء هو الذي أرسل نبيه يآ أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة جليلة الشأن تنجيكم من عذاب أليم
10
- يوم القيامة وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر تنجيكم بالتشديد وقوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدونفي سبيل الله بأموالكم وأنفسكم استئناف بياني كأنه قيل : ما هذه التجارة دلنا عليها : فقيل : تؤمنون الخ والمضارع في الموضعين كما قال المبرد وجماعة خبر بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا ويؤيده قراءة عبد الله كذلك والتعبير به للإيذانبوجوبالأمتثالكأ والجهاد قد وقعا فأخبر بوقوعهما والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلص فالمراد تثبتون وتدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمانوالجهاد أي بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد تخلصون الإيمان وأيا ما كان فلا إشكال في الأمر وقال الأخفش : تؤمنون الخ عطفبيانعل تجارة وتعقب بأنه لا يتخيل إلا على تقدير أنيكونالأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ثم حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
يريد أن أحضر فلما حذف أن ارتفع الفعل وهو قليلوقال ابن عطية : تؤمنون فعل مرفوع بتقدير ذلك أنه تؤمنون وفيه حذفالمبتدأ وأن واسمها وإبقاء خبرها وذلك على ما قالأبو حيان : لا يجوز وقرأ زيد بن علي تؤمنوا وتجاهدوا بحذفنون الرفع فيهماعلى إضمارلام الأمر أي لتؤمنوا وتجاهدوا أو لتجاهدواكما في قوله : قلت لبواب على بابها تأذن لنا إني من أحمائها وكذا قوله : محمد تفد نفسك كل نفس إذاما خفت من أمر تبالا وجوز الأستئناف والنون حذفت تخفيفا كمافي قراء ساحران يظاهرا وقوله : ونقري ما شئت أن تنقري قد رفع الفخ فماذا تحذري وكذا قوله أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي وأنت تعلم أن هذا الحذفشاذ ذلكم أيما ذكر من الإيمان والجهاد خير لكم على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم إن كنتم تعلمون
11
- أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا يعتد بأفعالهم حتى توصف بالخبرية وقيل : أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذاعلمتم ذلك واعتقدتم أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون وتفلحون يغفر لكم ذنوبكم جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما في قولهم : اتقي الله تعالى امرؤ وفعل خيرا يثب عليه أو جوابلشرط أو استفهامدل عليه الكلام والتقدير أنتؤمنوا وتجاهدوايغفر لكم أو هل تقبلون أن أدلكم أو هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم وقال الفراء : جواب للأستفهامالمذكور أيهل أدلكم وتعقب بأنمجرد الدلالة لا يوجبالمغفرة وأجيب بأنه كقوله تعالى : قل لعبادي الذين آمنوا يقيمواالصلاة وقد قالوا فيه : إن القول لماكان للمؤمن الراسخ الإيمان كانمظنة لحصول الإمتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال ههنا : ما كانت الدلالة مظنة لذلكنزلت منزلة المحقق ويؤيده إن كنتم تعلمون لأنمن لهعقل إذا دله سيدهعلىما هو خير له لا يتركه وادعاء الفرق بماثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من المعاتبة قيل : غير ظاهر فتدبر والإنصاف أن تخريج الفراء لا يخلو (28/89)
عن بعد وأما ما قيل : من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم و يغفر مرفوع سكن آخره كما سكن آخر
أشرب
في قوله : فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة أي طاهرة زكية مستلذة وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها وقوله تعالى : في جنات عدن إشارة إلى حسنها باعتبار محلها ذلك أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها الفوز العظيم
12
- الذي لا فوز وراءه وأخرى أي ولكم إلى ما ذكر من النعم نعمة أخرى فأخرى مبتدأ وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه والخبر محذوف قاله الفراء وقوله تعالى : تحبونها في موضع الصفة وقوله سبحانه : نصر من الله وفتح قريب أي عاجل بدلأو عطفبيان وجملة المبتدأ وخبره قيل : حالية وفي الكشف إنها عطف على جواب الأمر أعني يغفر كماتقول : جاهدوا تؤجروا ولكم الغنيمة وفي تحبونها تعبير لهم وكذلك في إيثار الإسمية على الفعلية وعطفها عليها كأنهذه عندهم أثبت وأمكن ونفزسهم إلى نيلها والفوز أسكن
وقيل : أخرى مبتدأ خبره نصر وقال قوم : هي في موضع نصب بإضمار فعل أي ويعطيكم أخرى وجعل ذلك من باب
علفتها تبنا وماءا باردا
ومنهم من قدرتحبون أخرى على أنه من باب الأشتغال و نصر على التقديرينخبر مبتدأ محذوف أي ذلك أو هو نصر أو مبتدأخبره محذوف أي نصر وفتح قريبعنده وقال الأخفش : هي في موضع جر بالعطف على تجارة وهو كما ترى
وقرأ ابن أبي عبلة نصرا وفتحا قريبا بأعني مقدرا أو على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا أو على البدلية من أخرى على تقدير نصبها وبشر المؤمنين
13
- عطف على قل مقدرا قبل قوله تعالى : يا أيها الذينآمنوا وقيل : على أبشر مقدرا أيضا والتقدير فأبشر يا محمد وبشر
وقال الزمخشري : هو عطف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك وتعقبه في الإيضاح بأن فيه نظرا لأن المخاطبين في تؤمنون هم المؤمنون وفي بشر هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قوله تعالى : تؤمنون بيان لما قبلهعلى طريق الأستئناف فكيف يصح عطف بشر المؤمنين عليه وأجيب بما خلاصته أن قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته كما تقررفي أصول الفقه وإذا فسر بآمنواوبشر دل على تجارته عليه الصلاة و السلام الرابحة وتجارتهم الصالحة وقدم آمنوا لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع منالعطف على جواب السائل بما لا يكون جوابا إذا ناسبه فيكون جوابا للسؤال وزيادة كيف وهوداخل فيه كأنهم قالوا : دلنا ربنا فقيل : آمنوايكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم وفيه من إقامة الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه واختاره صاحب الكشف فقال : إن هذا الوجه من وجه العطف على قل ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما تضمنه الجواب يآ أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله (28/90)
أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة و السلام وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان أنصار الله بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز و جل
وقرأ ابن مسعود على ما في الكشاف كونوا أنتم أنصار الله وفي موضح الأهوازي والكواشي أنتم دون كونوا كما قالعيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله أي من جندي متوجها إلى نصرة اللهتعالى ليطابق قوله سبحانه : قال الحواريون نحن أنصار الله وقيل : إلى بمعنى مع و نحن أنصار الله بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق والأولأولى والإضافة في أنصاري إضافة أحد المتشاركينإلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز و جل كانبينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في أنصار الله إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى وقال أبو حيان : هو على معنى قلنا لكم كما قالعيسى
وقالالزمخشري : هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : من أنصاري إلى الله وخلاصته على ما قيل : إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحوريين أنصاره وقت قول عيسى ثم قيل : كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة وجيء بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم : كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته واكتفى بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدالعلى موصوفه وهذامن توسعاتهم في الظروف وقد جعلت الآية من الأحتباك والأصل كونوا أنصار الله حين قال لكم النبي صلى الله عليه و سلم : من أنصاري إلى الله كما كان الحواريون أنصار الله حين قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاريإلى الله فحذف من كل منهما ما دل عليه المذكور في الآخر وهو لا يخلو عن حسن و الحواريون أصفياؤه عليه السلام والعدول عن ضميرهمإلى الظاهر للأعتناء بشأنهم وهم أول من آمنبه وكانوا اثني عشر رجلا فرقهم على ما في البحر عيسى عليه السلام في البلاد فمنهم من أرسله إلى رومية ومنهممن أرسله إلى بابل ومنهم من أرسله إلى إفريقية ومنهممن أرسله إلى أفسس ومنهم من أرسله إلى بيت المقدس ومنهم من أرسله إلى المجاز ومنهممن أرسله إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه ولست على ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم وقد ذكرها السيوطيأيضا في الأتقان فليلتمس ضبط ذلك من مظانه واشتقاق الحواريين من الحور وهو البياض وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين وقيل : لبسهم البياض وقيل : لنقاء ظاهرهم وباطنهم وزعم بعضهم أنما قيل : من أنهم قصارين إشارة إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم وما فيل : من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق
وقيل : الحواريون المجاهدون وفي الحديث لكل نبي حواري وحواريي الزبير وفسر بالخاصة منالأصحاب والناصر وقال الأزهري : الذي أخلص ونقى من كل عيب وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله تعالى عنه أيضا فقد قال : إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبيوقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين (28/91)
فئامنت طائفة من بني إسرائيل أي بعيسى عليه السلام وكفرت طائفة أخرى فأيدناالذين آمنواعلى عدوهم وهم الذين كفروا فأصبحوا ظاهرين
14
- فصاروا غالبين قال زيد بن علي وقتادة : بالحجة والبرهان وقيل : إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت طائغة من قومه : إنه الله سبحانه وقالت أخرى : إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا رفعه الله عز و جل إليه وقالت طائفة : إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبيصص فظهرت المؤمنة على الكافرتين وروي ذلك عن ابن عباس وقيل : اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون على الكفرة بالسيف والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه السلام وقيل : المراد فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد عليه الصلاة و السلام وكفرت أخرى به صلى الله تعالى عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين وهو خلاف الظاهر والله تعالى أعلم
سورة الجمعة
مدنية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الجمهور وقال ابن يسار : هي مكية وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالإتفاق ولأن أمر الأنفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذاأمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم الخ لم يكن إلا بالمدينة وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ووجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين ولذا تعرض فيها لذكر اليهود وأيضا لما حكى هناك قول عيسى عليه السلام ومبشرا برسول من بعدي اسمه أحمد قال سبحانه هنا : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تجارة ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة أما الأولى فظاهر وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الأصطفاف إلى غير ذلك وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابنماجه عن ابن عباس يقرأ في الجمعة بسورتها وإذا جاءك المنافقون
وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة
بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض تسبيحا متجدداعلى سبيل الأستمرار (28/92)
الملك القدوس العزيز الحكيم صفاتللأسم الجليل وقد تقدم معناها وقرأ أبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدينار والأعرابي برفعها على المدح وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول بين الصفة والموصوف وجاء كذلك عن يعقوب وقرأ أبو الدينار وزيد بن علي القدوس بفتح القاف هو الذي بعث في الأمين يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرأون
وقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته وقيل نسبة إلى أمة العرب وقيل : إلى أم القرى والأول أشهر واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب والكتابة على ما قيل : بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار وقريء الأمين بحذف ياء النسب رسولا منهم أي كائنا من جملتهم فمن تبعيضية والبعضية : إما باعتبار الجنس فلا تدل على أنه عليه الصلاة و السلام أمي أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر فتدل واختار هذا جمع فالمعنى رسولا من جملتهم أميا مثلهم يتلو عليهم آياته مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم ويزكيهم عطف على يتلو فهو صفة أيضا لرسولا أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال
ويعلمهم الكتاب والحكمة صفة أيضا لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهم التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوةالنظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالهامستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر في سورةالبقرة وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كلعنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع قاله بعض الأجلة وجوز كون الكتاب والحكمة كناية عن جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه من الدلالة على مزيد علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه ولو لم يكن له عليه الصلاة و السلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما أشار إليه اليوصيري بقوله : كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب فياليتيم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
2
- من الشرك وخبث الجاهلية وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كان نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهند كورقة وأضرابه وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة و السلام من الغير وإن هي المخففة واللام هي الفارقة وآخرين جمع آخر بمعنى الغير وهو عطف على الأميين أي وفي آخرين منهم أي من الأميين و من للتبيين لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
3
- أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وهم الذين جاءوا بعد (28/93)
الصحابة إلى يوم الدين وجوز أن يكون عطفا على المنصوب في ويعلمهم أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أولهفكأنه عليه الصلاة و السلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول والمذكور في الآية قومه صلى الله تعالى عليه وسلم وجنس الذين بعث فيهم وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيا أو إثباتا وقد تعرض لإثباته في آيات أخر وخصوص القوملا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب وقيل : المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم وبهم فسره مجاهد كما رواه عنه ابن جرير وغيره وتعقب بأنالعجم لم يكونوا أميين
وقيل : المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقا لا في كونهم لا يقرأون ولا يكتبون وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه وكذا على ما قبله ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب
وقال بعض أهل العلم : المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سسماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك من باب التمثيل والأقتصار على بعض الأنواع بناءا على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضا وربما يقال : إن من في منهم إسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى : ومن الناس من يقول وضمير الجمع لآخرين وجملة لما يلحقوا بهم خبر فيشمل آخرين طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم وبذلك فسره الضحاك وابن حيان ومجاهد في رواية ويكون الحديث من باب الأقتصار والتمثيل كقول ابن عمر : هم أهل اليمن وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر
وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى : لما يلحقوا بهم أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الحابة على التابعين ومن بعدهم وفيه أن لما منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعد فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه كذلك وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدرا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كاب الصحابة وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل فقال : الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلة معاوية خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ اهدنا الصراط المستقيم الخ فقال معاوية : آمين واستدل على عدم اللحوق بما صح من قوله عليه الصلاة و السلام فيهم : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه على القول بأن الخطاب لسائر الأمة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة : لا يدري ظهارته خير أم بطانته ذلك إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة و السلام رسولا في الميين ومن (28/94)
بعدهم معلما مزكيا وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم فضل الله وإحسانه جل شأنه يؤتيه من يشآء من عباده تفضلا ولا يشاء سبحانه إيتاءه لأحد بعدهصص
والله ذو الفضل العظيم
4
- الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة مثل الذين حملوا التوراة أيعلموها وكلفوا العمل بما فيها والتحميل في هذا شائع يلحق بالحقيقة والمراد بهم اليهود ثم لم يحملوها أي لم يعملوا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
كمثل الحمار يحمل أسفارا أي كتبا كبارا على ما يشعر بهالتنكير وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها و يحمل إما حال من الحمار لكونه معرفة لفظا والعامل فيه معنى المثل أو صفة له لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح
ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك ووجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل : هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار وفي الآية دليل على سوء حال العالم الذي لا يعمل بعلمه وتخصيص الحمار بالتشبيه به لأنه كالعلم في الجهل ومن ذلك قول الشاعر : ذوامل للأسفار لا علم عندهم يجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أرواح ما في الغرائر بناءا على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار كالجمل البازل وقرأ يحيى بن يعمر وزيد بنعلي حملوا مبنيا للفاعل وقرأ عبد الله حمار بالتنكير وقريء يحمل بشد الميم مبنيا للمفعول بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه ويجوز أن يكون الذين صفة القوم والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله وهو والضمير راجع إلى مثل الذين حملوا التوراة وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو مثل المذكور والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف والتقدير بئس مثلا مثل القوم الخ وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوزحذفه ولو سلم جوازه فهو قليل وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب لاعتبار الوجه الأول وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل مثل القوم من ذلك الباب وإلا ففيه حذف الفاعل وقد قالوابعدم جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها والله لا يهدي القوم الظالمين
5
- أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب
قل يا أيها الذين هادوا أي تهودوا أي صاروا يهودا إن زعمتم أنكم أولياء لله أي أحباء له سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه : ألا إن أولياء الله قال الطيبي : ليؤذن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه عز و جل بها من دون الناس حال من الضمير الراجع إلى اسم إن أي (28/95)
متجاوزين عن الناس فتمنوا الموت أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة إن كنتم صادقين جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لهم إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا يقولوت : نحن أبناء الله وأحباؤه ويدعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وروي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه خالفناه فقالوا نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزير ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت قل يا أبها الذين هادوا الآية واستعمال إن التي للشكل مع الزعم وهو محقق للأشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه
وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السمقيع فتمنوا الموت بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا وعن ابن السمقيع أيضا فتحها وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو ولا يتمنونه أبدا إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم : والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة و السلام فعلموا أنهم لو تمنوا لما تمنوا ساعتهم ولحقهم الوعيد وهذه إحدى المعجزات وجاء نفي التمني في آية أخرى بلن وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من لا و لن لنفي المستقبل من غير تأكيد ومن قال : بإفادة لن التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الأختصاص دون الناس في الموضعين وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبهة فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه والباء في قوله سبحانه : بما قدمت أيديهم سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التني بسبب ما قدمت وجوز تعلقه بالأنتفاء كأنه قيل : انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبلا بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة والله عليم بالظالمين
7
- أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهمظالمونفي كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك
قل إن الموت الذي تفرون منه ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم فإنه ملاقيكم البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر إن والفاء لتضمن الأسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد فلا يقال : إن الفاء إنما تدخل الخبر (28/96)
إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي وإنما لنكتة تليق بالمقام وهي ههنا المبالغة في عدم الفوت وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة الفوت عليه فجيء بالفاء لأفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيسا للحال وقيل : ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سببا للنجاة سبب للأعلام بملاقاته كما في قوله تعالى : فما بكم من نعمة فمن الله وهو وجه ضعيف فيما نحنفيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى ومنع قوم منهم الفراء ودخول الفاء في نحو هذا وقالوا : هي ههنا زائدة وجوز أن يكون الموصول خبر إن والفاء عاطفة كأنه قيل : إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم
وقرأزيد بن علي إنه ملاقيكم بدون فاء وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور وجوز أن يكون الخبر ملاقيكم و إنه توكيدا لأن الموت وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبا بضمير الأسم الذي لأن وقرأ ابن مسعود تفرون منه ملاقيكم بدونالفاء ولا إنه وهي ظاهرة ثم تردونإلى عالم الغيب والشهادة الذيلا يخفى عليه خافية
فينبئكم بما كنتم تعملون
8
- من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها واستشعر غير واحد من الآية ذمالقرار من الطاعون والكلام في ذلك طويل فمنهم من حرمه كابن خزيمة فإنه ترجم في صحيحه باب الفرار من الطاعون من الكبائر وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه واستدلبحديث عائشة الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم وسنده حسن
وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه ومنهم من قال : بكراهته كالأمام مالك ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة ابن شعبة وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق وروي الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته : إن هذا رجز مثل السيل تنكبه اخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومنأقام أحرقته وفي لفظ الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمررض عنه فلم ينكره ولم يكرهه وعن طارق بن شهاب قال : كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون : لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكمحتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فإذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه
وأخرج البيهقي وغيره عنه بسند حسن أنه قال : إن هذاالطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنهفليفعل واحذروا اثنين أن يقول قائل : خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب فلو كنت خرجتلسلمت كما سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان ويفهم أنه لا بأس بالخروج مع اعتقاد أن كلمقدر كائن وكأني بك تختار ذلك لكن في فتاوي العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فارا منه مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملا أن ينجو أما الخروج من محله بقصد (28/97)
أن له قدرة على التخلص من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل كفر اتفاقا
وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك فهو مما لا ينبغي أن يختلف في جوازه كما صرح به بعض المحققين ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعة له لا يقدر على دفعها تضر به ضررا بينا وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك المحل قيل : ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من المهالك فإنه مأمور به وقد قال الجلال السيوطي : الفرار من الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالأجماع والطاعون مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي أو التنزيهي عن الفرار منه واختلفوافي علة النهي فقيل : هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام فتينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه وقيل : هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم وأيضا من خروج الأقوياء كسرا لقلوب الضعفاء عن الخروج وأيضا إن الخارج يقول : لو لم أخرج لمت والمقيم : لو خرجت لسلمتفيقعان في اللو المنهي عنه واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون وقيل : هي إن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد وفي الفرار إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك وكذا من الفرار من الحريق مع أن المكيت بذلك شهيدا أيضا وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك ولهم في بعض هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فليرجع إليها
يآ أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة أي فعل النداء لها أي الأذان والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر وقد كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة و السلام أقام الصلاة ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر فأمر بالتأذين الأولعلى داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه
وفي حديث الجماعة إلا مسلما فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء وفي رواية للبخاري ومسلم زاد النداء الثاني والكل بمعنى وتسمية ما يفعل من الأذان أولا ثانيا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما كان بعد وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى أذانا كما في الحديث بين كل أذانين صلاة وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي : المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي : فاسعوا هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال : المراد (28/98)
الأول في الأصح وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر وقته معلوم تخمينا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك
وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى : إذا نودي الخ قال : إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه : ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا غذانودي للصلاة الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به وهذا القول هو الصحيح في المذهب وقيل : العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو وهو ضعيف لأنه لو اعتبر في جواب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الأستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى ونحوه كثير لكن الأعتراض عليه قوي فتدبر من يوم الجمعة أي فيه كما في قوله تعالى : أروني ماذا خلقوا من الأرض أي فيها وجوز أبو البقاء أيضا كون من للتبعيض وفي الكشاف هي بيان لاذا وتفسير له والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط من البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأنيوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا وقيل : أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في وكونها للتبعيض وهو كما ترى
والجمعة بضم الميم وهو الأفصح والأكثر الشائع وبه قرأ الجمهور وقرأ ابن الزبير وأبو حيوةوابن أبي عبلة وزيد بن علي والأعمش بسكونها وروي عن أبي عمرو وهي لغة تميم وجاء فتحها ولم يقرأ به ونقل بعضهم الكسر أيضا وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم : ضحكة للمضحوك منه وأما الجمعة : بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم : ضحكة لكثير الضحك وقال أبو البقاء : الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الإجماع
وقيل : في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى وقد صار يوم الجمعة علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علما له ولا مانع منه وإضافة العام المطلق على الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفى الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد وكانت العرب على ما قال غير واحد تسمى يوم الجمعة عروبة قيل : وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها وقيل : أل لازمة قال الخفاجي : والأول أصح
وفيالنهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة وكأنه ليس بعربي يقال : يوم عروبة ويوم العروبة والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال : عروبة منكرا ومعرفا هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب ثم قال : قال السهيلي : ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ
وأول من سماه جمعة قيل : كعب بن لؤي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه و سلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه (28/99)
بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما تجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره فقالوا : يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد ابن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم فأنزل الله تعالىفي ذلك بعد يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية وكون أسعد هذا أول من جمع مروي عن غير ابن سيرين أيضا وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان غذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت : يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو قال : لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت : كم كنتم يومئذ قال : أربعون رجلا وظاهر قول ابن سيرين : فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أيها الذين آمنوا الخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض وكذا قوله : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه و سلم وقبل أن تنزل الجمعة وفي الفتح القدير التصريح بذلك وقال العلامة ابن حجر في تحفة المحتاج : فرضت يعني صلاة الجمعة بمكة ولم نقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الإظهار وكان صلى الله تعالى عليه وسلم بها مستخفيا وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولا بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطب فقال : إن الله افترض عليكم الجمعة في مقاميهذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة ولا حج ولا صوم ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه فأن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة و السلام فيه : لا حج له أن الحج كان مفروضا إذ ذاك وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل : فرض قبل الهجرة وقيل : أول سنيها وقيل : ثانيها وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا : إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة قلإن أن يقدح في صحة الحديث وإما أن يقال : مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد ويقال : إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال : أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعبابن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم اثنا عشر رجلا
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة و السلام فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال : أذن النبي عليه الصلاة و السلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير : أما بعد فانظر اليوم الذي تهجر فيه اليهود بالزبور فأجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فترقبوا إلى الله تعالى بركعتين قال : فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلى الله تعالى عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين وصرح به ابن الهمام ومصعبا أول من أقامها بأمره عليه الصلاة و السلام أو بأن مصعبا أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة وقولهم : في المدينة تسامح وقال الحافظ ابن حجر : يجمع (28/100)
بين الحديثين بأن أسعد كان أميرا ومصعبا كان إماما وهو كما ترى ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها وكأن في خبر ابن سيرين رمزا إليها بقوله : وذكرهم وقد يقال : إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط فمتى قيل : إن فلانا أول من صلى الجمعة متضمنا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه وإن كان قبل فرضيتها مستوفيا لما هو معروف اليوم من الشروط ثم إني لا أدري هل صلى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها وعلى تقدير الأكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة و السلام ! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاءوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدا فتدبر والله تعالى الموفق
وأماما كان من صلاته عليه الصلاة و السلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة وهو أول جمعة صلاها عليه الصلاة و السلام وقال بعضهم : إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض وقيل : لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قلت : يا نبي الله لأي شيء سمي الجمعة فقال : لأن فيها جمعت طينة أبيكمآدم عليه السلام الخبر ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كمافي حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا وهو من أفضل الأيام وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمامأحمد وابن ماجة عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعا يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يومالفطر ويوم الأضحى وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة أي للدعاء ما لم يكن يؤال حرام وقيام الساعة وفي خبر الطبزاني وفيه دخل الجنة وفيه خرج وصحح ابن حبان خبر لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة وفي خبر مسلم فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس وصح خبر وفيه تيب عليه وفيه مات
وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر قيل : ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه فعنأبي بردة : هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها وعن الحسن : هي عند زوال الشمس وعنالشعبي : هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل وعن عائشة : هي حين ينادي المنادي بالصلاة وفي حديثمرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير بن عبد الله المزني هي حين تقام الصلاة إلى الأنصراف منها وعن أبي أمامة إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات : إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر أو عند الإقامة وعن طاوس ومجاهد : هي بعد العصر وقيل : غير ذلك ولم يصح تعيين الأكثرين وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الإسم الأعظم وليلة القدر وغيرهما لحكمة لا تخفى (28/101)
فاسعوا إلى ذكر الله أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي وجعل ذلك من خصائص الجمعة فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة واسظهر أن المراد به الصلاة وجوز كون المراد به الخطبة وهو على ما قيل مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة أو لأنها كالمحل له وقيل : الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقا ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه طويلا يسمى خطبة أو ذكرا لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلى الله تعالى عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكأن ذلك واجبا أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزيء غيره إذ لا يكون بيانا لعدم الإجمال في لفظ الذكر والشافعية يشترطون خطبتين : ولهما أركان عندهم واستدلوا على ذلك بالآثار وأيا ما كان فالأمر بالسعي للوجوب
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الصلاة أو هي الخطبة فظاهر وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط وهو المقصود لغيره فرع افتراض ذلك الغير ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين وقيل : كفاية وهو شاذ وفي حديث رواه أبو داود وقال النووي : على شرط الشيخين الجمعة حق واجب على كا مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره وقول القاشاني : تصح بواحد لا يعتد به كما في شرح المهذب لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال : أحدها أنه اثنان أحدهما الإمام وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود الثاني : ثلاثة أخذهم الإمام وحكى عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم الثالث : أربعة أحدهم الإمام وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره وحكاه في شرح المهذب عن محمد وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم الرابع : سبعة حكى عن عكرمة الخامس : تسعة حكى عن ربيعة السادس : اثني عشر في رواية عن ربيعة وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي السابع : ثلاثة عشر أحدهم الإمام حكى عن إسحاق بن راهوية الثامن : عشرون رواه ابن حبيب عن مالك التاسع : ثلاثون في رواية عن مالك العاشر : أربعون أحدهم الإمام وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد وهو المشهور عن الإمام أحمد وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز الحادي عشر : خمسون في الرواية الأخرى عنه الثاني عشر ثمانون حكاه المازري الثالث عشر : جمع كثير بغير قيد وهو مذهب مالك فقد اشتهر أنه قال : لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم (28/102)
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة وقد رجحه المزني وهو من كبار الآخذين عن الشافعي وهو اختيار السيوطي ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة ولو لا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال
وقرأ أكثر من الصحابة والتابعين فامضوا وحملت على التفسير بناءا على أنه يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وذروا البيع أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا أيضا
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم وقول الأكمل في شرح المنار : إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الأسبيجاني أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة وعامة العلماء على صحة البيع وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغضوب أو في الأرض المغضوبة
وقال ابن العربي : هو فاسد وعبرمجاهد بقوله : مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة وأوله إما وقت أذان الخطبة وروي عن الزهري وقال به جمع وإما أول وقت الزوال وروي ذلك عن عطاء والضحاك والحسن والظاهر أن المأمورين برك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضا والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ذلكم أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع خير لكم أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجل وأبقى وقيل : أنفع من ذلك ومنترك السعي وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والأستحباب دون الختم والإيجاب كما لا يخفى إن كنتم تعلمون الخير والشر الحقيقيين أو إن كنتم من أهل العلم علىتنزيل الفعل منزلة اللازم فإذا قضيت الصلاة أي أديت وفرغ منها فانتشروا في الأرض لأقامة مصالحكم وابتغوا من فضل الله أي الربح على ما قيل وقال مكحول والحسن وابن المسيب : المأمور بابتغائه هو العلم
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : لم يؤمروابشيء من طلب الدنيا إنماهو عيادة مريض وحضورة جنازة وزيادة أخ في الله تعالى وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا والأمر للأباحة علىالأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج وروي ذلك عن الضحاك ومجاهد
وحكى الكرماني في شرح البخاري الأتفاق على ذلك وفيه نظر فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب (28/103)
وقيل : هوللندب وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن يسر الحراني قال : رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له : لأي شيء هذا قال : إني رأيت سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فإذا قضيت الصلاة الخ
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى : واذكروا الله كثيرا أي ذكرا كثيرا ولا تخصوا ذكره عز و جل بالصلاة لعلكم فلحون
10
- كي تفوزوا بخير الدارين ومما ذكرنا يعلم ضعف الأستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظرللأباحة واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من ألأمر بالأنتشار وابتغاء الفضل وأمانفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة و السلام غذ كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة فمت كانوا يصلون السنة وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة و السلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعا وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن واستدل بقةله تعالى : إذا نودي الخ من قال : إنما بجي إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء والمسألة خلافية فقال ابن عمر وأبو هريرة ويونس والزهري : يجب إتيانها من ستةأميال وقيل : من خمسة وقال ربيعة : من أربعة وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر
وقال مالك والليث : من ثلاثة وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق على من سمع النداء وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ما شيا أدرك الصلاة وكذا استدل بذلك من قالبوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا وسواء أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة
وإذا رأواتجارة أو لهوا انفضوا إليها أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والرمذي وجماعة عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماإذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى وإذا رأوا تجارة إلى آخر السورة وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقى في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا وفي رواية عن قتادة والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم (28/104)
أولكم لالتهب الوادي عليكم نارا وقيل : لم يبق إلا أحد عشر رجلا وهم على ما قال أبو بكر : غالب بنعطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في أخرى وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم وعدوا بلالا وجابرا لكلامه السابق ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر بلالا وابن مسعود ومنهممن ذكر عمارا بدل ابن مسعود وقيل : لم يبق إلا ثمانية وقيل : بقي أربعون وكانت العير لعبد الرحمن ابن عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر
وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصليالجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنواإلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وإذا رأوا الخ فقدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة ولا أظن صحة هذا الخبر والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك نعم ذكرالعلامة ابن حجر الهيتي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كول الخطبة قبلها والله تعالى أعلم والآية لماكانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا : إن إذا فيها قد خرجت عن الإستقبال واستعملت للماضي كما في قوله : وندمان تزيد الكاس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه أو لأن الأنفاض للتتجارة مع الحاجة إليها والأنتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالأنفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ! وقيل : الضمير للرؤية المفهومة من رأوا وهوخلاف الظاهر المتبادر وقيل : في الكلام تقدير والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأولعليه وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل منهما بل يكفيالرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن أو في أو لهوا مثلها في قوله : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح فقال الجوهري : يريد بل أنت فالضمير في إليها راجع إلى اللهو باعتبار المعنى والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عددت لهوا وتعد فضلا إن لم تشغله كما في قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله انتهى وليس بشيء كما لا يخفى
وقرأ ابن أبي عبلة إليه بضمير اللهو وقريء إليهما بضمير الأثنين كما في قوله تعالى : إن يكون غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل في الآية التي ذكرناها وتركوك قائمآ أي على المنبر
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه وأخرج ابن ماجه وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب قائما أم قاعدا (28/105)
فقال : أما تقرأ وتركوك قائما وكذا سئل ابن سيرين وأبو عبيدة وأجابا بذلك وأول من خطب جالسا معاوية
ولعل ذلك لعجزه عن القيام وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج البخاري ومسلم والتترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة و السلام كانيخطب خطبتين يجلس بينهما وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه وكأنهأراد بالأستراحة غير الجلوس بين الخطبتين غذ ذاك ما كان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضعنهما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة فإن ذلك نفع محقق بخلاف ما فيهما من النفع فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم ونفع التجارة ليس بمخلد وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم لأنه أقوى مذمة فناسب تقديمه في مقام الذم وقال ابن عطية : قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيللتقع النفس أولا على الأبين وهو قريبمما ذكرنا
وقال الطيبي : قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه ليخالفالسابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة واستدلالشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة وأنتعلم أن ذلك مبني على الزعموالوهم وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعفمن خضر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله الملك والله خير الرازقين
11
- فإليه سبحانه اسعوا ومنهD اطلبوا الرزق
واستدلبما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءا على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الأنفضاض كانوا كذلك ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الأبتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف وفيه أن ذلك وإن كان دالاعلى صحتها بإثني عشر رجلا بلاشبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف : فعند أبي حنيفة إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا قبل الركوع وعند صاحبيه إذا كبر وهم معه مضي فيها وعند زفر إذانفروا قبل القعد بطلت لأن العدد شرط ابتداءا فلا بد من دوامه كالوقت ولهما أنه شرط الأنعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة وللأمام أن الأنعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونهاليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها
وقالجمهور الشافعية : إن انفض الأربعون أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمنونها ظهرا لنحو ما قال زفر وفي قول : لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الأبتداء وتمام ذلك في محله (28/106)
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهمبأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إل اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدينوأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم وفيهإن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضواوالقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال : بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته أني بذلك ! وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر
هذا ومن باب الإشارة على ما قيل في الآيات : هو الذي بعث في ألأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة إشارة إلى عظيم قدرته عز و جل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية ومنه قالوا : إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي على ما قال ان الجوزي وعندهمن العلوم اللدنية ما تقصر عنهاالعقول وقال العز بن عبد السلام : قد يكون الإنسان عالما بالله تعالىذا يقين وليس عندهعلم من فروض الكفايات وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة ومن انقطع إلى الله عز و جل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لأدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من ألأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا وقد رأيت منهم من يقول وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلافقلت له : منذ كم تقول هذا فقال : من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد ولا أظن ثباته على ذلك وخبر لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه ليس من كلامه عليه الصلاة و السلام ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا
وذكر بعضهم أن قوله تعالى : ويزكيهم بعد قوله سبحانه : يتلو عليهم آياته إشارة إلى الإفاضة القلبيةبعد الإشارة إلى الإفادة القلبية اللسانية وقال بحصولها للأولياء المرشدين : فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم وهو سر ما يقال له التوجه عند السادةالنقشبندية وقالوا : بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحال القمر ولو لا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين : التوجه والرابطة وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز و جل (28/107)
وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر وفوق كل ذي علم عليم ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه أو يقال : يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخرينوإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال وفي قوله تعالى : وآخرين الخ بناءا على عطفه على الضمير المنصوب قيل : إشارة إلى عدمانقطاع فيضه صلى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة وقد قالوا بعدمانقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء : وفي قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة الخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم وفي قوله تتعالى : قليا أيها الذينهادوا الآية إشارة إلى جواز امتحان مدعى الولاية ليظهر حاله بالأمتحال فعند ذلك يكرم أويهان وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذاصدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الأعتساف وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات ومن عمل بما علم أورثه الله عز و جل علم ما لم يعلم
سورة المنافقين
مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون ولهذا أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين وقال أبو حيان في ذلك : إنه لما كان سبب الأنفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم والأول أولى
بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون أي حضروا مجلسك والمراد بهم عبد الله بن أبيوأصحابه قالوا نشهد إنك لرسولالله التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزوروالتأكيد في قوله تعالى : والله يعلم إنك لرسوله لمزيد الأعتناء حقيقة بشأن الخبر أو ليس إلا ليوافقصنيعهم وجيء بالجملة اعتراضا لا ماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز و جل : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
1
- من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود من أول الأمر وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك ونظيره قول أبي الطيب : وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا فالتكذيب راجع إلى نشهد باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم : نشهد من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه (28/108)
الشهادة وقد يقال : الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم : نشهد المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة وهو مراد من قال : أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل
وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهمإلى ادعائهم المواطأة ضمنا لأن اللفظ مرضوع للمواطيء وجوز أنيكون التكذيب راجعا إلى قولهم : إنك لرسول الله باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني وأن يكون راجعا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم : إنك لريول الله عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه قيل : وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ
وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعا إلى حلف المنافقين وزعموا أنهم لم يقولوا لا تنفقوا علي من عند رسول حتى ينفضوا من حوله ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل لما ذكر في صحيح البخري عن زيد بن أرقم أنه قال : كنت في غزاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسمعت عبد الله ابن أبي بن سلول يقول : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة و السلامإلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا أنهم ما قالوا : فكذبني رسول الله صلى الله عليه و سلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي : ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومقتك فأنزل الله إذا جاء المنافقون فبعث إلي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ فقال : إن الله صدقك يا زيد
وجوزبعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر وأيا ما كانفلا يتم للنظام الأستدلال بالآية على أن صدق مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الأعتقاد خطأ وكذبه عدمها وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في إذا على نحو ما مر آنفا
اتخذوا أيمانهم أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة جنة أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة : كلما ظهر علي شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم وهذا كلام مستقل تعدادا لقبائحهم وأنهم من عادتهم الأستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة ويجوز أن يراد بإيمانهم شهادتهم السابقة والشهادة وأفعال العلم واليقين أجرتها العربمجرى القسم وتلقتها بما يتلقى القسم ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به فلهذا يطلق عليها اليمين وبهذااستشهذ أبو حنيفة على أن أشهد يمين واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يمينا والكلام فيوجوب الكفار بذلك لا في إطلاق الأسم وليس كل ما يسمى يمينا تجب فيه الكفارة فلو قال : أحلفعلى كذا لا تجب عليه الكفارة وإن كان حلفا والجمع باعتبار تعدد القائلين والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه وقيل : إن اتخذوا جواب إذا وجملة قالوا السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه خلاف الظاهر وأبعد منه جعل الجملة حالا وقدير جواب لا ذا وقال الضحاك : أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به (28/109)
الكفار ومن هنا أخذ الشاعر قوله : وما انتسبوا إلى الإسلام إلا لصون دمائهم أن لا تسالا وعن السدي أنهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا وهو كما ترى وكذا ما قبله
فصدوا عن سبيل الله أي من أراد الدخول في دين الإسلام أو من أراد فعل طاعة مطلقا على أن الفعل متعد والمفعول محذوف أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم وأيا ما كان فالمراد على ما قيل : اسمرارهم على ذلك وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكى عنهم من الشهادة ثم قال : واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء في فصدوا أي من أراد الإسلام أو الإنفاق كما سيحكي عنهم ولا ريب في أن هذا الصد مقدم على حلفهم وقريء أي قرأ الحسن إيمانهم بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم فمعنى قوله تعالى : فصدوا فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والإعراض عن سبيله تعالى انتهى وفيه ما يعرف بالتأملفتأمل إنهم ساء ما كانوا يعملون
2
- من النفاق ومايتبعه وقد مر الكلام في ساء غير مرة ذلك إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاقوالكذب والأستجنان بالأيمان الفاجرة أو الإيمان الصوري وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارإليه لما مر مرارا من الأشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا فالمعنى ساء عملهم بأنهم أي بسبب أنهم آمنوا أي نطقوابكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام ثم كفروا ظهر كفرهم وتبين بما أطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات وغير ذلك و ثم على ظاهرها أو لا ستبعاد ما بين الحالين أو ثم أسروا الكفر فثم للأستبعاد لا غير أو نطقوا بالإيمانعند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاءا بالإسلام وقيل : الآيةفي أهل الردة منهم
فطبع على قلوبهم حتى يموتوا على الكفر فهم لا يفقهون
4
- حقيقة الإيمان أصلا
وقرأ زيد بن علي فطبع بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى وجوز أن يكون ضميرا يعود على المصدر المفهوم مما قبل أي فطبعهو أي تلعابهم بالدين وفي رواية أنه قرأ فطبع الله مصرحا بالأسم الجليل وكذا قرأ الأعمش وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لصباحتها وتناسب أعضائها وإن يقولوا تسع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم وكان ابن أبي جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس ومعتب بن قشير فكان عليه الصلاة و السلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم والخطاب قيل : لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة وعطية العوفي يسمع بالياء (28/110)
التحتية والبناء للمفعول وقيل : لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهمإذا أعجبته صلى الله تعالى عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره وكذا السماع لقولهم وليوافق قوله تعالى : إذا جاءك والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة وقوله تعالى : كأنهم خشب مسندة كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الإعراب وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم الخ والكلام مستأنف أيضأ وأنت تعلم أن الكلام صالح للأستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه وقيل : هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في لقولهم أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندةكما في قوله : فقلت : عسى أن تبصرني كأنما بني حوالي الأسود الحوار وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك و خشب جمع خشبة كثمرة وثمر والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندةإذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم وفي مثلهم قال الشاعر : لا يخدعنك اللحي ولا الصور تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسحاب منتشرا وليس فيها لطالب مطر وفي شجر السرو منهم شبه له وراء وماله ثمر وقرأ البراء بن عازب والنحويان وابن كثير خشب بإسكان الشين تخفيف خشب المضموم ونظيره بدن وقيل : جمع خشباء كحمر وحمراء وهي الخشبة التي جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين ومنه يعلم ضعف القيل إذا إذ الأصل توافق القراآت
وقرأابن عباس وابن المسيب وابن جبير خشب بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما فيالبحر ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى : أعجاز نخل خاوية يحسبون كل صيحة عليهم أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل : متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعا بهم وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله عز و جل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل : ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالا وكذا المتنبي قوله : وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا والوقف على عليهم الواقع مفعولا ثانيا ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي وعليه كلام الواحدي (28/111)
وقوله تعالى : هم العدو استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعديالأعادي العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ككثير من أبناء الزمان فاحذرهم لكونهم أعدي الأعادي ولا تغترن بظاهرهم وجوز الزمخشري كون عليهم صلة صيحة و هم العدو والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءا على أنه يكون جمعا ومفردا وهو هنا جمع وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدا لا حاجة إليه وإن المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف ومع ذلك لا يساعد عليه ترتب فاحذرهم لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن قاتلهمالله أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز و جل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا : قالهم اللهم وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره وكذا قوله سبحانه هنا : قالهم الله
أنى يؤفكون
4
- وهذا تعجيب من حالهم أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال فأنى ظرف متضمن للأستفهام معمول لما بعده وجوز ابن عطية كونه ظرفا لقاتلهم وليس هناك استفهام وتعقبه أبو حيان بأن أنى لا تكون لمجرد الظرفية أصلا فالقول بذلك باطل
وإذا قيل لهم تعالى يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والإعراض على ما قيل وقيل : هو على حقيقته أي حركوها استهزاءا وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج ورأيتهم يصدون يعرضون عن القائل أو عن الأستغفار وهم مستكبرون
5
- عن ذلك
وروي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبي مقت الناس ابن أبي ولامه المؤمنونمن قومه وقال بعضهم له : امض إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارالهذا الرأي وقال لهم : لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفي حديث أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتمعن ابن جبير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : تب فجعل يلويرأسه فأنزل الله تعالى وإذا قيل لهم الخ وفي حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال : حتى أنزل الله تعالى تصديقي في إذا جاءك المنافقون ما نصه فدعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم فجمع الضمائر : إما على ظاهره وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانا وإذا على ما مر و يستغفر مجزوم في جواب الأمر و رسول الله (28/112)
فاعل له والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن رسول الله يطلبه عاملان : يستغفر و تعالوا فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله وجملة يصدون في موضع الحال وأتت بالمضارع ليدل على الأستمرار التجددي ومثلها في الحالية جملة هم مستكبرون وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عنعاصم والحسن ويعقوب بخلاف عنهما لووا بتخفيف الواو والتشديد في قراءة باقي السبعةللتكثير ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهمواستكبارهم أشار عز و جل إلى عدم فائدة الأستغفار لهم لما علم سبحانه من سواء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى : سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فهو للتسوية بين الأمرين الأستغفار لهموعدمه والمراد الإخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جلشأنه : لن يغفر الله لهم وتعليله بقوله تعالى : إن الله لا يهدي القوم الفاسقين
6
- أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الأستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح فإن المغفرة فرع الهداية والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهمبأعيانهم والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا والآية في ابن أبي كسوابقها كما سمعت ولو أحقها كما صح وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى والأستغفار لهم قيل : على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين جناياتهم وكان ذلك قد اعتبر في جانبالأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الأتيان لا يظهر كونه سببا للأستغفار ويوميء إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي : تب وترك الأستغفار على طريق الإصرار على القبائح والأستكبار وترك الأعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة و السلام استغفار لهم
وحكىمكي أنه صلى الله عليه و سلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعد ما صدر منهم ما صدر بالتوبة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت آية براءة استغفر لهم أو لا تستغفر الخ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم فنزلت هذه الآية سواء عليهم استغفرت لهم الخ
وأخرج أيضا عن ابن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورةتدعو لا لتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا والآية الأولى فيما اختار نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحةويجمع الطائفتين النفاق ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه وفيه أنه قال للنبي صلى الله تعالى (28/113)
أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآية ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ولا يشكل الأستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت علىما هو عليه من الكفر والنفاق وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق
وقرأ أبو جعفر آستغفرت بمدة على الهمزة فقيل : هي عوض عن همزة الوصل وهي مثل المدة في قوله تعالى : قل آلذكرين حرم لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الأستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة وعنه أيضا ضم ميم عليهم إذ أصلها الضم ووصل الهمزة وروي معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الأستفهام وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة أم عليها كما في قوله
بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقال الزمخشري : قرأ أبو جعفر آستغفرت إشباعا لهمزة الأستفهام للأظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في آلسحر وآلله وقال أبو جعفر بن القعقاع : بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية
وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر وفي كل ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الأستفهام وفي الثانية حذف همزة الأستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى : هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم وجوز أن يكون جاريا مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك أخرج الترمذي وصححه وجماعة عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان معنا من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى ذمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب وقال : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة و السلام فحلف وجحد وصدقه صلى الله تعالى عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أن مقتل وكذبك المسلمون فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينما أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذا أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قلت : ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال : ابشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (28/114)
إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله حتى بلغ ليخرجن الأعز منها الأذل وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضا
وأخرج الإمام أحمد ومسلم والسائي نحو ذلك والأخبار فيه أكثر من أن تحصى وتلك الغواة التي أشار إليها زيد قال سفيان : يرون أنها غزاة بني المصطلق وفي الكشاف خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين والظاهر أن التعبير برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقربون برسالته عليه الصلاة و السلام ظاهرا
وجوز أن يكونوا قالوه تهكما أو لغلبته عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز و جل إجلالا لنبيه عليه الصلاة و السلام وإكراما والإنفضاض التفرق و حتى للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة و السلام ولا يصحبوه
وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم فني طعامهم فنفض الرجل وعاءه والفعل مما يتعدى بغير الهمز وبالهمزة لا يتعدى قال في الكشاف : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم وقوله تعالى : ولله خزائن السماوات والأرض رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يؤدي إلى إنفضاضهم عنه عليه الصلاة و السلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء ولكن المنافقين لا يفقهون
7
- ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشئونه عز و جل ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون
يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قائله كما سمعت ابن أبي وعني بالأعز نفسه أو من يلوذ به وبالأذل من أعزه الله عز و جل وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو هو عليه الصلاة و السلام والمؤمنون وإسناد القول المذكور إلى جميعهم لرضائهم به كما في سابقه
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والسبتي في اختياره لنخرجن بالنون ونصب الأعز والأذل على أن الأعز مفعول به و الأذل إما حال بناءا على جواز تعريف الحال أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه
وحكى الكسائي والفراء أن قوما قرأوا ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء ورفع الأعز على الفاعلية ونصب الأذل على ما تقدم بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج وقريء ليخرجن بالياء مبنيا للمفعول ورفع الأعز على النيابة عن الفاعل ونصب الأذل على ما مر
وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني لنخرجن بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ونصب الأعز والأذل وحكى هذه القراءة أبو حاتم وخرجت على أن نصب الأعز على الأختصاص كما في قولهم : نحن العرب أقرب الناس للضيف ونصب ألأذل على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي والفراء والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل : وهو كما ترى ولعل هذه القراءة (28/115)
غير ثابتة عن الحسن وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنينلا للغير ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر وقيل : إن الضعف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الأستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الإيمان وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال : والله علي أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال : وراءك قال : مالك ويلك ! قال : والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل وصح من رواية الشيخين والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة و السلام : يا نبي الله مر معاذا أن يضرب عنق المنافق فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه
وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهم الصلاة والسلام أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية وأريد بالتيه الكبر وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر وقد نص على ذلك أبو حفص السهروردي قدس يره فقال : العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الأنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزار أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فإنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل
ولكن المنافقين لا يعلمون
8
- من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازمفلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة وقيل في وجهه : إن كون العزة لله عز و جل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى ثم قيل : خص الجملة الأولى ب لا يفقهون والثانية ب لا يعلمون لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوتر ما هو أبلغ لما هو أدعى له
وعن الراغب معنى قوله تعالى : هم يقولون لا تنفقوا الخ أنهم يأمرون بالأضرار بالمؤمنين وحبس (28/116)
النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل وعندهم أن الأعز له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز و جل فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين
يآ أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله أي لا يشغلكم الأهتمام بتدبير أمورها والأعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الأشتغال بذكر الله عز و جل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها
وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض وقال الضحاك وعطاء : الذكر هنا الصلاة المكتوبة وقال الكلبي : الجهاد مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : القرآن والعموم أولى ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا وعبر بهما عنهما لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا فإذا أريد بذكر العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية وقد نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم الخ فالتجوز في الإسناد وقيل : إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج أي لا تكونوا بحيث تلهكم أموالكم الخ
ومن يفعل ذلك أي اللهو بها وهو الشغل وهذا أبلغ مما لو قيل : ومن تلهه تلك فأولئك هم الخاسرون
9
- حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني وفي التعريف بالأشارة والحصر للخسران فيهم وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة وكأنه لما نهى المنافقون عن الإنفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وأريد الحث على الإنفاق جعل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا الخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالإنفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه : وأنفقوا من ما رزقناكم أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة من قبل أن يأتي أحدكم الموت أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى : فيقول رب لو لا أخرتني أي أمهلتني إلى أجل قريب أي أمد قصير فأصدق أي فأتصدق وبذلك قرأ أبي وعبد الله وابن جبير ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه : وأكن من الصالحين
10
- بالعطف على موضع فأصدق كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي والزجاج وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه للمتني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح والفرق بين العطف (28/117)
على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي على والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير
وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو وأكون بالنصب وهو ظاهر وقرأ عبيد بن عمير وأكون بالرفع على الأستئناف والنحويون وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة فيقال هنا : أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للأستئناف مع الواو الأستئنافية كما هنا ولا بدونها وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازانيبأن التزام التقدير مما يظهر له وجهه وقيل : وجهه أن الإستئناف بالأسمية أظهر وهو كما ترى وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعا بالعطف على أصدق على نحو القولين السابقين في الجزم هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى : وأنفقوا مما رزقناكم يعني الزكاة والنفقة في الحج وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر : فأصدق أزكى وأكن من الصالحين أحج وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهمعنه أيضا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان له ماليبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعلسأل الرجعة عند الموت فقال له رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآنا يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله إلى آخر السورة كذا في الدر المنثور
وفي أحكام القرآن رواية الترمذي عنه ذلك موقوفا عليه وحكى عنه في البحر وغيره أنه قال : إن الآية نزلت في مانع الزكاة ووالله لو رأى خيرا لما سأل الرجعة فقيل له : أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكفرة ! فأجاب بنحو ما ذكر ولا يخفى أن الأعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادعى سؤالالرجعة ولم يرفع الحديث بذلك وإذا كان قوله تعالى : لو لا أخرتني الخ سؤالا للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى : من قبل أن يأتي أحدكم الموت إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفا
ولن يؤخر الله نفسا أي ولن يمهلها إذا جآء أجلها أي آخرعمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجلة به والله خبير بما تعملون
11
- فمجاز عليه وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفسا لكونها نكرة في سياق النفي في نعنى الجمع واستدل الكيا بقوله تعالى : وأنفقوا الخ على وجوبإخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها ونسب للزمخشري أنه قال : ليس في الزجر عن التفريط هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات : منها قوله تعالى : وأنفقوا ومنها أنه إن كان قبل حضور الموت لم يقدر على الإنفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل ومنها قوله تعالى مؤيسا له في الجواب : ولن يؤخر الله ولو لا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموتحين التمني وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه والتتمني وهو متمسك الفريق لا يصح الأستدلال به والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان والله تعالى أعلم (28/118)
سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين وعن ابن عباس وعطاءبن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم الخ وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر وأيضا في آخر تلك لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم وفي هذه إنما أموالكم وأولادكم فتنة وهذه الجملة على ما قيل : كالتعليل لتلك وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل واستنبط بعضهم عمر النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة و السلام
بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع المخلوقات عما لا يليق بجانب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا وذلك بدلالتها على كماله عز و جل واستغنائه تعالى والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك له الملك وله الحمد لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبديء لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز و جلالمولي لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يبده فكلا الأمرين له تعالىفي الحقيقة ولغيره بحسب الصورة وتقديم له الملك لأنه كالدليل لما بعده وهو على كل شيء قدير
1
- لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض وقوله تعالى : هو الذي خلقكم الخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى : فمنكم كافر ومنكممؤمن أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز و جل أو فبعضمنكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في خلقكم من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى : واللهخلق كل دابة من ماء فمنهم منيمشي على بطنه الخ فيكون الكفر والإيمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الأخبار الصحيحة كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثلذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابنمردويه عن ابن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا مكث الني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول : يارب أذكر أم أنثى فيقضي الله ما هو قاض فيقول : أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق
وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى : وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم و وتقديم الكفر لأنه الأغلب (28/119)
واختار بعضهم كون المعنى هو الذيخلقكم خلقا بعديعا حاويا لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائرالنعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا وهو الذي ذهب إليه الزمخشري بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأن الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلقوالإيجاد من النعم وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته ثم قال : فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الأستعارة كاللام في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهي كالفاء في قوله تعالى : وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهمفاسقون ولم يجعلها للتفصيل كما قيل
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالىفي ملكه وملكوته واستبداده فيهما وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكوناتذواتها وأعراضها ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف واعترض قول الزمخشري : فما أجهل الخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلو لا خلقه وتبيين ما فيه من المضار مقدار الأنعام بالإيمان وما فيه منالمنافع ثم إن كونه كفراباعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لاعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه ثم قال : ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى : فمنكم الخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خلقكم تحريف لكتاب الله تعالى انتهى
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى : كافر ومؤمن دون من يكفر ومنيؤمن نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها وقوله ص - : كل مولود يولد على الفطرة والإنصاف أن الآية تحتمل كلامن المعنيين : المعنى الذي ذكر أولا والمعنى الذي اختاره البعض والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل : إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين وقوله تعالى : والله بما تعملون بصير
2
- أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما في الكلام على قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول وكأني بك تختار الثانيلأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به وعن عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر أي باللهتعالى مؤمن بالكوكب ومنكم مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب وقيل : فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ومنكم مؤمن به وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق ولا أراه يصح وكأنه من كذب المعتزلة عليه والجملة على ما استظهر بعض الأفاضل معطوفة على الصلة ولا يضره عدم العائد لأن (28/120)
المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب أو يقال : فيها رابط التأويل أي فمنكم من قدر كفره ومنكم من قدرإيمانه أو فمنكم كافر به ومنكممؤمن به ويقدر الحذفتديرجا وجوز أن يكون العطف على جملة هو الذي خلقكم
خلق السماوات والأرض بالحق بالحكمة بالبالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية قيل : وأصل الحقمقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة
وصوركم فأحسن صوركم حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعرالظاهر والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا : وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر ولعمري أن الإنسان أعجب نسخة في هذاالعالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثاروعلم ما علم منها ذوو الأبصار وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو المعروف وكل ما يشاهد من الصورة الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلا نحطاط بعضها عنمراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيزالحسن غير خارجة من حده ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظرإليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها وقالت الحكماء : شيآن لا غية لهما : الجمال والبيان
وقرأ زيد بن علي وأبو رزين صوركم بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور
وإليه المصير
3
- في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلق له لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب يعلم ما في السماواتوالأرض من الأمور الكليةوالجزئية والأحوال الجلية والخفية ويعلم ما تسرون وما تعلنون أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للأعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء وقوله تعالى : والله عليم بذات الصدور
4
- اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أيهو عز و جل محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة قيل وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الأتقان والأختصاص ببعض الأنحاء (28/121)
وقرأ عبيد بن أبي عمرو وأبان عن عاصم ما يسرون وما يعلنون بياء الغيبة ألم يأتكم أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل : ألم يأتكم يا أهل مكة نبؤ الذين كفروا من قبل كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم المصرةعلى الكفر فذاقوا وبال أمرهم أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة والوابل للمطر الثقيل القطار واستعمل للضر لأنه يثقل على الإنسان ثقلا معنويا وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذانبأنه هائل وجناية عظيمة ولهم في الآخرة عذاب أليم
5
- لا يقادر قدره ذلك أ ما ذكر من الذعاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة بأنه أي بسبب أن الشأن
كانت تأتيهم رسلهم بالبينات بالمعجزات الظاهرة فقالوا عطف على كانت
أبشر يهدوننا أي قال كل قوم من أولئك الأقوال الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزاتمنكرين لكون الرسول من جنس البشر أو مجتمعين من ذلك يهدينا كما قالت ثمود : أبشرا منا واحدا نتبعه وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام وأريد بالبشر الجنس فوصفبالجمع كما أجمل الخطاب والأمر في قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وارتفاع بشر على الأبتداء وجملة يهدوننا هو الخبر عند الحوفي وابن عطية والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الأستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الأشتفال فكفروا بالرسل عليهم السلام وتولوا على التأمل فيما أتوا من البينات وعن الإيمان بهم واستغنى الله أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم ولو لا غناه عز و جل عنهما لما فعل ذلك والجملة عطف على ما قبلها وقيل : في موضع الحال على أن المعنى فكفروا وتولوا وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء والأول هو الوجه والله غني عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم حميد
6
- يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا الزعم ادعاء العلم وأكثر ما يستعمل للأدعاء الباطل
وعن ابن عمر وابن شريح إنه كنية الكذب واشتهر أنه مطية الكذب ولما فيه من معنى العلم يتعدىإلى مفعولين وقد قام مقامهما هنا أن المخففة وما في حيزها والمراد بالوصول على ما في الكشافأهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر ويؤيده ظاهرا قوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن قال في الكشف : ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكةفي الذكر وغيرهم ممن حملوا على الأعتبار بحالهم وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم قل ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة (28/122)
في حيز الأمر وكذا قوله تعالى : ثم لتنبؤن بما عملتم أي لتحاسبن وتجرون بأعمالكم وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له وذلك أي ما ذكر من البعث والجزاء على الله يسير
7
- لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء في قوله تعالى : فآمنوا مفصحة بشرط قد حذف يقة بغاية ظهوره أي إذاكان الأمر كذلك فآمنوا بالله الذي سمعتم ما سمعتم من شئونه عز و جل ورسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والنور الذيأنزلنا وهو القرآن فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك والألتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه والله بما تعملون من الأمتثال بالأمر وتركه خبير
8
- عالم بباطنه
والمراد كمال علمه تعالى بذلك وقيل : عالم بأخباره يوم يجمعكم ظرف لتنبؤن وقوله تعالى : وذلك على الله يسير وقوله سبحانه : فآمنوا إلى خبير من الأعتراض فالأول يحقق القدرة على البعث والثاني يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به وبالحقيقةهو نتيجة قوله تعالى : لتبعثن ثم لتنبؤن قدم على معموله للأهتمام فجرى مجرى الأعتراض وقوله سبحانه : والله بما تعملون خبير اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول : أعمل إني غير غافل عنك وقال الحوفي : ظرف لخبير وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد
وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم ثم جوز هذا الوجه وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى : لتنبؤن بما عملتم فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر وجوز كونه منصوبا بإضمار اذكر مقدرا وتعقب بأنه وإن كان حسنا إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه وجوز كونه ظرفا فالمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم وتعقب بأن فيه ارتكابحذف لا يحتاج إليه فالأرجح الوجه الأول وقريء يجمعكم بسكون العين وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب وروي إشمامها الضم وقرأ سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي نجمعكم بالنون ليوم الجمع ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون وقيل : الملائكة عليهمالسلام والثقلان وقيل غير ذلك والأول أظهر واللام قيل : للتعليل وفي الكلام مضاف مقدر أيلأجل ما في يوم الجمع من الحساب وقيل : بمعنى فلا تقدير ذلك يوم التغابن أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنهم قالوا : يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد واختير للمبالغة وإلى هذا ذهب الواحدي
وقال غير واحد : أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس ففيالصحيح ما من عبد يدخل الجنة إلا أرىمقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة وهومستعار من تغابن القوم في التجارة وفيه تهكم بالأشقيار لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا (28/123)
القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه السعداء والأشقياء على التقابل والأحسن الإطلاق وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح واختار ذلك محيي السنة حيث قال : التغابن تفاعل من الغبن وهوفوت الحظ والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان قال الطيبي : وعلى هذا الراغب حيث قال : الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال : غبن فلان بضم الغين وكسر الباء وإن كان في رأي يقال : غبن بفتح الغين وكسر الباء و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله وقوله سبحانه : إن اللهاشترى من المؤمنين أنفسهم وقوله عز و جل : الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا انتهى والجملة مبتدأ وخبر والتعريف للجنس وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا أي عملا صالحا يكفر أي الله تعالى عنه سيئاته في ذلك اليوم ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا أي مقدرين الخلود فيها والجمع باعتبار معنى من كما إن الإفراد باعتبار لفظه وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن علي والحسن بخلاف عنه نكفر وندخله بنون العظمة فيهما ذلك أي ما ذكرمن تكفير السيآت وإدخال الجنات الفوز العظيم
9
- الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطلبات
الذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير
10
- أي النار وكأن هذه الآية والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة
ما أصاب من مصيبة أي ما أصاب أحدامصيبةعلى أن المفعول محذوف و من زائدة و مصيبة فاعل وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى : ما تسبق من أمة أجلها وما تأتيهم من آية والمراد بالمصيبة الرزية وما يسوء العبد في نفس أو مال أو ولد أو قول أوفعل أي ما أصاب أحدا من رزايا الدنيا أي رزية كانت إلا بإذن الله أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز و جل كأن الرزية بذاتها متوجهةإلى العدبمتوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا وجوز أن يراد بالمعصية الحادثة من شر أو خير وقد نصواعلى أنها تستعمل فيمايصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل : إنهافي الأول من الصوبأي المطر وفي الثاني من إصابة السهم والأول هو الظاهر وإن كان الحكم بالتوقف على الأذن عاما
ومن يؤمن بالله يهد قلبه عند إصابتها للصبر والأسترجاع على ما قيل وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمرالله تعالىويرضى بها وعن ابن مسعود قريب منه وقال ابن عباس : يهد قلبه لليقين فيعلمأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأهلم يكن ليصيبه وقيل : يهد قلبه أي يلطف به ويشرحه لازدياد (28/124)
الخير والطاعة وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة نهد بنون العظمة
وقرأ السلمي والضحاك وأبو جعفر يهد بالياء مبنيا للمفعول قلبه بالرفع على النيابة عن الفاعل وقريء كذلك لكن بنصب قلبه وخرج على أن نائب الفاعل ضمير من و قلبه منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى : لمن كان له قلب فالكلام من الحذف والإيصال نحو اهدنا الصراط المستقيم وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدى إليهوجوز أن يكون نصبه على التمييز بناءا على أنه يجوز تعريفه (28/125)
وقرأعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار يهدأ بهمزة ساكنة قلبه بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكنبالإيمان ولا يكونفيه قلق واضطراب وقرأ عمرو بن قايد يهدأ بألف بدلا من الهمزةالساكنة وعكرمة ومالك بن دينار أيضا يهد بحذفالألف بعد إبدالها من الهمزة وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان وأجاز ذلك بعضهم قياسا وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى : جرى متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وأن لا يبد بالظلم يظلم أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفا ثم حذفت للجازم تشبيها بألأف يخشى إذادخل عليه الجازم وقوله تعالى : والله بكل شيء من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها عليم
11
- فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة فالجملة متعلقة بقوله تعالى : ومن يؤمن الخ وجوز أن تكون متعلقةبقوله سبحانه : ما أصاب الخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد وذكر الطبي أن في كلام الكشافرمزا إلى أن في الآية حذفا أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه ومن يؤمن بالله يهد قلبه وبني عليهأن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضا لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي وأي مصيبة أعظم منهما وهو كما أشار إليه يدفع في نحرالمعتزلة وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول كرر الأمر للتتأكيد والإيذان بالفرق بين الإطاعتين فيالكيفية وتوضيح مورد التولي في قوله تعالى : فإن توليتم أي عن إطاعة الرسول وقوله تعالى : فإنما على رسولنا البلاغ المبين
12
- تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة و السلام والإشعاربمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلى الله تعالى عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه والحصر في الكلام إضافي الله لا إله إلا هو الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد وقد مر وجلا وعلى الله أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا فليتوكل المؤمنون
13
- وإظهارالجىلة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل أو الأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية وذكر بعض الأجلة أن تخصيص المؤمنين بالأمر بالتوكل لأن الإيمان بأن الكل منه تعالى يقتضي التوكل ومن هنا قيل : ليس في الآياتت لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم (28/0)
من هذه الآية لا يمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن وهي على ما قال الطيبي : كالخاتمة والفذلكة لما تقدم وكالمخلص إلى مشرع آخر
يا أيها الذين آمنواإن أزواجكم وأولادكم عدوا لكم أي إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها ومن افسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل ومن كسرت قارورة عرضه ومن مزقت كيس ماله ومن ومن وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك فاحذروهم أي كونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى : فإنهمعدو لي المأمور به الحذر عن الكل أو للأزواج والأولاد جميعا فالمأمور به الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشمالهم على العدو وإن عفوا عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن كون معلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدينلكن مقارنةللتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها وتصفحوا تعرضوا بترك الترثيب والتعيير وتغفروا تستروها بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها فإن الله غفور رحيم
14
- قائم مقام الجواب والمراد يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم فإنه عز و جل غفور رحيم ولما كان التكليف ههنا شاقا لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الأنتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه : وإن تعفو الخ وقال غير واحد : إن عداوتهم من حيث أنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجته وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك وسبب النزول أوفق بهذا القول
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم الخ في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى الآية وفي رواية أخرة عنه أنه قال : كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأته وولده فيقول : أما والله لئن جمع اللهبيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلن ولأفعلن فجمع الله عز و جل بينهم في دار الهجرة فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم الآية
وقيل : إنهم قالوا لهم لئن جمعنا الله تعالى في دار الهجرة لم نصبكم فلما هاجروا منعوهم الخير فنزلت وعن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وشكوا فراقه فرق ولم يغز ثم إنه ندم فهم بمعاقبتهم واستدلبها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجته وولده إذا جنوا معه جناية وأن لا يدعو عليهم إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي بلاء (28/126)
ومحنة لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الأثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك وفي الحديث يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه عن بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عليه الصلاة و السلام من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال : صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما وفي رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج حسين بن علي على رسول الله وعليهم الصلاة والسلام فوطيء في ثوب كاب عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن المنبر فلما رآه الناس سعوا إلى حسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري
وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد وعنهما قال في الكشف : الفتنة على هذا الميل إلى الأموال والأولاد دون العقوبة والإثم وقدمت الأموال قيل : لأنها أعظم فتنة كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي وصححه عن كعب بن عياض سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال
وأخرج نحوه ابن مردويه عن عبد الله بن أوفى مرفوعا وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم تذكر من التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم والله عنده أجر عظيم
15
- لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في مصالحهم على وجه يخل بذلك فاتقوا الله ما استطعتم أي ابذلوا في تقواه عز و جل وجهدكم وطاقتكم كما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس وحكى عن أبي العالية
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت اتقوا الله حق تقاته اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فاتقوا الله ما استطعتم فنسخت الآية الأولى وجاء عن قتادة نحو منه وعن مجاهد المراد أن يطاع سبحانه فلا يعصى والكثير على أن هذاهو المراد في الآية التي ذكرناها واسمعوا مواعظه تعالى وأطيعوا أوامره عز و جل ونواهيه سبحانه وأنفقوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه جل شأنه كما يؤذن به قوله تعالى : خيرا لأنفسكم وذكر ذلك تخصيص بعد تعميم ونصب خيرا عند سيبويه على أنه مفعول به لفعل محذوف أي وأتوا خيرا لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وأنفع وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر (28/127)
وبيان لكون الأمور خيرا لأنفسهم من الأموال والأولاد وفيه شمة من التجريد وعند أبي عبيد على أنه خبر ليكن مقدرا جوابا للأمر أي يكن خبرا وعند الفراء والكسائي على أنه نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا وقيل : هو نصب بأنفقوا والخير والمال وفيه بعد من حيث المعنى وقال بعض الكوفيين : هو نصب على الحال وهو بعيد في المعنى والأعراب ومن يوق شح نفسه وهو البخل مع الحرص
فأولئك هم المفلحون
16
- الفائزون بكل مرام إن تقرضوا الله تصرفوا المال إلى المصارف التي عينها عز و جل وفي الكلام استعارة تمثيلية قرضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس يضاعفه لكم يجعل لكم جل شأنه بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر وقريء يضعفه ويغفر لكم ببركة الإنفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب والله شكور يعطي الجزيل بمقابلة النزر القليل حليم
17
- لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة الذنوب عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه سبحانه شيء العزيز الحكيم
18
- المبالغ في القدرة والحكمة وفي الآية من الترغيب بالإنفاق ما فيها لكن اختلف في المراد به فقيل : الإنفاق المفروض يعني الزكاة المفروضة وقد صرح به وقيل : الإنفاق المندوب وقيل : ما يعم الكل والله تعالى أعلم
سورة الطلاق
وتسمى سورة النساء القصرى كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري وغيره وأنكره الداوودي فقال : لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشيء من سور القرآن : قصرى ولا صغرى وتعقبه ابن حجر بأنه زد للأخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال : طولي الطوليين وأراد بذلك سورة الأعراف وهي مدنية بالإتفاق
واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية وفيما عداه اثنتا عشرة آية ولما ذكر سبحانه فيما تقدم إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الإنفصال منهن على الوجه الجميل وذكر عز و جل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة فقال عز من قائل : بسم الله الرحمن الرحيم يآ أيها النبي إذا طلقتم النساء خص النداء به صلى الله تعالى عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة و السلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا بستبدون بأمر دون فكان وحده في حكمهم كلهم وسادا مسد جنيعهم وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة و السلام ما فيه ولذلك اختير لفظ النبي لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : الخطاب كالنداء له صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله :
ألا فارحموني يا إله محمد
وقيل : إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة و السلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريما له صلى الله تعالى عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك : إذا طلقتم وقيل : حذف نداء الأمة والتقدير يا أيها النبي (28/128)
وأمة النبي إذا طلقتم وأيا ما كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه واتفقوا على أنه لو لا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد وقال بعض المحققين : لك أن تقول : لا حاجة إلى ذلك بل هو تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة عل اللزوم كما يقال : إن ضربت زيدا فاضربه ضربا مبرحا لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضربا شديدا وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضا فطلقوهن لعدتهن أي لاستقبال عدتهن واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال يقين من جمادي الأولى أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر واعتبار الأستقبال رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة كالإمام أبي حنيفة ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض
وقد حصروا جميعا بأن ذلك طلاق وبدعى حرام وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه واستدل لذلك ولاعتبارالأستقب بما أخرجه الإمامان : مالك والشافعي والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسولالله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيضفتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء
وقرأ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر وغيره يقرأ كذلك وكذلك ابن عباس وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن ومن يرى أن العدة بالإطهار وهي القروء في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الأستقبال واعترض على التتأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن إريد التلبس بأولها فهو للشافعي ومنيرى رأيه لا عليه وعلى المخالف لا له وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللازم إذا دخلت الوقتأفادت معنى التأقيت والإختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت وعلى الأستدلال بقراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن الشيء أوله نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له ويشهد لكون العدة بالإطهار قراءة ابن مسعود لقبل طهرهن ومنهم من قال : التقدير لأطهارعدتهن وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى من دل على أن القرء هو الحيض والطهر معا وإن جعلت بمعنى اللام فيكفي ما في قولك لأطهار الحيض من التنافر ردا مع ما فيه من الأضمار من غير دليل
وفي الكشافالمراد أي في الآية أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهنوهوأحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم ويدلعليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدةوكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في أطهار وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموة كانت أو مفروقة وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد عل الواحدة في طهر واحد (28/129)
فأما مفروقا في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة وروي أنه عليه الصلاة و السلام قال لعمر : مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء
وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت والشافعي يراعي الوقت انتهى
وقد فتح القدير في الأحتجاج على عدم كراهة التفريق على الإطهار وكونه من الطلاق السني غير ما ذكر عن ابن عمر أيضا وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال : أنت طالق أنت طالق أنت طالق أو بلفظ واحد كأن يقال : أنت طالق ثلاثا وفي وقوع هذا خلاف وكذا في وقوع الطلاق مطلقا في الحيض فعند الإمامية لا يقعالطلاق بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين وقال قوم منهم فيما قيل طاوس وعكرمة : الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة وروي هذا أبو داود عن ابن عباس وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعلواحدةعلى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر قال : نعم وفي روايةلمسلم أن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ومنهم من قال في المدخول بها : يقع ثلاث وفي الغير واحدة لمافي مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بهاجعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبيبكر وصدر من خلافة عمر الحديث والذي ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة وقوعالثلاث بفم واحد بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع
ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابنمسعود وأبي هريرة وعثمان ابن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك وذكر أيضا أن إمضاء عمر الثلاث عليهممععدم مخالفة الصحابة له مع علمهم بأنها كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد أطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالأطلاع على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما وسيأتي إن شاء الله تعالبعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث لكن قيل : إن الثلاث فيها ما يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنتطالق أنت طالق ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالقثلاثا وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظلكن إذاصح الإجماع ولو سكوتيا على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت وتأويل ما روي عن عمر ولذا قال بعض الأئمة : لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه (28/130)
لأنه لا يسوغ الأجتهاد فيه لأجماع الأئمة المعتبرين عليه وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك ومن قال : بمعصيته استدلبما روي النسائي عن محمود بن لبيد قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبان فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ! حتى قام رجل فقالوا : يا رسول الله ألا أقتله وبما أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادةفسألأه صفقال عليه الصلاة و السلام : بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائةوتسعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضا وهو ظاهر كلام ابن الرفعة ومقتضى قول الروياني واعتمده الزركشي وغيره أنه يعزر فاعله ووجه بأنه تعاطي نحو عقد فاسد وهوحرام ونوزع في ذلك بمافيه نظر وبما في سنن أبي داود عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق زوجته ثلاثا فقال له : عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك
ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه وقال : إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية ومع اعتقادها يحرم الجمع المخالف ومع الحرمة يجب على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثا فيموضعه والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شبها نوا ثلاثا لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه وقال بعض الحنفية في ذلك : إنه محمول على أنهم قالوا : ثلاثا للسنة وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة على العصيان فيه على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية
واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف وفي الأستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث وربما يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة الشافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء وليس في فليراجعها أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر فالمعنى فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة وإذا راجع ارتفع الأثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت بمنزلة التوبة ترفع أصل المعصية وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل ويندفع بما ذكر ما قيل : رفع الرجعة للترحيم كالتوبة يدل عل وجوبها إذ كون الشيء بمنزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذا النهي عند أبي حنيفةلا يستلزم الفساد مطلقا وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضا وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق ولم يؤمر بها قيل : وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكى عن السدي (28/131)
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : بلغنا أن قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم الآية نزل في عبد الله ابن عمرو بن العاص وطفيل بن الحرث وعمرو بن سعيد بن العاص وقال بعضهم : فعله ناس منهم ابن عمرو ابن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت الآية وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى : يحدث يعد ذلك أمرا فراجعها عليه الصلاة و السلام ورواه قتادة عن أنس وقال القرطبي نقلا عن علماء الحديث : إن الأصح أنها نزلت ابتداءا لبيان حكم شرعي وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي وظاهرها أن نفس الطلاق مباح واستدل له أيضا بما رواه أبو داود وابن ماجه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إن من أبغض المباحات عند الله عز و جل الطلاق وفي لفظ أبغض الحلال إلى الله الطلاق لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه والمراد من كونه مبغوضا التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه
وقال البيهقي : البغض على إيقاعه كل وقت من رعاية لوقته المسنون وبطلاقه صلى الله عليه و سلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة وقال غير واحد : هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح ولقوله عليه الصلاة و السلام : لعن الله كل مذواق مطلاق وإنما أبيح للحاجة قال ابن الهمام : وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله تعالى شيئا أبغض إليع من الطلاق فإن الفعل لا عموم له في الأزمان ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضى بترك ذلك وما روي عن الحسن وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله : أحب الفني قال الله سبحانه : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته فهو رأي منه إن كان على ظاهره وكل ما نقل من طلاق الصحابة كطلاق المغيرةابن شعبة الزجات الأربع دفعة فقد قال لهن : أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الجاجة وإن لم يصرح بها وقال ابن حجر : هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين أياه أو مندوب كأن يعجز بحقوقها ولو لعدم الميل إليها أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها ومن ثم أمر صلى الله تعالى عليه وسلم من قال : إن زوجتي لا ترد يد لامس أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال في معناه بإمساكها خشية من ذلك ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصير على عشرتها عادة فيما يظهر وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب والأعصم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقى من الآباء والأمهات ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر أو حرام كالبدعى أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا : ليس فيه مباح لكن صوره الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمحنفسه بمؤنتها من غير تمتع أه
والآية على ما لا يخفى على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف وغيره لمكان قوله سبحانه : فطلقوهن لعدتهن (28/132)
واحصوا العدة واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتادا قديما ثم صار حقيقة فيما ذكر واتقوا الله ربكم في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن وفي وصفه تعالى بربوبيته عز و جل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الأتقاء لا تخرجوهن من بيوتهن من مساكنهن عند الطلاق وإلى أن تنقضي عدتهن وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكنا كأنها أملاكهن وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناءا به والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن أو محض سفه بمنطوقه ويتناول عدمالأذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى : ولا يخرجن أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلهافظاهر وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفى والأذن في فعل المحرممحرم فكأنه قيل : لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤكد فلا يسقط بالإذن وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الأنتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله : فيه نظر وقد ذكر الرازي في الأحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالإسقاط انتهى
والذييظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالأذن وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتر في بيته وأما أن يحل لها الخروج فلا إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي ظاهرة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عمر وروي عن السدي وابن السائب والنخعي وبه أخذ أبو حنيفة والأستثناء عليه راجع إلى لا يخرجن والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه وقال الإمام ابن الهمام : هذا كما يقال في الخطابية : لا تزن إلا أن تكونفاسقا ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جدا والزنا على ما روي عن قتادة والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث وهو قول ابن مسعود وقول ابن عباس وبه أخذ أبو يوسف والأستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أيلا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لأقامة الحد عليهن وقال بعض المحققين : هو راجع إلى الكل وما يوجبحدا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب واختاره الطبري والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس والأستثناء راجع إلى ألأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن وأيد بقراءة أبي إلا أن يفحشن عليكم بفتح الياء وضم الحاء وفي موضح الأهواري يفحشن من أفحش قال الجوهري : أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحش وفي حرف ابن مسعود إلا أن يفحشن بدون عليكم والنشوز والمراد إلا أن (28/133)
يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضا والأستثناء عليه قيل : راجع إلى الأول أيضا وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه إذا سقط حقها في السكني حل الأخراج والخروج أيضا وأيا ما كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهي عنه بالإتيان بالفاحشة وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك
وقرأ ابن كثير وأبو بكر مبينة بالفتح وتلك إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن حدود الله التي عينها لعباده عز و جل ومن يتعد حدود الله أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على الإظهار في موضع الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم في قوله تعالى : فقد ظلم نفسه أي أضر بها كما قال شخ الإسلام ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
1
- فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية وقد قالوا : إن الأمر يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى
ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم ههنا به وأن قوله تعالى : لا تدري الخ ليس تعليلا لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور فيتفسيره به فيما يظهر وجملة الترجي في موضع النصب ب لا تدري وعد أبو حيان لعل من المعلقات والخطاب في لا تدري للمتعدي بطريق الإلتفات لمزيد الأهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما قيل فالمعنى من يتعدىحدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله تعالى يحدثفي قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الأعراض عنها إقبالا إليها ولا يتسنى تلافيه برجعة أو استئناف نكاح فإذا بلغن أجلهن شارفن آخر عدتهن
فأمسكوهن فراجعوهن بمعروف بحسن معاشرة وإنفاق مناسب للحال من الجانبين
أو فارقوهن بمعروف بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة
وأشهدوا ذوي عدل منكم عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة وقطعا للنزاع وهذا أمر ندب كما في قوله تعال : وأشهدوا إذا تبايعتم وقال الشافعي في القديم : إنه للوجوب في الرجعة وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق وأنه مروي عن أئة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق وأقيموا الشهادة أي أيها الشهود عند الحاجة لله خالصا لوجهه تعال وفي الآية دليل عل بطلان قول من قال : إنه إذا تعاطف أمران لمأمورين يلزم ذكر النداء أو يقبح تركه نحو إضراب يا زيد وقم يا عمرو ومن خص جواز الترك بلا قبح باختلافهما كما في قوله تعالى : يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك فإن المأمور بقوله تعالى : (28/134)
اشهدوا للمطلقين وبقوله سبحانه : أقيموا الشهادة للشهود كما أشرنا إليه وقد تعاطف من غير اختلاف في أفصح الكلام
ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أي لأنه المنتفع بذلك والإشارة على ما اختاره صاحب الكشاف إلى الحث عل إقامة الشهادة لله تعالى والأولى كما في الكشف أن يكون إشارة إلى جميع ما مر من إيقاع الطلاق على وجه السنة وإحصاء العدة والكف عن الإخراج والخروج وإقامة الشهادة للرجعة أو المفارقة ليكون أشد ملاءمة لقوله عز و جل : ومن يتق الله يجعل له مخرجا
2
- ويرزقه من حيث لا يحتسب فإنه اعتراض بين المتعاطفين جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام بالوعد على اتقاء الله تعالى فيها فالمعنى ومن يتق الله تعالى فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يجعل له سبحانه مخرجا مما عس أن يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المشايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه وفي الأخبار عن أجلة الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس في بعض الروايات عنه ما يؤيد هذا الوجه وجوز أن يكون اعتراضا جيء به على نهج الأستطراد عنه ذكر قوله تعالى : ذلكم يوعظ به الخ فالمعنى ومن يتق الله في كل ما يأتي وما يذر يجعل له مخرجا من غموم الدنيا والآخرة وهو أولى لعموم الفائدة وتناوله لما نحن فيه تناولا أوليا ولاقتضاء أخبار في سبب النزول وغيره له فقد أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن بسار عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى : ومن يتق الخ فقال : مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتلو هذه الآية ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فجعل يرددها حتى نعست ثم قال : يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني قال : مرك وإياها أن تستكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة : نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت ومن يتق الله الآية وفي رواية ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق مولى آل قيس قال : جاء عوف ابن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له : أسر ابن عوف فقال له عليه الصلاة و السلام : أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فإذا سرح للقوم الذين كانوا شددوه فصاح بها فاتبع آخرها أولها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فنزلت ومن يتق الله الخ
وفي بعض الروايات أنه أصابه جهد وبلاء فشكا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : اتق الله واصبر فرجع ابنه وقد أصاب أعنزا فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة و السلام فنزلت فقال : هي لك إلى غير ذلك مما هو مضطرب على ما لا يخفى على المتتبع وعلى القول بالأستطراد قيل : المعنى من يتق الحرام (28/135)
يجعل له مخرجا إلى الحلال وقيل : مخرجا من الشدة إلى الرخاء وقيل : من النار إلى الجنة وقيل : مخرجا من العقوبة ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب وقال الكلبي : ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجا إلى الجنة والكل كما ترى والمعول عليه العموم الذي سمعته وفي الكشف إن تنويع الوعد للمتقي وتكرير الحث عليه بعد الدلالة على أن للتقوى ملاك الأمر عدن الله تعالى ناط به سبحانه سعادة الدارين يدل على أن أمر الطلاق والعدة من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى لأنه أبغض المباح إلى الله عز و جل لما يتضمن من الإيحاش وقطع الألفة الممهدة ثم الإحتياط في أمر النسب الذي هو من جلة المقاصد يؤذن بالتشديد في أمر العدة فلا بد من التقوى ليقع الطلاق على وجه يحمد عليه ويحتط في العدة ما يجب فهنالك يحصل للزوجين المخرج في الدنيا والآخرة وعليه فالزوجة داخلة في العموم كالزوج ومن يتوكل على الله فهو حسبه أيكافيه عز و جل في جميع أموره
وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال : يقول الرب تبارك وتعالى : إذا توكل علي عبدي لو كادته السماوات والأرض جعلت له من بين ذلك المخرج إن الله بالغ أمره بإضافة الوصل إلى مفعولهوالأصل بالغ أمره بالنصب كما قرأ به الأكثرون أي ببلغ ما يريده عز و جل ولا يفوته مراد
وقرأ ابن أبي عبلة في رواية وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو بالغ بالرفع منونا أمره بالفع على أنه فاعل بالغ الخبر لأن أو مبتدأ و بالغ خبر مقدم له والجملة خبر إن أي نافذ أمره عز و جل وقرأ المفضل في رواية أيضا بالغا بالنصب أمره بالفع وخرج ذلك على أن بالغا حال من فاعل جعل في قوله تعالى : قد جعل الله لكل شيء قدرا
3
- لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه وجملة قد جعل الخ إن وجوز أن يكون بالغا هو الخبر على لغة منينصب الجزأين بإن كما في قوله : إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتسكن خطاك خفافا إن حراسنا أسدا وتعقب بأنها لغة ضعيفة ومعنى قدرا تقديرا والمراد تقديره قبل وجوده أو مقدارا من الزمان وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر ليه عز و جل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر وفيه على ما قيل : تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها
وقرأ جناح بن حبيش قدرا بفتح الدال والتي يئسن من المحيض أي الحيض وقريء ييأسن مضارعا من نسائكم لكبرهن وقد قدر بعضهم سن اليأس بستين سنة وبعضهم بخمس وخمسين وقيل : هو غالب سن يأس عشيرة المرأة وقيل غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه فإن المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحاري يبطيء فيه سن اليأس وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم وهذا القول بالغ درجة اليأس من أن يقبل إن ارتبتم أي شككتم وترددتم في عدتهن أو إن جهلتم عدتهن فعدتهن ثلاثة أشهر أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه وجماعة عن أبي بن كعب (28/136)
أي ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل الله تعالى في سورةالنساء القصرى واللائي يئسن الآية وفي رواية أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قالوا : يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر فنزل واللائي يئسن الخ فقال قائل : فما عدة الحامل فنزل وأولات الأحمال الخ
ويعلم مما ذكر أن الشرط هنا لا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم لأنه بيان للواقعة التي نزل فيها من غير قصد للتقييد وتقدير متعلق الأرتياب ما سمعت هو ما أشار إليه الطبري وغيره وقيل : إن ارتبتم في دم البالغاتمبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن الخ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضهن وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة وقيل : إن ارتبتم أي إن تيقنتم إياسهن والإرتياب من الأضداد والكل كما ترى
والموصول قالوا : إنه مبتدأ خبره جملة فعدتهن الخ وإن ارتبتم شرط جوابه محذوف تقديرهفاعلموا أنها ثلاثة أشهر والشرط وجوابه جملة معترضة وجوز كون فعدتهن الخ جواب الشرط باعتبار الإعلام والإخبار كما في قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله والجملة الشرطية خبر من غير حذفوتقدير وقوله تعالى : والآئي لم يحضن مبتدأ خبره محذوف أي واللائي لم يحضن كذلك أو عدتهن ثلاثة أشهر والجملة معطوفة على ما قبلها وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق وجعل الخبر لهما من غير تقدير والمراد باللائي لم يحضن الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض
واستظهر أبو حيان شموله من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لهن حيض البتة كبعض النساء يعشن إلى أنيمتن ولا يحضن ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض ثم قال : وقيل : هذه تعتد سنة
وأولت الأحمال أجلهن أي منتهى عدتهن أن يضعن حملهن ولو نحو مضغة وعلقة ولا فرق في ذلكبين أن يكن مطلقات أو متوفي عنهن أزواجهن كما روي عن عمر وابنه فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حاملفقال : إذا وضعت حملها فقد حلت فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال : لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت وعن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال : من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى وأولات الأحمال الخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا وكل مطلقة أو متوفي زوجها فأجلها أن تضع حملها وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري بسبع سنين ولعله لا يصح وعن أبي هريرة وأبي مسعود البدري وعائشة وإليه ذهب فقهاء الأمصار وروي ذلك عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرج عبد بن حميد في زوائد المسند وأبو يعلى والضياءفي المختارة وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : قلت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أهي المطلقة ثلاثا والمتوفي عنها قال : هي المطلقة ثلاثا والمتوفي عنها وروي جماعة نحوه (28/137)
عنه من وجه آخر وصح أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما وفي رواية بخمس وعشرين ليلة وفي أخرى بأربعين ليلة فاختضبت وتكحلت وتزينت تريد النكاح فأنكر ذلك عليها فسئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن تفعل فقد خلا أجلها وذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أن الآية في المطلقات وأما المتوفي عنها زوجها فعدتها آخر الأجلين وهو مذهب الإمامية كما في مجمع البيان
وعلى ما تقدم فالآية ناسخة لقوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن الآية على رأي أصحاب أبي حنيفة ومن وافقهم من الشافعية لأن العام المطلق المتأخر ناسخ عندهم فأولى أن يكون العام من وجه كذلك وأما من لم يذهب إليه فمن لم يجوز تأخير بيان العام قال : بالنسخ أيضا لأن العام الأول حينئذ مراد تناوله لأفراده وفي مثله لا خلاف في أن الخاص المتراخي ناسخ بقدره لا مخصص ومن جوز ذهب إلى التخصيص بناءا على أن التي في القصرى أخص مطلقا ووجه أنه ذكر في البقرة حكم المطلقات من النساء وحكم المتوفي عنهن الأزواج على التفريق ثم وردت هذه مخصصة في البابين لشمول لفظ الأجل العدتين وخصوص أولات الأحمال مطلقا بالنسبة إلى الأزواج وهذا كما يقول القائل : هندية الموالي لهم كذا وتركيتهملهم كذا لجنس آخر ثم يقول : والكهول منهم لهم دون ذلك أو فوقه أو كذا مريدا صنفا آخر يكون الأخير مخصصا للحكمين ولا نظر إلى اختلاف العطايا لشمول اللفظ الدال على الأختصاص وخصوص الكهول من الموالي مطلقا كذلك فيما نحن فيه لا نظر إلى اختلاف العدتين لشمول لفظ الأجل وخصوص أولات الأحمال بالنسبة إلى الأزواج مطلقا وإن شئت فقل : بالنسبة إلى المطلقات والمتوفي عنهن رجالهن مطلقا فلا فرق قاله في الكشف ثم قال : ومن ذهب إلى أبعد الأجلين احتج بأن النصين متعاضدان لأن بينهما عموما وخصوصا من وجه ولا وجه لإلغاء فيلزم الجمع وفي القول بذلك يحصل الجمع لأن مدة الحمل إذا زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت فيحصل العمل بمقتضى الآيتين والجواب أنه إلغاء للنصين لا جمع إذ المعتبر الجمع بين النصين لا بين المدتين وذلك لفوات الحصر والتوقيت الذي هو مقتضى الآيتين أه فتدبر
وقرأ الضحاك أحمالهن جمعا ومن يتق الله في شأن أحكامه تعالى ومراعاة حقوقها : يجعل له من أمره يسرا
4
- بأن يسهل عز و جل أمره عليه وقيل : اليسر الثواب ومن قيل : للبيان قدم على المبين للفاصلة وقيل : بمعنى في وقيل : تعليلية ذلك إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد للإيذان يبعد المنزلة في الفضل وإفراد الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى : أمر الله أنزله إليكم لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين ومن يتق الله بالمحافظة على أحكامه عز و جل يكفر عنه سيئاته فإن الحسنات يذهبن السيآت ويعظم له أجرا
5
- بالمضاعفة وقرأ الأعمش نعظم بالنون التفاتا من الغيبة إلى التكلم وقرأ ابن مقسم يعظم بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا وقوله تعالى : أسكنوهن من حيث سكنتم استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ (28/138)
مما قبه من الحث على التقوى كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل : أسكنوهن الخ و من للتبعيض أي أسكنوهن بعض مكان سكناكم ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد في بعض نواحيه كما روي عن قتادة وقال الحوفي وأبو البقاء : هي لابتداء الغاية وقوله تعالى : من وجدكم أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله تعالى : من حيث سكنتم على ما قاله الزمخشري ورده أبو حيان بأنه لا يعرف عطف بيان يعدا فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا وتعقب بأن المراد أن الجار والمجرور عطف بيان للجار والمجرور فقط حتى يقال ذلك مع أنه لا يبرد له بسلامة الأمير وأنه لا فرق بين عطف البيان والبدل إلا في أمر يسير ولا يخفى قوة كلام أبي حيان وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة من وجدكم بفتح الواو وقرأ الفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرها وذكرها المهدوي عن الأعرج والمعنى في الكل الوسع ولا تضآروهن ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى لتضيقوا عليهن فتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه نحو ذلك وإن كان أي المطلقات أولت حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فيخرجن عن العدة وأما المتوفي عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن عند أكثر العلماء وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود تجب نفقتهن في التركة ولا خلاف في وجوب سكنى المطلقات أولات الحمل ونفقتهن بت الطلاق أو لم يبت
واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الأتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور والإمامية : لا سكنى لها ولا نفقة لحديث فاطمة بنت قيس قالت : طلقني زوجي أو عمرو بن حفص ابن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد وقال أبو حنيفة والثوري : لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل ودليله أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في المبتوتة : لها النفقة والسكنى مع أن ذلك جزاء الأحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل ولو كان جزاءا للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم ومن خص الإنفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على المنافقين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط ههنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطيرق الأولى كما في الكشاف فهو من مفهوم الموافقة وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر وعائشة وسليمان ابن يسار والأسود بن يزيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم فإن أرضعن لكم أي بعد أن يضعن حملهن فآتوهن أجورهن على الإرضاع وأتمروا بينكم بمعروف خطاب للآباء والأمهات والأفتعال بمعنى التفاعل يقال : ائتمر القوم وتآمروا بمعنى قال الكسائي : والمعنى تشاوروا وحقيقته (28/139)
ليأمر بعضكم بعضا بمعروف أي جميل في الجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة وقيل : المعروف الكسوة والدثار وإن تعاسرتم أي تضايقتم أي ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحنة وفي الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك فسترضع له أخرى
6
- أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى وفيه على ما قيل : معاتبة للأم لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه : سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم
وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متعول ولا مضمون به في العرف وخصوصا من الأم على الولد ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب والكلام على معنى فيطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الأرتباط بين الشرط والجزاء وقال بعض الأجلة : إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضا حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى وهي أيضا تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى وبذلك يظهر كمال الأرتباط والأول أظهر فتدبر وقيل : فسترضع خبر بمعنى الأمر أي فلترضع وليس بذاك وهذا الحكم غذا قبل الرضيع ثذي أخرى أما إذالم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا : تجبر على الإرضاع بأجر مثلها لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر أي ضيق عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله وإن قل والمراد لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه والظاهر أن المأمور بالإنفاق الآباء ومن هنا قال ابن العربي : هذه الآية أصل في وجوب النفقة على الأب وخالف في ذلك محمكد بن المواز فقال : بوجوبها على الأبوين على قدر الميراث وحكى أبو معاذ أنه قريء لينفق بلام كي ونصب القاف على أن التقدير شرعنا ذلك لينفق
وقرأ ابن أبي عبلة قدر مشدد الدال لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها أي إلا بقدر ما أعطاها منالطاقة وقيل : ما أعطاها من الأرزاف قل أو جل وفيه تتطييب واستمالة لقلب المعسر لمكان عبارة آتاها الحاصلة بالأعسار قبل وذكر العسر بعد واستدل بالآية من قال لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة وهو ما ذهب إليه عبد العزيز وأبو حنيفة وجماعة وعن أبي هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق يفسخ النكاح بالعجز عن الإنفاق ويفرق بين الزوجين وفيها على ما قال السيوطي : استحباب مراعاة الإنسان حال نفسه في النفقة والصدقة ففي الحديث إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدبا حسنا إذا هو سبحانه وسع عليه وسع وإذا هو عز و جل قتر عليه قتر وقوله تعالى : سيجعل الله بعد عسر يسرا
7
- موعد لفقراء ذلك الوقف بفتح أبواب الرزق عليهم أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا وهو على الوجهين تذييل إلا أنه على الأول نستقل وعلى الثاني غير مستقل وكأين من قرية أي كثير من أهل قرية
وقرأ ابن كثير وكائن بالمد والهمزة وتفصيل الكلام فيما قد مر عتت تجبرت وتكبرتمعرضة عن أمر ربها ورسله فلم تمتثل ذلك فحاسبناها حسابا شديدا بلأستقصاء والتنقير والمناقشة (28/140)
في كل نقير من الذنوب وقطمير وعذبناها عذابا نكرا
8
- أي منكرا عظيما والمراد حساب الآخرة وعذابها والتعبير عنهما بلفظ الماضي للدلالة على تحققهما كما في قوله تعالى : ونفخ في الصور
وقرأ غير واحد نكرا بضمتين فذاقت وبال أمرها عقوبة عتوها وكان عاقبة أمرها خسرا
9
- هائلا لا خسر وراءه أعد الله لهم عذابا شديدا تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى : فاتقوا الله يآ أولي الألباب كأنه قيل : أعد الله تعالى لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب داعيا لتقوى الله تعالى وحذر عقابه وقال الكلبي : الكلام على التقدير والتأخير والمراد فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة
والظاهر أن قوله تعالى : أعد الخ عليه تكرير للوعيد أيضا وجوز أن يراد بالحساب الشديد استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحائف الحفظة وبالعذاب النكر ما أصابهم عاجلا وتجعل جملة عتت الخ صفة لقرية والماضي في فحاسبناها وعذبناها على الحقيقة وخبر كأين جملة أعد الله الخ أو تجعل جملة عتت الخ هي الخبر وجملة أعد الله الخ استئناف لبيان أن عذابهم غير منحصر فيما ذكر بل لهم بعده عذاب شديد وقوله تعالى : الذين آمنوا منصوب بإضمار أعني بيانا للمنادى السابق أو نعت له أو عطف بيان وفي إبداله منه ضعف لعدم صحة حلوله محله قد أنزل الله إليكم ذكرا
10
- هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عبر به عنه لمواظبه عليه الصلاة و السلام على تلاوة القرآن الذي هو ذكر أو تبليغه والذكير به وقوله تعالى : رسولا بدلا منه وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا للمجاز أو لأن الإرسال مسبب عنه فيكون أنزل مجازا مرسلا وقال أبو حيان : الظاهر أن الذكر هو القرآن والرسول هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإما أن يجعل نفس الذكر مجازا أو يكون بدلا على حذف مضاف أي ذكر رسول وقيل : هو نعت على حذف ذلك أي ذا رسول وقيل : المضاف محذوف من الأول أي ذا ذكر رسولا فيكون رسولا نعتا لذلك المحذوف أو بدلا وقيل : رسولا منصوب بمقدر مثل أرسل رسولا دل عليه أنزل ونحا إلى هذا السدي واختاره ابن عطية وقال الزجاج وأبو علي : يجوز أن يكون معمولا للمصدر الذي هو ذكر كما في قوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما وقول الشاعر : بضرب بالسيوف رءوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل أي أنزل الله تعالى ذكره رسولا على معنى أنزل الله عز و جل ما يدل على كرامته عنده وزلفاه ويراد به على ما قيل : القرآن وفيه تعسف ومثله جعل رسولا بدلا منه على أنه بمعنى الرسالة وقال الكلبي : الرسول ههنا جبريل عليه السلام وجعل بدلا أيضا من ذكرا وإطلاق الذكر عليه لكثرة ذكره فهو منالوصف بالمصدر مبالغة كرجل عدل أو لنزوله بالذكر وهو القرآن فبينهما ملابسة نحو الحلول أو لأنهعليه السلام مذكور في السماوات وفي الأمم فالمصدر بمعنى المفعول كما في درهم ضرب الأمير وقد يفسر الذكر حينئذ بالشرف كما في قوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك فيكون كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله عز و جل كقوله تعالى : عند ذي العرش مكين (28/141)
وفي الكشف إذا أريد بالذكر القرآن وبالرسل جبريل عليه السلام يكون بدل اشتمال وإذا أريد بالذكر الشرف وغيره يكون من بدل الكل فتدبر
وقريء رسول على إضمار هو وقوله تعالى : يتلوا عليكم آيات الله مبينات نعت لرسولا وهو الظاهر وقيل : حال من اسم الله تعالى ونسبة التلاوة إليه سبحانه مجازيه كبنى الأمير المدينة و آيا الله القرآن وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر على أحد الأوجه و مبينات حال منها أي حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام وقريء مبينات أي بينها الله تعالى كقوله سبحانه : قد بينا لكم الآيات واللام في قوله تعالى : ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور متعلق بأنزل أو بيتلو وفاعل يخرج على الثاني ضمير الرسول عليه الصلاة و السلام أو ضميره عز و جل والمراد بالموصول المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية : أو من علم سبحانه وقدر أنه سيؤمن أي ليحصل لهم الرسول أو الله عز و جل ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أوليخرج من علم وقدر أنه يؤمن من أنواع الضلالات إلى الهدى فالمضي إما بالنظر لنزول هذه الآية أو باعبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأزلي
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا حسبما بين في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات
يدخلهجناتت تجري من تحتها الأنهار وقرأنافع وابن عامر ندخله بنون العظمة وقوله تعالى : خالدون فيها أبدا حال من مفعول يدخله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وقوله تعالى : قد أحسن الله له رزقا
11
- حال أخرى منه أو من الضمير في خالدين بطريق التداخل وإفراد ضمير له باعتبار اللفظ أيضا وفيه معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله تعالى المؤمنين من الثواب وإلا لم يكن في الأخبار بما ذكر ههنا كثير فائدة كما لا يخفى
واستدلأكثر النحويون بهذهالآية على جواز مراعاة اللفظ أولا ثم مراعاة المعنى ثم مراعات اللفظ وزعم بعضهم أن ما فيها ليس كما ذكر لأن الضمير في خالدين ليس عائدا على من كالضمائر قبل وإنما هو عائد على مفعول يدخل و خالدين حال منه والعامل فيها يدخل لا فعل الشرط وهو كما ترى الله خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر ومن الأرض مثلهن أي وخلق من الأرض مثلهن على أن مثلهن مفعول لفعل محذوف والجملة عطف على الجملة قبلها وقيل : مثلهن عطف على سبع سماوات وإليه ذهب الزمخشري وفيه الفصل بالجار والمجرور بن حرف العطف والمعطوف وهو مختص بالضرورة عند أبي الفارسي وقرأ المفضل عن عاصم وعصمة عن أبي بكر مثلهن بالرفع على الإبتداء ومن الأرض الخبر
والمثلية تصدق بالأشتراك في بعض الأوصاف فقال الجمهور : هي ههنا في كونها سبعا وكونها طباقابعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله عز و جل لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى وعن ابن عباس أنهم إما ملائكة أو جن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان وفي الأسماء والصفات من طريق أبي الضحى (28/142)
عنه أنه قال في الآية : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى قال الذهبي : إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرةلا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا وذكر أبو حيان في البحر ونحوه عن الحبر وقال : هذا حديث لا شك في وضعه وهو من رواية الواقدي الكذاب
وأقول لا مانع عقلا ولا شرعا من صحته والمراد أن في كل أرض خلقا يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدمعليه السلام وفيه أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم وغيرهما فينا
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا أن بين كل أرض والتي تليها خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية مسجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريتها والخامسة فيها حياتها والسادسة فيها عقاربها والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أماه ويد خلفه يطلقه الله تعالى لمن يشاء وهو حديث منكر كما قال الذهبي لا يعول عليه أصلا فلا تغر بتصحيح الحاكم ومثله في ذلك أخبار كثيرة في هذا الباب لو لا خوف الملل لذكرناها لك لكن كون ما بين كل أرضين خمسمائة سنة كما بين سماءين جاء في أخبار معتبرة كما روي الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال : بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جالس وأصحابه قال : هل تدرون ما فوقكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف قال : هل تدرون ما بينكموما بينها قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها خمسمائة عام ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : سماء وإن بعد ما بينهما خمسمائة سنة ثم قال كذلكحتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : وإنفوق ذلك العرش بينه وبين السماء ما بين السماءين ثم قال : هل تدرون ما تحتكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إنها الأرض ثم قال : هل تدرون ما تحت ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : إن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد صلى الله تعالى عليه وسلم سبع أرضين ما بين كل أرضين خمسمائة سنة
والأخبار في تقدير المسافة بما ذكر بين كل سماءين أكثر من الأخبار في تقديرها بين كل أرضين وأصح ومنها ما هو مذكور في صحيح البخاري وغيره من الصحاح وفيها أيضا أن ثخن كل سماء خمسمائة عام فقول الرازي في ذلك إنه غير معتبر عند أهل التحقيق كلام لا يخفى بشناعته على من سلك من السنة أقومطريق نعم ما حكاه من أن السماء الأولى موج مكفوف والثانية صخر والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوت ليس بمعتبر أصلا ولم يرد تضمنه من التفصيل خبر صحيح لكن في قوله : إنه مما يأباه العقل إن أراد به نفي الإمكان عقلا منع ظاهر وقال الضحاك : هي في كونها سبعا بعضها فوق بعض لا في كونها كذلك مع وجود مسافة بين أرض وأرض واختاره بعضهم زاعماأنالمراد بهاتيك السبع طبقة التراب الصرفة المجاورة للمركز والطبقة الطينية والطبقة المعدنية التي يتكون فيها المعادن والطبقة الممتزجة بغيرها المنكشفة التي هي مسكن الأنسان ونحوه من الحيوان وفيها ينبت النبات وطبقة الأدخنة والطبقة الزمهريرية وطبقة النسيم الرقيق جدا ولا يخفى أنه أشبه شيء بالهذيان ومثله ما يزعمه بعض الناظرين في كتب العلوم المسماة بالحكمة الجديدة من أن الأرض انفصلت بسبب بعض الحوادث (28/143)
من بعض الأجرام العلوية صغيرة ثم تكونت فوقها طبقة وهكذا حتى صار المجموع سبعا وزعم أنهم شاهدوا بين كل طبقة وطبقة آثارا من مخلوقات مختلفة وقال أبو صالح : هي في كونها سبعا لا غير فهي سبع أرضين منبسطة بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار ويظل جميعها السماء وروي ذلك عن ابن عباس فالنسبة بين أرض وأرض على هذا نحو نسبة أمريقيا إلى آسيا أو أوربا أو أفريقيا لكن قيل : إن تلك البحار الفارقة لا يمكن قطعها
وقيل : من الأقاليم السبعة وهي مختلفة الحرارة والبرودة والليل والنهار إلى أمور أخر واختاره بعضهم ولا أظنه شيئا لأن المتبادر اعتبار انفصال أرض عن أرض انفصالا حقيقيا في المثلثية وقيل : المثلثية في الخلق لا في العدد ولا في غيره في أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع وأيد بأن الأرض لم تذكر في القرآن إلا موحدة ورد بأنه قد صح مكن رواية البخاري وغيره اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن الحديث وكذا صح من غصب قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين وأصح الأقوال كما قال القرطبي قول الجمهور السابق وعليه اختلف في مشاهدة ما عدا هذه الأرض السماء واستمدادهم الضوء منها فقيل : إنهم يشاهدونالسماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها
وقيل : إنهم لا يشاهدون السماء وأن الله عز و جل خلق لهم ضياءا يشاهدونه وروي الإمامي عن بعض الأئمة نحوا مما قاله الجمهور أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الرضا رضي الله تعالى عنه قال : بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال : هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقهاقبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال : والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقهاقبة وعرش الرحمن فوق السماء السابعة وهو قوله عالى : سبع سماوات ومن الأرض مثلهن الخ
وأنا أقول بنحو ما قاله الجمهور راجيا العصمة ممن على محور إرادته تدور أفلاك الأمور : هي سبع أرضين بين كل أرض وأرض منها مسافة عظيمة وفي كل أرض خلق لا يعلم حقيقتهم إلا الله عز و جل ولهم ضياء يستضيئون به ويجوز أن يكون عندهمليل ونهار ولا يتعين أن يكون ضيهؤهم من هذه الشمس ولا من هذا القمر وقد غلب على ظن أكثر أهل الحكمة الجديدة أن القمر عالم كعالم أرضنا هذه وفيه جبال وبحار يزعمون أنهم يحسون بها بواسطة أرصادهم وهم مهتمون بالسعي في تحقيق الأمر فليكن ما نقول به من الأرضين على هذا النحو وقد قالوا : أيضا إن هذه الشمس في عالم هي مركز دائرته وبلقيس مملكته بمعنى أن جميع ما فيه من كواكبهم السيارة تدور عليها فيه على وجه مخصوص ونمط مضبوط وقد تقرب إليها فيه وتبعد عنها إلى غاية لا يعلمها إلا الله تعالى كواكب ذوات الأذناب وهي عندهم كثيرة جداتتحرك على شكل بيضي وأن الشمس بعالمها من توابع كوكب تتدور عليه دوران توابعها من السيارات عليها هو فيما نسمع أحد كواكب النجم ولهم ظن في أن ذلك أيضا من توابع كوكب آخر وهكذا وملك الله تعالى العظيم عظيم لا تكاد تحيط به منطقة الفكر ويضيق عنه نطاق الحصر وسماء كل عالم كالقمر عندهم ما انتهى إليه هوؤه حتى صار ذلك الجرم في نحو خلاء فيه لا يعارضه ولا يضعف حركته شيء والجسم متى تحرك في خلاء لا يسكن لعدم المعارض فليكن كل أرض من هذه الأرضين محمولة بيد القدرة بين كل سماءين على نحو ما سمعتت عن الرضا على آبائه وعليه السلام (28/144)
وهناك ما يستضيء به أهلها سابحا في فلك بحر قدرة الله عز و جل ونسبة كل أرض إلى سمائها نسبة الحلقة إلى الفلاة وكذا نسبة السماء إلى السماء التي فوقها ويمكن أن تكون الأرضون وكذا السماوات أكثر من سبع والأقتصار على العدد المذكور الذي هو عدد تام لا يستدعي نفي الزائد صرحوا بأن العدد لا مفهوم له والسماء الدنيا منتهى دائرة يتحرك فيها أعلى كوكب من السيارات وبينها وبين هذه الأرض بعد بعيد
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : خمسمائة عام من باب التقريب للأفهام ويقرب الأمر إذا اعتبر ذلك بالنسبة إلى الراكب المجد كما وقع في كثير من أخبار فيها تقدير مسافة وقوله عليه الصلاة و السلام في السماء الدنيا : موج مكفوف يمكن أن يكون من التشبيه البليغ في اللطافة ونحوها أو هو على حقيقته والتنوين فيه للنوعية حتى يقوم الدليل العقلي الصحيح على امتناعها وتزيين هذه السماء بالكواكب لظهورها فيها على ما يشاهد فلا يضر في ذلك كونها كلا أو بعضا فوقها أو تحتها ولم يقم دليل على أن شيئامن الكواكبمغروز في شيء من السماوات كالفص في الخاتم والمسمار في اللوح بل في بعض الأخبار ما يدل على خلافه نعم أكثر الأخبار في أمر السماوات والأرض والكواكب لا يعول عليها كما أشار إليه النسفي في بحرالكلام وكذاما قاله قدماءأهل الهيئة ومحدثوهم وفي كل مما ذهب الفريقان إليه ما يوافق أصولنا وما يخالفهوما شريعتنا ساكتة عنه لم تتعرض له بنفي أو إثبات وحيث كان من أصولناأنه متى عارض الدليل العقليالدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي للديل العقلي لأنه أصلهولو أبطل به لزم بطلانه نفسه فالأمرسهل لأن باب التأويل أوسع منفلك الثوابت ولا أرىبأسا في ارتكاب تأويل بعض الظواهر المستبعدةبما لا يستبعد وإن لم يصل الأستبعاد إلى حد الأمتناع إذا تضمن ذلك مصلحة دينية ولم يستلزم مصادمة معلوم من الدين بالضرورة وقد يلتزم الإبقاء على الظاهر وتفويض الأمر إلى قدرة الله تعالى التي لا يتعاصاها شيء رعاية لأذهان العوام المقيدين بالظواهر يعدون الخروج عنها لا سيما إلى ما يوافق الحكمة الجديدة ضلالا محضا وكفرا صرفا ورحم الله عالى امرءاجب الغيبة عن نفسه
وقد أخرجعبد بن حميد وابن الضريس وابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها وبالجملة منصدق بسعة ملك الله تعالى وعظيم قدرتهD لا ينبغي أن يتوقف عن وجود سبع أرضين على الوجه الذي قدمناه ويحمل السبع على الأقاليم أوعلى الطبقات المعدنيةوالطينية ونحوهما مما تقدم وليس في ذلك ما يصادم ضروريا من الدين أو يخالف قطعيا من أدلة المسلمين ولعل القول بذلك التعدد هو المتبادر من الآية وتقتضيه الأخبار ومع هذا هوليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أو المتردد فيه لكن لا أرى ذلك إلا عن جهل بما هو الأليق بالقدرة والأحرى بالعظمة والله عالى الموفق للصواب
يتنزل الأمر بينهن أي يجري أمر الله تعالى وقضاؤه وقدره عز و جل بينهن وينفذ ملكه فيهنوأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال : في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه تعالى وأمر من أمره وقضاء من قضائه عز و جل وقيل : يتنزل المر بينهن بحياة وموت وغنى وفقر وقيل : هو ما يدبره سبحانه فيهنمن عجيب تدبيره جل شأنه وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي و بينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة والأكثرون على أنه القضاء والقدر كما سبق وأن بينهن إشارة (28/145)
إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها وقرأ عيسى وأبو عمرو وفي رواية ينزل مضارع نزل مشددا الأمر بالنصب أي ينزل الله الأمر لتعلموا أن الله عل كل شيء قدير متعلق بخلق أو بيتنزل أو بمضمر يعمهما أي فعل ذلك لتعلموا أن من قدر عل ما ذكر قادر عل كل شيء وقيل : التقدير أخبرتكم أو أعلمتكم بذلك لتعلموا وقريء ليعلموا بياء الغيبة
وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
12
- لاستحالة صدور هذه الأفاعيل ممن ليس كذلك
سورة التحريم
ويقال لها : سورة المتحرم وسورة لمتتحرم وسورة النبي صلى الله عليه و سلم وعن ابن الزبير سورة النساء والمشهور أنها مدنية وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر والباقي مكي وآيها اثنتا عشرة آية بالأتفاق وهي متواخية مع التي قبلها في الأفتتاح بخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتلك مشتملة على طلاق النساء وهذه على تحريم الإماء وبينهما من الملابسة ما لا يخفى ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة
بسم الله الرحمن الرحيم يآ أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك روى البخاري وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يمكثعند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت له فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود وفي رواية وقد حلفت فلا تخبرني بذلك أحدا فنزلت يا أيها النبي لم تحرم الخ وفي رواية قالت سودة : أكلت مغافير قال : لا قالت : فما هذه الريح التي أجد منك قال : سقتني حفصة شربة عسل فقالت : حرست نحلة العرفط فحرم العسل فنزلت وفي حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة والقائلة سودةوصفية
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال الحافظ السيوطي : بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت : إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت : إني أجد منك ريحا فقال : أراه من شرابشربته عند سودة والله لا أشربه فنزلت وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم الخ ويوافقه ما أخرجه البزاز والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال : نزلت يا أيها النبي لم تحرم الآية في سريته
والمشهور أنها مارية وأنه عليه الصلاة و السلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال (28/146)
صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها قالت : بلى فحرمها وفي رواية أن ذلك كانفي بيت حفصة في يوم عائشة وفي الكشاف روي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لهل : اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين
وبالجملة الأخبار متعارضة وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي : قال النووي في شرح مسلم : الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلا عنه أيضا : الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم
والمغافير : بقتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء على ما صوبه القاضي عياض جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ والمغفور شوك له نور يأكل منه النحل يظهر العرفط عليه وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحب الطيب جدا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأنالملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى وفي ندائه صلى الله تعالى عليه وسلم بيا أيها النبي في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى ونظير ذلك قوله عالى : عفا اللهعنك لم أذنت لهم والمراد بالتحريم الأمتناع وبما أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى أو وطء سريته على ما في بعض الروايات ووجه التعبير بما على هذين التفسيرين ظاهر
وفسر بعضهم ما بمارية والتعبير عنها بما على ما هو الشائع في التتعبير بها عن ملك اليمين والنكتة فيه لا تخفى وقوله عالى : تبتغي مرضات أزواجك حال من فاعل تحرم واختاره أبو حيانفيكون هو محل العتاب على مكا قيل وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتا أو نفيا أو يكون التقييد على نحو أضعافا مضاعفة على أن التتحريم في نفسه محل عتب والباعثعليه كذلك كما فيالكشف أو استئناف نحوي أو بياني وهو الأولى ووجه أن الأستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر نمنه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى : إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فقيل : تبتغي مرضات أزواجك ومثلك منأجل أن تطلب مرضاتهن بمثل ذلك وجوز أن يكون تتفسيرا لتحرم بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريممبالغة في كونه سببا له وفيه من تفخيم الأمر ما فيه والإضافة في أزواجك للجنس لا للأستغراق
والله غفور رحيم
1
- فيه تعظيم شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن يكن في نفسه كذلك وأن عتابه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الأعتناء به وقد زل الزمخشري ههنا كعادته فزعم أن ما وقع من حريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليهالصلاة والسلام وقد شن ابن المنير في الأتصاف الغارة في الشنيع عليه فقال ما حاصله : إن ما أطلقه في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة و السلام منه براء وذلك أن تحريم الحلال (28/147)
على وجهين : الأول ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلا والثاني الأمناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض ولو كان ترك المباح والأمتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال وما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة و السلام أن يراعي مرضات أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله عالى به وتأول بعضهم كلام الزمخشري وفيه ما ينبو عن ذلك
وقيل : نسبة التحريم إليه صلى الله تعالى عليه وسلم مجاز والمراد لم تكون سببا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه هذا لا يحتاج إليه وفي وقوع الحلف خلاف ومن قال به احتج ببعض الأخبار وبظاهر قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم وليس مصدر مقيسا والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل وأصله تحللة فأدغم وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك ويحل أيضا بصديق اليمين كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يمو لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم يعني وإن منكم إلا واردها الخ وتحليله بأقل ما يقع عليه الأسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الأجتياز اليسير وكذا يحل بالأستثناء أي بقول الحالف : إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل بمعنى الأستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الأطلاق بالأستثناء حتى لا تنعقد ومنه حلا أبيت اللعن وعلى القولبأنه كان منه عليه الصلاة و السلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطي صلى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا فعن الحسن أنه عليه الصلاة و السلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدممن ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة و السلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب وعن مقاتل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة و السلام أعطي الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها ومثله عن الشعبي واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته : أنت علي حرام أو الحلال على حرام ولم يستثن زوجته فقيل : قال جماعة منهم مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ : هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها وابن عباس أيضا في رواية والشافعي في قول في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يميمنا في كل شيء ويعتبر الأنتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم (28/148)
تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين وإن نوى ثلاثا فكما نوى وإن قال : نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في حكم قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف وقال جماعة : إن لم يرد شيئا فهو يمين وفي الحرير قال أبو حنيفة وأصحابه : إن النوي الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث أو لم ينو شيئا فمول أو الظهار فظهار وقال ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا وقال يحيى بن عمر : : يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان : لا شيء عليه وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة وقال ابن جبير : عليه عتق رقبة وإنلم يكن ظهارا وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ففيه كفارته وعن الشافعي إننوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق أو لم ينو فكفارة يمين وقال مالك : يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث في غير المدخول بهاوقال ابن أبي ليلى وعبد الملك ابن الماجشون : تقع ثلاث في الوجهين وروي ابن خويز منداد عن مالك وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان : تقع واحدة بائنة فيهما وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : واحدة رجعية وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم : يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن وأما الطلاق فرجعي عنده وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث وعن زيد واحدة بائنة وعن عثمان ظهار وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أنه قال : من حرم امرأته فليس بشيء
وقرأ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وللنسائي أنه أتاه رجل فقال : جعلت امرأتي علي حراما قال : كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك عليك اغلظ الكفارةعتق رقبة إلىغير ذلك من الأقوال وهي في هذه المسألة كثيرة جدا وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا أو تحريمالمرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا
وأجيببأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية : والله لا أطؤها أو في العسل والله لا أشربه وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده والله تعالى أعلم
والله مولاكم سيدكم ومتولي أموركم وهو العليم فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الحكيم
2
- المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة وإذا أسر (28/149)
أي واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة نعم رواه ابن مودويه عن ابن عباس وهو شاذ حديثا هو قوله عليه الصلاة و السلام على ما في بعض الروايات : لكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا فلما نبأت أي أخبرت
وقرأ طلحة أنبأت به أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أنه عليه الصلاة و السلام كما في البخاري وغيره كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة كما يشعر به لفظ كان فاستخفها السرور فنبأتبذلك وأظهره الله عليه أي جعل الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرا على الحديث مطلعا عليه من قوله تعالى : ليظهره عل الدين كله والكلام على ما قيل : على التجوز أو تقدير مضافأي على إفشائه وجوز كون الضمير لمصدر نبأت وفيه تفكيك الضمائر أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت على إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل عرف أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة بعضه أي الحديثأي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته
والمراد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها : قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل : هو قوله لها : كنت شربت عسلا عند زينت ابنة جحش فلن أعود وأعرض عن بعض هو على ما قيل قوله عليه الصلاة و السلام : وقد حلفت فلم يخبرها به تكرما لما فيه من مزيد خجلتها حيث أنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله تعالى عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك وهذا من كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام وقال الشاعر : ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي وجوز أن يكون عرف بمعنى جازى أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة و السلام إياها وتجاوز عن بعض وأيد بقراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبي عمرو في رواية هارون عنه عرف بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى : أظهره الله عليه مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة
قال الأزهري في التهذيب : من قرأ عرف بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك : والله لأعرفن لك ذلك واستحسنه الفراء وقول القاموس : هو بمعنى الإقرار لا وجه له ههنا وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم وأيد المعنى الأول بقوله عالى : فلما نبأها به قالت لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير
3
- الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام وهذا على ما في البحر (28/150)
على معنى بهذا وقرأ ابن المسيب وعكرمة عراف بعضه بألف بعد الراء وهي إشباع وقال ابن خالويه ويقال : إنها لغة يمانية
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأنأبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو وقيل : بالعكس وقد جاء أسرار أمر الخلافة في عدة أخبار فقد أخرج ابن عديوأبو نعيم في فضائل الصديق وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا : إن أمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا قال لحفصة : أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال : في الآية أسر صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حفصةأن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال : لما حرم عليه الصلاة و السلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد ذالله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبها في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح والجمع بين الأخبار مما لا يكاد يتأتى
وقصارى ما يمكن أن يقال : يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرح العسل واتفق له عليه الصلاة و السلام قبيل ذلك أو بعيده أو وطيء جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما والبعض الآخر على نقل الأخرى وقال كل : فأنزل الله تعالى يا أيها النبي الخ وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الأختلاف وإلا فاطلب لك غيره والله تعالى أعلم
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق وأنه يلزمه كتمه وفيها على ما قيل : دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب وقد روي أن عبد الله بن رواحة وكان من النقباء كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة فقال قولا بالتعريض فقالت : إن كنت لم تقر بها فاقرأ القرآن فأنشد : شهدت فلم أكذب بأن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل في دينه متقبل وأن التي بالجزع من بطن نخلة ومن دانها كل عن الخير معزل (28/151)
فقالت : زدني فأنشد : وفينا رسول الله يتلو كتابه كما لاح معروف من الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا به موقنات إن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا رقدت بالكافرين المضاجع فقالت : زدني فأنشد : شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن محمدا يدعو بحق وأن الله مولى المؤمنيا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا ويحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا فقالت : أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك وفي رواية أنها قالت وقد كانت رأته على ما تكره إذن صدق الله وكذب بصري فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم وقال : خيركم خيركم لنسائه إن تتوبا إلى الله خطاب لحفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الألتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولا بعيدا عن ساحة الحضور ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد وكونالخطاب لهما لما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والتترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس قال : لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتين قال الله عالى : إن تتوبا الخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فنزل ثم أني صببت على يديه فتوضأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : إن تتوبا الخ فقال : وأعجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله ومعنى قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب فقد صغت قلوبكما أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة وجعلها ابن الحاجب جوابا من حيث الأعلام كما قيل في : إن تكرمنياليوم فقد أكرمتك أمس وقيل : الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما وقوله تعالى : فقد صغت الخ بيان لسبب التوبة وقيل : التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما وما ذكر دليل على ذلك قيل : وإنما لم يفسروا فقد صغت قلوبكما بمالتإلى الواجب أو الحق أو الخير حتآ يصح جعله جوابا من غير احتياج إلى نحو ما تقدملأن صيغة الماضي وقد وقراءة ابن مسعود فقد زاغتت قلوبكما وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضيا وإن لم يكن لفظ كان وفيه نظر والجمع في قلوبكما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد قال أبو حيان : لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله : (28/152)
حمامة بطن الواديين ترنمي
وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في التسهيل : ويختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية وإن تظاهرا عليه بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء وهي قراءة عاصم ونافع في رواية وطلحة والحسن وأبو رجاء وقرأ الجمهور تظاهرا بتشديد الظاء وأصله تتظاهرا فأدغمتالتاء في الظاء وبالأصل قرأ عكرمة وقرأ أبو عمرو في رواية أخرى تظهرا بتشديد الظاء والهاء دون ألف والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره
فإن الله هو مولاه أي ناصره والوقف على ما في البحر وغيره هنا أحسن وجعلوا قوله تعالى : وجبريل مبتدأ وقوله سبحانه : وصالح المؤمنين والملائكة معطوفا عليه وقوله عز و جل : بعد ذلك أي بعد نصرة الله تعالى متتعلقا بقوله جل شأنه : ظهير
4
- وجعلوه الخبر عن الجميع وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون واختير الإفراد لجعلهم كشيء واحد وجوز أن يكون خبرا عن جبريل وخبر ما بعده مقدر ونظير ما قالوا في قوله : ومن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيار بها لغريب وجوز أن يكون الوقف على جبريل أي وجبريل مولاه وصالح المؤمنين مبتدأ وما بعده معطوف عليه والخبر ظهير وظاهر كلام الكشاف اخيار الوقف على المؤمنين فظهير خبر الملائكة وعليهغالب مختصريه وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبرا وهو إما لفظ مول مرادا به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي وجبريل مولاه أي قرينه وصالح المؤمنين مولاه أي تابعه أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه ولا مانع من أن يكون المولى في الجميع بمعنى الناصر كما لا يخفى وزيادة هو على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز و جل متولي ذلك بذاته تعالى وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء وأنه للتقوى لا للحصر والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح وإن كان كلام الكساكي موهما الوجوب هذا والمبالغةمحقق على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون وجبريل وما بعده مخبرا عنه بظهير وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتتنع على نحو زيد المنطلق وعمرو وكذا في الكشف ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأسالكروبيين والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير وأريد به الجمع هنا ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر ولذا عم بالإضافة وجوز أن يكون اللفظ جمعا وكان القياس أن يكتب وصالحوا بالواو إلا أنها حذفت خطا تبعا لحذفها لفظا وقد جاءت أشياء في المصحفتبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو ويدع الإنسان ويدع الداع و سندعالزبانية وهل أتاك نبأ الخصم إلى غير ذلك وذهي غير واحد أن الإضافة للعهد فقيل : المراد به الأنبياء عليهم السلام
وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد ومظاهرتهم له قيل : تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبيمن الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل : علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب وروي الإمامية عن أبي جعفر أن النبي (28/153)
صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال : يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال : هو عمر بن الخطاب وأخرج هو وجماعة عن سعيد ابن جبير قال : وصالح المؤمنين نزل في عمر بن الخطاب خاصة وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال : وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم وقيل : الخلفاء الأربعة
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس قالا : نزلت وصالح المؤمنين في أبي بكر وعمر وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما وأخرج الحاكم عن أبي أمامة والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر وأخرج ابنعساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أبي يقرؤها وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وأن جبريل عليه السلام ظهير له صلى الله عليه و سلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنيتهما وتوهينا لأمرهما
وأنا أقول العموم أولى وهما وكذا علي كرم الله تعالى وجهه يدخلان دخولا أوليا والتنصيص على بعض الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكة اقتضت ذلك لا لأرادة الحصر ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك : من صالح المؤمنينأبو بكر وعمر وفائدة بعد ذلك التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز و جل وإن تنوعت ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة وفيهم جبريل أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده
وقيل : الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم وبالجملة فائدة بعد ذلك نحو فائدة ثم في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز و جل وأيا ما كان فإن شرطية وتظاهرا فعل الشرط والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب وسبب أقيم مقامه والأصل فإنه تظاهرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طعمهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة و السلام وعند المؤمنين لأمومتهما وكرامة له صلى الله عليه و سلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهمايجديهما نفعا
وقيل : المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه وفيه أيضا مزيد إغاطة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل : فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك مظاهرون له ومعينون إياه كذلك ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث (28/154)
لم يقل ظهير له عليكما مثلا وكذا ترك المعان فيه وتخصيص صالح المؤمنين بالذكر وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير صالح المؤمنين بمن بريء من النفاق فتأمل
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أي أن يعطيه عليه الصلاة و السلام بدلكن أزواجا خيرا منكن والخطاب لجمع زوجاه صلى الله تعالى عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الألتفات وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور ويرشد إلى هذا ما أخرجه البخاري عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله خيرا منكن فنزلت هذه الآية وليس فيها أنه عليه الصلاة و السلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن مع أن المذهب على ما قيل : إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتتان أولا بقوله تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الخ فكأنه قيل : عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيرا منكما ومن غير كما من ألأزواج والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة و السلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا من أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله لأنالتعليق على طلاق الأثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة وقال الخفاجي التغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولا اثنتان وفي لفظة إن الشرطية أيضا الدالة على عدم وقوع الطلاق
وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في إن انتهى وفيه بحث ثم إن المشهور إن عسى في كلامه تعالى للوجوب وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط وقيل : هي كذلك إلا هنا والشرط معترض بين اسم عسى وخبرها والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى الخ و أزواجا مفعول ثان ليبدل و خيرا صفته وكذا ما بعد وقرأ أبو عمرو فيرواية عياش طلقكن بإدغام القاف في الكاف
وقرأنافع وأبو عمرو وابن كثير يبدله بالتشديد للتكثير مسلمات مقرات مؤمنات مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب وهو لا يكون إلا مخلصا أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات قانتان مصليات أو مواضبات على الطاعة مطلقا تائبات مقلعات عن الذنب عابدات متعبدات أو متذللات لأمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم سائحات صائمات كما قال ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال الفراء : وسمى الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه وإنما يأكل من حيث يجد الطعام وعن زيد بن أسلم ويمات مهاجرات وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب
وقرأ عمرو بن قائد سيحات ثايبات جمع ثيب من ثاب يثوب ثوبا وزنه كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها وأبكارا
5
- جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء وترك العطف (28/155)
في الصفات السابقة لأنها صفات تتجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة ولم يؤت بأو قيل : ليكون المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار وقريب من ما قيل : وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر وفي الأنتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاجب أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة وكان الفاضل يتبجح باسترجاعها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله : أحدهما في التوبة التائبون العابدون إلى قوله سبحانه : والناهون عن المنكر والثاني في قوله تعالى : وثامنهم كلبهم والثالث في قوله تعالى : وفتحت أبوابها إلى أن ذكر ذلك يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري فبين له أنه واهم في عددها من ذلك القبيل وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بها ههنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه وقال : أرشدتنا يا أبا الجود انتهى
وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم من تزوجها ثيبا وفيهن من تزوجها بكرا وجاء إنه عليه الصلاة و السلام لم يتزوج بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنها بقولها : إن أمي تزوج بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت يآ أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا أي نوعا من النار وقودها الناس والحجارة تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب وروي أن عمر قال حين نزلت : يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا فقال عليه الصلاة و السلام : تنهوهن عمكا نهاكم الله وتتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : علمواأنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم والمراد على ما قيل : ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه وفي الحديث رحم الله رجلا قال : يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة وقيل : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله
وقريء وأهلوكم بالواو وهو عطف على الضمير في قوا وحسن العطف للفصل بالمفعول والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري وذكر ما حاصله أن الأصل قوا أنتموأهلوكمأنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها فقدم أنفسكم وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب وكذا اعتبر التغليب في قوا وفيه (28/156)
تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية
وقرأالحسن ومجاهد وقودها بضم الواو أي ذو وقودها وتتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة عليها ملائكة أي أنهم موكلون عليها يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل : وأعوانهم غلاظ شداد غلاظ الأقوال شداد الأفعال أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه لا يعصون الله ما أمرهم صفة أخرى لملائكة و ما في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره تعالى كقوله تعالى : أفعصيت أمري أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به ويفعلون ما يؤمرون
6
- أي الذي يأمرهم عز و جل به والجملة الأولى لنفي المعاندة والأستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فهي كقوله تعالى : لا يستكبرون عن عبادته والثانية لأثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى : ولا يستحسرون إلى لا يفترون وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيانأصله المنع والإباء وعصيان الأمر صفة الباطن بالحقيقة لأن الأتيان بالمأمور إنما يعد طاعة إذا كان بقصد الأمتثال فإذا نفى العصيان عنهم دل على قبولهم وعدمإبائهم باطنا والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الأستمرار المستفاد من يفعلون فلا تكرار وفي المحصول لا يعصون فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية ويفعلون ما يؤمرون في الآتي
وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله عز و جل والغضب له سبحانه
يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الأعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم إنما تجزون ماكنتم تعملون
7
- في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنهما أشد النهي وأمرتم بالإيمان والطاعة على أتم وجه يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله من الذنوب
توبة نصوحا أي بالغة النصح فهو من أمثلة المبالغة كضروب وصفت التوبة به عل الإسناد المجازي وهو وصف التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها ولعله ما تضمنه ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما التوبة النصوح قال : أن يندم العبد عل الذنب الذي أصاب فيعتذر إل الله تعالى ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع وروي تفسيرهابما ذكر عن عمر وابن مسعود وأبي والحسن ومجاهد وغيرهم وقيل : نصوحا من نصاحة الثوب أي خياطته أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك وقيل : خالصته من قولهم : عسل ناصح إذا خلص من الشمع وجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعمال (28/157)
الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها وفي المراد أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين قولا : منها ما سمعت
وقرأ زيد بن علي توبا بغير تاء وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع نصوحا بضم النون وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور والكفر والكفور أي ذات نصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له
هذا والكلام في التوبة كثير وحيث كانت أهم الأوامر الإسلامية وأول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين لا بأس في ذكر شيء مما يتعلق بها فنقول : هي لغة الرجوع وشرعا وصفا لنا على ما قال السعد : الندم على المعصية لكونها معصية لأن الندم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلا لا يكون توبة وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة ففي كونه توبة تردد ومبناه على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا وكذا الندمعليها لقبحها مع غرض آخر والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كمال إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما وكذا في التوبة عند مرض مخوض بناءا على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف وظاهر الأخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت ويتحقق أمره عادة ومعنى الندمتحزن وتوجع على أنفعل وتمني كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروح إلى بعض المباحات ليس بتوبة ولقوله عليه الصلاة و السلام : الندم توبة وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة
واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه وقد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلا أوجب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الإشعار بالقدرة والأختيار
وأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطوط والأقتدار حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك وبذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال : إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن التوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح ممن يتمكن من مثل ما قدمه ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا ومن الأخرس العزم على ترك القذف وقال بعض الأجلة : التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للبيان والتقدير لا للتقييد والأحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخلو عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والأقتدار وعلامة الندم طول الحسرة والخوف وانسكاب الدمع ومن الغريب ما قيل : إن علامة صدق الندم عن ذنب كالزنا أن لا يرى في المنام أنه يفعله اختيارا إذ يشعر ذلك ببقاء حبه إياه وعدم انقلاع أصوله من قلبه بالكلية وهو ينافي صدق الندم وقال المعتزلة : يكفي في التوبة أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لأفضائه إلى التكليف بما لا يطاق
وقال الإمام النووي : التوبة ما استجمعت ثلاثة أمور : أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما على أن لا يعود إلى مثلها أبدا فإن كانت تتعلق بآدمي لزم الظلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه وركنها الأعظم الندم
وفي شرح المقاصد قالوا : إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف وقد تفتقر لإلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب (28/158)
وتسليم ما وجب في ترك الزكاة ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم والعزم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغضب والقتل العمد ولزم إرشادهإن كان الذنبإضلالا له والأعتذار إليه إن كان إيذاءا كما في الغيبة إذا بلغته ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر عن التوبة على ما قال إمام الحرمين من أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تتستدعي توبة ولا يقدح في التوبة عن القتل ثم قال : وربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغضب ففرق بينالقتل والغضب ووجهه لا يخفى على المتأمل ولم يختلف أهل السنة وغيرهم في وجوب التتوبة على أرباب الكبائر واختتلف في الدليل فعندنا السمع كهذه الآية وغيرها وحمل الأمر فيها على الرخصة والإيذان بقولها ودفع القنوط كما جوزه الآدمي احتمال وبني عليه عدم الإثابة عليها مما لا يكاد يقبل وعند المعتزلة العقل وأوجبت الجهمية التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا وأهل السنة على ذلك ومقتضى كلام النووي والمازني وغيرهما وجوبها حال التلبس بالمعصية وعبارة المازري اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة
وفي شرح الجوهري أن التمادي على النذب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه وساعتين إثمان وهلم جرا بل ذكروا أن بتأخير التوبة على الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان : المعصية وترك التوبة وساعتينأربع : الأوليان وترك التوبة على كل منهما وثلاث ساعات ثمان وهكذا وتصح عن ذنب دون ذنب لتحقق الندم والعزم على عدمالعود وخالف أبو هاشم محتجا بأن الندمعلى المعصية يجب أن يكون لقبحها وهو شامل لها كلها فلا يتحقق الندمعلى قبيح مع الأصرار على آخر
وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية وهذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم وتاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي أما هو فتوبته صحيحة وإسلامه كذلك بالإجماع ولا يعاقب إلا عقوبةتلك المعصية نعم اختلف في أن مجرد إيمانه هل يعد توبة أم لابد من الندمعلى سالف كفره فعند الجمهور مجرد إيمانه توبة وقال الإمام والقرطبي : لا بد من الندم على سالف الكفر وعدم اشتراط العمل الصالح مجمع عليهعند الأئمة خلافالابن حزم وكذا تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه ولو لم يشق عليه تعيينه وخالف بعض المالكية فقال : إنما تصح إجمالا مما علم إجمالا وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا ولا تنتقض التوبة الشرعية بالعود فلا تعود عليه ذنوبه التي تاب منها بل العود والنقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها
وقالالمعتزلة من شروط صحتها أن لا يعاود الذنب فإن عاوده انتقضت توبته وعادت ذنوبه لأن الندم المعتبر فيها لا يتحقق إلا بالأستمرار ووافقهم القاضي أبو بكر والجمهور على أن استدامة الندم غير واجبة بل الشرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه ويدفعه لأنه حينئذ دائم حكما كالإيمان حال النوم ويلزم من اشتراط الأستدامة مزيد الحرج والمشقة وقال الآدمي : يلزم أيضا اختلاف الصلوات وسائر العبادات ويلزم أيضا (28/159)
أن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا وأن يجب عليه إعادة التوبة وهو خلاف الإجماع نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التوبة منها هل يجب عليه أن يجدد الندم وإليه ذهب القاضي منا وأبو علي من المعتزلة زعما منهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحابها وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة وقد قال القاضي نفسه : إنه إذا لم يجدد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذ العبادة المضاية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها انتهى
وبعد وجوب التجديد عند ذكر المعصية صرح إمام الحرمين ويفهم من كلامهم أن محل الخلافإذا لم يبتهج عند ذكر الذنب به ويفرح ويتلذذ بذكره أو سماعه والأوجب التجديد اتفاقا وظاهر كلامهم أن المعاودة غير مبطلة ولو كانت في مجلس التوبة بل ولو تكررت تكرارا يلتحق بالتلاعب وفي هذا الأخير نظر فقد قال القاضي عياض : إن الواقع في حق الله تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب ليكون ذلك زجرا له ولمثله إلا من تكرر ذلك منه وعرف استهانته بما أتى به فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته انتهى
وينبغي عليه أن يقيد ذلك بأن لا تكثر كثرة تشعر بالإستهانة وتدخل صاحبها في دائرة الجنون واختلف في صحة التوبة الموقتة بلا إصرار كأن لا يلابس الذنوب كذا سنة فقيل : تصح وقيل : لا وفي شرح الجوهرة قياس صحتها من بعض الذنوب دون بعض صحتها فيما ذكر ثم إن للتوبة مراتب من أعلاها ما روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه سمع أعرابيا يقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين فقال الأعرابي : وما التوبة قال كرم الله تعالى وجهه : يجعلها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة وللفرائض الأعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي وأريد بإعادة الفرائض أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التوبة لمخامرته للنجاسة غالبا وهذه توبة نحو الخواص فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم وأضرابه كما لا يخفى ثم إنه تعالى بين فائدة التوبة بقوله سبحانه : عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار قبل : المراد أنه عز و جل يفعل ذلك لكن جيء بصيغة الأطماع للجري على عادة الملوك فإنهم إذا أرادوا فعلا قالوا : عسى أن نفعل كذا والإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه والتوبة غير موجبة له وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوفورجاء وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة واستدلبالآية على عدم وجوب قبول التوبة لأن التكفير أثر القبول وقد جيء معه بصيغة الإطماع دون القطع وهذه المسألة خلافية فذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى قبولها عقلا وأتوا في ذلك بمقدمات مزخرفات وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر : يجب قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري : بل بدليل قطعي ومحل النزاع بين الأشعري وتلميذه ما عدا توبة الكافر أما هي فالأجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى : قل للذين كفروا وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف بخلاف ما جاء في توبة (28/160)
غيره فإنه ظاهر وليس بنص في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى : قل يا عبادي الذين أ
رفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله وأما حديث التوبة تجب ما قبلها فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه وهذا وما قبله ذكرهما القاضي لما قيل له : إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن : وقال ابن عطية : إن جمهور أهل السنة على قول القاضي والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته ولو كان مقطوعا به لما كان للدعاء معنى ومثل ذلك وجوب الشكر على القبول فإنه لو كان واجبا لما وجب الشكر عليه
وتعقب ذلك السعد بأنه ربما يدفع بأن المسئول في الدعاء هو استجماعها لشرائط القبول فإن الأمر فيه خطيرووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا في نفسه كتربية الوالد لولده وقال الإمام النووي : لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عند أهل السنة لكنه سبحانه يقبلها كرما منه وتفضلا وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع فلا تغفل وقريء يدخلكم بسكون اللام وخرجه أبو حيان على أن يكون حذف الحركة تخفيفا وتشبيها لما هو في كلمتين بالكلمة الواحدة فإنه يقال في قمع : قمعوفي نطع : نطع وقال : إنه أولى منكونه للعطف على محل عسى ربكم أن يكفر واختاره الزمخشري كأنه قيل : توبوا يرج تكفير أو يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم يوم لا يخزي الله النبي ظرف ليدخلكم وتعريف النبي للعهد والمراد بهسيد الأنبياء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد بنفي الأخزاء إثبات الكرامة والعز
وفي القاموس يقال : أخزى الله تعالى فلانا فضحه وقال الراغب : يقال : خزي الرجل لحقه إنكسار إما من نفسهوهو الحياء المفرط ومصدرهالخزاية وإما من غيره وهو ضرب من الأستخفاف ومصدره الخزي و يوملا يخزي الله النبي وهو من الخزي أقرب ويجوز أن يكون منهما جميعا والذين آمنوا معه عطف عليهE وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق واستحماد على المؤمنين على أن عصمهم من مثل حالهم والمراد بالإيمان هنا فرده الكامل على ما ذكره الخفاجي وقوله تعالى : نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم أي على الصراط كما قيل ومر الكلام فيه جملة مستأنفة وكذاقوله سبحانه : يقولون الخ وجوز أن تكون الجملتان في موضع الحال من الموصول وأن تكون الأولى حالا منه والثانية حالا من الضمير في يسعى وأن تكون الأولى مستأنفة والثانية منالضمير وأن تكون الأولىحالا من الموصول والثاني مستأنفة أو حالا من الضمير وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره معه والجملتان خبران أو مستأنفان أو حالان من الموصول أو الأولى حال منه والثانية حال من الضمير أو الأولى مستأنفة والثانية حال من الضمير أو الأولى حال والثانية مستأنفة أو الأولى خبر بعد خبر والثانية حال منالضمير أو مستأنفة وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : نورهم يسعى الخ والجملة الأخرى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر فهذه عدة احتمالات لا يخفى ما هو الأظهر منها
والقول على ما روي عن ابن عباس والحسن : يكون إذا طفيء نور المنافقين أي يقولون غذا طفيء نور المنافقين ربنا أتمم علينا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير
8
- وفي رواية أخرى عن الحسن يدعون تقربا إلى الله تعالى مع تمام نورهم وقيل : يقول ذلك من يمر على الصراط زحفا وحبوا (28/161)
وقيل : من يعطى من النور بقدر ما يبصر به موضع قدمه ويعلم منه عدم تعين حمل الإيمان على فرده الكامل كما سمعت عن الخفاجي وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة وبإيمانهم بكسر الهمزة على أنهمصدر معطوف على الظرف أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم يآ أيها النبي جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه
وعن الحسن أكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقين فأمر عليه الصلاة و السلام أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود و وحكى الطبرسي عن الباقر أنه قرأ جاهد الكفار بالمنافقين وأظن ذلك من كذب الإماميةعاملهم الله تعالىبعد له ومأواهم جهنم أي وسيرون فيها عذابا غليظا وبئس المصير
9
- أي جهنمأو مأواهم والعطف قيل : من عطف القصة على القصة ضرب الله مثلا للذين كفروا ضرب المثل في مثل هذا الموقع عبارة عن إيراد حالة غريبة لتعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل الله تعالى مثلا لحال الكفرة حالا ومآلا على أن مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به وقوله تعالى : امرأتنوح واسمها قيل : والعة وامرأت لوط واسمها قيل : واهلة وقيل : والهة وعن مقاتل اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة مفعوله الأول وأخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما ويتضح بذلك حال الكفرة والمراد ضرب الله تعالىمثلا لحال أولئك حال امرأة الخ فقوله تعالى : كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين بيانا لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح ولم يقل : تحتهما للتعظيم أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة وحيازة سعادتهما وقوله عالى : فخانتهما بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينافيهما من مرافقة النبي عليه الصلاة و السلام أما خيانة امرأة نوح عليه السلام فكانت تقول للناس : إنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف رواه جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس
وأخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن الضحاك أنه قال : خيانتهما النميمة وتمامه في رواية : كانتا إذا أوحى الله عالى بشيء أفشتاه للمشركين وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : خيانتهما أنهما كانتا كافرتين مخالفتين وقيل : كانتا منافقتين والخيانة والنفاق قال الراغب : واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيضها الأمانة وحمل ما في الآية على هذا ولا تفسر ههنا بالفجور لما أخرج غير واحد عن ابن عباس ما زنت امرأة نبي قط ورفعه أشرس إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف لا يجوز أن يراد بها الفجور لأنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أحد بخلاف الكفر فإن الكفر لا يستسمجونه ويسمونه حقا
ونقل ابن عطية عن بعض تفسيرها بالكفر والزنا وغيره ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد : إن الحق منعها في حق الأنبياء عليهم السلام وما ينسب للشيعة مما يحالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم كذب عليهم فلا تعول عليه وكان شائعا وفي هذا على ما قيل : تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهملرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة وقوله تعالى : (28/162)
فلم يغنيا الخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن ذانك العبدان الصالحان والنبيان العظيمان عنهما بحق الزواج من الله أي من عذابه عز و جل شيئا أي شيئا من الأغناء أو شيئا من العذاب
وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقق الوقوع ادخلا النار مع الداخلين
10
- أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام
وذكر غير واحد أن المقصود الإشارة إل أن الكفرة يعاقبون بكفرهم ولا يراعون بما بينهم وبين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الوصلة وفيه تعريض لأمهات المؤمنين وتخويف لهن بأنه لا يفيدهن إن أتين بماحظر عليهن كونهن تحت نكاح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليس في ذلك ما يدل عل أن فيهن كافرة أو منافقة كما زعمه يوسف ألأوالي من متأخري الإمامية سبحانك هذا بهتان عظيم
وقرأ مبشر بن عبيد تغنيا بالتاء المثناة من فرق و عنهما عليه بتقدير عن نفسهما قال أبو حيان : ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما كهي في : دع عنك لأنها إن كانت حرفا كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضميره المجرور وهو يجري مجرى الضمير وذلك لا يجوز وفيه بحث وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون أي جعل حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله عز و جل وهي أعلى غرف الجنة واسمها آسية بنت مزاحم وقوله عالى : إذا قالت ظرف لمحذوف أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك قيل : أي قريبا من رحمتك لتنزهه سبحانه عن المكان
وجوزفي عندك كونه حالا من ضمير المتكلم وكونه حالا من قوله تعالى : بيتا لتقدمه عليهوكان صفة لو تأخر وقوله تعالى : في الجنة بدل أو عطف بيان لقوله تعالى : عندك أو متعلق بقوله تعالى : ابن وقدم عندك لنكتة وهي كما في الفصوص الإشارةإلى قولهم : الجار قبل الدار وجوز أن يكون المراد بعندك أعلى درجات المقربين لأن ما عند الله تعالى خير ولأن المراد القرب من العرش و عندك بمعنى عند عرشك ومقر عزك وهو على ما قيل : الأحتمالات في إعرابه ولا يلزم كونه ظرفا للفعل ونجني من فرعون أي من نفسفرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم وعمله أي وخصوصا من عمله وهو الكفر وعبادة غير الله تعالى والتعذيب بغير جرم إلى غير ذلك من القبائح والكلام على أسلوب ملائكته وجبريل وجوز أن يكون المراد نجني من عمل فرعون فهو من أسلوب أعجبني زيد وكرمه والأول أبلغ لدلالته على طلب البعد من نفسه الخبيثة كأنه بجوهره عذاب يطلب الخلاص منه ثم طلب النجاة عمله ثانيا تنبيها على أنه الطامة العظمى وخص ببعضهم عمله بتعذيبه وعن ابن عباس أنه الجماع وما تقدم أولى ونجني من القوم الظالمين
11
- من القبط التابعين له في الظلم قاله مقاتل وقال الكلبي : من أهل مصر : وكأنه أراد بهم القبط أيضا والآية ظاهرة في أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث وذكر بعضهم أنها عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف العصا الإفك فعذبها فرعون
وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلامفقالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة (28/163)
فكشف لها عن بيتها في الجنة وهو على ما قال : من درة وفي رواية عبد بن حميد عنه أنه من وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعترأسها إلى السماء فقالت رب ابن لي إلى الظالمين ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأتته وقيل : أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله عالى فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه وعن الحسن فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها وظاهره أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح
وفي الآية دليل على أن الأستعاذة بالله عالى والألتجاء إايه عز و جل ومسألة الخلاص منه تعالى عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء وهو في القرآن كثير وقوله تعالى : ومريم ابنت عمران عطف على امرأة فرعون أي وضرب مثلا للذين آمنوا حالتها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والأصطفاء مع كون قومها كفارا وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لقلوبهن على ما قيل وهو من بدع التفاسير كما في الكشاف وقرأ السختياني ابنه بسكون الهاء وصلا أجراه مجرى الوقف التي أحصنت فرجها صانته ومنعته من الرجال وقيل : منعته عن دنس المعصية
والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح ومنه ما هنا عند الأكثرين فنفخنا فيه النافخ رسوله تعالى وهو جبريل عليه السلام فالإسناد مجازي وقيل : الكلام على حذف مضاف أي فنفخ رسولنا وضمير فيه للفرج واشتهر أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج
وروي ذلك عن قتادةوقال الفراء : ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة كل فرجة بين الشيئين وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع وفي مجمع البيان عن الفراء أن المراد منعت جيب درعها عن جبريلعليه السلام وكان ذلك على ما قيل : قولها إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا وأفاد كلام البعض أن أحصنت فرجها على ما نقل أولا عن الفراء كناية عن العفة نحو قولهم : هي نقي الجيب طاهر اذليل
وجوز في ضمير فيه رجوعه إلى الحمل وهو عيسى عليه السلام المشعر به الكلام وقرأ عبد الله فيها كما في الأنبياء فالضمير لمريم والإضافة في قوله تعالى : من روحنا للتشريف والمراد من روح خلقنا بلا توسط أصل وقيل : لأدنى ملابسة وليس بذاك وصدقت آمنتت بكلمات ربها بصحفه عز و جل المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره وسماها سبحانه كلمات لقصرها وكتبه بجمع كتبه والمراد بها ما عدا الصحف مما فيه طول أو التوراة والإنجيل والزبور وعد المصحف من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلا بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة و السلام فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم مذكورا بكتابه في الكتب الثلاث وتفسير الكلمات والكتب بذلك هو ما اختاره جمع وجوز غير واحد أن يراد بالكلمات ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام وبالكتب ما عرف فيها مما يشمل الصحف وغيرها وقيل : جميع ما كتب مما يشمل اللوح وغيره وأن يراد بالكلمات وعده تعالى ووعيده أو ذلك وأمره عز و جل ونهيه سبحانه وبالكتب أحد الأوجه السابقة وإرادة كلامه تعالى القديم القفائم بذاته سبحانه من الكلمات بعيد جدا وقرأ يعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم صدقت بالتخفيف ويرجع إلى معنى (28/164)
المشدد وفي البحر أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى وما أظهره الله تعالى لها من الكرامات وفيه قصور لا يخفى
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري بكلمة على التوحيد فاحتمل أن يكون اسم جنس وأن يكون عبارة عن كلمة التوحيد وأن يكون عبارة عن عيسى عليه السلام فقد أطلق عليه السلام أنه كلمة اله ألقاها إلى مريم وقد مر شرح ذلك وقرأ غير واحد من السبعة وكتابه على الإفراد فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى عليه السلام وقرأ أبو رجاء وكتبه بسكون التاء على ما قال ابن عطية وبه وبفتح الكاف على أنه مصدر أقيم مقام الأسم على ما قال صاحب اللوامح
وكانت من القانتين
12
- أي من عداد المواظبين على الطاعة فمن للتبعيض والتذكير للتغليب والأشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم فهو أبلغ من قولنا : وكانت من القانتات أو قانتة وقيل : من لابتداء الغاية والمراد كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام ومدحها بذلك لما أن الغالب أن الفرع تابع لأصله والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وهي على ما في الأخبار سيدة النساء ومن أكملهن روي أحمد في مسنده : سيدة نساء أهل الجنة مريم : ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة وفي الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنه عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنتت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وخص الثريد وهو خبز يجعل في مرق وعليه لحم كما قيل : إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد لا اللحم فقط كما قيل لأن العرب لا يؤثرون عليه شيئا حتى سموه بحبوحة الجنة والسر على ما قال القطبي : إن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسعة المرور في المريء فضرب به مثلا ليؤذن بأنها رضي الله تعالى عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل فهي تصلح للبعل والتحدث والأستئناس بها والإصغاء إليها وحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه و سلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال وعلى مزيد فضلها في هذه السورة الكريمة من عتابها وعتاب صاحبتها حفصة رضي الله تعالى عنهما ما لا يخفى ثم لا يخفى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها من حيث البغعية لا يعد لها في الفضل أحد وتمام الكلام في ذلك في محله
وجاء بعض الآثار أن مريم وآسية زوجا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام وزعم نبوتها كزعم نبوة غيرهما من النساء كهاجر وسارة غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوة على الصحيح خلافا للأشعري وقد نبه على هذا الزعم العلامة ابن قاسم في الآيات البينات وهو غريب فليحفظ والله تعالى أعلم
تم الجزء الثامن والعشرون ويليه إن شاء الله الجزء التاسع والعشرون وأوله تبارك الذي بيده الملك 29 (28/165)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المانعة وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفظ بحديث تفرح به قال بلى قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر
وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المانعة وهي مكية على الأصح وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرجه ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس وفي قول غريب أنها مدنية وآيها حدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يرجحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز و جل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه (29/2)
وقيل أن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق الله الذي خلق سبع سماوات لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها
وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك ومنها ما جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة والحمد لله الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم وأسأل الله تعالى التوفيق لما بعد والقبول
ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين والله تعالى الموفق
بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي بيده الملك البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه
ونسبتها إلى الله عز و جل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها قيل ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وأنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى وقد مر تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للإستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والإستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلية لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته أو إن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والإستيلاء كما قيل ولاستدعاء ذلك استغناء المتصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق على الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة والإستيلاء على كل موجود وقوله تعالى
وهو على كل شيء قدير تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز و جل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عز سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قدير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وإن كان عاما في كل ما يصح إن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الإحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه وأما عند (29/3)
القائلين بأن علة الإحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الإختيار يستدعي سبق العدم وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلا أيضا لأن الإختصاص بالموجود فيه إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى الذي بيده الملك مطلق وقوله سبحانه وهو على كل شيء قدير عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء إما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود وفيه أيضا نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضا مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وإن لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلوا عن نظر فليتأمل ومن الناس من حمل الملك على الموجودات وجعل إليه مجازا عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازا عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز و جل مالكه فمعنى بيده الملك مالك الملك وفسر الراغب الملك في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى وقوله تعالى
الذي خلق الموت والحياة شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز و جل وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي الخ والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لأزلية الإعدام وأما ما روي عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي فهو أشبه بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره وقيل هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الإستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي أو أن الموت عدما مطلقا صرفا بل هو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الموت والحياة خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازا ولا يخفى الحال في هذه الإحتمالات ومن الغريب ما قيل أنه كني بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها وبالحياة عن الآخرة من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله صحة العلم والقدرة وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحث على حسن العمل ولذا ورد أكثروا من ذكر هاذم اللذات والحياة وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكرا لله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما (29/4)
ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطاريء وحياتكم أيها المكلفون
ليبلوكم أي ليعاملكم معاملة من يختبركم
أيكم أحسن عملا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم وأصل البلاء الإختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز و جل حمل الكلام على ما ذكر ويرجع ذلك إلى الإستعارة التمثيلية واعتبار الإستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الآية أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز و جل أي أيكم أتم فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه وإيراد صيغة التفضيل مع أن الإبتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الإبتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الإندراج تحت الوقوع فضلا عن الإنتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز و جل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أي الفريقين خير مقاما ليس بذاك وأيكم أحسن مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان ليبلوكم وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا قيل فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن وأيضا لا تقع الجملة الإستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الإستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الإستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال الخليل فلم يمتنع وقوعها مفعولا ثانيا بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أيهم أحسن وإليه ذهب الطيبي ثم قال وقد أنصف صاحب الإنتصاف حيث قال التعليق على أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقا لما في الأختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله انظر أيهم أحسن وجها فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين وفي الإستفهام خاصة دون ما فيه لام الإبتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصا فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور وأما (29/5)
الحمل عن الإضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختيارا لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيرا ما يسئل عن ذلك قديما وحديثا والله تعالى الموفق
وهو العزيز أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء
الغفور لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام
الذي خلق سبع سماوات قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلاء كما نطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا
وقوله تعالى طباقا صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثري وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمحذوف أي طوبقت طباقا والجملة في موضع الصفة وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالا من سبع سماوات لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجيء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة وأيا ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وإن لم يكفر منكر ذلك فيما أرى واختلف في موادها فقيل الأولى من موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة من حديد والرابعة من نحاس والخامسة من فضة والسادسة من ذهب والسابعة من زمردة بيضاء وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبرا يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز و جل على كل شيء قدير
وقوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سماوات وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير الرابط للتعظيم والإشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها وبأنه عز و جل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا وبأن في إبداعها نعما جليلة وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغنى من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا الضمير إما مذكورا وإما مقدرا ليس بحجة على جار الله والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره واستظهر أبو حيان أنه استئناف وإن خلق الرحمن عام للسماوات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئا من تفاوت أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالإختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر
وقال السدي أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصا وقال عطاء بن يسار (29/6)
أي من عدم استواء وقيل أي من اضطراب وقيل أي من اعوجاج وقيل أي من تناقض ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطا وهو نوع من التجاذب لا يفوت بسببه بعضها عن بعض وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذبا على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والإرتباط يضعف قليلا قليلا على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جدا واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش من تفوت بشد الواو مصدر تفوت وحكى أبو زيد عن العرب في تفاوت فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر
وقوله تعالى فارجع البصر هل ترى من فطور متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الإخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي إن كنت في ريب من ذلك فارجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له والفطور قال مجاهد الشقوق جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر والظاهر أن المراد الشق مطلقا لا الشق طولا على ما هو أصله كما قال الراغب وفي معناه قول أبي عبيدة الصدوع وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتأم الفطور
وقول السدي الخروق وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هل ترى الخ قال أبو حيان في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فارجع البصر معنى فانظر ببصرك
ثم أرجع البصر كرتين أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض وهذا كما أريد بأصل المثنى التكثير في قوله
لوعد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الذام
فإنه يريد لو عدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس بشيء
ويؤيد الأول قوله تعالى ينقلب إليك البصر خاسئا فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل أنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة لكن في الصحاح يقال خسأ بصره خسأ وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسئا بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا
مع قوله تعالى وهو حسير أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة يقال حسر بعيره يحسر حسورا أي كل وانقطع فهو حسير ومحسور وقال الراغب الحسر كشف الملبس عما عليه يقال حسرت عن الذراع أي كشفت والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة ونوق حسرى والحاسر أيضا المعيي لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد (29/7)
حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه وقرأ الخوارزمي عن الكسائي ينقلب بالرفع وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة
وقوله تعالى ولقد زينا السماء الخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء أثر بيان خلوها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدنيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس
بمصابيح جمع مصباح وهو السراج وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها وقيل للتنويع والأول أولى والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا ثم ثخن السماء الدنيا وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه فزينا السماء بمصابيح كقول القائل
زينت السقف بالقناديل
وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه أو كل منها في فلك وسماء غير السبع والإقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى أفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها قال يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذه الفضاء وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أحق بالإتباع نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه
وجعلناها رجوما للشياطين الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى جعلنا منها أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع (29/8)
رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع وقيل أنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا والمراد بالشياطين مسترقوا السمع ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسايط وقال الشهاب لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى
وأقول لا يخفى أن ذلك المبني لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالأبروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك ثم أن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعدما يشاهد لها من الإنقضاض وإن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز و جل والضمير المنصوب في جعلناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الإطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها والكلام نحو قولك اسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمي بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمى به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو وأن يكون لتفاوت الإستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلا لرمي الشياطين فيحتمل (29/9)
أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر وقيل معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فأرجع إليه أن إردته فإنه نفيس جدا
وأعتدنا لهم وهيأنا للشياطين
عذاب السعير عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون
وللذين كفروا بربهم من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع إيهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم
وقوله تعالى عذاب جهنم مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة لا يعذب غير الكفرة وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه عذاب بالنصب عطفا عن عذاب السعير أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم وبئس المصير أي جهنم
إذا ألقوا فيها أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة
سمعوا لها أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق محذوف وقع حالا من قوله تعالى شهيقا لأنه في الأصل صفته فلما قدمت صارت حالا أي سمعوا كائنا لها شهيقا أي صوتا كصوت الحمير وهو حسيسها المنكر الفظيع ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقولهم تعالى لهم فيها زفير وشهيق والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم اخسئوا فيها وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعهما منهم قبل
تكاد تميز أي والحال إنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وهي تفور أي ينفصل بعضها من بعض من الغيظ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الغيظ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح أنه الغضب أو أسوءه وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الإستعارة التصريحية ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ وجوز أن يكون الإسناد في تكاد تميز إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتها من الغيظ وقيل أن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فتغتاظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تكاد كما في قوله تعالى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفيه ما فيه والجملة (29/10)
إما حال من فاعل تفور أو خبر آخر وقرأ طلحة تتميز بتائين وأبو عمرو تكاد تميز بإدغام الدال في التاء والضحاك تمايز على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن علي وابن أبي عبلة تميز من ماز
كلما ألقي فيها فوج استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة
سألهم خزنتها وهم مالك وأعوانه عليهم السلام والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني
ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا قالوا اعترافا بأنه عز و جل قد أزاح عللهم بالكلية بلى قد جاءنا نذير وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الإعتراف بمجيء النذير وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاءنا نذير أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته
فكذبنا ذلك النذير في كونه نذيرا من جهته تعالى وقلنا في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير ما نزل الله على أحد من شيء من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم
إن أنتم أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه إلا في ضلال كبير بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبيء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لادراجه تحت عبارتهم كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بين فأما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إن أنتم إلا في ضلال كبير فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وأما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إن أنتم وقوله سبحانه وقلنا ما نزل الله من شيء عطف على كذبنا قدم على صلته ليجري مجرى الإعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول
وقالوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لو كنا نسمع كلاما أو نعقل (29/11)
شيئا ما كنا في أصحاب السعير أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى وأعتدنا لهم عذاب السعير وقيل الكفار مطلقا واختصاص إعداد السعير بالشياطين ممنوع لقوله تعالى إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا والآية لا تدل على الإختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا الخ وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأو للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع وقيل أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من السعير وأما إنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل
فاعترفوا بذنبهم الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عز و جل
فسحقا لأصحاب السعير أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم وقرأ أبو جعفر والكسائي فسحقا بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر
يجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقيل هو مصدر إما فعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله
وإن أهلك فذلك كان قدري ...
أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله
وعضة دهريا ابن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر واللام في لأصحاب للتبيين كما في هيت لك وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بين أولا أحوال الشياطين حيث قاله سبحانه وأعتدنا لهم عذاب السعير ثم بين أحوال الكفار حيث قال عز و جل وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم والأوفق بقراءة النصب وإلا بعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فسحقا لأصحاب السعير فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحاب السعير على الشياطين والكفار جميعا ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الإختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق بل يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى ما كنا في أصحاب السعير بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذ يكون الداخل في السعير قسمين وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية لكنه عدل وغلب (29/12)
أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترتب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا وقد عد ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الإفهام
إن الذين يخشون ربهم بالغيب أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم
لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم وأجر كبير لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني
وقوله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به خطاب عام للمكلفين كما في قوله أولا ليبلوكم عطف على مقدر قال في الكشف أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الإبتلاء فأجيب بقوله تعالى إن الذين يخشون الخ فأثبت لهم كمال العلم إنما يخشى الله من عباده العلماء وكمال التقوى لقوله تعالى بالغيب وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى أيكم أحسن عملا أي ليبلوكم أيكم المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون واعتقدوا استواء أسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى إن الذين الخ استطرادا عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وأسروا أو اجهروا على سبيل الإلتفات إلى أصحاب السعير لبعد العهد وزيادة الإختصاص عطفا على قوله تعالى وللذين كفروا كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء أو أبطنتموها فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول أملأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وأسروا الخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة و السلام فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة في شمول علمه عز و جل المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية
وقوله تعالى إنه عليم بذات الصدور تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الإستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل أنه عز و جل مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم (29/13)
بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها
وقوله تعالى ألا يعلم من خلق إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يعلم أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها
وقوله تعالى وهو اللطيف الخبير حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خلق والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطى ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال ألا يعلم وهو عالم ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللطيف الخبير من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الإستغراق والإطلاق وتعقب بأن الإستغراق غير لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى ولما ورد ماء مدين الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة أن قوله تعالى ألا يعلم تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه أنه عليم بذات الصدور فربط المعنى أن يقال ألا يعلم هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس وقال ابن عطية الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الإنقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للإهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن
والفاء في قوله تعالى فامشوا في مناكبها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما جبالها وقال الحسن طرقها وفجاجها وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف واستعماله فيما ذكر على سبيل الإستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي ثم قال فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذلولا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق والمشبه هو (29/14)
الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الإستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل وفي الكشاف المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها
وكلوا من رزقه انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعبر عن وجوه الإنتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الإلتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم قيل وهو المناسب لقوله تعالى امشوا وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الإكتفاء وليس بذاك واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب وفي الحديث أن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف وهذا لا ينافي التوكل بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال من أنتم فقالوا المتوكلون قال أنتم المتاكلون إنما المتوكل رجل ألقي حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز و جل وتمام الكلام في هذا الفصل في محله والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى
وإليه النشور أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عز و جل فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينهم منها وبث الرزق فيها ومما يقضى منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر
ءأمنتم من في السماء وهو الله عز و جل كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل من في السماء أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا واصله من في السماء أمره فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر وقيل على تقدير خالق من في السماء وقيل في بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الموكل بالخسف وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عز و جل في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول به الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة كل ما وصف الله تعالى به نفسه صكتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة (29/15)
الشافعي وأحمد بن حنبل وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عز و جل والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة و السلام انتهى كلام الحافظ على وجه الإختصار ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه بليس كمثله شيء دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلى الله تعالى عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عز و جل بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الإحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا كونه أحسن المسالك
وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن الجهل عدوانا
وقرأ نافع أأمنتم بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء النشور وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا
وقوله تعالى أن يخسف بكم الأرض بدل اشتمال من من وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به ليخسف والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى فخسفنا به وبداره الأرض أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وإن الأرض نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك
فإذا هي حين الخسف تمور ترتج وتهتز اهتزازا شديدا وأصل المور التردد في المجيء والذهاب
أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل الخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الإمتنان بقوله تعالى وكلوا من رزقه ألا ترى إلى قوله تعالى وفي السماء رزقكم قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب أنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلمهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم ولعل ما أشير إليه أولا أولى
فستعلمون كيف نذير أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان (29/16)
فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري
وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقريء شاذا فسيعلمون بالياء التحتانية
ولقد كذب الذين من قبلهم أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والإلتفات إلى الغيبة لإبراز الإعراض عنهم
فكيف كان نكير أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نكير كالكلام في نذير وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى
أو لم يروا أغفلوا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم صافات باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافات على الحال من الطير أو من ضميرها في فوقهم وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظرفا لصافات أو ليروا ومفعول صافات على الإحتمالات محذوف كما أشرنا إليه وناسب ذكر الإعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لا سيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة
ويقبضن ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافات لأن المعنى يصففن ويقبضن أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله
بات يعشيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للإستظهار به على التحرك جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا أثر حين كما يكون من السابح
ما يمسكهن في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والإنجذاب إليها
إلا الرحمن الواسع في رحمته كل شيء حيث برأهن عز و جل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتى منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يقبضن وقرأ الزهري ما يمسكهن بالتشديد
إنه بكل شيء بصير دقيق العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز و جل للطير على وجه تأتى به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال نحن نقول أن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز و جل على السبب عقلا بيد أنا نقول أنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو (29/17)
شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بكل شيء على بصير للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه
أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن متعلق عند كثير بقوله سبحانه أولم يروا إلى الطير فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يمسكهن إلا الرحمن أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا في المعنيين معا خلا أن الإستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه وأم منقطعة مقدرة ببل للإنتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز و جل إلى التبكيت بما ذكر والإلتفات للتشديد في ذلك ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الإستفهامية والإستفهام لا يدخل على الإستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الإحتمالات المشهورة في مثله وجملة ينصركم صفة لجند باعتبار لفظه ومن دون الرحمن على الوجه الأول إما حال من فاعل ينصركم أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى من ينصرني من الله فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز و جل
وقوله تعالى إن الكافرون إلا في غرور اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط وإن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والإلتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به
والكلام في قوله تعالى أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه أي الله عز و جل رزقه بإمساك المطر وسائر مباديه كالذي مر
وقوله تعالى بل لجوا الخ منبيء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا
في عتوا في عناد واستكبار وطغيان
ونفور شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو الخ عديلا لقوله تعالى أولم يروا على معنى ألم ينظروا في أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال صاحب أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه وقال أنه كقوله تعالى أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا إلا أنه أخرج مخرج الإستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أم من هذا الذي يرزقكم الخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى أم متصلة ومن استفهامية وجعل في الثانية أم منقطعة ومن موصولة وهذا الذي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين وحديث لزوم اجتماع الإستفهامين في بعض الصور ودخول الإستفهام على الإستفهام قيل عليه أنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الإستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أم هل تستوي الظلمات وأم ماذا كنتم (29/18)
تعملون ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الإستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والإستفهام الإنكاري أو الطلبي والزمخشري قال في الموضعين أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أولم يروا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أم من هذا الذي هو جند متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أم من هذا الذي يرزقكم بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن أم منقطعة والإستفهام تهكم وكذلك لما قيل أأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى ولقد كذب الذين من قبلهم فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز و جل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا وكذلك قوله سبحانه أولم يروا تصوير لقدرته الباهرة وأن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأى العين ثم قال فهذا ما هديت إليه مع الإعتراف بأن الإغتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول أمامنا الشافعي
أحب الصالحين ولست منهم ... انتهى
ولعمري لقد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع
ويعجبني طرف تدر دموعه ... على فضله العالي فلله دره
وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل وقرأ طلحة في الأولى أمن بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة
وقوله تعالى أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغرور وركوبهم متن عشواء العتو والنفور فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي الخ ومن موصولة مبتدأ ويمشي صلته ومكبا حال من الضمير المستتر فيه وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأهدى خبر من ومن الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو وقيل مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت والمكب الساقط على وجهه يقال أكب خر على (29/19)
وجهه وهو من باب الأفعال والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال كبه الله تعالى فأكب وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومرتيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته وأقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته وانزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها وأنسل ريش الطائر ونسلته وقال بعضهم التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في الأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة وحكى ابن الأعرابي كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته أعني مكبا للأشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا وفسر بعضهم السوي بمستوى الجهة قليل الإنحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى على صراط مستقيم يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك العسل أحلى من الخل والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك وقال قتادة نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة وروي أنه قيل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه فقال عليه الصلاة و السلام أن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله
قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة أي القلوب
قليلا ما تشكرون أي تلك النعم كأن تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الإنتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤن الله عز و جل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قليلا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي أن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى
قل هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز و جل
وإليه تحشرون للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك
ويقولون من فرط عتوهم ونفورهم متى هذا الوعد أي الحشر الموعود كما ينبيء عنه قوله تعالى وإليه تحشرون
إن كنتم صادقين يخاطبون به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة و السلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته
قل إنما العلم أي العلم بوقته عند الله عز و جل لا يطلع عليه غيره عز و جل كقوله تعالى قل إنما علمها عند ربي
وإنما أنا نذير مبين أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار
والفاء في قوله تعالى فلما رأوه فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه الخ وهذا (29/20)
نظير قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده إلا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وههنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الإستئناف
وقوله تعالى زلفة حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر وقال الراغب الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين وقيل زلفة لهم واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى ولا زلفة في كلا القولين
سيئت وجوه الذين كفروا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسببها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل المساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي كسر سين سيئت الضم
وقيل توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم
هذا الذي كنتم به توعدون أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكار واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب تدعون بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك الخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
وبالحاصب الحصى وقد رمى صلى الله تعالى عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة و السلام
قل أرأيتم أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه
إن أهلكني الله ومن معي أي من المؤمنين
أو رحمنا أي بالنصرة عليكم
فمن يجير الكافرين من عذاب أليم أي فمن يجيركم من عذاب النار وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأنى لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان وإن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة و السلام ومن معه من المؤمنين وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري ثانيها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك (29/21)
وهذا فيه الأول من حيث أنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من العذاب بإرشاده والسياق أدعى للأول وثالثها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وإن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان وهم مؤمنون فماذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد
قل أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه
هو الرحمن أي الله الرحمن
آمنا به أي فيجيرنا برحمته عز و جل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لا نجار البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الإيمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمنا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام
وحسن التقديم في قوله تعالى وعليه توكلنا لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا نعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد ههنا بحصولها لهم في الدارين لإيمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الإيمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى
وقوله تعالى فستعلمون من هو في ضلال مبين أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في الخ وقرأ الكسائي فسيعلمون بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فمن يجير الكافرين
وقوله سبحانه قل أرأيتم أي أخبروني إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤل باسم الفاعل وأيا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي
فمن يأتيكم بماء معين أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة وأردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى وأنكم إذا لم تعبدوه عز و جل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فمن يأتيكم الخ قال تجيء به الفؤس والمعاول فذهب ماء عينيه نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه
سورة القلم
هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقرأ باسم ربك ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثنى منها إنا بلوناهم إلى يعملون ومن فاصبر إلى الصالحين فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به وقال الجلال السيوطي في ذلك إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال (29/22)
سبحانه هنا وهم نائمون فأصبحت كالصريم وقال جل وعلا هناك إن أصبح ماؤكم غورا إشارة إلى أنه يسري عليه في ليلة كما أسري على الثمر في ليلة انتهى ولا يخلو عن حسن وقال أبو حيان فيه أنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع وأنه عز و جل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة و السلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلقه فقال عز من قائل
بسم الله الرحمن الرحيم ن بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو والقلم بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقريء بكسر النون وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وإن كان ذلك نصبا بإضمار اذكر ونحوه لا فتحا وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف قالوا وفي قوله تعالى والقلم للقسم وإن جعل مقسما به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف إن ن من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف وقالوا يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علما لأعرب منونا أو ممنوعا من الصرف ولكتب كما يتلفظ به وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء والحاكم وصححه وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ثم قرأ ن والقلم الخ وروي ذلك عن مجاهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الإستعمال المعتد به وقال ابن عطية يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظه أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين وأل فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضا لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم وعن معاوية بن قرة يرفعه أن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة وعن جعفر الصادق أنه نهر من أنهار الجنة وفي البحر لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسما من أسماء الحروف وكأنه إن كان مطلعا على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روي أولا عن ابن عباس ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الأعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة رواية عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الإختلاف فيما روي عنه في تعيين المراد به حتى أنه روي عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن وإن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفى أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف باذنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت (29/23)
عن الزمخشري لغة لم تثبت والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات وأنى به وذكر صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز و جل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه
والضمير في قوله سبحانه وما يسطرون أي يكتبون أما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم
ما أنت بنعمة ربك بمجنون جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير في الخبر والعامل فيها معنى النفي والمعنى انتفى عنك الجنون في حال كونك ملتبسا بنعمة ربك منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأي والنبوة والشهامة واختاره ناصر الدين وقريب منه جعل الباء للسببية والجار والمجرور متعلقا بالنفي كالظرف اللغو كأنه قيل انتفى عنك الجنون بسبب نعمة ربك عليك وجوز أن تكون الباء للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وهل المراد إلا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة و السلام في جميع الأوقات وهو المراد وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلى الله تعالى عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الإلتباس المذكور وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلى الله تعالى عليه وسلم بالنعمة ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الإنتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا وقيل إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى
ظهور نار القرى ليلا على علم ...
ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل وجوز كون بنعمة ربك قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب (29/24)
أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها والمراد تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلى الله عليه و سلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون
وإن لك بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة
لأجرا لثوابا عظيما لا يقادر قدره
غير ممنون أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز و جل أكرم الأكرمين ومن شيمة الأكارم أن لا يمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال
سأشكر عمرا أن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وإنك لعلى خلق عظيم لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجه والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق نبي الله كان القرآن وأرادت بذلك على ما قيل أن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة و السلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كذلك لنثبت به فؤادك وربما يرجع إلى هذا قولها كما في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة و السلام فقالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز و جل بقوله سبحانه عظيم وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون وأنه كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون
فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخييل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد وأيد الإعتراض بأن قوله تعالى فستبصر ويبصرون خطاب له عليه الصلاة و السلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الإختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء ويؤيده قراءه ابن أبي عبلة في أيكم وأيا ما كان فالظاهر أن بأيكم المفتون معمول لما قبله على سبيل التنازع والمراد فستعلم (29/25)
ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فستبصر ويبصرون في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك مهيبا معظما في قلوب العالمين وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني أن الكلام قد تم عند قوله تعالى ويبصرون ثم استأنف قوله سبحانه بأيكم المفتون على أنه استفهام يراد الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهما وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد أي هو سبحانه أعلم بمن ضل عن سبيله المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وهو عز و جل أعلم بالمهتدين إلى سبيله الفائزين بكل مطلوب الناجين عن كل محذور وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب وفي الكشاف أن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بأيكم المفتون لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هو أعلم بالمجنون وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الإعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بمن ضل أقيم مقام بهم وبالمهتدين أقيم مقام بكم ولعل ماعتبرناه أملا بالفائدة وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء
والفاء في قوله تعالى فلا تطع المكذبين لترتيب النهي على ما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله تعالى عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة وينبيء عنه قوله تعالى ودوا لو تدهن لأنه تعليل للنهي أو للإنتهاء وإنما عبر عنها بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور
فيدهنون أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طمعا في إدهانك فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولو فيه غير مصدرية وعلى الثاني هي مصدرية والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تدهن على أنه داخل معه في حيز لو متمني مثله والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب إدهانك وما تقدم أبعد على القيل والقال وأيا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الإدهان الذي هو إظهار الملاينة وإضمار خلافها وأما في جانبه عليه الصلاة و السلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط وأما إضمار خلافها فليس في حيز الإعتبار بل هم في غاية الكراهة له وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة و السلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون فيدهنوا بدون نون الرفع فقيل هو منصوب في جواب التمني المفهوم من ودوا وقيل إنه عطف على تدهن بناء على أن لو بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا (29/26)
كأنه قيل ودوا أن تدهن فيدهنوا ولعل هذا مراد من قال أنه عطف على توهم أن وجمهور النحاة على أن لو على حقيقتها وجوابها محذوف وكذا مفعول ودوا أي ودوا إدهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك
ولا تطع كل حلاف كثيرا الحلف في الحق والباطل وكفى بهذا مزجرة لمن اعتاد الحلف لأنه جعل فاتحة المثاب وأساس الباقي وهو يدل على عدم استشعار عظمة الله عز و جل وهو أم كل شر عقدا وعملا وذكر بعضهم أن كثرة الحلف مذمومة ولو في الحق لما فيها من الجرأة على اسمه جل شأنه وهذا النهي للتهييج والإلهاب أيضا أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف
مهين حقير الرأي والتدبير وقال الرماني المهين الوضيع لإكثاره من القبيح من المهانة وهي القلة وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال هو المكثار في الشر وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه الكذاب
هماز عياب طعان قال أبو حيان هو من الهمز وأصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا ونحوها ثم استعير للذي ينال بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته
مشاء بنميم نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم فإن النميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد وقيل النميم جمع نميمة يريدون به الجنس وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة ومنه أسكت الله تعالى نامته أي ما ينم عليه من حركته
مناع للخير أي بخيل ممسك من منع معروفه عنه إذا أمسكه فاللام للتقوية والخير على ما قيل المال أو مناع الناس الخير وهو الإسلام من منعت زيدا من الكفر إذا حملته على الكف فذكر الممنوع منه كأنه قيل مناع من الخير دون الممنوع وهو الناس عكس وجه الأول والتعميم هنالك وعدم ذكر الممنوع منه أوقع
معتد مجاوز في الظلم حده
أثيم كثير الآثام وهي الأفعال البطيئة عن الثواب والمراد بها المعاصي والذنوب
عتل قال ابن عباس الشديد الفاتك وقال الكلبي الشديد الخصومة بالباطل وقال معمر وقتادة الفاحش اللئيم وقيل هو الذي يعتل الناس أي يجرهم إلى حبس أو عذاب بعنف وغلظة ويقال عتنه بالنون كما يقال عتله باللام كما قال ابن السكيت وقرأ الحسن عتل بالرفع على الذم
بعد ذلك أي المذكور من مثالبه وقبائحه وبعد هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبي فتدل على أن ما بعد أعظم في القباحة وفي الكشف أشعر كلام الزمخشري أنه متعلق بعتل فلزم تباينه من الصفات السابقة وتباين ما بعده أيضا لأنه في سلكه
زنيم دعي ملحق بقوم ليس منهم كما قال ابن عباس والمراد به ولد الزنا كما جاء بهذا اللفظ عنه رضي الله تعالى عنه وأنشد لحسان
زنيم تداعته الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وكذا جاء عن عكرمة وأنشد
زنيم يعرف من أبوه ... بغي الأم ذو حسب لئيم
من الزمنة بفتحات وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز والفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة وإنما كان هذا أشد المعايب لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشيء منها ومن ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم فرخ الزنا أي ولده لا يدخل الجنة فهو محمول على الغالب فإنه في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه أصلا فلا يعمل عملا يدخل به الجنة وقال بعض الأجلة هذا خارج مخرج التهديد والتعريض بالزاني وحمل على أنه لا يدخل الجنة مع السابقين لحديث الدارمي عن عبد الله بن عمر مرفوعا لا يدخل الجنة عاق ولا ولد زنية ولا منان ولا مدمن خمر فإنه سلك في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر ولا ارتياب أنهم عند أهل السنة ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا وقيل المراد أنه لا يدخل الجنة بعمل أبويه إذا مات صغيرا بل يدخلها بمحض فضل الله تعالى (29/27)
ورحمته سبحانه كأطفال الكفار عند الجمهور وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة الزنمة وفي رواية ابن أبي حاتم عنه هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء والمآل واحد وعنه أيضا أنه المعروف بالأبنة ولا يخفى أن المأبون معدن الشرور بل من لم يصل في ذلك الأمر الشنيع إلى تلك المرتبة كذلك في الأغلب ولا حاجة إلى كثرة الإستشهاد في هذا الباب وفي قول الشاعر الإكتفاء وهو
ولكم بذلت لك المودة ناصحا ... فغدوت تسلك في الطريق الأعوج
ولكم رجوتك للجميل وفعله ... يوما فناداني النهى لا ترتج
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال نزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تطع كل حلاف الخ فلم يعرف حتى نزل عليه الصلاة و السلام بعد ذلك زنيم فعرفناه له زنمة في عنقه كزمة الشاة واستشكل هذا بأن الزنيم عليه ليس صفة ذم فضلا عن كونه أعظم فيه من الصفات التي قبل ذلك على ما يفيده بعد ذلك ولا يكاد يحسن تعليل النهي به على أن من المعلوم أن ليس المراد بالموصوف بهذه الصفات شخصا بعينه لمكان كل ويحمل ما جاء في الروايات من أنه الوليد بن المغيرة المخزومي وكان دعيا في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده أو الحكم طريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو الأخنس بن شريق وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة أو الأسود ابن عبد يغوث أو أبو جهل على بيان سبب النزول وقيل في ذلك أن المراد ذمه بقبح الخلق بعد ذمه بما تقدم وهو كما ترى فتأمل فلعلك تظفر بما يريح البال ويزيح الإشكال
وقوله تعالى أن كان ذا مال وبنين بتقدير لام التعليل وهو متعلق بقوله سبحانه لا تطع أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا متقويا بالبنين
وقوله سبحانه إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين استئناف جار مجرى التعليل للنهي وجوز أن يكون لأن متعلقا بنحو كذب ويدل عليه الجملة الشرطية ويقدر مقدما دفعا لتوهم الحصر كأنه قيل كذب لأن كان الخ والمراد أنه بطر نعمة الله تعالى ولم يعرف حقها ولم يجوز تعلقه بقال المذكور بعد لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولعل من يقول بإطراد التوسع في الظرف يجوز ذلك وكذا من يجعل إذا هنا ظرفية وقال أبو علي الفارسي يجوز تعلقه بعتل وإن كان قد وصف وتعقبه أبو حيان بأنه قول كوفي ولا يجوز ذلك عند البصريين وقيل متعلق بزنيم ويحسن ذلك إذا فسر بقبيح الأفعال وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وأبو بكر وحمزة وابن عامر أأن كان على الإستفهام وحقق الهمزتين حمزة وسهل الثانية باقيهم على ما في البحر وقال بعض قرأ أبو بكر وحمزة بهمزتين وابن عامر بهمزة ومدة والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال أو أطيعه لأن كان الخ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه أن كان بالكسر على أن شرط الغني في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد بمعنى النهي في غير ذلك يعلم بالطريق الأولى فيثبت بدلالة النص والشرط والعلة في مثله مما لا مفهوم له أو على أن الشرط للمخاطب وحاصل المعنى لا تطع كل حلاف الخ شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة وفيه تنزيل المخاطب منزلة من شرط ذلك وحققه زيادة للإلهاب والثبات وتعريضا بمن يحسب الغنى مكرمة والظاهر أن الجملة الشرطية بعد استئناف وقيل هذا مما اجتمع فيه شرطان وليسا من الشروط المترتبة الوقوع فالمتأخر لفظا هو المتقدم والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني فهو كقوله
فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لالعا
وقرأ الحسن أئذا على الإستفهام وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله أساطير الأولين
سنسمه سنجعل له سمة وعلامة على الخرطوم أي على الأنف وهو من باب إطلاق مشفر على شفة غليظة لإنسان كما سنشير إليه (29/28)
إن شاء الله تعالى وعبر بذلك عن غاية الإذلال لأن السمة على الوجه شين حتى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه في الحيوانات ولعن فاعله فكيف على أكرم موضع منه وهو الأنف لتقدمه وقد قيل الجمال في الأنف وعليه قول بعض الأدباء
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وجعلوه مكان العزة والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه ومنه قول جرير
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي لفظ الخرطوم استهانة لأنه لا يستعمل إلا في الفيل والخنزير ففي التعبير عن الأنف بهذا الاسم ترشيح لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإذلال والمراد سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إليه جمع إلا أنهم قالوا المعنى سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والإشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا كما تقول سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بينا فيك وزاد ذلك حسنا ذكر الخرطوم انتهى وبينه وبين ما تقدم فرق لا يخفى وقال بعض هو في الآخرة ومن القائلين بأن هذا وعيد بأمر يكون فيها من قال هو تعذيب بنار على أنفه في جهنم وحكي ذلك عن المبرد وقال آخرون منهم يوسم يوم القيامة على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره وقال أبو العالية ومقاتل واختاره الفراء المراد يسود وجهه يوم القيامة قبل دخول النار وذكر الخرطوم والمراد الوجه مجازا ومن القائلين بأنه يكون في الدنيا من قال هو وعيد بما أصابه يوم بدر فإنه خطم فيه بالسيف فبقيت سمة على خرطومه وروي هذا عن ابن عباس والمعروف في كتب السير والأحاديث أن أبا جهل قتل يوم بدر والباقين ما عدا الحكم ماتوا قبله فلم يسم أحد منهم بذلك الوسم وكذا الحكم لم يعلم أنه وسم بذلك وإن كان لم يمت قبل وعن النضر بن شميل أن الخرطوم الخمر وأنشد
تظل يومك في لهو وفي لعب ... وأنت يا لليل شراب الخراطيم
وأن المعنى سنحده على شربها وتعقب بأنه تنفيه الرواية بأن أولئك الكفرة هلكوا قبل تحريم الخمر ما عدا الحكم وهو لم يثبت أنه حد على أنهم لم يكونوا ملتزمي الأحكام والدراية أيضا لتعقيد اللفظ وفوات فخامة المعنى
إنا بلوناهم أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف
كما بلونا أي مثل ما بلونا فالكاف في محل نصب مصدر مقدر وما مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه
أصحاب الجنة المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال بنوه إن كان أبونا لأحمق حين يطعم المساكين فأقسموا على أن لا يطعموا منها مسكينا وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال كانت لشيخ من بني إسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح (29/29)
خفية عن المساكين كما قال عز و جل إذ أقسموا معمول لبلونا
ليصرمنها ليقطعن من ثمارها بعد استوائها
مصبحين داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصرمنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله
ولا يستثنون قيل أي ولا يقولون إن شاء الله تعالى وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث أن مؤداه مؤدى الإستثناء فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد وقال الإمام أصل الإستثناء من الثني وهو الكف والرد في التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فإطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا يثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أقسموا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الإستثناء وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى ليصر منها ومقسم عليه أو على قوله سبحانه مصبحين الحال وهو معنى لا غبار عليه
فطاف عليها أي أحاط نازلا على الجنة
طائف أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف وقول قتادة طائف أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي طيف
من ربك مبتديء من جهته عز و جل
وهم نائمون في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق
فأصبحت كالصريم كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة وعنه أيضا الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة الصريم الليل والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه
فتنادوا نادى بعضهم بعضا
مصبحين لقسمهم السابق
أن اغدوا أي اخرجوا على أن أن تفسيرية واغدوا بمعنى اخرجوا أو بأن اغدوا على أن أن مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح
على حرثكم أي بستانكم
إن كنتم صارمين أي قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا وقيل يحتمل أن يكون المراد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك وظاهر كلام جار الله أن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدي ههنا بعلى لتضمين الغد ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والإستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع (29/30)
ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الإستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي أن غدا يتعدى بعلى كما في قوله
وقد غدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
وكذا بكر مرادفه كما في قوله
بكرت عليهم غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصريم عواذله
فانطلقوا وهم يتخافتون أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة وخفي بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقي ولدها قبل أن يستبين خلقه
أن لا يدخلها اليوم أي الجنة عليكم مسكين إن مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يتخافتون لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله وأيا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك ههنا
وغدوا على حرد أي منع كما قال أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الإبل إذا قلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى قادرين قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم ونكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلا على المنع والحرمان وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان قادرين على الإنتفاع والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم وجوز أن يكون على حرد متعلقا بغدوا والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادرين من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قريء بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد
إذا جياد الخيل جاءت تردى ... مملوءة من غضب وحرد
أي لم يقدروا إلا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وروي هذا عن سفيان والسدي والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس فعلى حرد ظرف مستقر حال من ضمير غدوا وقادرين حال أيضا إلا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت وقال الأزهري حرد اسم قريتهم وفي رواية عن السدي اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الإنفراد يقال حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما (29/31)
كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة
فلما رأوها أول ما وقع نظرهم عليها
قالوا إنا لضالون طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة وقيل لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك
بل نحن محرومون قالوه بعدما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بل نحن محرومون حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا
قال أوسطهم أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا
ألم أقل لكم لولا تسبحون أي لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم
ويدل على هذا المعنى قوله تعالى قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين لأن التسبيح ذكر لله تعالى وإنا كنا الخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة وقيل المراد بالتسبيح الإستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز و جل لأن الإستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تسثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح أنهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز و جل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفي أن يكون له فتاوي واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الإستثناء أن المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى وقيل المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع
قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين متجاوزين حدود الله تعالى
عسى ربنا أن يبدلنا أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والإعتراف بالخطيئة
خيرا منها أي من تلك الجنة
إنا إلى ربنا لا إلى غيره سبحانه راغبون راجون العفو طالبون الخير وإلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد أنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز و جل وتضرعوا إليه سبحانه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني رأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا وحكى عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون أنهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال لا أدري أكان قولهم إنا إلى ربنا راغبون إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة وسئل قتادة عنهم أهم من (29/32)
أهل الجنة أم من أهل النار فقال للسائل لقد كلفتني تعبا وقرأ نافع وأبو عمرو يبدلنا مشددا
كذلك العذاب جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وأل للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز و جل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤل حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه إن خبثت النية والزوي عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار
وقوله تعالى ولعذاب الآخرة أكبر أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ
وقوله سبحانه لو كانوا يعلمون نعي عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم
إن للمتقين أي من الكفر كما في البحر أو منه ومن المعاصي كما في الإرشاد
عند ربهم أي في الآخرة فإنها مختصة به عز و جل إذ لا يتصرف فيها غيره جل جلاله أو في جوار قدسه
جنات النعيم جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النعيم لإفادتها التمييز من جنات الدنيا والتعريض بأن جنات الدنيا لغالب عليها النغص
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار
وقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلون وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الإلتفات لتأكيد الرد وتشديده
ما لكم كيف تحكمون تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى ما لكم أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي
أم لكم كتاب نازل من السماء
فيه أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى تدرسون أي تقرؤن فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتدرسون مستأنف أو حال من ضمير الخطاب
وقوله تعالى إن لكم فيه لما تخيرون أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول تدرسون إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة أن وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل أنه لا بد من تضمين تدرسون معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فيه على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أن الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فيه لا يساعده للإستغناء بفيه أو لا من غير حاجة إلى جعل ضمير فيه ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى عند ربهم وعلى الإستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تدرسون على أن قوله تعالى أن لكم الخ استئناف على معنى أن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى والظاهر أن أم لكم الخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب (29/33)
فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك أن لكم بفتح الهمزة واللام في لما زائدة كقراءة من قرأ ألا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج آن لكم بالإستفهام على الإستئناف
أم لكم أيمان علينا أي أقسام وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم
بالغة أي أقصى ما يمكن والمراد متناهية في التوكيد وقرأ الحسن وزيد بن علي بالغة بالنصب على الحال من الضمير المستتر في علينا أو لكم وقال ابن عطية من إيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد
إلى يوم القيامة متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو متعلق ببالغة أي إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل
وقوله تعالى إن لكم لما تحكمون جواب القسم لأن معنى أم لكم أيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الإيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج آن لكم بالإستفهام أيضا
سلهم تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم
أيهم بذلك الحكم الخارجي عن دائرة العقول
زعيم قائم يتصدى لتصحيحه والجملة الإستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الإستفهام وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله
أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم
فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين في دعواهم إذ لا أقل من التقليد وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى ما لكم كيف تحكمون وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه أم لكم كتاب الخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه أم لكم إيمان علينا الخ وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز و جل أم لهم شركاء وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة فليأتوا بشركهم والمراد به ما أريد بشركائهم
يوم يكشف عن ساق متعلق بقوله تعالى فليأتوا على الوجهين ويجوز تعلقه بمقدر كاذكر أو يكون كيت وكيت وقيل بخاشعة وقيل بترهقهم وأيا ما كان فالمراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة والساق ما فوق القدم وكشفها والتشمير عنها مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب حتى أنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه كما في قول حاتم
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول الراجز
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طواء الخيل عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلا إذا عظم الخطب واشتد الأمر فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة وقد روي أيضا عن ابن عباس أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في (29/34)
الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر
صبرا عناق أنه شر باق ...
قد سن لي قومك ضرب الأعناق ...
وقامت الحرب بنا على ساق ...
والروايات عنه رضي الله تعالى عنه بهذا المعنى كثيرة وقيل ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان والمراد يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وإليه يشير كلام الربيع بن أنس فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال في ذلك يوم يكشف الغطاء وكذا ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس أيضا قال حين يكشف الأمر وتبدوا الأعمال وفي الساق على هذا المعنى استعارة تصريحية وفي الكشف تجوز آخر أو هو ترشيح للإستعارة باق على حقيقته وتنكير ساق قيل للتهويل على الأول وللتعظيم على الثاني وقيل لا ينظر إلى شيء منهما على الأول لأن الكلام عليه تمثيل وهو لا ينظر فيه للمفردات أصلا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالساق ساقه سبحانه وتعالى وإن الآية من المتشابه واستدل على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا وأنكر ذلك سعيد بن جبير أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن الآية فغضب غضبا شديدا وقال إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه وإنما يكشف عن الأمر الشديد وعليه يحمل ما في الحديث على الأمر الشديد أيضا وإضافته إليه عز و جل لتهويل أمره وأنه أمر لا يقدر عليه سواه عز و جل وأرباب الباطن من الصوفية يقولون بالظاهر ويدعون أن ذلك عند التجلي الصوري وعليه حملوا أيضا ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه ابن مردويه وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناد يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك عدلا من ربكم قالوا بلى قال فلينطق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ويمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام شيطان عيسى وكذا يمثل لمن كان يعبد عزيرا حتى تمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز و جل فيقال لهم ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس فيقولون إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول فيم تعرفون ربكم إن رأيتموه قالوا بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه قال وما هي قالوا يكشف عن ساق فيكشف عند ذلك الحديث وهو ونظائره من المتشابه عند السلف وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة يكشف بفتح الياء مبينا الفاعل وهي رواية عن ابن عباس وقرأ ابن هرمز نكشف بالنون وقريء يكشف بالياء التحتية مضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه أكشف الرجل فهو مكشف انقلبت شفته العليا وقريء تكشف بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ضمير الساعة المعلومة من ذكر يوم القيامة أو الحال المعلومة من دلالة الحال وبها والبناء للمفعول وجعل الضمير للساعة أو الحال أيضا وتعقب بأنه يكون الأصل حينئذ يكشف الله الساعة عن ساقها مثلا ولو قيل ذلك لم يستقم لاستدعائه إبداء الساق وإذهاب الساعة كما تقول كشفت عن وجهها القناع والساعة ليست سترا على الساق حتى تكشف وأجيب أنها جعلت سترا مبالغة لأن المخدرة تبالغ في الستر جهدها فكأنها نفس الستر فقيل تكشف الساعة وهذا كما تقول كشف زيدا عن جهله إذا بالغت في إظهار جهله لأنه كان سترا على جهله يستر معايبه فأبنته وأظهرته إظهارا لم يخف على أحد `وقيل عليه أن الإذهاب حينئذ إدعائي (29/35)
ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا عبرة بما ذكر من المثال المصنوع وأقل تكلفا منه جعل عن ساق بدل اشتمال من الضمير المستتر في الفعل بعد نزع الخافض منه والأصل يكشف عنها أي عن الساعة أو الحال فنزع الخافض واستتر الضمير وتعقب بأن إبدال الجار والمجرور من الضمير المرفوع لا يصح بحسب قواعد العربية فهو ضغث على إبالة وتكلف على تكلف وقيل إن عن ساق نائب الفاعل وتعقب بأن حق الفعل التذكير كصرف عن هند ومر بدعد
ويدعون إلى السجود توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك
فلا يستطيعون لزوال القدرة عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدونه فلا يتأتى منهم وعن ابن مسعود تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وتقدم في حديث البخاري ومن معه ما سمعت وفي حديث تصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا والظاهر أن الداعي الله تعالى أو الملك وقيل هو ما يرونه من سجود المؤمنين واستدل أبو مسلم بهذه الآية على أن يوم الكشف في الدنيا قال لأنه تعالى قال ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف فيراد منه إما آخر أيام الشخص في دنياه حين يرى الملائكة وإما وقت المرض والهرم والمعجزة ويدفع بما أشرنا إليه
خاشعة أبصارهم حال من مرفوع يدعون على أن أبصارهم مرتفع به على الفاعلية ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها
ترهقهم تلحقهم وتغشاهم
ذلة شديدة
وقد كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير أو لأن المراد به الصلوات المكتوبة كما قال النخعي والشعبي أو جميع الطاعات كما قيل والدعوة دعوة التكليف وقال ابن عباس وابن جبير كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة فلا يجيبون
وهم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وترك ذكر هذا ثقة بظهوره
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث أي إذا كان حالهم ما سمعت فكل من يكذب بالقرآن إلي واستكفنيه فإن في ما يفرغ بالك ويخلى همك وهو من بليغ الكلام يفيد أن المتكلم واثق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما يدور حول أمنية المخاطب وبما يزيد عليه وقد حققه جار الله بما حاصله أن من استكفى أحدا ترك الأمر إليه وإلا كان استعانة لا استكفاء فأقيم الرادف أعني التخلية وإن يذره وإياه مقام الإستكفاء مبالغة وأنباء عن الكفاية البالغة كيف وهذا الكافي طلب الإستكفاء بقوله ذرني وأبرز ترك الإستكفاء في صورة المنع مبالغة على مبالغة فلو لم يكن شديد الوثوق بتمكنه من الوفاء أقصى التمكن وفوق ما يحوم حول خاطر المستكفي لما كان للطلب على هذا الوجه الأبلغ وجه ومن في موضع نصب إما عطفا على المنصوب في ذرني أو على أنه مفعول معه
وقوله تعالى سنستدرجهم استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يكذب باعتبار لفظها أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة
من حيث لا يعلمون أنه استدراج بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم
وأملي لهم وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم
إن كيدي متين لا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا وهو ضرب من الإحتيال لكونه في صورته حيث أنه سبحانه يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ومراده عز و جل به الضرر لما علم من خبث جبلتهم وتماديهم في الكفر والكفران
أم تسئلهم على الإبلاغ والإرشاد
أجرا دنيويا
فهم لأجل ذلك
من مغرم أي غرامة مالية
مثقلون مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك وهذه الجملة على ما قاله (29/36)
ابن الشيخ معطوفة على قوله تعالى أم لهم شركاء
أم عندهم الغيب أي المغيبات أو للوح وأطلق الغيب عليه مجازا لأنه محل لكتابة المغيبات أو لظهور صورها بناء على الخلاف المعروف فيه والقرينة
فهم يكتبون ما يحكمون به ويستغنون بذلك من علمك
فاصبر لحكم ربك وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض عليه الصلاة و السلام نفسه على القبائل بمكة فنزلت وقيل أراد عليه الصلاة و السلام أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت وعليه تكون الآية مدنية
ولا تكن كصاحب الحوت هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلا أنه فرق بين ذي وصاحب بأن أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام وذا النون والنهي عن اتباعه ولا تكن كصاحب الحوت إذ النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت ونقل مثل ذلك السرميني عن العلامة السهيلي وفرق بعضهم بغير ذلك مما هو مذكور في حواشينا على رسالة ابن عصام في علم البيان
إذ نادى في بطن الحوت
وهو مكظوم أي مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وهو من كظم السقاء إذا ملأه ومن استعماله بهذا المعنى قول ذي الرمة
وأنت من حب مي مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه أمر مستحسن ولذا لم يذكر المنادى وإذ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلى بنحو بلائه عليه السلام
لولا أن تداركه نعمة من ربه وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وقريء رحمة وتذكير الفعل على القراءتين لأن الفاعل مؤنث مجازي مع الفصل بالضمير وقرأ عبد الله وابن عباس تداركته بتاء التأنيث وقرأ ابن هرمز والحسن والأعمش تداركه بتشديد الدال وأصله تتداركه فأبدل التاء دالا وأدغمت الدال في الدال والمراد حكاية الحال الماضية على معنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه
لنبذ بالعراء بالأرض الخالية من الأشجار أي في الدنيا وقيل بعراء القيامة لقوله تعالى فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ولا يخفى بعده
وهو مذموم في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لولا لأن المقصود امتناع نبذه مذموما وإلا فقد حصل النبذ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم والغرض أن حالة النبذ والإنتهاء كانت مخالفة لحالة إلا لأمة والإبتداء لقوله سبحانه فالتقمه الحوت وهو مليم وفي الإرشاد أن الجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة
وقوله سبحانه فاجتباه ربه عطف على مقدر أي فتداركته نعمة من ربه فاجتباه أي اصطفاه بأن رد عز و جل إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة وإنما كان رسولا لبعض المرسلين في أرض الشام
فجعله من الصالحين من الكاملين في الصلاح بأن عصمه سبحانه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى وظاهر كلام بعضهم أن الجعل من الصالحين تفسير للإجتباء قيل وفسر الصالحين بالأنبياء وهو مبني على أنه لم يكن قبل الواقعة نبيا واستدل بالآية على خلق الأفعال لأنه جعله صالحا بجعل صلاحه وخلقه فيه وهو من جملة الأفعال ولا قائل بالفرق والمعتزلة يؤولون ذلك تارة بالأخبار بصلاحه وأخرى باللطف به حتى صلح على أنه يحتمل أن يراد بالصالحين الأنبياء كما قيل فلا تفيد الآية أكثر من كون النبوة مجعولة وهو مما اتفق (29/37)
عليه الفريقان فتدبر
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم إن هي المخففة واللام دليلها لأنها لا تدخل بعد النافية ولذا تسمى الفارقة على عرف عند النحاة والمعنى أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرموك من قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله وجعل مبالغة في عداوتهم حتى كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فعاد يعمل الجوارح وأنشدوا قول الشاعر
يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطيء الأقدام
أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وقال الكلبي كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتهلك فاقترح الكفار منه أن يصيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأجابهم وأنشد
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال إنك سيد معيون
فعصم الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأنزل عليه هذه الآية وقد قيل أن قراءتها تدفع ضرر العين وروي ذلك عن الحسن وفي كتاب الأحكام أنها أصل في أن العين حق والأولى الإستدلال على ذلك بما ورد وصح من عدة طرق أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وبما أخرجه أحمد بسند رجاله كما قال الهيثمي ثقات عن أبي ذر مرفوعا أن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة وذلك من خصائص بعض النفوس ولله تعالى أن يخص ما شاء منها بما شاء وإضافته إلى العين باعتبار أن النفس تؤثر بواسطتها غالبا وقد يكون التأثير بلا واسطتها بأن يوصف للعائن شيء فتتوجه إليه نفسه فتفسده ومن قال أن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما شاء عند مقابلة عين العائن من غير تأثير أصلا فقد سد على نفسه باب العلل والتأثيرات والأسباب والمسببات وخالف جميع العقلاء قاله ابن القيم وقال بعض أصحاب الطبائع أنه ينبعث من العين قوة سمية تؤثر فيها نظره كما فصل في شرح مسلم وهذا لا يتم عندي فيما لم يره ولا في نحو ما تضمنه حديث أبي ذر المتقدم آنفا ولا في إصابة الإنسان عين نفسه كما حكاه المناوي فإنه لا يقتل الصل سمه ومن ذلك ما حكاه الغساني قال نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا وكان أبو بكر صديقا وكان عمر فاروقا وعثمان حييا ومعاوية حليما ويزيد صبورا وعبد الملك سائسا والوليد جبارا وأنا الملك الشاب وأنا الملك الشاب فما دار عليه الشهر حتى مات ومثل ذلك ما قيل أنه من باب التأثير في القوة المعروفة اليوم بالقوة الكهربائية عند الطباعيين المحدثين فقد صح أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فوقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه وربما يقف وراءه جاعلا أصابعه حذاء نقرة رأسه ويوجه نفسه إليه حتى تضعف قواه فيغشاه نحو النوم ويتكلم إذ ذاك بما لا يتكلم به في وقت آخر وأنا لا أزيد على القول بأنه من تأثيرات النفوس ولا أكيف ذلك فالنفس الإنسانية من أعجب مخلوقات الله عز و جل وكم طوى فيه أسرارا وعجائب تتحير فيها العقول ولا ينكرها إلا مجنون أو جهول ولا يسعني أن أنكر العين لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأعصار ولا أخص ذلك بالنفوس الخبيثة كما قيل فقد يكون من النفوس الزكية والمشهور أن الإصابة لا تكون مع كراهة الشيء وبغضه وإنما تكون مع استحسانه وإلى ذلك ذهب القشيري وكأنه يشير بذلك إلى الطعن في صحة الرواية ههنا لأن الكفار كانوا يبغضونه عليه الصلاة و السلام فلا تتأتى لهم إصابته بالعين وفيه (29/38)
نظر وحكم العائن على ما قال القاضي عياض أن يجتنب وينبغي للإمام حبسه ومنعه عن مخالطة الناس كفا لضرره ما أمكن ويرزقه حينئذ من بيت المال هذا وقرأ نافع ليزلقونك بفتح الياء من زلقة بمعنى أزلقه وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى ليزهقونك بالهاء بدل اللام أي ليهلكونك
لما سمعوا الذكر أي وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه ولما كما أشرنا إليه ظرفية متعلقة بيزلقونك ومن قال أنها حرف وجوب لوجوب ذهب إلى أن جوابها محذوف لدلالة ما قبل عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك
ويقولون لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة و السلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس عنه
إنه لمجنون وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلى الله تعالى عليه وسلم رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه
فقيل وما هو إلا ذكر للعالمين على أنه حال من فاعل يقولون والرابط الواو فقط أو مع عموم العالمين كما قيل مفيد لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرا ومحيط بجميع حقائقه خيرا مما قالوه وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وأنه لذكر لك ولقومك وعموم العالمين لما فيه من الإعتناء بما ينفعهم وقيل الضمير لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه ورجح بأن الجملة عليه تكون صريحة في رد دعواهم الباطلة وأنت تعلم أن الأول أولى والله تعالى أعلم
سورة الحاقة
مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر فقال وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون قلت كاهن فقال لا ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز و جل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة و السلام فقال عز من قائل
بسم الله الرحمن الرحيم الحاقة أي الساعة أو الحالة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وإسناد الفعل لها على الوجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولي العلم وفي الكشف كون الإسناد مجازيا إنما هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى وبحث فيه الجلبي بما فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الحاقة القيامة من حاقته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها على جميع ذلك وصف حذف موصوفه للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانه مجرى الاسم وقيل أنها على ما روي عن (29/39)
ابن عباس من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيا ما كان فهي مبتدأ خبرها جملة
ما الحاقة على أن مبتدأ والحاقة خبر أو بالعكس ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه والأصل ما هي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا لأمرها
وقوله تعالى وما أدراك ما الحاقة أي أي شيء أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الإستفهام كني به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الإبتداء وإدراك خبره ولا مساغ ههنا للعكس وما الحاقة جملة محلها النصب على إسقاط الخافض لا أن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم به فلما وقعت جملة الإستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم والجملة أعني ما أدراك الخ معطوفة على ما قبلها من الجملة الصغرى
كذبت ثمود وعاد بالقارعة بالقيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالإنشقاق والإنفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والإنكدار ووضعها موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء بشيء فيها تشديدا لهولها والجملة استئناف مسوق لبيان بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة و السلام أثر تقرير أنه ما أدراه صلى الله تعالى عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من يكذب بها كأنه قيل وما أدراك ما الحاقة كذبت بها ثمود وعاد فأهلكوا
فأما ثمود فأهلكوا أي أهلكهم الله تعالى وقرأ زيد بن علي فهلكوا بالبناء للفاعل
بالطاغية أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله تعالى في هود وأخذ الذين ظلموا الصيحة وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة أو الرجفة لقوله سبحانه في الأعراف فأخذتهم الرجفة وهي الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروي عن قتادة قال أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة وقال ابن عباس وأبو عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد بقوله تعالى كذبت ثمود بطغواها والمعول عليه الأول لمكان قوله تعالى
وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق فلو قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح على أنه سبب آلى لم يكن طباق إذ جاز أن يكون هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها وبين بريح لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من التأييد لا يخفى حاله وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر فتذكر وهو صفة ريح
وكذا قوله تعالى عاتية أي شديدة العصف أو عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون ومنه يعلم الفرق (29/40)
بين الوجهين وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه قال لم تنزل قطرة إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله تعالى أنا لما طغى الماء ولم ينزل شيء من الريح إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بريح صرصر عاتية عتت على الخزان وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير مأثور وقد حكى ذلك في الكشاف ثم قال ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها وخرج ذلك في الكشف على الإستعارة التمثيلية ثم قال إن المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة جاز أن يقال أنه كناية عنه كما فيما نحن فيه وجوز أن يكون هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة
وقوله تعالى سخرها عليهم الخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الإقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز و جل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتليء ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا وما هي أقوى ويسمى العاصف نحو سبعة عشر فرسخا وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح وقد علموا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى سخرها عليهم سلطها عز و جل بقدرته عليهم
سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها بوصفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الإنحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤمات كما قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول حسوما محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد وقال الراغب الحسم إزالة الشيء أثر الشيء يقال قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحسوما في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل وجوز أن يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الإستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم وأيدت المصدرية بقراءة السدي حسوما بفتح الحاء على أنه حال من الريح (29/41)
أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وإنما سميت أيام العجوز لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفيء الجمر ومطفيء الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال أنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار
فترى القوم أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي
فيها أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر
صرعى أي هلكى جمع صريع
كأنهم أعجاز نخل أي أصول نخل وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قريء نخيل بالياء
خاوية خلت أجوافها بلى وفساد أو قال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر
فذلك قوله تعالى فهل ترى لهم من باقية أي بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الإسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث وقال ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة
وجاء فرعون ومن قبله ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان والنحويان وأبان ومن قبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في جهته وجانبه والمراد ومن عنده من أتباعه وأهل طاعته ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ومن معه
والمؤتفكات أي قرى قوم لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من يتصف بالمجيء وقرأ الحسن هنا والمؤتفكة على الإفراد
بالخاطئة أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم على أن الإسناد مجازي وهو حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلا إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة
فعصوا رسول ربهم أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها عما كانت تتعاطاه من القبائح فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل وأريد منه التكثير لأقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع المقتضي لأنقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة
فأخذهم أي الله عز و جل
أخذة رابية أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد
إنا لما طغا الماء جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا وذلك بسبب إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحي إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة
حملناكم أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد
في الجارية في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة في فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه (29/42)
تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز و جل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه
تسعون جارية في بطن جارية
لنجعلها أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين
لكم تذكرة عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته
وتعيها أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء
أذن واعية أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى وفي الخبر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وإن من هذا شأنه مع قلته بنسيب لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودى كما قال ابن جريج بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه وتعيها بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ بإخفاء الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي وتعيها بإسكان الياء فاحتمل الإستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم الياء وقرأ نافع إذن بإسكان الذال للتخفيف
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها أثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث أنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه واحدة وعن ابن الحاجب أن نفخة لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة على الوحدة اتفاقية غير مقصودة وتعقب بأن هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل الوضع وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم وأيا ما كان فإسناد الفعل إلى نفخة ليس من إسناد الفعل إلى المصدر المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه واحدة وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه مصدرا فقد ذكر الجاربردي في شرح الشافية أن تأنيثه غير معتبر لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحدة صفة مؤكدة وأطلق عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول وقرأ أبو السمال نفخة واحدة بنصبهما على إقامة الجار والمجرور (29/43)
مقام الفاعل
وحملت الأرض والجبال رفعتا من أحيازهما بمجرد القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها رافعة لهما حاملة إياها ليقال أنها ليس فيها حمل وإنما هي إضطراب وقيل يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلا أن في البين مانعا من الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع وكذا يجوز أن يعتبر مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال والأرض ما يوجب التصادم ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا يكاد ينكر وقيل يمكن أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة ورفع الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى وحملت بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا للنقل فيكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد المذكورات
فدكتا دكة واحدة فضربت الجملتان أثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه كثيبا مهيلا وقيل تتفرق أجزاؤها كما قال سبحانه هباء منبثا وفرقوا بين الدك والدق بأن في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها وقال بعض الأجلة أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة المستوية وبعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناماهما واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمراد ههنا فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة وقوله تعالى فدكتا أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا يرجع إلى التسوية كما لا يخفى وحكى في مجمع البيان أنهما إذا دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثني الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه
فيومئذ أي فحينئذ على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو ههنا متسع يقع فيه ما يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان كيت وكيت
وقعت الواقعة أي قامت القيامة وتفسير الواقعة بصخرة بيت المقدس واقع عن درجة القبول
وانشقت السماء تفطرت وتميز وتميز بعضها عن بعض ولعله إشارة إلى ما تضمنه قوله تعالى يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى وفتحت السماء فكانت أبوابا ولا منافاة بينهما وكذا لا منافاة بين كون الإنشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل والمراد بالسماء جنسها وقيل السماوات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة الإنشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ما ليس بصلب أيضا فقد وصف البحر بالإنفلاق
فهي أي السماء
يومئذ واهية ضعيفة من وهي الشيء ضعف وتداعي للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم (29/44)
وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز
خل سبيل من وهي سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
والملك أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان الملك اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه فارجع إن أردت إليه
على أرجائها أي جوانبها جمع رجى بالقصر وهو من ذوات الواو ولذا برزت في التثنية قال الشاعر
كأن لم ترى قبلي أسيرا مقيدا ... ولا رجلا يرمي به الرجوان
والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال أنهما قالا والملك على أرجائها أي على ما لم ينشق منها ولعل ذلك التجاء منهم للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عز و جل أو اجتماع هناك للنزول وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع ابن أنس قال والملك على أرجائها أي الملائكة على شقها ينظرون إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا الإنشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهم يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا إليه وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الإرجاء لحظة ثم يموتون ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى في قوله سبحانه إلا من شاء الله وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى فصعق من في السماوات ومن في الأرض فكيف يقال أنهم يقفون على أرجاء السماء وفي أنوار التنزيل لعل قوله تعالى وانشقت السماء الخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة أثر ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي البحر عن ابن جبير والضحاك أن ضمير أرجائها للأرض وأن بعد ذكرها قالا أنهم ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى بالإعتماد
ويحمل عرش ربك فوقهم أي فوق الملائكة الذين على الإرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤسهم
يومئذ ثمانية والمرجع وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما أخرج الترمذي وأبود داود وابن ماجه عن العباس بن عبد المطلب في حديث وفوق ذلك ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن ووركهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والمراد بالأوعال وفيه ملائكة على صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن لكل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من أن ينظر إلى العرش فيصعق وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صحفا وأخرج عبد بن حميد (29/45)
عن ابن زيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلا إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليهم السلام من جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وأربعةيقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وفي خبر عن وهب بن منبه لهم كلام إلا قولهم قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله عز و جل وأخرج هذا القول ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس وقال الحسن الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم ثمانية أشخاص وأيا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة وإليه ذهب محي الدين قدس سره قال أن لله تعالى ملائكة يحملون العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية لأجل الحمل إلى أرض المحشر وله قدس سره في الباب الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لا سيما على تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عز و جل بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عز و جل بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى
يومئذ تعرضون مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم نفخ في الصور وجعل يومئذ تعرضون بدلا من فيومئذ الخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكره وغيره
وقوله تعالى لا تخفى منكم خافية حال من مرفوع تعرضون أي تعرضون غير خاف عليه عز و جل سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى يوم تبلى السرائر وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم لا يخفى بالياء التحتانية
فأما من أوتي كتابه بيمينه تفصيل لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في الدنيا وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعدد صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة وقيل ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد كتاب وقيل أن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك
فيقول تبجحا وافتخارا
هاؤم اقرؤا كتابيه قال الرضي ها اسم لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحدة والإثنين والجمع مذكرا كان أو مؤنثا الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك هاكما هاكم هاكن الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف الكاف نحوها هاؤما هاؤم هاء هاؤها هاؤن الرابعة أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هأ بهمزة (29/46)
ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع السابعة أن تصرفها تصريف خف ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من قيل له هاء بالفتح الأم إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة الأخيرة أفعال غير متصرفة لا ماضي لها ولا مضارع وليست بأسماء أفعال قال الجوهري هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على ما لم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة نحو ما أخاف وما أخاف انتهى وقال أبو القاسم فيها لغات أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال العرب تقول هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها وهاؤما يا رجلان أو امرأتان وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر ههنا بخذوا وهو متعد بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل المذكور أعني كتابيه وهو مفعول اقرؤا واختير هذا دون العكس لأنه لو كان مفعول هاؤم لقيل اقرؤه إذ الأولى إضمار الضمير إذا أمكن كما هنا وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا يتصل به الضمير وقيل هاؤم بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلا أن كان قد عني أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها وقيل هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط وفي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه صلى الله تعالى عليه وسلم هاؤم بصولة صوته وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه اقرباؤه وأصحابه مثلا ليقرؤا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله هاؤم وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف والإستعمال إلى ما ذكر وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور والهاء في كتابيه وكذا في حسابيه وماليه وسلطانيه وكذا ما هيه في القارعة للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان حركة الموقوف عليه فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراآت مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا قال الزمخشري اتباعا للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال تقليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراآت بتفاصيلها منقولة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر ولم ينقل ذلك في ماهية فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس بشيء فإن ذلك متواتر فوجب قبوله
إني ظننت أني ملاق حسابيه أي علمت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على ان الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك وقيل لما كان الإعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عز و جل ولعل (29/47)
ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر به الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي وقيل يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضى في أفعال القلوب وفيه نظر
فهو في عيشة راضية قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتأمر ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضى وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني
في جنة عالية مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام
قطوفها جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه
ولقوله تعالى دانية أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه وقال بعضهم يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول
كلوا واشربوا بإضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى
هنيئا صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني هنيئا ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور
بما أسلفتم بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة
في الأيام الخالية أي الماضية وهي أيام الدنيا وقيل أي الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام الدنيا أيضا وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية وحمل عليه ما روي عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه الأيام بأيام الصيام وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال بلغني أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية والظاهر أن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر
وأما من أوتي كتابه بشماله (29/48)
فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه لما يرى من قبح العمل وانجلاء الحساب عما يسوءه
يا ليتها أي الموتة التي متها في الدنيا
كانت القاضية أي القاطعة لأمري ولم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى فالضمير للموتة الدال عليها المقام وإن لم يسبق لها ذكر ويجوز أن يكون لما شاهده من الحالة أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لما أنه وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد قيل أشد من الموت ما يتمنى الموت عنده وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا المفهومة من السياق أيضا والمراد بالقاضية الموتة فقد اشتهرت في ذلك أي يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا وبتفسير القاضية بما ذكر اندفع ما قيل أنها تقتضي تجدد أمر ولا تجدد في الإستمرار على العدم نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد
ما أغنى عني ماليه أي ما أغنى عني شيئا الذي كان لي في الدنيا من المال ونحوه كالأتباع على أن ما في ما أغنى نافية وما في ماليه موصولة فاعل أغنى ومفعوله محذوف وليه جار ومجرور في موضع الصلة ويجوز أن يجعل ماليه عبارة عن مال مضاف إلى ياء المتكلم والأول أظهر شمولا للأتباع ونحوها إذ لا يتأتى اعتبار ذلك على الثاني إلا باعتبار اللزوم ويجوز أن تكون ما في ما أغنى استفهامية للإنكار وماليه على احتمالية أي أي شيء أغنى عني مالي
هلك عني سلطانيه أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وبه فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي وأكثر السلف أو ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات يقول ذلك تحسرا وتأسفا وإلى هذا ذهب قتادة مشيرا إلى وجه اختياره دون الثاني أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال أما والله ما كل من دخل النار كان أمير قرية ولكن الله تعالى خلقهم وسلطهم على أبدانهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وبما أشار إليه رجح الأول على الثاني أيضا لكن قيل ما بعد أشد مناسبة له وستطلع إن شاء الله تعالى على ذلك وعن ابن عباس أنها نزلت في الأسود بن عبد الأسد ويحكى عنه فناخسرة المقلب بعضد الدولة ابن بويه أنه لما أنشد قوله
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في سحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
لم يفلح بعده وجن وكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية وفي يتيمة الثعالبي أنه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية نسأل الله تعالى العفو والعافية وروي عن أبي عمرو أنه أدغم هاء السكت من ماليه في هاء هلك وهو ضعيف قياسا لأن هاء السكت لا تدغم لكون الوقف عليها محققا أو مقدرا كما في شرح التوضيح وفيه رواية الإدغام فيما ذكر عن ورش وعقب بأن المروي عنه إنما هو النقل في كتابيه إني والله تعالى أعلم
خذوه بتقدير القول أي فيقول الله تعالى للزبانية خذوه
فغلوه أي شدوه بالأغلال
ثم الجحيم صلوه أي لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظيمة الشديدة التأجج لعظم ما أوتي به من المعصية وهي الكفر بالله تعالى العظيم وقيل حيث كان يتعظم على الناس وهو مبني على اختصاص ما قبل بالسلاطين بقرينة تعظيم أمره وتنصيص الله تعالى على تعذيبه وأجيب عما يخدشه مما يفهم من كلام قتادة بأنه لا ضير في كونه بيانا لحال بعض من أوتي (29/49)
كتابه بشماله ومثله ما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه ولا يحض الخ فكم من أهل الشمال من لا يكون كذلك وأيضا قد ذكروا أن الجحيم اسم لطبقة من النار فتأمل
ثم في سلسلة ذرعها أي قياسها ومقدار طولها
سبعون ذراعا يجوز أن يراد ظاهره من العدد المعروف والله تعالى أعلم بحكمه كونها على هذا العدد ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف البكالي أنه قال وهو يومئذ بالكوفة الذراع سبعون باعا والباع ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص
فاسلكوه أي فأدخلوه كما في قوله تعالى فسلكه ينابيع في الأرض وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقا فيما بينها لا يستطيع حراكا ما وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالثعلب في الجبة والثعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال قال ابن عباس إن السلسلة تدخل في أسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن هنا قيل أن في الآية قلبا والأصل فاسلكوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء جزائية كما في قوله تعالى وربك فكبر والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة الخ فقدم الظرف وما معه عوضا عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا اسلكوه ففيه تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثم في الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية والسلك علىما اختاره جمع وجوز بعضهم كونها علىظاهرها من الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد وزعم بعض أن ثم الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خذوه إشعارا بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فاسلكوه لعطف المقول على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل ويعلم منه وهن ما قيل أنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن في سلسلة ليس معمولا لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدما على الأصل على أن تقديم الجحيم كالقرينة على كون في سلسلة مقدما على عامله
إنه كان لا يؤمن بالله العظيم تعليل على طريقة الإستئناف للمبالغة كأنه قيل لم أستحق هذا فقيل لأنه كان في الدنيا مستمرا على الكفر بالله تعالى العظيم وقيل أي كان في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر أنه لا يتصف بالإيمان به عز و جل والأول هو الظاهر وذكر العظيم للإشارة إلى وجه عظم عذابه وقيل للإشعار بأنه عز و جل المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات
ولا يحض على طعام المسكين أي ولا يحث على بذل طعامه الذي يستحقه في مال الموسر ففيه مضاف مقدر لأن الحث إنما يكون على الفعل والطعام ليس (29/50)
به ويجوز أن يكون الطعام بمعنى الإطعام بوضع الاسم موضع المصدر كالعطاء بمعنى الإعطاء أي ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يبذل ما له فليس هناك مضاف محذوف وقيل ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل وما أحسن قول زينب الطثرية ترثي أخاها يزيد
إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي حتى تستقل مراجله
تريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم وفيه أوجه من المدح وكان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها اقتبس ذلك من الآية فإنه جعل استحقاق السلسلة معللا بعدم الإيمان وعدم الحض وتخصيص الأمرين بالذكر قيل لما أن أقبح العقائد الكفر وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع كالأصول وإلا لم يعاقبوا على ترك الحض على طعام المسكين
فليس له اليوم ههنا حميم قريب مشفق يحميه ويدفع عنه لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه
ولا طعام إلا من غسلين قال اللغويون هو ما يجري من الجراح إذا غسلت فعلين من الغسل وقال ابن عباس في رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق عكرمة عنه أنه الدم والماء الذي يسيل من لحوم أهل النار وفي معناه قوله في روايتهما من طريق علي بن أبي طلحة عنه هو صديد أهل النار وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه أنه قال ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم والأكثرون على الأول وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا وجعله بعضهم متحدا مع الضريع وقال بعضهم هما متباينان وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وله خبر ليس قال المهدوي ولا يصح أن يكون ههنا ولم يبين ما المانع من ذلك وتبعه القرطبي في ذلك وقال لأن المعنى يصير ليس ههنا طعام إلا من غسلين ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره وههنا متعلق بما في له من معنى الفعل انتهى وتعقب ذلك أبو حيان فقال إذا كان ثم غيره من الطعام وكان الأكل أكلا آخر صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين وأما إن كان الضريع هو الغسلين كما قال بعضهم فلا تناقض بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى ليس لهم طعام إلا من ضريع إذ المحصور في الآيتين هو من شيء واحد وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره وهو أنه إذا جعلنا ههنا الخبر كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر وهو العامل في ههنا وهو عامل معنوي فلا يتقدم معموله عليه فلو كان العامل لفظيا جاز كقوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد فله متعلق بكفوا وهو خبر ليكن أه وفي إطلاق العامل المعنوي على متعلق الجار والمجرور والمحذوف بحث
لا يأكله إلا الخاطئون أصحاب الخطايا من خطيء الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد والمراد بهم على ما روي عن ابن عباس المشركون وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في رواية الخاطيون بياء مضمومة بدلا من الهمزة وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية أخرى ونافع بخلاف عنه الخاطون بطرح الهمزة بعد إبدالها تخفيفا على أنه من خطيء كقراءة من همز وعن ابن عباس ما يشعر بإنكار ذلك أخرج الحاكم وصححه من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عنه أنه قال ما الخاطون إنما هو الخاطئون ما الصابون إنما هو الصابئون وفي رواية ما الخاطون كلنا نخطو كأنه يريد أن التخفيف هكذا ليس قياس وهو ملبس مع ذلك فلا يرتكب وقيل هو من خطا يخطو فالمراد بهم الذين يتخطون من الطاعة إلى العصيان ومن الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز و جل فيكون كناية عن المذنبين أيضا هذا وظواهر هذه الآيات أن المؤمن الطائع يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله ولم يعلم منها حال الفاسق الذي مات على فسقه من غير توبة بل قيل ليس في القرآن بيان حاله (29/51)
صريحا وقد اختلف في أمره فجزم الماوردي بأن المشهور أنه يؤتى كتابه بيمينه ثم حكى قولا بالوقف وقال لا قائل بأنه يؤتاه بشماله وقال يوسف بن عمر اختلف في عصاة المؤمنين فقيل يأخذون كتبهم بأيمانهم وقيل بشمالهم واختلف الأولون فقيل يأخذونها قبل الدخول في النار ويكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها وقيل يأخذونها بعد الخروج منها ومن أهل العلم من توقف لتعارض النصوص ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي ثم أنه ليس في هذه الآيات تصريح بقراءة العبد كتابه والوارد في ذلك مختلف والذي يجمع الآيات والأحاديث على ما قال اللقاني أن من الآخذين من لم يقرأ كتابه لاشتماله على المخازي والقبائح والجرائم والفضائح فيأخذه بسبب ذلك الدهش والرعب حتى لا يميز شيئا كالكافر ومنهم من يقرؤه بنفسه ومنهم من يدعو أهل حاضره لقراءته إعجابا بما فيه وظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن العلم وليس بشيء ولفظ الحسن يقرأ كل إنسان كتابه أميا كان أو غير أمي وظواهر الآثار أن الحسنات تكتب متميزة من السيئات فقيل أن سيئات المؤمن أول كتابه وآخره هذه ذنوبك قد سترتها وغفرتها وإن حسنات الكافر أول كتابه وآخره هذه حسناتك قد رددتها عليك وما قبلتها وقيل يقرأ المؤمن سيئات نفسه ويقرأ الناس حسناته حتى يقولوا ما لهذا العبد سيئة ويقول ما لي حسنة وقيل كل يقرأ حسناته وسيئاته وأول سطر من كتاب المؤمن أبيض فإذا قرأه ابيض وجهه والكافر على ضد ذلك وظواهر الآيات والأحاديث عدم اختصاص إيتاء الكتب بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء لما في بعضها مما يشعر بالإختصاص ففي حديث رواه أحمد عن أبي الدرداء أنه عليه الصلاة و السلام قال وقد قال له رجل كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح عليه السلام إلى أمتك يا رسول الله هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم الحديث وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الأنس على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل أن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتى بيمينه فله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث وبعده أبو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطيء صحيفة عنق صاحبها وورد أن كل أحد يدعة فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهم السلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون قد تقدم الكلام في لا أقسم بمواقع النجوم وما تبصرون وما لا تبصرون المشاهدات والمغيبات وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عز و جل وقال عطاء ما تبصرون من آثار القدرة وما لا تبصرون من أسرار القدرة وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال مقاتل أن الوليد قال أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ساحر وقال أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه فلا أقسم الخ
إنه أي القرآن
لقول رسول يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه
كريم على الله عز و جل وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قول الأكثرين وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليه السلام
وقوله تعالى وما هو بقول شاعر الخ قيل دليل لما قاله الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه (29/52)
عليه الصلاة و السلام رسول لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما كانوا يقولون في جبريل عليه السلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا يقولونه في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلو أريد برسول كريم جبريل عليه السلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول أنه لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح أن سلم أن المعنى على إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى أنه لقول رسول لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عز و جل فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد فللقول الثاني أيضا موقع حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد صلى الله عليه و سلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر وكاهن ويكون قد نفي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم الشعر والكهانة على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقيق حسن
قليلا ما تؤمنون أي تصدقون تصديقا قليلا على أن قليلا صفة للمفعول المطلق لتؤمنون وما مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة و السلام في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام فيه سوى أنه دون الأول في الظهور وقال أبو حيان لا يراد بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلا في أقل نحو أقل رجل يقول كذا إلا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلا زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في قوله
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
أما إذا كان منصوبا نحو قليلا ضربت أو قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فإن ذلك لا يجوز لأنه في قليلا ضربت منصوب بضربت ولم تستعمل العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا بل متقابلا للكثير وأما في قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فيحتاج إلى رفع قليل لأن ما المصدرية في موضع رفع على الإبتداء أه
وأنت تعلم أن مثل ذلك لا يسمع على مثل الزمخشري بغير دليل فإن الظاهر أنه ما قال إلا عن وقوف وهو فارس ميدان العربية وجوز كونه صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا تؤمنون وذلك على ما قيل إذا سئلوا من خلقهم أو من خلق السماوات والأرض فإنهم يقولون حينئذ الله تعالى وقال ابن عطية نصب قليلا بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون ويحتمل أن تكون ما نافية فينتفي إيمانهم البتة ويحتمل أن تكون مصدرية وما يتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي وقد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ككون الصلة والعفاف للذين كانا يأمر بهما عليه الصلاة و السلام حقا وصوابا أه
وتعقب بأنه لا يصح نصب قليلا بفعل مضمر دال عليه تؤمنون لأنه إما أن تكون ما المقدرة معه نافية فالفعل المنفي بما لا يجوز حذفه وكذا حذفه ما فلا يجوز زيدا ما أضربه على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويرد عليه لزوم عمله من غير تقدم ما يعتمد عليه ونصبه لا ناصب له وأما في موضع رفع على الإبتداء ويرد عليه لزوم كونه مبتدأ بلا خبر لأن ما قبله منصوب لا مرفوع فتأمل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما والحسن والجحدري يؤمنون بالياء التحتية على الإلتفات
ولا بقول كاهن كما تدعون مرة أخرى
قليلا ما تذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا فلذلك يلتبس الأمر عليكم وتمام الكلام فيه إعرابا كالكلام فيما قبله وكذا القراءة وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية قيل لما أن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند فلا (29/53)
عذر لمدعيها في ترك الإيمان وهو أكفر من حمار بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وتعقب بأن ذلك أيضا مما يتوقف على تأمل قطعا وأجيب بأنه يكفي في الغرض الفرق بينهما أن توقف الأول دون توقف الثاني
تنزيل أي هو تنزيل
من رب العالمين نزله سبحانه على لسان جبريل عليه السلام وقرأ أبو السمال تنزيلا بالنصب بتقدير نزله تنزيلا
ولو تقول علينا بعض الأقاويل التقول الإفتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع كأناعيم جمع أنعام وأبابيت جمع أبيات وفي الكشاف سمي الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول وتعقبه ابن المنذر بأن أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصه بالإفتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا شيئا لم نقله
لأخذنا منه أي لأمسكناه وقوله تعالى
باليمين أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه ألم نشرح لك صدرك
ثم لقطعنا منه الوتين أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر وهو النخاع وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن ضرار
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن ابن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه وقرأ ذكوان وابنه محمد ولو يقول مضارع قال وقريء ولو تقول مبنيا للمفعول فنائب الفاعل بعض إن كان قد قريء مرفوعا وإن كان قد قريء منصوبا فهو علينا
فما منكم أيها الناس
من أحد عنه أي عن هذا الفعل وهو القتل
حاجزين أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عنه لمن عاد عليه ضمير تقول والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في حاجزين أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة ومن زائدة واحد اسمها ومنكم قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما وقال الحوفي وغيره أن حاجزين نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه لا نفرق بين أحد من رسله ولستن كأحد من النساء فأحد مبتدأ والخبر منكم وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسليطه عليه
وإنه أي القرآن
لتذكرة للمتقين لأنهم المنتفون به
وإنا لنعلم أن منكم مكذبين فنجازيهم على تكذيبهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن
وإنه أي القرآن
لحسرة عظيمة على الكافرين عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعاد الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى مكذبين والأول أظهر (29/54)
وإنه أي القرآن لحق اليقين أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره
وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم السلام والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم
فسبح باسم ربك العظيم أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحي إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه أن أردت والله تعالى الموفق
سورة المعارج
وتسمى سورة الموافق وسورة سأل وهي مكية بالإتفاق على ما قال القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى والذين في أموالهم حق معلوم وآيها ثلاث وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس أنها نزلت عقيب سورة الحاقة
بسم الله الرحمن الرحيم سأل سائل بعذاب واقع أي دعا داع به فالسؤال بمعنى الدعاء ولذا عدي بالباء تعديته بها في قوله تعالى يدعون فيها بكل فاكهة والمراد استدعاء العذاب وطلبه وليس من التضمين في شيء وقيل الفعل مضمن معنى الإهتمام والإعتناء أو هو مجاز عن ذلك فلذا عدي بالباء وقيل إن الباء زائدة وقيل أنها بمعنى عن كما في قوله تعالى فاسأل به خبيرا والسائل هو النضر بن الحرث كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس وروي ذلك عن ابن جريج والسدي والجمهور حيث قال إنكار واستهزاء اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقيل هو أبو جهل حيث قال أسقط علينا كسفا من السماء وقيل هو الحرث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي كرم الله تعالى وجهه من كنت مولاه فعلي مولاه قال اللهم إن كان ما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من أسفله فهلك من ساعته وأنت تعلم أن ذلك القول منه عليه الصلاة و السلام في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه كان في غدير خم وذلك في أواخر سنة الهجرة فلا يكون ما أنزل مكيا على المشهور في تفسير وقد سمعت ما قيل في مكية هذه السورة وقيل هو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم استعجل عذابهم وقيل هو نوح عليه السلام سأل عذاب قومه وقرأ نافع وابن عامر سأل بألف كقال سايل بياء بعد الألف فقيل يجوز أن يكون قد أبدلت همزة الفعل ألفا وهو بدل على غير قياس وإنما قياس هذا بين بين ويجوز أن يكون على لغة من قال سلت أسأل حكاها سيبويه وفي الكشاف هو من السؤال وهو لغة قريش يقولون سلت تسال وهما يتسايلان وأراد أنه من السؤال المهموز معنى لاشتقاقا بدليل وهما يتسايلان وفيه دلالة على أنه أجوف يأتي وليس من تخفيف الهمزة في شيء وقيل السؤال بالواو الصريحة مع ضم السين وكسرها وقوله يتسايلان صوابه يتساولان فتكون ألفه منقلبة عن واو كما في قال وخاف وهو الذي ذهب إليه أبو علي في الحجة وذكر فيها أن أبا عثمان حكى عن أبي زيد أنه سمع من (29/55)
العرب من يقول هما يتساولان ثم إن في دعوى كون سلت تسال لغة قريش ترددا والظاهر خلاف ذلك وأنشدوا لورود سال قول حسان يهجو هذيلا لما سألوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبيح لهم الزنا
سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب وقول آخر سألتاني الطلاق أن رأتاني
قل مالي قد جئتماني ينكر
وجوز أن يكون سال من السيلان وأيد بقراءة ابن عباس سال فقد قال ابن أبي جني السيل ههنا الماء السائل وأصله المصدر من قولك سال الماء سيلا إلا أنه أوقع على الفاعل كما في قوله تعالى إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا وقد تسومح في التعبير عن ذلك بالوادي فقيل المعنى اندفع واد بعذاب واقع والتعبير بالماضي قيل للدلالة على تحقق وقوع العذاب إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر وقد قتل يومئذ النضر وأبو جهل وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن زيد بن ثابت إن سائلا اسم واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس ما يحتمله
للكافرين صفة أخرى لعذاب أي كائن للكافرين أو صلة لواقع واللام للتعليل أو بمعنى على ويؤيده قراءة أبي على الكافرين وإن صح ما روي عن الحسن وقتادة أن أهل مكة لما خوفهم صلى الله تعالى عليه وسلم بعذاب سألوا عنه على من ينزل وبمن يقع فنزلت كان هذا ابتداء كلام جوابا للسائل أي هو للكافرين
وقوله تعالى ليس له دافع صفة أخرى لعذاب أو حال منه لتخصيصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في الكافرين على تقدير كونه صفة لعذاب على ما قيل أو استئناف أو جملة مؤكدة لهو للكافرين على ما سمعت آنفا فلا تغفل
وقوله سبحانه من الله متعلق بدافع ومن ابتدائية أي ليس له دافع يرده من جهته عز و جل لتعلق إرادته سبحانه به وقيل متعلق بواقع فقيل إنما يصح على غير قول الحسن وقتادة وعليه يلزم الفصل بالأجنبي لأن للكافرين على ذلك جواب سؤال ثم إن التعلق بواقع على ما عدا قولهما إن جعل للكافرين من صلته أيضا كان أظهر وإلا لزم الفصل بين المعمول وعامله بما ليس من تتمته لكن ليس أجنبيا من كل وجه
ذي العارج هي لغة الدرجات والمراد بها على ما روي عن ابن عباس السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء ولم يعينها بعضهم فقال أي ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي وقيل هي مقامات معنوية تكون فيها الأعمال والأذكار أو مراتب في السلوك يترقى فيها المؤمنون السالكون أو مراتب الملائكة عليهم السلام وأخرج عبد بن حميد عن قتادة تفسيرها بالفضائل والنعم وروى نحوه ابن المنذر وابن أبي عباس وقيل هي الغرف التي جعلها الله تعالى لأوليائه في الجنة والأنسب بما يقتضيه المقام من التهويل ما هو أدل على عزه عز و جل وعظم ملكوته تعالى شأنه
تعرج الملائكة والروح أي جبريل عليه السلام كما ذهب إليه الجمهور أفرد بالذكر لتميزه وفضله بناء على المشهور من أنه عليه السلام أفضل الملائكة وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن عليه السلام أفضلهم بناء على ما قيل من أن إسرافيل عليه السلام أفضل منه وقال مجاهد الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الحفظة كما نرى نحن حفظتنا وقيل خلق هم حفظة الملائكة مطلقا كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم الخلقة يقوم وحده يوم القيامة صفا ويقوم الملائكة كلهم صفا وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس وقال قبيصة بن ذؤيب روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش يعرج بالياء التحتية إليه قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أو أمره سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه السلام إني ذاهب إلى ربي أي إلى (29/56)
حيث أمرني عز و جل به وقيل المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إلى أن المكان المنتهي إليه الدال عليه السياق وفسر بمحل الملائكة عليهم السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك من المتشابه مع تنزيهه عز و جل عن المكان والجسمية واللوازم التي لا تليق بشأن الألوهية
وقوله تعالى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أي من سنينكم الظاهر تعلقه بتعرج واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له ويشير إلى هذا ما أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة وروي هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول
وقوله
ليلى وليلى نفي نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلى كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
وقوله
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
إلى ما لا يكاد يحصى وفي قوله عليه الصلاة و السلام في الخبر السابق أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة إشارة إلى هذا وكذا ما روي عن عبد الله بن عمر من قوله يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه ولينظر على هذا القول ما حكمه التنصيص على العدد المذكور وقيل هو على ظاهره وحقيقته وإن في ذلك اليوم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة من سني الدنيا أي حقيقة وقيل الخمسون على حقيقتها إلا أن المعنى مقدار ما يقتضي فيه الحساب قدر ما يقتضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة وأشار بعضهم إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن عروجهم متحقق في غيره أيضا للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق فيه إلى الله عز و جل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة إلى عظم الهول على وجه آخر وأيا ما كان فالجملة استئناف مؤكد لما سيق له الكلام وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه والمراد باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق وتعرج الملائكة والروح إليه مستطرد عند وصفه عز و جل بذي المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيه وروي عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو رواية عن ابن عباس أيضا واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى إلى العرش وفصل بأن (29/57)
ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع خمسون ألف سنة وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم السلام عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عز و جل على كل شيء قدير ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش عروجا وهبوطا واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا في قوله سبحانه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للمتصوفة في ذلك وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل والمراد أنها في غاية البعد والإرتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي كما في بعض آخر وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلى أنه لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح والظاهر أنه أراد بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جوابا لمن سأله متى خلق الله تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا الله عز و جل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة والحق أينه لا يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عز و جل بيد أنا نعلم بتوفيق الله تعالى أن العالم حادث حدوثا زمنيا وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسماوات وتبرز الخلائق لله تعالى الواحد القهار
فاصبر صبرا جميلا متفرع على قوله تعالى سأل سائل ومتعلق به تعلقا معنويا لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بناء على أن السائل النضر وأضرابه وذلك مما يضجره عليه الصلاة و السلام أو كان عن تضجر واستبطاء للنصر بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو السائل فكأنه قيل فاصبر ولا تستعجل فإن الموعود كائن لا محالة والمعنى على هذا أيضا على قراءة من قرأ سال سائل من السيلان كقراءة سال سيل ولا يظهر تفرعه على سأل من السؤال إن كان السائل نوحا عليه السلام والصبر الجميل على ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى وأخرج عبد الأعلى بن الحجاج أنه ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدي من هو
إنهم يرونه أي العذاب الواقع أو اليوم المذكور في قوله تعالى في يوم كان مقداره الخ بناء على أن المراد به يوم الحساب متعلقا بتعرج على ما سمعت أولا أو بدافع أو بواقع أو بسال من السيلان أو يوم القيامة المدلول عليه بواقع على وجه فما يدل عليه كلام الكشاف من تخصيص عود الضمير إلى يوم القيامة بما إذا كان في يوم متعلقا لواقع فيه بحث ومعنى يرونه يعتقدونه
بعيدا أي من الإمكان والمراد أنهم يعتقدون أنه محال أو أن الوقوع والمراد أنهم يعتقدون أنه لا يقع أصلا وإن كان ممكنا ذاتا وكلام كفار أهل مكة بالنسبة إلى يوم القيامة والحساب محتمل للأمرين بل ربما تسمعهم يتكلمون بما يكاد يشعر بوقوعه حيث يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم فهم متلونون في أمره تلون الحرباء والعذاب إن أريد به عذاب يوم القيامة فهو كيوم القيامة عندهم أو أنه لا يقع بالنسبة إليهم مطلقا لزعمهم دفع آلهتهم إياه عنهم وإن أريد به عذاب الدنيا فالظاهر أنهم لا ينفون إمكانه وإنما ينفون وقوعه ولا تكاد تتم دعوى أنهم ينفون إمكانه الذاتي
ونراه قريبا أي من الإمكان والتعبير به للمشاكلة كما قيل (29/58)
بها في نراه إذ هو ممكن ولا معنى لوصف الممكن بالقرب من الأمكان لدخوله في حيزه والمراد وصفه بالإمكان أي ونراه ممكنا وهذا على التقدير الأول في يرونه بعيدا أو نراه قريبا من الوقوع وهذا على التقدير الثاني فيه وقد يقال كذلك على الأول أيضا على معنى أنهم يرونه بعيدا من الإمكان ونحن نراه قريبا من الوقوع فضلا عن الإمكان ولعله أولى من تقدير الإمكان في الجملتين وجملة أنهم الخ تعليل للأمر بالصبر وقيل إن كان المستعجل هو النضر وأضرابه فهي مستأنفة بيانا لشبهة استهزائهم وجوابا عنه وإن كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهي تعليل لما ضمن الأمر بالصبر من ترك الإستعجال بأن رؤيتنا ذلك قريبا توجب الوثوق وترك الإستعجال
وقوله سبحانه يوم تكون السماء كالمهل قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه واقع وهو يقع أو بدل عن في يوم إن علل به دون تعرج والنصب باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك ليس بدلا عن المجرور وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بأزف الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم يوم تكون السماء كالمهل فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم لا يخفى أن البدلية ممكنة على تقدير تعلق في يوم بتعرج أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن الأولى عند تعلقه بقريبا أن لا يراد من القريب من الإمكان الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام وأن ضميري يرونه ونراه إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا يخفى وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير نراه إذا كان عائدا على يوم القيامة وفي الإرشاد كونه متعلقا بليس له دافع وبعضهم كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بنراه كما قاله مكي لا نراه وكذا تعلقه بيبصرونهم كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال متعلقه بيود الآتي بعد فتأمل
والمهل أخرج أحمد والضياء في المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في قعره وقال غير واحد المهل ما أذيب على مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء واهية وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن خضراء وإنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة
وتكون الجبال كالعهن كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء
ولا يسئل حميم حميما أي لا يسأل قريب مشفق قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة
وفي البحر لا يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده ولعل الأول أبلغ في التهويل وأيا ما كان فمفعول يسأل الثاني محذوف وقيل حميما منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم ولا يسأل مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب جميمه ليؤخذ بها
يبصرونهم أي يبصر الإحماء الإحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة (29/59)
الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله ويبصرونهم قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى التعريف أو حذف الصلة إيصالا وجمع الضميرين لعموم الحميم والجملة استئناف كأنه لما قيل لا يسأل الخ قيل لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم وجوز أن تكون صفة أي حميما مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا إما من الفاعل أو من المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل
وقرأ قتادة يبصرونهم مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم يود المجرم أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب
وقوله تعالى لو يفتدي من عذاب يومئذ أي العذاب الذي ابتلي به يومئذ
ببنيه وصاحبته وأخيه حكاية لودادتهم ولو في معنى التمني وقيل هي بمنزلة إن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير يود افتداءه ببنيه الخ والجملة استئناف لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها من ضمير الفاعل لأنه المتمني وأيا ما كان فالمراد يود المجرم منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج يومئذ بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك وبتنوين عذاب فيومئذ حينئذ منصوب بعذاب لأنه في معنى تعذيب
وفصيلته أي عشيرته الأقريبن الذين فصل عنهم كما ذكره غير واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب فصيلته آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ
التي تؤيه أي تضمنه انتماء إليها أولياذا بها في النوائب
ومن في الأرض جميعا من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب
ثم ينجيه عطف على يفتدي والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الإفتداء وجوز أبو حيان عود الضمير إلى المذكور والزمخشري عوده إلى من في الأرض وثم الإستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري تؤويه وينجيه بضم الهائين
كلا ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الإنجاء وضمير
إنها للنار المدلول عليها بذكر العذاب
وقوله تعالى
لظي خبر أن وهي علم لجهنم أو للدركة الثانية من دركاتها منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز أن يراد اللهب على المبالغة كان كلها لهب خالص وحذف التنوين إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه
وقوله تعالى نزاعة للشوى أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي ليست بمقتل ولذا يقال رمى فأشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته
وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الإختصاص للتهويل وجوز أن يكون حالا والعامل فيها لظى وإن كان علما لما فيه من (29/60)
معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو حيان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي لظى بمعنى متلظية والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها نكرة أو خبر وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة كما في قوله
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير تدعو قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير أنها مبهما ترجم عنه الخبر أعني لظى وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون نزاعة بالرفع على أنه خبر ثان لأن أو صفة للظى وهو ظاهر على اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها على جلس لأنه كالمعرف بلام الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر ولظى بدل من الضمير وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما هنا وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير أنها للقصة ولظى مبتدأ بناء على أنه معرفة ونزاعة خبره 3وقوله تعالى تدعوا خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل
والدعاء على حقيقته وذلك كما روي عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وروي أنها تقول لهم إلي إلي يا كافر يا منافق وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة يصف الثور الوحشي
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
ونحوه قوله أيضا
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب
ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على سبيل الإستعارة وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي الدهر صروفه ومن ذلك قوله
دعاك الله من رجل بأفعى ... إذا ناما العيون سرت عليكا
واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على تقدير مضاف أي تدعو زبانيتها
من أدبر في الدنيا عن الحق
وتولى أعرض عن الطاعة
وجمع فأوعى أي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول وجمع فأوعى
إن الإنسان خلق هلوعا الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة السير
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله تعالى إذا مسه الشر الخ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه سئل عن ذلك أيضا فقرأ الآية وحكى نحوه عن ثعلب قال قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر ما الهلع فقلت قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه يعني قوله تعالى إذا مسه الآية ونظير ذلك قوله
إلا لمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والجملة المؤكدة في موضع التعليل لما قبلها والإنسان الجنس أو الكافر قولان أيد ثانيهما بما روى (29/61)
الطستي عن ابن عباس أن الآية في أبي جهل بن هشام ولا يأبى ذاك إرادة الجنس والشر الفقر والمرض ونحوهما وأل للجنس أي إذا مسه جنس الشر
جزوعا أي مبالغا في الجزع مكثرا منه والجزع قال الراغب أبلغ من الحزن فإن الحزن عام والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه وأصله قطع الحبل من نصفه يقال جزعه فانجزع ولتصور الإنقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه والإنقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين وقيل للبسرة إذا بلغ الأرطاب نصفها مجزعة
وإذا مسه الخير المال والغنى أو الصحة
منوعا مبالغا في المنع والإمساك وإذا الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب بما سمعت عن ابن عباس وغيره وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة أحوال فقيل مقدرة أن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله تحت التكليف ومحققه أن أريد اتصافه بمبدأ هذه الأمور من الأمور الجلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل أنها تزول بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما قيل
والطبع في الإنسان لا يتغير
وهذا الخلاف جار في جميع الأمور الطبيعية وقال بعضهم الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير وذهب الزمخشري إلى أن في الكلام استعارة فقال المعنى أن الإنسان لا يثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى خلق الإنسان من عجل لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين وتعقب بأنه في المهد أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في موضعه وإن الإستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم أولئك في جنات ثم كر على السابق وقال فمال الذين كفروا بالفاء تخصيصا بعد تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع إلا المصلين فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى
وهذا الإستثناء هو ما تضمنه قوله تعالى إلا المصلين الخ وقد وصفهم سبحانه بما ينبيء عن كمال تنزههم عن الهلع من الإستغراق في طاعة الحق عز و جل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسرالشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل
الذين هم على صلاتهم دائمون أي مواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه إشارة إلى فضل المداومة على العبادة وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله تعالىعليه دام عليه وإن قل وكان ذا صلى صلاة دام عليها (29/62)
وقرأ أبو سلمة الذين هم على صلاتهم دائمون وأخرج أحمد في مسنده عنها أنها قالت كان عمله صلى الله تعالى عليه وسلم ديمة قال جار الله ما فعل من أفعال الخير إلا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحاقة التي يستمر عليها الشخص ثم جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه ملكة له عليه الصلاة و السلام وقيل دائمون أي لا يلتفتون فيها ومنه الماء الدائم وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم من الذين هم على صلاتهم دائمون قال قلنا الذين لا يزالون يصلون فقال لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال وإليه ذهب الزجاج فتشعر الآية بذم الإلتفات في الصلاة وقد نطقت الأخبار بذلك واستدل بعضهم بها على أنه كبيرة وتحقيقه في الزواجر وعن ابن مسعود ومسروق أن دوامها أداؤها في مواقيتها وهو كما ترى ولعل ترك الإلتفات والأداء في الوقت يتضمنه ما يأتي من المحافظ إن شاء الله تعالى والمراد بالصلاة على ما أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي الصلاة المكتوبة وعن الإمام أبي جعفر رضي الله تعالى عنه المراد بها النافلة وقيل ما أمروا به مطلقا منها وقرأ الحسن صلواتهم بالجمع
والذين في أموالهم حق معلوم أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس وهو على ما روي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أو كل شهر مثلا وقيل هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت وعين مقدارها في المدينة وقبل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين
للسائل الذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم واستعماله في ذلك على سبيل الكناية ولا يصح أن تراد به من يحرمونه بأنفسهم للزوم التناقض كما لا يخفى
والذين يصدقون بيوم الدين المراد التصديق به بالأعمال حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية طمعا في المثوبة الأخروية لأن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين لا امتياز فيه لأحد منهم وفي التعبير بالمضارع دلالة على أن التصديق والأعمال تتجدد منهم آنا فآنا
والذين هم من عذاب ربهم مشفقون خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصار لها واستعظاما لجنابه عز و جل كقوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وقوله سبحانه
إن عذاب ربهم غير مأمون اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه عز و جل وإن بالغ في الطاعة كهؤلاء ولذا كان السلف الصالح وهم هم خائفين وجلين حتى قال بعضهم يا ليتني كنت شجرة تعضد وآخر ليت أمي لم تلدني إلى غير ذلك
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون سبق تفسيره في سورة المؤمنين على وجه مستوفي فتذكره
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون لا يخلون بشيء من حقوقها وكأنه لكثرة الأمانة جمعت ولم يجمع العهد قبل إيذانا بأنه ليس كالأمانة كثرة وقيل لأنه مصدر ويدل على كثرة الأمانة ما روى الكلبي كل أحد مؤتمن على ما اقترض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال ومن الحقوق في الأموال وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين وقال السدي إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان وقيل كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله وأذن سبحانه له به فقد خان الأمانة والخيانة فيها وكذا الغدو بالعهد من الكبائر على ما نص غير واحد وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعا أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه (29/63)
خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال ما خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقرأ ابن كثير لأمانتهم بالإفراد على إرادة الجنس
والذين هم بشهاداتهم قائمون مقيمون لها بالعدل غير منكرين لها أو بشيء منها لا مخفين أحياء لحقوق الناس فيما يتعلق بها وتعظيما لأمر الله عز و جل فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد وذكر أنها مندرجة في الأمانات إلا أنها خصت بالذكر لأبانة فضلها وجمعها لاختلاف الأنواع ولو لم يعتبر ذلك أفرد على ما قيل لأنها مصدر شامل للقليل والكثر وقرأ الجمهور بالإفراد على ما سمعت آنفا
والذين هم على صلاتهم يحافظون أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها باستعارة الحفظ من الضياع للإتمام والتكميل وهذا غير الدوام فإنه يرجع إلى أنفس الصلوات وهذا يرجع إلى أحوالها فلا يتكرر مع ما سبق من قوله تعالى الذين هم على صلاتهم دائمون وكأنه لما كان ما يراعي في إتمام الصلاة وتكميلها مما يتفاوت بحسب الأوقات جيء بالمضارع الدال على التجدد كذا قيل وقيل أن الإتيان به مع تقديم هم لمزيد الإعتناء بهذا الحكم لما أن أمر التقوى في مثل ذلك أقوى منه في مثل هم محافظون واعتبر هذا دون ما في الصدر لأن المراعاة المذكورة كثيرا ما يغفل عنها وفي افتتاح الأوصاف بما يتعلق بالصلاة واختتامها به دلالة على شرفها وعلو قدرها لأنها معراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذانا بأن كل واحد من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمه حقيق يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر
أولئك إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد لبعد المشار إليهم أما في الفضل أو في الذكر باعتبار مبدأ الأوصاف المذكورة وهو مبتدأ خبره
في جنات أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها
وقوله تعالى مكرمون خبر آخر أو هو الخبر وفي جنات متعلق به قدم عليه للإهتمام مع مراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر أي مكرمون كائنين في جنات
فمال الذين كفروا قبلك أي في الجهة التي تليك
مهطعين مسرعين نحوك مادي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما يجعلونه هزؤا
عن اليمين وعن الشمال عزين جماعات في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص
فجاؤا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها عزوة من العز ولان كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم وقالوا عزي على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من الذين كفروا أو من الضمير في مهطعين على التداخل وعن اليمين إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو بمهطعين أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين روي أنه عليه الصلاة و السلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزؤن بكلامه عليه الصلاة و السلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن (29/64)
لا يجلس المؤمنون عزين لأنه من عادة الجاهلية
أيطمع كل امريء منهم أن يدخل جنة نعيم أي بلا إيمان وهوإنكار لقولهم إن دخل هؤلاء الجنة وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن علين وطلحة والمفضل عن عاصم يدخل بالبناء للفاعل
كلا ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ
إنا خلقناهم مما يعملون قيل هو تعليل للردع ومن أجلية والمعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعملون وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملائكة عليهم السلام لم تستعد لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتي الديار الرومية أن الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته عز و جل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة و السلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشيء بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عز و جل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى
فلا أقسم برب المشارق والمغارب أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب
إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم أي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم
وما نحن بمسبوقين أي بمغلوبين إن أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث أن ذكر دليله إنما يكون مع المنكر فأقيم علة مقام العلة مبالغة لما حكي عنهم طمع دخول الجنة ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل أنه ينكر البعث فأنى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على مكان مناقضتهم فإن الإستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما يتنافيان ووجه أقربيته قوة الإرتباط بما سبق عليه وهو في الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه إنا لقادرون على أن نبدل الخ أن معناه لقادرون على أن نعطي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من هو خيرمنهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما يعملون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات بأسرها والكلام في فلا أقسم قد تقدم وقرأ قوم فلا أقسم بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري المشرق والمغرب مفردين
فذرهم فخلهم غير مكترث بهم
يخوضوا في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم
ويلعبوا في دنياهم
حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون هو يوم البعث عند النفخة الثانية لقوله سبحانه
يوم يخرجون من الأجداث أي القبور فإنه يدل على يومهم وهو مفعول به ليلاقوا وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى وجعل يوم مفعولا به لمحذوف كذكر أو متعلقا بترهقهم ذلة مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف وقرأ أبو جعفر وابن محيصن يلقوا مضارع (29/65)
لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ يخرجون على البناء للمفعول من الإخراج
سراعا أي مسرعين وهو حال من مرفوع يخرجون وهو جمع سريع كظريف وظراف
كأنهم إلى نصب وهو ما نصب فعبد من دون الله عز و جل وعده غير واحد مفردا وأنشدوا قول الأعشى
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا
وقال بعضهم هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن ورهن والأنصاب جمع الجمع وقرأ الجمهور نصب بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك وقال أبو عمرو هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد وقيل ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد نصب بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة نصب بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف نصب بضمتين أو جمع نصب بفتحتين كولد وولد
يوفضون أي يسرعون وأصل الإيفاض كما قال الراغب أن يعدوا من عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الإنطلاق وروي عن الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى الداعي يسبق بعضهم بعضا والإسراع في السير إلى المعبودات الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من أخوانهم الذين يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا نحو منزل الملك
خاشعة أبصارهم لعظم ما تحققوه ووصفت أبصارهم بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها
ترهقهم تغشاهم
ذلة شديدة ذلك الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة
اليوم الذي كانوا يوعدون أي في الدنيا واسم الإشارة مبتدأ واليوم خبر والموصول صفته والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن بن خلاذ عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار ذلة بغير تنوين مضافا إلى ذلك اليوم بالجر هذا وأعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم الذي أخبر الله تعالى مقداره خمسون ألف سنة إن المراتب أربع الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الأفلاك التسعة والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الأعداد على الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما عداها إن إلى ربك المنتهى كان اليوم الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما قال سبحانه وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الإسم الأعظم في مقام الألوهية في رتبةالجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة كن لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء وهو قوله سبحانه كما بدأكم تعودون فكان اليوم الواحد عند ظهور الإسم الأعظم في الجهة الجامعة خمسين ألف سنة فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهوراسم الرب عند ظهور اسم الله في عالم الأمرالذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى كن وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في النقطة والألف والحرف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام الخمسة إنما كانت (29/66)
في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن الطبائع الأربع مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم بحسبها فكان المجموع خمسين والعوالم العشرة هي عالم الإمكان وعالم الفؤاد وعالم القلب وعالم العقل وعالم الروح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام والخمسون في وجه الرب ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباها لمنقول فذاك وإلا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عز و جل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق وللشيخ الأكبر قدس سره أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات
سورة نوح
مكية بالإتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الإستدلال والإستظهار لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الإستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرون ووجه الإتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على ان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم القيامة أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال أن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول ماذا أجبتم نوحا فيقولون ما دعانا وما بلغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا فيقول نوح عليه السلام دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول الله عز و جل للملائكة عليهم السلام ادعوا أحمد وأمته فيدعونهم فيأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه السلام لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته فإنا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين فيقول قوم نوح عليه السلام وأني علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم إناأرسلنا نوحا إلى قومه حتى يختم السورة فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهوالعزيزالحكيم فيقول الله عز و جل عند ذلك امتازوا إلي أيها المجرمون
بسم الله الرحمن الرحيم إنا أرسلنا نوحا هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب والكرماني معناه بالسريانية الساكن وصرف لعدم زيادته على الثلاثة مع سكون وسطه بعربي أصلا وقول الحاكم في المستدرك إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه على نفسه واسمه عبد الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه السلام رأى كلبا أجرب قذرا فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك والمشهور لا أنه عليه السلام ابن لملك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن مثوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة (29/67)
ابن خنوخ بفتح الخاء المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة وشاع أخنوخ بهمزة أوله وهو إدريس عليه السلام بن يرد بمثناة من تحت مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام وهذا يدل على أنه عليه السلام بعد إدريس عليه السلام وفي المستدرك أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون وفيه أيضا مرفوعا بعث الله تعالى نوحا لأربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما وفي التهذيب للنووي رحمه الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا وقيل أنه أطول الناس مطلقا عمرا فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالإتفاق لئلا يرد الخضر عليه السلام وقد يجاب بغير ذلك وهو على ما قيل أول من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر لى الشرك وأهلكت أمته والحق أن آدم عليه السلام كان رسولا قبله أرسل إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح في قول وفي آخر لم يكن في شريعته إلا الدعوة إلى الإيمان ويقال لنوح عليه السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني وكان دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخدين ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيما واختلف في مكان قبره فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك وفي إسناد الفعل إلى ضمير العظمة مع تأكيد الجملة ما لا يخفى من الإعتناء بأمر إرساله عليه السلام
إلى قومه قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا أهل الأرض كافة لاختصاص نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بعموم البعثة من بين المرسلين عليهم السلام وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول بعمومه أمر اتفاقي واشتهر أنه عليه الصلاة و السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل
أن أنذر قومك أي أي أنذر قومك على أن أن تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه فلا محل للجملة من الإعراب أو بأن أنذرهم أي بإنذارهم أو لأنذارهم على أن أن مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران ونص أبو حيان على جواز هذا الوجه في بحره هنا ومنعه في موضع آخر وحكى المنع عنه ابن هشام في المغنى وقال زعم أبو حيان أنها لا توصل بالأمر وإن كل شيء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية واستدل بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي والإستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور ثم أنه يسلم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله تعالى والخامسة أن غضب الله عليها إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلا إذا كان مفعولا مطلقا نحو سقيا ورعيا وعن الثاني أنه منع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم فاحش لأن حروف الجر مطلقا لا تدخل إلا على الإسم أو ما في تأويله انتهى وأجاب بعضهم على الأول أيضا بأنه عند التقدير يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثل إنا أرسلنا نوحا إلى قومه بالأمر بإنذارهم وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم أنه يكون المعنى في (29/68)
نحو أمرته بأن قم أمرته بالأمر بالقيام وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلا تقديره لأن مآل العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وإن قم بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد وفي الكشف لو قيل أن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر بالمصدر تبعا وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقا لكان حسنا وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر النفي بالمصدر على سبيل التبعية وأما إذا صرح بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضا هذا ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل وأوعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح عليه السلام لم يكن ملتبسا بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس بقول الله تعالى له عليه السلام أنذر ولما كان هذا القول منه تعالى لطلب الإنذار قيل المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار وكان هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام ابن هشام المتقدم آنفا وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات فقال كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحا في أنذر ونحوه وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له وإن اتفقوا عليه فأعرفه انتهى
وأقول لعلهم أرادوا بفوات معنى الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم يريدوا أنه يفوت مطلقا كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على علم ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي والإستقبال الخ فكأنه قيل لا نسلم إن هذا الفوات باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي والإستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو أن غضب وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس بلازم وليس بفوات مطلقا لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به فتدبر
وقرأ ابن مسعود أنذر بغير أن على إرادة القول أي قائلين أنذر
من قبل أن يأتيهم عذاب أليم عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبي أو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى لهم عذرا ما أصلا
قال استئناف بياني كأنه قيل فما فعل عليه الصلاة و السلام بعد هذا الإرسال فقيل قال لهم
يا قوم إني لكم نذير مبين منذر موضح لحقيقة الأمر واللام في لكم للتقوية أو للتعليل أي لأجل نفعكم من غير أن أسألكم أجرا
وقوله تعالى أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون متعلق بنذير على مصدرية أن وتفسيريتها ومر نظيره في الشعراء
وقوله سبحانه يغفر لكم من ذنوبكم مجزوم في جواب الأمر واختلف في من فقيل ابتدائية وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه عز و جل وتفضلا وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها إلى معنى الإبتدائية استبعده الرضى ويقدر قبلها مبهم يفسر بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب وقيل زائدة على رأي الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره في البعض المغفور فذهب إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل (29/69)
الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك العز بن عبد السلام في الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال كيف يصح هذا على رأي سيبويه الذي لا يرى كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول أنها للتبعيض مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذ ما لم يقع لا يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في واحفظوا أيمانكم إذ المراد بها الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز يعني عند أصحابه الشافعية ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب المغفورة بحقوق الله عز و جل وههنا بحث وهو أن الحمل على التبعيض يا أباه يغفر لكم ذنوبكم وإن الله يغفر الذنوب جميعا وقد نص البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا الأخفش للجزم بالزيادة هنا وجعله ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها المجتمعة معها وإلا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا قال طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقى نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس ولأبي حنيفة أن كلمة من حقيقية في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى
ولا خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد ههنا فبالتعليل على وجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين التعليل والمعلل على ما قيل وصوب العلامة التفتازاني حيث قال فيما علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم وقوله تعالى إن الله يغفر الذنوب جميعا فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها لآخرين أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضى صرح بعدم المنافاة بينهما حيث قالو لو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها لأن قول الرضيغير مرتضي لما عرفتمن أن مدلولا لتبعيضية البعضية المجردة واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة إبراهيم يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ومنها في سورة الأحقاف يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ومنها ما هنا وهو الذي ورد في قوم نوح عليه السلام وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد في الجن وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم نوح وعاد وثمود على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع (29/70)
القرآن تفرقة بين الخطابين ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة المذكورة إنما تتم لو لم يجيء الخطاب للكفرة على العموم وقد جاء كذلك كما في سورة الأنفال قل للذين كفرواأن أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد أسلفنا ما يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل
ويؤخرهم إلى أجل مسمى هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط الإيمان والطاعة وراء ما قدره عز و جل لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فإن وصف الأجلب المسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه أن لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى
إن أجل الله أيما قدره عز و جل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه
إذا جاء وأنتم على ما أنتم
لا يؤخر فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله سبحانه من قبل أن يأتيهم عذاب أليم فإنه أجل مؤقت له حتما وأيا كان لا تناقض بين يؤخركم وإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر كما يتوهم وقال الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه والأول هو المعول عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال
لو كنتم تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما أمركم به لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من لو وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلا على سبيل المبالغة
قال أي نوح عليه السلام مناجيا ربه عز و جل وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدة الأطول بعدما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل
رب إني دعوت قومي إلى الإيمان والطاعة
ليلا ونهارا أي دائما من غير فتور ولا توان
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا مما دعوتهم إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على حد الإسناد في سرتني رؤيتك وفرارا قيل تمييز وقيل مفعول ثان بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل أنه لم يثبت وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات
وإني كلما دعوتهم أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال أن الواو من الحكاية لا من المحكي
لتغفر لهم أي بسبب الإيمان
جعلوا أصابعهم في آذانهم (29/71)
أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منصوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى
واستغشوا ثيابهم أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كرهه الدعوة ففي التعبير بصيغة الإستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم وقيل بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه السلام فيدعوهم وفيه ضعف إنه قيل عليه أنه يأباه ترتبه على قوله كلما دعوتهم اللهم إلا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم
وأصروا أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مزجرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والفساد وما ذكر من الإستعار قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في الملازمة والإنهماك في الأمر وقال الراغب الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والإمتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا
واستكبروا من اتباعي وطاعتي
استكبارا عظيما وقيل نوعا من الإستكبار غير معهود والإستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له
ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله ثم إني دعوتهم جهارا يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فثم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله ليلا وذكرهم بعنوان قومه وقوله فرارا فإن القرب ملائم له وجوز كون ثم على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ كل من الإسرار والجهار ومنتهاه وباعتبار منتهى الجمع بينهما لئلا ينافي عموم الأوقات السابق ويحسن اعتبار ذلك وإن اعتبر عمومها عرفيا كما في لا يضع العصا عن عاتقه وجهارا منصوب بدعوتهم على المصدرية لأنه أحد نوعي الدعاء كما نصب القرفصاء في قعدت القرفصاء عليها لأنها أحد أنواع القعود أو أريد بدعوتهم جاهرتهم أو صفة لمصدر محذوف أي دعوتهم دعاء جهارا أي مجاهرا بفتح الهاء به أو مصدر في موقع الحال أي مجاهرا بزنة اسم الفاعل
فقلت استغفروا ربكم بالتوبة عن الكفر والمعاصي فإنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به وقال ربكم تحريكا لداعي الإستغفار
إنه كان غفارا دائم المغفرة كثيرها للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم على الإستغفار بأمور هي أحب إليهم وأوقع في قلوبهم من الأمور الأخروية أعني ما تضمنه يرسل السماء الخ وأحبيتهم لذلك لما جبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية
والنفس مولعة بحب العاجل
قال قتادة كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها وقيل لما كذبوه عليه الصلاة و السلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه وهو قوله يرسل السماء عليكم مدرارا (29/72)
أي كثير الدر ورأي السيلان والسماء السحاب أو المطر ومن إطلاقها على المطر وكذا على النبات أيضا قوله
إذا نزل السماء بأرض قوم ... وعيناه وإن كانوا غضابا
وجوز أن يراد بها المظلة على ما سمعت غير مرة وهي تذكر وتؤنث ولا يأبى تأنيثها وصفها بمدرار إلا أن صيغ المبالغة كلها كما صرح به سيبويه يشترك فيها المذكر والمؤنث وفي البحر أن مفعالا لا تلحقه التاء إلا نادرا
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات أي بساتين ويجعل لكم فيها أو مطلقا أنهارا جارية وأعاد فعل الجعل دون أن يقول يجعل لكم جنات وأنهارا لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم مدخل فيه بخلاف الثاني ولذا قال يمددكم بأموال وبنين ولم يعد العامل كذا قيل وهو كما ترى ولعل الأولى أن يقال أن الإعادة للإعتناء بأمر الأنهار لما أن لها مدخلا عاديا أكثريا وفي وجود الجنات وفي بقائها مع منافع أخر لا تخفى ورعاية لمدخليتها في بقائها الذي هو أهم من أصل وجودها مع قوة هذه المدخلية أخرت عنها وإن ترك إعادة العامل مع البنين لأنه الأصل أو لأنه لما كان الإمداد أكثر ما جاء في المحبوب ولا تكمل محبوبية كل من الأموال والبنين بدون الآخر ترك إعادة العامل بينهما للإشارة إلى أن التفضل بكل غير منغص بفقد الآخر وتأخير البنين قيل لأن بقاء الأموال غالبا بهم لا سيما عند أهل البادية مع رمز إلى الأموال تصل إليهم آخر الأمر وهو مما يسر المتمول كما لا يخفى فتأمل
وقال البقاعي المراد بالجنات والأنهار ما في الآخرة والجمهور على الأول وروي عن الربيع بن صبيح أن رجل أتى الحسن وشكا إليه الجدب فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فقال ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له استغفر الله تعالى فقلنا أتاك رجال يشكون ألوانا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالإستغفار فقال ما قلت من نفسي شيئا إنما اعتبرت قول الله عز و جل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة و السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم الآية
ما لكم لا ترجون لله وقارا إنكارا لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارا على أن الرجاء بمعنى الخوف كما أخرجه الطستي عن ابن عباس مجيبا به سؤال نافع بن الأزرق منشدا قول أبي ذؤيب
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أو على أنه بمعنى الإعتقاد كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وجماعة وعبر به بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الإستقرار في لكم على أن الإنكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون الجملة الحالية لا إليها معا ولله متعلق بمضمر وقع حالا من وقارا ولو تأخر لكان صفة له والوقار كما رواه جماعة عن الحبر بمعنى العظمة لأنه على ما نقل الخفاجي عن الإنتصاف ورد في صفاته تعالى بهذا المعنى ابتداء أو لأنه بمعنى التؤدة لكنها غير مناسبة له سبحانه فأطلقت باعتبار غايتها وما يتسبب عنها من العظمة في نفس الأمر أو في نفوس أي سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه سبحانه بالإيمان به جل شأنه والطاعة له تعالى
وقد خلقكم أطوارا أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهو أنكم تعلمون أنه عز و جل خلقكم مدرجا لكم في حالات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل فالجملة حال من فاعل لا ترجون مقررة للإنكار والأطوار والأحوال المختلفة وأنشدوا قوله
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار (29/73)
وحملها على ما سمعت من الأحوال مما ذهب إليه جمع وعن ابن عباس ومجاهد ما يقتضيه وإن اقتصر عن ذكر النطفة والعلقة والمضغة وقيل المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت من الصبا والشباب والكهولة والشيخوخة والقوة والضعف وقيل من الألوان والهيآت والأخلاق والملل المختلفة وقيل من الصحة والسقم وكمال الأعضاء ونقصانها والغنى والفقر ونحوها هذا وقيل الرجاء بمعنى الأمل كما هو الأصل المعروف فيه والوقار بمعنى التوقير كالسلام بمعنى التسليم وأريد به التعظيم ولله بيان الموقر المعظم فهو خبر مبتدأ محذوف أي إرادتي لله أو متعلق بمحذوف يفسره المذكور أي وقارا الله ولم يعلق بالمذكور بناء على ما صحح على ما فيه من أن معمول المصدر مطلقا لا يتقدم عليه ولو تأخر لكان صلة له على ما في الكشاف وفيه أن المعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله تعالى إياكم في دار الثواب وحاصله ما لكم لا ترجون أن توقروا وفعظموا على البناء للمفعول فكأنه قيل لمن التوقير أي من الذي يعظمنا ويختص به إعظامه إيانا فقيل لله وفسره بقوله على حال الخ إشارة إلى أنه ينعي عليهم اغترارهم كأنه قيل ما لكم مغترين غير راجين وجعل الحث على الرجاء كناية عن الحث على الإيمان والعمل الصالح لاقتضائه انعقاد الأسباب بخلاف الغرور وهي كناية إيمائية إذ لا واسطة ولو جعلت رمزية لخفاء الفرق بين الرجاء والغرور على الأكثر لكان وجها قاله في الكشف وتعقب ذلك مفتي الديار الرومية عليه الرحمة بأن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى إياهم في دار الثواب ليس في حيز الإستبعاد والإنكار مع أن في جعل الوقار بمعنى التوقير من التعسف وفي جعل لله بيانا للموقر ودعوى أنه لو تأخر لكان صلة للوقار من التناقض ما لا يخفى فإن كونه بيانا للموقر يقتضي أن يكون التوقير صادرا عنه تعالى والوقار وصفا للمخاطبين وكونه صلة للوقار ويوجب كون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له عز و جل اه
وأجيب عن أمر التناقض بأنك إذا قلت ضرب لزيد جاز أن يكون زيد فاعلا وأن يكون مفعولا وكفى شاهدا صحة الإضافتين فعند التأخر يحتمل أن يكون الوقار بمعنى التوقير صادرا منه تعالى فيكون الوقار وصفا للمخاطبين ويحتمل أن يكون متعلقا به فيكون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له تعالى غاية ما في الباب أنه لما قدم لله وامتنع تعلقه بالمصدر المتأخر صار بيانا وعينت القرينة إرادة صدور التوقير عنه عز و جل وأين هذا من التناقض نعم يبقى الكلام في القرينة ولعلها السياق بناء على أن القوم استبعدوا أن يقبلوا ويلطف الله تعالى بهم أن هم تركوا باطلهم فيكون هذا من تتمة إزالة الشبهة فيما سمعت من قولهم كيف يقبلنا ويلطف بنا الخ ويعلم من هذا الجواب عن قوله أن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى ليس في حيز الإستبعاد كما لا يخفى وعليه قيل يكون قوله تعالى وقد خلقكم إلى قوله سبحانه فجاجا للدلالة على أنه جل شأنه لا يزال ينعم عليكم مع كفركم فكيف لا يلطف بكم ويوقركم إذا آمنتم وتفسر الأطوار بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة كالصبا والشباب والكهولة وغيرها مما يكون بعضه في حال الكفر ويصلح لأن يمتن به ويلتزم كون الإعادة في الأرض من النعم عندهم بناء على أن فيها ستر فظاعةالأبدان على أسهل وجه بعد حلول الموت الضروري في هذه النشأة والإنصاف بعد هذا كله تم أم لم يتم أن الوجه المذكور متكلف بعيد عن الظاهر بمراحل وقيل المعنى ما لكم لا تخافوا الله تعالى حلما وترك معالجة بالعقاب فتؤمنوا فالرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنىالحلم حقيقة كما هو ظاهر كلام الراغب أو استعارة له لاشتراكهما في الثاني أو مجازا إذ لا يتخلف الحلم عن الوقار عادة وفي رواية عن ابن عباس تفسيره بالعاقبة حيث قال أي لا تخافون لله عاقبة وهو من الكناية حينئذ أخذا من الوقار بمعنى الثبات وعن مجاهد والضحاك أن المعنى ما لكم لا تبالون لله تعالى عظمة قال قطرب (29/74)
هذه لغة أهل الحجاز وهذيل وخزاعة ومضر ويقولون لم أرج أي لم أبال وأظهر المعاني ما ذكرناه أولا ولما ذكر من آيات الأنفس ما ذكر أتبعه بشيء من آيات الآفاق ولبعد أحد الأمرين عن الآخر رتبة لم يأت بالعطف بل قطع فقال
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا أي متطابقة بعضها فوق بعض وتفسير التطابق بالتوافق في الحسن والإشتمال على الحكم وجودة الصنع ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت عدول عن الظاهر الذي تطابقت عليه الأخبار من غير داع إليه
وجعل القمر فيهن نورا منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في بقعة منها والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية وكونها طباقا شفافة
وجعل الشمس سراجا يزيل ظلمةالليل ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوا السراج ما يحتاجون إلى إبصاره وتنويه للتعظيم وفي الكلام تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب جعل مشبها به ولاعتبار التعدي إلى الغي في مفهومه بخلاف النور كان أبلغ منه ولعل في تشبيهها بالسراج القائم ضياءه لا بطريق الإنعكاس رمزا إلى أن ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر كما أن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها وجزم أهل الهيئة القديمة بذلك وفي رواية لأظنها تصح أن ضياء الشمس مفاض عليها من العرش وأظن أن من يقول أنها تدور على كوكب آخر من أهل الهيئة الجديدة يقول باستفادتها النور من غيرها ثم الظاهر أن المراد وجعل الشمس فيهن فقيل هي في السماء الدنيا في فلك في ثخنها وقيل في السماء الرابعة وهو المشهور عند متقدمي أهل الهيئة واستدلوا عليه بما هو مذكور في كتبهم وفي البحر حكاية قول أنها في الخامسة ولا يكاد يصح ومما يضحك الصبيان فضلا عن فحول ذوي العرفان ما حكى فيه أيضا أنها في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة وذهب متأخروا أهل الهيئة إلى أنها مركز للسيارات وعدوا الأرض منها ولم يعدوا القمر لدورانه على الأرض وهو بينها وبين الشمس عندهم وسنعمل إن شاء الله تعالى رسالة في تحقيق الحق والحق عند ذويه أظهر من الشمس
والله أنبتكم من الأرض نباتا أي أنشأكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض لكونه محسوسا وقد تكرر إحساسه وهم وإن لم ينكروا الحدوث جعلوا بإنكار البعث كمن أنكره ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية ومن ابتدائية داخلة على المبدأ البعيد ونباتا قال أبو حيان وجماعة مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد والأصل إنباتا أو نصب بإضمار فعل أي فنبتم نباتا وفي الكشف أن الإنبات والنبات من الفعل والإنفعال وهما واحد في الحقيقة والإختلاف بالنسبة إلى القيام بالفاعل والقابل فلا حاجة إلى تضمين فعل آخر ولا تقديره ثم إن الإنبات إن حمل على معناه الوضعي فلا احتياج إلى التقدير إذ هو في نفسه متضمن للنبات كما أشرنا إليه فيكون نباتا نصبا بأنبتكم لهذا التضمن وإن حمل على المتعارف من إطلاقه على مقدمة الإنبات من إخفاء الحب في الأرض مثلا فالوجه الحمل على أن المراد أنبتكم فنبتم نباتا ليكون فيه إشعار بنحو النكتة التي جرت في قوله تعالى فانبجست من الدلالة على القدرة وسرعة نفاذ حكمها وجوز أن يكون الأصل انبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فحذف من الجملة الأولى المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء بما ذكر في الأخرى على أنه من الإحتباك وقال القاضي اختصر اكتفاء بالدلالة الإلتزامية وفيه على ما قال الخفاجي الأشعار المذكورة فتأمل
ثم يعيدكم فيها أي في الأرض بالدفن عند موتكم (29/75)
ويخرجكم منها عند البعث والحشر
إخراجا محققا لا ريب فيه وعطف يعيدكم بثم لما بين الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي به استحقواالجزاء بعد الإعادة وعطف يخرجكم بالواو دون ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق لوقوع دون بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء
والله جعل لكم الأرض بساطا تتقلبون عليها كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا ثم أن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط لكم بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة
لتسلكوا منها سبلا طرقا فجاجا واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا وقال غير واحد هو اسم للطريق الواسعة وقيل اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان ومن متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الإتخاذ وإلا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من سبلا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها
قال نوح أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عز و جل أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عز و جل
رب إنهم عصوني أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير
واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للإتباع في الجملة وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه وولده بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى
وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية
ومكروا عطف على صلة من الجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم وقيل عطف على عصوني والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر
مكرا كبارا أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر وهي لغة يمانية وعليها قول الشاعر
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء
وقوله
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال كبارا بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلا أنها دون (29/76)
المبالغة في المشدد ومثل كبار ذلك حسان وطول عجاب وجمال إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب بن واضح كبارا بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري وهو جمع كبير كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف بالجمع
وقالوا ألا تذرن آلهتكم أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليه السلام
ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوصا بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم فيما بينها بزعمهم كما يؤميء إليه إعادة لا مع بعض وتركها مع آخر وقيل أفرد يعوق ونسر عن النفي لكثرة تكرار لا وعدم اللبس وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فعلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ودرس العلم عبدت وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كان لآدم عليه السلام خمسة بنين ود وسواع الخ فكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجائهم الشيطان فقال حزنتم على صاحبكم هذا قالوا نعم قال هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه قالوا نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئا نصلي عليه قال فأجعله في مؤخر المسجد قالوا نعم فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء فبعث الله تعالى نوحا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادتها فقالوا ما قالوا وأخرجا بن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن ودا كان أكبرهم وأبرهم وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام وروي أن ودا أول معبود من دون الله سبحانه وتعالى أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال ذكروا عند أبي جعفر رضي الله تعالى عنه يزيد بن المهلب فقال إما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى ثم ذكر ودا وقال كان رجلا مسلما وكان محببا في قومه فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم تشبه في صورة إنسان ثم قال أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به قالوا نعم فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به فلما رأى ما بهم من ذكره قال هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله فيكون في بيته فيذكر به فقالوا نعم ففعل فأقبلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله تعالى فكان أول من عبد غير الله تعالى في الأرض ودا وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء وقيل يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء فاتخذت العرب أصناما وسموها بها وقالوا أيضا عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم وما رآه أبو عثمان منها باسم ما سلف ويحكى أن (29/77)
ودا كان على صورة رجل وسواعا كان على صورة امرأة ويغوث كان على صورة أسد ويعوق كان على صورة فرس ونسرا كان على صورة نسر وهو مناف لما تقدم أنهم كانوا على صور أناس صالحين وهو الأصح وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم ودا بضم الواو وقرأ الأشهب العقيلي ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما قال صاحب اللوامح جعلهما فعولا فلذلك صرفهما وهما في قراءة الجمهور صفتان من الغوث والعوق يفعل منهما وهما معرفتان فلذلك منعا الصرف لاجتماع الثقلين اللذين هما التعريف ومشابهة الفعل المستقبل وتعقبه أبو حيان فقال هذا تخبيط أما أولا فلا يمكن أن يكونا فعولا لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق وإما ثانيا فليسا بصفتين لأن يفعلا لم يجيء اسما ولا صفة وإنما امتنعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين وللعلمية والعجمة إن كانا عجميين وقال ابن عطية قرأ الأعمش ولا يغوثا ويعوقا بالصرف وهو وهم لأن التعريف لازم وكذا وزن الفعل وأنت تعلم أن الأعمش لم ينفرد بذلك وليس بوهم فقد خرجوه على أحد وجهين أحدهما أن الصرف للتناسب كما قالوا في سلاسل وأغلالا وهو نوع من المشاكلة ومعدود من المحسنات وثانيهما أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة حكاها الكسائي وغيره لكن يرد على هذا أنها لغة غير فصيحة لا ينبغي التخريج عليها
وقد أضلوا أي الرؤساء كثيرا خلقا كثيرا أي قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام فهم ليسوا بأول من أضلوهم ويشعر بذلك المضي والإقتران بقد حيث أشعر بأن الإضلال استمر منهم إلى زمن الإخبار بإضلال الطائفة الأخيرة وجوز أن يراد بالكثير هؤلاء الموصين وكان الظاهر وقد أضل الرؤساء إياهم أي الموصين المخاطبين بقوله لا تذرن آلهتكم فوضع كثيرا موضع ذلك على سبيل التجريد وقال الحسن وقد أضلوا أي الأصنام فهو كقوله تعالى رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وضمير العقلاء لتنزيلها منزلتهم عندهم وعلى زعمهم ويحسنه على ما في البحر عود الضمير على أقرب مذكور ولا يخفى أن عوده على الرؤساء أظهر إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن والجملة قيل حالية أو معطوفة على ما قبلها وقوله تعالى
ولا تزد الظالمين إلا ضلالا قيل عطف على رب أنهم عصوني على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قال والواو النائبة عنه ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الخ أي قال هذين القولين على أن الواو من كلام الله تعالى لأنها داخلة في الحكاية وما بعدها هو المحكي وإليه ذهب الزمخشري وإنما ارتكب ذلك فرارا من عطف الإنشاء على الخبر وقيل عطف عليه والواو من المحكي والتناسب إنشائية وخبرية غير لازم في العطف كما قاله أبو حيان وغيره وفيه خلاف وفي الكشف لك أن تجعله من باب واهجرني مليا أي فاخذلهم ولا تزدهم وفي العدول إلى الظالمين إشعار باستحقاقهم الدعاء عليهم وإبداء لعذره عليه السلام وتحذير ولطف لغيرهم وفيه أنه بغض ما يتسبب من مساويهم وهو معنى حسن فعنده العطف على محذوف إنشائي ولعل الأولى أن يقال أن العطف على رب إنهم عصوني والواو من المحكي والتناسب حاصل وقال الخفاجي الظاهر أن الغرض من قوله رب إنهم الخ الشكاية وإبداء العجز واليأس منهم فهو طلب للنصرة عليهم كقوله رب انصرني بما كذبون ولو لم يقصد ذلك تكرر مع ما مر منه عليه السلام فحينئذ يكون كناية عن قوله أخذلهم أو انصرني أو أظهر دينك أو نحوه فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء من غير تقدير ويشهد له أن الله تعالى سمى مثله دعاء حيث قال سبحانه فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فتدبر
وهو حسن خال عن التكلف وارتكاب المختلف فيه إلا أن في الشهادة دغدغة والمراد بالضلال المدعو بزيادته أما الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم فيكون ذلك دعاء عليهم بعدم تيسير أمورهم وأما الضلال بمعنى الهلاك كما في قوله تعالى إن المجرمين في ضلال (29/78)
وسعر وهو مأخوذ من الضلال في الطريق لأن من ضل فيها هلك فيكون المعنى أهلكهم وفسره ابن بحر بالعذاب وهو قريب مما ذكر وقيل هو على ظاهره أعني الضلال في الدين والدعاء بزيادته إنما كان بعد ما أوحي إليه عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ومآله الدعاء عليهم بزيادة عذابهم ويحتاج إلى دليل وبما سمعت ينحل ما يقال أن طلب الضلال ونحوه إما غير جائز مطلقا أو إذا دعي به على وجه الإستحسان وبدونه وإن كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم
مما خطيآتهم أي من أجل خطيآتهم
أغرقوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها من كبائر ما ينهى عنه ومن لم يرد زيادتها جعلها نكرة وجعل خطيآتهم بدلا منها وزعم ابن عطية أن من لابتداء الغاية وهو كما ترى وقرأ أبو رجاء خطياتهم بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو خطيئتهم على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم وأبو عمرو خطاياهم جمع تكسير وقرأ عبد الله من خطيآتهم ما أغرقوا بزيادة ما بين خطيآتهم وأغرقوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيآتهم إغراقهم وقرأ زيد بن علي غرقوا بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل
فأدخلوا نارا هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب وقال الضحاك كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثان فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على هذا لعدم الإعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه عز و جل أعد لهم على حسب خطيآتهم نوعا من النار ولا يخفى ما في أغرقوا فأدخلوا نارا من الحسن الذي لا يجارى ولله تعالى در التنزيل
فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مما خطيآتهم الخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصيبهم إلا لأجل خطيآتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار الرومية عليه الرحمة وما قيل أنه عطف على لم يجدوا أو على جملة مما خطيآتهم الخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي العام يقال ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي مات بها أحد وهو فيعال من الدار أو من الدور كأنه قيل لا تذر على الأرض من الكافرين من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار اجتمعت الواو والياء وسبقت أحدهما فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلا لكان دوارا إذ لا داعي للقلب حينئذ ومن الكافرين حال منه ولو أخر كان صفة له والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم يجيبوا فإن (29/79)
كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم بعثته لبعض منهمك كان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كان غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلى الله تعالى عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من كل وجه وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلا كأهل بيت واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص بنبينا عليه الصلاة و السلام هو العموم المندرج فيه الأنس والجن إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسئلة والطوفان لا نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه فالبلاء قد يعم الصالح والطالح لكن يصدون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم وقد سئل الحسن عن ذلك فقال علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب نعم الحكمة في إهلاك زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا أبصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله عز و جل لا تحصى فافهم
إنك إن تذرهم أي على الأرض كلا أو بعضا
يضلوا عبادك عن طريق الحق ولعل المراد بهم من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان وبإضلالهم إياهم صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه إليه عليه السلام ويقول احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن هنا قال عليه السلام
ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك بما حصل له من التجربة ألف سنة إلا خمسين عاما ومثله قوله عليه السلام إن تذرهم يضلوا عبادك وقيل أراد من جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم أرحام نسائهم وأيا ما كان فقوله إنك الخ اعتذار مما عسى أن يقال من أن الدعاء بالإستئصال مع احتمال أن يكون من إخلافهم من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام
رب اغفر لي ولوالدي أراد أباه لمك بن متوشلخ وقد تقدم ضبط ذلك وأمه شمخى بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولو لا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه الأقرب أو أراد جميع من ولدوه (29/80)
إلى آدم عليه السلام ولم يكفر كما قال ابن عباس لنوح أب ما بينه وبين آدم عليه السلام وقرأ الحسين بن علي كرم الله تعالى وجههما ورضي عنهما وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري ولولدي تثنية ولد يعني ساما وحاما على ما قيل وفي رواية أن ساما كان نبيا
ولمن دخل بيتي قيل أراد منزله وقيل سفينته وقال الجمهور وابن عباس أراد مسجده وفي رواية عن الحبر أنه أراد شريعته استعار لها اسم البيت كما قالوا قبة الإسلام وفسطاط الدين والمتبادر المنزل وتخرج امرأته وابنه كنعان بقوله
مؤمنا وقيل يمكن أنه لم يجزم بخروج كنعان إلا بعد ما قيل له أنه ليس من أهلك
وللمؤمنين والمؤمنات أي من كل أمة إلى يوم القيامة وهو تعميم بعد التخصيص واستغفر ربه عز و جل إظهارا لمزيد الإفتقار إليه سبحانه وحبا للمستغفر لهم من والديه والمؤمنين وقيل أنه استغفر لما دعا على الكافرين لأنه انتقام منهم ولا يخفى أن السياق يأباه وكذا قوله
ولا تزد الظالمين إلا تبارا أي هلاكا وقال مجاهد خسارا والأول أظهر وقد دعا عليه السلام دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين وحيث استجيب له الأولى فلا يبعد أن تستجاب له الثانية والله تعالى أكرم الأكرمين ومعظم آيات هذه السورة الكريمة وغيرها نص في أن القوم كفرة هالكون يوم القيامة فالحكم بنجاتهم كما يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه مما يبرأ إلى الله تعالى منه كزعم أن نوحا عليه السلام لم يدعهم على وجه يقتضي إيمانهم مع قوله سبحانه الله أعلم حيث جعل رسالته وقصارى ما أقول رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات
سورة الجن
وتسمى قل أوحي إلي وهي مكية بالإتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة نوح استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال عز و جل في هذه السورة لكفار مكة وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا بين في الإرتباط انتهى
وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصى الله عز و جل في قوله سبحانه ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا فإنه يناسب قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادى قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة و السلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها أثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة و السلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطيء فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده
فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي وقرأ ابن أبي عبلة والعتكي عن أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي وحي بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول العجاج
وحي لها القرار (29/81)
فاستقرت
وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية أحي بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع
وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال أنه أيضا مقيس مطرد وأنه قد يرد في ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القرآن الجار والمجرور متعلق بما عنده ونائب الفاعل
أنه الخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن
استمع أي القرآن كما ذكر في الإحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه
نفر من الجن النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة وقال الحريري في درته أن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وأعز نفرا أو قول امريء القيس
فهو لا تنمي رميته ... ماله لا عد من نفره
وقال الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل واردا بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ
والجن واحده جني كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى وخلق الجان من مارج من نار وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز و جل ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلا من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيبة مثلا وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحبط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن في رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الإسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلا الله عز و جل ولا يبعد قوله تنمي الخ يقال أنمي إذا توارى أه منه على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن هذه الحالة في النفوس الخيرة (29/82)
سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته
واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثنتي عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم والآية ظاهر في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة و السلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة به لسوق عكاظ وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة و السلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا الخ فأنزل الله تعالى عليه قل أوحي الخ ثم قال ونفى ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن الخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة و السلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم الخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات وقال ابن تيمية أن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلى الله تعالى عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة و السلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من النبوة وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط علي خطا ثم قال لا تبرحن خطك فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاءه إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة و السلام فقلت أين كنت يا رسول الله فقال أرسلت إلى الجن فقلت ما هذه الأصوات التي سمعت قال هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي وقد يجمع الإختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم
واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة اقرأ باسم ربك وقيل سورة الرحمن
فقالوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم
إنا سمعنا قرآنا أي كتابا مقروءا على ما فسره بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى ما ذكروه في وصفه مما يأتي له كله دون المقروء منه فقط والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن
عجبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة
يهدي إلى الرشد إلى الحق والصواب وقيل إلى التوحيد والإيمان وقرأ عيسى الرشد بضمتين وعنه أيضا فتحهما
فآمنا به أي بذلك القرآن من غير ريث
ولن نشرك بربنا أحدا حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أو حسبما نطق به الدلائل العقلية على التوحيد ولم تعطف هذه الجملة (29/83)
بالفاء قال الخفاجي لأن نفيهم للإشراك إما لما قام عندهم من الدليل العقلي فحينئذ لا يترتب على الإيمان بالقرآن وإما لما سمعوه من القرآن فحينئذ يكفي في ترتبها عليه عطف الأول بالفاء خصوصا والباء في به تحتمل السببية فيعم الإيمان به الإيمان بما فيه فإنك إذا قلت ضربته فتأدب وانقاد إلى فهم ترتب الإنقياد على الضرب ولو قلت فانقاد لم يترتب على الأول بل على ما قبله وقيل عطفت بالواو ولتفويض الترتب إلى ذهن السامع وقد يقال أن مجموع فآمنا ولن نشرك مسبب عن مجموع إنا سمعنا الخ فكونه قرآنا معجزا يوجب الإيمان به وكونه يهدي إلى الرشد يوجب قلع الشرك من أصله والأول أولى وجوز أن يكون به لله عز و جل لأن قوله سبحانه بربنا يفسره فلا تغفل
وأنه تعالى جد ربنا اختلفوا قراءة في أن هذه وما بعدها إلى وأنا منا الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة ما هنا وأنه كان يقول وأنه رجال وقرأ الباقون بكسرها في الجميع واتفقوا على الفتح في أنه استمع وإن المساجد لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحي بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحي واختلفوا في أنه لما قام فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه ووجه الكسر في إن هذه وما بعدها إلى وأنا منا المسلمون ظاهر كالكسر في أنا سمعنا قرآنا لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري هو العطف على محل الجار والمجرور في آمنا به كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل أنه بتقدير الجار لإطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديدا كما في الكشف وضعف مكي العطف على ما في حيز آمنا فقال فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن أنفسهم لأصحابهم وأجيب عن الذاهبين إليه بأن الإيمان والتصديق يحسن في بعض تلك المعطوفات بلا شبهة فيمضي في البواقي ويحمل على المعنى على حد قوله
وزججن الحواجب والعيونا ...
فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل أوحي أعني أنه استمع كما في أن المساجد على أن الموحي عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قل أوحي إلي كيت وكيت وهذه العبارات وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون أن في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من أن وما بعدها وإلا لما صح أن يقال الموحي كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل
والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز و جل وفيه من المبالغة ما لا يخفى وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان وقيل الغني وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت
وقوله عز و جل ما اتخذ صاحبة ولا ولدا عليها تفسير للجملة (29/84)
وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز و جل بالتعالي عن الصحابة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه وقرأ حميد بن قيس جد بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى ربنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة جد منونا مرفوعا ربنا بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا وربنا خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من جد وقرأ أيضا جدا منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة جدا بكسر الجيم والتنوين والنصب ربنا بالرفع قال ابن عطية نصب جدا على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع جدا ربنا أي جداوه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغني فلا تغفل
وأنه كان يقول سفيها هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا
على الله شططا أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز و جل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فآمنا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا
وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكذبا مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة دون المنفي وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت أحدهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى
فزادهم أي زاد الرجال العائذون الجن
رهقا أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتقي وامق ما لم يصب رهقا
فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الإخباري وذهب الفراء إلا أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وكم من قرية أهلكنا فجاءها بأسنا وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس وقيل لا يطلق على ذكور الجن (29/85)
ومن الجن في الآية متعلق بيعوذون ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجب الزيادة الرهق وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الإستعاذة ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير
وأنهم ظنوا أي الإنس
كما ظننتم أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض
أن لن يبعث الله أحدا أي من الرسل إلى أحدا من العباد وقيل أن لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيا ما كان فالمراد وقد أخطؤا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن الخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى إنه استمع وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى وأنه كان رجال الخ من جملة المحي وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه وإنا لمسنا السماء الخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن الموحي إليه فتخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى
وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأن العطف على أنه استمع على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث الخ قيل سادة مسد مفعولي ظنوا وجوز أن تكون سادة مسد مفعولي ظننتم ويكون الساد مسد مفعولي الأول محذوفا كما هو المختار في أمثال ذلك ورجح الأول في الآية بأن ظنوا هو المقصود فيها فجعل المعمول المذكور له أحسن وأما كما ظننتم فمذكور بالتبع ومنه يعلم أن كون المختار أعمال الثاني في باب التنازع ليس على إطلاقه
وأنا لمسنا السماء أي طلبنا بلوغها لاستماع كلام أهلها أو طلبنا خبرها واللمس قيل مستعار من المس للطلب كالجس يقول لمسه والتمسه كطلبه وأطلبه وتطلبه والظاهر أن الإستعارة هنا لغوية لأنهم مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه والسماع على ظاهرها
فوجدناها أي صادفناها وأصبناها فوجد متعد لواحد
وقوله تعالى ملئت في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وإن كانت وجد من أفعال القلوب فهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وقرأ الأعرج مليت بالياء دون همز
حرسا أي حراسا اسم جمع كخدم كما ذهب إليه جمع لأنه على وزن يغلب في المفردات كبصر وقمر ولذا نسب إليه فقيل حرسي وذهب بعض إلى أنه جمع والصحيح الأول ولذا وصف بالمفرد فقيل
شديدا أي قويا ونحوه قوله
بنيته بعصبة من ماليا ... أخشى رجيلا وركيبا عاديا
ولو روعي معناه جمع بأن يقال شدادا إلا أن ينظر لظاهر وزن فعيل فإنه يستوي فيه الواحد والجمع والمراد بالحرس الملائكة عليهم السلام الذين يمنعونهم عن قرب السماء
وشهبا جمع شهاب وقد مر كلام فيه وجوز بعضهم أن يكون المراد بالحرس الشهب والعطف مثله في قوله
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وهو خلاف الظاهر ودخول أنا لمسنا الخ في حيز الإيمان وكذا أكثر الجمل الآتية في غاية الخفاء والظاهر تقدير (29/86)
نحو نخبركم فيما لا يظهر دخوله في ذلك أو تأويل آمنا من أول الأمر بما ينسحب على الجميع
وأنا كنا نقعد قبل هذا منها أي من السماء
مقاعد للسمع أي مقاعد كائنة للسمع خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والإستماع وللسمع متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد وكيفية قعودهم على ما قيل ركوب بعضهم فوق بعض وروي في ذلك خبر مرفوع لا مانع من أن يكون بعروج من شاء منهم بنفسه إلى حيث يسمع منه الكلام
فمن يستمع الآن قال في شرح التسهيل الآن معناه هنا القرب مجازا فيصح مع الماضي والمستقبل وفي البحر أنه ظرف زمان للحال ويستمع مستقبل فاستمع في الظرف واستعمل للإستقبال كما قال
سأسعى الآن إذ بلغت أناها
فالمعنى فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي
يجد له شهابا رصدا أي يجد شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الإستماع بالرجم فرصد صفة شهابا فإن كان مفردا فالأمر ظاهر وإن كان اسم جمع للراصد كحرس فوصف المفرد به لأن الشهاب لشدة منعه وإحراقه جعل كأنه شهب ونظير ذلك وصف المعا وهو واحد الإمهاء بجياع في قول القتامي
كأن قيود رجلي حين ضمت ... حوالب غرزوا معا جياعا
وجوز كونه مفعولا له أي لأجل الرصد وقيل أن يكون اسم جمع صفة لما قبله بتقدير ذوي شهاب فكأنه قيل يجد له ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة عليهم السلام الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الإستماع وفيه بعد وفي الآية رد على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو إحدى آياته عليه الصلاة و السلام حيث قيل فيها ملئت وهو كما قال الجاحظ ظاهر في أن الحادث هو الملء والكثرة وكذا قوله سبحانه نقعد منها مقاعد على ما في الكشاف فكأنه قيل كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الخ ويدل على وجود الشهب قبل ذكرها في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي خازم
والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفها انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر
وانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الرع يصف فرسا
يرد علينا العير من دون إلفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فإن هؤلاء الشعراء كلهم كما قال التبريزي جاهلون ليس فيهم مخضرم وما رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم وروي عن معمر قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم قلت أرأيت قوله تعالى وإنا كنا نقعد فقال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه أخذ ذلك من الآية أيضا وقال بعضهم إن الرمي لم يكن أولا ثم حدث للمنع عن بعض السماوات ثم كثر ومنع الشياطين عن جميعها يوم تنبأ النبي عليه الصلاة و السلام وجوز أن تكون الشهب من قبل لحوادث كونية لا لمنع الشياطين أصلا والحادث بعد البعثة رمي الشياطين بها على معنى أنهم إذا عرجوا للإستماع رموا بها فلا يلزم أيضا أن يكون كل ما يحدث من الشهب اليوم للرمي بل يجوز أن يكون الأمور أخر بأسباب يعلمها الله تعالى ويجاب بهذا عن حدوث الشهب في شهر رمضان مع ما جاء من أنه تصفد مردة الشياطين فيه ولمن يقول أن الشهب لا تكون إلا للرمي جواب آخر مذكور (29/87)
في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الإستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة و السلام
وقولهم وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء
أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغيير الحال عما كانوا ألفوه والإستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أشر أريد الخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز و جل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الإعتقاد
وأنا منا الصالحون أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة
ومنا دون ذلك أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى
كنا طرائق قددا وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وإنا لما سمعنا الهدى إلى قوله تعالى وإنا منا المسلمون الخ وجوز بعضهم كون دون بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيا ما كان فجملة كنا الخ تفسير للقسمة المتقدمة لكن قيل الأنسب كون دون بمعنى غير والكلام على حذف مضاف أي كنا ذوي طراق أي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت بطرائقنا طرائق قددا وكون هذا من تلقي الركبان لا يلتفت إليه وعدم اعتبار التشبيه البليغ ليستغني عن تقدير مثل قيل لأن المحل ليس محل المبالغة وجوز الزمخشري كون طرائق منصوبا على الظرفية بتقدير في أي كنا في طرائق وتعقب بأن الطريق اسم خاص لموضع يستطرق فيه فلا يقال للبيت أو المسجد طريق على الإطلاق وإنما يقال جعلت المسجد طريقا فلا ينتصب مثله على الظرفية إلا في الضرورة وقد نص سيبويه على أن قوله
كما عسل الطريق الثعلب
شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك وقال بعض النحاة هو ظرف عام لأن كل موضع يستطر قطري والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
جمع قدة من قد إذا قطع كأن كل طريق لامتيازها مقطوعة من غيرها
وأنا ظننا أي علمنا الآن
أن لن نعجز الله أي أن الشأن لن نعجز الله تعالى كائبين
في الأرض أي أينما كنا من أقطارها
ولن نعجزه هربا أي هاربين منها إلى السماء فالأرض محمولة على الجملة ولما ولن الخ في مقابلة ما قبل لزم أن يكون الهرب إلى السماء وفيه ترق ومبالغة كأنه قيل لن نعجزه سبحانه في الأرض ولا في السماء وجوز أن لا ينظر إلى عموم ولا خصوص كما في أرسلنا العراك ويجعل الفوت على قسمين أخذا من لفظ الهرب والمعنى لن نعجزه سبحانه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه عز و جل هربا بأن طلبنا وحاصله أن طلبنا لم نفته وإن هربنا لم نخلص منه سبحانه وفائدة ذكر الأرض تصوير أنها مع هذه البسطة والعراضة ليس فيها منجا منه تعالى ولا مهرب لشدة قدرته سبحانه وزيادة تمكنه جل وعلا ونحوه قول القائل
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقيل فائدة ذكر الأرض تصوير تمكنهم عليها وغاية بعدها عن محل استوائه سبحانه وتعالى وليس بذاك وكون في الأرض (29/88)
وهربا حالين كما أشرنا إليه هو الذي عليه الجمهور وجوز في هربا كونه تمييزا محولا عن الفاعل أي لن يعجزه سبحانه هربنا
وأنا لما سمعنا الهدى أي القرآن الذي هو الهدى بعينه
آمنا به من غير تلعثم وتردد
فمن يؤمن بربه وبما أنزله عز و جل فلا يخاف جواب الشرط ومثله من المنفي بلا يصح فيه دخول الفاء وتركها كما صرح به في شرح التسهيل إلا أن الأحسن تركها ولذا قدر ههنا مبتدأ لتكون الجملة إسمية ولزم اقترانها بالفاء إذا وقعت جوابا إلا فيما شذ من نحو
من يفعل الحسنات الله يشكرها
معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف
بخسا أي نقصا في الجزاء وقال الراغب البخس نقص الشيء على سبيل الظلم
ولا رهقا أي غشيان ذلة من قوله تعالى وترهقهم ذلة وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبي مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه وحاصل المعنى فلا يخاف أن أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بخسا مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا وأما غيره فلا نصيب له فضلا عن الكمال وفيه أن ما يجزى به غير المؤمن مبخوس في نفسه وبالنسبة إلى هذا الحق فيه كل البخس وإن لم يكن هناك بخس حق كذا في الكشف أو فلا يخاف بخسا ولا رهقا لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهقه ظلما فلا يخاف جزاءهما وليس من إضمار مضاف أعني الجزاء بل ذلك بيان لحاصل المعنى وإن ما ذكر في نفسه مخوف فإنه يصح أن يقال خفت الذنب وخفت جزاءه لأن ما يتولد منه المحذور محذور وفيه دلالة على أن المؤمن لاجتنابه البخس والرهق لا يخافهما فإن عدم الخوف من المحذور إنما يكون لانتفاء المحذور وجاز أن يحمل على الإضمار وأصل الكلام فمن لا يبخس أحدا ولا يرهق ظلمه فلا يخاف جزاءهما فوضع ما في النظم الجليل موضعه تنبيها بالسبب على المسبب والأول كما قيل أظهر وأقرب مأخذا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فلا يخاف بخسا ظلما بأن يظلم من حسناته فينتقص منها شيء ولا رهقا ولا أن يحمل عليه ذنب غيره وأخرج نحوه عن الحسن ولعل المعنى الأول أنسب بالترغيب بالإيمان الرهق أيضا نظرا إلى ما سمعت من قوله تعالى وترهقهم ذلة وقرأ ابن وثاب والأعمش فلا يخف بالجزم على أن لا ناهية لا نافية لأن الجواب المقترن بالفاء لا يصح جزمه وقيل الفاء زائدة ولا للنفي وليس بشيء وأيا ما كان فالقراءة الأولى أدل على تحقق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وذلك لتقدير هو عليها وبناء الفعل عليه نحو هو عرف ويجتمع فيه التقوى والإختصاص إذا اقتضاهما المقام وقرأ ابن وثاب بخسا الخاء المعجمة
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون الجائرون على طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة يقال قسط الرجل إذا جار وأنشدوا
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
فمن أسلم فأولئك الإشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى
تحروا توخوا وقصدوا
رشدا عظيما بلغهم إلى الدار للثواب وقرأ الأعرج رشدا بضم الراء وسكون الشين
وأما القاسطون الجائرون عن سنن الإسلام
فكانوا لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن فمن أسلم الخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى (29/89)
للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا إن قال سبحانه فأولئك تحروا رشدا فذكر سبب الثواب والله عز و جل أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عز و جل
وقوله تعالى وإن لو استقاموا الخ معطوف قطعا على قوله سبحانه أنه استمع ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور لا الحال وعدم الإلتباس وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو والمعنى وأوحى إلي أن الشأن لو استقام الإنس والجن أو كلاهما
على الطريقة التي هي ملة الإسلام
لأسقيناهم ماء غدقا أي كثيرا وقرأ عاصم في روايةالأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب
لنفتنهم فيه أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر على السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير إلى القاسطين وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونها مفضلة وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجلز بيد أنهم أعادوا الضمير على من أسلم وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس لأسقيناهم الخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الإستقامة على الطريقة في الإستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا الخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عز و جل
ومن يعرض عن ذكر ربه الخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيبتغوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكرالوحي أي ومن يعرض عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عز و جل
يسلكه مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى
عذابا صعدا بنفسه دون في أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلوا المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أيما شق علي وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان في عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدار إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نسلكه عذابا من أجله وقرأ الكوفيون يسلكه بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين (29/90)
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقرأ قوم صعدا بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه
وأن المساجد لله عطف على أنه استمع فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أي وأوحى إلى أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه
فلا تدعوا أي فلا تعبدوا فيها مع الله أحدا غيره سبحانه وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة و السلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصة اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الإختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والحضر إن كان حيا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة محوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت وأن المساجد لله الخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها قتائدة ثنية معروفة أه منه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمكد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى وأن المساجد بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والمساجد بمعناها المعروف أي لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عز و جل فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تدعوا قيل للجن وأيد بما روي عن ابن جبير قال أن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على ناينا عنك فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها وهو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارة إذا دخلوا كنائسهم ويبعهم أشركوا بالله عز و جل فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد بهذه الآية وعن ابن جريج بدل فأمرنا الخ فأمرهم أن يوحدوه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ (29/91)
كما في البحر ابن هرمز وطلحة وإن المساجد بكسر همزة إن وحمل ذلك على الإستئناف وأنه بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على أنه استمع كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحى إلى أن الشأن لما قام عبد الله أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى يدعوه حال من عبد أي لما قام عابدا له عز و جل وذلك قيامه عليه الصلاة و السلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر كادوا أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك يكونون عليه لبدا متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة و السلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير أما لأنه مقول على لسانه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه أمر يقول أوحي كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد ونقل عليه الصلاة و السلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا إلا أنه تصرف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين وقال الحسن وقتادة ضمير كادوا لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد للعداوة والمعنى أنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كادوا لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمون وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والإنس وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفؤه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره على من ناوأه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام كاد قومه يقتلونه حتى ايتنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال أنه عبد الله بن سلام أه ولعمري أنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في البحر وأنه بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عز و جل وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة إنا سمعنا حكموا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلى الله تعالى عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكى به ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا وفي الكشف الوجه على تقدير أن يكون وإن المساجد من جملة الموحى أن يكون فلا تدعوا خطابا للجن محكيا أن جعل قوله تعالى وإنه لما قام على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير كادوا للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل يا محمد لمشركي مكة أوحي إلي كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير كادوا راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والإنس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الأخبار عن حال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل قل لمشركي مكة ما كان من حديث الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الإنتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وأنه لما قام عبد الله يدعوه ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس يكونون عليه لبدا دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة وما أحسن التقابل بين قوله تعالى وإن المساجد وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله (29/92)
سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالإباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصة جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكى عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا الخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل والآيتان 21 و 22 على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبيها على أن الحكمة في خلقها خمدمة المعبود من حيث العدول على لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم أه فتأمل
واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي صافوا بستة أبيات وأربعة
حتى كأن عليهم جابيا لبدا وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه لبدا بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما لبدا بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة قل إنما ادعوا اعبد ربي ولا أشرك به في العبادة أحدا فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الإطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون قال على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه وأوفق لقوله سبحانه قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشاد أي ولا نفعا تعبير أباسم السبب عن المسبب والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عز و جل أو لا أملك لكم غيا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي غيا بدل ضرا والمعنى لا استطيع ان أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الإحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر وقرأ الأعرج رشدا بضمتين قل إني لن يجيرني من الله أحد إن أرادني سبحانه بسوء ولن أجدا من دونه ملتحدا أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا يا لهف نفسي ونفسي عبر مجدية
عني وما من قضاء الله ملتحد وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة و السلام عن شؤن نفسه بعد بيان عجزه صلى الله تعالى عليه وسلم عن شؤن غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعون إليه ونحن نجيرك فقيل له قل إني لن يجيرني الخ وقيل هو جواب لقول ورد إن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال إني لن يجيرني الخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى إلا بلاغا من الله استثناء من مفعول لا أملك كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهمااعتراض مؤكد لنفي الإستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذللك فإن كان المعنى لا أملك إن أضركم ولا أنفعكم استثناء متصلا كأنه قيل لا أملك شيئا إلا بلاغا وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب
لا عيب فيهم (29/93)
غير أن سيوفهم
كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من رشدا فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والإستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز وإما استثناء منقطع من ملتحدا قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه من دونه ملتحدا لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لن يجيرني أحد لكن أن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الإستثناء من ملتحدا أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى والأظهر ما تقدم وقيل أن إلا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى إن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر أن إطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله فطلقها فلست لها بكفء
وإلا يعل مفرقك الحام ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر كان أحد من المشركين استجارك والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وهذا الوجه المتبادر كما لا يخفى وقوله تعالى ورسالاته عطف على بلاغا ومن الله متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بلغوا عني ولو آية والمعنى على ما علمت أولا في الإستثناء لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز و جل بها وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام الإبلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف رسالاته على الله أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل من بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية وقريء قال لا أملك أي قالعبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة و السلام قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا أي ما أردت إلا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلي الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم ثم فيه مبالغة من حيث أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة و السلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال إلا بلاغا وجعله بدلا من ملتحدا شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة و السلام قل لهم ما لكم ازدحمتم على متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة إني ليس إلى النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فأقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الإرتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة و السلام ومن يعص الله ورسوله أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعزلة ونحوهم بالآية (29/94)
على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم السلام دون البشر فالمراد رسول البشر بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر فإن له نار جهنم خالدين فيها أي في النار أو في جهنم وجمع خالدين باعتبار معنى منكما أن الإفراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا لقيل خالدا ابدا بلا نهاية وقرأ طلحة فإن بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له الخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشيء من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى حتى إذا رأوا ما يدعون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا جملة شرطية مقرونة بحتى الإبتدائية وهي وإن لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة و السلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل لا يزالون يستضعفون ويستهزؤن حتى غذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف منه و ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل لأن قوله سبحانه قل إنما أدعو ربي تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة و السلام وتعبير لهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة انصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والإستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والإستهزاء ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى يكونون عليه لبدا إن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليسب شيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا الخ والظاهر أن من استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ وأضعف خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الإستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصبب يعلمون وأضعف خبر مبتدأ محذوفوالجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير ما يدعون بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه قل إن أدري أي ما أدري أقريب ما تدعون أم يجعل له ربي أمددا رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك ومقتضى حالهم أنهمقالوا إنكارا واستهزاء متى ذلك الموعود بل رويعن مقاتل أن النضر بن الحرث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلا فهو وضعا شامل ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا وقيل إن معنى القرب بنبيء عن مشارقة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب عالم الغيب بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه بدلا من ربي وغيره أيضا كونه بيانا له ويأبى الوجهين الفاء في قوله تعالى فلا يظهر على غيبه أحدا إذ يكون النظم حينئذ أم يجعل له عالم الغيب أمد أفلا يظهر على غيبه أحد أو فيه من الإخلال مالا يخفى وإضافة عالم إلى الغيب محصنة لقصد الثبات فيه فيفد تعريف الطرفين التخصيص وتعريف الغيب للإستغراق وفي الرضي أن اسم الجنس أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ الواحد إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصصه ببعض ما يصدق عليه فهو في الظاهر لاستغراق الجنس (29/95)
أخذا من استقراء كلامهم فمعنى التراب يابس والماء بارد كل ما فيه هاتان الماهيتان حاله كذا فلو قلت في قولهم النوم ينقض الطهارة النوم مع الجلوس لا ينقضها لكان مناقضا لذلك اللفظ انتهى وهو يؤيد إرادة ذلك هنا لأن الغيب كالماء يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ولا يضر في ذلك جمعه على غيوبكما لا يضر فيه جمع الماء على المياه وكذا المراد بغيبه جميع غيبه وقد نص عليه عزمي زاده معللا له بكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما إذا كان في الأصل مصدرا وعزي إلى شرح المقاصد ما يقتضيه وربما يقال يفهم ذلك أيضا من اعتبار كون الإضافة للعهد وإن المعهود هو الغيب المستغرق أو من اعتبارها للإختصاص وإن الغيب المختص به تعالى بمعنى المختص علمه سبحانه به هو كل غيب واعتناء بشأن الإختصاص جيء بالمظهر موضع المضمر والجملة استئناف لدفع توهم نقص من نفى الدارية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب والمراد بالإظهار المنفي الإطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجهكما يرشد إليه حرف الإستعلاء فكأنه قيل ما على إذا قلت ما أدري قرب ذلك الموعد الغيب ولا بعده فالله سبحانه وتعالى عالم كل غيب وحده فلا يطلع على ذلك المختص علمه به تعالى اطلاعا كاملا أحدا من خلقه ليكون أليق بالتفرد وأبعد عن توهم مساواة علم خلقه لعلمه سبحانه وإنما يطلع جل وعلا إذا اطلع من شاء على بعضه مما تقتضه الحكمة التي هي مدار سائر أفعاله عز و جل ومانفيت عني العلم مما لم يطلعني الله تعالى عليه لما أن الإطلاع عليه مما لا تقتضيه الحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة بل هو مخل وإن شئت فاعتبر الجملة واقعة موقع التعليل لنفي الدراية السابقة ولما كان الكلام مما قد يتوهمون منه أنه عليه الصلاة و السلام لم يطلع عليه شيء من الغيب عقب عز و جل الكلام بالإستثناءالمنقطع كما روي في البحر عن ابن عباس الذي هو بمعنى الإستدراك لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقاما لإظهار مع الإشارة إلى بعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عز من قائل إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي لكن الرسول المرتضي يظهره جل وعلاعلى بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مباديها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند إطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه اختطافا أو تخليطا ليعلم متعلق بيسلك وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضي الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع إن قد أبلغوا أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل بنوا تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهوجبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء رسالات ربهم وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة أنه يسلك خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى وأحاط بما لديهم أي بما عند الرصد وأحصي كلشيء أي مما كان ومما سيكون عددا أي فردا فردا حالمن فاعل يسلك بتقدير قد أو بدونه جيء به لمزيد الإعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلقما برسالته والحالأنه تعالى قد أحاط علما بجميع أحوال أولئك (29/96)
الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل أبلغوا جيء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال إن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ هذا ما سنح لذهني القصر في تفسير هذه الآيات الكريمة وليت على يقين من أمره بيد أن ألإستدلال بقوله سبحانه فلا يظهر الخ على نفي كرامة الأولياء بالإطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى فلا يظهر على غيبه أحدا في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب وأكثر استمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في شرح المقاصد لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي كان يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى لا تدركه الإبصار ولا يرد إن الإستثناء يقتضي أن يكون المرتضي الرسول مظهرا على جميع غيبه تعالى بناء على أن الإستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحدا كائنا من كان على جميع ما يعلمه عز و جل من الغيب وذلك لانقطاع الإستثناء المصرح به ابن عباس وكذا لا يرد أن الله تعالى نفى إظهار شيء من غيبه على أحد إلا على الرسول فليلزم أن لا يظهر سبحانه أحدا من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى فإنه يسلك الخ وذلك ليس إلا في كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك ويلزم أن لا يظهر أيضا أحدا من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناء على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولا وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة وأنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقا برسالته محل توقف وللمفسرين ههنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول بكرامة الولي بالإطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى عالم الغيب فلا يظهر الخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري أن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خصالله تعالى الرسل من بين المرتضين بالإطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط انتهى أتجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى على غيبه صيغة عموم فيكفي عموم في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآيةبعد قوله تعالى قل إن أدري أقريب ما توعدون والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال سبحانه إلا من ارتضى من رسول مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت وأيضا يحتمل أن يكون هذا الإستثناء منقطعا كأنه قيل عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحدا ثم قيل إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى وتعقب بأن في غيبه (29/97)
ما يدل على العموم كما سمعت أولا والسياق لا يأباه اللهم إلا أنم يطعن في ذلك وأيضا ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى فإنه يسلك الخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأحام عند وضعه إلى ذلك وأيضا الإنقطاع علىالوجه الذي ذكره بعيد جدا إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع وقيل أن الإظهار على الغيب بمعنى الإطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى والله لا يحب كل مختال فخور وقد نص على ذلك العلامة التفت ازاني فيكون المعنى فلا يظهرعلى شيء من غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك الخ ولا كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفيةمن قال كالشيخ محيي الدينقدس سره بنزول الملك على الولي وأخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصلله بواسطةالإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب أن كان مفسرا بما فسره قوله تعالى يؤمنون بالغيب فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بأعلامه تعالى أو بنصبه الدليل وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة غير آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلا رسول أو آخذ منهم وليسفيه نفي الكلاامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالإتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى عالم الغيب والشهادة فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز و جل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلا بالأعلام من رسول ملكي أو بشري ولا كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع إطلاق الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف ثم لو سلم فالثاني إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحدا إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز اطلاع غير الرسول على البعض وإما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجعإلى ما اختاره وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية ومنه يظهر أن الإستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإنكان إبطالهما حقا لا نكره فضلا عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبي عن الواحدي (29/98)
والزجاج وصاحب المطلع انتهى وبحث فيه بأن حمل غيبه على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز و جل مما لا يناسب السياق وبأن ظاهر ما قرره على احتمالالإستغراق يقتضي على تقدير اتصال الإستثناء وإيجاب ضد ما نفي للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل وذكر العلامة البيضاوي أولا ما يفهم منه على ما قيل حمل غيبه على العموم مع الإختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالىة وحمل فلا يظهر على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الإستثناء منقطعا على أن المعنى فلا يظهر على جميع غيبه المختص به علمه تعالى أحدا إلا من ارتضى من رسول فيظهره على بعض غيبه حتى يكون إخباره به معجزة فلا يتم الإستدلال بالآية على نفي الكرامة وفسر الإختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علما حقيقيا يقينيا بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علما للغيب إلا بحسب الظاهر وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لمك ينصب عليه دليل ولا يقدح في الإختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى غذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم وقال ثانيا في الجواب عن الإستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الإستدلال إنما لم يتم لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميع لا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أو لا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لا يكون إلا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإماموالتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنهقد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون إلا في قوله تعالى إلا من ارتضى للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى فإن يسلك الخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال ما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم آية من القرآن إلا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قرأ عالم الغيب الآية وقد يكون الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لا حت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد من بين يديه في الآية القوى الظاهرة ومن خلفه القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه يسلك الخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كي لا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به من قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب التيسير وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة يسلك وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه وذهب إلى أن ضمير ليعلم لله تعالى وضمير أبلغوا (29/99)
إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى حتى يعلم المجاهدين فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرها والإشعار بترتب الجزاء عليها والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وقوله تعالى وأحاط الخ إما عطف على لا يظهر أو حال من فاعل يسلك جيء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن ليعلم متضمن معنى علم فصار قد علم ذلك وأحاط الخ وجوز أن يكون ضمير يعلم للرسول الموحى إليه وضمير أبلغوا للرصد النازلين إليه بالوحي وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل وأحاط الخ عطف على أبلغوا أو على لا يظهر وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في البحر إلا في الآخرة وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب عددا عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا في لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إصحاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقريء عالم بالنصب على المدح وعلم فعلا ماضيا الغيب بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي ليعلم بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة ليعلم بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا وقرأ أبو حيوة رسالة بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة وأحيط وأحصى كل بالبناء للمفعول في الفعلين ورفع كل على النيابة والفاعل هو الله عز و جل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا
سورة المزمل
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها واصبر على ما يقولون والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى أن ربك يعلم إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الإستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عز و جل هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قم الليل الخ بقوله تعالى في آخر تلك وأنه لما قام عبد الله يدعوه وبقوله سبحانه وأن المساجد لله الآية بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المزمل أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدعم التاء في الزاي وقد قرأ أبي على الأصل وعكرمة المزمل بتخفيف الزاي وكسر الميم جسمه أو نفسه وبعض السلف المزمل بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القرآت فإنه عليه الصلاة و السلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله (29/100)
غيره ولا حاجة إلى أن يقال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال زملوني فنزلت يا أيها المدثر وعلى أثرها نزلت يا أيها المزمل وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلاءل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا أيها المزمل يا أيها المدثر ونداؤه عليه الصلاة و السلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب قم أبا تراب قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل
وكل ما يفعل المحبوب محبوب
وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة و السلام نودي بذلك تهيجا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للإستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادي علي كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة و السلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولا يربأ برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى عبس وتولى ومثل هذا من خطاب الأدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أيها النبي يا أيها الرسول من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فأنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلى الله تعالى عليه وسلم متنزملا بمطرد لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة و السلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما بني على عائشة رضي الله تعالى عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة و السلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها ما كان تزميله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت كان مرطا طول أربع عشرة ذراعا نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة و السلام عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم نعم دل على أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه علي الخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلى الله تعالى عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبي عليه الصلاة و السلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة (29/101)
كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل هذه الإحتمالات لا يكتفي بها بل قال أبو حيان أنه كذب صريح وعن قتادة كان صلى الله تعالى عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة وقال عكرمة المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال أزد مله أي أحتمله وفيه تشبيه إجراء مراسم النبوة بتحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل قم الليل أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيا ما كان فمعمول قم مقدر والليل منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قم صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقريء بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين إلا قليلا استثناء من الليل وقوله تعالى نصفه بدل من قليلا بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق أو أنقص منه عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالإستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه قليلا أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف أو زد عليه عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف على القولين فيه وهو تخيير صلى الله تعالى عليه وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله للنصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجعل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالإعتناء الذي ينبيء عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله أن ضمير نصفه حينئذ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف القليل وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الإستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه أفاد معناه على وجه أخضر وأوضح وأبعد على الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأم قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شغل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهن وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن الليل معلوم وكذا بعضه من النضف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو فشربوا منه إلا قليلا بل لا ضير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون نصفه بدلا من الليل بدل بعض من كل والإستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل قم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو أنقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو زد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل والأزيد منه وهو النصف (29/102)
بعينه ومآله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي الكشاف ما يفهم منه على ما قيل أن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث قال في الكشف وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وكذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بني الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخييرين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة و السلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو انقص من من النصف أو زد عليه تخييرا قيل وللإعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على نحو أكرم أما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الإستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الإستثناء لأن في تقدير تأخير الإستثناء عدو لا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الإستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نقل والإعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة أن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغوا التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل أتممت عشرا فمن عندك فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث وجوز أيضا كون الإبدال من قليلا كما قدمنا أولا لكن مع جعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا نصفه أو زد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف نصفه أو زد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو زد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للإستغناء لاكتفى في أو انقص الخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد وجوز الإمام أن يراد بقليلا في قوله تعالى إلا قليلا الثلث وقال إن نصفه على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو انقص من النصف أو زد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره القليل بالثلث مروي عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والإستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلا قليلا ثم جعل نصفه (29/103)
بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكأن التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى وهو كما ترى وقيل الإستثناء من أعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للإستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قم الليل الخ ورتل القرآن أي في أثناء ما ذكر من القيام أي أقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف ترتيلا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة إنا سنلقي عليك أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى قولا ثقيلا وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين سيما على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه عليه الصلاة و السلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة و السلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها من الإعتراض جملة ورتل الخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثقيلا أنه رصين لأحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل على الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقيل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقيه يثقل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحى إليه عليه الصلاة و السلام على إنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة و السلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ الأعلى بحيث يسمع ما يوحى به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة و السلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلى الله تعالى عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحي إليه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وروي الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثقيلا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي القاء ثقيلا وليس صفة قولا وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لآ الثقيل من شأنه أن سيقى في مكانه وقيل ثقلة باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل (29/104)
قاف وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاعوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن عز و جل طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق والسلام ولا أظن أن وجوده والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيها القرآن كله قولا ثقيلا وهذا من باب الإحتياط كما لا يخفى إن ناشئة الليل أي أن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه ونشر إذا نهض وأنشد قوله نشأنا إلى خوص بري فيها السرى
وأشرف منها مشرفات القماحد وظاهر كلام اللغويين إن نشأ بهذا المعنى لغة عربية وقال الكرماني في شرح البخاري هي لغة حبشية عربوها وأخرج جماعة نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وحكاه أبو حيان عن ابن جبير وابن زيد وجعل ناشئة جمع ناشيء فكأنه أراد النفوس الناشئة أي القائمة ووجه الإفراد ظاهر والإضافة إما بمعنى في أو على نحو سيد غضبي وهذا أبلغ أو أن قيام الليل على أن الناشئة مصدر نشأ بمعنى قام كالعاقبة وإسنادها إلى الليل مجاز كما يقال قام ليله وصام نهاره وخص هذا القيام بالقيام من النوم وكذا عائشة ومنعت أن يراد مطلق القيام وكان ذلك بسبب أن الإضافة إلى الليل في قولهم قيام الليل تفهم القيام من النوم فيه أو القيام وقت النوم لمن قال الليل كله أو أن العبادة التي تنشأ أي تحدث بالليل على أن الإضافة اختصاصية أو بمعنى في أو على نحو مكر الليل وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة ناشئة الليل ساعاته لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد واحدة أي متعاقبة والإضافة عليه اختصاصية أو ساعاته الأول من نشأ إذا ابتدأ وقال الكسائي ناشئة أوله وقريب منه ما روي عن ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم هي ما بين المغرب والعشاء هي أشد وطأ أي هي خاصة دونناشئة النهار أشد مواطأة يواطيء قلبها لسانها أن أريد بالناشئة النفس المتهجدة أو يواطيء فيها القائم لسانه إن أريد بها القيام أو العبادةأو الساعات والإسناد على الأول حقيقي وعلى هذا مجازي واعتبار الإستعارة المكنية ليس بذاك أو أشد موافقة لما يراد من الإخلاص فلا مجاز على جميع المعاني وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد والعربيان وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا على أنه مصدر واطأ وطاء كقاتل قتالا وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة بكسر الواو وسكون الطاء والهمز مقصورا وقرأ ابن محصن بفتح الواو ممدودا وأقوم قيلا أي وأسو مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات وقيلا عليهما مصدر لكنه على الأول عام للإذكار والأدعية وعلى الثاني مخصوص بالقراءة ونصبه ونصب وطأ على التمييز وأخرج ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك أنه قرأ وأصوب قيلا فقال له رجل أنا نقرؤها وأقوم قيلا فقال إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد إن لك في النهار سبحا طويلا أي تقلبا وتصرفا من مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرع للعبادة فعليك بها في الليل وأصل السبح المر السريع في الماء فاستعير للذهاب مطلقا كما قاله الراغب وأنشدوا قول الشاعر أباحوا لكم شرق البلاد وغربها
ففيها لكم يا صاح سبح من السبح وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقيل أي أن لك في النهار فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه فالسبح لفراغ وهو مستعمل في ذلك لغة أيضا لكن الأول أوفق لمعنى قولهم سبح في الماء وأنسب للمقام ثم أن (29/105)
الكلام على هذا إما تتميم للعلة يهون عليه أن النهار يصلح للإستراحة فليغنم الليل للعبادة وليشكر أن لم يكلف استيعابهما بالعبادة أو تأكيد للإحتفاظ به بأنه إن فات لا بد من تداركه بالنهار ففيه متسع لذبك وفيه تلويح إلى معنى جعل الليل والنهار خلفة وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبيعبلة سبخا بالخاء المعجمة أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نقشه ونشر أجزائه وقال غير واحد خفة من التكاليف قال الأصمعي يقال سبخ الله تعالى عنك الحمى خففها وفي الحديث لا تسبخي بدعائك أي لا تخففي ومنه قوله فسبخ عليك الهم واعلم بأنه
إذا قدر الرحمن شيئا فكائن وقيل السبخ المد يقال سبخي قطنك أي مديه ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبخة ومنه قول الأخطل يصف قناصا وكلابا فأرسلوهن يذرين التراب كما
يذري سبائخ قطن ندف أوتار وقال صاحب اللوامح أن ابن يعمر وعكرمة فسرا سبخا بالمعجمة بعد أن قرآ به فقالا معناه نوما أي ينام بالنهار ليستعين به على قيام الليل وقد يحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى لكنهما فسراها فلا نتجاوز عنه أه ولعل ذلك تفسير باللازم واذكر اسم ربك أي ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك وفسر الأمر بالدوام لأنه عليه الصلاة و السلام لم ينسبه تعالى حتى يؤمر بذكره سبحانه والمراد الدوام العرفي لا الحقيقي لعدم إمكانه ولأن مقتضى السياق أن هذا تعميم بعد التخصيص كان المعنى على ما سمعت من اعتبار ليلا ونهارا وتبتل إليه أي وانقطع إليه تعالى بالعبادة وجرد نفسك عما سواه عز و جل واستغرق في مراقبته سبحانه وكان هذا أمر بما يتعلق بالباطن بعد الأمر بما يتعلق بالظاهر ولتأكيد ذلك قال سبحانه تبتيلا ونصبه بتبتل لتضمنه معنى بتل على ما قيل وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك عند قوله تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا فتذكر فما في العهد من قدم وكيفما كان الأمر ففيه مراعاة الفواصل رب المشرق والمغرب مرفوع على المدح وقيل على الإبتداء خبره لا إله إلا هو وقرأ زيد بن علي رضي عنهما رب بالنصب على الإختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الإخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب رب بالجر على أنه بدل من ربك وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه لا إله إلا هو وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جدا كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنهإذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت تنفى بما لا غير ولا تنفى بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبما ضفي معناه قليلا انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جوابا للقسم وقال في شرح الكافية إن الجملة الإسمية تقع جوابا للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدأ معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة ووالله لا زيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه رب المشارق والمغارب وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجهال إراد والجمع والفاء في قوله تعالى فاتخذه وكيلا لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربيوبية به عز و جل ووكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلا أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر (29/106)
إليه عز و جل وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الإختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا هواي لهفرض تعطف أم جفا
ومنه له عذب تكدر أم صفا وكلت إلى المعشوق أمري كله
فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا ومن كلام بعض السادة من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كلخير سبيلا واصبر على ما يقولون مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول واهجرهم هجرا جميلا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى وذرني والمكذبين أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إلي فإن فيما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى ذرنيوالمكذبين منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر أولي النعمة أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الأنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة ومهلهم قليلا أيزمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي أمها لا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول إن لدينا أنكالا جمعن كل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكار الأغلال والأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم حوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى ذرني وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الإنتقام إنكالا وجحيما نارا شديدة الإيقاد وطعاما ذا غصة ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل وعذابا إليما يوم ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كأنه إلا الله عز و جلكما يشعربذلك المقاب والتنكير وما أعظم هذه الآية فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبيحرب بن الأسود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلا يقرأ أن لدينا أنكالا الخ فصعقو في رواية أنه عليه الصلاة و السلام نفسه قرأ أن لدينا أنكالا فلما بلغ أليما صعقو قال خالد بن حسان أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآيةأن لدينا الخ فقال ارفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلىثابت البناني ويزيد الضبي ويحيىالبكاء فحدثهم فجاؤا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله تعالى عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلا أن يقال أن الإنكار ليس إلا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعقمن الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالفتح شدة الصوت وذلكما لم تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام علىنحو كلام الصوفية قال أعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية إما الإنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب (29/107)
قد بطلت فصارت تلك كالإنكال والقيود المانعة له من التخلص إلىعالم الروح والصفاء ثم يتولد منتلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها توجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم أنه لا يجده فإنه يحترق عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله سبحانه وطعاما ذا غصة ثم أنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما على تجلي نور الله تعالى والإنخراط في سلك القدسيين وذلك هو المراد بقوله عز و جل وعذابا أليما وتنكير عذابا يدل على أنه أشد مما تقدم وأكمل وأعلم أنيلا أقول المراد بالآية ما ذكرته فقط بل أقول أنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع الحمل عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا لكنه مجاز متعارف مشهور انتهى وتعقب بأنه بالحمل عليهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز من غير قرينة وليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه وأن تتعلم أن أكثر باب الإشارة عند الصوفية من هذا القبيل وقوله تعالى ترجف الأرض والجبال قيل متعلق بذرني وقيل صفة عذابا وقيل متعلق بأليما واختار جمع أنه متعلق بالإستقرار الذي تعلق به لدينا أي استقر ذلك العذاب لدينا وظهر يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل وقرأ زيد على ترجف مبنيا للمفعول وكانت الجبال معصلابتها وارتفاعها كثيبا رملا مجتمعا من كتب الشيء إذا جمعه فكأنه في الأصل فعيل بمعنى مفعول ثم غلب حتى صار له حكم الجوامد والكلام على التشبيه البليغ وقيل لا مانع من أن تكون رملا حقيقة مهيلا قيل أي رخوا لينا إذا وطئته القدمزل من تحتها وقيل منثورا منهيل هيلاإذا نثر وأسيل وكونه كثيبا باعتبار ما كان عليه قبل النثر فلا تنافي بين كونه مجتمعا ومنثورا وليس المراد أنه في قوة ذلك وصدده كما قيل إنا أرسلنا إليكم خطاب للمكذبين أولي النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي إناأرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة رسولا شاهدا عليكم يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان كماأرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان فعصى فرعون الرسول المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكرى والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي أرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه أن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الدم إذ زاد وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني شاهدا عليكم وأدمج فيه أنهم لو آمنوا كانت السهادة لهم وقوله تعالى فأخذناه أخذا وبيلا أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وحم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطر العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا مراتب على الإرسال فالعصيان ويوما مفعول به لتتقون ما بتقدير مضاف أي عذاب أو هول يوم بدونه إلا أن المعنى عليه وضمير يجعل لليوم والجملة صفته والإسناد مجازي وقال بعض الضمير لله تعالى والإسناد حقيقي والجملة صفة محذوفة الرابط أي يجعل فيه كما في قوله (29/108)
تعالى واتقوا يوما لا يجزي نفس وكان ظاهر الترتيب أن يقدم على قوله تعالى كما أرسلنا إلا أنه أخر إلى هنا زيادة على زيادة في التهويل فكأنه قيل هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذه فرعون وإضرابه فكيف تقون أنفسكم هول القيامة وما أعد لكم من الإنكال إن دمتم على ما أنتم عليه ومتم في الكفر وفي قوله سبحانه إن كفرتم وتقديره تقدير مشكوك في وجوده ما بينه على أنه لا ينبغي أن يبقى مع إرسال هذا الرسول لأحد شبهة تبقيه في الكفر فهو النور المبين وجوز أن يكون يوما ظرفا لتتقون على معنى فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والكلام حينئذ للحث على الإقلاع من الكفر والتحذير عن مثل عاقبة آل فرعون قبل أن لا ينفع الندم وجوز أيضا أن ينتصب بكفرهم على تأويل جحدتم والمعنى فكيف يرجى إقلاعكم عن الكفر واتقاء الله تعالى وخشيته وأنتم جاحدون يوم الجزاء كأنه لما قيل يوم ترجف عقب بقوله تعالى فكيف تتقون الله إن كفرتم به فأعيد ذكر اليوم بصفة أخرى زيادة في التهويل والوجه الأول أولى قاله في الكشف وقال العلامة الطيبي في الوجه الأخير أعني انتصاب يوما بكفرتم أنه أوفق للتأليف يعني خوفناكم بالإنكال والجحيم وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا يوم القيامة بكفرككم وتكذيبكم وأنذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتقيتم الله تعالى فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء وفيه أن ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة انتهى ولا يخفى أن جزالة المعنى ترجح الأول وذهب جمع إلى أن الخطاب في أنا أرسلنا إليكم عام للأسود والأحمر فالظاهر أنه ليس من الإلتفات في شيء وأيا ما كان فجعل الولدان شيبا أي شيوخا جمع أشيب قيل حقيقة فتشيب الصبيان وتبيض شعورهم من شدة يوم القيامة وذلك على ما أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود يقول الله تعالى لآدم عليه السلام فأخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب لا علم لي إلا بما علمتني فيقول الله عز و جل أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيخرجون ويساقون إلى النار سوقا مقرنين زرقا كالحين قالابن مسعود فإذا خرج بعث النار شاب كل وليد وفي حديث الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحو ذلك وقيل مثل في شدة الهول من غير أن يكون هناك شيب بالفعل فإنهم يقولون في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل في ذلك أن الهموم إذا تفاقمت على المرأ أضعفت قواه وأسرعت فيه الشيب ومن هنا قيل الشيب نوار الهموم وحديث البعث لا يأبى هذا وجوز الزمخشري أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وإن الأطفال يبلغون فيه أو أن الشيخوخة والشيب وليس المراد به التقدير الحقيقي بل وصف بالطول فقط على ما تعارفوه وإلا فهو أطول من ذاك وأطول فلا اعتراض لكنه مه هذا ليس بذاك والظاهر عموم الولدان وقال السديهم هنا أولاد الزنا وقيل هم أولاد المشركين وقرأ زيد بن علي يوم بغير تنوين نجعل بالنون فالظرف مضاف إلى جملة نجعل الخ السماء منفطر أي منشق وقريء منفطر أي مشتق به أي بذلك اليوم والبناء والباء للآلة مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر بالقدوم به يعني أن السماء على عظمها وأحكامها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر بما يفطر به فما ظنك بغيرها من الخلائق وجوز أن يراد السماء مثقلة به الآن إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه وخشيتها من وقوعه كقوله تعالى ثقلت في السماوات فالكلام من باب التخيل والإنفطار كناية عن المبالغة في ثقل ذلك اليوم والمراد إفادة أنه الآن على هذا الوصف والأول أظهر وأوفق لأكثر الآيات وكان الظاهر السماء منفطرة بتأنيث الخبر لأن المشهور أن السماء مؤنثة أعتبر إجراء ذلك على موصوف مذكر فذكر أي شيء منفطر به والنكتة فيه التنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلا (29/109)
ما يعبر عنه بالشيء وقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والكسائي وتبعهم منذر بن سعيد التذكير لتأويل السماء بالسقف وكان النكتة فيه تذكير معنى السقفية والإضلال ليكون أمر الإنفطار أدهش وأهول وقال أبو الفارسي التقدير ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع فجري على طريق النسب وحكى عنه أيضا أن هذا من باب الجراد المنشر والشجر والأخضر وإعجاز نخل منقعر يعني أن السماء من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وإن مفرده سماءة واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث فجاء منفطر على التذكير وقال الفراء السماء يعني تذكير المظلة وتؤنث فجاء منفطر على التذكير ومنه قول الشاعر فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالسماء وبالسحاب وعليه لا حاجة إلى التأويل وإنما تطلب نكتة اعتبار التذكير مع أن الأكثر في الإستعمال اعتبار التأنيث ولعلها ظاهرة لمن أدنى فهم وحمل الباء في به على الآلة هو الأوفق لتهويل أمر ذلك اليوم وجوز حملها على الظرفية أي السماء منفطر فيه وعود الضمير المجرور على اليوم هو الظاهر الذي عليه الجمهور وقال مجاهد يعود على الله تعالى أي بأمره سبحانه وسلطانه عز و جل فهو عنده كالضمير في قوله تعالى كان وعده مفعولا فإنه له تعالى لعلمه من السباق والمصدر مضاف إلى فاعله ويجوز أن يكون لليوم كضمير به عند الجمهور والمصدر مضاف إلى مفعوله إن هذه إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة تذكيرة إلى موعظة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا بالتقرب إليه تعالى بالإيمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته عز و جل ومفعول شاء محذوف والمعروف في مثله أن يقدر منجنس أي فمن شاء اتخاذ سبيل إلى ربه تعالى اتخذ الخ وبعض قدره الإتعاظ لمناسبة ما قبل أي فمن شاء الإتعاظ اتخذ إلى ربه سبيلا والمراد من نوى أن يحصل له الإتعاظ تقرب إليه تعالى لكن ذكر السبب وأريد مسببه فهو الجزاء في الحقيقة واختار في البحر ما هو المعروف وقال أن الكلام على معنى الوعد والوعيد إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل أي زمانا أقل منهما استعمل فيه الأدنى وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الإحياز فهو مجاز مرسل لأن القرب يقتضي قلة الإحياز بين الشيئين فاستعمل في لازمه أو في مطلق القلة وجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة ليكون هناك استعارة والإرسال أقرب وقرأ الحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السمقيع وهشام وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل ثلثي بإسكان اللام وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى كأنه قيل يعلم أنك تقوم من الليل أقل من ثلثيه وتقوم نصفه وتقوم ثلثه وقرأ العربيان ونافع ونصفه وثلثه بالجر عطفا على ثلثي الليل أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف وأقل من الثلث والأول مطابق لكون التخيير فيما مر بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين والثاني مطابق لكون التخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين وبين الثلث وهو أدنى من النصف وبين الربع وهو أدنى من الثلث كذا قال غير واحد فلا تغفل واستشكل الأمر بأن التفاوت بين القراءتين ظاهر فكيف وجه صحة علم الله تعالى لمدلولها وهما لا يجتمعان وأجيب بأن ذلك بحسب الأوقات فوقع كل في وقت فكانا معلومين له تعالى واستشكل أيضا هذا المقام على تقدير كون الأمر واردا بالأكثر بأنه يلزم إما مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر به أو اجتهاده والخطأ (29/110)
في موافقة الأمر وكلاهما غير صحيح أما الأول فظاهر لا سيما على كون الأمر للوجوب وأما الثاني فلأن من جوز اجتهاده عليه الصلاة و السلام والخطأ فيه يقول أنه لا يقر عليه الصلاة و السلام على الخطأ وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل لكنهم زادوزا حذرا من الوقوع في المخالفة وكان يشق عليهم وهلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشق وقعوا في المخافة فنسخ سبحانه الأمر كذا قيل فتأمل فالمقام بعد محتاج إليه وقرأ ابن كثير في رواية شبل وثلثه بإسكان اللام وطائفة من الذين معك عطف على الضمير المستتر في تقوم وحسنه الفصل بينهما أي وتقوم معك طائفة من أصحابك والله يقدر الليل والنهار لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى فإن تقديم اسمه تعالى مبتدأ مبينا عليه يقدر دال على الإختصاص على ما ذهب إليه جار الله ويؤيده قوله تعالى علم أن لن تحصو فإن الضمير لمصدر يقدر لا للقيام المفهوم من الكلام والمعنى علم أن الشأن لن تقدروا الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ولا يتأتى لكم حسابها بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع للإحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم فتاب عليكم أي بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركه فالكلام على الإستعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة واستعمل اللفظ الشائع في المشبه به في المشبه كما في قوله تعالى فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وزعم بعضهم أنه على ما يتبادر منه فقال فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به وليس بشيء فاقروا ما تيسر من القرآن أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق ومن ذهب إلى الأول قال إن الله تعالى افترض قيام مقدار معين من الليل في قوله سبحانه قم الليل ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه فتاب عليكم فاقرؤا الآية فالأمر في الموضعين للوجوب إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات وثانيا كان بعضا مطلقا ثم نسخ وجوب ذالقيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس ومن ذهب إلى الثاني قال أن الله تعالى رخص لهم في ترك جميع القيام وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا فكأنه قيل فتاب عليكم ورخص في الترك فاقرؤا ما تيسر من القرآن إن شق عليكم فإن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءة ثواب القيام وصرح جمع أن فاقرؤا على هذا أمر ندب بخلافه على الأول هذا واعلم أنهم اختلفوا في أمر التهجد فعن مقاتل وابن كسيان أنه كان فرضا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بهن إلا ما تطوعوا به ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر وروي الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجه والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلب بلى قالت فإن خلق نبي الله تعالى القرآن فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت ألست تقرأ يا أيها المزمل قلت بلى قالت فإن الله تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله وأصحابه حولا وأمسك الله تعالى خاتمتها اثنتي عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعا وفي رواية عنها أنه دام ذلك ثمانية أشهر وعن قتادة دام عاما أو عامين وعن بعضهم أنه كان واجبا وإنما وقع التخيير في المقدار ثم نسخ بعد عشر سنين وكان الرجل كما قال الكلبي يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين وقيل كان نفلا بدليل التخيير في المقدار وقوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك حكاه غير واحد وبحثوا فيه لكن قال الإمام صاحب الكشف لم يرد هذا القائل أن التخيير ينافي الوجوب بل استدل بالإستقراء وإن الفرائض لها أوقات محدودة (29/111)
متسعة كانت أو ضيقة لم يفوض التحديد إلى رأي الفاعل وهو دليل حسن وأما القائل بالفرضية فقد نظر إلى اللفظ دون الدليل الخارجي ولكل وجه وأما قوله ولقوله تعالى ومن الليل الخ فالإستدلال بأنه فسر نافلة لك أن معناه زائدة على الفرائض لك خاصة دون غيرك لأنها تطوع لهم وهذا القائل لا يمنع الوجوب في حقه عليه الصلاة و السلام وإنما يمنعه في حق غيره صلى الله تعالى عليه وسلم والآية تدل عليه فلا نظر فيه ثم أنه لما ذكر سبحانه في تلك السورة ومن الليل أي خص بعض الليل دون توقيت وههنا وقت جل وعلا على مشاركة الأمة له عليه الصلاة و السلام قوله تعالى وطائفة من الذين معك نزل ما ثم على الوجوب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وههنا على التنفل في حقه وحق الأمة وهذا قول سديد إلا أن قوله تعالى على أن لن تحصوه فتاب عليكم يؤيد الأول انتهى وعني بالأول القول بالفرضية عليه عليه والسلام وعلى الأمة وظواهر الآثار الكثيرة تشهد له لكن في البحر أن قوله تعالى وطائفة من الذين معك دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع إذ لو كان فرضا عليهم لكان التركيب والذين معك إلا أن أعتقد أنه كان منهم من يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع انتهى وأنت تعلم أنه لا يتعين كون من تبعيضية بل تحتمل أن تكون بيانية ومن يقول بالفرضية على الكل صدر الإسلام بحملها على ذلك دون البعضية باعتبار المعية فإنها ليست بذاك والله تعالى أعلم وأفادت الآية على القول الأخير في قوله سبحانه فاقرؤا الخ ندب قراءة شيء من القرآن ليلا وفي بعض الآثار من قرأ مائة آية في ليلة لحاجة القرآن وفي بعضها من قرأ آية كتب من القانتين وفي بعض خمسين آية والمعول عليه من القولين فيه القول الأول وقد سمعت أن الأمر عليه للإيجاب وأنه كان يجب قيام شيء من الليل ثم نسخ وجوبه عن الأمة بوجوب الصلوات الخمس فهو اليوم في حق الأمة سنة وفي البحر بعد تفسير فاقرؤا يصلوا وحكاية ما قيل من النسخ وهذا الأمر عند الجمهور أمر إباحة وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو بمقدار خمسين آية انتهى سياقه أن هؤلاء قائلون بوجوبه اليوم وأنه لم ينسخ الوجوب مطلقا وإنما نسخ وجوب معين وهذا خلاف المعروف فعن ابن عباس سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة و السلام وأظن الأمر غنيا من الإستدلال فلنطو بساط القيل والقال نعم كان السلف الصالح يثابرون على القيام مثابرتهم على فرائض الإسلام لما في ذلك من الخلوة بالحبيب والأنس به وهو القريب من غير رقيب نسأل الله تعالى أن يوفقنا كما وفقهم ويمن علينا كما من عليهم بقي هنا بحث وهو أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه استدل بقوله تعالى فاقرؤوا ما تيسر من القرآن على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة لا الفاتحة بخصوصها وهو ظاهر على القول بأنه عبر فيه عن الصلاة بركنها وهو القراءة كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع وقدر ما تيسر بآية على ما حكاه عنه الماوردي وبثلث على ما حكاه عنه ابن العربي والمسألة مقررة في الفروع وخص الشافعي ومالك ما تيسر بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءتها في الصلاة بحجج كثيرة منها ما نقل أبو حامد الإسرافيني عن ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة و السلام لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ومنها ما روي عن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج أي نقصان للمبالغة أو ذو نقصان واعترض بأن النقصان لا يدل على عدم الجواز وأجيب بأنه يدل لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفناه عند الإتيان بها على صفة الكمال فعند النقصان وجب أن يبقى على الأصل ولا يخرج عن العهدة (29/112)
وأكد بقول أبي حنيفة بعدم جواز صوم يوم العيد قضاء عن رمضان مع صحة الصوم فيه عنده مستدلا عليه بأن الواجب عليه الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فلا يفيد الخروج عن العهدة ومنها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهو ظاهر في المقصود إذ التقدير لا صلاة إلا بها واعترض بجواز أن يكون التقدير لا صلاة كاملة فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال وأجيب بأنا لا نسلم امتناع دخول النفي عن مسماها لأن الفاتحة إذا كانت جزءا من ماهية الصلاة تنتفي عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءا منها وهو أول المسألة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال بل هو أولى لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل وأجيب بالإجماع ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحا أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي يكون كاملا ولأن الأصل بقاء ما كان وهو التكليف على ما كان ولأن جانب الحرمة أرجح لأنه أحوط ومنها أن الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير ضرورة للإجماع على أن الصلاة معها أفضل فلا يجوز المصير إليه لأنه قبيح عرفا فيكون قبيحا شرعا لقوله عليه الصلاة و السلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ومنها أن قراءتها توجب الخروج عن العهدة بيقين فتكون أحوط فوجب القول بوجوبها لنص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وللمعقول وهو دفع ضرر الخوف عن النفس فإنه واجب وكون اعتقاد الوجوب يورث الخوف لجواز كوننا مخطئين معارض باعتقاد عدمه فيتقابلان وأما في العمل فالقراءة لا توجب الخوف وتركها يوجبه فالأحوط القراءة إلى غير ذلك وأجاب ساداتنا الحنفية بما أجابوا واستدلوا على أن الواجب ماتيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها بأمور منها ما روي أبوعثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب ودفع بأنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وبأنه يجوز أن يكون المراد من قوله ولو بفاتحة الكتاب وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ويجب الحمل عليه جميعا بين الأدلة وفيه تعسف ولعل الأولى في الجواب جواز كون المراد ولو بفاتحة الكتاب ماهوالسابق إلى الفهم من قول القائل لا حياة إلا بقوت ولو الخبز كل يوم أوقية وهو أن هذا القدرلا بد منه وعليه يصير الحديث من أدلة الوجوب ومنها أنه لو وجبت الفاتحة لصدق قولنا كلما وجبت القراءة وجبت الفاتحة ومعناه مقدمة صادقة وهي أنه لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لوجوب مطلق القراءة بالإجماع فتنتج المقدمتان لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة وهو باطل وأجيب بمنع الصغرى أي لا نسلم صدق قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لأن عدم الفاتحة محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وهو رفع وجوب مطلق القراءة الثابت بالإجماع سلمناها لكن لا نسلم استحالة قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة لما ذكر آنفا وجعل بعض القياس حجة على الحنفية لأن كل ما استلزم عدمه وجوده ثبت وجوده ضرورة ورد بأن هذا إنما يلزم لو كانت الملازمة وهي قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت ثابتة في نفس الأمر وليس الأمر كذلك بل هي ثابتة على تقدير وجوب قراءة الفاتحة فلهذا لا يصير حجة عليهم وتمام الكلام على ذلك في موضعه وأنت تعلم أنه على القول الثاني في الآية لا يظهر الإستدلال بها على فرضية مطلق القراءة في الصلاة إذ ليس فيها عليه أكثر من الأمر بقراءة شيء من القرآن قل أو أكثر بدل ما افترض (29/113)
عليهم من صلاة الليل فلينتبه وقوله تعالى علم أن سيكون منكم مرضى استئناف مبين لحكمة الله أخرى غير ما تقدم من عسرة إحصاء تقدير الأوقات مقتضية للترخيص والتخفيف أي علم أن الشأن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يسافرون فيها للتجارة يبتغون من فضل الله وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم والجملة في موضع الحال وآخرون يقاتلون في سبيل الله يعني المجاهدون وفي قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بهم إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عمر رض الله عنه قال ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى وتلا هذه الآية وآخرون يضربون الخ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من جالب يجلب طعاما إلى بلدان المسلمين فيبيعه لسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله ثم قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله والمراد أنه عز و جل علم أن سيكون من المؤمنين من يشق عليه القيام كما علم سبحانه عسر إحصاء تقدير الأوقات وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت مقتضيات الترخيص فاقرؤا ما تيسر منه أي من القرآن من غير تحمل المشاق وأقيموا الصلاة أي المفروضة وآتوا الزكاة كذلك وعلى هذا أكثر المفسرين والظاهر أنهم عنوا بالصلاة المفروضة الصلوات الخمس وبالزكاة المفروضة أختها المعروفة واستشكل بأن السورة من أوائل ما نزل بمكة ولم تفرض الصلوات الخمس إلا بعد الإسراء والزكاة إنمافرضت بالمدينة وأجيب بأن الذاهب إلى ذلك يجعل هذه الآيات مدنية وقيل إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء فيمكن أن يراد بالزكاة المفروضة في الجملة فلا مانع منكون الآيات مكية لكن يلتزم لكونها نزلت بعد الإسراء وحملها على صلاة الليل السابقة حيث كانت مفروضة تنافي الترخيص وقيل يجوز أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله وليس بذاك وأقرضوا الله قرضا حسنا أريد به الإنفاقات في سبيل الخيرات أو اداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء وما تقدموا لأنفسكم من خير أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وخيرا ثاني مفعولي تجدوه وهو تأكيد لضمير تجدوه وإن كان بصورة المرفوع والمؤكد منصوب لأن هو يستعار لتأكيد المجرور والمنصوب كما ذكره الرضي أو ضمير فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل في حكم المعرفة ولذا يمتنع منحرف التعريف كالعلم وجوز أبو البقاء البدلية من ضمير تجدوه ووهمه أبو حيان بأن الواجب عليها إياه وقرأ أبو السمال باللام العدوي وأبو السمال بالكاف الغنوي وأبو السميفع هو خير وأعظم برفعهم على الإبتداء والخبر وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني قال أبو زيد هي لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون كان زيد هو الفاعل بالرفع وعليه قول قيس بن ذريح تحن إلي لبنى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملأ أنت أقدر فقد قال أبو عمرو والجرمي أنشده سيبويه شاهدا للرفع والقوافي مرفوعة ويروى اقدرا واستغفروا الله في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو مما يعد تفريطا بالنسبة إليه وعد من ذلك الصوفية رؤية العابد عبادته قيل ولهذه الإشارة أمر بالإستغفار بعد الأوامر السابقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض (29/114)
الحسن إن الله غفور رحيم فيغفر سبحانه ذنب من استغفره ويرحمه عز و جل وفي حذف المعمول دلالة على العموم وتفصيل الكلام فيه معلوم نسأل الله تعالى عظيم مغفرته ورحمته لنا ولو الدنيا ولكافة مؤمنين بريته بحرمة سيد خليقته وسند أهل صفوته صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه وشيعته
سورة المدثر
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قالمقاتل إلا آية وهي وما جعلنا عدتهم إلا فتنة الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عليها تسعة عشر مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله وهي متواخية مع السورة قبلها في الإفتتاح بنداء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبارة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه وروي أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل وأخرجه ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قالت سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال جاورت بحراء فلما قضيت حواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وفي رواية فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى قوله فاهجر فإن القصة واحدة ولو كانت يا أيها المزمل هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أيها المدثر نزل قبل اقرأ باسم ربك والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من القرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأئمة حتى قال بعضهم هو الصحيح ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقرأ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني إن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار وعبر بعضهم عن هذا بقوله أولما نزل للنبوة اقرأ باسم ربك وأول ما نزل للرسالة يا أيها المدثر الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشيء عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها ثم قال وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المدثر أصله المتدثر فأدغم وهو على الأصل في حرف أبي من تدثر لبس الدثار بكسر الدال وهو ما فوق القميص الذي يلي البدن ويسمى شعارا لاتصاله بالبشرة والشعرة ومنه قوله عليه الصلاة و السلام والأنصار شعار والناس دثار والتركيب على ما قيل دائر مع معنى الستر على سبيل الشمول كان الدثار ستر بالغ مكشوف نودي صلى الله تعالى (29/115)
عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها تأنيسا له وملاطفة كما سمعت في يا أيها المزمل وتدثره عليه الصلاة و السلام لما سمعت آنفا وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد ابن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا قال ماتقولون في هذا الرجل فاختلفوا ثم اجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فحزن وقنع رأسه وتدثر أي كما يفعل المغموم فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى قوله تعالى ولربك فاصبر وقيل المراد بالمدثر المتدثرة بالنبوة والكمالات النفسانية على معنى المتحلي بها والمتزين بآثارها وقيل أطلق المدثر وأريد به الغائب عن النظر على الإستعارة والتشبيه فهو نداء له بما كان عليه في غار حراء وقيل الظاهر أن يراد بالمدثر وكذا بالمزمل الكناية عن المستريح الفارغ لأنه في أول البعثة فكأنه قيل له عليه الصلاة و السلام قد مضى زمن الراحة وجاءتك المتاعب من التكاليف وهداية الناس وأنت تعلم أنه لا ينافي إرادة الصورة الحقيقة وأمر التلطف على حاله وقال بعض السادة أي يا أيها الساتر للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة إلى غير ذلك من العبارات والكل إشارة إلى ما قالوا في الحقيقة المحمدية من أنها حقيقة الحقائق التي لا يقف كنهها أحد من الخلائق وعلى لسانها قال من قال وإني وإن كنت ابن آدم صورة
فلي فيه معنى شاهد بأبوتي وأنها التعيين الأول وخازن السر المقفل وأنها وأنها إلى أمور هيهات أن يكون للعقل إليها منتهى أعيا الورى معناه فليس يرى
في القرب والبعد منه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد
صغيرة وتكل الطرف من أمم وكيف يدرك في الدنيا حقيقته
قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر
وأنه خير خلق الله كلهم وقرأ عكرمة المدثر بتخفيف الدال وتشديد الثاء المكسورة على زنة الفاعل وعنه أيضا المدثر بالتخفيف والتشديد على زنة المفعول من دثره وقال دثرت هذا الأمر وعصب بك أي شد والمعنى أنه المعول عليه فالعظائم به منوطة وأمور حلها وعقدها به مربوطة فكأنه قيل يا من توقف أمور الناس عليه لأنه وسيلتهم عند الله عز و جل قم من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم وجعله أبو حيان على هذا المعنى من أفعال الشروع كقولهم قام زيد يفعل كذا وقوله
عاما قام يشتمني لئيم
وقام بهذا المعنى من أخوات كاد وتعقب بأنه لا يخفى بعده هنا لأنه استعمال غير مألوف وورود الأمر منه غير معروف مع احتياجه إلى تقدير الخبر فيه وكله تعسف فانذر أي فافعل الإنذار أو أحدثه فلا يقصد منذر مخصوص وقيل يقدر المفعول خاصا أي فانذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة في الواقع وقيل يقدر عاما أي فانذر جميع الناس لقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولم يقل هنا وبشر لأنه كان في ابتداء النبوة والإنذار هو الغالب إذا ذاك أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير وفي هذا الأمر بعد ذلك النداء إشارة عند بعض السادة إلى مقام الجلوة بعد الخلوة قالوا وإليهما الإشارة أيضا في حديث كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف الخ وربك فكبر وأخصص ربك بالتكبير وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة اعتقادا وقولا ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الله أكبر فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والأمر بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم غني عن الإستدلال وجوز أن يحمل على تكبير الصلاة فقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال قلنا يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في (29/116)
الصلاة فأنزل الله تعالى وربك فكبر فأمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نفتح الصلاة بالتكبير وأنت تعلم أن نزول هذه الآية كان حيث لا صلاة أصلا فهذا الخبر إن صح مؤول والفاء هنا وفيما بعد لإفادة معنى الشرط فكأنه قيل وما كان أي شيء حدث فلا تدع تكبيره عز و جل فالفاء جزائية وهي لكونها على ما قيل مزحلقة لا يضر عمل ما بعدها فيما قبلها وقيل إنها دخلت في كلامهم على توهم شرط فلما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك ثم إن في ذكر هذه الجملة بعد الأمر السابق مقدمة على سائر الجمل إشارة إلى مزيد الإهتمام بأمرالتكبير وإيماء على ما قيل إلى أن المقصود الأولى من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عز و جل وينزهه من الشرك فإن أول ما يجب معرفة الله تعالى ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه والكلام عليه من باب إياك أعني واسمعي يا جاره وقد يقال لعل ذكر هذه الجملة كذلك مسارعة لتشجيعه عليه الصلاة و السلام على الإنذار وعدم مبالاته بما سواه عز و جل حيث تضمنت الإشارة إلى أن نواصي الخلائق بيده تعالى وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته فلا ينبغي أن يرهب إلا منه ولا يرغب إلا فيه فكأنه قيل قم فأنذر وأخصص ربك بالتكبير فلا يصدنك شيء عن الإنذار فتدبر وثيابك فطهر تطهير الثياب كناية عن تطهيرالنفس عما تذم به من الأفعال وتهذيبها عما يستهجن من الأحوال لأن من لا يرضى بنجاسة ما يماسه كيف يرضى بنجاسة نفسه يقال فلان طاهر الثياب نقي الذيل وألأردان إذا وصف بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ويقال فلان دنس الثياب وكذا دسم الثياب للغادر ولمن قبح فعله ومن الأول قول الشاعر ويحيى ما لا يلام بسوء خلق
ويحيى طاهر الأثواب حر ومن الثاني قوله لا هم إن عامر بن جهم
أو ذم حجا في ثياب دسم وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في الآية الكريمة أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال فيها يقول طهرها من المعاصي وهي كلمة عربية كانت العرب إذ نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا أن فلانا لدنس الثياب وإذا وفي وأصلح قالوا إن فلانا لطاهر الثياب وأخرج ابن المنذر عن أبي مالك أنه قال فيها عني نفسي وأخرج هو وجماعة عن مجاهد أنه قال أي وعملك فأصلح ونحوه عن أبي رزين والسدي وأخرج هو أيضا وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال وثيابك فطهر أيمن الإثم وفي رواية من الغدر أي لا تكن غدارا وفي رواية جماعة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى وثيابك فطهر لا تلبسها على غدرة ولافجرة ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
لبست ولا من غدرة اتقنع ونحوه عن الضحاك وابن جبير وعن الحسن والقرطبي أي وخلقك فحسن وأنشدوا للكناية عن النفس بالثياب قول عنترة فشككت بالرمح الطويل ثيابه
ليس الكريم على ألقنا بمحرم وفي رواية عن الحبر وابن جبير أنه كني بالثياب عن القلب كما في قول امريء القيس فإن تك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقيل كنى بها عن الجسم كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلا ركبها قوم ذهبوا بها رموها بأثواب خفاف فلا نرى
لها شبها إلا النعام المنفرا وطهارة الجسم قد يراد بها أيضا نحو ما تقدم ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه وقيل على كون تطهير الثياب كناية عما مر يكون ذلك أمرا باستكمال القوة العلمية (29/117)
بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه وقيل أنه أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة و السلام بتخصيصه ربه عز و جل بالتكبير الذي ربما يوهم إباءه خفض الجناح لما سواه عز و جل واقتضاه عدم المبالاة والأكتراث بمن كان فضلا عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر وقيل الثياب كناية عن السماء كما قال تعالى هن لباس لكم وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه قوا أنفسسكم وأهليكم نارا وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤهن في القبل لا في الدبر وفي الطهرلا في الحيض حكاه ابن بحر وأصلال قول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح بذلك وذهبت جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين أي أغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل من ثياب المصلي وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونوا ثيابهم عن النجاسات وقيل ألقى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا فتدثر فقيل له يا أيها المدثر قم فأنذر ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار وربك فكبر عن أن لا ينتقم منهم وثيابك فطهر عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته وقال أمر عليه الصلاة و السلام بالتنظيف وقت الإسنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضا عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضا أمر له عليه الصلاة و السلام برفض عادات العرب المذمومة فقد ماتت عاداتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر ثم راحوا عبق المسك بهم
يلحفون الأرض هداب الأزر وفي الحديث أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيرا ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات ومن الناس من جعل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولا واعتقادا فكأنه قيل وربك فكبر وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل وجوز أن يراد بالتطهير إزالة مايستقذر مطلقا سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره منكل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا صلى الله تعالى عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضا الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل والرجز فاهجر قال القتبي الرجز (29/118)
العذاب وأصله الإضطراب وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم فكأنه قيل اهجر المآثم والمعاصي والمؤد إلى العذاب أو الكلام بتقدير مضاف أي أسباب الرجز أو التجوز في النسبة على ما قيل ونحو هذا قول ابن عباس الرجز السخط وفسر الحسن الرجز بالمعصية والنخعي بالأثم وهو بيان للمراد ولما كان المخاطب بهذا الأمر هوالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو البريء عن ذلك من باب إياك أعني وأسمعي أو المراد الدور والثياب على هجر ذلك وقيل الرجز اسم لصنمين أساف ونائلة للأصنام عموما وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة والزهري والكلام على ما سمعت آنفا وقيل الرجز اسم للقبيح المستقذر والرجز فاهجر كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل اهجر الجفاء والسفه وكل شيء يقبح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشكرين وعليه يحتمل أن يكون هذا أمر بالثبات على تطهير الباطن بعد الأمر بالثبات على تطهير الظاهر بقوله سبحانه وثيابك فطهر وقرأ الأكثرون الرجز بكسر الراء وهي لغة قريش ومعنى المكسور والمضموم واحد عند جمع وعن مجاهد أن المضموم بمعنى الصنم والمكسور بمعنى العذاب وقيل المكسور النقائص والفجور والمضموم أساف ونائل وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسرها العذاب ومن كلام السادة أي الدنيا فاترك وهو مبني على أنه أريد بالرجز الصنم والدنيا من أعظم الأصنام التي حبها بين العبد وبين مولاه وعبدتها أكثر من عبدتها فإنها تعبد في البيع والكنائس والصوامع والمساجد وغير ذلك أو أريد بالرجز القبيح المستقذر والدنيا عند العارف في غاية القبح والقذارة فعن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب في يد مجذوم وقال الشافعي وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها ويقال كل ما ألهى عن الله عز و جل فهو رجز يجب على طالب الله تعالى هجره إذ بهذا الهجر ينال الوصال وبذلك القطع يحصل الإتصال ومن أعظم لاه عن الله تعالى النفس ومن هنا قيل أي نفسك فخالفها والكلام في كل ذلك من باب إياك أعني أو القصد فيه إلى الدوام والثبات كما تقدم ولا تمنن تستكثر أي ولا تعط مستكثرا أي طالبا للكثير ممن تعطيه قاله ابن عباس فهو نهي عن الإستغزار وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز ومنه الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة موقوفا على شريح المستغزر يثاب من هبته والأصح عند الشافعية أن النهي للتحريم وإنه من خواصه عليه الصلاة و السلام لأن الله تعالى اختار له عليه الصلاة و السلام أكمل الصفات وأشرف الأخلاق فامتنع عليه أن يهب لعوض أكثر وقيل هو نهي تنزيه للكل أو ولا تعط مستكثرا أي رائيا لما تعطيه كثيرا فالسين للوجدان لا للطلب كما في الوجه الأول الظاهر والنهي عن ذلك لأنه نوع إعجاب وفيه بخل خفي وعن الحسن والربيع لا تمنن بحسناتك على الله تعالى مستكثرا لها أي رائيا إياها كثيرة فتنقص عند الله عز و جل وعد من استكثار الحسنات بعض السادة رؤية أنها حسنات وعدم خشية الرد والغفلة عن كونها منه تعالى حقيقة وعن ابن زيد لا تمنن بما أعطاك الله تعالى من النبوة والقرآن مستكثرا به أي طالبا كثير الأجر من الناس وعن مجاهد لا تضعف عن عملك مستكثرا لطاعتك فتمنن من قولهم حبل منين أي ضعيف ويتضمن هذاالمعنى ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال أي لا تقل قد دعوتهم فلم يقبل مني عد فادعهم وقرأ الحسن وابن أبي عبلة تستكثر بسكون الراء وخرج على أنه جزم والفعل بدل من تمنن المجزوم بلا الناهية كأنه قيل ولا تمنن لا تستكثر لأن من شأن المان بما يعطي أن يستكثره أي يراه كثيرا ويعتد به وهو بدل اشتمال وقيل بدل كل من كل على دعاء الإتحاد وفي (29/119)
الكشف الإبدال من تمنن على أن المن هو الإعتداد بما أعطي لا الإعطاء نفسه في لطيفة لأن الإستكثار مقدمة المن فكأنه قيل لا تستكثر فضلا عن المن وجوز أن يكون سكون وقف حقيقة أو بإجراء الوصل مجراه أو سكون تخفيف على أن شبه ثرو بعضد فسكن الراء الواقعة بين الثاء وواو ولربك كما سكنت الضاد وليس بذاك والجملة عليه فيموضع الحال وقرأ الحسن أيضا والأعمش تستكثر بالنصب على إضمار أن كقولهم مره يحفرها أي أن يحفرها وقوله ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي في رواية نصب أحضر وقرأ ابن مسعود أن تستكثر بإظهار أن فالمن بمعنى الإعطاء والكلام على إرادة التعليل أي ولا نعط لأجل أن تستكثر أي تطلب الكثير ممن تعطيه وأيد به أرادها لمعنى الأول في قراءة الرفع وجوز الزمخشري في تلك القراءة أن يكون الرفع لحذف أن وإبطال عملها كما روي أحضر الوغى بالرفع فالجملة حينئذ ليست حالية وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز حمل القرآن على ذلك إذ لا يجوز ما ذكر إلا في الشعر ولنا مندوحة عنه مع صحة معنى الحال ورد بأن المخالف للقياس بقاء عملها بعد حذفها وأماالحذف والرفع فلا محذور فيه وقد أجازه النحاة ومنه تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ولربك فاصبر قيل على أذى المشركين وقيل على أداء الفرائض وقال ابن زيد على حرب الأحمر والأسود وفيه بعد إذ لم يكن جهاد يوم نزولها وعن النخعي على عطيتك كأنه وصله بما قبله وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار والوجه كما قال جار الله أن يكون أمرا بنفس الفعل والمعنى لقصد جهته تعالى وجانبه عز و جل فاستعمل الصبر فيتناول لعدم تقدير المتعلق المفيد للعموم كل مصبور عليه ومصبور عنه ويراد الصبر على أذى المشركين لأنه فرد من أفراد العام لا لأنه وحده هو المراد وعن ابن عباس الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء الفرائض وله ثلثمائة درجة وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة وصبر على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة وذلك لشدته علىالنفس وعدم التمكن منه إلا بمزيد اليقين ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم أسألك من اليقين ما تهون به على مصائب الدنيا وذكروا أن للصبر باعتبار حكمه أربعة أقسام فرض كالصبر عن المحظورات وعلى أداء الواجبات ونقل كالصبر عن المكروهات والصبر على المسنونات ومكروه كالصبر عن أداء المسنونات والصبر على فعل المكروهات وحرام كالصبر على من يقصد حريمه بمحرم وترك التعرض له مع القدرة إلى غير ذلك وتمام الكلام عليه في محله وفضائل الصبر الشرعي المحمود مملا لا تحصى ويكفي في ذلك قوله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم قال الله تعالى إذا وجهت إلى العبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا فإذا نقر أينفخ في الناقور في الصور وهو فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببه ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به ولهذه السببية تجوز به عنه وشاع ذلك وأريد به النفخ لأنه نوع منه والفاء للسببية كأنهقيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقي عاقبة صبرك عليه والعامل في إذا ما دل عليه قوله تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين فالمعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمرعلى الكافرين والفاء في هذا للجزاء وذلك إشارة إلى وقت النقر المفهوم من فإذا نقر ومافيه من معنى البعد مع قرب العهد لفظا بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الهواء والفظاعة ومحله الرفع على الإبتداء ويومئذ قيل بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن والخبر يوم عسير فكأنه قيل يوم فيوم النقر عسير وجوز أن يكون يومئذ ظرفا مستقرا ليوم عسير أي صفة له فلما تقدم عليه صار (29/120)
حالا منه والذي أجاز ذلك على ما في الكشاف أن المعنى فلذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور فهو على منوال زمن الربيع العيد فيه أي وقوع العيد فيه وماله فلذلك الوقوع وقوع يوم الخ ومما ذكر يعلم اندفاع ما يتوهم من تقديم معمول المصدر أو معمول ما في صلته على المصدر أن جعل ظرف الوقوع المقدر أو ظرف عسير والتصريح بلفظ وقوع إبراز للمعنى وتفص عن جعل الزمان مظروف الزمان برجوعه إلى الحديث فتدبر وظاهر صنيع الكشاف اختيار هذاالوجه وكذا كلام صاحب الكشف إذ قرره على أتم وجه وادعى فيما سبقت عسفا نعم جوز عليه الرحمة أن يكون يومئذ معمول ما دل عليه الجزاء أيضا كأنه قيل فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين يومئذ وأيا ما كان فعلى الكافرين متعلق بعسير وقيل بمحذوف هو صفة لعسير أو حال من المستكن فيه وأجاز أبو البقاء تعلقه بيسير في قوله تعالى غير يسير وهو الذي يقتضيه كلام قتادة وتعقبه أبو حيان بأنه ينبغي أن لا يجوز لأن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو ممنوع على الصحيح وقد أجازه بعضهم في غير حملا لها على لا فيقول أنا بزيد غير راض وزعم الحوفي إن إذا متعلقة بإنذار والفاء زائدة وأراد أنها مفعول به لأنذرك أنه قيل قم فانذرهم وقت النقر في الناقور وقوله تعالى فذلم الخ جملة ميت أنفة في موضع التعليل وهو كما ترى وجوز أبو البقاء تخريج الآية على قول الأخفش بان تكون مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة وجعل يومئذ ظرفا لذلك ولا أظنك في مرية من أنه كلام أخفش وقال بعضهم أن ذلك مبتدأ وهو إشارة إلى المصدر أي فذل كالنقر وهو العامل في يومئذ ويوم عسير خبر المبتدأ والمضاف مقدر أي فذلك النقر في ذلك اليوم نقر يوم وفيه تكلف وعدول عن الظاهر مع أن عسر اليوم غير مقصود بالإفادة عليه وظاهر السياق قصده بالإفادة وجعل العلامة الطيبي هذه الآية من قبيل ما اتحد فيه الشرط والجزاء نحو من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله إذ جعل الإشارة إلى وقت النقر وقال أن في ذلك مع ضم التكرير دلالة على التنبيه على الخطب الجليل والأمرالعظيم وفيه نظر وفائدة قوله سبحانه غير يسير أي سهل بعد قوله تعالى عسير تأكيد عسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه ويشعر بتيسره على المؤمنين كأنه قيل عسير على الكافرين غير يسير عليهم كما هو يسير علي أضدادهم المؤمنين ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزياد غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ولا يتوقف هذا على تعلق على الكافرين بيسير نعم الأمر عليه أظهركما لا يخفى ثم مع هذا لا يخلو قلب المؤمنمن الخوف أخرج ابن سعيد والحاكم عن بهز بن حكيم قال أمنا زرارة بن أوفى فقرأ المدثر فلما بلغ فإذا نقر في الناقور خر ميتا فكنت فيمن حمله وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت فإذا نقر في الناقور قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحني جبهته يستمع متى يؤمر قالوا كيف نقول يا رسول الله قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وعلى الله توكلنا واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأولى أو يوم النفخة الثانية ورجح أنه يوم الثانية الذي يختص عسره بالكافرين وأما وقت النفخة الأولى فحكمه الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر وهو على المشهور مختص بمنكان حيا عند وقوع النفخة ذرني ومن خلقت وحيدا نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كما روي بمن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم بل قيل كونها فيه متفق عليه وهو يقتضي أن هذه السورة لم تنزل جملة إذ لم يكن أمر الوليد وما اقتضى نزول الآية فيه في بدء البعثة فلا تغفل ووحيدا حال إما من الياء في ذرني وهو المروي عن مجاهد أي ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الإنتقام عن كل منتقم أو من التاء في خلقت أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه (29/121)
أو من الضمير المحذوف العائد على من على ما استظهره أبو حيان أي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد وجوز أن يكون منصوبا بأذم ونحوه فقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد فتهكم الله تعالى به وبلقبه أو صرفه من الغرض الذي كانوا يؤمنونه من مدحه والثناء عليه إلى جهة ذمه وعيبه فأراد سبحانه وحيدا في الخبث والشرارة أو وحيدا عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما مر في سورة نون وجعلت له مالا ممدودا مبسوطا كثيرا أو ممدودا بالنساء منمد النهر ومده نهر آخر وقيل كان له الضرع والزرع والتجارة وعن ابن عباس وهو ما كان له بين مكة والطائف من الأبل والنعل والجنان والعبيد وقيل له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء وقال النعمان بن بشير المال الممدود هو الأرض لأنها مدت وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه المستغل الذي يجبي شهرا بعد شهر فهو ممدود لا ينقطع وعن ابن عباس ومجاهد وابن جبير كان له ألف دينار وعن قتادة ستة آلاف دينار وقيل تسعة آلاف دينار وعن سفيان الثوري روايتان أربعة آلاف دينار وألف وألف دينار وهذه الأقوال إن صحت ليست المراد بها تعيين المال والممدود وانه متى أطلق يراد به ذلك بل بيان أنه كان بالنسبة إلى المحدث عنه كذا وبنين شهودا حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكففين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاههتهم واعتبارهم أو تسع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه واختلف في عددهم فعن مجاهد أنهم عشرة وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد ابن الوليد وخالد وهشام وقد أسلم هؤلاء الثلاثة والعاص وقيس وعبد شمس وعمارة واختلفت الرواية فيه أنه قتل يوم بدر أو قتله النجاشي لجايه نسبت إليه في حرم الملك والروايتان متفقتان على أنه قتل كافرا ورواية الثعلبي عن مقاتل إسلامه لا تصح ونص ابن حجر على أن ذلك غلط وقد وقع في هذا الغلط صاحب الكشاف وتبعه فيه من تبعه والعجب أيضا أنهم لم يذكروا الوليد بن الوليد فيمن أسلم مع أن المحدثين عن آخرهم أطبقوا على إسلامه ومهدت له تمهيدا بسطتله الرياسة والجاه العريض فأتمت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا وأصل التمهيد التسوية والتهيئة وتجوز به عن بسطة المال والجاه وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأعين نظرا ومخبرا يلقب ريحانة قريش وكذا كانوا يلقبونه بالوحيد بمعنى المنفرد باستحقاق الرياسة وعن ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام وعن مجاهد مهدت له المال بعضه فوق بعضكما يمهد الفراش ثم يطمع أن أزيد على ما أديته وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه في غنى تام لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم وعن الحسن وغيره أنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي واستعمال ثم للإستبعاد كثير قيل التفات الرتبي بل عد الشيء بعيدا غير مناسب لما عطف عليه كما تقول تسيء إلي ثم ترجو إحساني وكان ذلك لتنزيل البعد المعنوي منزلة البعد الزماني كلا ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله سبحانه إنه كان لآياتنا عنيدا جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل ما قبل كأنه قيل لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته فقيل أنه كان معاند الآيات المنعم وهي دلائل توحيده أو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قالوا لمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة قال مقاتل ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك سأرقه صعودا سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق به ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة (29/122)
الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الإستعارة التمثيلية وروي أحمد والترمذي والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا الصعود جبل من نار يصعد فيه خرفا ثم يهوى فيه كذلك أبدأ وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم عليه وسلم يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذات ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت إنه فكر وقدر تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته عز و جل فيكون جملة مفسرة لذلك لا محل لها من الإعراب وما بينهما اعتراض وقيل الجملة عليه بدل من قوله تعالى أنه لآيا عنيدا أي أنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقول فقتل كيف قدر تعجيب من تقديره وإصابته في المخزورميه الغرض الذي كان ينتجيه قريش فهو نظير قاتلهم الله أنى يؤفكون أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرره على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو حاسده بذلك وما له على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكان رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وإنك كاره له قال وماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وولله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وأنه ليعلو ولا يعلى وأنه ليحطم ما تحته قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر فعجبوا بذلك وقال محيي السنة لما نزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم إلى قوله تعالى المصير قام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي عليه الصلاة و السلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو وما يعلى فقال قريش صبأ والله الوليد لتصب أن قريش كلهم فقال أبو جهل أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال تزعمون أن محدما مجنون فهل رأيتموه يخنق وتقولون أنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا في كل ذلك اللهم لاثم قالوا فما هو ففكر ماهو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا متعجبين منه ثم قتل كيف قدر تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف بثم للدلالة على تفاوت الرتبة وإن الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله وما لي من ذنب إليهم علمته
سوى أننيقد قلت يا سرحة أسلمي ألا يا أسلمي ثم أسلمي ثمت أسلمي
ثلاث تحيات وإن لم تكلمني والإطراء في الإعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره وقال الراغب في غرة التنزيل كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبي صلى الله عليه و سلم قدر ما أتى به من القرآن فقال إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتي به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلى الله تعالى عليه (29/123)
وسلم بضرب من الإحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك إهلاكا المقتول كيف قدر وقوله تعالى ثم قتل كيف قدر لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا وقال فإن ادعينا أن ما أتيبه من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكا له فجاء ذلك لهذا فلم يكن في الإعادة تكرارا والأول هو ما ذهب إليه جار الله وجعل الدعاء اعتراضا وقال عليه الطيبي أنه ليس من الإعتراض المتعارف الذي ينحل لتزيين الكلام وتقديره لأن الفاء مانعة من ذلك بل هو من كلام الغير ووقع الفاء تضاعيف كلامه فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية ثم قال وهو متعسف وأنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير وأما إذا جعلا من كلام الله تعالى استهزاء كما ذكر هو أو ادعاء عليه كما ذهب إليه الراغب وعليه تفسير الواحدي على ما قال ونقل عن صاحب النظم فقتل كيف أي عذب ولعن كيف قدر كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كانت منه لتكون الفعال كلها متناسقة مرتبة على التفاوت في التعقيب والتراخي زمانا ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن وجاء النظم عن السنن المألوف من التنزيل إلى آخر ما قال وما تقدم أبعد مغزى والإعتراض من المتعارف وهو يؤكد ما سيق له الكلام أحسن تأكيد والفاء غير ماتعة على ما نص عليه جار الله وغيره وجعل من الإعتراض المقرون بها فاسألوا أهل الذكر ومنه قوله واعلم فعلم المرء ينفعه
أن سوف يأتي كل ما قدرا وقد حقق أنه بالحقيقة نتيجة وقعت بين أجزاء الكلام اهتماما بشأنها فأفادت فائدة الإعتراض وعدت منه والإعتراض بين قوله تعالىأنه فكر وقدر وقوله سبحانه ثم نظر للعطف وثم فيه وفيما بعد على معناه الوضعي وهو التراخي الزماني مع مهلة أي ثم فكر في أمر القرآن مرة بعد أخرى ثم عبس قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا وضاقت عليه الحيل ولم يدر ماذا يقول وقيل ثم نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قم قطب في وجهه عليه الصلاة و السلام وبسر أي أظهر العبوس قبل أوانه وفي غير وقته فالبسر الإستعجال بالشيء نحو بسر الرجل لحاجة طلبها في غير أوانها وبسر الفحل الناقة ضربها قبل أن تطلب وما بسر متناول من غديره قبل سكونه وقيل للجبن الذي ينكأ قبل النضج بسر ومنه قيل لما لم يدرك من الثمر بسر وبهذا فسره الراغب هنا وفسره بعضهم بأشد العبوس من بسر إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء وأسود وجهه منه ويستعمل بمعنى العبوس ومنه قول توبة قد رابني منها صدود رأيته
وأعراضها عن حاجتي وبسورها وقول سعد لما أسلمت راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر فحينئذ يكون ذكر بسر كالتأكيد لعبس ولعله مراد من قال اتباع له وأهل اليمين يقولون بسر وأبسر إذا وقف ولم أر من جواز إرادة ذاك هنا ولو على بعد وفي النفس من ثبوت ذلك لغة صحيحة توقف ثم أدبر عن الحق أو عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستكبر عن اتباعه فقال إن هذا إلا سحر يؤثر أي يروى ويتعلم من سحر بابل ونحوهم وقيل أي يختار ويرجح على غيره من السحر وليس بمختار والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة الحمقاء لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلثم وتلبث فهي للتعقيب من غير مهملة ولا مخالفة فيه لما مر من الرواية كما لا يخفى وقوله إن هذا إلا قول البشر كالتأكد للجملة الأولى لأن المقصود منهما نفي كونه (29/124)
قرآنا ومن كلام الله تعالى وإن اختلفا معنى ولا اعتبار في المقصود لم يعطف عليها وأطلق بعضهم عليه التأكيد من غير تشبيه والأمر في وصف إشكاله التي تشكل بها حتى استنبط هذا القول السخيف استهزاء به وإشارة إلى أنه عن الحق الأبلج بمعزل ثم أن الذي يظهر من تتبع أحوال الوليد أنه إنما ذلك عنادا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال وقوله تعالى سأصليه سقر بدل من سأرهقه الخ بدل اشتمال لاشتمال السقر على الشدائد وعلى الجبل من النار والوصف الآتي لا ينافي الإبدال على إرادة الجبل بناء على أن المراد به نحو ما في الحديث وقال أبو حيان يظهر أنهما جملتان أعتقبت كل واحدة منهما على سبيل توعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله تعالى بإرهاق صعود وعلى قوله أن القرآن سحر يؤثر إصلاء سقر وفيه بحث لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم وما أدراك ما سقر أي أي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وإدراك خبره وما الثانية لأنها مفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع وسفر مبتدأ أي شيء هي في وصفها فإن قد يطلب بها الوصف وإن كان الغالب أن يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله سبحانه لا تبقى ولا تذر بيان لوصفها وحالها فالجملة مفسرة أو مستأنفة عن غير حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ محذوف وقيل حال من سقر والعامل فيها معنى التعظيم أي أعظم سقر وأهول أمرها حال كونها لا تبقى الخ وليس بذاك أي لا تبقى شيئا يلقى فيها إلا أهلكته وإذا هلك لم نذره هالكا حتى يعاد وقال ابن عباس لا تبقي إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا جديدا لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأول وروي نحوه عن الضحاك بزيادة ولكل شيء فترة وملالة إلا جهنم وقيل لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كان ما يطرح فيها هالك لا محالة وقال السدي لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما وهو دون ما تقدم لواحة للبشر قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور أي مغيرة للبشرات مسودة للجلود وفي بعض الروايات عن بعض بزيادة محرقة والمراد في الجملة فلواحة من لوحته الشمس إذا سودت ظاهره وأطرافه قال تقول ما لا حك يا مسافر
يا ابنة عمي لا حني الهواجر والبشر جمع بشرة وهي ظاهرة الجلد وفي بعض الآثار أنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل واعتراض بأنه لا يصح وصفها بتسويدها الظاهر الجلود مع قوله سبحانه لا تبقي ولا تذر الصريح في الإحراق وأجيب أنها في أول الملاقاة تسوده ثم تحرقه وتهلكه أو الأول حالها مع من دخلها وهذا حالها مع من يقرب منها وأن تتعلم أنه إذا قيل لا يحسن وصفها بتسويد ظاهر الجلود بعد وصفها بأنها لا تبقي ولا تذر لم يحسن هذا الجواب وقد يجاب حينئذ بأن المراد ذكر أوصافها المهمولة الفظيعة من غير قصد إلى ترق من فظيع إلى أفظع وكونها لواحة وصف من أوصافها ولعله باعتبار أول الملاقاة وقيل الإهلاك وفي ذكره من التفظيع ما فيه لما أن في تسويد الجلود مع قطع عما فيه من الإيلام تشويها للخلق ومثله للشخص فهو من قبيل التتميم وفي استلزام الإهلاك تسويد الجثود تردد وإن قيل به فتدبر وجوز على تفسير لواحة بما ذكر كون البشر اسم جنس بمعنى الناس ويرجع المعنى إلى ما تقدم وقال الحسن وابن كسيان والأصم لواحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر والبشر بمعنى الناس أي تظهر للناس لعظمها وهولها كما قال تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى وقد جاء أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام ورفع لواحة على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة وقرأ عطية العوفي وزيد بن علي والحسن وابن أبي عبلة لواحة بالنصب على الإختصاص للتهويل أي أخص أو أعني وجوز أن يكون حالا مؤكدة من ضمير تبقي أو تذر بناء على زعم الإستلزام وأن يكون حالا من سقر والعامل ما مر عليها تسعة عشر الظاهر ملكا ألا ترى العرب وهم (29/125)
الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس أنها لما نزلت عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فقال له أبو الأرشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر فأكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون وأنزل سبحانه في أبي جهل أولي لك فأولى ثم أولى لك فأولى والظاهر أن المراد بأصحاب النار هم التسعة عشر ففيه وضع الظاهر موضع الضمير وكأن ذلك لما في هذا الظاهر من الإشارة إلى أنهم المدبرون لأمرها القائمون بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير وفي ذلك إيذان بأن المراد بسقر النار مطلقا لا طبقة خاصة منها والجمهور على أن المراد بهم النقباء فمعنى كونهم عليها أنهم يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها وإلا فقد جاء جاء يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وذهب بعضهم إلى التمييز المحذوف صف وقيل صف والأصل عليها تسعة عشر صنفا أو عليها تسعة عشر صفا ويبعده ما تقدم في رواية الحبر وكذا قوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا فإن المتبادر أن افتتانهم باستقلالهم لهم واسبعادهم تولى تسة عشر لتعذيب أكثر الثقلين واستهزائهم بذلك ومع تقدير الصنف أو الصف لا يتسنى ذلك وقال غير واحد في تعليل جعلهم ملائكة ليخافوا جنس المعذبين فلا يرقوا لهم ولا يستروحوا إليهم ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه وأشدهم بأسا وفي الحديث كأن أعينهم البرق وكأن أقوالهم الصياصي يجرون أشعارهم لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرميهم في النار فيرمي بالجبل عليهم ولا يبعد أن يكون في التنوين إشعار إلى عظم أمرهم ومعنى قوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا آخره على ما اختاره بعض الأجلة وما جعلنا عدد أصحاب النار إلا العدد الذي اقتضى فتنة الذين كفروا بالإستقلال والإستهزاء وهو التسعة عشر فكاءن الأصل وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر فعبر بالأثر وهو فتنة الذين كفروا عن المؤخر وهو خصوص التسعة لأنه كما علم السبب في افتتاحهم وقيل إلا فتنة للذين بدل إلا تسعة عشر تنبيها على أن الأثر هنا لعدم انفكاكه عن مؤثره لتلازمهما كانا كشيء واحد يعبر باسم أحدهما عن الآخر ومعنى جعل عدتهم المطلقة العدة المخصوصة أن يخبر عن عددهم بأنه كذا إذ الجعل لا يتعلق بالعدة إنما يتعلق بالمعدود قالمعنى أخبرنا أن عدتهم تسعة عشر دون غيرها ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أي ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وصدق القرآن لأجل موافقة المذكورين ذكرهم في القرآن بهذا العدد وفي الكتابين كذلك وهذا غير جعل الملائكة على العدد المخصوص لأنه إيجاد ولا يصح على ما قال بعض المحققين أن يجعل إيجادهم على الوصف علة للإستيقان المذكور لأنه ليس إلا للموافقة وتكلف بعضهم لتصحيحه بأن الإيجاد سبب للإخبار والإخبار سببل للإستيقان فهو سبب بعيد له والشيء كما يسند لسببه البعيد يسند القريب لكنه كما قال لا يحسن ذلك وإنما احتيج إلى التأويل بالتعبير بالأثر عن المؤثر ولم يبق الكلام على ظاهره لأن الجعل من دواخل المبتدأ والخبر فما يترتب عليه يترتب باعتبار نسبة أحد المفعولين إلى الآخر كقولك جعلت الفضة خاتما لتزين به وكذلك ما جعلت الفضة إلا خاتما لكذا ولا معنى لترتب الإستيقان وما بعده على جعل عدتهم فتنة للكفار ولا مدخل لافتتانهم بالعدد المخصوص في ذلك وإنما الذي له مدخل العدة بنفسها أي العدة باعتبار أنها العدة المخصوصة والأخبار بها كما سمعت وليس ذلك تحريفا لكتاب الله تعالى ولا مبنيا عن رعاية مذهب باطل كما توهم ومنهم من تكلف لأمر السببية على الظاهر بما تجمعه (29/126)
الأسماع فلا نسود به الرفاع وفي البحر ليستيقن مفعول من أجله وهو متعلق بجملنا لا بفتنة فليست الفتنة معلولة للإستيقان بل المعلول جعل العدة سبب الفتنة وفي الإنتصاف يجوز أن يرجع قوله تعالى ليستسقن إلى ما قبل الإستثناء أي جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكفار ويقين المؤمنين وذكر الإمام في ذلك وجهين الثاني ما قدمناهم ما اختاره بعض الأجلة والأول أن التقدير وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب قال وهذا كما فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك فالواو العاطفة قد تذكر في هذاالموضع تارة وقد تحذف أخرى وقال بعض أنه متعلق بمحذوف أي فعلنا ذلك ليستيقن الخ والكل كما ترى وحمل الذين أوتواالكتاب على أهل الكتابين مما ذهب إليه جمع وقيل المراد بهم اليهود فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال الله تعالى ورسوله اعلم فجاء فأخبرالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم فأخبروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال هكذا وهكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة واستشعر من هذا أن الآية مدنية لأن اليهود إنما كانوا فيها وهو استشعار ضعيف لأن السؤال لصحابي فلعله كان مسافر فاحتج بيهودي حيث كان وأيضا لا مانع إذ ذاك من إتيان اليهود نحو مكة المكرمة ثم أن الخبرين لا يعينان حمل الموصوف علىاليهود كما يخفى فالأولى إبقاء التعريف على الجنس وشمول الموصوف للفريقين أي ليستيقن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ويزداد الذين آمنوا إيمانا أي يزداد إيمانهم كيفية بما رأوا من تسليمهم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك أو كمية بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل وولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون تأكيد لما قبله من الإستيقان وازدياد الإيمان ونفي لما قد يعتل اي المستقن من شبهة ما للغفلة عن بعض المقدمات أوطريان ما توهم كونه معارضا في أول وهلة ولما فيهمن هذه الزيادة جاز عطفه على المؤكد بالواو لتغايرهما في الجملة وإن ما لم ينظم المؤمن ونفي سلك أهل الكتاب في نفي الإرتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فإن انتفاء الإرتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيهمن الإيمان وكم بينهما وقيل إنما لم يقل ولا يرتابوا بل قيل ولا يرتاب الخ للتنصيص على تأكيد الأمرين لاحتمال عود الضمير في ذلك على المؤمنين فقط والتعبير عن المؤمنين باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازديادهم ورسوخهم في ذلك وليقول الذين في قلوبهم مرض أي شك أو نفاق فيكون بناء على أن السورة بتمامها مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة إخبارا عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة والكافرون المصرون على التكذيب ماذا أراد الله بهذا مثلا أي شيء أراد تعالى أو ما الذي أراده الله تعالى بهذاالعدد المستغرب استغراب المثل وعلى الأول ماذا منزلة اسم واحد للإستفهام في موضع نصب بأراد وعلى الثاني هي مؤلفة من كلمة ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره والجملة بعد صلة والعائد فيها محذوف ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى هذه ناقة الله لكم آية والظاهر أن ألفاظ هذه الجملة من المحكي وعنوا بالإشارة التحقير وغرضهم نفى أن يكون ذلك من عند الله عز و جل على أبلغ وجه لا (29/127)
الإستفهام حقيقة عن الحكمة ولا القدح في اشتماله عليها مع اعترافهم بصدور الأخبار بذلك عنه تعالى وجوز أن يكون أراد الله تعالى من الحكاية وهم قالوا ماذا أريد ونحوه وقيل يجوز أن يكون المثل بمعناه الآخر وهو ما شبه مضربه بأن يكونوا قد عدوه لاستغرابه مثلا مضروبا ونسبوه إليه عز و جل استهزاء وتهكما وإفراد قوله بهذا التعليل مع كونه من باب فتنتهم قيل للإشعار باستقلاله في الشناعة وفي الحواشي الشهابية إنما أعيد اللام فيه للفرق بين العلتين إذ مرجح الأولى الهداية المقصودة بالذات ومرجح هذه الضلال المقصود بالعرض الناشيء من سوء صنيع الضالين وتعليل أفعاله بالحكم والمصالح جائز عند المحققين وجوز في هذه اللام وكذا الأولى كونها للعاقبة كذلك يضل الله من يشاء ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية ومحل الكاف في الأصل على أنها صفة لمصدر محذوف وأصل التقدير يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكرمن الإضلال والهداية فحذف المصدر وأقيم وصفه مقامهثم قدم على الفعل لإفادةالقصر فصار النظم مثل ذلك الإضلال وتلك الهداية يضل الله تعالى من يشاء إضلاله لصرف اختياره حسب استعداده السيء إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله تعالى الناطقة بالهدى ويهدي من يشاء هدايته لصرف اختياره حسب استعداده الحسن عند مشاهدة تلك الآيات إلى جانب الهدى لا إضلالا وهداية أدنى منهما ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما بعد كما في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا على ما حقق في موضعه وما يعلم جنود ربك جمع جند اشتهر في العسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة ويقال لكل جمع أيوما يعلم جموع خلقه تعالى التي من جملتها الملائكة المذكورون على ما هم عليه إلا هو عز و جل إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولوا إجمالا فضلا عن الإطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة وهو رد لاستهزائهم يكون الخرنة تسعة عشر لجهلهم وجه الحكمة في ذلك وقال مقاتل هو جواب لقول أبي جهل أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر وحاصله أنه لما قلل الأعوان أجيب بأنهم لا يحصون كثرة إنما الموكلون على النار هؤلاء المخصوصون لا أن المعنى ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلا هو خلافا للطيبي فإن اللفظ غير ظاهر الدلالة على هذا المعنى واختلف في أكثر جنود الله عز و جل فقيل الملائكة لخير أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وفي بعض الأخبار أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر مخلوقات ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما لا يعلمه إلا الله وقيل المجموع أقل قليل بالنسبة إلى الملائكة المهيمين الذين لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق أحدا سواء والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما يعلمه سبحانه من مخلوقاته وعن الأوزاعي قال قال موسى عليه السلام يا رب من مهك في السماء قال ملائكتي قال كم عدتهم قال اثنا عشر سبطا قال كم عدة السبط قال عدد التراب وفي صحة هذا روي إن صح فصدره من المتشابه وأنا لا أجزم بأكثرية صف فما يعلم جنود ربك إلا هو ولم يصح عندي في ذلك بيد أنه يغلب على الظن أن الأكثر الملائكة عليهم السلام وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى لا يعلم حقائقها وأحوالها إلا هو عز و جل ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر أو يصل إلى مركزها طائر الفكر فإني وهيهات ولو استغرقت القوى والأوقات هذا واختلف في المخصص لهذا العدد (29/128)
أعني تسعة عشر فقيل أن اختلاف النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الأثنتي عشرة يعني الحواس الخمسة الباطنة والحواس الخمسة الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة فهذه اثنتا عشرة والطبيعة السبع التي ثلاث منها مخدومة وهي القوة النامية والغادية والمولدة وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والماسكة وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم كما لا يخفى على من وقف على كتبها وقيل أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الإعتقاد والأقرار والعمل أنواعا من العذاب تناسبها فيضرب الست في الثلاثة يحصل ثمانية عشر وعلى كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك أو صنف وبذلك تتم التسعة عشر بأصناف الكفار وواحدة بأصناف الأمة ولم يجعل تعذيب الكفار في خمس منها فيبق للمؤمنين اثنتان أحدهما لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر أو أحدهما للعصاة منهم والأخرى للعاصيات لأنه حيث أعدت النار للكافرين أولا وبالذات ناسب أن يستغرقوها كلية ويوزعوا على جميع أماكنها بقدر ما يمكن لكن لما تعلقت إرادته سبحانه بتعذيب الأمة بها أفرزت واحدة منها لهم وقيل أن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة للصلاة فلم يخلق في مقابلتها زبانية لبركة الصلاة الشاملة لمن لم يصل فيبقي تسعة عشر وقيل أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وللأعتناء بأمر عذابهم واستمراره ناسب أن يقوم عليه ثلاثة واحد في الوسط واثنان في الطرفين فهذه ثمانية عشر وواحدة منها لعصاة المؤمنين ناسب أمر عذابهم أن يقوم عليه واحد وبه تتم التسعة عشر وقيل أن العدد على وجهين قليل وهو من الواحد إلى التسعة وكثير وهو من العشرةإلا ما لا نهاية له فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير وقيل غير ذلك والذي مال إليه أكثر العلماء أن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إلا الله عز و جل وهو كالمتشابه يؤمن به ويفوض علمه إلى الله تعالى وكل ما ذكر مما لا يعول عليه كما لا يخفى على منوجه أدنى نظره إليه والله تعالى الهادي لصواب الصواب والمتفضل على من شاء يعلم لا شك معه ولا ارتياب وقرأ أبو جعفر وطلحة ابن سليمان تسعة عشر بإسكان العين وهو لغة فيه كراهة توالي الحركات فيما هو كاسم واحد وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطب وابراهيم بن قتة تسعة بضم التاء وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ولا يتوهم أنها حركة إعراب ولا أعرب عشرو قرأ أنس أيضا تسعة بالضم أعشر بالفتح قال صاحب اللوامح فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر وعنه أيضا تسعة وعشر بالضم وقلب الهمزة واوا خالصة تخفيفا والتاء فيهما مضمومة ضمة بناء لما سمعت آنفا وعن سليمان بن قتة وهو أخو ابراهيم أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب والأضافة إلى أعشر وجره منونا وهو على ما قال صاحب اللوامح جمع عشرة وقد صرح بأن الملائكة على القراءة بهذا الجمع معربا أو مبنيا تسعون ملكا وقال الزمخشري جمع عشير مثل يمين وأيمن وروي عنه أنه قال تسعة من الملائكة كل واحد منهم عشير فهم مع أشياعهم تسعون والعشير بمعنى العشر فدل على أن النقباء تسعة وتعقب بأن دلالته على هذا المعنى غير واضحة ولهذا قال ابن جني لا وجه لتلك القراءة إلا أن يعني تسعة عشر جمع العشير وهم الأصدقاء فليراجع وما هي أي سقر كما يقتضيه كلام مجاهد إلا ذكرى للبشر إلا تذكرة لهم والعطف قيل على قوله تعالى سأصليه سقر وما جعلنا أصحاب النار إلى هنا اعتراض ووجهه أنه قيل عليها تسعة عشر وزيادة في تهويل أمر جهنم عقب بما يؤكد قوتهم وتسلطهم وتباينهم بالشدة عن سائر المخلوقات ثم بما يؤكد الكمية وما أكد المؤكد فهو مؤكد أيضا وقيل (29/129)
الضمير للآيات الناطقة بأحوال سقر وقيل لعد خزنتها والتذكير والعظة فيها من جهة أن في خلقه تعالى ما هو في غاية العظمة حتى يكون القليل منهم معذبا ومهلكا لما لا يحصى دلالة على أنه عز و جل لا يقدر حق قدره ولا توصف عظمته ولا تصل الأفكار إلى حرم جلاله وقيل الضمير للجنود وقيل لنار الدنيا وهذا أضعف الأقوال وأقواها على ما قيل ما تقدم وبين البشر ههنا والبشر فيما سبق أعني قوله تعالى لواحة للبشر على تفسير الجمهور تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له كلا ردع لمن أنكرها وقيل زجر عن قول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم وقيل ردع عن الأستهزاء بالعدة المخصوصة وقال الفراء هي صلة للقسم وقدرها بعضهم بحقا وبعضهم بألا الأستفتاحية وقال الزمخشري إنكار بعد أن جعلها سبحانه ذكرى أن يكون لهم ذكرى وتعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ثم ينكر أن يكون لهم ذكرى وأجيب بأنه لا تناقض لأن معنى كونها ذكرى أن شأنها أن تكون مذكرة لكل أحد ومن لم يتذكر لغلبة الشقاء عليه لا يعد من البشر ولا يلتفت لعدم تذكره كما أن حلاوة العسل لا يضرها كونها مرة في فم منحرف المزاج المحتاج إلى العلاج وحال حسن الوقف على كلا وعدم حسنه هنا يعلم من النظر إلى المراد بها وصرح بغضهم بذلك فقال إن كانت متعلقة بالكلام السابق يحسن الوقف عليها وإن كانت متعلقة بالكلام اللاحق لا يحسن ذلك أي كما إذا كانت بمعنى ألا الأستفتاحية فالوقت حينئذ تام على للبشر ويستأنف كلا والقمر والليل إذ أدبر أي ولي وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال وهو بمعنى أدبر المزيد كقيل وأقبل والمعروف المزير وحسن الثلاثي هنا مشاكلة أكثر الفواصل وقيل دبر من دبر الليل النهار إذا خلفه والتعبير بالماضي مع إذا التي للمستقبل للتحقيق ويجوز أن يقال أنها تقلبه مستقبلا وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش ومطر ويونس بن عبيد وهي رواية عن الحسن وابن يعمر والسلمي وطلحة إذا بالألف أدبر بالهمز وكذا هو في مصحف عبد الله وأبي وهو أنسب بقوله تعالى والصبح إذا أسفر أي أضاء وانكشف على قراءة الجمهور وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل سفر ثلاثيا وفسر بطرح الظلمة عن وجهه إنها لأحدى الكبر جواب للقسم وجوز أن يكون كلا ردعا لمن ينكر أن تكون إحدى الكبرى لما علم من أن إن واللام من الكلام الأنكاري في جواب منكر وهذا تعليل لكلا والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا وفي التعليل نوع خفاء فتأمل وضمير أنها لسقر والكبر جمع الكبرى وجعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها السوافي في جمع السافياء والقواصع في جمع القاصعاء فأن فاعلة تجمع على فواعل بإطراد لا فاعلاء لكن حمل فاعلاه على فاعلة لاشتراك الألف والتاء في الدلالة على التأنيث وضعا فجمع فيهما على فواعل وقول ابن عطية الكبر جمع كبيرة وهم كما لا يخفى أي أن سقر لأحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها قيل فيكون في ذلك إشارة إلى أن بلاءهم غير محصور فيها بل تحل بهم بلايا غير متناهية أو أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر من بينهم واحدة في العظم لا نظير لها وهذا كما يقال أحد الأحدين وهو واحد الفضلاء وهي إحدى النساء وعلى هذا اقتصر الزمخشري ورجح الأول بأنه أنسب بالمقام ولعله لما تضمن من الأشارة وقيل المعنى أنها لأحدى دركات النار الكبر السبع لأنها جهنم ولظى والحطمة وسقر والسعير والجحيم والهاوية ونقل عن صاحب التيسير وليس بذاك أيضا وقيل ضمير أنها يحتمل أن يكون للنذارة وأمر الآخرة قال في البحر فهو للحال (29/130)
والقصة وقيل هو للساعة فيعود على غير مذكور وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير لحدى الكبر بحذف همزة إحدى وهو حذف لا ينقاس وخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين نذير للبشر قيل تمييز لأحدى الكبر على أن نذيرا مصدر بمعنى إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار أي أنها لأحدى الكبر إنذارا والمعنى على ما سمعت عن الزمخشري أنها لأعظم الدواهي إنذارا وهو كما تقول هي إحدى النساء عفافا وقال الفراء هو مصدر نصب بإضمار فعل أي إنذارا وذهب غير واحد إلى أنه اسم فاعل بمعنى منذرة فقال الزجاج حال من الضمير في أنها وفيه مجيء الحال من اسم أن وقيل حال من الضمير في لأحدى واختار أبو البقاء كونه حالا مما دلت عليه الجملة والتقدير عظمت أو كبرت نذيرا وهو على ما قال أبو حيان قول لا بأس به وجوزت هذه الأوجه على مصدريته أيضا بتأويله بالوصف وقال النحاس حذفت الهاء من نذيرا وإن كان للنار على معنى النسب يعني ذات إنذار وقد يقال في عدم إلحاق الهاء فيه غير ذلك مما قيل في عدم إلحاقها في قوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين وقال أبو رزين المراد بالنذير هنا هو الله تعالى فهو منصوب بأضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه وقال ابن زيد المراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قيل فهو منصوب بأضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه وقال ابن زيد المراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قيل فهو منصوب بأضمار فعل أيضا أي ناد أو بلغ أو أعلن وهو كما ترى ولو جعل عليه حالا من الضمير المستتر في الفعل لمكان أولى وكذا لو جعل منادى والكلام نظير قولك إن الأمر كذا يا فلان وقيل أنه على هذا حال من ضمير قم أول السورة وفيه خرم النظم الجليل ولذا قيل هو من بدع التفاسير وقرأ أبي وابن أبي عبلة نذير بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي نذير على ما هو المعول عليه من أنه وصف النار وأما على القول بأنه وصف الله تعالى أو والرسول عليه الصلاة و السلام فهو خبر لمحذوف لا غير أي هو نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق أعني البشر وضمير شاء للموصول أي نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير والتخلف عنه وقال السدي أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر عنها إلى الجنة وقال الزجاج أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات وفسر بعضهم التقدم بالأيمان والتأخر بالكفر وقيل ضمير شاء الله تعالى أي نذيرا لمن شاء الله تعالى منكم تقدمه أو تأخره وجوز أن يكون لمن خبرا مقدما وأن يتقدم أو يتأخر مبتدأ مقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أي السبق إلى الخير أو التأخر إلى التخلف عنه أن يتقدم ويتأخر فيكون كقوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولا يخفى أن اللفظ يحتمله لكنه بعيد جدا كل نفس بما كسبت رهينة مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة مصدر بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة وإلا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء ويستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه قول عبد الرحمن بن زيد وقد قتل أبوه وعرض عليه سبع ديات فأبى أن يأخذها أبعد الذي بالنعف نعف كويكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل أذكر بالبقيا على من أصابني
وبقياي أني جاهد غير مؤتل واختير على رهين مع موازنته لليمين وعدم احتياجه للتأويل لأن المصدر هنا أبلغ فهو أنسب بالمقام فلا يلتفت للمناسبة اللفظية فيه وقيل الهاء في رهينة للمبالغة واختار أبو حيان أنها مما غلب عليه الأسمية كالنطيحة وإن كانت في الأصل فعيلا بمعنى مفعول وهو وجه أيضا وادعى أن التأنيث في البيت على معنى النفس إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وابن كيسان والضحاك ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإنهم فاكون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن وهنه بأداء الدين (29/131)
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنهم أطفال المسلمين وأخرجوه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ونقل بعضهم عن ابن عباس أنهم الملائكة فإنهم غير مرهونين بديون التكاليف كالأطفال وتعقب بأن إطلاق النفس على الملك غير معروف وبأنهم لا يوصفون بالكسب أيضا على أن الظاهر سباقا وسياقا أن يراد طائفة من البشر المكلفين والكثير على تفسيرهم بما سمعت وقيل هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطونكتبهم بأيمانهم ولا تدافع بين هذه الأقوال كما لا يخفى والأستثناء على ما تقدم وكذا هذه الأقوال متصل وأما على قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وما نقل عن ابن عمه فقال أبو حيان هو استثناء منقطع وقيل يجوز الأتصال والأنقطاع بناء على أن الكسب مطلق العمل أو ما هو تكليف فلا تغفل في جنات خبر مبتدأ محذوف والتنوين للتعظيم والجملة استئناف وقوع جواب عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم فقيل هم في جنات لا يكتنه كنهما ولا يدرك وصفها وجوز أن يكون الظرف في موضع الحال من أصحاب اليمين أو من ضميرهم في قوله تعالى يتساءلون قدم للأعتناء مع رعاية الفاصلة وقيل للتساؤل وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضها على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسؤلا معا بل وقوع السؤال منهم مجردا عن وقوعه فأن صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدي ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تشاتم القوم أي شتم كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ويكون الواقع عليه شيئا آخر كما في قولك تراه والهلال قال جار الله إذا كان المتكلم مفردا يقول دعوته وإذا كان جماعة تداعيناه ونظيره رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا التفاعل من الجانبين وعلى هذا فالمسؤل محذوف أعني المجرمين والتقدير يتساءلون المجرمين عنهم أي يسألون المجرمين عن أحوالهم فغير إلى ما في النظم الجليل وقيل يتساءلون عن المجرمين والمعنى على ذلك وحذف المسؤل لكونه غير المسؤل عنه وقوله تعالى : ما سلككم في سقر بيان للتساؤل من غير حاجة إلى إضمار قول أو هو مقدر بقول وقع حالا من فاعل يتساءلون أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلهم في سقر وقيل المسؤل غير المجرمين كجماعة من الملائكة عليهم السلام وما سلككم الخ حكاية قول المسؤلين عنهم أي سأل أصحاب اليمين الملائكة عن حال المجرمين قالوا نحن سألنا المجرمين عن ذلك وقلنا لهم ما سلككم في سقر إلى الآخرة وكان يكفيهم أن يقولوا حالهم كيت وكيت لكن أتى بالجواب مفصلا حسب ما سألوه ليكون أثبت للصدق وأدل على حقيقة الأمر ففي الكلام حذف واختصار وجوز أن تكون صيغة التفاعل على حقيقتها أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين وما سلككم حكاية قول المسؤل عنهم أيضا ولا يخفى ما في اعتبار الحكاية من التكلف فليس ذاك بالوجه وإن كان الأيجاز نهج التنزيل والحذف كثيرا في كلامه تعالى الجليل والظاهر أن السؤال سؤال توبيخ وتحسير وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار ولو كانوا الأطفال فيما أظن لانكشاف الأمر ذلك اليوم وروي عبد الله ابن أحمد وجماعة عن ابن الزبير أنه يقرأ يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم ورويت عن عمر أيضا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ يا أيها الكفار ما سلككم في سقر قالوا أي المجرمون مجيبين للسائلين لم نك من المصلين للصلاة الواجبة ولم نك نطعم المسكين أي نعطيه ما يجب إعطاؤه والمعنى على استمرار النفي الأستمرار واستدل بالآية (29/132)
على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات لأنهم جعلوا عذابهم لترك الصلاة فلو لم يخاطبوا بها لم يؤاخذ وتفصيل المسئلة في الأصول وتعقب هذا الأستدلال بأنه لا خلاف في المؤاخذة في الآخرة على ترك الأعتقاد فيجوز أن يكون المعنى من المعتقدين للصلاة ووجوبها فيكون العذاب على ترك الأعتقاد وأيضا المصلين يجوز أن يكون كناية عن المؤمنين وأيضا من كلام الكفرة فيجوز كذبهم أو خطؤهم فيه وأجيب بأن ذلك عدول عن الظاهر يأباه قوله تعالى ولم نك نطعم الخ والمقصود من حكاية السؤال والجواب والتحذير فلو كان الجواب كذبا أو خطأ لم يكن في ذكره فائدة وكنا نخوض مع الخائضين أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والخوض في الأصل ابتداء الدخول في الماء والمرور فيه واستعماله في الشروع في الباطل من المجاز المرسل أو لستعارة على ما قرروه في المشفر ونحوه وعن بعضهم أنه اسم غالب في الشر وأكثر ما استعمل في القرآن بما يذم الشروع فيه وأريد بالباطل ما لا ينبغي من القول والفعل وعد من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا وحكاية أحوال الفسقة بأقسامهم على وجه الالتذاذ والاستئناس ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم لغير غرض شرعي بل لمجرد أن يتوصل به إلى طعن وتنقيص والتكلم بالكلمة يضحك بها الرجل جلساءه سواء كانت مباحة في نفسها أم لا نعم التكلم بالكلمة المحرمة لذلك باطل على باطل إلى غير ذلك مما لا يحصى وكان ذكر مع الخائضين إشارة إلى عدم اكتراثهم بالباطل ومبالاتهم به فكأنهم قالوا وكنا لا نبالي بباطل وكنا نكذب بيوم الدين أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطقبه قولهم حتى آتينا اليقين أي الموت ومقدماته كما ذهب إليه جل المفسرين وقال ابن عطية اليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقول المفسرين هو الموت متعقب عندي لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فلم يريدوا باليقين إلا الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت انتهى وفيه نظر ثم الظاهر أن مجموع ما ذكروه سبب لدخول مجموعهم النار فلا يضر في ذلك أن من أهل النار من لم يكن وجب عليه إطعام مسكين كفقراء الكفرة المعدمين وفي الكشاف يحتمل الكلام أن يكون دخول كل منهم النار لمجموع الأربعة ويحتمل أن يكون دخول بعضهم لبعضها كأن يكون ذلك لمجرد ترك الصلاة أو ترك الأطعام وفيه دسيسة اعتزال وهو تخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين كتارك الصلاة في النار وأنت تعلم أن الآية في الكفار لا في أعم منهم فما تنفعهم شفاعة الشافعين لو شفعوا لهم جميعا فالكلام على الفرض واشتهر أنه من باب
ولا ترى الضب بها ينحجر
وحمل التعريف على الأستغراق وأنسب بالمقام والفاء في قوله فما لهم عن التذكرة معرضين لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير بغير سبب على ما قبلها من موجبات الأقبال عليه والأتعاظ به من سوء حال المكذبين ومعرضين حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الأستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعن متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلةأي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الأقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الأيمان به وجوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أطلق على كا ذكر مبالغة (29/133)
وقوله تعالى كأنهم حمر مستنفرة حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومستنفرة من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كأن الحمر لشدة العدو وتطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا فرت من قسورة أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب الأسد وبلسان الحبشة قسورة وفي رواية أخرى عنه أنها الرجال الرماة القنص وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله سبحانه كمثل الحمار يحمل أسفارا أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل وقرأ الأعمش حمر بإسكان الميم وقد قرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم مستنفرة بفتح الفاء أي اسنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت كأنهم حمر ماذا فقال مسنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنماهو فرت من قسورة قال أفرت قلت نعم قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى بل يريد كل امريء منهم أن يأتي صحفا منشرة عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قال ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأسكل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار وقبل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلا أن يراد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وإن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعمول عليه ما تقدم وهو مروي عن الحسن وقتادة وابن زيد وقرأ سعيد بن جبير صحفا بإسكان الحاء منشرة بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزله ونزله وفي البحر المحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى ونشره ويقال أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحيي كلا ردععن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات بلا لا يخافون الآخرة فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة تخافون بتاء الخطاب التفاتا كلا ردع لهم عن إعرضهم إنه أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى فما لهم عن التذكرة معرضين وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه (29/134)
بمعنى القرآن أو الذكر تذكرة وأي تذكرة فمن شاء أن يذكره ذكره وحاز بسببه سعادةالدارين والوقف على كلا على ما سمعت في الموضعين وعلى منشرة والآخرة أن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلا وما يذكرون أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فمن شاء ذكره إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه إلا أن يشاء الله استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلا بأن يشاء الله تعالى أو حال أن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز و جل بالذات أو بالواسطة ففيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر وإلجاء وقرأ نافع وسلام ويعقوب تذكرون بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة يذكرون بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر تذكرون بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال هو أهل التقوى حقيق بأن يتقي عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول وأهل المغفرة حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمنبه وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجه وخلق آخرون عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية هو أهل التقوى وأهل المغفرة فقال قد قال ربكم أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول الله تعالى إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إلي ثم يردهما من غير مغفرة قالت الملائكة إلهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى هو أهل التقوى وأهل المغفرة قال اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلا فلا يحسن الدعاء وإن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم
سورة القيامة
ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لتجعل به ولما قال سبحانه وتعالى في آخر المدثر كلا بل لا يخافون الآخرة بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لأنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم بسم الله الرحمن الرحيم لآ أقسم بيوم القيامة إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس لا وأبيك ابنة العامري
لايدعى القوم إني أفر ألا ناديت أمامة باحتمال
لتحزنني فلا بك ما أبالي وقول غوية بن سلمة يرثي وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال الكلام كقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون فهي صلة (29/135)
تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى لئلا يعلم لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في وسط الكلام ووجه إن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعضيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم به أولا ويترقى في هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا يستحق جوابا وإن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به مدفوع وراء ذلك أقوال فقيل إنها لنفي الأقسام لوضوح الأمر وقال الفراء لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل أقسم بيوم القيامة وقدح الأمام فيه بأعادة حرف النفي بعد وقيل أنها ليست لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألأف والأصل لأقسم كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام الأبتداء عند بعض والأصل لأنا أقسم وحذف المبتدأ للعلم به ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في أن ربك ليحكم بينهم والأصل أني لأقسم عند بعض ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإنما هو أغلبني على ما حكي عن سيبويه مع الأعتماد على المعنى عند آخرين وقال الجمهور إنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من الأختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين الأول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض لأنه كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النفي من اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في ذلك فتذكرو الكلام في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة على النمط بيد أنه قيل على قراءة لا أقسم فيما قبل أن المراد هنا النفي على معنى لا أقسم بيوم القيامة لشرفه ولا أقسم بالنفس اللوامة لخستها وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في البحر عن الحسن وقتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول وقال مجاهد هي التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد بالنفس اللوامة جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما روي أنه ص - قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد منه وإن عملت شرا قالت ليتني فصرت وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها وبعثها فيه وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للأعظام بألقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذ بقطع النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من عظيم أمر الله عز و جل وفيه أنه لا يظهر لذكرالوصف حينئذ فائدة والأمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وت4مني أن لم يكن ما وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الإمارة وتحت المطمئنة وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية وقالوا هي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة وعرفوا (29/136)
اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة ومنهممن قالفي اللوامة هي المطمئنة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه وهو ليبعثن وقيل هو أيحسب الخ وقيل بلى قادرين وكلاهما ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الأحتياج إلى جواب لأن نفي الأقسام والمراد بالأنسان الجنس والهمزة لأنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الأمارة المنافي لحق اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحس بذلك بل لعله الأكثون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالأنسان عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول فيهما اللهم أكفني جاري السوء فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة و السلام فقال يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به أو يجمع الله تعالى هذه العظام فنزلت وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول أيزعم محمد أن يجمع الله تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعنيه وذكر العظام وإن المعنى على إعادة الأنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب الخلق وقرأ قتادة تجمع بالتاء الفوقية مبينا للمفعول عظامه بالرفع على النيابة بلى أين جمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا قادرين فقادرين حال من فاعل الفعل المقدر بعد بلى وهو قول سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أيبلى كنا قادرين في البدء أفلا نقدر في الأعادة وهو كما ترى وقيل انتصب لأنه وقع في موضع نقدر إذا التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه مكي وقال أنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت برجل قائم لأنه في موضعي قوم فتأمل وقرأ ابن أبي عبلة وابن السمقيع قادرون أي نحن قادرون على أن نسوي بنانه هي اسم جنس جمع يواحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للأنسان أن يبين بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين والرجلين وفي القاموس البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وأخر ما يتم به خلقه أو على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت بكيف بكبار العظام وما ليس في الأطراف منها وفي الحال المذكورة أعني قادرين على الخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من الأفعال التي لا بد فيها من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا تفاوت بين الأعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي كان بها قوام البدن أو كماله والثاني يدل على تحقيق الجمع التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف إلا بعد عادة عن الإعادة فعلى جمع (29/137)
غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام ويعلم منهما نكتة تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بل نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينهما فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل منفنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي هذا من ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على إعادته وجه تبديل بعض الأجزاء فعلى الأحتذاء بالمثال الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا عن الجمهور لكن قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال أن في الكلام عليه نوعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل ولا يخفى أن في الأتيان بلا أو لا وحذف جواب القسم والأتيان بقوله سبحانه أيحسب ورعاية أسلوب
وثناياك أنها أغريض
في القسم بيوم البعث والمبعوثفيه ثم إيثار لفظ الحسبان والأتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتهجين المعرض على الأستعداد له مات بهر عجائبه ثم الحسن كلالحسن في ضمن حرف الأضراب في قوله سبحانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه وهو عطف على أيحسب جيء للأضراب عن إنكار الحسبان إلى الأخبار عن حالا لأنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه فأنه أشط من ذلك وأنى يرتدع وهو يريد نيدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه أو هو عطف على يحسب منسحبا عليه الأستفهام أو على أيحسب مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة أنكار في إرادته هذه وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان بمجرده إراة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتكلموا فيه لم تقل هذا إلا وأن تمترق في الأنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك وعدم العبء بمكان الأمير وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على ما قرر في الكشف والوجه الول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول إضراب عن الأنكار وأيهام أن الأمر أطعم من ذلك وأطعم وفيهما أيماء إلى أن ذلك الأنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغلب واعتبر الدوام في ليفجر لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أنه حسبانه وإرادته هما عين الفجور وقيل لأن إمامه ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الأستمرار وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه وإن الأنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أمامه على هذا المظهر هو الأظهر وعن ابن عباس ما يقتضي عوده علىيوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قالمجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي في الآية أن الأنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الأضراب وفيه إشارة إلى أن مفعول يريد محذوف دل عليه ليفجر وقال بعضهم هو منزل منزلة اللام ومصدره مقدر بلام الأستغراق أي يوقع جميع إرادته ليفجر وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما فيمثله أن الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالأبتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة الأنسان كائنة ليفجر يسئل سؤ الاستهزاء أيان يوم القيامة أي متى يكونو الجملة قيل حال وقيل تفسير ليفجر وقيل بدل منه واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لأرادة الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد (29/138)
الفجور وطرف من قوله تعالى هيهات لما توعدون أنهي إلا حياتنا الدنيا فإذا برق البصر تحير فزعا من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ومنه قول ذي الرمة ولو أن لقمان الحكيم تعرضت
لعينيه مي سافراكاد يبرق ونظيره قمر الرجل إذا نظر إلى القمر فدهش بصره وكذلك ذهب وبقر للدهش من النظر إلى الذهب والبقر فهو استعارة أو مجاز مرسل لاستعماله في لازمه أو في المطلق وقرأ نافع وزيد بن ثابت وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب وكلاهما عن أبيعمرو وخلق آخرون برق بفتح الراء فقيل هي لغة في برق بالكسر وقيل هو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه وقرأ أبو السمالبلق باللام عوض الراء أي انفتح وانفرج يقال بلق الباب أبلقته وبلقته فتحته هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول بلقه وأبلقه إذا أغلقه وخطأه ثعلب وزعم بعضهم أنه من الأضداد والظاهر أن اللام فيه أصلية وجوز أن تكون بدلا من الراء فهما يتعاقبان في بعض الكلم نحو نتر ونتل ووجر ووجل وخسف القمر ذهب ضوءه وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي ويزيد بن قطيب خسف القمر على أن البناء للمفعول وجمع الشمس والقمر حيث يطلعهما الله تعالى من المغرب على ما روي عن ابن مسعود ولا ينافيه الخسوف إذ ليس المراد مصطلح أهل الهيئة وهو ذهاب نور القمر لتقابل الثيرين وحيلولة الأرض بينهما بل ذهاب نوره لتجل خاص في ذلك اليوم أو لاجتماعه مع الشمس وهو المحاق وجوز أن يكون الخسوف بالمعنى الأصطلاحي ويعتبر في وسط الشهر مثلا ويعتبر الجمع في آخره إذ لا دلالة على اتحاد وقتيهما في النظم الجليل وأنت تعلم أن هذا خسوف يزري بحال أهل الهيئة ولا يكاد يخطر لهم ببال كالجمع المذكور وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء ابن يسار قال يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى وتوسعة البحر أو تصغيرهما مما لا يعجز الله عز و جل وأحوال يوم القيامة على خلاف النمط الطبيعي وحوادثه أمور وراء الطبيعة فلا يقال أين البحر من جرم القمر فضلا عن جرم الشمس الذي هو بالنسبة إليها كالبعوضة بالنسبة إلى الفيل ولا كيف يجمعان ويقذفان وقيل يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس يجمعان في نور الحجب وقيل يجمعان ويقربان فيلحقهم العرق لشدة الحر وقيل جمعا في ذهاب الضوء وروي عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج فالجمع مجاز عن التساوي صفة وفيه بعد إذ كان الظاهر عند إرادة ذلك أن يقال من أول الأمر وخسف الشمس والقمر ولا غبار في نسبة الخسوف إليهما لغة وكذا الكسوف ولم يلحق الفعل علامة التأنيث لتقدمه وكون الشمس مؤنثا مجازيا وفي مثله يجوز الأمران وكان اختيارك ترك الألحاق لرعاية حال القمر المعطوف وقال الكسائي إن التذكير حمل على المعنى والتقدير جمع النوران أو الضياآن وليس بذاك يقول الإنسان يومئذ يوم إذ تقع هذه الأمور أين المفر أي الفرار يأسا منه وجوز أبقاؤه على حقيقة الأستفهام لدهشته وتحيره وقرأ الحسن ريحانة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحسن بن زيد وابن عباس ومجاهد وعكرمة وجماعة كثيرة المفر بفتح الميم وكسر الفاءاسم مكان قياسي من يفر بالكسر أي أينموضع الفرار وجوز أن يكون مصدرا أيضا كالمرجع وقرأ الحسن البصري بكسر الميم وفتح الفاء ونسبتها ابن عطية للزهري أي الجيد الفرار وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ومنه قوله مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل واختلف في هذا اليوم فالأكثرون على أنه يوم القيامة وهو المنصور وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال فإذا برق البصر عند الموت والأحتضار وخسف القمر وجمع الشمس والقمر أي كور يوم القيامة وجوز أن يكون الأخيران (29/139)
عند الموت أيضا ويفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر منه وجمع الشمس والقمر باستتباع الروح حاسة البصر في ذالهاب والتعبير بالشمس عن الروح وبالقمر عن حاسة البصر على نهج الأستعارة فأن نور البصر بسبب الروح كما أن نور القمر بسبب الشمس أو يفسر الخسوف بما سمعت وجمع الشمس والقمر بوصول الأنسانية إلى من كانت تقتبس منه نور العقل وهم الأرواح القدسية المنزهة عن النقائص فالقمر مستعار للروح والشمس لسكان حظيرة القدس والملأ الاعلى لأن الروح تقتبس منهم الأنوار اقتباس القمر من الشمس ووجه الأتصال بما قبل على جعل الكل عند الموت أنه إذ ذاك ينكشف الأمر للأنسان فيعلم على أتم وجه حقيقة ما أخبر به وأنت تعلم أن هذا على علاته أقرب إلى باب الأشارة على منزع الصوفية وإذا فتح هذا الباب فلا حصر فيما ذكر من الاحتمال عند ذوي الألباب كلا ردع عن طلب المفر وتمنيه لا وزر لا ملجأ وأصله الجبل المنيع وقد كان مفرا في الغالب لفرار العرب واشتقاقه من الوزير وهو الثقل ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجأمن جبل أو حصن أو سلاح أورجل أو غير ذلك ومنه قوله لعمرك ما للفتى من وزير
من الموت يدركه والكبر إلى ربك يومئذ المستقر أي إليه جل وعلا وحده استقرار العباد أي لا ملجأ ولا منجي لهم غيره عز و جل أو إلى حكمه تعالى استقرار أمرهم لا يحكم فيه غير سبحانه أو إلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أو نار فمن شاء سبحانه أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار فتقديم الخبر لأفادة الأختصاص واختلف وجهه حسب اختلاف المراد بمستقر وكلا لا وزر يحتمل أن يكون من كلامه تعالى يقال للقائل أين المفر يوم يقوله أو هو مقول اليوم على معنى ليرتدع عن طلب الفرار وتمنيه ذلك اليوم ويحتمل أن يكون من تمام قول الأنسان كأنه بعد أن يقول أين المفر يعود على نفسه فيستدرك ويقول كلا لا وزر وأيا ما كان فالظاهر أن قوله تعالى إلى ربك يومئذ المستقر استئناف كالتعليل للجملة قبله أو تحقيق وكشف لحقيقة الحال والخطاب فيه لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يحسن أن يكون من جملة ما يخاطب به القائل ذلك اليوم ولا مما يقوله لنفسه فيه لمكان يومئذ وفي البحر الظاهر أن قوله تعالى كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر من تمام قول الأنسان وقيل هو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الأنسان انتهى وفيه بحث وجوز أن تكون كلا بمعنى ألاالأستفتاحية أو بمعنى حقا فتأمل ولا تغفل ينبؤ الإنسان أي يخبر يومئذ وذلك على ما عليه الأكثر عند وزن الأعمال بما قدم أي بما عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب على الثاني وأخر أي ترك ولم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر ما سنه من حينة أو سيئة يعمل بها بعده أخرج ذلك ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن ابن مسعود وهو رواية عن ابن عباس وقال زيد بن أسلم بما قدم من ماله لنفسه فتصدق به في حياته وبما أخر منه للوارث وزيد أو وقفه أوأوصى به وقالمجاهد والنخعي بأول عمله وآخره وأخرج ابن جرير عن ابن عباس بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة وأخرج نحوه عن قتادة وعبد بن حميد نحوه أيضا عنعكرمة وعليه فالظاهر أنه عني بالأنسان الفاجر وفصل هذه الجملة عما قبلها لاستقلال كل منها ومنقوله تعالى يقول الخ في الكشف عن شدة الأمر أو عن سوء حالالأنسان بل الإنسان على نفسه بصيرة أي حجة بينة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال السيئة كما يؤذن به كلمة علي والجملة الحالية بعد فالأنسان مبتدأ وعلى نفسه متعلق ببصيرة بتقدير أعمال أو المعنى عليه من غير تقدير وبصيرة خبر وهي مجاز (29/140)
عن الحجة البينة الواضحة أو بمعنى بينة وهي صفة لحجة هي الخبر وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها بصير بها فالأسناد مجازي أو هي بمعنى دالة مجاز او جوز أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية والتأنيث للمبالغة أو لتأنيث الموصوف أعني حجة وقيل ذلك لأرادةالجوارح أي جوارحه على نفسه بصيرة أي شاهدة ونسب إلى القتبي وجوز أن يكون التقدير عين بصيرة وإليه ذهب الفراء وأنشد : كأن على ذي العقل عينا بصيرة
بمجلسه أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهم
من الخوف لا يخفي عليهم سرائره وعليه قيل الأنسان مبتدأ أول وبصيرة بتقدير عين بصيرة مبتدأ ثان وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول واختار أبو حيان أن تكون بصيرة فاعلا بالجار والمجرور وهو الخبر عن الأنسان وعمل بالفاعل لاعتماده على ذلك وأمرالتأنيث ظاهر وبل للترقي على الوجهين إرادة حجة بصيرة وإرادة عين بصيرة والمعنى عليهما ينبئو الأنسان بأعماله بل فيه ما يجزي عن الأنباء لأنه عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه بما عملت لأن جوارحه تنطق بذلك يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وفي كلا الوجهين كما قيل شائبة التجريد وهي في الثاني أظهر وقوله تعالى ولو ألقى معاذيره أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من المستكن في بصيرة أو من مرفوع ينبؤ أي هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو أتى بكل عذر في الذب عنها ففيه تنبيه على أن الذب لا رواج له أو ينبؤ بأعماله ويجازي ويعاقب لا محالة ولو أتى بكل عذر فهو تأكيد لما يفهم من مجموع قوله تعالى ينبؤ الأنسان الخ والمعاذير جمع معذرة العذر على خلاف القياس والقي اسمعا ذر بغير ياه وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع كعادته في إطلاق ذلك على المجموع المخالفة للقياس وإلا فهو ليسمن أبنية اسم الجمع وقال صاحب الفرائد يمكن أن يقال الأصل فيه معاذر فحصلت الياء من إشباع الكسرة وهو كما ترى أو جمع معذار على القياس وهو بمعنى العذر وتعقب بأنه بهذا المعنى لم يسمع من الثقات نعم قال السدي والضحاك المعاذير الستور بلغة اليمن واحدها معذار وحكى ذلك عن الزجاج أي ولو أرخى ستوره والمعنى أن احتجابه في الدنيا واستتاره لا يعني عنه شيئا لأن عليه من نفسه بصيرة وفيه تلويح إلى معنى قوله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم الآية وقيل البصيرة عليه الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر فالمعنى بل الأنسان عليه كاتبان يكتبان أعماله ولو ذتستر بالستور ولا يكون في الكلام على هذا شائبة تجريد كماتقدم والإلقاء على إرادة الستور ظاهر وأما على إرادة الأعذار فقيل شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للأستقاء به فيكون فيه تشبيه ما يراد بذلك بالماء المروي للعطش ويشير إلى هذا قول السدي في ذلك ولو أدلى بحجة وعذر وقيل المعنى ولو رمى بأعذاره وطرحها واستسلم وقيل ولوأحال بعضهم على بعض كما يقول بعضهم لبعض لو لا أنتم لكنا مؤمنين ولو على جميع هذه الأقوال إما أن يكون معنى الشرطية منسلخا عنها كما قيل فلا جواب لها إن يكون باقيا فيها فالجواب محذوف يدل عليه ما قبلواستظهر الخفاجي الأول وفي الآية على بعض وجوهها دليل كما قال ابن العربي على قبول إقرار المرء على نفسه وعدم قبول الرجوع عنه والله تعالى أعلم أخرج الأمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وعبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معافي الدلائل وجماعة عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وضفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى لا ترك به لسانك الخ فكانر صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق وفي (29/141)
لفظ استمع فإذا ذهب قرأه كما وعد الله عز و جل فالخطاب في قوله تعالى لا تحرك به لسانك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير للقرآن لدلالة سياق الآية نحو إناأنزلناه في ليلة القدر أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي من قبل أن يقضي إليك وحيه لتعجل به أي لتأخذه على عجلة مخافة أي ينفلت منك على ما يقتضيه كلام الحبر وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أداء الرسالة وروي عن الشعبي ولا ينافي ما ذكر والباء عليهما للتعدية إن علينا جمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وقرآنه أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن هنا وكذا فيما بعد مصدرك الرجحان بمعنى القراءة كما في قوله ضحوا باشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا مضاف إلى المفعول وثم مضاف مقدر وقيل قرآنه أي تأليفه والمعنى إن علينا جمعه أي حفظه في حياتك وتأليفه على لسانك وقيل قرآنه تأليفه وجمعه على أنه مصدر قرأت أي جمعت ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد ما قرأت سلي قط وقول عمرو بن كلثوم ذراعي بكرة أدماء بكر
هجان اللون لمتقرأ جنينا ويراد من جمعه الأول جمعه في نفسه ووجوه الخارجي ومن قرآنه بهذا المعنى جمعه في ذهنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكلا القولين لا يخفى حالهما وإن نسب الأول إلى مجاهد فإذا قرأناه أن أتم منا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنافا فالأسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نونالعظمة مبالغة في إيجاب التأتي فاتبع قرآنه فكن مقفيا له لا مباريا وقيل أي فإذا قرأناه فاتبع بذهنك وفكر كقرآنه فاستمع وأنصت وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس وعنه أيضا وعن قتادة والضحاك أي فاتبع في الأمر والنواهي قرآنه وقيل اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك ثم إن علينا بيانه أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه على ما قيل واستدل به القاضي أبو الطيب ومن تابعه على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لمكان ثم وتعقب بأنه يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل وقد صح من رواية الشيخين وجماعة عن الخبر أنه قال في ذلك ثم إن علينا أننبينه بلسانك في لفظ علينا أن تقرأه ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع القرآن والمجمل بعضه كلا إرشاد لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ به عن عادةالعجلة وترغيب له عليه الصلاة و السلام في الأناة وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه قوله تعالى بلتحبون العاجلة وتذرون الآخرة تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لماخلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذاتحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الأستعجال ومحبة العاجلة وفيه أيضا أن الأنسان وإن كان مجبولا على ذلك إلا أن مثله عليه الصلاة و السلام منه و في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا انتهى ص - عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ودينهم حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منلا ينجع فيهم النهي فإنما يعابت الأديم ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه بل يريد الأنسان ليفجر أمامه فإنه ملوح إلى معنى بل تحبون الخ وقوله عز و جل لا تحرك الخ متوسط بين حبي العاجلة حبها الذي تضمنه بل يريد تلويحا وحبها الذي آذن به بل تحبون تصريحا لحسن التخلص منه إلى المفاجأة والتصريح ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج وإن كان يحصل لو (29/142)
لم يؤت بقوله سبحانه لا تحرك الخ في البين أيضا إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد يؤدي مؤدى الأعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الأعتراض وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري يحبون ويذرون بباءالغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم وهي أبلغ من حيث أن فيها التفاتا وأخراجا له عليه الصلاة و السلام منصريح الخطاب بحب العاجلة مضمنا طرفا من التوبيخ على سبيل الرمز لطفا منه تعالى شأنه في شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وأما القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والألتفات وهو عكس الأول هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرمذة من قدماء الرافضة أنه لا وجه لوقوع لا تحرك به لسانك الخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه وجعلوا ذلك دليلا لما زعموه من أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع كلام كثير منه ما تقدم وللأمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما ليس كذلك بالمرة وقال الطيب بأن قوله تعالى كلا بل تحبون العاجلة متصل بقوله تعالى ولو ألقى معاذيره أي يقال للأنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والأعراض عن الآخرة وكان من عادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة وقد أنفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى ولو ألقى معاذيره أوحي إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة و السلام ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الأستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى كلا بل تحبون الخمثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درسا أو يلقن إليه فصلا ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطر بيقول له لا تعجل ولا تضطرب فإني إذ فرغت أن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتا فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى فما في البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحي به وخصه بعضهم لهذا بالأستطراد وأطلق آخر عليه الأعتراض بالمعنى اللغوي وهذا عندي بعيد لميتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته علىالفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها
وبضدها تتبين الأشياء
انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن لا تحرك الخ وقع في البين وقال القفال قوله تعالى لا تحرك الخ خطاب للأنسان المذكور في قوله تعالى ينبؤ الأنسان وذلك حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا فإذا أخذ فيالقراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالأقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه ثم إن علينا بيانه أي بيان أمره وشرح عقوبته والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى فضمير به وكذاالضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى ينبؤ الأنسان بما قدم وأخر وكذا قوله تعالى بل (29/143)
الأنسان على نفسه بصيرة على قول من تفسر البصيرة بالكتابين ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مرفوع ينبؤ بتقدير القول كأنه قيل ينبؤ الأنسان يومئذ عند أخذ كتابه بما قدم وأخر مقولا له لا تحرك به لسانك الخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له ص - والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة و السلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية وقال الإمام لعل ذلك الأستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة و السلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالأذن الأذن الصريح المخصوص وفيه بعدما وعن الضحاك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تحرك به الخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم أنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو أنه يكون الخطاب في لا تحرك الخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير به ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامهما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا تحرك به أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتموجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إن علينا جمعه ما يكون فيه من الجمع وقرآنه ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن فإذا قرأناه ما يتعلق به فاتبع قرآنه بالعمل بما يقتضيه من الأستعداد له ثم إن علينا بيانه إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى وحاصله لا نسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فأذا سأل تفقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى وفيه ما فيه وما كنت أذكره لو لا هذا التنبيه واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولي جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز و جل ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يصير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وجوه يومئذ ناضرة أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وجوه مبتدأ وناظرة خبره ويومئذ منصوب بناظرة وناظرة في قوله تعالى إلى ربها ناظرة خبر ثان للمبتدأ أو نعت لناضرة وإلى ربها متعلق بناظرة وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل كما في قوله فيوم لنا ويوم علينا
ويوم نساء ويوم نسر لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضرة صفة لها والخبر ناظرة كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة الأتتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال أبو حيان هو قول سائغ ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز و جل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام (29/144)
في جميع تجلياته واعترض بأن تقديم المعمول يعني إلى ربها يفيد الأختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى وحيث كان الأختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للأختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والأهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لا لتفات ما سواه جل جلاله فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم وفي حديث جار الله وقد رواه ابن ماجه فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ومن هنا قيل فينسون النعيم إذا رأوه
فيا خسران أهل الأعتزال وكثيرا ما يحصل محو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع المون فلما استبان الصبح أدرج ضوءه
بأسفاره أنوار ضوء الكواكب وقيل الكلام على حذف مضاف أي ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الأنتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الأنتظار لالا يتعدى بإلى بل بنفسه لا بسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأتي إرادة الذات من الوجه وتفصي الشريف المرتضي في الدرر على بعض هذا بأن إلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به لناظره بمعنى منتظرة فيكون الأنتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الأنتظار ليتعقب عليه بما تعقب بل أراد أن النظر بالمعنى النتعارف كناية عن التوقع والرجاء فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه سبحانه وتعالى ويرد عليه أنه يرجع إلى إرادة الأنتظار لكن كناية والأنتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الأنتظار موت أحمر و الذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدار قطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أدنى أهل الجنة منزلة لم ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فهو تفسير منه عليه الصلاة و السلام ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي ص - أقرأه وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فقال والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطمعون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز و جل وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز و جل وأنشدوا (29/145)
وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت
وأن حجابا دونها يمنع اللثما فلاحت فلا والله ما ثم حاجب
سوى أنطرفي كان عن حسنها أعمى ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلا إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب الكلام وكذا أدلة القوم على الصحة وكأني بك بعد الأحاطة وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعشعاني الذي لا يطاق وقرأ زيد بن علي وجوه يومئذ نضرة بغير ألف ووجوه يومئذ باسرة أي شديدة العبوس وباسل أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته فعدل عنه لإيهامه غيرالمراد وعني بهذه الوجوه وجوه الكفرة تظن أن يفعل بها فاقرة أي داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل نظن ضمير الوجوه بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعها إليها على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد والظن قيل أريد به اليقين واختاره الطيبي وإن المصدرية لا نقع بعد فعل التحقيق الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء بفعل الظن ههنا دلالة على أن ما هم فيه وأن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه مما إذاكان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الأتيان يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنه موصلوا إلى ما لا مطلوب وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له أسبغ الله علينا برؤيته فضله كلا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي تنقطع عنده مابينكم وبين العاجلة من العلامة إذا بلغت أي النفس أو الروح الدالعلى سياق الكلام كما في قول حاتم أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى
إذا حشر جت يوما وضاق بها الصدر ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس التراقي أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة ورب عظيمة رافعت عنهم
وقد بلغت نفوسهم التراقي وقيل من راق أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطبب القول أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قربة وقتادة ما هو ظاهر فيه والأستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا الذي يقدر أني رقى هذا المشرف على الموت وروى (29/146)
ذلك عن عكرمة وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذاعن ابن عباس أيضا وسليمانالتيميوالأستفهام عليه حقيقي وتعقب بأناعتبار ملائكةالرحمة يناسبقولهتعالىفلا صدقالخ ودفع بأن الضمير للأنسان والمراد به الجنس والأقتصار بعد ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافيالعمومفيما قبل ووقف حفص رواية عن عاصم على من وابتدأ راق وأدغم الجمهور قال أبو عليلا أدري ما وجهقراءته وكذلك قرأبلران وقال بعضهمكأنه قصد أن لا يتوهم أنهاكلمة واحدةفسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهماكلمتان وإلا فكان ينبغي أن يدغم في منراقفقد قال سيبويه إن النون تدغمفي الراء وذلكنحومن راشد والإدغامبغتةغنةولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعلالإظهاررأيكوفيفعاص شيخ حفص يذكر أنه كانعالما بالنو وأمابل ران فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهاراللاموإدغامها مع الراءحسنان فلعل حفصالما أفرط في إظهارالإظهار فيهصار كالوقف القليل واستدلبقولهتعالىإذا بلغت التراقي على أن النفسجسم لا جوهرمجرد إذ لا يتصفبالحركة والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفسالمسند إليها بلوغالتراقي هيالنفسالحيوانية لا الروحالأمريةوهي الجوهر المجرد دون الحيوانية وآخر بأنالمراد ببلوغها التراقي قربانقطاع التعلق وهويتصف بهالمجرد إذ لا يستدعيحركةولا تحيزاولا نحوهما مما يستحيل عليه وزعم أنهلا يمكنإرادة الحقيقة ولو كانت النفس جسماضرورة أنبلوغها التراقي لا يتحقق إلا بعد مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولايقال من راق كما هو ظاهرعلى الوجهالأولفيه ولايتأنىأيضاما يذكر بعد علىما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليهجمهورالأمة سلفا وخلفا إن النفسوهي الروح الأمرية جسم لطيف جداألطفمن الضوء عند القائلبجسميته والنفسالحيوانية مركب لهاوهي سارية في البدن نحو سريان ماءالورد في الورد والنار فيالفحم وسريانالسيال الكهربائيعند القائلبه في الأجسام والأدلةعلى جسميتهاكثيرة وقد استوفاهاالشيخ ابن القيمفي كتابالروحوأتى فيهبالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغالتراقي مشارقةالموتوقربخروجال البدن سلمتالضرورة التي في كلامذلكالزاعمأم لم تسلملقوله تعالى وقيلمن راق وظن أنه الفراق أي وظن الأنسان المحتضر أن ما نزل به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمهاوقيل فراق الروح الجسد والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقينقال الأمام ولعلهإنماسمي اليقين ههنا بالظن لأنالأنسان ما دامتروحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤهعنها فلا يحصل له يقين الموتبل الظن الغالبمع رجاء الحياة أو لعله سماهبالظنعلى سبيل التهكم والتفتالساقبالساق أيالتفت ساقه بساقه والتوتعليها عند هلع الموتوقلبه كماروي عن الشعبيوقتادة وأبي مالكوقال الحسن وابن المسيبهما ساقا الميت عندما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما يراد فيهما يعنيموتهماوقيليبسهما بالموت وعدم تحرك أحدهما عن الأخرى حتى كأنهما ملتفان فهماأولما يخرج الروح منه فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقيوأل فيها عهدية أو عوض عن المضاف إليه وقالابن عباسوالربيع ابن أنس وإسماعيلبن أبيخالد وهو رواية عن الحسن أيضا التفتشدة فراقالدنيابشدةإقبال الآخرةواختلطتا ونحوه قول عطاء اجتمع عليه شدة مفارقة المألوفمنالوطن والأهلوالولد والصديقوشدةالقدومعلىر شأنهلا يدريبماذا يقدم عليه فالساق عبارة عن الشدةوهومثل في ذلك والتعريفللعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جريرعن الضحاك التفت أسوق حاضريه مع الإنس والملائكة هؤلاء يجهزون (29/147)
بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء فكأنهم للأختلاف في الذهاب والأياب والتردد في الأعمال قد التفت أسوقهم وهذاالألتفافعلى حد اشتباك الأسنة إلى ربكيومئذ المساق أي إلى اللهتعالىوحكمه سوقهلا إلى غيره على أن المساق مصدرميمي كالمقالوتقديمالخبر للحصر والكلام على تقدير مضاف هو حكموقيل هوموعد والمراد به الجنة والناروقيل هناك مضافمقدر على أن الرب جل شأنههو السائقأي سوق هؤلاء مفوضإلى ربكلا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن كان هذا في شأنالفاجرأو فيمايعمه والبر يراد بالسوق السوق المناسبللمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمنحسن ظنه بربه وعلم أنهالربالذيسبقت رحمته على غضبه قالواغدا نأتي ديار الحمى
وينزلالركببمغناهم فقلت لي ذنبفماحيلتي
بأي وجهأتلقاهم قالواأليسالعفو من شأنهم
لا سيماعمنترجاهم ثم إن الجواب إذ محذوفدل عليه ما ذكر أي كان ماكان أو انكشف للمرء حقيقة الأمر أو وجد الأنسانما عملهمن خير أو شر فلا صدق أيما يجبتصديقهمن اللهDوالرسولصص والقرآنالذي أنزل عليه ولا صلى ما فرض عليه أي لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كمافي قوله أنتغفر اللهمتغفر جما
وأيعبد لك لا ألما والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أيحسب الإنسان والجملة عطف على قوله سبحانه يسأل أيانيوم القيامة على ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت منأن السؤالاستهزاءواستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهمفروعه وهو الصلاة ثم أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى ولكن كذبوتولى نفيالتوهمالسكو أو الشك أي ومع ذلك أظهرالجحود والتوليعن الطاعة ثم ذهب إلى أهله يتمطى يتبختر افتخارا بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله تعالىبهفيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للأستبعاد ويتمطىمن المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكونأصله يتمطط قلبت الطاءفيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظنيمن الظن وأصله تظننأو منالمطا وهوالظهرفإن المتبختريلويمطاه تبخترا فيكونمعتلابحسبالأصلو الحديث إذامشتأمتي المطيطاء وخدمتهمفارسوالروم فقد جعل بأسهمبأنهموسلط شرارهمعلى خيارهم وجعل الطيبيعطفهذه الجملة للتعجب على معنى يسأل أيان يوم القيامةوما استعد له إلا يوجب دماره وهلاكه وقال إن قوله تعالى فإذابرق البصر الخ جواب عن السؤال أقحمبين المعطوف والمعطوف عليه لشدةالأهتمام وإن قوله سبحانه لا تحركالخ استطراد على ما سمعت وجعل صدق من التصديق هو المروي عن قتادة وقالقوم هو من التصديقفلا صدقماله ولا زكاه قال أبو حيان وهذاالذييظهر نفي عنهالزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب كمافي قوله تعالى قالوالم نكمن المصلين ولمنك نطعم المسكين وكنانخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين وحمله على نفي التصديقيقتضيأنيكون ولكن كذب تكرارا ولزمأن يكوناستدراكا بعدولا صلى لا بعد فلا صدق لأنهمامتوافقانوفيه نظر يعلم مماقررناه ثم أنهاستبعد العطفعلى قولهتعالىيسأل الخ وذكر أن الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرحبه في قوله تعالى يتمطىفإنهاكانتم قومه بني مخزوم وكان (29/148)
يكثر منها ولم يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبى حديثالنزول في أبيجهل وقد قيل أنقولهتعالى أيحسب الإنسان أنلننجمع عظامه مازلفيه أيضاوالحكمعلى الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفرادهفي حكم منها نعم لا شك في بعد هذاالعطف لفظا لكنفي بعده معنىمقالولعل فيمابعد ما يقويجانبالعطفعلى ذلك أولى لك فأولى من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيلفي الأصل غلب فيقربالهلاكودعاءالس كأنه قيل هلاكاأولى لك بمعنىأهلكك الله تعالى هلاكاأقربلك من كلشروهلاكوهذ وسحقافي الهلاك وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أينزلبه وأنشد فعادىبينهاديتينمنها
وأولىأننزيد على الثلاث أيقاربثمقالقال ثعلبولم يقل أحد في أوليأحسن مما قاله الأصمعيوعلى هذاأولى فعل مستتر فيهضميرالهلاكبقرينةال واللاممزيدةعلى ماقيل وقيلهوفعلماضدعائي منالولي أيضا إلا أن الفاعلضميره تعالىواللام مزيدة أي أولاك الله تعالى ما تكرهه أوغير مزيدةأي أدنىالله تعالى الهلاكلك وهوقريبمما ذكر عن الأصمعي وعن أبيعلي إن أولى لك علم للويل مبني على زنة أفعلمن لفظالويلعلى القلبوأصله أويل وهو غيرمنصرف للعلميةوالوزن فهو مبتدأ ولك خبرهوفيه أنالويل غير منصرف فيه ومثل يوم أيوممع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة وإن القلب على الأختلاف الأصل لا يرتكبإلا بدليلوإن علم الجنس شيء خارج عن القياسمشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه وقيل اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر واختار جمع أنه أفعل تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فأولى ثم لولى لك فأولى تكرير للتأكيد وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر والظاهر أن الجملة تذييل للدعاء لا محل لها من الأعراب وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثم ذهب إلى أهله يتمطى مقولا له أولى لك الخ ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير وابم المنذر وغيرهم عن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس عن قول الله تعالى أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به قال بل قال من قبل نفسه ثم أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فلا صدق ولا صلى الخ على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي صيعتها ولم أعتن بها قال الشاعر فأقسم بالله جهد اليمين
ما خلق الله شيئا سدى ونصب سدى على الحال من ضمير يترك وإن يترك في موضع المفعولين ليحسن والأستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث أن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى ألم يك نطفة من مني يمنى الخ استئناف وارد لإبطال المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق وقرأ الحسن ألم تك بباء الخطاب على سبيل الألتفات وقرأ الأكثر تمنى بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء هي قراءة حفص وأبي (29/149)
عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثم كان علقة أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلق أي فقدر الله عز و جل بأن جعلها سبحانه مخلقة فسوى فعدل وكمل فجعل منه أي من الإنسان وقيل من المني الزوجين أي الصنفين الذكر والأنثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحرث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أليس ذلك العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بقادر أي قادرا وقرأ زيد يقدر مضارعا على أن يحيي الموتى وهو أهون من البدء في قياس العقل وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان على أن يحيى بسكون الياء وأنتتعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم يحيى بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحييي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا وبالجملة القراءة شاذة وجاء في عدة أخبار أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال سبحانك اللهم وبلى وفي بعضها سبحانك فبلى وأخرج أحمد وأبود داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله
سورة الإنسان
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلا قوله تعالى فاصبر لحكم ربك إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا أصله على ما قيل أهل على أن الإستفهام للتقرير أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهل بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هل مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل سائل فوارس يربوع بشدتنا
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم وقيل هي للأستفهام ولا تقريب وجمعها من الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله
ولا للملبهم أبداد واء
بل التأكيد هنا أقرب لعدم الأتحاد لفظا على أن السيرافي قال الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغنى الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالقاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من (29/150)
النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء على معنى التقريب ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للأستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد منفسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر إلا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغنى ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالأنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدهر الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدةالعالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي ونوقف الأمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الأيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال والله لا أكلمه دهراوالمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إنلم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوي الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة و السلام مستدلا كل بدليل وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الرفع إليه أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئا مذكورا بل كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معلوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لميكن الخ حال من الأنسان أيغير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا وإطلاق الإنسان على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالأنسان آدم عليه السلام وأيد بقوله تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة فإن الإنسان فيه معرفة مادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فأتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا لا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص نعم دل قوله سبحانه من نطفة على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح وحكي الماوردي عنه أن الحين المذكور ههنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر أنه قال إن من الحين حين الا يدرك وتلا الآية فقال والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للأستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالأجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الأعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني فجعل نفسه كنزا لا يكون إلا مكتنزا في شيئ فلم يكن كنز الحق نفسه لا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كأن الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان ثوب الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجود وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وكل شيء أحصيناه في إمام مبين والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنا نقول كون هل هنا للأنكار منكر وإن دعوى صحة ذلك لأحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الأيجابي أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فقال ليتها تمت وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أمشاج جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج يقال مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى أختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته وفي بعض الآثار إنما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكى عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومضى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان وقيل اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرا كما يخضر الماء بالمكث وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال الأمشاج العروق التي في النطفة وروي ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق وروي عكرمة وكذاابن عباس أنه قال أمشاج أطوار أي ذات أطوار فإنه النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى نبتليه حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الإستعارة لأن المنقول يظهر في كل طور ظهورا آخر كظهور نتيجة الأبتلاء والأمتحان بعده وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل أن الإبتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سميعا لأقبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فجعلناه سميعا بصيرا وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا (29/151)
لنبتليه وحكى ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول وهذا الجعل كالمسبب عن الأبتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى إنا هديناه السبيل لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الآفاقية والأنفسية وهو إنما يكون بعد التكليف والأبتلاء إما شاكرا وإما كفورا حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والقات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالأهتداء للحق وطريقة بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عن هو حاصله دللناه على الهداية والأسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل يوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا تلقحها إما شمال عرية
وإما صبا جنح العشي هبوب وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى أما شاكرا فبتوفيقنا وأما كفورا فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز من هلل ولا عليه أن يجعله من باب يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا كأنه قيل أما شاكرا فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على ما فسر به الهداية وأما كفورا فبها أيضا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية ههنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذفما لا دليل عليه وجوز الأنتصاف أن يكون أما شاكرا فمثاب وأما كفورا فمعاقب وأيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والأشعار بأن الأنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط إنا أعتدنا هيأنا للكافرين من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل سلاسل بها يقادون وأغلالا بها يقيدون وسعيرا بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم الآية ولأن الأذار أنسب بالمقام وحقيق بالأهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل بتجارب والكسائي وأبو بكر والأعمش سلاسلا بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة وقفا وقال الزمخشري وفيه وجهان أحدهما أن تكون هذه النون بدلا عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء الوصل مجرى الوقف وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الأزدواج والمشاكلة فقد جوز والذلك صرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحب يوسف ونواكسي الأبصار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقا كما قيل والصرف في الجمع أتى كثيرا
حتى ادعى قوم به التخييرا (29/153)
وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وصرف سلاسلا ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبي وعبد الله بن مسعود وروي هشام عن ابن عامر سلاسل في الوصل وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف إن الأبرار شروع في بيان حسن حال الشاكرين أثر بيان سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للأشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والأبرار جمع بر كرب وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلا يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في عل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن هو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضى الشر يشربون في الآخرة من كأس هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسا وقال الراغب الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا والمشهور أنها تطلق على حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازا على المجاورة والمراد بها ههنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر فمن ابتدائية وقوله تعالى كان مزاجها كافورا أظهر ملائمة للأول والظاهر أن هذا على منوال كان الله عليما حكيما والمجيء بالفعل للتحقيق والدوام وقيل تامة من قوله تعالى كن فيكون والمزاج ما يمزج به كالحزام ما يحزم به فهو اسم آلة وكافور على ما قال الكلب يعلم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة كأس وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل وقرأ عبد الله قافورا بالقاف بدل الكاف وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عرب يقح وكح وقوله تعالى عينا بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته فالكافور بمعناه المعروف وقيل إن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجا مجاز في الإنصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كأس على تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الأختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير مزاجها وقيل من كأس وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعن يقوله تعالى يشرب بها عباد الله على تقدير مضاف أيضا أي يشربون ماء عين يشرب بها الخوت عقب بأن الجملة صفة عينا فلا يعمل فعلها بها ومالا يعمل لا يفسر عاملا وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب على نحو رجلا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا الوجه والباء للألصاق وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عباد الله وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا جعل كافور علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب
يجري في عراقيها نصلي
لأفادة المبالغة وقيل الباء للتعدية وضمن يشرب معنى يروي فعدي بها وقيل هي بمعنى من وقيل هي رائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي شربن بماء البحر ثم ترفعت
متى لحج خضر لهن نئيج ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة يشربها وقيل ضمير بها للكأس والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عينا مفعولا ليشرب مهديا عليه وعباد الله المؤمنون أهلا لجنة يفجرونها تفجيرا صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث شاؤا من منازلهم إجراء سهلا لا يمتنع عليهم على (29/154)
أن التنكير للتنويع أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب أنه قال معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يفون بالنذر استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبيء عنه اسم الأبرار إجمالا قيل ماذا يفعلون حتى ينالوا المرتبة العالية فقيل يوفون الخ وأفيد أنه استئناف للبي ومع ذلك عدل على أوفوا إلى المضارع للأستحضار والدلالة على الأستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النصف إن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روي عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر فإلا أي إذا نذروا طاعة فعلوها ويخافون يوما كان شره عذابه مستطيرا فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الأنتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى وللطلب أيضا دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي ويطعمون الطعام على على حبه أي كائنين على حب الطعام أيمع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى لنتنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وروي عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز و جل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني فعلى حبه من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى لوجه الله بعد غنية عن قوله سبحانه لوجه الله وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضا ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمساواة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع مسكينا ويتيما وأسيرا قيل أي أسير كان فعن الحسن أنه كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه وقال قتادة كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال لما صدر النبي صلى الله عليه و سلم بالأسارى من بدر أنفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر فقالت الأنصار قتلناهم في الله وفي رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة فأنزل الله تعالى فيهم تسع عشرة آية إن الأبرار يشربون إلى قوله تعالى عينا فيها تسمى سلسبيلا ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث وقال ابن العراقي لم أقف عليه والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدينة هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وقال ابن جبير وعطاء هو الأسير من أهل القبلة قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار (29/155)
رهينة وخرج لطلب الفداء وروي محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على إطعام أهل الحبوس المسلمين حسن وقد يقال لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا مجاز لمنعه عن الخروج وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل باعتب كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعدم الغريم أسيرا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك وهو على التشبيه البليغ إلا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني هي الزوجة وضعه ههنا ظاهر إنما نطعمكم لوجه الله على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل يطعمون أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فائني سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقي لها ثواب الصدقة خالصا عند الله عز و جل وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه لا نريد منكم جزاء بالأفعال ولا شكورا ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأك لما قبله إنا نخاف من ربنا يوما أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عبوسا تعبس الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الأستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ما قيل أنه من التشبيه البليغ قمطريرا شديد العبوس ويقال شديدا صعبا التف شره بعضه ببعض وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة وأصطليت الحروب في كل يوم
باسل الشر قمطرير الصباح بني عمنا هل تذكرون بلائنا
عليكم إذا ما كان يوم قماطر وقول آخر وإلى الأول ذهب الزجاج فقال القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه ويقال اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنها وجمعت قطريها أيجانبيها كأنها تفعل ذلك إذ الحقت كبرا وقيل لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالأشتقاق الكبير والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقا كذلك من القمط ويقال إذا شده وجمع أطرافه وفي البحر يقال اقمطر فهو مقمطر وقمطرير وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذاالوزن وأكثر النحاة لا يثبتون أفمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما نفعل لأنا نخاف يوما صفته كيت وكيت فنحن نرجو بذلك أن يقينا ربنا جل وعلا شره وأن تكون علة إرادة الجزاء والشكور أي لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالىعلى طلب المكافاة بالصدفة وإلى الوجهين أشار في الكشاف وقال في الكشف الثاني أوجه ليبقى قوله لوجه الله خالصا غير مشرب بحظ النفس من جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على المعنى إنما خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم الإخلاص لكان وجها فوقاهم الله شر ذلك اليوم بسبب خوفهم وتحفظهم عنه وقرأ أبو (29/156)
جعفر فوقاهم بشد القاف وهو أوفق بقوله تعالى ولقاهم نضرة وسرورا أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب وجزاهم بما صبروا بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال مأكلا وملبسا جنة بستانا عظيما يأكلون منه ما شاؤا وحريرا يلبسونه ويتزينون به ومن رواية عطاءعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه يا أبا الحسن لو نذرت علي ولديك فنذر علي وفاطمة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا فألبس الله تعالى الغلامين ثوب العافي وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون اليهودي الخبيري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف بالباب سائل فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئا إلا الماء وأصبحوا صياما ثم قامت رضي الله تعالى عنها إلى صاع آخر فطحنت وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله عليه و سلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه و سلم يتيم من أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح وأصبحوا صياما فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزت وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أسير محمد عليه الصلاة و السلام أطعموني أطعمكم الله فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء القراح فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق إلى فاطمة رضي الله عنها فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلى الله تعالى عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال خذها يا محمد هناك الله تعالى في أهل بيتك قال وما آخذ يا جبريل فأقرأه هل أتى على الإنسان السورة وفي رواية ابن مهران فوثب حتى دخل على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية إن الأبرار يشربون إلى آخره وفي رواية عن عطاء إن الشعير كان عن أجرة سقي نخل وإنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه ويطعمون الخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت الرسول صلى الله تعالى عليه وعليهما وسلم ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب البسيط وعليه قول بعض الشيعة إلا آلام وحتى متى
أعاتب في حب هذا الفتى وهل زوجت غيره فاطم
وفي غيره هل أتى هل أتى وتعقب بأنه خبر موضوع متفعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي وآثار الوضع ظاهرة عليه (29/157)
لفظا ومعنى ثم إنه يقتضي أن تكون السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي الله عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروي هو عنه على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول وأقول مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في أمر الوضع حتى قالوا أنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله عنها قائم ولا جزم ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال نعم لعله يترجح لكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى ثم إنه على القول بنزولها فيها لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك كما ذكره الطبرسي من الشيعة في مجمع البيان رواية له عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولي فهماهما وماذا عسى يقول أمرؤ فيهما سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصى النبي وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح والريحان وسيد شباب الجنان وليس هذا من الرفض ما سواه عندي هو الغي أنا عبد الحق لا عبد الهوى
لعن الله الهوى فيمن لعن ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز و جل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعة إذا أحست بضرة وهيفي أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة ولا يخفى عليك إن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير على ذلك أيضا من باب التغليب وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه جازاهم على وزن فاعل متكئين فيها على الأرائك حال من هم في جزاهم والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى بما صبروا لأن الصبر في الدنيا وما تسبب في الآخرة وقيل صفة الجنة ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل متكئينهم فيها لعدم الإلباس كما في قوله قوم يذري المجد بأنوها وقد علمت
بكنه ذلك عدنان وقحطان وأنت تعلم هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية وجواب إبراز الضمير في ذلك مطلقا وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه حالا مقدرة من ضمير صبروا وليس بذاك والأرائك جمع أريكة وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفردا أريكة وقيل هو كل ما اتكيء عليه من سريرا وفراش أو منصة وكان تسميته بذلك لكونه مكانا للأقامة أخذا من قولهم أرك بالمكان أروكا أقام وأص الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المع ثم استعمل في غيره من الإقامات وقوله تعالى لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن في متكئين وجوز فيه كونه صفة أيضا والمراد من ذلك أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمى ولا شدة برد يؤذى وفي الحدث هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرف قصد بنفي الشمس نفيها ونفي لازمها معا لقوله سبحانه ولا زمهريرا فكأنه قيل لا يرون فيها حرا ولا قرا وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيء وأنشد وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهرر وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه فيحيز المنع بل قيل أنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذا له منا زمهر الكوكب لمع والمعنى على هذاالقول أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر وفي الحديث (29/158)
أن الجنة لا خطر بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد الحديث ثم أنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به الأخبار الصحيحة وفيبعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوء كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا لا يرون فيه شمسا ولا زمهريرا فيقول لهم رضوان ليس هذا بشمس ولا قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان من نور ثغريهما ودانية عليهم ظلالها عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقرأ أبو حيوة دانية بالرفع وخرج على أن دانية خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للأصاق على ما يراه الزمخشري وقال الأخفش ظلالها مرفوع بدانية على الفاعلية بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للأستدلال لقيام ذلك الأحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها وقرأ أبي ودانك قاض ولا يتم الأستدلال به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما قرأالأعمش ودانيا عليهم نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وذللت قطوفها تذليلا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة قال قتادة ومجاهد وسفيان إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك والجملة حال من ضمير دانية أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على إسمية في قراءة دانية بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة ويطاف عليهم بآنية جمع إناء ككساء وأكسية وهو ما يوضع فيه الشيء والأوان يجمع الجمع من فضة وأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس كوز لا عورة له أو لا خرطوم له وقيل الكوز العظيم الذيلا أدن له ولا عروة كانت أي تلك الأكواب قواريرا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول قوارير وقوله تعالى قوارير من فضة بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح البعوض لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين قوارير في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمن الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول بدل من ألف الأطلاق كما في قوله
يا صاح ما هاج العيون الذرفن
وفي الثاني للأتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش أي هي قوارير قدروها تقديرا أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاء تحسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه وفي معناه قول الطائي ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع (29/159)
فإنه ينبيء عن كون نفسه خلقت على أتم ما ينبغي من مكارم الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قدروها للأبرار المطاف عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب قال ابن عباس أتوا بها الحاجة لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملاي التي تفيض ولا بالناقصة التي تغيض فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليه بقوله تعالى يطاف عليهم وقد روي عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل المعنى قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم قدروها علىالبناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي كان اللفظ قدروا عليها وفي المعنى قلب لأن حقيقته أن يقال قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة وقول العرب إذا طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء وقال الزمخشري وجه ذلك أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقدراه فنقل إلىالتفعيل فتعدى لأثنين أحدهما الضمير النائب عن الفاعل والثاني ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤا وأطلق لهم أن يقدروا على حسبما اشتهوا وقال أبو حيان قدرت الأواني على قدر ريهم ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفا وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع ناسب الفاعل واتصل المفعول الثاني بقدر فصار قدرها وقا أبو حيان الأقرب أن يمون الأصل قدر ريهم منها تقديرا محذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فضار قدروها فلم يكن فيه الأحذف مضاف واتساع في المجرور ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كونه ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفا منه وقوله تعالى ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يشربون من كأس كان مزاجها كافورا الخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عرق تسري في الأرضو ليسب شجرة ومنهما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى كان القرنفل والزنجبيل
باتا بفيها واريا مسورا وقال عمرو المسيب بن علس وكان طعم الزنجبيل به
إذ ذقته وسلافةالخمر وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروي عن قتادة وقال يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور وتارة يسقون من كأس مزاجها زنجبيل ولعل ذكر يسقون هنا دون يشربون لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى ويطاف عليهم الخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأنا من الكأس الأولى وعن الكلبي يسقى بجامين الأول مزاجه الكافور والثاني مزاجه الزنجبيل والسلسبيل كالسلسل والسلسال قال الزجاج ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الأنحدار في الحلق وقال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن وكأن العين إنما سميت بذلك لسلامتها وسهولة مساغها قال عكرمة عين سلسل ماؤها وقال مجاهد حديدة الجري سلسة سهلة المساغ وقال مقاتل عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤا وهي على ما روي عن قتادة عين تنبع (29/160)
من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل إلى الجنان وفي البحر الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسلة الأنسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة لأنه ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف جعله علما لها فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل كما قيل في سلاسل وقوارير أو زعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت الكلمة خماسية فإن عني أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عني أنها حرف في سنح الكلمة في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة انتهى وفي الكشف لا يريد الزيادة المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضا من الأشتقاق الأكبر فلا تغفل وقال بعض المعربين سلسبيلا أمر للنبي ولأمته بسؤال السبيل إليها وعزوه إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل سلسبيلا جعلت اسما للعين كما قيل تأبط شرا وذوي حبا وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلىالأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن مطران الشاشي سلسبيلا فيها إلى راحة النفس
براح كأنها سلسبيل وفي الجناس الملف قول استعمله غير واحد من المحدثين ويطوف عليهم أي للخدمة ولدان مخلدون أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة وجاء في حديث أخرجه ابن مردوية عن أنس مرفوعا أنهم آلاف خادم وفي بعض الآثار أضعاف ذلك
والجود أعظم والمواهب أوسع
ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا لحسنهم وصفاء ألوانهم وأشراق وجوه وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه من تشبيه المفرد لأن الأنبثات غير ملحوظ والخطاب في رأيتهم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى وإذا رأيت ثم أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى إن بصرك إينما وقع في الجنة رأيت نعيما وملكا كبيرا عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول وقال عبد الله بن عمرو الكلبي عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطى من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة وقال مجاهد هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلا بإذن وقال الترمذي وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئا كان وقيل هو النظر إلى الله عز و جل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم لا زوال له وزعم الفراء أن المعنى وإذا رأيت ما ثم رات الخ وخرج على أنه أراد أن ثم ظرف وقعصلة لموصوف محذوف هو مفعول رأيت والتقدير وغذا رأيت ما ثم رأيت نعيما الخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى لقد تقطع بينكم أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء أرادوا من يمدحه فحذف الموصول وأبقي صلته وقد يقال أن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد المعنى وإن الظرف يغني عناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن الظرف والمرئي كليهما الجنة وقرأ حميد الأعرج ثم بضم (29/161)
الثاء حرف عطف وجواب غذا على هذا المحذوف يقدر بنحو تحير فكرك أو بنحو رأيت عاملا في نعيما عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق قيل عاليهم ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في عاليهم فهي شرح لحال الأبرار المطوف عليهم وقال أبو حيان إن عالي نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل وثياب مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفا إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلا ومثله فيما ذكر عالية وقيل حال من ضمير لقاهم أو من ضمير جزاهم وقيل من الضمير المستتر في متكئين والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف مقدر نعيما أو قبل ملكا أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك عاليهم الخ وهو تكلف غير محتاج إليه وقيل صاحب الحال الضمير المنصوب في حسبتهم فهي شرح لحال الطائفتين ولا يخفى بعده لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سقاهم فيما بعد كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول تحت الحسبان ورفع خضر على أنه صفة ثياب واستبرق على أنه عطف على ثياب والمراد وثياب استبرق والسندس قال ثعلب ما رق من الديباج وقيل ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألوانا وقال الليث هو ضرب من البزيون يتخذ من المعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في القاموس وغيره وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في سادى سادس وهو كما ترى والأستبرق قيل ما غلظ من ثياب الحرير وقال أبو إسحاق الديباج الصفيق الغليظ الحسن وقال ابن دريد ثياب حرير نحو الديباج وعن ابن عبادة هو بردة حمراء هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية اسنبره وفي القاموس معرب استروه وحكى ذلك عن ابن دريد وأنه قال أنه سرياني وقيل معرب استفزه وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء وقيل عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معا فأجرى مجرى الزيادة الواحدة وفي المسئلة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الأستبرق وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة فخضر وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير متكئين أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس الخ وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والأستبرق وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على أنه مبتدأ وثياب خبره وعند الأخفش فاعل سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر وأخبر به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما في سامرا تهجرون على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش وقيل هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم (29/162)
أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد ابن علي بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجها كتخريج عاليهم بالسكون والنصب وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا عليهم جارا ومجرورا فهو خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر وقرأت عائشة علتهم بتاءالتأنيث فعلا ماضيا فثياب فاعل وقرأابن أبي عبلة وأبو حيوة ثياب سندس بتنوين ثياب ورفع سندس على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب حرير تريد من هذاالجنس وقرأالعربيان ونافع في رواية واستبرق بالجر عطفا على سندس وقرأابن كثير وأبو بكر بجر خضر صفة لسندس وهو في معنى الجمع وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه ينشيء السحاب والنخل باسقات وقد جاء سندسة في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجواز وفيه توافق القراءتين معنى إلا أنه قليل وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي خضر واستبرق بجرهما وقرأ ابن محيصن واستبرق بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراآت ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وإن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف وخرج الفتح على المنع من التصرف للعلمية والعجمية وغلط بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال الأستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق واستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علما لهذاالنوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقبب أن كونه معربا مما لا ينبغي أن ينكر وقيل هو مبني من قول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى واختار أبو حيان أن استبرق على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو علىالأخضر الدال عليه خضر كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا بمن غلظه كأبي حاتم والزمخشري وهذاالتخريج أولى من تلحين قاريء جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابرالعلماءانتهى وقيل الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه وحلوا أساور جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره من فضة هي فضة لائقة بتلك الدار والظاهر هذا عطف على يطوف عليهم واختلافهما بالمضى والمضارعة لأن الحالية مقدمةعلى الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى أساور من ذهب لا مكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تاره والفضة تارة أخرى والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهب او بعض فضة لاختلا الأعمال وقيل هو حال من ضمير عاليهم بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون عاليهم حالا من حسبتهم جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوارالفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم ولا يخفى أن هذا مما لا يليق بالتفسير وحري أن يكون من باب الأشارة ثم التحلية إن كانت للولد ان فإن كلام ويكونون على القول الثاني في مخلدون مسورين مقرطين وهو من الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنهالا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والولدان وأجيب بأن ذلك مما يختلف بأختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي مما هو (29/163)
عند بعض الطباع أولى بالنساء وللصبيان ولا يرون ذلك بدعا ولا نقصا كل ذلك لمكان الألف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنةالميل إلى الحلي مطلقا لا سيما وهم جرد أبناء ثلاثين وقيل أن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وسقاهم ربهم شرابا طهورا هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورقال أبو قلابة يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من ساق شجرة منشرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسدوما كان في جوفه من قذر واذى أي إن كان فالطهور عليهما بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنهلم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤل إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدا نهمله ريح كريح المسك وقيل أريد بذلك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكره عما سوه صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا
ونور ولا نار وروح ولا جسم ولعل كل ما ذكره ابن القارض في خميرته التي لم يفرغ مثلها في كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عني بقوله سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا
جبال حنين ماسقوني لغنت ويحكى أنه سئل أبو زيد عن هذه الآية فقال سقاهم شرابا طهرهم به عن محبة غيره ثم قال إن الله تعالى شرابا ادخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر وحمل بعضهم جميع الأشربة على غير المتبادر منها فقال إن الأنوارالفائضة من جواهر أكابر الملائكه وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن وكما إن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوارالعلوية مختلفة فيعضها كافورية على طبع البرد والييس ويكون صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والأنقباض وبعضها يكون زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الألتفات إلى السوى قليل المبالات بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال الروح البشري منتقلا من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتفاعها إلى واجب الوجود الذي هو النورالمطلق جل جلاله فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب ذلك الشراب انه ضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيتل أن نور ما سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الأرتقاء والكمال ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار بقوله جل وعلا وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذه الذي ذكرمن فنون الكرامات الجليلة الشأن كان لكم جزآء بمقابلة أعمالكم الصالحةالتي اقتض والظاهرأن المجيء بالفعل للتحقيق والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علم يوحكي وكذا في قوله تعالى وكان سعيكم مشكوراأي مرضيا مقبولا أو مجازي عليه غير مضيع والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم أن هذاالخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد سروره ويكون ذلك تهنئة له (29/164)
وجوز أن يكون خطابا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال إن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكورا قيل وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه من الجزاء ما تهشله الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضاالذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب إذا كنت عنييا مني القلب راضيا
أرى كل من في الكون لي يتبسم وروي من طرق أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه السورة وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة خرجت نفسه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرج صاحبكم الشوق إلى الجنة ولما ذكرسبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعةالرحمة ذكر ما شرف به نبيه إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غير ناكما يعر بتكريرالضم مع إنسواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدا فاصبر لحكم ربك بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة ولا تطع قلة منك على إذا هم وضجرا من تأخر نصرك منهم آثما أو كفورا قيل إن أولا حد الشيئين في جميع مواقعها ويعرض لها معان أخر كالشكوا لإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا ولا تطع منهم أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا ولم يؤت بالواو لاحتمال الكل ام عليها لنهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالأنتهاءعن واحد دون الآخر فلا يرد أن تطع أحد النوعين يحصل الأمتثال به بترك إطاعة واحد مع إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك أنه لم يطع أحدهما ومن هنا قيل إن أو في الإثبات تفيد أحد الأمرين وفي النفي في نفي كلاالأمرين جميع اول ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال إن وضع أو لأثبات الحكم لأحد الأمرين إلا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجز على الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وإن حجرف هو لأحد الأمرين واستشكل بعضهم وقوعها في النهي كلاتطع منهم آثما أو كفورا إذ لو انتهى عن أحدهم الم يتمثل ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأولى إن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أيواحدا منهما فإذا جاءالنهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الأنتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي في معناه لما أنتقيض الإيجاب الجزئي السلبالكليوقريب من ذلك قول الزجاج أن أو ههنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطا أحدهما كان غير عاص فغذاأبدلتهم ابا وفقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصى ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معا كما لا يخفى وأفاد جار الله إن أو باقية على حقيقتها وإن النهي عن إطاعتهما جميعاإنما جاء دلالةالنص وهي المسمى مفهوم الموافقة الأولى والمساوي فتأملوالمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الأثم والكفر لا فيما ليس بأثم ولا كفر والمراد ولا تطع مرتكب الأثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أيلا تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الأثم ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع (29/165)
الظالم فهم منه لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الأستدلال بالآية على عدم جواز الأقتداء بالفاسق إذا صلى إماماثم إن التق ما يدعوان إليه من الكفر والأثم المقابلله لاباعتبارالذوات حتى يكون بعضهم آثما وبعضهم كفورا فيقال كيف ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في كفور لموافقة الواقع وهذا كقوله تعالى ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى النفي على ما قيل في قوله تعالى وما ربك بطلام للعبيد كما ترى وقيل الآثم المنافق والكفور المشرك المجاهر وقيل الآثم عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل أنهما قالا له صلى الله تعالى عليه وسلم ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج فنزلت وقيل المفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدمو في النهي مع العصمة إرشاد لغيرالمعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي واذكراسم ربك بكرة وأصيلا ودوام على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أودم على صلاة الفجر والظهر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما ومن الليل أي بعضه فاسجد فصل له عز و جل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم للأ والأهتمام لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص وسبحه ليلا طويلا وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما اختاره بعضهم وتنوي للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلا الخمس وقال قوم هو محكم في شأنه عليه الصلاة و السلام وقال آخرون هو كذلك مطلقا على وجه الندب وفي تأخير الظرف قبل دلالةعلى أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على اذاهم وإفراطهم في العداوة وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بمايطيق على من وال قوله تعالى لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين انتهى وهو حسن إن هؤلاء الكفرة يحبون العاجلة وينهمكون في لذاتها الفانية ويذرون وراءهم أي أمامهم يوما ثقيلا هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا يعبثون به فالظرف قيل على الأول حال من يوم او على هذا ظرف يذرون ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الأستعارة والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من العبادةلأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة نحن خلقناهم لا غيرنا وشددنا أسرهم أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقا (29/166)
حسنا ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وإذا شئنا بدلنا أمثالهم أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تبديلا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الأنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كأن له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم لأن النكات لا يلزم إطرادها فافهم والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إن هذه تذكرة إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وما تشاؤن أي شيئا أو اتخاذ السبيل إلا أن يشاء الله أي وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم وقال الزمخشري أي وما تشاؤن الطاعة إلا أن يشاء الله تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل ويلزمه على ما في الانتصاف إن مشيئة العبد لا يوجد إلا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الأختيارية وإلا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهارته والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الأستعداد النفس لأمر يسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها إن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وإن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فاذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبرالمحض المسلوب معه الأختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يشاء الآتخاذ والتحصيل رد الكلام على الصدر فقال أن قوله سبحانه وما تشاؤن الخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية أي وما تشاؤن اتخاذ السبي لولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز و جل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى نعم قيل أن ظاهرالشرطية أن مشيئة العبد مطلقا مستلزمة للفعل فيلزم أنه متى شاء فعلا فعله مع أن الواقع خلافه فلا بد مما قاله هذا البعض وجعل الجملة الثانية تحقيق اللحق وأجيبب أنها على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلا وقت مشيئة الله تعالى إياها (29/167)
فكأنه قيل وما تشاؤن مشيئة تستلزم الفعل إلا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلكفت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومز الأقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلااختيار وإلا فلا صد أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فأما أن يلزم الفعل الاضطرار أو لا فيلزم جواز تخلف المعمول عن علته التامة بل مع الصدور الترجيح بلا مرجح فقد قيل أنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التقصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدعك لمن جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق وقرأ العربيان وابن كثير وما تشاؤن بباء الغيبة وقرأ ابن مسعود إلا ما يشاء الله وما فيهم صدرية كأن قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبه أبو حيان بأنه منصوب على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيتك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أن يشاء بتقدير حرف الجر والأستثناء من أعم الأسباب وما تشاؤن بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله تعالى إن الله كان عليما مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حكيما مبالغا في الحكمة فيفيض على كلما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز و جل وقيل عليما أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حكيما لا يشاء إلا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يدخل من يشاء في رحمته الخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهوالذي علم فيه الخير حيثي وفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الأيمان والطاعة والظالمين أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر عد لهم عذابا أليما متناهيا في الإيلام ونصب الظالمين بإضمار فعل يفسره أعد الخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة والظالمون على الأبتداء وقراءة الجمهور أحسن وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها إسمية والأولى فعلية ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب وقرأ عبد الله وللظالمين بلام الجر فقيل بما بعد على سبيلا لتوكيد وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أعد لهم والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة تضمنت من سعة رحمة الله تعالى عز و جل ما تضمنت إلا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ هل أتى على الإنسان ختمها ثم قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلىالصعدات تجأرون إلى الله عز و جل وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبي صلى الله تعالى (29/168)
عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيرا
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال بينما نحن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة المرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقتلوها فابتدرناه فدخلت حجرها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيت شركم كما وقيتم شرها وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فبأي حديث بعده يؤمنون وإذا قيل لهم اركعوالا يركعون وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يدخل من يشاء في رحمته الخ افتتح هذه بالأقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد فقيل المرسلات والعاصفات طوائف والناشرات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن بأمره تعالى أمرن بأنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وأيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام ولعل من يلقي الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا حديث الرصد وفي الآثار نزل ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في السماء وثنى الأخرى بين يدي فالمرسلات صفة لمحذوف والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا الناشرات ونصب عرفا على الحال والمراد متتابعة وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه ثم حذف أداة التشبيه ومن هذا قولهم جاؤا عرفا جاؤا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا تالبوا عليه ويؤخذمن كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه
بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر أي والمرسلات للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين اذلين انتقم الله تعالى لهم منهم وعطف الناشرات على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف العاصفات على المرسلات والفارقات على الناشرات وكذاما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفا منزلة تغاير الذات كما في قوله يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على أن ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب وترتيب مضي الأمر على (29/169)
الارسال به والأمر بإنقاذه وأما ترتيب القاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الألقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء وقيل الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل وقيل إن الفاء في ذلم للترتيب الرتبي ضرورة إن إرادة الفرق أعلى من النشر وقيل إنها فيه وفيما بعده لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستل بالدلالة على استحقلق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالأقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق واستعمال العاصفات بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الأستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المهلكات بالعذاب الذي أرسلهن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا أو المجاز المرسل وعذرا ونذرا في قوله تعالى عذرا أو نذرا جوز أن يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الأساءة ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر وتسومح فيما تقدم وإن يكونا جمع عذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل فيهما الملقيات أو ذكرا وهو بمعنى التذكير والعظة بالترغيب والترهيب أي فالملقيات ذكرا لأجل العذر للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية أو الضمير المستتر فيه على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو على البدلية من ذكرا على أن المراد به الوحي فيكونان بدل بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وإن يكونا وصفين بمعنى عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير وأو في جميع ذلك للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن إنها بمعنى الواو وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى آخر ما تقدم ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلا فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتيب الفرق على النشر كذا قيل فلا تغفل وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر فالجهل بما أوحين ففرقن الخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله بمعنى الإشاعة وقيل لا مغايرة بين الكل إلا بالصفات وهم جميعا من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن عز و جل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكرا وظاهره أيضا أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع مخصوص بالأمر مقابل النهي ففي كلامه الأكتفاء وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلاوقيل عطف الناشرات بالواو دون الفاء وعطف الفراقات به أن النشر عليه بمعنى الأشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول ويقتضي زمانا فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهملة ولا يتوهم أنه كان حق الناشرات حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد (29/170)
ههنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الأيذان بكونهما غاية للألقاء حقيقة بالأعتناء أو الأشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكرو قيل أقسم سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه وبالناشرات رياح وحاصلة أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكرا إما عذرا للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمة الله تعالى في الغيث وإما إنذارا للذين يكفرون ذلك ويتسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد والمراد بعرفا متتابعة أو الناشرات رياح نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذكرا إما عذرا للشاكرين وإما نذرا للكافرين وقيل أقسم سبحانه أولا بالرياح وثانيا بسحائب الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه فتسببن ذكرا أما وإما وقيل أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت منجمة فعصفن وآذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكتاف العالمين وقيل جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحسانا وفضلا كما هو المذهب الحق لا وجوبا كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤا به ففرقوا بين الحقو الباطل والحلال والحرام فألقوا ذكرا بين المكلفين ويجوز أن يراد على هذا بعرفا متتابعة وقيل أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة أي المخلوقة على صفة الكمال والأستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت لأجله المرسلة إحسانا إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن وأذهبن ما سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكها إلا وجهه فألقين في القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها إلا ذكره عز و جل أوطرحن ذكر غبره سبحانه عن القلوب والألسنة فلا ذكر لما عداه وقيل الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس والمناسبة باللطافة وسرعة الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلا أن المرسلات ملائكة الرحمة والعاصفات ملائكة العذاب والثلاثة الأخيرة آيات القرآن النازلة بها الملائكة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال المرسلات عرفا الرسل ترسل بالمعروف فالعاصفات عصفا الريح والناشرات نشراالمطر فالفارقات فرقاالرسل ومن وجه آخر المرسلات عرفا الملائكة فالعاصفات عصفاالرياح العواصف والناشرات نشراالملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض الروايات فالفارقات فرقا الملائكة يفرقون بين الحق والباطل فالملقيات ذكرا الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن والكتاب عذرا أو نذرا منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل المرسلات الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات الهبوب وروي تفسير المرسلات بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وفي أخرى عن ابن عباس (29/171)
أنها جماعة الأنبياء أرسلت أفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود الناشرات الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره وروي عن مجاهد وقتادة وقال الربيع الملائكة تنشر الناس من قبورهم قال الضحاك الصحف تنشرعلى الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون الناشرات على معنى النسب وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك الفارقات الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام وقال قتادة والحسن وابن كسيان آيات القرآن فرقت بين ما يحل وما يحرم وعن مجاهد أيضاالرياح تفرق بين السحاب فتبدده وعن ابن عباس وقتادة والجمهور والملقيات الملائكة تلقيما حملت من الوحي إلا الأنبياء وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر العاصفات بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها ومنهم من فسر الفارقات بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقةالفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بين الحقوالباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهركون المقسم بهشيئين المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات لشدة ظهورالعطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمرالحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع ذا الأقو الكثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو وقرأ عيسى عرفا بضمتين نحو نكر في نكر وقرأ ابن عباس فالملقيات بالتشديد مع التلقية وقيل هي كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب يقال لقيته الذكر فتلقاه وذكر المهدوي أنهر ضعنه قرأ فالملقيات بفتح اللام وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز و جل وقرأ زيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف والأعمش عن أبي بكر عذرا أو نذر بضم الذالين وقرأ الحرميان وأبوعامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضا بسكون الذال في عذرا وضمها في نذرا وقرأ إبراهيم التيمي ونذرا بالواو وقوله تعالى إنما توعدون لواقع جواب للقسم وما موصولة وإنكتبت موصولة والعائد محذوف أي أن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة وجوز أن يراد بالموصول جميع ما تضمنته السورة السابقة وهو خلاف الظاهر جدا فإذا النجوم طمست أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم عليها أو هن من بيت العنكبوت وما زعمه المعاصرون من هم فيها وإن كان غير ثابت عندنا إلا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور وإذا السماء فرجت شقت كما قال سبحانه إذا السماء انشقت ويوم تشقق السماء بالغمام وقيل فتحت كما قال سبحانه وفتحت السماء فكانت أبوابا وأنشد سيبويه
الفارجي باب الأمير المبهم
ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا وأدلة استحالة الخرق والألتئام فيها خروق لا تلتئم وإذا الجبال نسفت جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال في البحر فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارنها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرأ عمرو بن ميمون طمست وفرجت بتشديد الميم والراء وذكر الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد وإذا الرسل أقتت أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك (29/172)
عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جارالله وتحقيقه كما في الكشف أن توقيت الشيء تحديد هو تعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن الموقت هو الأحداث لا الجثث ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود وعلى هذايقع عليها دون إضمار إذا كأن بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما الوجه لأن القيامة لوقتا يتبين فيه وقت الرسل الذين يحضرون للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وإذا الرسل أقتت يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إذا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلا بد من التأويل وقد أشبر إليه في ضمن التفسير وقرأ النخعيوالحسن وعيسى وخالد أقتتب الهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا وقتتب الواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بين في محله وقال عيسى وقتت لغة سفلي مضر وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر وقتت بواو واحدة وتخفيف القاف وقرأ الحسن أيضا وقتتب واوين على وزن فوعلت وإذا في جميع ما تقدم شرطية وقوله تعالى لأي يوم أجلت قيل مقول لقول مقدر هو جواب إذا أي يقال لأي يوم الخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير منقولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما يشعر به الكلام والأستفهام للتعظيم والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم وظهور ماكانت الرسل عليهم السلام تذكره من الآخرة وأحواله او فظاعة أمورها وأهوالها وجوز أن يكون الضمير للأمور المشار فيها فيما قبل منطمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتاقيت الرسل وإن يكون للرسل إلا أن المعنى على نحوما تقدم وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع أقتت أي مقولا فيها لأي يوم أجلت وأن تكون الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها أي بمجيئه وحصوله وجواب إذا على الوجهين قيل قوله تعالى الآتي ويل يومئذ للمكذبين وجاء حذف الفاء في مثله وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أيوقع الفصل أو وقع ما توعدون واختار هذا أبو حيان ويجوز علىاحتمال كون الجواب ويل يومئذ للمكذبين أو تقدير المقدر مؤخرا كون جملة لأي يوم أجلت اعتراضا لتهويل شأن ذلك اليوم وقوله تعالى ليوم الفصل بدل من لأي يوم مبين له وقيل متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق وما أدراك ما يوم الفصل أي أي شيء جعلك داريا ما هو على أن ما الأولى مبتدأ وإدراك خبره وما الثانية خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرا بديع الا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية مالا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام ويل يومئذ للمكذبين أي في ذلك اليوم الهائل وويل في الأصل مصدر بمعنى هلاك حقه النصب بفعل لفظه أو معناه إلا أنه رفع على الأبتداء للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويومئد ظرفه أو صفته فمسوغ الأبتداءبه ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما في سلام عليكم ألم نهلك الأولين كقوم نوح وعاد وثمود وقرأ قتادة نهلك بفتح النون على أنه منهلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر فيقول العجاج ومهمه هالك من تعرجا
هائلة أهواله من أدرجا (29/173)
لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أوفيه وليناسب ما في الشطر الثاني ثم نتبعهم الآخرين بالرفع على الأستئناف وهو وعيد لأهل مكة وإخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر كأنه قيل ثمنحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ونسلك بهم سببلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم ويقويه قراءة عبد الله ثم سنتبعهم بسينا لأستقبال وجوز العطف قوله تعالى ألم نهلك إلى آخره وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو نتبعهم بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على نهلك فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنه مبعدم ا كانوا قد أهلكوا والعطف على نهلك يقتضيه وجوز أن يكون قد سكنت خفيفا كما في وما يشعر كمفهوم رفوع كما في قراءة الجمهور إلا أن الضمة مقدرة كذلك مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم والمراد أن سنتنا جارية على ذلك ويل يومئذ أي يوم إذا أهلكناهم للمكذبين بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا ولا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال فيما بعد وجوز اعتبار الأتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه ألم نخلقكم من ماء مهين من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني فجعلناه في قرار مكين هو الرحم إلى قدر معلوم أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر فقدرنا أي فقدرنا ذلك تقديرافنعم القادرون أي فنعم المقدرون له نحن وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة علي كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي فقدرنا بالتشديد ولقوله تعالى من نطفة خلقه فقدره ولقوله إلى قدر معلوم فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها فقيل فقدرنا ذلك تقديرا أي تقديرا دال على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى ألم نخلقكم وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام معالم نكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولوسلم فقد قرروا بها بقوله تعالى ألم نخلقكم فتأمل ويل يومئذ للمكذبين أي بقدرتنا على ذلك أو الأعادة ألم نجعل الأرض كفاتا الكفات اسم جلس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضم هو جمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح فأنت اليوم فوق الأرض حي
وأنت غدا تضمك في كفات وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى أحياء وأمواتا مفعول محذوف لا لكفاتا لأن اسم الجنس وكذا اسم الآلة كما صرح به النحاةلا يعمل أي ألم نجعلها كفاتا تكفت وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتا غير محصورة في بطنها وقيل هو مصدرك القتال نعت بهل لمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير فعل وقيل جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا أوجمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهوالوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كفاتاالمحذوف والتقدير مفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتاالأنس أحياء وأمواتا أخمن مفعول حذف مع فعله أي كفاتا تكفته أو تكفتكم أو تكفت الأنس أحياء وأمواتا وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذاتأحياء وأمواتأو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد (29/174)
وبإحياء مايقابلها وانتصاب كفاتا الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة إحياءالأنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غيرمحصور كثير في نفسه فلا تغفل واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه وقال ابن عبد البراحتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحي فيكون حرزاولا يخفى ضعف الأستدلالين وجعلنا فيها رواسي أي جبالا ثوابت شامخات مرتفعات ومنه شمخ بأنفه ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غيرالعقلاء مطرد كأشهر معلومات وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأنفي الأرض جبالا لم تعرف ولميوقف عليها فارض الله تعالى واسعة وفيهاما لم يعلمه إلا الله عز و جل وقيل للأشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهوالجبال السماوية وهوم يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بمالم يعرف وأسقيناكم ماء فراتاأ عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء ويل يومئذ للمكذبين بأمثال هذه النعم العظيمة إنطلقوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انطلقوا إلى ما كنتم به تكذب ونفي الدنيا من العذاب إنطلقوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار لهو إن قيد بقوله تعالى إلى ظل هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وظل من يحموم وفيه استعارة تهكمية وقرأ رويس عن يعقوب انطلقوا بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش وخصوصيةالثلاث قيل أما لأن حجاب النفسعن أنوار القدس الحسو الخيال لأن المؤدي إلى هذاالعذاب هو القوة الوهميةالشيطانية الحالة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عنيمين القلب والقوة الشهويةالبهيم عن يسار هو لذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبةعن يمينه وشعبةعن يسار هو قيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه و سلم فهناك ثلاثة تكذيبات واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل وعنابن عباس يقال ذلك لعبدةالصليب فالمؤمنون في ظل الله عز و جل وهم في ظلم عبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظليل أي لا مظلو هو صفة ثانية لظلون في كونه مظللا عنه يكون إلا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفي هذا الأحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين ولا يعني من اللهب وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر الله بشيئا وعد يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إنها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمير للشعب ترمى بشرر هو تطاير من النار سمي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحدة شررة كالقصر كالدار الكبيرة (29/175)
المشيدة والمراد كلشررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم بشرار بكسرالشين وألفبين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة ورقا بفيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة وكذا قراءة عيسى بشرار بفتح الشين وألفبين الراءين أيضا فقد قيل أنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع شر غير أفعل التفضيل كخيارجمع خيروهو حينئذ صفة أقيمت مقام موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر وقيلالقصر الغليظ من الشجرواحده قصرة نحو جمرة وجمر وقيل قطعمن الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلا أن التهويل على القول الأخير دونه على غيره وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير والحسن وابن مقسم كالقصر بفتح القاف وهي أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة ومنه قوله تعالى كالقصر وهو غريب وقرأ ابن مسعود كالقصر بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي البحر كأنه مقصور من القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو شاذ نادر وقرأابن جبير والحسن أيضا كالقصر بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة وحوج وبعض القراء كالقصر بفتح القاف وكسر الصاد بمعنى القصرفي قراءة الجمهور كأنه أي الشرر جمالت بكسر الجيم كما قرأبه حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جم لوالتاء لتأنيث الجمع كما في البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير صفر فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الأبل إلى الصفرة شبه به الشررحين ينفصل النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ في الأرتفاع والأنبساط لانشقاقه عن أإعداد غير محصورة بالجمال لتصورالأن والكثرة والصفرة والحركةالمخصوصة وقد روعي الترتيب في التشبيه رعايةلترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله فوقفت فيها ناقتي وكأنها
فدن لا قضى حاجة المتلوم فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأولعلى معنى أن التشبيه بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب فلم قيل كأنه جمالة صفر وهو قائم مقام التخصيص في القصر تكثر وجه الشبه كأنه قيل كأنه قصر من شأنه كذا وكذا والتشبيه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة أيضا والأول هو التحقيق على ما في الكشف وعلى الوجهين ليس التشبيه الثاني في البداء في شيء ولا حاجة في شيء من مهما إلى اعتبار كونه ضمير كأنه للقصر وقد ألم بشيء من حسن ما وقع في الآية من التشبيه وأبو العلاء المعري في قوله فيمرثية واحد من الأشراف المرقدي نار القرى الآصال
والإسحار بالأهضام والأشعاف حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
ترمي بكلشرارة كطراف وإنكان قد قصد بذلك المعارضة للآية يكون قد أعمى الله تعالى بصيرته عما فيها من المزية كما أعمى سبحانه بصره وقرأ الجمهور ومنهم عمربن الخطاب رضعنه جمالات بكسر الجيم وبالألف والتاء جمع جمال أو حمالة بكسر الجيم فيهما فيكون جمع الجمع أو جمع اسم الجمع والمعنى على ما سمعت وقرأ ابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم على أنه جمع جمالة على ما في الكشاف وقال في البحر هي حبال السفن (29/176)
الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل وجمال ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا جمالات وقيل هي قلوس الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير قالا إنهاإذااجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء أجرام عظام وعن ابن عباس أيضا هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن التشبيه على هذاباعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الأمتداد والألتفات وقرأابن عباس أيضا وال والأعمش وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وروي سجمالة كجمالة حفص ومن معه إلا أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع صفر لإرادة الجنس وقرأ صفر بضم الفاء ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون الأشارة إلى وقت دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه شيء لعظم الدهشة وفرط الحيرة ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من النطق لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطقوقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية هذايوم بالفتح هو فتح إعراب على أن هذا إشارةإلى ما ذكر ويوم منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف وقع خبرا لهذاالذي ذكرمن الوعيد واقع في يوم لا ينطقون وقيل هو فتح بناء ويوم في محل رفع على الخبرية وبني لأضافته للجملة ولماحقه البناء وعن صاحب اللوامح قال عيسى بناء يوم علىالفتح مع لا لغة سفلى مضر لأنهم جعلوه معها كالاسم الواحد وأنت تعلم أن الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لايجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه وأن ما ذكر مذهبك وفي ولايؤذن لهم قيل في النطق مطلقا أوفي الأعتذار وقرأ زيد بن علي كما حكى عنه أبو علي الأهوازي بالبناء للفاعل أي ولا يأذن الله تعالى لهم فيعتذرون عطف على يؤذن منتظم معه في سلك النفي والفاء للتعقيب بين النفيين في الأخبار في قول ولترتب النفي الثاني نفسه على الأول في آخر ونظر فيه ولم يقل فيعتذروا بالنصب في جوابا لنفي قيل ليفيد الكلام نفي الأعتذار مطلقا إذ لا عذر لهم ولا يعتذرون بخلاف ما لو نصب وجعل جوابا فإنه يدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الأذن فيوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه وقال ابن عطية إنما لم ينصب في جواب النفي للمحافظة على رؤس الآي والوجهان جائزان وظاهره المعنى عليهما وهومخالف لكلامهم لقولهم بالسببية في النصب دون الرفع نعم ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون معناه على قلة معنى المنصوب بعد الفاء وأن النحويين إنما جعلوا معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب وجعل دليله علىذلك هذه الآية وعليه ذلك ابن عصفور وغيره فتدبر والظاهر أن نفي الأعتذار باعتبار بعض المواطن والمواقيت كنفي النطق وجوز أن يكون المنفي حقيقة الأعتذار النافع فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل بين المحق والمبطل جعلناكم والأولين أي من تقدمكم من الأمم والكلام تقرير وبيان للفصل لأنه لا يفصل بين المحق والمبطل إلا إذا جمع بينهم فإن كان لكم كيد فكيدون فإن جميع من كنتم تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم ويل يومئذ للمكذبين حيث أن لا حول لهم ولا حيلة في التخلص مما هم فيه إن المتقين من الكفر والتكذيب لوقوعه في مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاةالمؤمنين في ظلال جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظلال ليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس ويعبر (29/177)
به أيضا عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتب منه ما هوالمعروف ويؤيدهما تقدم في المقابل انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب الخ وقراء الأعمش في ظل جمع ظلة وأيا كان فالمراد من قوله تعالى إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون إنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون مقدر بقوله و حال من ضمير المتقين في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا من العمل الصالح بالأيمان وغير ذلك إنا كذلك أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين لا جزاء أدنى منه والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلا أنه وضعوضعالظاهر موضع الضمير مدحالهمبصفة الأحسان أيضا مع الأشعار بعلة الحكم وجوز أن يراد بالمتقينو المحسنين الصالح المؤمنين ولا دليل في هل لمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمرعدم التعرض لحالهم ويل يومئذ للمكذبين حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حالما يقال لهم ذلك تذكيرا لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاءب به حيث تركوا الخط الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله أخوتي لا تعبدوا أبدا
وبلى والله قد بعدوا فهو دعاء لأخوته بعدم الهل هلاكهم تقريرا بأنهم كانوا أحقاء بذلك الدعاء في حاتهمو إنه لا كهم لحينونة الأجل المسمى لا لأنه مكانوا أحقاء بالدعاء عليه موذهب أبو حيان إلى أنه كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا والأمر فيه أمر تحسير وتهديد وتخسير ولم يعتبر التهديد على الأول لأنه غير مقصود في الآخرة ورجح بأنه أبعد من التعسفو أو فقلت أليف النظم والظاهر أن قوله سبحانه إنكم الخ في موضع التعليل وفيه دلالة على أن كل مجرم نهايته تمتع أيام قليلة ثم يبقى في عذاب وهلاك أبدا ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا أي أطيعوا الله تعالى واخشعوا وتواضعوا له عز و جلب قبول وحيه تعالى واتباع دينه سبحانه وارفضوا هذاالستكبار والنخوة لايركعون لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم عليه من الأستكبار وقيل أي إذا أمر بالصلاة أو بالركوع فيها لا يفعلون إذ روي عن مقاتل إن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة و السلام حط عنا الصلاة فأنا لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال عليه الصلاة و السلام لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجلأنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى للمكذبين كأنه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهما ركعوا لا يركعون وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه أنكم مجرمون على طريقة الألتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كلوا وتمتعوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلوا يصلونواستدل به على أن الأمر للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع ويلي ومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده أيبعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبارالنشأتين علىنمط بديع مع مؤسس على حج جقاطعة وبراهين ساطعة يؤمنون إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلا أن يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان (29/178)
منه فالبعدية للتفاوت في الرتبة كما قال في عتل بعد ذلك زنيم وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل القرآن على البيان الشافي والحقالوا ضحفما بالهم لا يبادرون الأيمان به قبل الويل وعدم الأنتفاع بعسى ولعل وليت وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية تؤمنون على الخط هذا ولما أو جزفي سورةالأنسان في ذكر أحوال الكفارفي الآخرة وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة فوقع الأعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثلاثين وأوله سورة النبأ 30 (29/179)
يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالأتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرها ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دل ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك ألم نهلك الأولين ألم نخلقكم من ماء مهين ألم نجعل الأرض كفاتا الخ وفي هذه ألم نجعل الأرض مهادا الخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الأشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر وأيضا في سورة المرسلات لاي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل وفي هذه أن يوم الفصل كان ميقاتا الخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها أه وقيل أنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه حديث بعده يؤمنون وكاد المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والأستهزاء به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن ألمراد بالنبأ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله عالى بسم الله الرحمن الرحيم عم أصله عما على أصله حرف دخل على ما الأستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الأتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم وقد قرأ عبد الله وأبي وعكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الأستعمال وقال ابن جني (30/2)
إثبات الألف أضعف اللغتين وعليه قوله على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد والأستفهام للإيذان بفخامة شأن المؤل عنه وهوله وخروجه عن دود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن يتساءلون الضمير لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم للأستغناء عنه بحضورهم حسا مع ما في الترك على ما قيل والإهانة لأشعاره بأن ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع المقام عنه يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل على حقيقته ومسماه بل على وقوعه الذي هول حال من أحواله ووصف من أوصافه وما كما مر غير مرة وأن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسؤل عن ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الأرشاد أن صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية لأفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه يرفع المتعدد على الفاعلية ترجيحا لجانب فاعليته وتحال مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم أي رأى كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراأوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا فيراد تعدده باعتبار تعدد متعلقه مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى فبأي آلاء ربك تتمارى وذكر بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول أيضا لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكاس وتفاوضا الحديث وعليه قول امريء القيس فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال فمن قال أن تفاعل لا يكون إلا من اثنين ولا يكون إلا لازما فقد غلظ كما قال الطبليوسي في شرح أدب الكاتب أن أراد ذلك على الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير متعدد الفاعل كتوان وتدان الأمر وتعال الله عما يشركون جدا وكذا مجيئه متعديا إل غير الذي فعل به مثل فعله كما سمعت وجوز أن يكون ضمير يتساءلون للناس عموما سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيمانا وسؤال غيرهم استهزاء ليزدادوا كفرا وطغيانا وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيات بعد وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى ألم نجعل الأرض الخ ظاهر في أنه كان عن البعثوهو مروي عن قتادة أيضا لأنه من أدلته وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الأخبار بالبعث فبعد أن ذكر ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض الدليل ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى عن النبإ العظيم بيان لشأن المسؤل عنه أثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإن إيراده على طريقة الأستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لانقطاع قرينه وانعدام نظيره خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم على (30/3)
منهاج لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزاء التنزيل وقال مكي أن ذلك من ما الأستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في الكشف بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الأستفهام أولا وقال الخفاجي البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الأستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض وقيل هو متعلق بيتساءلون المذكور وعم متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية عمه بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا يحسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقان بيتساءلون المذكور كأنه قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم ونقله ابن عطية عن أكثر النحاة وقيل عن النبأ متعلق بمحذوف وهناك استفهام مضمر كأنه قيل عم أيتساءلون عن النبأ العظيم ووصف النبأ وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه الذي هم فيه مختلفون للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بمختلفون قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة إسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الأختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا الخ وشاك يقول ما ندري ما الساعة أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وقيل منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى وقد حمل الأختلاف على الأختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لأنكاره الصانع المختار تعالى شأنه ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الأختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والأستهزاء على أن ضمير يتساءلون وضميرهم للناس عامة وقيل يجوز أن يكون الأختلاف بالأقرار والإنكار على كون ضمير يتساءلون للكفار أيضا بأن يجعل ضميرهم للسائلين والمسؤلين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول وقال مفتي الديار الرومية الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبي صلى الله عليه و سلم بأن يعتبر في الأختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الأفتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالأستباق والتسابق والأنتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة و السلام فكأنه قيل الذي هم فيه مخالفون للنبي صلى الله عليه و سلم انتهى وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء وقرأ عبد الله وابن جبير تساءلون بغير ياء وشد السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين كلا ردع عن التساؤل عل الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الأختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم في أمر البعث وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إل ما فيها وقوله سبحانه سيعلمون وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الأستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد ومفعول يعلمون محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير (30/4)
عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل وقيل هو ما ينبيء عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه علىى معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يدي ربهم عز و جل والألم يظهر كون ما ذكر وعيدا ومن جعل ضمير يتساءلون للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين الجازمين به وجوز بعضهم كون كلا سيعلمون ردعا ووعدا على الرتداع والمراد ليرتدعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الأرتداع وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات وقوله تعالى ثم كلا سيعلمون قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة وثم للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وبهذا الأعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله أنه من التوكيد اللفظي وإن توسيط حرف العطف فلا تغفل وقيل الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء والثاني إشارة إل ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديد العذاب فثم في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه والظاهر أن العطف عل هذا وما قبله عل مجموع كلا سيعلمون وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف عل سيعلمون وأورد عليه أن إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه الدفع التخصيص بلا مخصص أنه عل الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتهما بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون كلا الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي عليه إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلا سيعلمون دون كلا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الإنكار أي الصريح وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما تر وقيل متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء عل إنكاره وثم في محلها أي سيعلمون حقية البعث إذا بعثوا ثم كلا سيعلمون الجزاء عل إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا وجوز أن يكون المتعلق مختلفا وثم للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحوال المؤمنين والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والقاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا بناء على أن ضمير يتساءلون للناس عامة لذلك أيضا بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا للكافرين وهما متفاوتان رتبة ولا يخفى عليك ما في ذلك وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر ستعلمون في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الألتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون الخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع حسن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلى الله عليه و سلم وعن الضحاك أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة وقوله تعالى ألم نجعل الأرض مهادا الخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته أثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع وجوز أن يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكون في البعث وقد عانيتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي والمهاد الفراش الموطأ وفي القاموس المهد الموضع الذي يهيأ للصبي (30/5)
كالمهاد وعليه فالمهد بمعن ويؤيده قراءة مجاهد وعيس الهمداني مهدا وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير أو التقدير ذات مهاد أو مهد وقيل كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا سمي به المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ للمفعول كالاله والإمام وجعل الأرض مهادا إما في أصل الخلقة أو بعدها وأيا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب ومذهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها والجبال أوتادا أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد قال إلا فوه والبيت لا يبتني إلاله عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وفي الحديث خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الحبال فاستقرت فقالت الملائكة ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال قال نعم الحديد فقالت ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار قال نعم الماء فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء قال نعم الهواء فقالوا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفي ذلك عن شماله وظاهره كغيره أن خلق الجبال بعد خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس أن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حديث منها بطول الزمان إن الجديدين إذا ما استوليا على جديد أسلماه للبلي وربما يشاهد حدوث بعض تلاع حجرية من انجماد بعض المياه واستشكل احتياجها للأرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكن ويكون عليها من الأثقال ما يكون ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز حجم ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق مثلا عليها تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر للمتحرك بعد قدر يحس به وقيل أنها كانت لخفتها بحيث يحركها أمواج البحر المحيط بها فيحصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا تحركها الأمواج وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد مر فتذكر وحكى عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سببا لانتظام أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما تهيأت للأنتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي كل محالية إرادة الظاهر نعم قيل أن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعلها كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الأشتراك والأرتباط فافهم وخلقناكم عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا الخ أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا الخ والألتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سيعلمون (30/6)
للمبالغة في الإلزام والتبكيت أزواجا قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش وقيل أصنافا في اللون والصورة واللسان وقيل يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين منى الرجل ومنى المرأة والمعنى خلقنا كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون خلقناكم أزواجا من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه وجعلنا نومكم سباتا أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة ويقال سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه وزعم ابن الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه أصم وقيل السبت التمدد كالسبط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والأمتنان به لما فيه من عدم الأنزعاج وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا أي سكونا وراحة سبت إذا استراح وزعم ابن الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد ليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الأحساس فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلام ومنه سمي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم وقيل سمي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز و جل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمى بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى وجعلنا الليل الذي يقع فيه النوم غالبا لباسا يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل واختار غير واحد إرادة الأعم وإن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيوم إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الأطلاع عليه من كثير من الأمور وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيادة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من هذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب وقاك ردي الأعداء تسري إليهم
وزارك فيه ذو الدلال المحجب وقال بعضهم يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة إخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلى عريانا في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة ولعمري لقد أتى عن لباس التحقيق كما لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وجعلنا النهار معاشا مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياء المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط وقيل المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم (30/7)
ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الأستتار وفي الكشف أن المطابقة بين قوله تعالى وجعلنا الليل لباسا وقوله سبحانه وجعلنا النهار معاشا مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى وجعلنا النوم من حيث أن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحي ومنه علم أن قوله تعالى وجعلنا الليل لباسا غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين أه فيه تعريض بالطيبي حيث زعم الأستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت وبنينا فوقكم سبعا شدادا أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للأشارة إلى تشبيها بالقباب المبنية على سكنتها وقيل للأشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلها سقفا في آية أخرى وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الأستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متي قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرلاات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة وفي وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لأستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الأستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكوكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الأعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الأدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته بقي ههنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة المنكرون للبعث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة فيقال أن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة هم المذكبون بالنبي صلى الله عليه و سلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها فقالوا في باديء الأمر بسبع سماوات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه واعترض بأن هذا لا يتم إلا إذا كانوا قائلين بأن السماء (30/8)
عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الأستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره وقيل أنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل وقيل نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة جعلنا الأرض إلى آخره وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عز و جل بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي بلم أوفق بالأستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل وتقديم الظرف على المفعول للتشويق اله مع الفواصل وجعلنا أي أنشأنا وأبدعنا سراجا وهاجا مشرقا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء ونصب سراجا على المفعولية ووهاجا على الوصفية له وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه ههنا مما يتعدى إليهما وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وأن قيل السراج الشمس وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في اتلسماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في البحر من عبد الله بن عمرو بن العاص قال الشمس في السماء إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوا والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف وأيهما خفى لونه فهو منكسف وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولاانكسافها بشيء من الكواكب غير القمر فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفاتها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معا والبصير على خط واحد مستقيم والألم يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والأبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للأبصار على ما نص عليه بطليموس في الأقتصاص وذهب بعض من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وأن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة (30/9)
النظام على ما بين في موضعه ومال إليه بطليموس قال في المجسطي ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يبعد عنها إلا يسيرا ثم قوى عزمه لما رأى بعد الشمس من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأنه لما وجد بين أبعد بهد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة قال في الأقتصاص مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير وفي الثاني في أسفله ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء وأهل الأرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالي جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل وأنزلنا من المعصرات هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل أنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كما جزر إذا حان وقت جزاره وأحصد إذا شارف وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض قال أبو النجم العجلي تمشي الهوينا مائلا خمارها
قد عصرت أو قد دنا أعصارها وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لأها أن تعصر أي تغيث ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كسيان سميت السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر وقيل أنها جمع لذلك أيضا إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة أنها الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر وفسرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل للنسبة إلا الأعصار بالكسر وهي ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضا إلا أنه قال المعصرات السحائب ذرات الأعاصير فإنها لا بد أن تمطر معها وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة بالمعصرات بياء السببية والآلية فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل الماء من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير المعصرات بالرياح للتعليل وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للأنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد ابن أسلم ومقاتل وقتادة أيضا أنها السماوات وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكان السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر ولو قيل المراد بالعصر الذي حان له أن يعصر كان تكلفا (30/10)
على تكلف والذي في الكشف أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل ماء ثجاجا أي منصبا بكثرة يقال ثج الماء إذا سال بكثرة وثجه أي أساله فثج ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في النظم الكريم من اللازم لأنه الكثر في الأستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كان الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في قوله صلى الله عليه و سلم أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدى والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأتي الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية وقرأ الأعرج ثجا جاء بجيم ثم حاء مهملة ومثاجح الماء مصابه لنخرج به أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده حبا ونباتا ما يقتاب به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الأخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الأنسان وجنات جمع جنه وهي كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر وقال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قول زهير
من النواضح تسقى جنة سحقا
وهو المراد هنا وقوله تعالى ألفافا أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة واختاره الزمخشري وقال ابن قتيبة جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع الجمع واستبعد بأنه لم يجيء في نظائره وذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجيء أخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعا لفاعل وفي الكشاف لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها انتهى وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في الكشف فقال فيه أنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت أما جمعه فلا لكن قيل أن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يعترضوا له لقتله والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال بأطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الأقليد أنه قال أنشدني الحسن بن علي الطوسي جنة لف وعيش مغدق
وندامى كلهم بيض زهر وجوز في القاموس أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيقته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عز و جل فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا اخرج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء وقوله تعالى إن يوم الفصل كان ميقاتا شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين متى هذا (30/11)
الوعد إن كنتم صادقين ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جري به الوعيد إجمالا وقال بعض الأجلة أنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل إن الخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز و جل ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأيا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه يوم ينفخ في الصور أي النفخة الثانية ويوم بدل من يوم الفصل أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيت الفصل ومباديه وآثاره وتقدم الكلام في الصور وقرأ أبو عياض في الصور بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضا والفاء في قوله تعالى فالأتون فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الأتيان كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا أفواجا أي أمما كل أمة بأمامها كما قال سبحانه يوم ندعو كل أناس بأمامهم أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها واستدل لهذا بما خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا فقال يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة و السلام عشرة أصناف قد ميزهم الله عز و جل من جماعة المسلمين فبدل صورهم فبعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها وبعضهم عمي يترددون وبعضهم صم بكم لا يعقلون وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبهضهم مصلبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمى فالذين يجورون في الحكم وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه وعليه قيل لا بد من تغليب في قوله تعالى تأتون إذ لا يمكن الأتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشى بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية وفتحت السماء عطف على ينفخ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وعن الزمخشري أنه معطوف على فتأتون وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في الكشف وقال الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيما وتحقيقا لوقوعه فهو أقرب (30/12)
قريب منه ولو جعل حالا على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين فتحت بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى فكانت أبوابا وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى إذا السماء انشقت وقوله سبحانه إذا السماء انفطرت إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضا وجاء الفتح بهذا المعنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الأشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان بمعنى صار ولدلالتها على الأنتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبوابا حقيقة قالوا أن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب وقيل الفتح على ظاهره والكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كان كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى ويوم تشق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضا فتح أبوابها ليس من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم أن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وأن حقق الملا صدرا في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤل له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف وسيرت الجبال أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش فكانت سرابا أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليست بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلا من الجبال والسراب يرى على شكل شيء وليس هو بذلك الشيء وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا من الأزهار البديعة في علم الطبيعة لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكانت أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض والأنعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلا صور حاصلة من أنعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز و جل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي وقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلا بعد النفخة الثانية وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى وقيل إن تسييرها وصيرورتها (30/13)
سرابا عند النفخة الأولى أيضا ويأباه ظاهر الآية نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم أنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر إن جهنم كانت مرصادا شروع في تفصيل أحكام الفصل أضيف إليه اليوم أثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجمع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزنة النار ليعذبوهم وقيل ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها وقيل ترصد الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب أحدهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمتحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفا وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه وفي البحر أن مرصادا معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار وقوله تعالى للطاغين أي المتجاوزين الحد في الطغيان متعلق بمضمر أما نعت لمرصادا أي كائنا للطاغين وأما حال من قوله تعالى مآبا قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو بمرصاد وعليه قيل معنى مرصادرا لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعددت وكافأته بالخير أو الشر ومآبا قيل بدل من مرصادا على جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل هو ثان لكانت أو صفة لمرصادا وللطاغين متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في كانت مرصادا فتأمل وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر أن جهنم بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لأقامة الجزاء وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون أن للمتقين أيضا بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بأقامة الجزاء إلا أن يقال ترك العطف للأشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى لابثين فيها أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في للطاغين وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وروح لبثين بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابثين وقال أبو حيان أن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على شأنه ذلك كحاذر وحذر وقوله تعالى أحقابا ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس (30/14)
وابن المنذر عن ابن عمر وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا أن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون وقيل أربعون سنة وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأيا ما كان فالمعنى لا بثين فيها أحقابا متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الأستعمال بشهادة الشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف الراكب والمتتابعات يكون أحدهما خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان التتابع في الأستعمال وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى وتتابع الأحقاب القليلة كذلك وقيل أن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أب بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل أنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه أن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود وقوله تعالى وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم إلى غير ذلك وأن جعل قوله تعالى لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا حالا من المستكن في لابثين فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب وكذا أن جعل أحقابا منصوبا بلا يذوقون قيدا له إلا أن فيه بعدا ومثله لو جعل لا يذوقون فيها الخ صفة لأحقابا وضمير فيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى وقول مقاتل ان ذلك منسوخ بقوله تعالى فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا فاسد كما لا يخفى وجوز أن يكون أحقابا جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطاه الرزق وحقب العام إذا قل مطره وخيره والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير لابثين وقوله تعالى لا يذوقون صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير والشراب معروف والحميم الماء الشديد الحرارة والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيها شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا وفي الحديث أن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ ومنه قول حسان بن ثابت يسقون من ورد البريص عليهم
برد يصفق بالرحيق السلسل (30/15)
وقول الآخر أماني من سعدي حسان كأنما
سقتك بها سعدي على ظما بردا فيكون ولا شرابا من نفي العام بعد الخاص وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرم النوم والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد البرد وقال الشاعر فلو شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا أي وهو مجاز في ذلك عند بعض ونقل في البحر عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل وعن ابن عباس وأبي العالية الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بردا إلا أنه أخر لتوافق رؤس الآي فلا تغفل وقرأ غير واحد من السبعة غساقا بالتخفيف جزاء أي جوزوا بذلك جزاء فجزاء مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء وقوله تعالى وفاقا مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأيا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون وفاقا مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء وقال الفراء هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وفاقا بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله وفي الكشف وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا يخفى وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه إنهم كانوا لا يرجون حسابا تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم وكذبوا بآياتنا الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به كذابا أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مطرد شائع في كلام فصحاء العرب وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي
وعن حاجة قضاؤها من شفائيا وقال ابن مالك في التسهيل أنه قليل وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف قال صاحب اللوامح وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه قول الأعشى فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كذابه والكلام هنا عليه من باب أنبتكم من الأرض نباتا ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بآياتنا وكذبوا كذابا أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون وأيا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الأعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلا كذب الآخر حقيقة ويجوز أن تكون المفاعلة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والأجتهاد في الفعل ويحتمل الأستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذيبن على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون كذابا بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قول طرفة (30/16)
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا
به حين يأتي لا كذاب ولا علل وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردا صيفة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا كذابا فيفيد المبالغة والدلالة على الأفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والأسناد فيه مجازي وكل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم وقال أبو حيان أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره أحصيناه أي حفظناه وضبطناه وقرأ أبو السمال بالرفع على الأبتداء كتابا مصدر مؤكد لأحصيناه فإن الأحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فإما أن يؤول أحصيناه بكتبناه أو كتابا بإحصاء وجوز الأحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح أو صحف الحفظة والظاهر أن الكلام على حقيقته وقال بعضهم الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلا فهو عز و جل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلا فالأنضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للأحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لاحق بهم لأن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك وقال البعض الأوجه عندي إن كل شيء منصوب بالعطف على إسم أن في أنهم لا يرجون حسابا وأحصيناه كتابا عطف على خبره والرفع العطف على محل اسم إن والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقا لأعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الوليان لأفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لأفادة الضبط وعدم الفوت أي مع دماج الأشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضا انتهى ولا يخفى ما فيه من التكلف فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور وقيل الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى لا يذوقون فيها بردا الخ إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم ذوقوا فلن نزيدكم الخ وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الأعتراض ومجيئه على طريق اللتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار فقال قول الله تعالى فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ووجه الأشدية على ما قيل أنه تقريع في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأييد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة وقيل يحتمل أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار وفيه من البعد ما فيه واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزاء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لو لاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى وقيل أن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوما فيوما وقيل (30/17)
لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى أشد عذاب والعذاب المزاد يوما فيوم من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل إن للمتقين مفازا شروع في بيان أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومفازا مصدر ميمي أو اسم مكان أي أن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو موضع فوز نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة حدائق بدل اشتمال من مفازا على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك وجوز أن يكون بدل كل على الأدعاء أو منصوبا بأعني مقدرا وهو جمع حديقة وهي بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر وقال الراغب قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر وأعنابا جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الأشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكروم وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطفا على مفازا وكواعب جمع كاعب وهي المرأة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية أترابا أي لدات ينشأن معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين وكأسا دهاقا أي مترعة يقال دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قول الشاعر أتانا عامر يبغي قرانا
فاترعنا له كأسا دهاقا وفي البحر الدهاق الملأي مأخوذ من الدهق وهو ضبط الشيء وشده باليد كأنه لأمتلائه انضغط وعن مجاهد وجماعة تفسيره بالمتتابعة وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه قالهي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول يا غلام اسقنا وادهق لنا وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال أي صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول لا يسمعون فيها أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية لغوا هو لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وكذا ما لا يعتد به مطلقا ولا كذابا أي تكذيبا وقريء بالتخفيف أي كذابا أو مكاذبة وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعا من الذات الحسية كما لا يخفى جزآء من ربك مصدر مؤكد منصوب بمعنى أن للمتقين مفازا فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين بمفازا جزاء كائنا من ربك والتعرض لعنوان الربوبية للأشارة إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة و السلام دونهم لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل لم يقل من ربهم لئلا يحمله المشركون على أصنامهم وهو بعيد جدا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك من ربك فيما تقدم من قوله تعالى جزاء وفاقا وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه تعالى بعنوان آخر قيل من باب اللهم أن الخير بيديك والشر ليس إليك وقوله تعالى عطاء أي تفضلا وإحسانا منه عز و جل إذ لا يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء فمعنى كونه جزاء أنه كذلك بمقتضى وعده وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به وتعقب أبو حيان بأن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف لعلمه عند النحاة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا كان الناصب للمفعول المطلق مذكورا أما (30/18)
إذا حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العامل أو الفعل وقال الشهاب الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من اللفظ بفعله
كندلا زريق المال ندل الثعالب
وقوله يا قابل التوب غفرانا مآثم قد
أسلفتها أنا منها خائف وجل فليعرف وقوله تعالى حسابا صفة عطاء بمعنى كافيا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء غذا كفاه حتى قال حسبي وقيل على حسب أعمالهم أي مقسطا على قدرها وروي ذلك عن مجاهد وكان المراد مقسطا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل أنه غير مناسب لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وفاقا كما في السابق ودفع أيضا بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقا وقيل المعنى عطاه مفروغا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع ما فيه من الإيهام وقرأ ابن قطيب حسابا بفتح الحاء وشد السين قال ابن جني بني فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه محسبا أي كافيا ومنع بعضهم مجيء فعالا من الأفعال ودراك من درك فليحرر وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء وشد السين على أن مصدر ككذاب وقرأ ابن عباس حسنا بالنون من الحسن وحكى المهدوي حسبا بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك رب السماوات والأرض وما بينهما بدل من لفظ ربك وفي إبداله تعظيم لا يخفى وإيماء على ما قيل إلى ما روي في كتب الصوفية من الحديث القدسي لو لاك لما خلقت الأفلاك وقوله تعالى الرحمن صفة لربك أو لرب السماوات على الأصح عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعروف بها وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ ربك قال في البحر فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر وقوله تعالى لا يملكون منه خطابا استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة من غاية العظمة استقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم وقرأ العرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الأسمين فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السماوات الخ وقيل الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيمن وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يملكون منه خبر آخر أو هو الخبر والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يملكون حال لازمة وقيل الأول مبتدأ أول والثاني مبتدأ ثان ولا يملكون خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على رأي من يقول به واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني صفة للأول ولا يملكون استئنافا على حاله لما في ذلك من توافق القراءتين معنى وقرأ الأخوان والحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ما سمعت ورفع الثاني على البتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان وضمير لا يملكون لأهل السماوات والأرض ومنه بيان لخطاب مقدم عليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبيء عنه لفظ الكلك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه عز و جل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه تعالى على أبلغ وجه وآكده وجوز أن يكون منه صلة يملكون ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم خطاب يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من العقاب وهذا كما تقول ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر منه حالا من خطابا مقدما وإضمار مضاف أي خطابا (30/19)
من خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب وظاهر كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الأعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا أي لا يملكون خطابه تعالى والأعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز و جل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا وأيا ما كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز و جل وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يملكون للمشركين وعدم الصلاحية عليه أظهر يوم يقوم الروح والملائكة صفا قيل الروح خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين وقيل هو ملك ما خلق الله عز و جل بعد العرش خلقا أعظم منه عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيد وأرجل وفي رواية يأكلون الطعام ثم قرأ يوم يقوم الروح والملائكة صفا وقال هؤلاء جند وهؤلاء جند وروي القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح وقيل هم أشراف الملائكة وقيل هم حفظة الملائكة وقيل ملك موكل على الأرواح قال في الأحياء الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال إن جبريل عليه السلام يقوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله تعالى يقول سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وإن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن الحبر وقيل القرآن وقيامه مجاز عن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويوم للا يملكون وصفا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروخ صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى والملك صفا صفا وقيل يوم يقوم الروح والملائكة الكل صفا واحدا وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى لا يتكلمون وقوله سبحانه إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بدل من ضمير لا يتكلمون وهو عائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء ربوبيته عز و جل وتهويل البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مطلقها والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على معنى أن أهل السماوات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له بعد الأذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما وجوز أن يكون ضمير لا يتكلمون إلى الروح والملائكة والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى لا يملكون الخ أيضا لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكره بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الأعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقا (30/20)
وأنت تعلم أن من أهل السنة من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصدي من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالأطلاع على ما غاب عنا والمنسبة في النزاهة وقلة الواسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الأعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادا في التبسط والدلال عليه وعن ابن عباس أن ضمير لا يتكلمون للناس وجوز أن يكون إلا من أذن الخ منصوبا على أصل الأستثناء والمعنى لا يتكلمون إلا من حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روي عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل يجوز أن يكون قال صوابا في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفا على أذن ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضا لكن من ضمير يتكلمون باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه جملة لا يتكلمون حال من الروح والملائكة أو من ضميرهم في صفا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الأذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم للأشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز و جل وذلك إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الأبتداء خبره قوله تعالى اليوم الموصوف بقوله سبحانه الحق أو هو الخير واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز و جل فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تفصح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإلى ربه متعلق بما قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر مآبا أي سبيلا وتعلق الجار به لما فيه من معنى الأفضاء والإيصال والأول أظهر وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز و جل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد منه شاء أم لا والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الإيمان والطاعة ولا ثواب بدونهما وقيل لتقدم قوله تعالى للطاغين مآبا فإن لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة إنا أنذرناكم أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم عذابا قريبا هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز و جل أو يقال البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فإن الظاهر أنه (30/21)
ظرف لمضمر هو صفة عذابا أي عذابا كائنا يوم الخ وليس ذلك اليوم إلا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من عذابا أو ظرف لقريبا وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل والظاهر أن المرء عام للمؤمن والكافر وما موصولة منصوبة بينظر والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بقدمت أي ينظر أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوة ينظر جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا وقرأ ابن أبي إسحاق المرء بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومر أو مرء على حسب الأعراب ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرورو وقال عطاء المرء هنا الكافر لقوله تعالى إنا أنذرناكم وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلا أنه وضع الظاهر موضعه لزيادة الذم وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهو الوجه لقوله تعالى فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا وأنا أنذرناكم لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على الأختصاص وقال ابن عباس وقتادة والحسن والمراد به المؤمن قال الإمام دل عليه قول الكافر فما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا ليتني كنت ترابا في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد أن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله وإلى حشر البهائم والأقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوين إن شاء الله تعالى وقيل الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة و السلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره لما قال خلقتني من نار وخلقته من طين وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالأتفاق وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الأنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز و جل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه (30/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا أقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الأطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد أو أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن حميد عن قتادة وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيؤها لأدراك ما أعد لها من الآلام واللذات ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب بشدة وقد أردف بقوله تعالى غرقا وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد وقيل هو نوع والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار وقال ابن مسعود تنزع الملائكة روح الكافر من جسده من تحت شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده مرارا فهذا عملها في الكفار والنشط الأخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة قال بعض السلف أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الأستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج أن النشط حل برفق ويقال كما في البحر انشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت والأنشوطة عقدت يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة فإذا جعلت الناشطات من النشط بهذا المعنى كان أوفق للأشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغايل العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للأشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للأجلال والأعظام بالأقسام به من غير الضمام الأخر إليه ولو جعلت النازعات ملائكة العذاب والناشطات ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة وانتصاب نشطا وسبحا وسبقا على المصدرية كانتصاب غرقا وأما انتصاب أمرا فعلى المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم وجوز أن يكون غرقا مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا وظاهر تفسير الناشطات أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف والسابحات دخولهم فيه لأخراجها علىما قيل وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيئته ولا مانع من أن يراد به مجرد الأتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والعطف عليه لتغاير الموصوفات وأيا ما كان (30/23)
فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير والنازعات الخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة وقيل أقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول هميان بن قحافة أرى همومي تنشط المناشطا
الشأم بي طورا وطورا واسطا وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة وحركاتها من برج بإراداتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروي حمل النازعات على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كسيان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السابحات عليها عن الأولين وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها والمدبرات عليها من معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في النفوس إذا بلغ غاية المد ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها أياها حيث الفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام أنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه وقد نقل على جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره الغزالي ولذا قيل وليس بحديث كما توهم تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور أي أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم وحمله بعضهم على الأحياء المتمثلين أمر موتوا وقيل أن تموتوا وتفسير النازعان بالنفوس مروي عن السدي إلا أنه قال هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها والناشطات بها عن ابن عباس أيضا ألا أنه قال هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن مسعود إلا أنه قال هي أنفس المؤمنين إلى الملائكة عليهم السلام والذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالأجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهيو فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الأرتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة وقيل إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسى بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها وإسناد السبح ومابعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة وحمل النازعات على الغزاة مروي عنعطاء إلا أنه قال هي النازعات بالقسى وغيرها وقيل بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي أعنتها مدا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب وحمل السابحات على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون (30/24)
من الحركة الإرادية للكوكب وهي حرحته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل المدبرات على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاصلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء والكل جهل وإن كان الثاني جهلا نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبريء سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز و جل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له ونقل الإمام في هذا المقام عن الغزالي أنه قال أن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعدان يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في المباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة والناشطات نشطا إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان الأول قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والأطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين أحدهما السابحات سبحا فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة وثانيهما فالسابقات سبقا وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي والثاني شرح قوتهم العامة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى والمدبرات أمرا ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة انتهى وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن مجاهد النازعات المنايا تنزع النفوس وحكي يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلا وعن الأول تفسير الناشطات بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر وعنه أيضا تفسير السابحات بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر وعن بعض تفسير السابقات بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير المدبرات بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال (30/25)
يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر المنزل عليهم لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجع عندي نظرا للمقام والله تعالى أعلم وقوله سبحانه يوم ترجف الراجفة منصوب بالجواب المضمر والمراد بالراجفة الواقعة أو النفخة التي ترجف الأجرام عندها على السناد إليها لأنها سبب الرجف أو التجوز في الطرف بجعل سبب الرجف راجفا وجوز أن تفسر الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في القاموس وهي النفخة الأولى وقيل المراد بها الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى يوم ترجف الأرض والجبال وتسميتها راجفة باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله تعالى تتبعها الرادفة أي الواقفة أو النفخة التي تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية وقيل الأجرام التابعة وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتثر بعد والجملة حال من الراجفة مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بد من امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون عند الرادفة أعني النفخة الثانية وبينها وبين الأولى أربعون لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين وقيل يوم ترجف منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهموقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى قلوب يومئذ واجفة أي يوم ترجف وجفت القلوب أي اضطربت يقال وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع وكذلك وجب وجيبا وجيبا وروي عن ابن عباس أن واجفة بمعنى خائفة بلغة همدان وعن السدي وعن مكانها ولم يجعل منصوبا بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يومئذ والتأسيس أولى من التأكيد فلا يحمل عليه كيف وحذف المضاف وإبدال التنوين مما يأباه أيضا ورفع قلوب على الأبتداء ويومئذ متعلق بواجفة وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة وجاز الأبتداء بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص نعم التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما اعتبر في شرأ هر ذا ناب وقيل واجفة صفة قلوب مصححة للأبتداء بها وقوله تعالى أبصارها خاشعة أي أبصار أهلها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة وجوز أن يراد بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكني بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك وبحث في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية لقلوب وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة الأنتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد أن الصفات قبل العلم بها أخبار والإخبار بعد العلم بها صفات فحيث كان ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لأبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول (30/26)
تهوين للخطب في موقع التهويل انتهى وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على أطراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض الأجلة من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع الباسه مخالف للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الأنصاف وزعم ابن عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى يومئذ وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال نحن نقدره كذلك ونجعل يوم ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تتبعها الرادفة صفة للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو أمر على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وفيه ما فيه وقيل أن الجواب تتبعها الرادفة ويوم منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل وليس بذاك وقال محمد بن علي الترمذي أن جواب القسم أن في ذلك لعبرة لمن يخشى وهو كما ترى ومثله ما قيل هو هل أتاك حديث موسى لأنه في تقدير قد أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فإذا هم بالساهرة والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا وقوله تعالى يقولون أءنا لمردودون في الحافرة حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به أثر بيان وقوعه بطريق التوكيد وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والبصار أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه ائنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة أي في الحالة الأولى يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره وقيل أنه تعالى شأنه لما أقسم على البعث وبين ذلهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث وردهم إلى الحياة بعد الموت فالأستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك والظاهر ما تقدم وإن القول في الدنيا وأيا ما كان فهو من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذات حفر أو السناد مجازي أو الكلام على الأستعارة المكنية بتشبيه القابل بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا وذلك نظير ما ذكروا في عيشة راضية ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله أحافرة على صلع وشيب
معاذ الله من سفه وعار يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا ومنه المثل النقد عند الحافرة فقد قيل الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد التأويلات وقيل الحافرة جمع الحافر بمعنى القدم أي يقولون أئنا لمردودون أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن إداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر وعن مجاهد الحافرة القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة في الحفرة بفتح الحاء وكسر الفاء على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء للمجهول يقال حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر الأكال في أسنانها وتغيرت ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى أءذا كنا عظاما نخرة تأكيد لأنكار البعث بذكر حالة منافية له والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون أي أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة وقرأ (30/27)
نافع وابن عامر إذا كنا بإسقاط همزة الأستفهام فقيل يكون خبر استهزاء بعد الأستفهام النكاري واستظهر أنه متعلق بمردودون وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر ناخرة بالألف وهو كنخرة من نخر العظم أي بلى وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبني تدل على زيادة المعنى أغلبي أو اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم وفعل صفة مشبهة نعم تلك القراءة أوفق بروس الآي واختيارها لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى الأبلغية ذهب المعظم وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى وقال عمرو بن العلاء النخرة التي قد بليت والناخرة التي لم تنخر بعد ونقل اتحاد المعنى على الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين وقوله تعالى قالوا حكاية لكفر آخر متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الأطراد والأستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبيء عنه حكايته بصيغة المضارع أي قالوا بطريق الأستهزاء مشيرين إلى ما انكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع تلك إذا كرة خاسرة أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الأستهزاء وقال الحسن خاسرة كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إذا كنا عظاما نخرة كرة ليست بكائنة وقوله تعالى فإنما هي زجرة واحدة تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها وقيل هي راجع إلى الرادفة وقوله تعالى فإذا هم بالساهرة حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتا في بطنها وعلى الأول بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل وجه الأرض والفلاة وأنشد وأقول أمية ابن أبي الصلت وفيها لحم ساهرة وبحر
وما فاهوا به أبدا مقيم وفي الكشاف الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة قال الأشعث بن قيس وساهرة يضحى السراب مجللا
لأقطارها قد جبتها ملتثما أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز وعلى الثاني السهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب فيها قولين الأول أنها وجه الأرض والثاني أنها أرض القيامة ثم قال وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى نحو ما قال الشاعر
تحرك يقظان التراب ونائمه
وروي الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط يخلقها عز و جل حينئذ وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل هي الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس وقال أبو العالية وسفيان أرض قريبة من بيت المقدس وقيل الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم وقال قتادة هي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها وقوله تعالى هل أتيك حديث موسى كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم ومعنى هل أتاك أن اعتر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة و السلام من حديثه عليه السلام (30/28)
ترغيب له صلى الله تعالى عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الأقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين وقوله تعالى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في طوي إذهب إلى فرعون على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذهب الخ وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير المصدرية قبلها حرف جر إنه طغى تعليل للأمر أو لوجوب الأمتثال به فقل بعد ما أتيته هل لك إلى أن تزكى أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإلى أن تزكى متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر فهل لكم فيها إلى فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بقي ويقدر المبتدأ وغبة ونحوه مما يتعدى بها ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدي بها أيضا وقال أبو البقاء لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتزكى بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمر بخلاف تزكى بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي وأهديك إلى ربك أي أرشدك إلى معرفته عز و جل فتعرفه فتخشى إذا الخشية لا تكون إلا بعد معرفته قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل وفي الأستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والأستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية والفاء في قوله تعالى فأريه الآية الكبرى فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فذهب وكان كيت وكيت فأراه واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى اذهب يدل عليه فهو على نحو اضرب بعصاك الحجر فانبجست والإراءة إما بمعنى التبصير أو بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها وادعاء سحريتها إنما كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة و السلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى ولقد أريناه آياتنا بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصاحية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها وعلى ما روي عن مجاهد وذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى اذهب أنت وأخوك بآياتي باعتبار ما في تضاعيفهما منبدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده ويزيده بعدا ترتيب حشر السحرة بعد فإنه لم يكن إلا على إراءة تينك الآيتين وإدباره عن العمل بمقتضاهما وأما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة وزعم غلاة (30/29)
الشيعة أن الآية الكبرى علي كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء العقل وطور النقل فكذب بموسى عليه السلام وسمى معجزته سحرا وعصى الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز و جل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقلبها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز و جل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى وعصاه من الذم كما لا يخفى ثم أدبر تولى عن الطاعة يسعى أي ساعيا مجتهدا في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك ونقضه يقتضي زمانا طويلا وجوز أن يكون الدبار على حقيقته أي ثم انصرف عن المجلس ساعيا في إبطال ذلك وقيل أدبر يسعى هاربا من الثعبان فإنه روي أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون زراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت يقول فرعون أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصى وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته ههنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل إن ثم عليه للدلالة على استبعاد إدباره مرعوبا مسرعا مع زعمه الإلهية وقيل أريد بقوله سبحانه ثم أدبر ثم أقبل من قولهم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الأدبار موضع الأقبال تمليحا وتنبيها على أنه كان عليه دمارا وإدبارا فحشر أي فجمع السحرة لقوله تعالى فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وقوله سبحانه فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى أي بما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد أهل مملكته فنادى في المجمع نفسه أو بواسطة المنادى وأيد الول بقوله تعالى فقال أنا ربكم الأعلى وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال يقول فرعون أنا ربكم الخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم فأخذه الله نكال الآخرة والأولى النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الأحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا وجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة الخ وأن يكون نفعولا له أي أخذه لأجل نكال الخ وأن يكون نصبا بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو الظاهر وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته أنا ربكم الأعلى والأولى قولته ما علمت لكم من إله غيري وقيل بالعكس فهما كلمتان (30/30)
وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة وقال أبو رزين الأولى حالة كفره وعصيانه والآخرة قولته أنا ربكم الأعلى وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى المسبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال وجعل ذلك النكال الأغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام إن في ذلك أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به لعبرة عظيمة لمن يخشى أي لمن شأنه أن يخشى وهو من من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للأعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل ومن كان من شأنه ذلك على ما قيل وقوله تعالى ءأنتم أشد خلقا خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه فإنما هي زجرة واحدة ونصب خلقا على التمييز وهو محول عن المبتدأ أي أخلقكم بعد موتكم أشد أي أشق وأصعب في تقديركم أم السماء أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى بناها الخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى أم السماء وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز و جل ما لا يخفى وقوله سبحانه رفع سمكها بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الأمتداد من العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلا أن يمنع عنه مانع فسواها أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز و جل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع وقيل جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا بعضها زاوية وبعضها خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير وقالوا وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها تتميمها بما به كما لها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بين في علم الهيئة من قولهم سوى أمره أي أصلحه أو من قولهم استوت الفاكهة إذا نضجت وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السماوات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها أهل الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وأغطش ليلها أي جعله مظلما يقال غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال ظلم وأظلمه ويقال أيضا أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش قال الأعشى عقرت لهم ناقتي موهنا
فليلهم مدلهم غطش وفي البحر عن كتاب اللغات في القرآن أغطش أظلم بلغة أنمار وأشعر وأخرج ضحاها أي أبرز نهارها والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمي به الوقت (30/31)
المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة وقيل الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكني بذلك عن النهار والأول أقرب وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها وقيل إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام المتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو هما إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كل في فلك يسبحون وإن الفلك ليس إلا مجرى الكوكب في السماء وقيل أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه وفي الكشاف أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر وقيل إضافتهما إليها باعتبار أنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الأعتبار ما لم يكد يخطر في اذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوى وتعقب بأنهم قالوا إن ظل الأرض المخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل وبالجملة الأضافة لأدنى ملابسة والأرض بعد ذلك الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وأخراج النهار دون خلق السماء فقط وانتصاب الأرض بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى ومعنى قوله تعالى دحاها بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من ادحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت وبث الخلق فيها إذ دحاها
فهم قطانها حتى التنادي وقيل دحاها سواها وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها
بأيد وأرسى عليها الجبالا والأكثرون على الأول وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى فقال إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ قال قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين حتى بلغ ثم استوى إلى السماء وقوله تعالى والأرض بعد ذلك دحاها قال خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق ألسماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء وإنما قوله سبحانه دحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا مادتها أولا ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات إن السماء خلقت مادتها أولا ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض (30/32)
جميعا ثم استوى إلى السماء الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السماوات ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السماوات وأجيب بأن خلق في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة إن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولا فلو لا سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل ومن الناس من حمل ثم على التراخي الرتبي لأن السماء أعجب ومن خلق الأرض وقال عصام الدين أن بعد ذلك هنا كما في قوله تعالى عتل وبعد ذلك زنيم يعني فعل بالأرض ما فعل بعد ما سمعت في السماء والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الأشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر فقال ابن الطاشكبري نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة وإن البعدية ههنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خلق الأرض في يومين وكذا في قوله سبحانه وجعل فيها رواسي وقالوا يؤيد ما ذكر قوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أئتينا طائعين فإن الظاهر أن المراد أئتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها منالرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين واوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي اليقة والدخان على خلق السماوات والعكس ههنا أن المقام في الأولين مقام الأمتنان وتعداد النعم على أهل الطفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نفمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدلانتهى وفي الكشف أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلا ما نقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل أن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من أطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الأرض منصوبا بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا (30/33)
المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل ثم بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة ويقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الأثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المرام وقوله تعالى أخرج منها مآءها بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا ومرعاها يقع على الرعي بالكسر وهو الكلأ والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل أنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للأنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن وقال الطيبي يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة أأنتم أشد خلقا كأنه قيل أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وكلا الوجهين مقتض لتجريد الجملة عن العاطف وقوله تعالى والجبال منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه أرساها أي أثبتها وفيه تنبيه على الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول وقرأ عيسى برفع الأرض والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع الأرض والجبال وهو على ما قيل على البتداء وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى بناها بيان لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه رفع سمكها بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الأختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك وقيل أن جملة قوله تعالى والأرض الخ على القراءتين ليست معطوفة على قوله سبحانه رفع سمكها لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء وجملة إسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى وجوز عطف الأرض بالرفع على السماء من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض (30/34)
بعد ما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى دحاها الخ وزان قوله تعالى بناها الخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء وقوله تعالى متاعا لكم ولأنعامكم قيل مفعول له أي فعل ذلك تدمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره وقيل مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك متاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى أخرج منها ماءها ومرعاها في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصا بالحاضرين إلا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا النصب على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث وقوله سبحانه فإذا جاءت الطامة الكبرى الخ شروع في بيان معادهم أثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز و جل متاعا الخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبيء عنه لفظ المتاع والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل جرى الوادي فطم على القرى وجاء السيل فطم الركي وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل فوصفها بالكبرى للتأكيد ولو فسر كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك وأنت تعلم أن الطامة الكبرى صارت كالعلم للقيامة وروي كونها اسما من أسمائها هنا عن ابن عباس وعنه أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم يوم يتذكر الإنسان ما سعى بدل كل أو بعض من غذا جاءت على ما قيل وقيل بدل من الطامة الكبرى فيكون مرفوع المحل وفتح لأضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين وتكون الطامة حقيقة التذكر البروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الأبتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة ألا يخفى تعسفه وقيل ظرف لجاءت وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيرا للطامة الكبرى وما موصولة وسعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفته وقد كان نسيه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى أحصاه الله ونسوه ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر وجوز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه وبرزت الجحيم عطف على جاءت وقيل على يتذكر وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه والموصول بعد مغن عن العائد وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل ومعنى برزت أظهرت إظهارا بينا لا يخفى على أحد لمن يرى كائنا من كان يروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء وقرأت عائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار وبرزت مبنيا للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها ويجوز أن (30/35)
تكون خطابا لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون أي لمن تراه من الكفار وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو وبرزت مبنيا للمفعول مخففا وقوله تعالى فأما من طغى الخ جواب إذا على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى فأما يأتينكم مني هدى الآية وقولك إذا جاءك بنو تميم فأما العاصي فأهنه وأما الطائع فأكرمه واختاره أبو حيان وقيل جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف وقوله سبحانه فأما الخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلا زيادة المبالغة وتحقيق الترتب والثبوت على كل تقدير وقيل هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤن قسمين وليس بذاك أي فأما من عنا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر وآثر أي اختار الحياة الدنيا الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة فإن الجحيم التي ذكر شأنها هي المأوى أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن ألأفي مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عد كونها عوضا ورابطا وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري وهي أما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها وأما من خاف مقام ربه أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مقام مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز و جل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله تعالى أكرمي مثواه وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن ونهى النفس عن الهوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى الشهوات وضبطها بالصبر والتوطيب على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها وعن ابن عباس ومقاتل أنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يدي ربه سبحانه فيخاف فيتركها وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمى بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه قال بعض الحكماء إذا أردت الصواب فانظر هواك غخالفه وقال الفضيل أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي فخالف هواها واعصها أن من يطع
هوى نفسه تنزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده
وترم به في مصرع أي مصرع إلى غير ذلك وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلا أن السالم من من الموافقة قليل سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه فإن الجنة هي المأوى له لا غيرها والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزيز بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى (30/36)
رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة و السلام متشحطا في دمه قال عند الله تعالى أحتسبك وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الولى في النضر وابنه الحرث المشهورين باللغو في الكفر والطغيان يسئلونك عن الساعة أيان مرساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها فالمرسي مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الأستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل وتقدير الأستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله كما أن الخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الأستعارة بجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل وقوله تعالى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبيء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا قليلا وأما رد لما أدمجوه في سؤالهم فلإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الأستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الأستهزاء بها ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية الخ وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث أنك إذا قلت لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الأستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه وقال الطيبي إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الأحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الأضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون الليث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الأعتقاد بمن لم يلبث الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فيم ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل أن قوله تعالى فيم الخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك الخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أنت من ذكراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت الخ والجواب عليه قوله تعالى إلى ربك منتهاها ولا يخفى ضعف ذلك وأخراج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت ما زال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فانتهى عليه الصلاة و السلام فلم يسأل بعدها وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فيهم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألون عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز و جل يسألونك كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر وقوله تعالى فيم أنت من ذكراها إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يسألونك كأنك حفي عنها فالأستفهام للإنكار وفيم خبر مقدم وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فيم إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتديء فقيل أنت من ذكراها أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم فمعنى قوله تعالى إلى ربك منتهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز و جل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها وقوله تعالى إنما أنت منذر من يخشاها عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه فيم أنت من ذكراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة و السلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن ليس له عليه الصلاة و السلام أن يذكرها بوجه من الوجوزه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكراها بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها فالمعنى إنما انت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الأمتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما لم تبعث ولم يفوض إليك أمره وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أنت من ذكراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة و السلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى ما أنت إلا منذر لا معلم بالوقت مبين له وإنما ذكر صلة المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في الصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى أي ما أنت منذر إلا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه (30/37)
قيل عليه أن من يخشى من صلة منذر ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الأنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل والظاهر على الثاني أن إنما لمجرد التأكيد زيادة في الأعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب حفى عنها يرده إذ المراد إنك لا تحتفي بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلى الله عليه و سلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الأحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية منذر بالتنوين والأعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار (30/38)
المشابهة والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الأعمال والأعمال عارض للشبه والوصف عند أعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والأستقبال وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة كقولك هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة يخشى ولا ينافي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الأستمرار ومثله يجوز فيه الأعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك كلام في كتب الصول فلا تغفل والله تعالى أعلم
سورة عبس
وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية بلا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي وإحدى وأربعون فيالبصري وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إنما أنت منذر من يخشاها ذكر عز و جل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
عبس وتولى أن جاءه الأعمى الخ روي أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأول أكثر وأشهر كما في جامع الأصول وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية وغلط الزمخشري في جعلها في الكشاف جدته وكان أعمى وعمى بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعه لكلامه عبس واعترض عنه فنزلت فكان رسول الله عليه الصلاة و السلام يكرمه ويقول إذا رآه مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة واستخلفه صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الأستيعاب عن أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبي صلى الله عليه و سلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قبل بالقادسية شهيدا يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء وقيل منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه وضمير عبس وما بعده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة و السلام بضمير الغيبة إجلال له صلى الله تعالى عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه وما يدريك لعله يزكى ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للأشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتشاغله بالقوم وقيل إن الغيبة أولا والخطاب ثانيا لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانبا جني عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشكاية مواجها بالتوبيخ وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب الإقبال عليه والتعطف وفيه أيضا دفع إيهام الإختصاص بالأعمى المعين وإيماء إلى أن كل (30/39)
ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب لا يقضي القاضي وهو غضبان وإن بتقدير حرف الجر أعني لام التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما على مختار البصريين وكليهما معا على مذاهب الفراء نعم هو بحسب المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك وقرأ زيد بن علي على عبس بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى آن بهمزة بعدها وبعض القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القراءتين للأستفهام الأنكاري ويوقف على تولي والمعنى إلا أن جاء الأعمى فعلى ذلك وضمير لعله للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الأثم أو يذكر أي يتعظ فتنفعه الذكرى أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكي أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلىالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكية أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الأمتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استركاؤه ومحققا ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة ههنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الأسم لا الكامل وقال بعضهم متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك وقوله سبحانه لعله الخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع إشعاره بأن له شأنا منافيا للأعراض عنه خارجا عن دراية الغير ودرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك واعتبر في التزكي الكمال فقال أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الأثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك أن لم تبلغ درجة التزكي التام ولعل الأول أبعد مغزى وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم بما إذا كان ما يتعلمه من النوافل والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلى الله تعالى عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسئلة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده وقيل جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا وقيل ضمير لعله للكافر والترجي راجع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي إنك طعمت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة و السلام به كان جمعا وجاء في بعض الروايات أنه كان واحدا وقرأ الأعرج وعاصم في رواية أو يذكر بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر فتنفعه بالرفع عطفا على يذكر وبالنصب قرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه وفي الكشف أن النصب يؤيد رجوع ضمير لعله علىالكافر لا شمام الترجي معنى التمني لبعد المرجو من الحصول أي بالنظر إلى المجموع إذ قد حصل من العباس وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر أما من استغنى أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى لكفره عما يهديه وقيل أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعمله إن شاء الله تعالى فأنت له تصدى أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والأهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلى الله تعالى عليه وسلم عن مصاحبتهم (30/40)
فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة ومن هنا قيل لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني والله لو كرهت كفى مصاحبتي
يوما لقلت لها عن صحبتي بيني وقرأ الحرميان تصدى بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء وتخفيف الصاد مبنيا للمفعول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه وأصل تصدى على ما في البحر تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها وقيل من الصدي وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوت المعروف وما عليك ألا يزكى وليس عليك بأس في أن لا يزكى بالأسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تصدى والممنوع عنه في الحقيقة الأعراض عمن أسلم لا الأقبال على غيره والأهتمام بأمره حرصا على إسلامه ويجوز أن تكون ما استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا وأما من جاءك يسعى أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير وهو يخشى أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يسعى كما أن جملة يسعى حال من فاعل جاءك واستظهر بعض الأفاضل أن النظم الجليل من الأحتباك ذكر الغنى أو لا للدلالة على الفقر ثانيا والمجيء والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أو لا وكأنه حمل استغنى على ما نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الأحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور فأنت عنه تلهى تتشاغل يقال لهي عنه كرضي ورمى والتهي وتلهى وفي تقديم ضميره عليه الصلاة و السلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة و السلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالأهتمام بمضمونها وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الأشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للأشعار بأن العتاب للأهتمام بالأول لا للإشتغال به إذ الأشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الأشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلى الله تعالى عليه وسلم في أمره إذ الأهتمام غير واجب لأنه عليه الصلاة و السلام ليس إلا منذرا وقرأ البزي عن ابن كثير عنه تلهى بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر تلهى بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للأسلام وطلحة تتلهى بتائين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام كلا مبالغة في إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوقب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد نزل ذلك كما رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة و السلام نجواه وذهب إلى أهله وجوز كونه إرشادا بليغا إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة و السلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدبا حسنا فقد روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء والضمير في قوله تعالى إنها للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه تذكرة أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز و جل فمن شاء ذكره والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة و السلام له (30/41)
والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الأتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في التسهيل من غير نقل اختلاف فيه وكلام الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له فمن شاء ذكره اعتراض فقال لا لأن الأعتراض شرطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى وما ألطف قول السعد في التلويح الأعراض يكون بالواو والفاء
فاعلم فعلم المرء ينفعه
هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الأحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب منكفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاء ما سمعت آنفا وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونها دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام وقوله تعالى في صحف متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد بها الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى وأنه لفي زبر الأولين وقيل صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى مكرمة عند الله عز و جل مرفوعة أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما قيل مطهرة منزهة عن مساس أيدي الشياطين أو عن كل دنس على ما روي عن الحسن وقيل عن الشبه والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى بأيدي سفرة أي كتبة من الملائكة عليهم السلام كما قال مجاهد وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب والمصدر السفر كالضرب وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام على أنه جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وواسطة والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضا كما في القاموس وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحي على أن خاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يكتب القرآن بل لم يكتب أصلا على ما هو الشائع وقد مر تحقيقه وكذا وظيفتهم إرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة و السلام وبين سائر الأمة وقيل لأن بعضهم يسفر إلىبعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الأطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذا كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة بمطهرة (30/42)
وقيل بمضمر هو صفة أخرى لصحف كرام أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عز و جل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالأهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو منالكرم ضد اللؤم بررة أي أتقياء وقيل مطيعين الله تعالى من قولهم فلان يبر خالفه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير وأما أبرار فيكون جمع بر كرب وأرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وأن منعه بعض النحاة لعدم إطراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك لأن الأبرار من صيغ القلة دون البررة ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم وقال الراغب خص البررة بهم من حيث أنه أبلغ من أبرار فإنه جمع بر وأبرار جمع بار وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل وكأنه عني أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن أبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقا بحث وقيل أن البرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكملالأوصاف وأما الملائكة فصفات الكمال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفضيلة البشر لما في كونهم أبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران قتل الإنسان دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ما أكفره تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكزت نعوته الجليلة الموجبة للأقبال عليه والإيمان به وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما أخرج ابن المنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام فبعث إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار أن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ويقول ما قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا قط إلا كان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أطول من هذا الخبر فلا تغفل ثم إن هذا كلام في غاية الإيجاز وقد قال جار الله لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مرادا به إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع وقال الإمام أن الجملة الولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امريء القيس من قوله يتمنى المرء في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكره فهو لا يرضى بحال واحد
قتل الإنسان ما أكفره (30/43)
لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد اراد الأقتباس لا جاهلي وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى قتل الإنسان خبرا عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بشيء ونحوه ما قيل أن ما استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافرا بمعنى لا شيء يسوع له أن يكفر وقوله تعالى من أي شيء خلقه شروع فيبيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عز و جل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة من إخلاله بذلك والستفهام قيل للتحقير وذكر الجواب أعني قوله تعالى مننطفة خلقه لا يقتضي أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من قوله سبحانه من أي شيء خلقه وجوز أن يكون للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم أيضا من قوله سبحانه مننطفة الخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من نطفة مذرة خلقه فقدره فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلا لما أجمل أولا في قوله تعالى من أي شيء خلقه أي فقدره أطوار إلى أن أتم خلقه ثم السبيل يسره أي ثم سهل مخرجه من البطن كما في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو وعن ابن عباس أيضا وقتادة وأبي صالح والسدي المراد بالسبيل سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان وتيسيره له هو هبة العقل وتمكينه من النظر وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو رواية عن الحبر أيضا هو سبيل الهدى والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدى وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز و جل على كل ومكنه منه والأقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيريته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشر والضلال من النعم وقيل أنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالأعراض عنه وتركه وهو مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه لغة مثلا لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل وقال بعضهم العجز عن الشر نعمة وأنشد جكونه شكر ابن نعمت كزارم
كه زور مر دم أزاري ندارم ونصب السبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين في النفس بسبب التكرير قيل وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فإنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وأن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق والمقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأيا ما كان فالضمير المنصوب في يسره للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان ثم أماته فأقبره أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت به كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز و جل بدفنه يقال قبر الميت إذا دفنه بيده ومنه قول الأعشى لو أسندت ميتا إلى نحرها
عاش ولم ينقل إلى قابر وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيره من الحيوانات فقيل هو لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلا وعد الإماتة (30/44)
من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم وخصت هذه النعم بالذكر لما فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن من النعم التي هي محض فضل من الله تعالى فإذا تأمل ذلك العاقل علم قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا بالإيمان والطاعة ثم إذا شاء أنشره أي إذا شاء أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلا بل هو تابع لها وهذا بخلاف الأمانة فإن وقتها معين إجمالا على ما هو المعهود في الإعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الإقبال بل هو أظهر في ذلك وقرأ شعيب بن الحجاج كما في كتاب اللوامح وابن أبي حمزة كما في تفسير بن عطية نشره بدون همزة وهما لغتان في الأحياء وقوله تعالى كلا ردع للإنسان عما هو عليه من كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه لما يقض ما أمره بيان لسبب الردع ولما نافية جازمة ونفيها غير منقطع وما موصولة وضمير أمره إما للإنسان كالمستتر في يقض والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف والإيصال والعائد إلى الإنسان محذوف أي إياه قيل والثاني أحسن لأن حذف المفعول أهون من حذف العائد إلى الموصول والمراد بما أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول زمان تكليفه إلى زمان أمانته وإقباره أو من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما ونقل هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم جناية الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي أما على أن المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أو هو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله تعالى إن الأنسان لظلوم كفار وأما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فعل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يختلف عنه أحد وعن الحسن أن كلا بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حقا لم يعمل بما أمره به وقال ابن فورك الضمير في يقض الله تعالى أي لم يقض الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان بل أمره إقامة للحجة عليه بما لم يقض له ولا يخفى بعده والظاهر عليه أن كلا بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه فلينظر الإنسان إلى طعامه على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه الخ لعله يقضي وفي الحواشي العصامية لا يخفى ما في قوله تعالى لما يقض ما أمره من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الأئتمار كما ينبغي أن بتيسر بعد الأرتداع عما هو عليه والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى قتل الإنسان ولما جوز صاحب الحواشي المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال فالمراد بضمير يقض غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة وقيل تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه وقوله تعالى أنا صببنا الماء بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب (30/45)
تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي صببنا له وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى أنعامنا في طعامه أنا صببنا الخ وهو كما ترى وأيا ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روي عن أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها ولعمري أن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلة الأتفاق وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم وقال أن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد الجملة للأعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لأنكار القاصر لعدم الأحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الستناد إليه عز و جل بالنظر الصحيح وقرأ الأكثر إنا بالكسر على الأستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنظر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل أنا صببنا الخ وقرأ الإمام الحسين بن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه عنهما أنى صببنا بفتح الهمزة والامالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء صبا عجيبا ثم شققنا الأرض أي بالنبات كما قال ابن عباس شقا بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة وقيل شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز و جل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى فأنبتنا فيها حبا فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الأمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبيء منه أرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال وقيل عليه أيضا أن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء أمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا الآية لأشعاره باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتسبة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها وعنبا معروف وقضبا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال إذا يبست فهي ألقت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها لتكرلار قطعها وتكثره نفس القطع وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا منالنبات كالبقول والهليون وفي البحر عن الحبر أنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه وزيتونا ونخلا هما معروفان وحدائق رياضا غلبا أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى (30/46)
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم
بزل كسين من الكحيل جلالا ووصف الحدائق بذلك على سبيل الإستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة إلا يرد أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظرا إلى الإندماج وتقوي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقا وتجور في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها وقال بعض المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل وفاكهة قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأيا ما كان فذكر ما يدخل فيها أولا للأعتناء بشأنه وأبا عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى من أبه إذا أمه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيء المرعى ويطلق على نفس مكان الكلا ومنه قوله جذمنا قيس ونجد دارنا
ولنا الأب بها والمكرع وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قوله بعض الصحابة يمدح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له دعوة ميمونة ريحها الصبا
بها ينبت الله الحصيدة والأبا وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله وأبا فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفض عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي صحيح البخاري من رواية أنس أيضا أنه قرأ ذلك وقال فما الأب ثم قال ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته وفي الكشاف لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الأمتنان على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للأنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عز و جل على ما تبين لك ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفةالنبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجميلة إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في الدر المنثور ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه بقي شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب علىالشيخين رضي الله تعالى عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الأختلاف فيه لا يستدعي كونه غريبا مخلا بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر
ترى به الأب واليقطين مختلطا
ووقع في شعر (30/47)
بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك متاعا لكم ولأنعامكم قيل أما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والألتفات لتكميل الأمتنان وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر من الأفعال الثلاثة في معنى التمتع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر فإذا جاءت الصاخة شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها والصاخة هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو الإسناد وقال الراغب الصاخة شدة صوت ذي النطق يقال صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا وقيل مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه وقال الخليل هي صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها لشدة وقعتها ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله الصاخة هي التي تورث الصمم وأنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله
أصم بك الداعي وأن كان اسمعا
ثم قال ولعمر الله تعالى أن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة والكلام في جواب إذا وفي يوم من قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته أي زوجته وبنيه على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم ولا يسألأ عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب إذا والأعتذار عن عدم التصوير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الأنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الأهتمام به وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد لجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض قال شغل الناس عن ذلك وتلا يوم يفر الآية وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة و السلام ما شغلهم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك والأبوان قصرت في برنا والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة ثم قرأ يفر الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الأنسان ليعلم منه حال المرأة من بابأولى وقيل هو من باب التغليب وفيه نظر القاضي وذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار عطف الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في صاحبته وبنيه فقال تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الأختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ويفر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أمه ويفر (30/48)
إبراهيم عليه السلام من أبيه ويفر نوح عليه السلام من ابنه ويفر لوط عليه السلام من امرأته وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر الخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى به نجاة أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغما لأنف على القاريء ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة و السلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظا مما أوتي هناك من السعادة والشرف وسمو القدر كم من أب قد سما بابن ذرى شرف
كما يما برسول الله عدنان وقا ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السمقيع يعنيه بفتح الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان وقوله تعالى وجوه يومئذ مسفرة بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ وسوغ الأبتداء به كونه في حيز التنويع كما مر ومسفرة خبره ويومئذ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس أن ذلك من قيام الليل وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم السلام وقيل من طول ما أغبرت في سبيل الله تعالى ضاحكة مستبشرة أي مسرورة بما تشاهد منالنعيم المقيم والبهجة الدائمة ووجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار وكدرة ترهقها أي تعلوها وتغشاها قترة أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوى الفير وزابادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم وقيل هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدرة فوق غبار وكدورة وقال زيد بن أسلم الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم وقرأ ابن أبي عبلة قترة بسكون التاء أولئك إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر هم الكفرة الفجرة أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز و جل من ذلك
سورة التكوير
ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية وفي التيسير ثمان وعشرون وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه ىخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة بسم الله الرحمن الرحيم
إذا الشمس كورت أي لفت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوي ثم يرفع ونحوه قوله تعالى يوم نطوي السماء ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق (30/49)
المنتشر في الأقطار اما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف أو على تقدير المضاف أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا أو رفعه وستره استعارة كما قيل وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفيسة التي إذا رفعت لفت في ثوب ثم تعتبر الأستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية وكون المراد إذهاب ضوئها مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كورت بأظلمت والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك وقيل إن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم ويجوز أن يكون المراد بكورت ألقيت عن فلكها وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعا على الأرضوإلقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذ ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في البحر كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وأبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك وفيه أنالله تعالى يبعث ريحا دبورا فتنفخه أي البحر حتى يرجع نارا وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة إلقائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عز و جل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرؤس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذ وإلا بحر حينئذ لتلقى فيه بعد فلا تغفل وعن أبي صالح كورت نكست وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش وعن مجاهد أيضا أضمحلت ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة وللمتأخيرين في جواز إرادته خلاف فقيل لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها وقيل تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرع وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عز و جل في ذلك ما له من الحكم ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الأبتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل وكذا يقال في قوله تعالى وإذا النجوم انكدرت أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة ومنه انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه قال العجاج يمدح عمر بن معمر التميمي إذا الكرام ابتدروا الباع بدر
تقتضي البازي إذا البازي كسر داني جناحيه من الطود فمر
أبصر البازي خربان فضاء فانكدر وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس وروي عنه أنه قال لا يبقى يومئذ نجم إلا سقط في الأرض وعنه أيضا أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي كلائكة من نور فإذا مات من في السماوات والأرض تساقطت من أيديهم وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضا لكن يقوي متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها الأسماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف وإن صح خبر الخبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهرة إلا أن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذ فالأمر سهل وقد ذكر بعض المتأهلين قد تطلق على الأرباب النورية كما في خبران لكل شيء ملكان وإن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك وخبر (30/50)
أتاني ملك الجبال وملك البحار وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولدة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل أنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك وقيل انكدرت تغيرت وانطمس نورها كما هو الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره وتكون هي على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل وإذا الجبال سيرت أي أزيلت عن أماكنها من الأرض بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك وقيل سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى وترى الجبال تحسها جامدة وهي تمر مر السحاب وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية وإذا العشار جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وقد يقال لها ذلك بعدما تضع أيضا وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم عطلت تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب وقيل عطلها أهلها عن الحلب والصر وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذ ذاك وقيل إن هذا التعطيل يوم القيامة فقال القرطبي الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة واوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبئوا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى وقيل المراد بالعشار السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رؤوس الجبال وترى عندها وإلا ينافيه كونه مناسبا لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجع بنفسه وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه وقيل عن عدم إمطارها وقيل هي الديار تعطل فلا تسكن وقيل الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع وقرأ مضر عن اليزيدي عطلت بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال هو وهم إنما عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية يقال عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلي فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وأفعلت أي في التعدي وقيل الأظهر أنه عدي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه وإذا الوحوش جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا حشرت أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع وقيل أميتت من قولهم إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال حشرها موتها وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين وقيل بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت وقيل إذا قضى بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي وقيل يبقى كل ما لم ينتفع به إلا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها وذهب كثير إلى بعث الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لتؤذن الحقوق إلى (30/51)
أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء وزاد أحمد بن حنبل وحتى الذرة من الذرة ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا إلا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معمول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا فيالجملة والله تعالى أعلم وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون حشرت بالتشديد للتكثير وإذا البحار سجرت أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل أن البحر غطاء جهنم أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه وقيل ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار وقيل ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف ونقل في البحر عن كتاب لغات القرآن إن سجرت بمعنى جمعت بلغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفخير وقال ابن عطية يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه ويقال سجره إذا شده به وقرأ ابن كثير وأبو عمر وسجرت بالتخفيف وإذا النفوس زوجت أي قرنت كل نفس بشكلها أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمررض عنه أنه سئل عن ذلك فقال يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم المثل فالأمثل وقال مقاتل بن سليمان تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهم ونفوس الكافرين بالشياطين وقيل تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الأنتفاء وأيا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا وقال عكرمة والضحاك والشعبي تقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح وقرأ عاصم زوجت على فوعلت وإذا الموؤدة وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت وقيل هو مقلوب الأود وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضي عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن وقيل مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فألحقوا البنات به تعالى فهو عز و جل أحق بهن وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثره على أبيها فغضب وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك وقرأ البزي في رواية المؤدة كمعونة فاحتمل أن يكون (30/52)
الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبلها وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذف أحد الواوين فصارت المؤدة كما حذف من مقوول فصار مقولا وقريء الموودة بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها وفي مجمع البيان والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤا المودة بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والأسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها وتوجيه السؤال إلى المؤودة في قوله تعالى سئلت بأي ذنب قتلت دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب وهذا نوع من الأستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين وقرأ أبي وابن مسعود والربيع بن خثيم وابن يعمر سألت أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قتلت لما أن الكلام إخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد وقرأ الحسن والأعرج سيلت بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز وقرأ أبو جعفر بشدة الياء لأن الموؤدة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعتق عن كل واحدة رقبة قال إني صاحب إبل قال فاهد عن كل واحدة بدنة وكان الأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة ابن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموؤدات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله وجدي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم تؤد وأخرج الطبراني عنه قال قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل فيها من أجر أحييت ثلثمائة وستين من المؤدة اشترى كل واحد منهن عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لك أجره إذ من الله تعالى عليك بالإسلام وعد من الوأد العزل لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قيل قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسئلة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عند نافي كل حال وكل امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل وأما التحريم فقد قال أصحابنا يعني الشافعية لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه وما ورد في الأذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس (30/53)
معناه نفي الكراهة انتهى وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه ولا يبعد أن يكون الأستمناء باليد كالعزل وأدا خفيا وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشى لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلا بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلا بالذنب أما الأول فلأن تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسي عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي وأما الثاني فلأشارة قوله تعالى بأي ذنب قتلت إللا أن القتل إنما يصار إليه بذنب وإنه لا يستحسن ارتكابه دونه ومعلوم أن في معناه كل تعذيب ثم الآية لما دلت على أن الموؤدة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب وزعم أن بن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح وقد بين ما فيهما في موضعه وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولا وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما يستحق به الموؤدة التعذيب معدوم من كل وجه وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين وتفسيره على ما قيل ما روي أبو داود عن عائشة قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم قلت بلا عمل قال الله تعالى اعلم بما كانوا عاملين قلت يا رسول الله فذراري المشركين فقال من آبائهم قلت بلا عمل قال الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هما في النار وأنت تعلم أن مسئلة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلى الله تعالى عليه وسلم أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة و السلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة و السلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحثث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم وغير ذلك من الأحاديث وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة و السلام الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أي وغير ذلك وتوقفت طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له (30/54)
بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن حديث الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظة الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ انتهى وتعقب ما ذكره من الأحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فأن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة و السلام عليها إنما كان فيها وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها ومنه يعلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ أبن تيمية أن هذا أحسن الأجوبة فيهم وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه قوله عليه الصلاة و السلام السابق في ولدي خديجة هما في النار وهو يعكر على من يقول أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم واختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو إلا خلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز و جل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة و السلام قبل علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كإخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث أنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة و السلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك أخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل وإذا الصحف نشرت أي صحف الأعمال أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها وقيل نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة (30/55)
الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي نشرت بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير وإذا السماء كشطت قلعت وأزيلت كما يكشف الأهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلح واستعير هنا للأزالة وقرأ عبد الله قشطت بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور والقافور وعربي قح وكح وإذا الجحيم سعرت أي أوقدت إيقادا شديدا قال قتادة سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه سعرت بالتخفيف وإذا الجنة أزلفت أي قربت من المتقين كقوله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون وست في الآخرة إذا الشمس كورت وإذا البحار سجرت هذه الدنيا وإذا النفوس زوجت إلى وإذا الجنة أزلفت هذه في الآخرة وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذا تكدرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك غذ جاءتهم ريح فأماتتهم وقال بعضهم أن الست الأولى فيما بين النفختين وأنه مراد من قال أنها في الدنيا وقيل هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل علمت نفس ما أحضرت جواب إذا على أنالمراد بها زمان واحد ممتد يسع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى أن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي منمباديه وبعضها منروادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن العمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه قيل ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد حكى عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول إطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها شيء كما ينبيء عنه قولهم مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة (30/56)
لهواها وتنكير النفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤنه المنبئة عن عظم سلطانه عز و جل وفي الكشاف أن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيمايعكس عنه ومنه وقوله تعالى ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ومعناه كم وأبلغ وقول القائل قد أترك القوم مصفرا أنامله
كأن أثوابه مجت بفرصاد وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندي أولا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقع من فائدة خاصة وذكر أن من الفوائد ههنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العاملة وأن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الأنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق وجوز أن يكون ذلك للأشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة قيل ولهذا العموم ساغ الأبتداء بالنكرة فيه وقول بعض أنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن عملت نفس في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل وعن عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ علمت نفس ما أحضرت قال وانقطاع ظهرياه فلا أقسم بالخنس جمع خانس من الخنوس وهو الأنقباض والأستخفاء الجواري جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه الكنس جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخده من أغصان الشجر والمراد بها على ما أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه الكواكب أي جميعها فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الظباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد أن كانت فوقه وروي تفسيرها (30/57)
بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر ووصف بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بين في موضعه وللمحدثين النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت وأخرج في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفها بالخنس بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا رجعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها وقيل الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع المعروف عند المتقدمين من المنجمين وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخرى يقال لها وستا وزونو وبأس وسرس واورنوس ويسمى هرشل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولو لا مخافة التطويل لذكرت ذلك وعدلوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في البحر عن النخعي وجابر ابن زيد وجماعة وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا والخنس تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين ما سلم الظبي على حسنه
كلا ولا البدر الذي يوصف فالظبي فيه خنس بين
والبدر فيه كلف يعرف والليل إذا عسعس أي أدبر ظلامه أو أقبل وكلاهما مأثوران عن ابن عباس وغيره وهو من الأضداد عند المبرد وقال الراغب العسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في ظرفي الليل فهو من المشترك المعنوي عنده وليس من الأضداد وفسر عسعس هنا بأقبل وأدبر معا وقالذلك غي مبدأ الليل ومنتهاه وقال الفراء أجمع المفسرون على أنمعنى عسعس أدبر وعليه العجاج يصف الخمر أو المفازة حتى إذا الصبح لها تنفسا
واجاب عنها ليلها وعسعسا وقيل هي لغة قريش خاصة وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى والصبح إذا تنفس فإنه أول النهار فيناسب أول الليل وقيل كونه بمعنى أدبر أنسب بهذا لما بين أدبار الليل وتنفس الصبح من الملاصقة فيكون بينهما مناسبة الجوار والمراد من تنفس الصبح على ما ذكر غير واحد إضاءته وتبلجه وفي الكشاف أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا على المجاز وقيل تنفس الصبح وعنى بالمجاز الأستعارة لأنه لما كان النفس ريحا خاصا يفرج عن القلب انبساطا وانقباضا شبه ذلك النسيم بالنفس وأطلق عليه الأسم استعارة وجعل الصبح متنفسا لمقارنته له ففي الكلام استعارة مصرحة وتجوز في الإسناد وظاهر (30/58)
كلام بعضهم أنه بعد الإستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله وقال الإمام النهار بغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما بني الكشاف كما لا يخفى وجوز أن يقال أن الليل لما غشى النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام وقيل تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل وسمى هذا الكاذب عارضا ففي خبر مسلم لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشيء عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى والصبح إذا تنفس فعند ذلك الأنحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره ويعلم من ذلك سبب طول العمود وإضاءة أعلاه إلى آخر ماقال وفيه بحث ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا وقول الإمام أنه يلزم على ذلك بناء على كروية الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل ولا تغفل والواو في قوله تعالى والصبح والليل على ما نقل عن ابن جني للعطف وإذا ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذ التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الأقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا منالليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد التعجب من هوله وعظمته في ذلك الزمان وقال عصام الدين ينبغي أن يجعل تقييدا للمقسم به أي أقيم بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن إذا بدل من الليل إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا إنه أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للأخبار عن الحشر والنشر تعسف لقول رسول هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه السلام ونسبته إليه عليه السلام لأنه واسطة فيه وناقل له عن مرسله وهو الله عز و جل كريم أي عزيز على الله سبحانه وتعالى وقيل متعطف على المؤمنين ذي قوة أي شديد كما قال سبحانه شديد القوى وجاء في قوته أنه عليه السلام بعث إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملها بمن فيها من الأرض السفلي حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هوى بها فأهلكها وقيل المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال (30/59)
بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف وقيل لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط عند ذي العرش مكين أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أنالميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن وجوز أن يكون مصدرا ميميا منالكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر وقيل أن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى مطاع فيما بين الملائكة المقربين عليهم السلام يصدون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ثم ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى عند ذي العرش والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه أمين والإشارة بحالها وأمانته على الوحي وفي رواية عنه عليه السلام أنه قال أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره ولامانته أنه عليه السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم ثم بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانالأنها أفضل صفاته المعدودة وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى على أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام لجاز أن ورد به أثر انتهى والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول وما صاحبكم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمجنون كما تبهته الكفرة قتلهم الله تعالى وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيمان إلى أنه عليه الصلاة و السلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه السلام وتركها في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أفضليته عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في الكشف أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لماسبق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولاخفاء أن وصف الآتي بالقول يشد من عضد ذلك أبلغ شد وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه وقال بعضهم أن المبالغة في وصف جبريل عليه السلام مدح بليغ في حق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الملك إذا أرسل لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانه عنده ليس فوقها مكانة وقد علمت أن المقام ليس للمبالغة في مدح المنزل عليه وقيل المراد بالرسول هو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كالمراد بالصاحب وهو خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور ولقد رآه أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه (30/60)
الله تعالى عليها له ستمائة جناح بالأفق المبين وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه عليه السلام نحو جياد وهو مشرق مكة وقيل أن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء وحكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمى ذلك أفقا مجازا وماهو أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الغيب على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب بضنين من الضن بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلا بإعطاء حلوان وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بنعبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير بظنين بالظاء أي بمتهم من الظنة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق بأمين وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي منقولهم بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر ورجحت هذه القراءة عليه بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلى الله تعالى عليه وسلم ونفي التهمة أولى من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعلهأراد بالمصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم أن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاء والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس أحدهما على الأخرى زيادة يسيرة قد تشتبه كما لا يخفى والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها منالأضراس من يمين اللسان أويساره ومنهم منيتمكن من إخراجها منهما والظاء مخرجها منطرف اللسان وأصول الثنايا العليا واختلفوا في إبدال أحدهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا فقيل تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد وقيل لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع أنه إذا أمكن الفرق بينهما فتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه منالصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه ويفتي به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم وما هو أي القرأن بقول شيطان رجيم أي بقول بعض المسترقة للسمع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم أنه كهانة فأين تذهبون استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك لتارك الجادة الذاهب في بينات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها منظهور أنه وحي إن هو أي ما هو إلا ذكر للعالمين موعظة وتذكير لمن يعلم وضمير هو للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة و السلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلا مذكر للعالمين وقوله تعالى فأين الخ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى وقوله سبحانه لمن شآء منكم بدل منالعالمين بدل بعض من كل والبدل هو المجرور وأعيد معه العامل على (30/61)
المشهور وقيل هو الجار والمجرور وجوز أن يكون بدل كل من كل لالحاق منلم يشأ بالبهائم ادعاء وهو تكلف وقوله تعالى أن يستقيم مفعول شاء أي لمن شاء منكم الإستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله منالعالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير وما تشاؤن أي الأستقامة بسبب من الأسباب إلا أنيشاء الله أي إلا بأن يشاء الله تعالى مشيئتكم فمشيئتكم بسبب مشيئة الله تعالى رب العالمين أي ملك الخلق ومربيهم أجمعين أو ما تشاءون الإستقامة مشيئة نافعة مستتبعة لها بأن يشاءها الله تعالى فله سبحانه الفضل والحق عليكم باستقامتكم إن استقمتم روي عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قال أبو جهل جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله تعالى وما تشاءون الآية وأن وما معها هنا على ما ذكرنا فيموضع خفض بإضمار باء السببية وجوز أن تكون للمصاحبة وذهب غير واحد إلى أن الأستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تشاءون الأستقامة في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله تعالى شأنه استقامتكم وهو مبني على مانقل عن الكوفيين من جواز نيابة المصدر المؤول من أن والفعل عن الظرف وفي الباب الثامن من المغنى أن أن وصلتها لا يعطيان حكم المصدر في النيابة عن ظرف الزمان تقول جئتك صلاة العصر ولا يجوز جئتك أن تصلي العصر فالأولى ما ذكرنا أولا وإليه ذهب مكي وذهب القاضي إلى الثاني وقد اعترض عليه أيضا بأن ما لنفي الحال وأن خاصة للأستقبال فيلزم أن يكون وقت مشيئته تعالى المستقبل ظرفا لمشيئة العبد الحالية وأجيب بأنا لانسلم أن ما مختصة بنفي الحال ومن ادعى اختصاصها بذلك اشتراط انتفاء القرينة على خلافه ولم تنتف ههنا لمكان أن في حيزها أو بأن كون أن للأستقبال مشروط بانتفاء قرينة خلافه وههنا قد وجدت لمكان ما قبلها فهي لمجرد المصدرية وقيل يندفع الأعتراض بجعل الأستثناء منقطعا فليجعل كذلك وإن الأصل فيه الأتصال وليس بشيء وقد أورد على وجه السببية الذي ذكرناه نحو ذلك وهو أنه يلزم منكون ما لنفي الحال وأن للأستقبال سببية المتأخر للمتقدم ومما ذكر يعلم الجواب كما لا يخفى فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لا وضح المسالك
وقال بعض أهل التأويل الشمس شمس الروح والنجوم نجوم الحواس والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها والموؤدة الخواطر الإلهية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها والسماء سماء الصدر والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية والليل الأنوار الجلالية والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئامن نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إذلا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما غذا لم تنكر وجعل ما ذكر ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك فيموضعه
سورة الإنفطار
وتسملا سورة انفطرت وسورة المنفطرة ولا خلاف في أنها مكية ولا في أنها تسع عشرة آية ومناسبتها لما قبلها معلومة بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انفطرت أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى يوم (30/62)
تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس وإذا الكواكب انتثرت أي تساقطت متفرقة وهو لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية وإذا البحار فجرت فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من البرزخ واختلط العذب بالأجاج وصارت بحرا واحدا وروي أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية أي في أن لا ماء وأريد أن البحار تصير واحدة أولا ثم تنشف الأرض جميعا فتصير بلا ماء ويحتمل أن يراد بالأستواء بعد النضوب عدم بقاء مغايض الماء لقوله تعالى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري فجرت بالتخفيف مبنيا للمفعول وعن مجاهد أيضا فجرت به مبنيا للفاعل بمعنى نبعت لزوال البرزخ من الفجور نظر إلى قوله تعالى لا يبغيان لأن البغي والفجور إخوان وإذا القبور بعثرت قلب ترابها الذي حتى على موتاها وأزيل وأخرج من دفن فيها على ما فسر به غير واحد وأصل البعثرة على ما قيل تبديد التراب ونحوه وهو إنما لأخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا وعليه ما سمعت وقد يتجوز به عن البعث والأخراج كما في العادات حيث أسند فيها لما في القبور دونها كما هنا وزعم بعض أنه مشترك بين النبش والإخراج وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا ويسمى ذلك نحتا وأصل بعثر وأثير ونظيره بسمل وحمدل وحوقل ودمعز أي قال بسم الله والحمد لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وأدام لله تعالى عزه إلى غير ذلك من النظائر وهي كثيرة في لغة العرب وعليه يكون معناه النبش والأخراج معا واعترضه أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة وهو توهم منه فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة كما فصل في الزهر نقلا عن أئمة اللغة نعم الأصل عدم التركيب علمت نفس ما قدمت وأخرت جواب إذا لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت أن المراد بها زمان واحد مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة بحسب كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام فيه كالذي مر في نظيره ومعنى ما قدم وأخر ما أسلف من عمل خير أو شر وآخر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وأبي مسعود وعن ابن عباس أيضا ما قدم معصية وأخر من طاعة وهو قول قتادة وقيل ما عمل ما كلف به وما لم يعمل منه وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل أول عمله وآخره ومعنى علمها بهما علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما قدم يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم أي أي شيء خدعك وجراك على عصيانه تعالى وارتكاب ما لا يليق بشأنه عز شأنه وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الأغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول لأه افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة أو يقول له نحو ذلك مما مبناه الكرم كقول بعض شياطين الإنس تكثر ما استطعت من الخطايا
ستلقى في غد ربا غفورا تعض ندامة كفيك مما
تركت مخافة الذنب السرورا فإنه قياس عقيم وتمنيه باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والأجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس ولذا قال بعض العارفين لو لم أخف الله تعالى لم أعصه فكأنه قيل ما حملك على عصيان ربك (30/63)
الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه وقيل أن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أيضا فإنه إذا قيل له ما غرك الخ يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الأغترار بذلك في النظر الجليل وإلا فهو في النظر الدقيق كما سمعت وعن الفضيل أنه قال غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك يا كاتم الذنب أما تستحي
والله في الخلوة رائيكا غرك من ربك إمهاله
وستره طول مساويك وقال بعضهم يقول مولاي ألا تستحي
مما أرى من سوء أفعالك فقلت يا مولاي رفقا فقد
جزأني كثرة أفضالك وقال قتادة غره عدوه المسلط عليه وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ الآية فقال الجهل وقال عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ أنه كان ظلوما جهولا والفرق بين هذا وبين ما ذكروا لا يخفى على ذي علم واختلف في الإنسان المندي فقيل الكافر بل عن عكرمة أنه أبي بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ ولو ووعه بين المحمل ومفصله أعني علمت نفس وإن الأبرار وإن الفجار وأما قوله تعالى بل يكذبون بالدين ففي الكشف أما أن يكون ترشيحا لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالا من المكذبين تغليظا وأما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم وقرأ ابن جبير والأعمش ما أغرك بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبا وأن تكون ما استفهامية كما في قراءة الجمهور وأغرك بمعنى أدخلك في الغرة وقوله سبحانه الذي خلقك فسواك فعدلك صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدا أقدر عليه إعادة والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها ما تتم به وعدلها بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلانا بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء وقا غير واحد من السبعة عدلك بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم أن عدل وعدل بمعنى واحد في أي صورة ما شاء ركبك أي ركبك ووضعك في أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن ونحوها فالجار والمجرور متعلق بركبك وأي للصفة مثلها في قوله أرأيت أي سوالف وخدود
برزت لنا بين اللاي وزرود ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة شاء صفة لها والعائد محذوف وما مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي صورة شاءها وقيل أي موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها وفيه أنه صرح أبو علي في التذكرة بأن أيا الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية واخصصن بالمعرفة موصولة أيا
وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافأئ لابن عصفور ويجوز أن تجعل أي شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظرا إلى المتعلق والترتب ويجوز أن يكون الجار متعلقا بعدلك وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل فعدلك في صورة أي في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب وأي هذه منقولة من الأستفهام لكنها (30/64)
لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها ويكون ما شاء ركبك كلاما مستأنفا وما أما موصولة أو موصولة مبتدأ أو مفعولا مطلقا لركبك أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيبا شاء ركبك وجوز أن تكون شرطية وشاء فعل الشرط وركبك جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لصورة والعائد محذوف ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بركبك لأن معمول ما في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه كلا ردع عن الأغترار بكرم الله تعالى وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة وقوله تعالى بل تكذبون بالدين إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطرق الأعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترؤن على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام اللذين هما منجملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقابا وفيه ترق من الأهون إلى الأغلظ وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل ليس هنا مقتض لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون الخ وقيل إن كلا ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث وبل إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون مننفي البعث والنشور ثم قيل لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون الخ وأدغم خارجة عن نافع ركبك كلا كأبي عمرو في إدغامه الكبير وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر يكذبون بياء الغيبة وقوله تعالى وإن عليكم لحافظين حال من فاعل تكذبون مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على الوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال أنعليكم منقبلنا لحافظين لأعمالكم كراما لدينا كاتبين لها يعملون ما تفعلون من الأفعال قليلا كان أوكثيرا ويضبطونه نقيرا أو قطميرا وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلا لكان عبثا ينزه عنه الحكيم العليم وقيل جيء بهذه الحال استبعادا للتكذيب معها وليس بذاك وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز و جل منجلائل الأمور حيث استعمل سبحانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم أن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى له معقبات بين من يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله فمع الإنسان عدة ملائكة روي عن عثمان أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم من ملك على الإنسان فذكر عليه الصلاة و السلام عشرين ملكا قالالمهدوي في الفيصل وقيل إن كل أدمي يوكل به منحين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور علىالعاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إلا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها ويكتبان كل شيء حتى الأعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء وأخرج البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذي معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الأعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلىيوم القيامة إن كان مؤمنا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون (30/65)
لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عز و جل وقوله سبحانه إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب منالثواب والعقاب وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم والتهويل وقوله تعالى يصلونها إما صفة للجحيم أوحالمن ضمير الفجار في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من تهويلها كأنه قيل ما حالهم فيها فقيل يقاسون حرها وقرأ ابن مقسم يصلونها متشددا مبنيا للمفعول يوم الدين يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالا أو في ضمن تكذيبهم بالأسلام وما هم عنها بغائبين طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الأستمرار وهو كقوله تعالى وما هم بخارجين منها في الدلالة على سرمدية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة منحفر النار على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب جاؤكم حصرت صدورهم وقيل أنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلى النار وعذاب القبر بالبعث ومافي موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي وما هم عنها بغائبين الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الأستقبال والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل غائبين على الحال وقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين تفخيم لشأن اليوم الذي يكذبون به أثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الأستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبرا مقدما فلا تغفل وقوله سبحانه يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله بيان إجمالي لشأن يوم الدين أثر إبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالإدراء على ما روي عن ابن عباس من أنه قال كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أدراك فقد أدراه وكل ما فيه من قوله عز و جل ما يدريك فقد طوى عنه ويوم منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقا لا للكافرة فقط كما روي عن مقاتل شيئا من الأشياء الخ فإنه يدريك ما هو أو مبني على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك الخ وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق أو هو مبني على الفتح محله الرفع على أنه بدل من يوم الدين وكلاهما ليسا بذاك لخلوهما عن إفادة ما أفاده ما قبل وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو يوم بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفا وقرأ محبوب عن أبي عمرو ويوم بالرفع والتنوين فجملة لا تملك الخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي فيه والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى لمن الملك اليوم فإن الأمر (30/66)
من شأن الملك المطاع واللام للأختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالا أي التصرف جميعه في قبضة قدرته عز و جل لا غير وفي تحقيق قوله تعالى لا تملك نفس لنفس شيئا لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك وقول قتادة فيما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئا ولا يصنع شيئا غير رب العالمين تفسير الحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأيا ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم
سورة المطففين
ويقال لها سورة المطففين واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدي قال بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال أول ما نزل بالمدينة ويل للمطففين ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية الأثمان آيات من آخرها إن الذين أجرموا الخ وقيل إنها مدنية إلا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز و جل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكره سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى وقال الجلال السيوطي الفصل بهذه السورة بين الأنفطار والأنشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والأنشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الأنفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ من وراء ظهوره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الأنشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب على السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادي أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الأنفطار وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه حال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر (30/67)
بسم الله الرحمن الرحيم
ويل للمطففين قيل الويل شدة الشر وقيل الحزن والهلاك وقيل العذاب الأليم وقيل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا ابن جرير بسند فيه نظر وذهب كثير إلا أنه في جهنم فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعيم خريفا قبل أن يبلغ قعره وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ واد بين جبلين يهوي فيه الكافر وروي ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر ومن قال ويل واد في جهنم لم يرد أن ويلا في اللغة موضوع لهذا وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى والظاهر أن إطلاقه على ذلك كإطلاق جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء وللمطففين خبره والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقة وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه وقوله تعالى الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون الخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا وتبديل كلمة على هنا قيل لتضمين الأكتيال معنى الأستيلاء أو للأشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذ لا خلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أنالمراد بالأستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك وقيل إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراء أن من وعلى يعتقبان في هذا الموضع فيقال اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب مع اقتضائه لعدم شمول لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الأستيفاء أخذ مالهم على الناس وافيا من غير نقص إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم وحمل مالهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الأستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى وأقول إن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الإستيفاء أخذ مالهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدار لذمهم والدعاء عليهم قلنا مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد منالذم بنحو يأخذ ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطي ناقصا لا يضر كما لا يخفى ثم يقال إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه ولعل مبني كلام الفراء على ذلك فتأمل وجوز على أن تكون على متعلقة بيستوفون ويكون تقديمها على الفعل لأفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد (30/68)
بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الأفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام ولا ريب في أن الأستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصوران أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى وأجيب بأن المراد بالإستيفاء المعدي بعلى على ذلك الإضرار فكأنه قيل إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها والقصر بطريق القلب والإضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الأضرار مختلفا حيث أن إضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم أن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر والضمير المنفصل في قوله تعالى وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله ولقد جنتك أكمؤا وعساقلا
ولقد نهيتك عن بنات الأوبر وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم وعن عيسى بن عمر وحمزة أن المكيل له والموزون له محذوف وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بهاما أرادوا وقال الزمخشري لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهم مثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذا المعنى لا يخسر الأهم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في كالوهم مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من احدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له وقيل أنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى ولعل الأقتصار على الأكتيال في صورة الأستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الأخسار إن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالأكتيال من الأستيفاء والسرقة وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهوامن البخس في النوعين جميعا والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدوي في ذلك أنالتطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ماهو أكثر قيمة مما يكال فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم على أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروآت أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا (30/69)
ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشقياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجوازان يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهميستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الأحتباك وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده علىما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القريتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغلالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل وذكر الأكتيال فقط في صورة الأستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة وذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلكالصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والأتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطي ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون استئناف وارد لتهويل ماما ارتكبوه من التطفيف والهمزة لإنكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الأستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الأستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للأشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه منمعنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون ليوم عظيم لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأتلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيت حكى سبحانه عنهم إن نظن إلا ظنا ولم يثبته عز و جل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين أي لحكمه تعالى وقضائه عز و جل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم مجرور كما قال الفراء بدلا منيوم عظيم وهو على الوجهين مبني على الفتح لأضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي يوم بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ يوم بالجر وفي هذا الإنكار والتعجب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يوم يقوم الخ منه على القول به ووصفه (30/70)
تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الأثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث أن الميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس قيل يا رسول الله وما خمس قال ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى أن العرق ليلجمهم وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له إن ابنك كيال فقال أشهد أنه في النار وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف ومنهذا القبيل ما روي عن أبي رضي الله تعالى عنه لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم واستدل بقوله تعالى يوم يقوم الخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا وأنتتعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الأستدلال بها على ذلك من العجب العجاب وقوله تعالى كلا ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب إن كتاب الفجار لفي سجين الخ تعليل للردع أو وجوب الأرتداع بطريق التحقيق وكتاب قيل بمعنى مكتوب أي ما يكتب من أعمال الفجار لفي الخ وقيل مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار لفي الخ والمراد بالفجار هنا على ما قال أبو حيان الكفار وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم الفسقة فيدخل فيهم المطففون وسجين قيل كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم فإنالظاهر أنكتاب بدل من سجين أو خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير راجع إليه أي هو كتاب وأصله وصف من السجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة وقيل الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول أن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء وعن الإمام لا استبعاد في أنيوضع أحدهما حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر وعن أبي علي أن قوله تعالى كتاب مرقوم أي موضع كتاب فكتاب على ظاهره وسجين موضع عنده ويؤيده ما أخرجهابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا أنالفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم وجاء في عدة آثار أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض وفي الكشف لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبارلا وبعض منذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قالوما أدرك سجين على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين وقال ابن عطية من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر أن والظرف الذي هو لفي سجين ملغي وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلا إذا كان معمولا للخبر أعني كتاب أو لصفته أعني مرقوم وذلك لا يجوز لأن كتاب موصوف فلا يعمل ولأن مرقوم الذي هو (30/71)
صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر وقيل كتاب خبر ثان لأن وقيل خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى كتاب الفجار ومناط الفائدة الوصف والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر وعن عكرمة أن سجين عبارة عن الخسار والهوان كما تقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول والكلام في وما أدراك الخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليس مشتقا من السجن أصلا ومرقوم منرقم الكتاب إذا أعجمه وبينه لئلا يلغو أي كتاب بين الكتابة أو منرقم الكتاب إذا جعل له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه وقال ابن عباس والضحاك مرقوم مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة وفي البحر مرقوم أيمثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى وشاع الرقم في الكتابة قال أبو حيان وهو أصل معناه ومنه قول الشاعر سأرقم في الماء القراح إليكم
على بعدكم إن كان للماء راقم وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين متصل بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين وما بينهما اعتراض والمراد للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى الذين يكذبون بيوم الدين إما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة وقيل هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى وما يكذب به إلا كل معتد الخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي ومايكذب بيوم الدين إلا كل متجاوز حدود النظر والأعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعد الإعادة محالة عليه عز زجل أثيم أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها إذا تتلى عليه آياتنا الناطقة بذلك قال من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه أساطير الأولين أيهي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الأخبار بها ولم يظهر صدقها أو أباطيل ألقيت على آبائنا الولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والأحتياط والأول أظهر والآية قيل نزلت في النظر بن الحرث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم وقرأ أبو حيوة وابن مقسم إذا يتلى بتذكير الفعل وقريء إذا تتلى على الأستفهام الإنكاري كلا ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز و جل بل ران على قلبهم ما كانوا يكسبون بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدافي المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغنيا ويقال ران فيه النوم أيرسخ فيه البحر أصل الرين الغلبة يقال رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت وران الغشي على عقل المريض أي غلب وقال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به رينا إذاوقع فيما لا يستطيع منه الخروج وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدا المسود للمرآة والفضة مثلا المغير عن الحالة الأصلية وأخرج (30/72)
الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فلذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة و السلام قال أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون والخلوة بالنساء والأستمتاع بهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم قال كل غني قد أبطره غناه وقريء بإدغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمعوا يعني القراء على إدغام اللام في الراء إلا مام كان منوقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإظهار وليس كما قال من الإجماع ففي اللوامح عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى بل رفعه الله إليه بل ربكم وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع بل ران غير مدغم وفيه أيضا وقرأ أيضا بالإدغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان والإدغام حسنان وقال أيضا فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي عربية جائزة وفي الكشاف قريء بإدغام اللام في الراء وبالإظهار والأدغام أجود وأميلت الألف وفخمت فليحفظ كلا ردع وزجر عن الكطسب الرائن أو بمعنى حقا إنهم أي هؤلاء المكذبين عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا يرونه سبحانه وهو عز و جل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن روية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص وقال الشافعي لماحجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا وقال أنس بن مالك لما حجب عز و جل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز و جل ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للأستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلاللوجهاء المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا الادنياء المهانون عندهم كما قال إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا
والناس من بين مرجوب ومحجوب أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كسيان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر للرؤية وغيرها من ألطافه تعالى والجار والمجرور متعلق بمحجوبون وهو العامل في يومئذ والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل أنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ثم إنهم لصالوا الجحيم مقاسو حرها على ما قالالخليل وقيل داخلون فيها وثم قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلى الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز و جل وأما عند المؤمنين لا سيما الواهلين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب ثم يقال لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة هذا الذي كنتم به تكذبون (30/73)
فذوقوا عذابه كلا تكرير للردع السابق في قوله تعالى كلا إن كتاب الفجار الخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف والإيقاء بر وقيل ردع عن التكليف فلا تكرار إن كتاب الأبرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عليين على وجه آخر غير اختلافهم في سجين فقال غير واحد هو علم لديوان الخبر الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك أما لأنه سبب الأرتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنهمرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم السلام تعظيما له وقيل هو المواضع العلية واحده علي وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكى ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون وقال الفراء هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون يشهده المقربون صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نظرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن مالهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب تعرف مبنيا للمفعول نضرة رفعا على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تعرف ضمير الأبرار وفي وجوههم نضرة مبتدأ وخبر كأنه قيل الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا تخفى وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ يعرف بالياء إذ تأنيث نضرة مجازي يسقون من رحيق قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيه قال حسان يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل وفسر ههنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مختوم ختامه مسك أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا إسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الأستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالأنتهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى وقيل إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن عبلة والكسائي خاتمه بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقلب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعني على الأرائك ينظرون وتعرف في وجوههم الخ ويسقون الخ قيل أحوالمترادفة وقيل مستأنفات كجملة الأبرار الخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم وفي ذلك إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه منمعنى البعد للأشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى فليتنافس وقدم للأهتمام أو للحصر أي فليتنافس على الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز و جل فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه منكل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعوا له فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى كتاب مرقوم يشهده المقربون وسأله عن قوله تعالى إن كتاب الفجار الآية فقال إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجين ويكون في عليين فقد أخرج ابن المبارك عن صخرت بن حبيب قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم انكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل وقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم شروع في بيان محاسن أحوالهم أثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا حال كتابهم فأجيب بما ذكر أي أنهم لفي نعيم عظيم على الأرائك أي على الأسرة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها ينظرون أي إلى ما شاؤا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد إلى (30/74)
ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات وقال مقاتل إلى أهلالنار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا وفيه إشارة إلى أنه لا نوم فيالجنة كما وردت به الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام وعليه يكون قوله سبحانه تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي بهجة النعيم ورونقه لنفي مايوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن ما لهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء وقرأ أبو جعفر وابن أبي اسحق وطلحة وشيبة ويعقوب تعرف مبنيا للمفعول نضرة رفعا على النيابة عن الفاعل وجوز بعضهن أن يكون نائب فاعل تعرف ضمير الأبرار وفي وجوههم نضرة مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفي وقرأ زيد بن على كذلك إلا أنه قرأ يعرف بالياء إذ تأنيث نضرة مجازي يسقون من رحيق قال الخليل هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج الشراب الذي لا غش فيها قال حسان ... يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ...
وفسر ههنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مختوم ختامه مسك أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روى عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون والظاهر أن الختام ما يختم به وإن الختم على حقيقته وكذا اسناده وقولنا مختوم أوانيه الخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعنى الأشتيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به واظاهرا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان عن ذلك بالختم وقال ابن عباس وابن جبير والحسن المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال لذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلا فالرائحة لا تختص بالانتهاء وقيل المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى وقيل أن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي خاتمه بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك والجمل السابقة أعنى على الأرائك ينظرون وتعرف في وجوههم الخ ويسقون الخ قيل أحوال مترادفة وقيل مستأنفات كجملة أن الأبرار الخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على اسقلال كل في بيان كرامتهم وفي ذلك إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى فليتنافس وقدم للاهتمام أو الحصر أي فليتنافس (30/75)
وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أولا في غيره منملاذها ونعيمها المتنافسون أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى وقيل أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى لمثل هذا فليعمل العاملون أي فليستبق في تحصيل ذلك المتسابقون وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفيس لعزتها قال الواحدي نفست الشيء أنفسه نفاسة والتنافس تفاعل منه كان كل واحد منالشخصين يريد أن يستأثر به وقال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل واحد لنفسه ويقال نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه وفي مفردات الراغب المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم منغير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير وفليتنافس في ذلك وأجيب بأنه بتقدير القول أي يقولون لشدة التلذذ من غير اختيار في ذلك فليتنافس المتنافسون أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك وقيل الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم وقوله تعالى ومزاجه منتسنيم عطف على ختامه مسك صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته وتسنيم علم لعين بعينها في الجنة كما روي عن ابن مسعود وعن حذيفة اليمان أنه قالعين منعدن سميت بالتسليم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روي عن ابن عباس أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي عن الكلبي وروي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم وقيل سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم منكونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه ومن بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسليم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية عينا نصب على المدح وقالالزجاج على الحال من تسليم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى يشرب بها المقربون أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الأشتقاق غير لازم والباء إما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها أو على تضمين يشرب معنى يروي أي يشرب راوين بها أو يروي بها شاربين المقربون أو صلة الألتذاذ أي يشرب ملتذا بها أو الأمتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها أو الأكتفاء أي يشرب مكتفين بها أوجه ذكروها وفي كونها صلة الأمتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسليم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق والمدامة التي تواصي على شربها ذووا الأذواق والتحقيق على نفسه فلبيك من ضاع عمره
وليس له منها نصيب ولا سهم وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشتمل كل من نعم في الجنة وقوله تعالى إن الذين أجرموا الخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة كانوا أي في الدنيا كما قال قتادة من الذين آمنوا يضحكون كانوا يستهزؤن بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء وفي البحر روي أن عليا كرم الله (30/76)
تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت إن الذين أجرموا الخ قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه وإنما قالوه استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوايضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى أفي الله شك لمراعاة الفواصل وإذا مروا أي المؤمنون بهم أيبالذين أجرموا وهم في أنديتهم يتغامزون أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وأرجاع ضمير مروا للمؤمنين وضمير بهم للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول واستظهر أبو حيان العكس معللا له بتناسق الضمائر وإذا انقلبوا أي المجرمون ورجعوا منمجالسهم إلى أهلهم انقلبوافكهين ملتذين باستخفافهم بالمؤمنين وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم وقيل فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز وقرأ الجمهور فاكهين بالألف قيل هما بمعنى فكهين أشربن وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين ناعمين وقيل مادحين وإذا رأوهم وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا قالوا إن هؤلاء لضالون يعنون المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الأعتناء بسبهم وما أرسلوا عليهم حافظين جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعارا بأن ما جرؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى وجوز أن يكون منجملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى على نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صد المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإيمان فاليوم الذين آمنوا أي المعهودون من الفقراء من الكفار أي من المعهودين وجوز التعميم من الجانبين يضحكون حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه والظرف والجار والمجرور متعلقان بيضحكون وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا وقوله تعالى على الأرائك ينظرون حال منفاعل يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال وقيل يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم هلم هلم فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له هلم هلم فما يأتي من أياسه ويضحك المؤمنون منهم وتعقب بأن قوله تعالى هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا أباء كما لا يخفى والتثويب والاثابة المجازاة ويقال ثوبه وأثابه إذا جازاه ومنه قول الشاعر سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمدي وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وذوق أنك أنت العزيز الكريم كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعملون فيكون هذا القول زائدا (30/77)
في سرورهم لما فيه من تعظيمهم والأستخفاف بأعدائهم والجملة الأستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا منضمير يضحكون أو من ضمير ينظرون أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم هل ثوب الخ ولم يتعرض لذلك الجمهور وفي البحر الأستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا الخ وقيل هل ثوب متعلق بينظرون والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه والكلام بتقدير مضاف أيثواب أو جزاء ماكانوا الخ وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بماكانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في التاء والله تعالى أعلم
سورة الإنشقاق
ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انشقت أي الغمام كما روي عن ابن عباس وذهب إليه الفراء والزجاج كما في البحر ويشهد له قوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام فالقرآن يفسر بعضه بعضا وقيل تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى وانشقت السماء فهي يومئذ واهية وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الأنشقاق بالغمام وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة وفي الآثار أنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون أنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحس ويظهر ذلك ظهورا بينا لمن نظر إليها بالأرصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحس وخبر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل معاذا إلى أهل اليمن فقال له يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة فقل هي لعاب حية تحت العرش ومنه قيل أنها في البحر المكفوف تحت لا يكاد يصح والقول المذكور لا ينبغي أن يحكى إلا لينبه على حاله وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو انشقت وكذا ما بعد من نظائره بإشمام التاء كسرا في الوقف وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيء على ما قيل وعن أبي حاتم سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس بكسر هذه التاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما إن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة وما أنا بالداعي لعزة بالردى
ولا شامت أن قيل عزة ذلت إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى الظنونا والرسولا في سورة الأحزاب وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل وأذنت لربها أي استمعت له تعالى يقال أذن إذا سمع قال الشاعر صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا وقال قعنب إن يأذنوا ربية طاروا بها فرحا
وما هم أذنوا من صالح دفنوا والأستماع هنا مجاز عن الأنقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عز و جل حين تعلقت إرادته سبحانه (30/78)
بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى أتينا طائعين في الأنباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الأنشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه وحقت أي جعلت حقيقة بالأستماع والأنقياد لكن لا بعد أن لمتكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالأنقياد لما أن القدرة الربانية لا يتعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الأنقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها وقيل المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلة اعتراض مقرر لما قبلها وقيل معطوفة عليه وليس بذاك وإذا الأرض مدت قال الضحاك بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمده أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها وأخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه وألقت ما فيها أيرمت ما في جوفها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم القاء الكنوز يومئذ ولو سلم يقول يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه وتخلت أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك تحلم الحليم وتكرم الكريم وقيل تخلت ممن على ظهرها من الأحياء وقيل مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى وقد أخرج أبو القاسم الحبيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري وإن الأرض تحرك بي فقلت لها ما لك فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء في ذلك قوله تعالى وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها في الألقاء وما بعده وحقت الكلام فيه نظير ما تقدم وفيه إشارة إلى أنما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عز و جل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة يا أيها الإنسان إنك كادح أي جاهد ومجد جدا فيعملك من خير وشر إلى ربك كدحا أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها من مدح جلده إذا خدشه قال ابن مقبل وما الدهر إلا تارتان فمنهما وقال آخر ومضت بشاشة كل عيش صالح
وبقيت أكدح للحياة وأنصب فملاقيه أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه والضمير له عز و جل أي فملاقي جزائه تعالى وقيل هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو إنما هي أعمالكم ترد إليكم (30/79)
والظاهر أن ملاقيه معطوف على كادح على القولين وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فألفاه على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها والتقدير فأنت ملاقيه ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما يؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة أي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة فقال الأسود فأين الأرض والسماء وما حال الناس وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس ويل المراد أبي بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والإصرار على الكفر ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة و السلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عز و جل وإرشاد عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار فأبشر إنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب إذا قيل قوله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا الخ كما في قوله تعالى فأما يأتيكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله تعالى يا أيها الإنسان الخ اعتراض وقيل هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والإنفطار وقيل هو ما دل عليه يا أيها الإنسان الخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه وقيل هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال وقال الأخفش والمبرد وهو قوله تعالى فملاقيه بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة وعلى هذا جملة يا أيها الإنسان الخ معترضة وقال ابن الأنباري والبلخي هو وأذنت على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقبل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لا ذكر محذوفا ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة و السلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز فقد أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ليس أحد يحاسب إلا هلك قلت يا رسول الله جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في بعض صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة و السلام قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه وينقلب إلى أهله مسرورا أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيل أي فريق مطلقا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الأشتراك في الإيمان وقيل أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد وقرأ زيد بن علي ويقلب مضارع قلب مبنيا للمفعول وأما من أوتي كتابه وراء ظهره أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره قيل تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله وروي أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في السورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في البحر وقيل لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين أما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن (30/80)
عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين ويكون قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا من وصف الكل بوصف البعض وقيل أنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فسوف يدعوا ثبورا يطلبه ويناديه ويقول يا ثبوراه تعالى فهذا أوانك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره ويصلي سعيرا يقاسى حرها أو يدخلها وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج يصلي بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى وتصلية جحيم وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو يصلي بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الأصلاء لقوله تعالى ونصله جهنم إنه كان في أهله في الدنيا مسرورا فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزبنا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها وقوله تعالى إنه ظن أن لن يحور تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد وقيل ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع والتقييد هنا بقرينة المقام وإن مخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور بلى إيجاب لما بعد لن وقوله تعالى إن ربه كان به بصيرا تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عز و جل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعه وحسابه ومجازاته فلا أقسم بالشفق هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب وأصله من رقة الشيء يقال شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقه من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الحرم وقيل البياض الذي يلي تلك الحمرة ويروى بعد سقوطها وفي تسمية ذلك شفقا خلافا للجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى وروي أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في شروح الهداية وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله وروي ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو تحققت الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق واليل وما وسق وما ضم وجمع يقال وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع ويقال طعام موسوق أي مجموع وابل مستوسقة أي مجتمعة قال الشاعر إن لنا قلائصا حقائقا
مستوسقات لم يجدن سائقا ومنه الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أو حمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل وبأي إلى مكانه من الدواب وغيرها (30/81)
وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل ما جمعه من الظلمة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال وما وسق وما عمل فيه ومنه قوله فيوما ترانا صالحين وتارة
تقوم بنا كالواسق المتلبب وقيل وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا والقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا لتركبن طبقا عن طبق خطاب لجنس الإنسان المنادي أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالركوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره
وساقني طبق منه إلى طبق وعن للمجاوزة وقال واحد هي بمعنى بعد كما في قولهما سادوك كابرا عن كابر وقوله ما زلت أقطع منهلا عن منهل
حتى أنخت بباب عبد الواحد والمجاورة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل تركبن والظاهر أن نصب طبقا على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا وقيل نصب طبقا على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحده ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها ورجحه الطيبي فقال هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في فلا أقسم على قوله تعالى بلى إن ربه كان به بصيرا وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين وقيل يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم والإحياء المطابق للأحياء السابق فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في القاموس من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد وقيل الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنت لما ولدت أشرفت الأرض
وضاءت بنورك الأفق تنقل من صالب إلى رحم
إذا مضى عالم بدا طبق وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن وكلا القولين خلاف الظاهر وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والإخوان وابن كثير لتركبن بتاء الخطاب وفتح الباء وروي عن ابن عباس واين مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وروي ذلك عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة و السلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لتركبن أحوالا شريفة بعد (30/82)
أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلى الله تعالى عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء وقرأ عمر وابن عباس أيضا ليركبن بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الألتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة و السلام فجعل الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار وقرأ عمر أيضا ليركبن بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول وقريء بلا لتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر التقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القرآت لا يخفى والفاء في قوله تعالى فما لهم لا يؤمنون جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى لتركبن الخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمكنين أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر ما يجب الإيمان مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة و السلام المشار إليه بقوله سبحانه لتركبنالخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما أإليه فأي شيء يمنعهم به عليه الصلاة و السلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه فلا أقسم الخ يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز و جل ويحبط بها علمه جل جلاله وإذا قريء عليهم القرآن لا يسجدون عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة أو المراد به الصلاة وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره فالمراد بما قبله قريء القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة وقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فقلت له فقال سجدت خلف أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة و السلام وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال ليس في المفصل وهو من سورة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة قال الإمام روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ ذات يوم واسجد واقترب فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين (30/83)
الأول أن فعله عليه الصلاة و السلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى فاتبعوه الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت بل الذين كفروا يكذبون أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة يكذبون مخففا وبفتح الياء والله أعلم بما يوعدون أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاد جعل الشيء في وعاء وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وأريد بههنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا يخفى وفسره بعضهم بالجمع وحكى عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيا ما كان فعلم الله تعالىبذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه وقيل المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كثيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة وقال بعضهم يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرون في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير يكذبون وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر وقرأ أبو رجاء بما يعون من وعى يعي فبشرهم بعذاب أليم مرتب على الأخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به على تكذيبهم وقيل الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر فبشرهم الخ والتبشير في المشهورالإخبار بسار والتعبير به ههنا من باب
تحية بينهم ضرب وجيع
وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لأنهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كان الإخبار به تبشيرا وإخبارا بسار والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلى الله تعالى عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة و السلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء منقطع من الضمير لمنصوب في فبشرهم وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمنوعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أو هما بمعنى المضارع ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى لهم أجر غير ممنون لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة وكون الأختصاص إضافيا بالنسبة إلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الأختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى والتنوين في أجر للتعظيم ومعنى غير ممنون غير مقطوع من من إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم منمن عليه إذا اعتد بالصليعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من من بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الأستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير
سورة البروج
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين (30/84)
ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وإن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وإن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه بسم الله الرحمن الرحيم والسماء ذات البروج أي القصور كما قال ابن عباس وغيره والمراد بها عند جمع البروج الأثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار للقصر العالي لأنه ظاهر للناظر ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج والسماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها استعارة مصرحة تتبعها مكنية وقيل شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة هي النجوم وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم والله تعالى أعلم بصحته وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال هي النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلف الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم وقيل هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف وقيل في النسبة والبروج الأثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس وزعموا أنهالعرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى منالصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثواب وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم وبرج الثور ليس إلا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الأثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه ولذا يسمى فلك البروج وقيل السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أوالكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين (30/85)
من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والأثنين الباقين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل واليوم الموعود أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين وقيل لعله الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون أو يوم طي السماء كطي السجل للكتب وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ولا يخفى أن جميع ذلك داخل فييوم القيامة وشاهد ومشهود أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال والعجائب فيكون الله عز و جل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كماقيل في علمت نفس ما أحضرت وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال هل سألت أحدا قبلي قال نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة قال لا ولكن الشاهد محمد وفي رواية جدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قرأ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا والمشهود يوم القيامة ثم قرأ ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وروي النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه والشاهد الله عز و جل والمشهود يوم القيامة وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته عليه الصلاة و السلام وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الأثنين ويوم الجمعة وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلا ينادي أني يوم جديد وإني على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة وقيل أمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر (30/86)
الأمم وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى كتاب مرقوم يشهده المقربون وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك وقيل وقيل وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف عن بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصم أوله شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج وأما شهادة اليوم فيمكن أن تون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك وقال الشهاب الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم ليشهد ولم يبين كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو وإن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو الأرجح عندي واختار أبو حيان من الأقوالعلى تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وإن المشهود من يشهد عليه فيه وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وإن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل وجواب القسم قيل هو قوله تعالى إنالذين فتنوا وقال المبرد هو قوله تعالى إن بطش ربك لشديد وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله حلفت لها بالله حلفة فاجر
لناموا فما إن من حديث ولا صالي وقيل على حذف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما شتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد لا يجوز الأقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه قد أفلح من زكاها بعد قوله تعالى والشمس وضحاها الخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيا ما كان فالجملة خبرية وقال بعض المحققين أن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء إن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيها قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عز و جل في كونهم ملعونين مطرودين فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فأريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا وقال بعضهم الأظهر أن يقدر أنهم لمتفولون كما قتل أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكفرة المتمردين لأعلاء دينه ويكون معجزة بقتل رؤسهم في غزوة بدر انتهى وظاهرة إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكى في البحر أنالجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين (30/87)
تبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في أخاقيق جرذان
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقالله ذلك الكاهن انظروا إلي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله تعالى فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطيء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنهلا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب إذا قاللك الكاهن أين كنت فقل عند أهلي وإذا قال أهلك أين كنت فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا فأخذ الغلام حجرا فقال اللهم إن كان ما يقول الراهب حقفا فاسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فاسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة فقال الناس من قتلها فقالوا الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد فسمع أعمى فجاءه فقال له إنأنت رددت بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى ثم أمر بالغلام فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسهفانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى فقال الغلام للملك إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول بسم الله رب الغلام فأمر به فصلب ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمى ثم مات فقال الناس لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فأنانؤمنبرب هذا الغلام فقيل أجزعت أنخالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخذ أخدودا ثم ألقي فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار فجعل يلقيهم في تلك الأخدود فقال يقول الله تعالى قتل أصحاب الأخدود حتى بلغ العزيز الحميد وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأصبغه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكانت تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي يا أمه اصبري فإنك على الحق وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجي قال شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة فقال علي كرم الله تعالى وجهه أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فانس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمى به فيها ومن تابعهم ترك وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي فجزعت فقال الصبي يا أمه اصبري ولا تماري فوقعت وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين (30/88)
بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله تعالى أحل نكاح الأخوات أو البنات فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته وقال ويحك إن الناس قد آبوا على ذلك قالت إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا قالت فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا قالت فخذ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخذ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه وقيل وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد وقيل سبعين ألفا وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجي السابق وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكى فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة ومنها أنهم من النبط وروي عن عكرمة ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن أبي عباس وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن فقد قال عصام الدين لعل جميع ما روي واقع والقرآن شامل له تغفل وقرأ الحسن وابن مقسم قتل بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء النار بدل اشتمالمن الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك وقرأ قوم النار بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال على قراءة يسبح بالبناء للمفعول وقوله
لبيك يزيد ضارع لخصومة
ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود وأن تتعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه وإن حمل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة إن النار مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار ذات الوقود وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل بل موقدة جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليسذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم وذو النون وكذا ذو العرش وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى الوقود بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه وقوله تعالى إذ هم عليها قعود (30/89)
ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى تشب لمقرورين يصطليانها
وباب على النار الندى والمحلق وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه والجمهور على أن المراد ذلك منغير تقدير وهمعلى ما يفعلون بالمؤمنين شهود أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم وقيل على بمعنى مع المعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم ومن زعم أن الله تعالى نجى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود وأيا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بالمؤمنين والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل أن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهود بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضميرهم على ما يفعلون لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وما نقموا منهم أي ما أنكروا منهم وما عابوا وفي مفردات الراغب يقال نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وما نقموا بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الإسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الإسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهمإلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز و جل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه وفي المنتخب إنما قال سبحانه إلا أن يؤمنوا لأن التعذيب إنما كان واقعا على اتل إيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على مامضى فكأنه قال عز و جل إلا أن يدوموا على إيمانهم انتهى وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة ووصفه عز و جل بكونه عزيزا غالبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض للإشعار بمناط إيمانهم وقوله تعالى والله على كل شيء شهيد وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الأستقلال جيء فيه بالاسمال جليل دون الضمير إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا بالمؤمنين والمؤمنات المفتونين إما أصحاب الأخدود والمطرحون فيه خاصة وأما الأعم ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو ألظهر وقيل المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبواالمؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى ثم لم يتوبوا قال ابن عطية يقوى أن الآية (30/90)
في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فلهم عذاب جهنم أي بسبب فتنهم ذلك ولهم عذاب الحريق وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبيء عنه صيغة لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم وقال بعض الأجلة أي فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب وقيل أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوز وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمبعودين جدا عن رحمته عز و جل أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا والظاهرأنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس إلا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف وقال بعضهم لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل وجملة فلهم عذاب الخ وقعت خبرا لأن الجار والمجرور وعذاب مرتفع على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الإطلاق من المفتونين وغيرهم لهم بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح جنات تجري من تحتها الأنهار إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة الجملة قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ذلك إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الأبتداء خبره الفوز الكبير الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله إن بطش ربك لشديد استئناف خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إيذانا بأن الكفار قومه نصيبا موفورا منمضمونه كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام والبطش الأخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز و جل بالجبابرة والظلمة وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والأنتقام إنه هو يبديء ويعيد أي إنه عز و جل هو يبديء الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك أو يبديء كل ما يبدا ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة (30/91)
أو يبديء البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة فيموضع التعليل لما سبق ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه وقيل وجهه عليه أن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك وعن ابن عباس يبديء العذاب بالكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز و جل خلقا جديدا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور والأستعمال يبديء مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدا كما بين في محله وحكى أبو زيد أنه قريء يبدأ من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة وهو الغفور لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فاصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بها لا يعلمه إلا الله تعالى للتائبين الودود المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بأنعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة وقيل هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له وأنشد قوله وأركب في الروع عريانة
ذلول الجماح لقاحا ودودا أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى ذو العرش أيصاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلا قليل وجاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول وقال القفال ذو العرش ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا وقرأ ابن عامر في رواية ذي العرش بالياء على أنه صفة لربك وحينئذ يكون قوله تعالى إنه هو الخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة والموصوف وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأوقد قال ابن مالك في التسهيل يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمخص مباينته نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوف بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان المجيد العظيم في ذاته عز و جل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجوب تام القدرة كامل الحكمة وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان المجيد بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه فإنه العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطلشرعا وعقلا على ما تقتضيه أصولهم وجاز على قراءة ذي العرش بالياء أن يكون صفة لذي وجوز كونه صفة لربك وليس بذاك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين فعال لما يريد بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعاله غيره عز و جل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفيه رد ظاهر على المعتزلة في قولهم أنه سبحانه وتعالى يريد إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى هو الغفور وجوز أن يكون الودود وذو العرش والمجيد صفات للغفور ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ واحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدآت (30/92)
للمذكورات وأطلق الزمخشري القول بأن فعال خبر لمبتدأ محذوف أي هو فعال فقال صاحب الكشف إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى هو الغفور لأن قوله سبحانه فعال لما يزيد تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة أه وهو تدقيق لطيف وقوله تعالى هل أتاك حديث الجنود استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا اشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم بالأشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للعوان ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد بالجنود ههنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم السلام واجتمعوا على أذيتهم فرعون وثمود بدل من الجنود بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه وقيل البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر وقال السمين يجوز كونه منصوبا بأعني لما لم يطابق ما قبله وجب وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الأشكال وأجيب بأن المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤنه سبحانه وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى بل الذين كفروا أي من قومك في تكذيب إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبيء عنه العدول عن يكذبون إلى في تكذيب المفيد لأحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله قيل ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب أو كأنه قيل ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والأتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى والله من ورائهم محيط جوز أن يكون اعتراضا تذليليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور السابق والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير واحد وكان المعنى أنه عز و جل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى وذكر عصام الدين إن في ذلك تعويضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن بهم إلى منورائهم وقوله تعالى بل هو قرآن مجيد رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به وقيل إضراب وانتقال عن الأخبار بشدة تكذيبهم وعدم إرعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء والأول أولى وزعم بعضهم أن الإضرابالأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغا عن تكذيب والله تعالى لا يمهل أمرهم وفيه من تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب وقرأابن السمقيع قرآن مجيد بالإضافة قال ابن خالويه سمعت ابن الأنباري يقول معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر
ولكن الغنى رب غفور
أي غني رب غفور وقال ابن عطية قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد (30/93)
هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه وجوز أن يكون من أضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان وهذا أولى لتوافق القراءتين في لوح أي كائن في لوحمحفوظ أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا اللوح المحفوظ المشهور وهو ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وهو معقود بالعرش وأصله في حجر مالك يقال له ساطريون لله عز و جل فيه في كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وأنه كتب في صدره لا إله إلا الله وحده لا شريك لهدينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله عز و جل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة وقال مقاتل إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه أخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيز وإنه كالمرآة للصور العلمنة مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا وقرأ ابن يعمر واين السمقيع لوح بعضم اللام وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا ما فوق السماء السابعة وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه محفوظ بالرفع على أنه صفة لقرآن وفي لوح قيل متعلق به وقيل صفة أخرى لقرآن وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم
سورة الطارق
مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرأن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الأنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بإمهال أولئك المكذبين فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
والسماء هي المعروفة على ما عليه الجمهور وقيل المطر هنا وهو أحد استعمالاتها ومنه قوله إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا ولا يخفى حاله والطارق وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق بمعنى الضرب بوقع أشدة يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي ليلا لأنه في الأكثر يجد البواب مغلقة فيطرقها ثم اتسع في كل ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه والعرب تصفها بالطروق كما في قوله طرق الخيال ولا كليلة مدلج
سدكا بأرحلنا ولم يتعرج والمراد به ههنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما إن شاء الله تعالى وقوله تعالى وما أدراك ما الطارق تنويه بشأنه أثر تفخيمه بالأقسام وتنبيه على رفعة قدره بحيث لا ينالها إداك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم فما الأولى مبتدأ وأدراك خبره وما الثانية (30/94)
خبر والطارق مبتدأ على ما اختاره بعض المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق وقوله سبحانه النجم الثاقب خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كأنه قيل ما هو فقيل هو النجم الخ والثاقب في الأصل الخارق ثم صار بمعنى المضيء لتصور أنه يثقب الظلام وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك وتصور أنها ينفذ ضوءها في الأفلاك ونحوها وقال الفراء الثاقب المرتفع يقال ثقب الطائر أي ارتفع وعلا والمراد بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوأ ثاقبا لا محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضر التفاوت في ذلك وذهب غير واحد إلى أن المراد به معهود فعن ابن عباس أنه الجدي وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم النجم وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه وأنت تعلم أن إطلاق النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم السماء السابعة لا يسكنها فميره فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لا يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الأرتفاع ولم يشكوا في أن كثيرا منها من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الأرتفاع فذلك أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها زحل وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعالى وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه الأنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على المير رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب التي يرجم بها وليس بذاك وما روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانحط نجم فامتلأ ماء ثم نور ففزع أبو طالب فقال أي شيء هذا فقال عليه الصلاة و السلام هذا نجم رمى به وهو آية من آيات الله تعالى فعجب أبو طالب فنزلت لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى وزعم ابن عطية أن المراد بالطارق جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم الثاقب وغيره ويكون معنى وما أدراك ما الطارق حق الطارق بأن تكون أل في ما الطارق مثلها في أنت الرجل وما أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وإن ذلك مما لا يبلغه أفكار الخلائق ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب ولارادة ذلك لم يقل ابتداء والنجم الثاقب مع أنه أخصر وأظهر ولله عز و جل أن يفخم شأ ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه ههنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى إن كل نفس لما عليها حافظ وما بينهما اعتراض جيء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها وقيل جوابه قوله سبحانه إنه رجعه لقادر وما في البين اعتراض وهو كما ترى وإن نافية ولما بمعنى إلا ومجيئها كذلك (30/95)
لغة مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون أقسمت عليك أو سألتك لما فعلت كذا يريدون إلا وفعلت وبهذا رد على الجوهري المنكر لذلك وقال الرضي لا تجيء إلا بعد نفي ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف الأوكل لتأكيد العموم لتحقيق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو مبتدأ والخبر على المشهور حافظ وعليها متعلق به وعلى ما سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عز و جل كما في قوله تعالى وكان الله على كل شيء رقيبا إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب وقيل هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم السلام ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين الآية وروي ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة وقيل هو ومن وكل حفظها والذنب عنها من الملائكة كما في قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين وقيل هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره وقرا الأكثر لما بالتخفيف فعند الكوفيين إن نافية كما سبق بمعنى إلا وما زائدة وصرحوا هنا بأن كل وحافظ مبتدأ وخبر فلا تغفل وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة وكل مبتدأ وما زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين أن النافية وإن المخففة وحافظ خبر المبتدأ وعليها متعلق به وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول كما صرح به في التسهيل وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به بعض الأفاضل في حواشيه عليه ولعل من قال أي أن الشأن كل نفس لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى وحكى هارون أنه قريء إن بالتشديد وكل بالنصب ولما بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر إن وما زائدة وعلى جميع القراآت أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة تالله إن كدت لتردين وبالنافية ولئن زالتا أن أمسكهما وقوله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق متفرع على ما قبله وليست الفاء لفصيحة خلافا للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام أما على تقدير أن يكون الحافظ هو الله عز و جل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه للحفظ على الوجه الذي سمعت فلأنه لما أثبت سبحانه أن عليه رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه كأنه قيل فليعرف المهيمن عليه ينصبه الرقيب أو بنفسه وليعلم رجوعه إليهتعالى وليفعل ما يسر به حال الرجوع وعبر عن الأول بقوله تعالى فلينظر ليبين طريقه المعرفة فهو بسط فيه إيجاز وأدمج فيه الأخيران وأما على تقدير أن يكون المراد به العقل فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعكطيله وإلغائه كأنه قيل فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطيله وإلغائه كأنه قيل فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة واهبه وأنه لإإذا قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل ومم خلق استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بينظر وهي معلقة بالأستفهام وقوله تعالى خلق من ماء دافق استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل مم خلق فقيل خلق من ماء الخ وظاهر كلام بعض الأجلة أنه جواب الاستفهام (30/96)
المذكور مع تعلق الجار بينظر وفيه مسامحة وكأن المراد أنه على صورة الجواب وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر بشيء عند من له نظر والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة وأريد بالماء الدافق المني ودافق قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقال الخليل وسيبويه هو على النسب كلا بن وتامر أي ذي دفق وهو صادق على الفاعل والمفعول وقيل هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي و مصرحة بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع فقال الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق وتعقبه أبو حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه الصب ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصب بمرة فدافق بمعنى منصب فلا حاجة إلى التأويل وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في القاموس وغيره وقيل من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلا من ماءين ماء الرجل وماء المرأة ولذا كان خلق عيسى عليه السلام خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم وبالأمتزاج صارا ماء واحدا ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد جزئيه وهو مني الرجل وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل قوله تعالى يخرج من بين الصلب أي منبين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره والترائب أيومنبين ترائب كل امرأة أيعظام صدرها جمع تريبة وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدر وروي عن ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قول امريء القيس مهفهفة بيضا غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل باعتبار ماحوله على ما في البحر وجاء في المفرد تريب كما في قول المثقب البعدي ومن ذهب يبين على تريب
كلون العاج ليس بذي غضون وحمل الآية على ما ذكر مروي عن سفيان وقتادة إلا أنهما قالا أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه وعليه قيل هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه وقيل إن ذلك باعتبار أنالرجل والماة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل ثم إن ما تقدم مبني إما على أنالترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد وأما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضا أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر وقيل ما بين الثديين وقيل ما بين المنكبين والصدر وقيل التراقي وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى ملكي عن ابن عباس أنها أطراف المرء ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه وطعن في ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء البدن فيأخذ منكل عضو طبيعة وخاصية متعديا لأن يتولد منه تلك الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك (30/97)
فهو ضعيف أيضا لأن مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على خلافه وأجاب رحمه الله تعالى بأنه لا شك أن معظم الأعضاء معونة في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التربية فلذا خصا بالذكر على أن كلامهم في أمر المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول عليه أه وفي الكشف أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج إلى تخصيص التربية بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف والوجه والله تعالى أعلم أن النخاع والقوي الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأالشخص على مابين في موضعه وقوله سبحانه من بين الصلب والتراءب عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة فالترائب يشمل القلب والكبد وشمولها للقلب أظهر والصلب النخاع وبتوسطه الدماغ ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره ذلك لأنه دم نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالأحليل انتهى وقيل لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط وجعل الكلام إما على التغليب أو على أنه ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق كما قيل به ولا يخفى ما فيه والقول بأن الماة لا ماء لها تكذبه الشريعة وغيرها وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم يخرج مبنيا للمفعول وهما وأهل مكة وعيسى الصلب بضم الصاد واللام واليماني بفتحهما وروي عن اللغتين قول العجاج ريا العظام فخمة المخدم
في صلب مثل العنان المؤدم وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قول العباس
تنقل من صالب إلى رحم
وهي قليلة الأستعمال واستشهد بعض الأجلة بقوله تعالى خلق من ماء دافق على أن الإنسان هو الهيكل المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنغس الناطقة الإنيانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه وقال أنه شاهد قوي على ذلك وتأويله بأنه على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى وأنت تعلم أن القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة إنه على رجعه لقادر الضمير الأول للخالق تعالى شأنهوكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى مم خلق خلق إذ لا يذهب إلى خالق شواه عز و جل فخم بالإضمار ثانيا والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في قوله لئن كان تهدي برد أنيابها العلى
لأفقر مني أنني لفقير فإنه أراد لبين الفقر والألم يصح إيراده في مقابلة لا فقر مني والتأكيد لفزظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى ولذا فسر قادر هنا يبين القدرة كما في الكشاف واعتبر فيه الأختصاص فقال أي على (30/98)
إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به على المذهبين وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الأستفهام دونها وقال مجاهد وعكرمة الضمير الثاني للماء أي أنه تعالى على رد الماء في الأحليل أو في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه وجل على رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن الضحاك وما ذكرناه أولا مروي عن ابن عباس يوم تبلى السرائر أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث وأصل الأبتلاء الأختيار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ضمن الله تعالى خلقه أربعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى يوم تبلى السرائر ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن بنشد قول الأخوص سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
سريرة وديوم تبلى السرائر فقال ما أغفله عما في السماء والطارق وكأنه حمل البقاء فيه على التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه أي يرجعه يوم الخ وقال الزمخشري وجماعة ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا ومعموله بأجنبي وأجيب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى وقيل ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لا ذكر محذوفا وهو كما ترى ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأي الضحاك السابقين آنفا وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عز و جل بيوم دون يوم كما قال غير واحد وقال ابن عطية فروا من أن يكون العامل لقادر للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال على رجعه لقادر على الإطلاق أو وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام فما له أي الإنسان منقوة في نفسه يمتنع بها ولا ناصر ينتصر به والسماء وهي المظلة في قول الجمهور ذات الرجع أيالمطر في قولهم أيضا كما في قول الخنساء يوم الوداع ترى دموعا جارية
كالرجع في المدجنة السارية وأصله مصدر رجع المعتدي واللازم أيضا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به المطر كما سموه بالأوب مصدر آب ومنه قوله رياء شماء لا يأوى لقلتها
إلا السحاب ولا الأوب والسبل (30/99)
ليرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا وقال الحسن لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل ابن عباس ومجاهد تفسير بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السماء هي المعروفة والرجع رجحوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقيل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وإنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم وقيل الرجع الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد والأرض ذات الصدع هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمى به النبات مجازا أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد وقيل تشققها بالعيون وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الأقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في في أنفسهما من شواهده وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قول مجاهد الصدع ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرت وغيره وما روي عنه أيضا الصدع الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم للنشور إنه أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على حيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا وقوله تعالى لقول فصل أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي مقطوع به والأول أحسن وما هو بالهزل أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن النباري عن الحرث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إنها فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو السراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تلته الجن لما سمعته عن أن قالوا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه إنهم أي كفار مكة يكيدون يعلمون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما وهذا قيل أملأ فائدة كيدا أي عظيما حسبما تفي قدرتهم والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل غذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في أعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها فمهل الكافرين فاتشتغل بالأنتقام منهم ولا تدع عليهم (30/100)
بالهلاك أو تأن وانتظر الأنتقام منهم ولا تستعجل والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن الأخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم إهمالهم مما يوجب إهمالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها وقيل للأشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى أمهلهم بدل من مهل على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه رويدا إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة وأخرج ابن المنذر عن السدي أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته والظاهر ما قال السدي وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لآ يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد
كأنها ثمل تمشي على ورد
أي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغيرا أرواد مصدر رواد يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الأستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو ريدا زيد أي أمهله وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين ولم يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر كلها بمعنى فكأنه قيل أمهل الكافرين أمهلهم أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك ففي الحديث إيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكحها باطل باطل باطل ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا وجوز رحمه الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى لا تعثوا في الأرض مفسدين فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلى الله تعالى عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة و السلام وإنما دلت الزيادة من حيث الأشعار بالتغاير كأن كلا كلام مستقل بالأمر بالتألي فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس مهلهم بفتح الميم وشد الهاء وموافقة اللفظ الأمر الأول
سورة الأعلى
وتسمى سورة سبح والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها ورده الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابي أبي شيبة عن البراء ابن عازب قال أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مصعب بن عمير وابن مكتوم فجعلا يقرئانا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عشرين ثم جاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة و السلام حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد جاء فما جاء عليه الصلاة و السلام حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها ثم إن ذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالى والأرض ذات الصدع وذكرا ههنا في قوله تعالى خلق فسيرى وقوله سبحانه أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما أن قصة خلق الإنسان (30/101)
هناك كذلك نعم إن ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحبها أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحب هذه السورة سبح اسم ربك الأعلى وجاء في حديث أخرجه أبو عبيدة عن أبي تميم أنه عليه الصلاة و السلام سماها أفضل المسبحات وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلا الترمذي عن أبي بن كعب نحو ذلك بيد أنه ليس فيه المعوذتان وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الحرث قال آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المغرب فقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون بسم الله الرحمن الرحيم
سبح اسم ربك الأعلى أي نزه أسماءه عز و جل عما لا يليق فلا تؤول مما ورد منها من غير قتض ولا تبقه على ظاهره إذا كان ما وضع له مما لا يصح له تعالى ولا تطلقه على غيره سبحانه أصلا إذا كان مختصا كالاسم الجليل أو على وجه يشعر بأنه تعالى والغير فيه سواء إذ لم يكن مختصا فلا تقل لمن أعطاك شيئا مثلا هذا رازقي على وجه يشعر بذلك وصنه على الأبتذال والتلفظ به في محل لا يليق به كالخلاء وحالة التغوط وذكره لأعلى وجه الخشوع والتعظيم وربما يعد مما لا يليق ذكره عند من يكره سماعه من غير ضرورة إليه وعن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا لم يجد ما يعطي السائل يفول ما عندي ما أعطيك أو ائتني في وقت آخر أو نحو ذلك ولا يقول نحو ما يقول الناس يرزقك الله تعالى أو يبعث الله تعالى لك أو يعطيك الله تعالى أو نحوه فسئل عن ذلك فقال أن السائل أثقل شيء على سمعه وأبغضه إليه قول المسئول له ما يفيده رده وحرمانه فأنا أجل اسم الله سبحانه من أن أذكره لمن يكره سماعه ولو في ضمن جملة وهذا منه رضي الله تعالى عنه غاية في الورع وما ذكر من التفسير مبني على الظاهر من أن لفظ اسم غير مقحم وذهب كثير إلى أنه مقحم وهو قد يقحم لضرب من التعظيم على سبيل الكناية ومنه قول لبيد
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
فالمعنى نزه ربك عما لا يليق به من الأوصاف واستدل لهذا بما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم ومن المعلوم أن المجهول فيهما سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى وبما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والطبراني في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى وروي عبد بن حميد وجماعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ ذلك فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن قال لا إنما أمرنا بشيء ففعلته وفي الكشاف تسبيح اسمه تعالى تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه سبحانه كالجبر والتشبيه مثلا وأن يصان عن الأبتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم (30/102)
فجعل المعنيين على ما قيل راجعين إلى الاسم وإن كان الأول بالحقيقة راجعا إليه عز و جل لكن كما يصح أن يقال نزه الذات عما لا يصح له من الأوصاف أن يقال أيضا نزه أسماءه تعالى الدالة على الكمال عما لا يصح فيه من خلافه وليس المعنى الأول مبنيا على أن لفظ اسم مقحم ولا على أن المراد به المسمى إطلاقا لاسم الدال على المدلول نعم قال به بعضهم هنا وهو أن كان الأخبار السابقة كما في دعوى الإقحام فلا بأس وإن كان لظن أن التسبيح لا يكون للألفاظ الموضوعة له تعالى فليس بشيء لفساد هذا الظن بظهور أن التسبيح يكون لها كما سمعت وقد قال الإمام أنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته جلى وعلا عن النقائض يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لذلك عن الرفث وسوء الأدب ومن هذا يعلم ما في التعبير عنه تعالى شأنه بنحو ليلى ونعم كما يدعى ذلك في قول ابن الفارض قدس سره أبرق بدا من جانب الغور لامع
أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع وقوله إذا أنعمت نعم على بنظرة
فلا أسعدت سعدي ولا أجملت جمل إلى غير ذلك من أبياته وقد عاب ذلك بعض الأجلة وعده من سوء الأدب ومخالفا لقوله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الآية وأجاب بأن بعضهم ليس من الوضع في شيء وفهم الحضرة الإلهية من تلك الألفاظ إنما هو بطريق الإشارة كما قالوا في فهم النفس الأمارة من البقرة مثلا في قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة والمنكر لا يقنع بهذا والأظهر أن يقال إن الكلام المورد فيه ذلك من قبيل الأستعارة التمثيلية ولا نظر فيها إلى تشبيه المفردات بالمفردات فليس فيه التعبير عنه عز و جل بليلى ونحوها واستعمال الأستعارة التمثيلية نى شأنه تعالى مما لا بأس به حتى أنهم قالوه في البسملة كما لا يخفى على من تتبع رسائلهم فيها هذا ولعل عندهم خيرا منه وقال الاسم بمعنى التسمية والمعنى نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له سبحانه معظم ولذكره جل شأنه محترم وأنت تعلم أن هذا يندرج في تسبيح الاسم كما تقدم وعن ابن عباس أن المعنى صل باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم الله تعالى وحذف حرف الجر حكاه في البحر ولا أظن صحته وقال عصام الدين لا يبعد أن يراد الاسم الأثر أي أثر سبح آثار ربك الأعلى عن النقصان فإن أثره تعالى دال عليه سبحانه كالاسم فيكون منعا عن عيب المخلوقات أي من حيث أنها مخلوقة له تعالى على وجه ينافي قوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يخفى بعده وإن كان فيما بعد من الصفات ما يستأنس به له وأنا أقول إن كان سبح بمعنى نزه فكلا الأمرين من كون اسم مقحما وكونه غير مقحم وتعلق التسبيح به على الوجه الذي سمعت محتمل غير بعيد وإذا كان معناه قل سبحان كما هو المعروف فيما بينهم فكونه مقحما متعين إذ لم يسمع سلفا وخلفا من يقول سبحان اسم ربي الأعلى أو سبحان اسم الله والأخبار ظاهرة في ذلك وحمل ما فيها على اختيار المستلزم لغيره كما ترى ويؤيد هذا قراءة أبي بن كعب كما في خبر سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن جبير سبحان ربي الأعلى وأما ما قيل من أن الاسم عين المسمى واستدل عليه بهذه الآية ونحوها فهو مما لا يعول عليه أصلا وقد تقدم الكلام أول الكتاب فارجع إليه إن أردته والأعلى صفة للرب وأريد بالعلو بالقهر والأقتدار لا بالمكان لاستحالته عليه سبحانه والسلف وإن لم يؤولوه بذلك لكنهم أيضا يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عز و جل جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه واستشكل بأن قوله تعالى الذي خلق الخ إن كان صفة للرب كما هو الظاهر لزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره وهو لا يجوز فلا يقال رأيت غلام هند العاقل الحسنة وإن كان صفة لاسم أيضا اختل المعنى إذ الاسم لا يتصف بالخلق وما بعده (30/103)
وأجيب باختيار الثاني ولا اختلال إما لأن الأسم بمعنى المسمى أو لأنه لما كان مقحما كان اسم ربك بمنزلة ربك فصح وصفه بما يوصف به الرب عز و جل وفيه نظر والجواب المقبول إن ألذ على ذلك التقدير إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح ومفعول خلق محذوف ولذا قيل بالعموم أي الذي خلق كل شيء فسوى أي فجعله متساويا وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب الأحكام والإتقان لا أنه سبحانه أتقن بعضا دون بعض ورد بما دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم أن العبد خالق لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه قال هنا بالعموم ولعله لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على المعنى خلق كل شيء إما بالذات أو بالواسطة وجعل ذلك في أفعال العباد بأقداره سبحانه وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهبة لهم وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوى بين يديه وعينيه ورجليه وعن الزجاج خلق الإنسان فعدل قامته ولم يجعله منكوسا كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف والذي قدر أي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها فهدى فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول وتضيق عنه دفاتر النقول وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للأنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وأبعد منه ثم أبعد وأبعد بألوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ولا يكاد يعلمها إلا اللطيف الخبير أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات وأجرى لهم أسباب معاشهم من الأرزاق والأقوات ثم هداهم إلى دينه ومعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات وقيل قدر أقواتهم وهداهم لطلبها وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع وعن السدي قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل لا التخصيص وزعم الفراء في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل وليس بشيء وقرأالكسائي قدر بالتخفيف من القدرة أو التقدير والذي أخرج المرعى أي أنبت ما ترعاه الدواب غضا رطبا يرف فجعله غثاء هو ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات وأصله على ما في المجمع الأخلاط من أجناس شتى والعرب تسمي القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء ويقال غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي فجعله بعد ذلك يابسا أحوى من الحوة وهي كما قيل السواد وقال الأعلم لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوة السمرة فالمراد بأحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس أسود أو أسمر فهو صفة مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة لمياه في شفتيها حوة لعس
وفي اللثات وفي أنيابها شنب ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في باديء النظر كالسواد وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء والفصل بالمعطوف بين الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من غير تراخ وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة الرفيف (30/104)
والغضارة كأنه قيل إن يتم رفيقه وغضارته يصير غثاء ومع هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها التندريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء كماله شيئا فشيئا وقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أثر بيان هدايته عز و جل العامة لكافة مخلوقاته سبحانه وهي هدايته عليه الصلاة و السلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه صلى الله تعالى عليه وسلم لهداية الناس أجمعين والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد اقراء ما أوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ وما سيوحي إليه عليه الصلاة و السلام بعد فهو وعد كريم باتمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء وإسناد الإقراء إليه تعالى مجازي أي سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام فإنه عليه السلام الواسطة في الوحي على سائر كيفياته فلا تنسى أصلا من قوة الحفظ والأتقان مع أنك أمي لم تكن تدري ما الكتاب وما القراءة ليكون ذلك لك آية مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البينات من حيث الإعجاز ومن حيث الإخبار بالمغيبات وجوز أن يكون المعنى سنجعلك قارئا بإلهام القراءة أي في الكتاب من دون تعليم أحدكما هو العادة فقد روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة و السلام كان يقرأ الكتابة ولا يكتب ويكون المراد بقوله تعالى فلا تنسى نفي النسيان مطلقا عنه عليه الصلاة و السلام ومتنانا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه أوتي قوة الحفظ وفيه أنه مع كونه خلاف المأثور عن السلف في الآية تأباه فاء التفريع وجوز أيضا أن يكون المراد نفي نسيان المضمون أي سنقرئك القرآن فلا تغفل عنه فتخالفه في أعمالك ففيه وعد بتوفيقه عليه الصلاة و السلام لالتزام ما فيه من الأحكام وهو كما ترى وقيل فلا تنسى نهي والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى وأضلونا السبيلا وفيه أن النسيان ليس بالأختيار فلا ينهى عنه إلا أن يرلااد مجازا ترك أسبابه الأختيارية أو ترك العمل بما تضمنه المقرأ وفيه ارتكاب تكلف من غير داع وأيضا رسمه بالياء يقتضي أنها من البنية لا للإطلاق وكون رسم المصحف مخالفا تكلف أيضا نعم قيل رسمت ألف الإطلاق ياء لموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها مع أن الإمام المرزوقي صرح بأنه عند الإطلاق ترد المحذوفة وقيل هو نهي لكن لم تحذف الألف فيه إذ قد لا يحذف الجازم حرف العلة وحسن ذلك هنا مراعاة الفاصلة وفيه أيضا ما فيه والهون للطالب معنى النهي أن يقول هو خبر أريد به النهي على أحد التأويلين السابقين آنفا إلا ما شاء الله استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلا مما سنقرئكه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه قيل أي أبدا قال الحسن وقتادة وغيرهما وهذا مما قضى الله تعالى نسخه وأن يرتفع حكمه وتلاوته والظاهر أن النسيان على حقيقته وفي الكشاف أي إلا ما شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته وجعل النسيان عليه بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته يترك فينسى فكأنه قيل بناء على إرادة المعنيين في الكنايات سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئا منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما شاءالله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا وأنا لا أرى ضرورة إلى اعتبار ذلك والباء في برفع الخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي البعيد للذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم إخطاره في الباء لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضا إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لستبعاد الذهاب به عن حفظه عليه الصلاة والصلام وهو كالسبب المجوز لذلك وأيا ما كان فلا حاجة إلى جعل معنى فلا تنسى فلا تتركط تلاوة شيء منه والعمل به فتأمل ثم إنه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما قضى سبحانه أن يرتفع (30/105)
حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات الحديث وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه الصلاة و السلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلا وقيل كان صلى الله تعالى عليه وسلم يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل عليه السلام فقيل لا تعجل فإن جبريل عليه السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ثم لا تنساه إلا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد النسيان وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وإن كان واجبا إلا أنالعلم به لا يستفاد من هذا المقام وقيل أن الأستثناء بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلا ما لا يعلم لأن المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الأستثناء فكأنه قيل فلا تنسى شيئا إى شيئا قليلا وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبى أنها نسخت فسأله عليه الصلاة و السلام فقال نسيتها ثم أنه عليه الصلاة و السلام لا يقر على نسيانه القليل أيضابل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره ففي البحر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن بشير لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا وقيل الأستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازا كما في قولهم قل من يقول كذا قيل والكلام عليه من باب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفيهم
البيت والمعنى فلا تنسى إلا نسيانا معدوما وفي الحواشي العصامية على أنوار التنزيل أن الأستثناء على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه وقد يقال الأستثناء من أعم الأوقات فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في قوله تعالى في أهل الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال أنه تعالى ماشاء أن ينسى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا إلا أن المقصود من الأستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة و السلام ناسيا لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال له صلى الله تعالى عليه وسلم لئن أشركت ليحبطن عملك مع أنه عليه الصلاة و السلام لم يشرك البتة وبالجملة ففائدة هذا الأستثناء أن يعرفه الله تعالى قدرته حتى يعلم ص - أن عدم النسيان من فضله تعالى وإحسانه لا من قوته أي حتى يتقوى ذلك جدا أو ليعرف غيره ذلك وكأن نفي أن يشاء الله تعالى نسيانه عليه الصلاة و السلام معلوم من خارج ومنه آية لا تحرك به لسانك لتعجل به الآية وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء وإلى الوجه الذي قبله وأباهما غاية الإباء لعدم الوقوف على حقيقتهما وقال لا يبتغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه ثم أن المراد من نفي نسيان شيء من القرآن نفي النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق ليس كذلك وقد ذكروا أنه عليه الصلاة و السلام لا يقر على النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما ليس منها أو منها وهو من الآدابل والسنن ونقل هذا عن الإمام الرازي عليه الرحمة فليحفظ والألتفات إلى الأسم الجليل على سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات وربط الآية بما قبلها على الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في الإرشاد وقال أبو حيان أنه سبحانه لما أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالتسبيح وكان لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عز و جل يقرئه وأنه لا ينسى إلا (30/106)
ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا يخفى ولو قيل أن سنقرئك استئناف واقع موقع التعليل للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أهون مما ذكر ونحوه كونه في موقع التعليل على معنى هيء نفسك للأفاضة عليك بتسبيح الله تعالى لأنا سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبي بعضا منها ونقله ابن الشيخ في حواشيه على تفسير البيضاوي والله تعالى أعلم بصحة إنه يعلم الجهر وما يخفى تعليل لما قبله والجهر هنا ما ظهر قولا أو فعلا أو غيرهما وليس خاصا بالأقوال بقرينة المقابلة أي أنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحي إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية وقيل توكيد لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده وقيل توكيد لقوله تعالى سنقرئك الخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه السلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وإنساء أو فلا تخف فإن يكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى وهذا ليس بشيء كما ترى ونيسرك لليسرى عطف على سنقرئك كما ينبيء عنه الألتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى ويسر لي أمري للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة و السلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة و السلام جبل عليها أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليقا واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير تلقي طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الآلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلى الله تعالى عليه وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في الإرشاد وقيل المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة وقيل الأمور الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن وظاهر عليه أيضا أمر الفاء في قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحى إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله وقيل أي فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن أراد فدم على التذكير بعدما استقام لك الأمر من إقرائك الوحي وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلا ما اقتضت المصلحة نسيانه وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلا فليس بشيء وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعا وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفا ولا مهيعا حرصا على افيمان وتوحيده الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلا كفرا وعنادا وفسادا فأمر صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا عليه كاد الحرص على إيمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلا أو بعضا ممن يرجى منه التذكير ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إلا عتوا ونفورا وفسادا وغرورامن المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وقوله سبحانه فأعرض عمن تولى عن ذكرنا وعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بمن طبع على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة و السلام به فهو صلى الله تعالى عليه وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة (30/107)
لا يجب عليه تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا على حقيقته وقيل أنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين نعيا عليهم بالتصميم كأنه قيل افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم ينتفعوا به وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب بقوله تعالى سيذكر من يخشى أي سيذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك بالتذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على حقيقته فيؤمن به وقيل إن إن بمعنى إذ كما في قوله تعالى وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في زيادة أهل القبور وأنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجا بما ذكر ونظائره وأجاب النافون عن ذلك بما في المغنى وغيره وقيل هي بمعنى قد وقد قال بهذا المعنى قطرب وقال عصام الدين المردا أن التذكير ينبغي أن يكون بما يكون مهما لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين بالإيمان إلا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون الإيمان وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الإيمان مثلا وهكذا فكأنه قيل ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به وقال الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي الكلام على الأكتفاء والأصل فذكر أن نفعت الذكر وإن لم تنفع كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر والظاهر أن الذين لا يقولون بمفهوم المخافة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى ويتجنبها أي ويتجنب الذكرى ويتحاماها الأشقى وهو الكافر المصر على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة وقيل المراد الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وقد روي أن الآية نزلت فيهما فإنه أشقى من غير المتوغل وقيل المراد به الكافر مطلقا فإنه أشقى من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من كافريهم والأوجه عندي في المراد بالأشقى ما تقدم الذي يصلى النار الكبرى أي الطبقة السفلى من أطباق النار كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها أكبر من بعض وأشد حرارة وقال الحسن الكبرى نار الآخرة والصغرى نار الدنيا ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ناركم هذه جزء منسبعين جزءا من نار جهنم وفي رواية للإمام أحمد عنه مرفوعا أيضا إن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير ثم لا يموت فيها فيستريح ولا يحيى أي حياة تنفعه وقيل إن روح أحجدهم تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإنهذه الحالة أفظع وأعظم من نفس المصلي وقال عصام الدين يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت فيها العامل ويحيا والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتا فيها ولا حيافتأمل انتهى وفي كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظم الجليل منع ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاء وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال إن مثل ذلك الكلام يقال لمن وقع في شدة واستمرفيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب وأمر التراخي الرتبي عليه ظاهر أيضا لظهور أن الخلود في النار الكبرى أفظع من دخولها وصليها واعلم أن عدم الموت في النار على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلونها (30/108)
فيموتون فيها واستدل لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما اذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل قال الحافظ ابن رجب أنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله عليه الصلاة و السلام فأماتهم الله تعالى إماتة وأظهر منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا أن أدنى أهل الجنة حظا أو نصيبا قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار فينصرف وجوههم عن النار وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لا يجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مده ثم يحبسوا فيها من غير عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا فضرب وحبس بعد الضرب جزاء لذنبه ولم يبقوا أحياء فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون أبعد عن أن يهولهم رؤيتها أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من تتمة العقوبة أيضا وقال القرطبي يجوز أن تكون إماتتهم عند إدخالهم فيها ويكون إدخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلا ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقيل قيام الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمهإذا أدخل النار بعد البعث وهو كما ترى وفي مطامح الأفهام يجوز أن يراد بالإماتة المذكورة وفي الحديث الإنامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة لأن فيه نوعا من عدم الحس وفي الحديث المرفوع إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك الساعة انتهى والمعول عليه ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم قد أفلح أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه من تزكى أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مزوي عن ابن عباس وغيره وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله واعتبر بعضهم أمرين فقال أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه يجوز أن يكون ما تقدم منباب الأقتصار على الأهم وقيل تزكى أي تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء وقيل تظهر للصلاة وقيل آتى الزكاة وروي هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة وذكر اسم ربه بلسانه وقلبه لا باسانه مع غفلة القلب إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان ممدوحابلا شبهة إلا أن إرادته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر وحكاه في مجمع البيان عن بعض وما روي عن ابن عباس من قوله أي ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عز و جل ظاهر فيه وفي إقحام لفظ اسم وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة الأفتتاح كأنه قيل وكبر للأفتتاح فصلى أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروي ذلك في حديث مرفوع وقيل الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل واحتج بذلك على وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بن واجبين بل فرضين التزكي من الشرك والصلاة مع أن الأحتياط في العبادات واجب (30/109)
فلا يضر الأحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز و جل وهو ظاهر وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلا بد له من نكتة ليدعي وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء الركنية عليه والأنصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي وقيل هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء وعن علي كرم الله تعالى وجهه تزكى أي تصدق صدقة الفطر وذكر اسم ربه كبر يوم العيد فصلى صلاة العيد وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك وتعقب بأن الصلاة مقدمة على الزكاة في القرآن وإن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر ورد بأن ذلك إذا ذكرت بإسمها أما إذا ذكرت بفعل فتقديمها غير مطرد ومنه فلا صدق ولا صلى على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة ههنا للإرشاد إلى أن هذه الزكاة المقدمة قولا ينبغي تقديمها فعلا على الصلاة ولهذا كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار وكون السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله وأقول أن يقال تزكى أي تطهر من الشرك بأن آمن بقلبه اذكر اسم ربه أي قال لا إله إلا الله فصلى أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون تزكى إشارة إلى التصديق بالجنان وذكر اسم ربه إلى النطق باللسان وصلى إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن تذكر فيراد جمع الأعمال والعبادات القالبية وقد يقال اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل غيرها وقد روي عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن أن أول ما نزل من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك ثم ن ثم المزمل ثم المدثر ثم تبت ثم إذا الشمس كورت ثم سبح اسم ربك ثم إن من رداف لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية وإذا اعتبر الأتيان باسمه عز و جل في الجملة الثانيةا على الوجه الذي أتى به ذكرا له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن حسن وكلمه قد لما أنه عند الإخبار بسوء حال المنجنب عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الأخبار بحسن حال المتذكر فيها ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا جوابا لسؤال نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى فكأنه قيل ما حال من تذكر فقيل قد أفلح إلى آخره وكان الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع من تزكى إلا آخره موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته وقوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل أثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح لا نفعلون ذلك بل تؤثرون الخ ولعله مراد من قال أنه إضراب عن قد أفلح الخ وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو إيثار الحياة الدنيا والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء والأطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها الآية ويحتمل أن يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها ما هو أعم مما ذكر وما لايخلو عنه الناس غالبا من ترجيع جانب الدنيا على الآخرة فيالسعي وترتيب المباديء وعن ابن مسعود ما يقتضيه والألتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في (30/110)
حق المسلمين وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل وقرأعبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم يؤثرون بياء الغيبة وقوله تعالى والآخرة خير وأبقى حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة أبدي لا انصرام له وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور إن هذا إشارة على ما أخرج أبن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى والآخرة خير وأبقى وروي ذلك عن قتادة وقال غير واحد إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه قد أفلح من تزكى الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له وقال الضحاك إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى وأنه لفي زبر الأولين وعن ابن عباس وعكرمة والسدي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد لفي الصحف الأولى أي ثابت فيها معناه وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح صحف إبراهيم وموسى بدل من الصحف الأولى وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى وكانت صحف إبراهيم عشرة وكذا موسى صحف عليه السلام والمراد بها ما عدا التوراة أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب قال مائة كتاب وأربعة كتب أنزل على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت منكافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيها صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى قال كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح ولمن أيقن بالنار ثم يضحك ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ولمن أبقى بالقدر ثم يغضب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى قال يا أبا ذر نعم قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى والله تعالى أعلم بصحة الحديث وقرأ أبو رجاء إبرهم بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومسورة وعبد الرحمن بن أبي بكرة بكسرها لا غير وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير إبراهام بالغين في كل القرآن وقرأ مالك بن دينار إبراهم بألف وفتح الهاء وبغير ياء وجاء كما قال ابن خالويه إبرهم بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن إبراهيم على الصحيح منها وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلى الله تعالى عليه وسلم
سورة الغاشية
مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج مسلم داود والنسائي (30/111)
وابن ماجه عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام ههنا فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتاك حديث الغاشية قيل هل بمعنى قد وهو ظاهر كلام قطرب حيث قال أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية والمختار أنه للأستفهام وهو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه والتشويق إلى استماعه والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على امرأة تقرأ هل أتاك حديث الغاشية فقام عليه الصلاة و السلام يستمع ويقول نعم قد جاءني والغاشية القيامة كما قال سفيان والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وتكتفهم بأهوالها وقال محمد بن كعب وابن جبير هي النار من قوله تعالى وتغشى وجوههم النار وقوله سبحانه ومن فوقهم غواش وليس بذاك فإن ما سيرى من حديثها ليس مختصا بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة أيضا وجو يومئذ الموفوع مبتدأ وجاز الأبتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع وقيل لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به والتنوين عوض عن جملة أشعرت بها الغاشية أي يوم إذ غشيت والجملة إلى قوله تعالى مبثوثة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأستفهام التشويقي كأنه قيل من جهته عليه الصلاة و السلام ما أتاني حديثها ما هو فقيل وجوه الخ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن أتاه صلى الله تعالى عليه وسلم حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا وجوه يومئذ خاشعة والمراد بخاشعة ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وأنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه عاملة على ما قيل وهو وقوله تعالى ناصبة خبران آخران لوجوه إذا المراد بها أصحابها وفي ذلك الأحتمالات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه وذلك في النار على ما روي عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وعملها فيها على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل في الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا وعن زيد بن أسلم أنه قال أي عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن عباس وابن جبير أيضاأن الخشوع عند هؤلاء باق على كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق بالوصفين معنى بل متعلقهما في الدنيا ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد وظهور أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعا في دفع بعده وقال عكرمة عاملة في الدنيا ناصبة يوم القيامة والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط باستقباليين ما ضويا من البعد وقيل الأوصاف الثلاثة في الدنيا والكلام على منوال
إذا انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء النساك من اليهود والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه وقوله تعالى تصلى نارا حامية متناهية في الحر من حميت النار إذا اشتد حرها خبر آخر لوجوه وقيل خاشعة صفة لها وما بعد أخبار وقيل الأولان صفتان والأخيران خبران وقيل الثلاثة الأول صفتان وهذه الجملة هي الخبر (30/112)
والكل كما ترى وجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل أحوالها وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن عاملة ناصبة بالنصب على الذم وقرأ أبو رجار وابن محيصن ويعقوب وأبو عمرو وأبو بكر تصلى بضم التاء وقرأ خارجة تصلى بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة تسقى من عين آنية بلغت إناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله تعالى وبين حميم آن وهو التفسير المشهور وقد روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد حاضرة لهم من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك ليس لهم طعام إلا من ضريع بيان لطعامهم أثر بيان شرابهم والضريع كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قاله عكرمة شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض وقال غير واحد وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل رطبا فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل قال أبو ذؤيب رعي الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وصار ضريعا بان عنه النحائص وقال ابن غرارة الهذلي يذكر ابلا وسوء مرعى وحبسن في هزم الضريع فكلها
حدباء دامية اليدين حرود وقال بعض اللغويين الضريع يبيس العرفج إذا انحطم وقال الزجاج نبت كالعوسج وقال الخليل نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج من الشجر الأخضر نارا أن ينبت في النار شجر الضريع نعم يؤيد ما قيل ما حكاه في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار شبه الشوك أمر من الصبر وانتن من الجيفة وأشد حرا من النار فإن صح فذاك وقال ابن كسيان هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص فسمي بذلك وعليه يحتمل أن يكون شجرا وغيره وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم وعن ابن جبير أنه حجارة في النار وقيل هو واد في جهنم أي ليس لهم طعام إلا من ذلك الموضع ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى ولا طعام إلا من غسلين ظاهرا بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين الذي يسيل إليه وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كسيان واتحد بهما عليه أيضا الزقوم واتحاده بالضريع على القول بأنه شجرة قريب وقيل في التوفيق أن الضريع مجازا أو كناية أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي رعى الشوك فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا وقيل أنه أريد أن لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الناس كما يقال ليس لفلان ظل إلا الشمس أي لا ظل له وعليه يحمل قوله تعالى ولا طعام إلا من غسلين وقوله تعالى إن شجرة الزقوم طعام الأثيم فلا مخالفة أصلا وقيل إن الغسلين وهو الصديد في القدرة الإلهية أن تجعله على هيئة الضريع والزقوم فطعامهم الغسلين واللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات إن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم ومنهم أكلة الغسلين ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم لا يسمن ولايغني من جوع أما في محل جر صفة لضريع والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ومنفعتا الغذاء منفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وإن شئت فقل أنه من شيء مكروه يضرع عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس فيه منفعتا الغذاء أصلا وأما في محل فة (30/113)
لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم ذعام إلا طعام من ضريع والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنف والأول أظهر ويروي أن كفار قريش قالوا صدر الآية أن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لا يسمن الخ قيل فلا يخلوا إما أن يتكذبوا أو يتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وأما أن يصدقوا فيكون المعنى إن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيا ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الإسمان ضرورة استلزام نفي الإغناء من الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي وفي الإرشاد أن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعدادا للشبع والسمن إلا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهته ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيلما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغني بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونه مخ إلى شيء مائع بارد ليطفؤه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع فإذا أكلوه سلط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز و جل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من إفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذابا فوق العذاب نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه وقوله تعالى وجوه يومئذ ناعمة شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال أهل النارؤ مما يزيد المحكي حسنا وبهجة والكلام في إعرابه نظير ما تقدم وإنمالم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال تباين مضمونيها والناعمة إما من النعومة وكنيبها عن البهجة وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهجة وحسن كقوله تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم أو من النعيم أي وجوه يومئذ متنعمة لسعيها أي لعملها الذي عملته في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى راضية والتقديم للإعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا قيل راضية بسعيها وذكر بعض المحققين أنها مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة مجازي عليه أعظم الجزاء وأحسنه (30/114)
وقيل في الكلام مضاف مقدر أي لثواب سعيها راضية وجوز كون اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة الله تعالى راضية حيث أوتيت وما أتيت من الخير وليس بذاك في جنة عالية مرتفعة المحل أو عليه القدر فالعلو إما حسي أو معنوي وجمع أبو حيان بينهما لا تسمع خطاب لكل منيصلح للخطاب أو هو مسند إلى ضمير الغائبة المؤنثة وهو راجع للوجوه على أن المراد بها أصحابها أو الإسناد مجازي وكذا يقال فيما قبل وأشار بعض إلى أن في الآية صنعة الأستخدام اختيارالأن المراد بالوجوه أو لا حقيقتها وعدن إرجاع الضمير إليها ثانيا أصحابها فهم الذينلا يسمعون فيها لاغية أي لغوا فهي مصدر ويجوز كونها صفة كلمة محذوفة على أنها للنسب أي كلمة ذات لغو وجوز على تقدير كونها صفة كون الإسناد مجازيا لأن الكلمة ملغو بها لا لاغية ويجوز أن تكون صفة نفس محذوفة أي لا تسمع فيها نفسا لاغية وجعلها مسموعة لوصفها بما يسمع كما تقول سمعت زيدا يقول كذا وجوز أن يكون ذلك على المجاز في الإسناد أيضا وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم لا تسمع بتاء التأنيث مبنيا للمفعول لاغية بالرفع وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك إلا أنهم قرؤا بالياء التحتية لأن التأنيث مجازي مع وجود الفاصل والجحدري كذلك إلا أنه نصب لاغية على معنى لا يسمع فيها أحد لاغية من قولك أسمعت زيدا فيها عين جارية قيل يجري ماؤها ولا ينقطع وعدم الأنقطاع إما من وصف العين لأنها الماء الجاري فوصفها بالجريان يدل على المبالغة كما في نار حامية وأما من اسم الفاعل فإنه للأستمرار بقرينة المقام والتنكير للتعظيم واختار الزمخشري كونه للتكثير كما في علمت نفس أي عيون كثيرة تجري مياهها فيها سرر مرفوعة رفيعة السمك أو المقدار وقيل مخبوءة من رفعت لك كذا أي خبأته وأكواب وقداح لا عرالها موضوعة أي بين أيديهم وقيل على حافات العيون وجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله تعالى قدروها تقديرا ولا يخفى بعده ونمارق ووسائد قال زهير كهولا وشبانا حسانا وجوههم
على سرر مصفوفة ونمارق جمع نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما وفتحهما وبغير هاء مصفوفة صف بعضها إلى جنب بعض للإسناد أليها والإتكاء عليها وقال الكلبي وسائد موضوعة بعضها إلى جنب بعض كالشيء الذي جعل صفا أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان وزرابي وبسط فاخرة كما قال غير واحد وقال الفراء هي الطنافس التي لها خمل وقيق وقال الراغب أنها في الأصل ثياب محبرة منسوبة إلى موضع ثم أستعيرت للبسط واحدها زربية مثلثة الزاي ولم يفرق في الصحاح بين الزرابي والنمارق والظاهر الفرق نعم قيل قد جاء نمارق بمعنى الزرابي ومنه نحن بنات طارق
نمشي على النمارق لظهور أن الوسائد لا يمشي عليها عادة مبثوثة مبسوطة أو مفرقة في المجالس أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالأستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى أفلا ينظرون الخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر (30/115)
يقتضيه المقام وكلمة كيف منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع خلقت كما في قوله تعالى كيف تكفرون بالله معلقة لفعل النظر والجهلة بدل اشتمال من الإبل وقد تبدل الجملة وفيها الأستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم عرفت زيدا أبو من هو علي أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكى عنهم أنهم قالوا انظر إلى كيف يصنع كما حكى عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين وذكر أبو حيان في البحر والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الأستفهام لم يبق الأستفهام على حقيقته وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في المغنى بما في بعضه نظر وجوز في مجمع البيان كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له منلفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه فقالوا أبل وتابل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا ما آبل زيدا ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسما جاء على فعل يكسر الفاء والعين وغير إبل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز و جل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات فيعظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيآتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى أن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتمسمى حينئذ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ولهم على أحوالها أتم وقوف وعن الحسن أنها خصت بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترييضه ولا يحلب دره وقال أبو العباس المبرد الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي إرسالا كالأبل وتزجي كما تزجي الإبل وهي في هيآتها أحيانا تشبه الإبل يعني إن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها قال الإمام التناسب فيها أن الكلام مع العرب رهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل وإذا نظر فوقه رأى السماء وإذا نظر يمينا وشمالا رأى الجبال وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الأعتبار وقال عصام الدين إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن مالهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول الآية كان ذكرها ألطف وألطف وقرأ الأصمعي عن أبي إلى الإبل بسكون الباء وقرأعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إبل بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة (30/116)
وإلى السماء التي يشاهدونها ليلا ونهارا كيف رفعت رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك وإلى الجبال التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها كيف نصبت وضعت وضعا ثابتا يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها وإلى الأرض التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كيف سطحت سفحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة خلقت رفعت نصبت سطحت بتاء المتكلم مبنيا للفاعل والمفعول ضمير محذوف وهو العائد إلى المبدل منه اشتمال أي خلقتها رفعتها نصبتها سطحتها وقرأ الحسن وهارون الرشيد سطحت بتشديد الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والأعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر أبصار هذه المخلوقات وهو خلاف الظاهر والفاء في قوله تعالى فذكر لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبيء عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهملا ينظرون ولا يتذكرون وقوله تعالى إنما أنت مذكر تعليل للأمر وقوله سبحانه لست عليهم بمصيطر تقرير له وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى وما أنت عليهم بجبار وقرأ الجمهور بمصيطر بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال سطر عليه إذا تسلط وقرأ حمزةفي رواية بإشمام الصاد زيا وهارون بفتح الطاء وهي لغة تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة وقوله تعالى إلا من تولى وكفر قيل استثناء منقطع وإلا فيه بمعنى لكن ومن موصولة مبتدأ وما بعدها صلة والعائد الضمير المستتر فيه وقوله سبحانه فيعذبه الله العذاب الأكبر خبر المبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم وجعل من شرطية يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه تكلف مستغني عنه وأيا ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلا فيه جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب الدنيا بالنسبة إليه أصغر وجعل الزمخشري الإنقطاع على معنى لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن الله تعالى الولاية عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلا لأنه يلزم عليه كونه صلى الله تعالى عليه وسلم مستوليا على من تولى وقد حصرت الولاية به تعالى وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير عليهم فيكون من في محل جر تابعا له وتسلط صلى الله تعالى عليه وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة و السلام ولا ينافيه حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عز و جل فكأنه قيل لست عليهم بمسيطر إلا على من تولى وأقام على الكفر فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسببه وأسره وبعد ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم فيكون في الآية إيعاد لهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وجوز أن يكون أبعادا بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان في المم السابقة من الخسف ونحوهما وأقيم فيعذبه الخ مقام فتكون عليه (30/117)
متسلطا إيذانا بأن ذلك من قبله عز و جل حتى كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في كون الأستثناء سنقطعا أشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعدا لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله تعالى عليهم وليس حكمهم مخالفا له ثم أجاب بأن الأستثناء المنقطع قد يكون لدفع توهم ناشيء مما سبق من غير أن يخالف المستثني منه في الحكم فالجواب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفا لحكم المستثنى منه فكأنه ههنا لدفع توهم التعذيب فتأمل وجوز كون الأستثناء متصلا من قوله تعالى فذكر ومن موصولة لا غير والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طعمك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وقوله إنما أنت على هذا اعتراض ورجح الأنقطاع بأن ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم قرؤا ألا حرف تنبيه واستفتاح وقوله تعالى إن إلينا إيابهم تعليل لتعذيبه تعالى إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها وقرأ أبو جعفر وشيبة إياهم بتشديد الياء قال البطليموسي في كتاب المثلثات هذه القراءة تحتمل تأويلين أحدهما أن يكون إياب بالتشديد فعالا من أوب على زنة فعل ككذب كذابا وأصله أواب فلم يعتد بالواو الأولى حاجزا لضعفها بالسكون فأبدل من الواو الثانية ياء لانكسار الهمزة فصار في التقدير أو يابا ثم قبلت الأولى ياء أيضا لاجتماع ياء وواو وسكون أحدهما ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من انقلاب الثانية فهي أجدر بالأنقلاب والثاني أن يكون فيعالا وأصله أيوابا فاعل إعلال سيد وفعله على أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالا من الأياب وأصله أيوب فاعل كما ذكرنا والوجه الأول أقيس لأنهم قالوا في مصدره التأوب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها انتهى وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري إلا أنه في الأول منهما يجوز أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب ثم قيل أيوابا كديوان في دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد وظاهره أن الواو الأولى هي التي قلبت أولا ياء واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا لا تقلب ياء لأجل الكسر كما في أخرواط مصدر أخروط وإن ديوانا إذا كان مذكورا للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه وكأن البطليموسي عدل إلى ما عدل لذلك وفي الكشف لو جعل مصدر فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم إن فعالا مخفف عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلا بثبت والأول كالمنقاس ومعنى الفاعلة حينئذ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضا في الأوب وأما جعله فعالا على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضا لكنه قال ويصح أن يكون من آوب فيجيء أيوابا سهلت همزته وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس فاعترضه أبو حيان بأن قوله وكان اللازم الخ ليس بصحيح بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة واحداهما ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغنم فيها الياء فيصير إيابا فلا تغفل ثم إن علينا حسابهم في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه سبحانه فإنهما أمران مستمران وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الأنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى وفي الآية رد على كثير من الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير (30/118)
كرم الله تعالى وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى قوله كرم الله تعالى وجهه أنا قسيم الجنة والنار إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق على فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار ولعلهم عنوا أن عليا كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره عز و جل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم السلام يحاسبونهم بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه لم يثبت وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين جميع الأنبياء والمرسلين المقربين عليهم الصلاة والسلام أجمعين نقتضيه ولا نقص له كرم الله تعالى وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى الجنة بين النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام كما جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى أعلم
سورة الفجر
مكية في قول الجمهور وقال علي بن أبي طلحة مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي وثلاثون في الكوفي والشامي وتسع وعشرون في البصري ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وجوه يومئذ خاشعة ووجوه يومئذ ناعمة أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أيتها النفس المطمئنة وأيضا فيها ما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها وقال الجلال السيوطي لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالأقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما بضمنته من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة ألم تر كيف فعل ربك مشابهة لجملة أفلا ينظرون وها كما ترى بسم الله الرحمن الرحيم والفجر أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم عز و جل بالصبح في قوله تعالى والصبح إذا تنفس فالمراد به القجر المعروف كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم وقيل المراد عموده وضوءه الممتد وأصله شق الشيء شقا واسعاوسمى الصبح فجرا لكونه فاجرا لليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول وتقدم بعض منه ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص وعن ابن عباس ومجاهد فجر يوم النحر وعن عكرمة فجر يوم الجمعة وعن الضحاك فجر ذي الحجة وعن مقاتل فجر ليلة جمع وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قال هو فجر المحرم فجر السنة وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال يعني صلاة الفجر وروي نحوه عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على الصلاة مجازا وهو شائع وقيل المراد فجر العيون من الصخور وغيرها وليال عشر هن العشر الأولى من الأضحى كما أخرجه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس وروي عن ابن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبزاز وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر يرفعه ولها من الفضل ما لها وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا ما من أيام فيهن العمل أحب إلى الله عز و جل وأفضل من أيام العشر قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء وأخرج ابن المنذر وابن أبي (30/119)
حاتم عن ابن عباس أنهن العشر الأواخر من رمضان وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي الأتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل العشر تعني العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة و السلام بلية القدر لأنها فيها لا لكونها العشر المرادة هنا وعن ابن جريج أنهن العشر الأول من رمضان وعن يمان وجماعة أنهن العشر الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال عليه الصلاة و السلام ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه فصامه موسى عليه السلام شكرا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنحن أحق بموسى منكم فصامه صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بصيامه وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة و السلام أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم يومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه فكان الصحابة بعد ذلك يصومونه ويصومونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياها حتى يكون الإفطار وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن قال البيهقي هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحدث قوة وأيا ما كان فتنكيرها للتفخيم وقيل للتيعيض لأنها بعض ليالي السنة أو الشهر والتفخيم أولى قيل ولو لا قصد ما ذكر كان الظاهر تعريفها كأخواتها لأنها ليال معهودة معينة وقدر بعضهم على إرادة صلاة الفجر فيما مر مضافا هنا أي وعبادة ليال ويقال نحوه فيما بعد على بعض الأقوال فيه وليس بلازم ولا أثر فيه وقرأ ابن عباس بالإضافة فضبطه بعضهم وليال عشر بلام دون ياء وبعضهم وليالي عشر بالياء وهو القياس والمراد وليالي أيام عشر فحذف الموصوف وهو المعدود وفي مثل ذلك يجوز التاء وتركها في العدد ومنه واتبعه بست من شوال وما حكاه الكسائي ضمنا من الشهر خمسا والمرجح للترك ههنا وقوعه فاصلة وجوز أن تكون بالإضافة بيانية وهو خلاف الظاهر والشفع والوتر هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة وقال الطيبي روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر ثم قال هذا وهو التفسير الذي لا محيد عنه النتهى وقد رواه عن عمران أيضا عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وصححه لكن في البحر أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال أقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه قال الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه بخلقه وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال الله تعالى الوتر وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى وروي نحوه عن أبي صالح ومسروق وقرآ من كل شيء خلقنا زوجين وقيل المراد شفع تلك الليالي ووترها وقيل الشفع أيام عاد والوتر لياليها وقيل الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار وقيل غير ذلك وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما ستا وثلاثين قولا وفي الكشاف قد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير (30/120)
بالتلهي عنه وقال بعض الأفاضل لا إشعار للفظ الشفع والوتر بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلي متناول لذلك ولعل من فسر همما بما فسرهما لم يدع الأنحصار فيما فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات وإذا ثبتمن الشارع عليه الصلاة و السلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه ليس مبنياعلى تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى في تخصيصة بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد والظاهر أن ما تقدم من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في البحر كان المعول عليه حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والحسن بخلاف عنه والوتر بكسر الواو وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر المقابل للشفع وأما في الوتر الترة أي الحقد فالكسر هو المسموع وحده والأصمعي فيه أيضا اللغتين وقال يونس عن أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو في الوقف لما قبلها والليل إذا يسر أي يمضي كقوله تعالى والليل إذا أدبر واليل إذا عسعس والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار وإذا على ما صرح به العلامة التفتزاني في التلويح بدل من الليل وخروجها عن الظرفية مما لا بأس به أو ظرف متعلق بمضاف مقدر وهو العظمة على ما اختاره بعضهم والأقسام بذلك الوقت أو تقييد العظمة به لما فيه وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة أو يسري فيه على ما نقل أبو حيان عن الأخفش وابن قتيبة كقولهم صلى المقام أي صلى فيه على أنه تجوز في الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان وأيا ما كان فالمراد بالليل جنسه وقال مجاهد وعكرمة والكلبي المراد به ليلة النحر وهي يسري الحاج فيها إلى المزدلفة بعد الإفاضة من عرفات وليس بذاك والإقسام والتقييد على الوجه الأخير لما في السير في الليل من نعمة الحفظ من حر الشمس وشر قطاع الطريق غالبا وحذفت الياء عند الجمهور وصلا ووقفا من آخر يسر مع أنها لام مضارع غير مجزوم اكتفاء عنها بالكسرة للتخفيف ولتتوافق رؤس الآي ولذا وسمت كذلك في المصاحف ولا ينبغي أن يقال أنها حذفت لسقوطها في خطها فإنه يقتضي أن القراءة باتباع الرسم دون رواية سابقة عليه وهو غير صحيح وخص نافع وأبو عمرو في رواية هذا الحذف بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذف مطلقا ابن كثير ويعقوب وفي تفسير البغوي سئل الأخفش عن علة سقوط ياء يسر فقال الليل لا يسري ولكن يسري فيه وهو تعليل كثيرا ما يسئل عنه لخفائه والجواب أنه أراد أنه لما عدل عنالظاهر في المعنى وغيرهما كان حقه معنى غير لفظه لأن الشيء يجر جنسه لألفه به
إن الطيور على أمثالها تقع
وهذا كما قيل في قوله تعالى ما كانت أمك بغيا أنه لما عدل عن باغية أسقطت منه التاء ولم يقل بغية ومثله من بدائع اللغة العربية ويمكن التعليل بنحوه على تفسير يسر بيمضي لما فيه من العدول عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك وقرأ أبو الدينار الأعرابي والفجر والوتر ويسر بالتنوين في الثلاثة قال ابن خالويه هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو قوله أقلي اللوم عاذل والعتبن
وقولي إن أصبت لقد أصابن (30/121)
انتهى وهذا كما قال أبو حيان ذكره النحويون في القوافي المطلقة يعني المحركة إذا لم يترنم الشاعر وهو أحد وجهين للعرب إذا لم يترنموا والوجه الآخر الوقوف فيقولون العتاب وأصاب كحالهم إذا وقفوا على الكلمة في النثر وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى الوقف وعاملها معاملة القوافيالمطلقة ويسمى هذا التنوين تنوين الترنم ولا اختصاص له بالأسم ويغلب على ظني أنه قيل يكتب نونا بخلاف أقسام التنوين المختصة بالأسم وقوله تعالى هل في ذلك الح تحقيق وتقرير لفخامة الأشياء المذكورة المقسم بها وكونها مستحقة لأن تعظم بالأقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه وتأكيده من طريق الكنلة فذلك إشارة إلى المقسم به وما فيه من معنى البعد لزيادة تعظيمه أي هل فيما ذكر من الأشياء قسم أي مقسم به لذي حجر أي هل يحق عنده أن يقسم به إجلالا وتعظيما والمراد تحقيق أن الكل كذلك وإنما أوثرت هذه الطريقة هضما للحق وإيذانا بظهور الأمر وهذا كما يقول المتكلم بعد ذكر دليل واضح الدلالة على مدعاه هل دل هذا على ما قلناه وجوز أن يكون التحقيق أن ذوي الحجر يؤكدون بمثل ذلك المقسم عليه فيدل أيضا على تعظيمه وتأكيده فذلك إشارة إلى المصدر أعني الأقسام هل في أقسامي بتلك الأشياء أقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه وحاصل الوجهين فيما يرجع إلى تأكيد المقسم عليه واحد إلا أن الوجه مختلف كما لا يخفى ولعل الأول أظهر والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاة من الإحصاء وهو الضبط وقال الفراء يقال أنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن كما ينبيء عنه قوله تعالى شأنه ألم تر كيف فعل ربك بعاد الخ فإنه استشهاد بعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يدل عليه من تعذيب عاد وأضرابهم المشاركين لقومه عليه الصلاة و السلام في الطغيان والفساد على طرقة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه الآية وقوله سبحانه ألم تر أنهم في كل واد يهيمنون وقال أبو حيان الذي يظهر أنه محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية وهو قوله تعالى إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم وتقديره لأيابهم إلينا وحسابهم علينا وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ والفجر إلى قوله سبحانه إذا يسر فقال هذا قسم على أن ربك لبالمرصاد وإلى أنه هو المقسم عليه ذهب ابن الأنباري وعن مقاتل أنه هل في ذلك الخ وهل بمعنى أن وهو باطل رواية ودراية إذ يبقى عليه قسم بلا مقسم عليه والمراد بعاد أولاد عاد بن عاص بن أرم ابن سام بن نوح عليه الصلاة و السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمي بنوا هاشم هاشما وإطلاق الأب على نسله مجاز شائع حتى ألحق بعضه بالحقيقة وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى ولأواخرهم عاد الآخرة عماد الدين بن كثير كلما ورد في القرآن خبر عاد فالمراد بعاد فيه عاد الأولى إلا ما في سورة الأحقاف ويقال لهم أيضا إرم تسمية لهم باسم جدهم والتسمية بالجد شائعة أيضا وهو اسم خاص بالأولى وعليه قول ابن الرقيات مجدا تليدا بناه أوله
أدرك عادا وقبلها أرما ونحوه قول زهير وآخرين ترى الماذي عدتهم
من نسج داود أو ما أورثت إرما فقوله تعالى إرم عطف بيان لعلاد للأيذان بأنهم عاد الأولى تجوز أن يكون بدلا ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة وصرف عاد باعتبار الحي وقد يمنع من الصرف باعتبار القبيلة أيضا وقرأ الضحاك بذلك في إحدى الروايتين عنه ورجح اعتبار الصرف فيه بخفته لسكون وسطه وقدر بعضهم مضافا (30/122)
في الكلام أي سبط إرم وجعل إرم عليه اسم أمهم وهو قول فيه حكاه في القاموس ووجه منع الصرف فيه ظاهر وأبى بعضهم إلا جعله اسم جدهم ومعنى كونهم سبطه أنهم ولد ولده ولا يظهر على هذا علة منع صرفه ولعل ذلك هو الذي دعا إلى جعله اسم أمهم لكن رأيت في تعليقات بعض الأفاضل على الحواشي العصامية على تفسير البيضاوي إن إرم إنما منع من الصرف سواء كان إسما للقبيلة أم لجدها للعلمية والعجمة وقال أنهما موجودتان في عاد أيضا إلا أنه لكونه ثلاثيا ساكن الوسط يجوز فيه الأمر إن الصرف وعدمه وزعم أن هذا هو الحق وبكونه اسم القبيلة قال مجاهد وقتادة وابن إسحق ولا حاجة معه إلى تقدير مضاف فقوله تعالى ذات العماد صفة لأرم نفسها والمراد ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة ومنه قولهم معمد وعمدان إذا كان طويلا وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد واشتهر أنه كان قد أحدهم اثني عشر ذراعا وأكثر وفي تفسير الكواشي قالوا كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة فيقلبها على الحي فيهلكهم وعن قتادة وابن عباس في رواية عطاء المراد ذات الخيام والأعمدة وكانوا سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم وقال غير واحد كانوا بدويين أهل عمد وخيام يسكنونها حلا وارتحالا وقيل المراد ذات الرفعة أو ذات الوقار أو ذات الثبات وطول العمر والكل على الأستعارة وقوله تعالى التي لم يخلق مثلها في البلاد صفة أخرى لها أي لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام والقوة في بلاد الدنيا وقد سمعت ما نقل عن الكواشي آنفا وما ذكر فيه من أنه كان أحدهم الخ جاء في حديث مرفوع أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معد يكرب وقيل إرم اسم مدينة لهم قال محمد بن كعب هي الأسكندرية وقال ابن المسيب والمقبري هي دمشق وقيل اسم أرضهم وهي عمان وحضرموت وهي أرض رمال وأحقاف فقد قال سبحانه وتعالى واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وبهذا اعترض القول بأن مدينتهم السكندرية والقول بأنها دمشق حيث أنهما ليستا من بلاد الأحقاف والرمال إلا أن يقال ما هنا عاد الأولى وما في آية الأحقاف عاد الآخرة ويلتزم عدم اتحاد منازلهما وعلى القول بكونه اسم مدينتهم أو اسم أرضهم فهو بتقدير مضاف لتصحيح التبعية أي أهل أرم وقيل يقدر مضاف في جانب المتبوع أي بمدينة أو بأرض عاد إرم وهو كما ترى ومنع الصرف على الوجهين لما سمعت والأكثرون على أنها اسم مدينة عظيمة في أرض اليمن والوصفان لها والمراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا ويروى أنه كان لعان ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصوتها من الذهب والفضة وأساطلينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقا هذا والله ذلك الرجل وخبر شداد المذكور أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع كخبر ابن قلابة وروي عن مجاهد أن إرم مصدر أرم يأرم إذا هلك فارم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيهي مضاف إلى ذات والتي صفة لذات العماد مرادا بها المدينة وكيف فعل في (30/123)
قوة كيف أهلك فكأنه قيل ألم تر كيف أهلك ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو قول غريب غير قريب وقرأ الحسن يعاد رام بإضافة ماد إلى أرم فجاز أن يكون إرم جدا والوصفان لعاد وأن يكون مدينة والوصفان لازم وجوز أن يكون لعاد وقرأ ابن الزبير بعاد أرم بالإضافة أيضا إلا أن أرم بفتح الهمزة وكسر الراء قيل وهي لغة في المدينةلا غير وعن الضحاك أنه قرأ بعاد مصروفا وغير مصروف أرم بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ وقريء إرم بإضافة إرم إلى ذات فقيل الأرم عليه العلم والمعنى بعاد أعلام ذات العماد وهي مدينتهم والتي صفة لذات العماد على الأظهر وعن ابن عباس أنه قرأ أرم بالتشديد فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات العماد رميما ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو تبيينا له والمراد بذات العماد عليه إما غاد نفسها ويكون فيه وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة وإما مدينتهم ويكون جعلها رميما أي إهلاكها كناية عن جعلهم كذلك وقرأ ابن الزبير لم يخلق مبينا للفاعل وهو ضميره عز و جل مثلها بالنصب على المفعولية وعنه أيضا لم نخلق بنون العظمة وثمود عطف على عاد وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما عابر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام كانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك وكانوا يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وقرأ ابن وثاب بالتنوين صرفه باعتبار الحي كذا قالوا وظاهره أنه عربي وقد صرح بذلك فقيل هو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وحكى الراغب أنه عجمي فمنع الصرف للعلمية والعجمة الذين جابوا الصخر أي قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كقوله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا قيل أول من نحت الحجارة والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة ولا أظن صحة هذا البناء بالواد هو وادي القرى وقريء بالياء آخر الحروف والباء للظرفية والجار والمجرور متعلق بجابوا أو بمحذوف هو حال من الفاعل أو المفعول وقيل الباء للألة أو السببة متعلقة بجابوا أي جابوا الصخر بواديهم أو بسببه أي قطعوا الصخر وشقوه وجعلوه واديا ومحلا لمائهم فعل ذوي القوة والآمال وهو خلاف الظاهر وأيا ما كان فالجواب القطع والظاهر أنه حقيقة فيه تقول جبت البلاد أجوبها إذا قطعتها قال الشاعر ولا رأيت قلوصاقبلها حملت
ستين وسقا ولا جابت بها بلدا ومن الجواب لأنه يقطع السؤال وقال الراغب الجواب قطع الجوبة وهي الغائط من الأرض ثم يستعمل في قطع كل أرض وجواب الكلام هو ما يقطع الجوب فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع لكنه خص بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب انتهى فاختر لنفسك ما يحلو وفرعون ذي الأوتاد وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربون أوتادها في منازلهم أو لأنه كان يدق للمعذب أربعة أوتاد ويشده بها مبطوحا على الأرض فيعذبه بما يريد من ضرب أو أحراق أو غيره وقد تقدم الكلام في ذلك الذين طغوا في البلاد إما مجرور على أنه صفة للمذكورين عاد ومن بعده أو منصوب أو مرفوع على الذم أي طغى كل طاغية منهم في البلاد وكذا الكلام في قوله تعالى فأكثروا فيها الفساد أي بالكفر وسائر المعاصي فصب عليهم ربك أي أنزل سبحانه إنزالا شديدا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد سوط عذاب أي سوطا من عذاب على أن الإضافة بمعنى (30/124)
من والعذاب بمعنى المعذب به والمراد بذلك ما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السورة الكريمة والسوط في الأصل مصدر من ساط يسوط إذا حلط قال الشاعر أحارث أنا لو تياط دماؤنا
تزايلن حتى لا يمس دم دما وشاع في الجلد المضفور والذي يضرب به وسمى به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض أو لأنه يخلط اللحم بالدم والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره فإنه عبارة عن إراقة شيء مائه أو جار مجراه في السيلان كالحبوب والرمل وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار ونسبته إلى السوط مع أنه على ما سمعت ليس من هذا القبيل باعتبار تشبيه في سرعة نزوله بالشيء المصبوب وتسمية ما أنزل سوطا قيل للإيذان بأنه على عظمة بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط بالنسبة إلى سائر ما يعذب به أفي الكشف أن إضافة السوط إلى العذاب تقليل لما أصابهم منه ولا يأبى ذلك التعبير بالصب المؤذن بالكثرة لأن القلة والكثرة من الأمور النسبية وجوز أن يراد بالعذاب التعذيب والإضافة حينئذ على معنى اللام وأمر التعبير بالصب والتسمية بالسوط على ما تقدم والآية من قبيل قوله تعالى فأذاقهم الله لباس الجوع وجوز أن تكون الأضافة كالأضافة في لجين الماء أي فصب عليهم ربك عذابا كالسوط على معنى أنواعا من العذاب مخلوطا بعضها ببعض اختلاط طاقات السوط بعضها ببعض وأن يكون السوط مصدرا بمعنى المفعول والإضافة كالأضافة في جرد قطيفة أي فصب عليهم ربك عذابا مسوطا أي مخلوطا ومآله فصب أنواعا من العذاب خلط بعضها ببعض وفي الصحاح سوط عذاب أي نصيب عذاب ويقال شدته لأن العذاب قد يكون بالسوط وأراد أن الغرض التصوير والأليق بجزالة التنزيل ما تقدم إن ربك لبالمرصاد تعليل لما قبله وإيذان بأن كفار قومه صلى الله تعالى عليه وسلم سيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام والمرصاد المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه مفعال من رصده كالميقات من وقته وفي الكلام استعارة تمثيلية شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العصاة على ما روي عن الضحاك مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه سبحانه أحد منهم بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر والآية على هذا وعيد للعصاة مطلقا وقيل هي وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن أي يرصد سبحانه أعمال بني آدم وجوز ابن عطية كون المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان وتعقبه أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة وأجيب بأنها على ذلك تجريدية نعم يلزمه إطلاق المرصاد على الله عز و جل وفيه شيء وقوله تعالى فأما الإنسان الخ متصل بما عنده كأنه قيل أنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عز و جل إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها فإن نال منها شيئارضي وإلا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عز و جل ولا يكون حاله ذلك وقيل هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غني مهلك موجب للتكبر والأفتخار بالدنيا وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى إذا ما بتلاه ربه أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا والفاء في قوله سبحانه فأكرمه ونعمه تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالأبتلاء ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله كرمن في قوله سبحانه فيقول ربي أكرمن ولم يضم إليه ونعمتي وهذه الجملة خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بيقول وهو (30/125)
على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه وخالفهم في ذلك الرضي ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغنى فقالوا إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء عليها إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنعتقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وإن جاز أما طعامك فزيد آكل وقالوا في ذلك أنهم لما التزموا حذف لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد فيه فيجب الأقتصار عليه وزعم الجلبي محشي المطول إن هذا متفق عليه فرد به على المفسرين أعرابهم السابق أنه خطأ والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو المبتدأ في الحقيقة والتقدير فأماشأن الإنسان إذا الخ فالظرف من تتمة الجزء المفصول وبه ليس فاصلا ثانيا كقولك أما إحسان زيد إلى الفقير فحسن ويرد على تقديره أنه لآ يصح وقوع جملة يقول خبرا عن الشأن إلا بتعسف كان يكون الفعل بتأويل المصدر وإن لم تكن معه في اللفظ أن المصدرية كما قيل في
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
وهو فرار من السحاب إلى الميزاب وذهب أبو البقاء إلى أن إذا شرطية وقوله تعالى فيقول جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف بدون القول وقد قيل أنه ضرورة وقوله عز و جل وأما إذا ما ابتلآه عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والفقير ليرى هل يصبر أم لا فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه الخ ليصح التفصيل ويتم التوازن وبقية الكلام فيه كما في سابقه والظاهر أن كلتا الجملتين متضمنة لأنكار قفول الإنسان الذي تضمنته وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه ربي أهانن لدلالته على قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلا لم يقل سبحانه في تفسير الأبتلاء فأهانه وقدر عليه رزقه نظير ما قال سبحانه أولا فأكرمه ونعمه وإنكار قوله إذا أكرم ربي أكرمني مع قوله تعالى فأكرمه أولا من حيث أنه إكرام الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعالى وهو قصد أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا ومستوجبا قصدا جاريا على ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم والحاصل أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب في المفصل ما يدل على أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق وإمكار أصل الإهانة يعضده ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام أن الله عز و جل أثبت الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراما كليا مثبتا للزلفى عنده تعالى فأنكر أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء وجوز أن يكون الإنكار للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وإكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس به قيل ويعضده ذكر الإكرام في قوله تعالى فأكرمه وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله تعالى أن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ولا يخفى أن الوجه هو الأول وقرأ ابن كثير أكرمني وأهانني بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا وحذفها وفقا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا من حذفها وقفا سكن النون فيه وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر فقدر بتشديد الدال للمبالغة كلا ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن الأخير فصط كما في الوجه الأخير وقد نص الحسن على ماقلنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المعنى لم أبتله بالغنى لكرامته علي (30/126)
ولم أبتله بالفقر لهوانه على بل ذلك لمحض القضاء والقدر وقوله سبحانه بل لا تكرمون اليتيم الخ انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل والألتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع وهو بتقدير قل فلا التفات نعم فيه من الإشارة إلى تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذ المراد هو الجنس أي بل لكم أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان إليه وفي الحديث أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه ينيم مكرم وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمرو لا يكرمون بياء الغيبة ولا تحاضون بحذف إحدى التاءين من تتحاضون أي ولا يحض ويحث بعضكم بعضا على طعام المسكين أي على إطعامه فالطعام مصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم ويكون الكلام على حذف مضاف أي على بذل طعام المسكين والمراد بالمسكين ما يعم الفقير وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلا أنهم ضموا تاء تحاضون من المحاضة وقرأ أبو عمرو ومن سمعت الحسن ومن معه ولا يحضون بياء الغيبة ولا ألأف بعد الحاء وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على القراءتين جوز أن يكون متعديا ومفعوله محذوف فقيل أنفسهم أو أنفسكم وقيل أهليهم أو أهليكم وقيل أحدا وجوز وهو الأولى أن يكون منزلا منزلة اللازم للتعميم وتأكلون التراث أي الميراث وأصله وارث فأبدلت الواو تاء كما في تخمة وتكأة ونحوهما أكلا لما أي ذا لم أو هو نفس اللم على المبالغة واللم الجمع ومنه قول النابغة ولست بمستبق أخالا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد ومنه قول الحطيئة إذا كان لما يتبع الذم ربه
فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا يعني أنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصب غيركم ويروى أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم ويقولون لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة هذا وهم يعلمون من شريعة إسماعيل عليه السلام أنهم يرثون فاندفع ما قيل أن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحلو الحرمة إلا من الشرع فإن الحسن والقبح العقلين ليبسا مذهبا لنا وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت المورث من حلال وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه وفي الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلامن غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما يفعله الوارث البطالون وتعقب بأنه غير مناسب للسياق وتحبون المال حبا جما أي كثيرا كما قال ابن عباس وأنشد قول أمية إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما والمراد أنكم تحبونه مع حرص وضره كلا ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى إذا دكت الأرض دكا دكا إلى آخره استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع والدك قال الخليل كسر الحائط والجبل ونحوهما وتكريره للدلالة على الإستيعاب فليس الثاني تأكيد للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك جاؤا رجلا رجلا وعلمته الحساب بابابابا أي (30/127)
إذا دكت الأرض دكا متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثورا وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية وندك سنام البعير إذا انقرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك والمعنى عليه إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى صارت كالصخرة الملساء وأيا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند النفخة الثانية وجاء ربك قال منذر بن سعيد معناه ظهر سبحانه للخلق هنالك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة وقيل الكلام على حذف المضاف للتهويل أي وجاء ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته عز و جل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر لمحضوره من آثار الهيبة والسيامة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم وأن تتعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام والملك أي جنس الملك فيشتمل جمع ملائكة السماوات عليهم السلام صفاصفا أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه قيل ينزل يوم القيامة ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم محدقين بالجن والإنس وقيل يصطفون بحسب أمكنة أمور تتعلق بهم وهو قريب مما ذكر وروي أن ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض فالصفوف سبعة على ما هو الظاهر وقال بعض الأفاضل الظاهر أنالملك أعلم من ملائكة السماوات وغيرها وتعريفه للأستغراق وادعى أن اصطفافهم بحسب مراتبهم اصطفاف أهل الدنيا في الصلاة وظاهره أنه اصطفاف من غير تحديق ورأيت غير أثر في أنهم يصطفون محدقين وجيء يومئذ بجهنم قيل هو كقوله تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى على أن يكون مجيؤها متجوزا به عن إظهارها واختير أنه على حقيقته فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وفي رواية بزيادة حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فناجاه ثم قال النبي عليه الصلاة و السلام منكسر الطرف فسأله علي كرم الله وجهه تعالى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام بهذه الآية كلا إذا دكت الأرض الآية فقال له علي كرم الله تعالى وجهه كيف يجاء فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك فبينما هم كذلك غذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلو لا أنهم أدركوا فأخذوها لأحرقت من في الجمع وفي رواية لو لا أن الله تعالى حبسها لأحرقت السماوات والأرض وتأويل كل ما ذكر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه إلا استحالة الأنتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري غير مستحيل فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم تعود إليه والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان يومئذ بدل من إذا دكت وظاهر كلام الزمخشري أن العامل فيه هو العاملنفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى يتذكر الإنسان وهو قول قد نسب إلى سيبويه وفي البحر المشهور خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الول ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه أو بإحضار الله تعالى إياه في ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثرأ أو بمعاينة عينه بناء على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من الصور حسنا وقبحا أو من (30/128)
التذكر بمعنى الاتعاظ أي يتعظ بما يرى من آثار قدرة الله عز و جل وعظيم عظمته تعالى وشأنه وقوله تعالى وأنى له الذكرى اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه وأني خبر مقدم والذكرى مبتدأ وله متعلق بما تعلق به الخبر أي ومن أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها وقيل هناك مضاف محذوفأي وأنى له منفعة الذكرى ولا بد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد علمت أن هذا يتحقق بما قرر أولا على أنه إذا جعل اختصاص اللام مقصارا على النافع استقام من غير تقدير ويكون إنكار أن تكون الذكرى له لا عليه وأما كونه حكاية لما عليه في الدنيا من عدم الأعتبار والأتعاظ فليس بشيء واستدل بالآية على أن التوبة من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلا كما زعم المعتزلة بناء على وجوب الأصلح عندهم وقيل في توجيهه أنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة إذ هي كما بين محله في الندم على المعصية من حيث هي معصية والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلا فيها وهذا التذكر هو الندم المذكور وقد صرح الضحاك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة عليه التي هي من لوازم القبول واعترض بأن المعتزلة إنما يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره ليس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه تعالى يقول يا ليتني قدمت لحياتي ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الأستدلال فلا تغفل وهذه الجملة بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكرهفقيل يقول يا ليتني الخ واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة ومفعول قدمت محذوف فكأنه قال يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة أنتفع بها وقيل للتعليل إلا أن المعنى يا ليتني قدمت أعمالا صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالا صالحة وقت حياتي في الدنيا لأتنفع بها اليوم وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكنا من تقديم الأعمال الصالحة وأما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عز و جل عند صرف قدرته الكاسبة وزعمه الزمخشري دليلا على الأستقلال ورد على المجبرة وهم عنده غير المعتزلة زعما منه المنافاة بين التمني والحجر وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك وفي الكشف أن التمني قد يقع على المستحيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الأختيار بالكلية فيومئذ أي يوم غذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد الهاء إما لله عز و جل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز و جل وكأنه قيل لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالا شائعا في مثل
وقد حيل بين العير والنزوان
وإن نظن إلا ظنا فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق للمفعول عن نكتة الكناية وأما للإنسان الموصوف والأضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه (30/129)
حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وخارجة عن أبي عمرو لا يعذب ولا يوثق بالبناء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للأنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب أما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى التسليم ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعكطاء وكذلك الوثاق وجوز أن يكون المعنى لا يحمل أعذاب الأنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أو أن التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذابا من إبليس ومن في طبقته ثم الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل المراد به أمية ابن خلف وقيل أبي بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل أن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا المعذب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر لا للإنسان المذكور في قوله تعالى يومئذ يتذكر الإنسان الخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقرأ أبو جعفر وشيبة بخلاف عنه وثاقه بكسر الواو وقوله تعالى يا أيها النفس المطمئنة الخ حكاية لا حوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز و جل أثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها وذكر أنه على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أيتها النفس الخ إما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذلك القول عند تمام الحساب ولينظر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا ليتني قدمت لحياتي وهذه يقول الله تعالى لها يا أيتها النفس المطمئنة الخ وكأنه للإيذانبغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالأطمئنان بذلك لأنها لترقي بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى فإذا وصلت إليه عز و جل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤنها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا يمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والأرتباط عليه أن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين ألا ترى إلى قوله تعالى إنما يتذكر أولوا الألباب وقيل هي الأمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان وأيد بقراءة أبي يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الأكثر وهي على هذا أيضا تقابل السابق المتحسر المتحزن وقرأ زيد على يا أيها بغير تاء وذكر صاحب البديع أن أيا قد تذكر مع المنادى المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك أنها كما لم تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث واعتبار النفس ههنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمئنة إرجعي أي من حيث حوسبت إلى ربك أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز و جل لك أولا وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر مخصوصا يكرمهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب (30/130)
اقتضى أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والألتفات إليها والأهتمام بأمرها أتقبل أم لا أي ملاحظة ربك والأنقطاع إليه وترك الألتفات إلى ما سواه عز و جل كما كنت أو لا كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهي إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييبو لقلبها بأن الأمر قد انتهى وفرغ منه وليس بعد الأكل خبر ونداؤها بعنوان الأطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع ولا تحجم والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه إلى ربك على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إلى راضية أي بما يؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك مرضية أي عند الله عز و جل وفل قيل المراد راضية عن ربك مرضية عنده وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى رضوان من الله أكبر فادخلي في عبادي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم وادخلي جنتي عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكان الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم ونكتة الألتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات وتعدي الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال أبو حيان لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الأستعمال بفي تقول دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعدم تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عبادة تعالى الصالحين والفاء تفسيرية واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى إن الذي فرض عليك القرآن لزادك إلى معاد على ما روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين وقيل المراد ارجعي إلى أمر ربك واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع وقيل المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقيل الحساب في نوع منه والفاء عليه قبل تفسيريه أيضا وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث فقيل النفس بمعنى الذات أيضا والمراد بالرب هو الله عز و جل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد وقيل للنفس بمعنى الروح والمراد بالرب الصاحب (30/131)
وفسر بالجسد وباقي الآية على حالة أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر وقوله تعالى في عبادي على حذف مضاف أي فادخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في رواية عن ابن عباس وابن جبير ولا يضر الإفراد أولا والجمع ثانيا لأنالمعنى على الجنس وقال ابن زيد وجماعة أن ذلك القول عند الموت وأيد بما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال قرئت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا أيتها النفس المطمئنة الآية فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن هذا لحسن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أما أن الملك سيقولها لك عند الموت وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة وهذان الدخولان يعقبان الرجوع إلا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد الدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عبادة تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي وجوز تعقيب الأمرين بلا تراخ أن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطى نصف الجنة أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه إدخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منها ما يكملها فيكون سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الوجه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية ارجعي إلى ربك هذا عنوا الموتورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقيل أن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية أن المؤمن إذا مات أرى منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى يا أيها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير وقيل أنه في مواطن ثلاثة أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع وتفسر عليه بما ينطبق على الجميع وقيل يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بالإكثار من العمل الصالح وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الإمارة ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد وجها وأيا ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج ابن أبي حاتم من (30/132)
طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس وقيل أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد فتفسير النفس المذكورة بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يتحمل قول ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على نحو ذلك وأشعرت الآية على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ اليماني في عبدي على الأفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا أن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم وأنا أقول كما علم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه اللهم أني أسأنك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك
سورة البلد
مكية في قول الجمهور بتمامها وقيل مدنية بتمامها وقيل مدنية إلا أربع آيات من أولها واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله تعالى بهذا البلد قيل ولقوة الأعتراض ادعى الزمخشري الأجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء الله تعالى أن في بعض الخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح وهي عشرون آية بلا خلاف ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لما ولم يحض على طعام المسكين ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز و جل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه ههنا لعض ما يحصل به الأطمئنان فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغمورا غب مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد وقوله تعالى وأنت حل بهذا البلد على ما اختاره في الكشاف اعترض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الأستهلاك وإدماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيدا ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك وفي تأكيد كون الإنسان في كيد بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به وأما غيرك فلا وقال مجاهد أجله الله تعالى له عليه الصلاة و السلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ما صنعتفيه من شيء فأنت في حل (30/133)
لا تؤاخذ به وروي نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل أن شئت أو دع وذلك يوم الفتح وقد قتل صلى الله تعالى عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعيد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلى الله تعالى عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستار الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة و السلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضا كما هو مذكور في كتب السير ثم قال عليه الصلاة و السلام إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا ينفر صيدهاولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباس يا رسول الله إلا إلا ذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة و السلام إلا الأذخر وتقديم المسند إليه على هذا للأختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس وحل على معنى الستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الأستقبال لكن الجمهور على الأول وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الأحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أحل له وفي الأقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد تعظيم للساكن فيه وجوز أن يكون الحل على نحو ما ذكر في هذا الوجه لكن المعنى وأنت حل بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الأقسام بالبلد تعظيمه وفي الأعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلى الله تعالى عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكنا فيه مباينا عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهله لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره وقيل الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلا وحلولا ويقال أيضا هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول والحل بفتح الحاء والحلل فقط ناشيء من قلة التتبع والأعتراض لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة و السلام مناطا لا عظام البلد بالقسام به وجعل بعض الأجلة الجملة على هذا الوجه حالا من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل أن النزول ساعة أحلت مكة وجعلها ابن عطية حالا على الوجه الأول أيضا أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده يكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأيا ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما ووالد عطف على هذا البلد المقسم به وكذا قوله تعالى وما ولد والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه أيضا عن مجاهد وقتادة وابن جبير وقيل المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته وقيل نوح عليه السلام وذريته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ادعى أنه ينبيء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم إبراهيم ومنشأ إسماعيل ومسقط رأس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليهن أجمعين وقال الطبري (30/134)
والماوردي يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره وما ولد أمته لقوله عليه الصلاة و السلام إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ولقراءة عبد الله وأزواجه أمهاتهم وهو أب ولهم وفي القسم بذلك مبالغة في شرفه عليه الصلاة و السلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم ونسب ذلك لابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء ونسب إلى ابن جبير أيضا فما عليه نافية فيحتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل ووالد والذي ما ولد وإضمار الموصول في مثله ولا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذاالبلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه أو المشهور في ذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتنكير والد على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد بما ولد العاقل لأرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدحوإنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى والله أعلم بما وضعت أي أي مولود عظيم الشأن وضعته والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلا قيل باعتبارالتغليب وقيل باعتبار الكثرة وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤن الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظم يتعجب منه لقد خلقنا الإنسان في كبد أي في تعب ومشقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال كبد الرجل كبدا فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشدائد كما قيل كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه يا عين هل بكيت أربد إذ
قمنا وقام الخضوم في كبد أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنها قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفا ولم نجعله منكبلا على وجهه وقال ابن كسيان أي منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكموصححه وجماعة عن ابن عباس عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلقناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن وهذا على الوجه الثالث من الأوجه الأربعةالسابقة في قوله تعالى لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد والمراد بالأنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات والظاهر أنالمراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقا وقال ابن زيد بالإنسان آدم عليه السلام وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالبيداء والكبيداة والكبداء والكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلا والضمير في قوله تعالى أيحسب على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق ممكن يكابد منه صلى الله تعالى عليه وسلم مايكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة و السلام وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجحمي وكان شديد القوة مغترا بقوته يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبن عشرة فينقطع قطعا ويبقى موضع قدميه وقيل عمرو بن عبدود وقيل الوليد بن المغيرة وقيل أبو جهل بن هشام وقيل الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل وجعل عصام الدين الاستفهام (30/135)
للتعجيب على معنى أيظن أن لن يقدر عليه أي على الأنتقام منه ومكافأته بما هو عليه أحد مع أنه ذلا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وإن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم إيمان بالقيامة يقول أهلكت مالا لبدا أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع أي يقول ذلك وقت الأغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الأنفاق بالإهلاك إظهارا لعدم الأكتراث وأنه لم يفعلذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعا وقيل ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مربدا بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة و السلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة و السلام فعن مقاتل أن الحرث بن نوفل كان إذا أذنب استقتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة و السلام بالكفارة فقال لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل المراد ما تقدم أولا إلا أن هذا القول وقت الأنتقام منه وذلك يوم القيامة والتعبير عن الأنفاق بالأهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ وقرأ أبو جعفر لبدا بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي لبدا بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزناد لبدا بضم اللام والباء أيحسب أن لم يره أحد أي حين كان ينفق ما ينفق رئاه الناس أو حرصا على معاداته صلى الله تعالى عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز و جل يسأله عنه ويجازيه عليه وفي الحديث لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وجوز أن يكون المعنى إن لم يجده أحد على أن المراد بالرؤية الوجدان اللازم له ولم بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل انفق أو لم ينفق بل رآه عز و جل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته والأطلاع على حاله بقوله جل وعلا ألم نجعل له عينين يبصر بهما ولسانا يفصح به عما في ضميره وشفتين يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء وبدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في البحر وهديناه النجدين أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروي عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس فريقان منهم جازع بطن نخلة
وآخر منهم قاطع نجد كبكب وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والأمتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبين له تعالى شأنه ما أن سلكه نجا وما أن سلكه هلك ولا يتوقف الأمتنان على سلوك طريق الخير وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدة ظاهر بخلاف سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان روي ذلك عن ابن المسيب أي ثدي الأمام كالطريقين لحياة الولد ورزقه والأرتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور والعرب تقسم بثديي الأم فتقول أما ونجديها ما فعلت ونسب هذا التفسير لعلي كرم الله (30/136)
تعالى وجهه أيضا والمذكور في الدر المنثور من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا في مجمع البيان أنه كرم الله تعالى وجهه أم أناسا يقولون إن النجدين الثديان فقال لا هما الخير والشر ولعل القائل بذلك رأى أن للفظ يحتمله مع ظهور الأمتنان عليه جدا فلا اقتحم العقبة الأقتحام الدخول بسرعة وضغط وشده ويقال قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية والعقبة الطريق الوهر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعودا والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات المراد به الفعل والكسب ترشيح ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل الأستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه وقوله تعالى وما أدراك ما العقبة أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه فك رقبة الخ وتفسيرها بذلك بناء على الأدعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك الخ وقال بعضهم يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه وما أدراك الخ لأنه بمنزلة ما أدراك ما الشكر فك رقبة وهو كما ترى وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي رواية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالأقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك الخ وجعل الفك وما عطف عليه نفس الأقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكؤد يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله وفي التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الأنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه وما أدراك ما العقبة فسرها جل شأنه الرقبة والإطعام انتهى نعم أنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر فيا رب مكروب كررت وراءه
وعان فككت الغل منه ففداني وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفراء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف الرقبة بالإعتاق وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا قال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا بواحد قال لا أن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها الحديث وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه وجاء في فضل الإعتاق أخبار كثيرة منها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم (30/137)
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها منه من النار حتى الفرج بالفرج وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره وقال الإمام في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى أو إطعام في يوم ذي مسغبة مصدر ميمي السغب قال أبو حيان وهو الجوع العام وقد يقال سغب الرجل إذا جاع وقال الراغب هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب وليل نائم ذو نوم ونهار صائم ذو صوم يتيما ذا مقربة أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى قال الزجاج وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
وذو قرابته في الحي مسرور وفيه بحث وفي إطعام هذا جمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما وقيل أنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له قرب بالجوار أو مسكينا ذا متربة أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فاستغنى وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراث في الكثرة كما قيل أثرى وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لايقيه من التراب شيء وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا يبيت له وهو قريب مما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا هو الذي ماواه المزابل فإن صح لا يعدل عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على ما في البحر للتنويع وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تنعالى فلا صدق ولا صلى وقول الحطيئة وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا وشذ قوله لا هم إن الحرث بن جبله
جنى على أبيه ثم قتله وكان في جاراته لا عهد له
فأي أمر سيء لا فعله وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظأ أو معنى وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الأقتحام فيكون فلا اقتحم العقبة في معنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما الخ وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال أن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمرو لأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو وتبعه بعضهم وقال الزجاج والفراء يجوز أن يكون منه قوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا فإنه عطف على المنفي أعني اقتحم فكأنه قيل فلا اقتحم ولا آمن ولا يلزم منه كون الإيمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءا أشرف خص بالذكر عطفا فجاءت صورة التكرار ضرورة إذا الحمل هلى غير ذلك (30/138)
مفسد للمعنى ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه وقيل أن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير وقيل لا مخفف ألا للتحضيض كهلا فكأنه قيل فهلا اقتحم أو الأستفهام محذوف والتقدير أفلا اقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم وفيه أنه يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الأستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد الرمل والحصى والتراب وقولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه قيل الكلام أخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الأخبار عن حاله في الأستقبال لكي لتحقق الوقوع عبر بالماضي ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها رادا على الزجاج في زعمه ذلك وقال هي كلم والتكرار في نحو فلا صدق ولا صلى لا يدل على الوجوب كما في لم يسرفوا ولم يقتروا وعلى عدم التكرار جاء قول أمية السابق إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم وقرأ ابن كثير والنحويان فك فعلا ماضيا رقبة بالنصب أو أطعم فعلا ماضيا وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من اقتحم وما بينهما اعتراض ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز و جل وقرأ أبو رجاء كذلك إلا أنه قرأ ذا مسبغة بالألف على أن ذا منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنسانا ذا مسبغة يتيما بدلا منه أو صفة له وقرأ هو أيضا والحسن أو إطعام في يوم ذا بالألف أيضا على أنه مفعول به للمصدر وقرأ بعض التابعين فك رقبة بالإضافة أو أطعم فعلا ماضيا وهو معطوف على المصدر لتأويله به والتراخي المفهوم من ثم في قوله تعالى ثم كان الخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقبل بكونه للنجاة وشكرا بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه وقوله سبحانه وتواصوا بالصبر عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به والصبر على المعاصي وعلى المحن التي يبتلى بها الإنسان وتواصوا بالمرحمة أي بالرحمة على عباده عز و جل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف وذكر أن تواصوا بالصبر إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وتواصوا بالمرحمة إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمر إن أصدق مع الحق وخلق مع الخلق أولئك إشارة إلى أن الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد معقرب المشار إليه لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة أصحاب الميمنة أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم والذين كفروا بآياتنا بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن هم أصحاب المشئمة أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم عليهم نار عظيمة مؤصدة مطبقة من أصدت (30/139)
الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد وظاهر كلام ابن عباس عدم الأختصاص بهم ومن ذلك قول الشاعر تحن إلي أجبال مكة نافتي
ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضا وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا وقرأ غير واحد من السبعة مؤصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت وقيل يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر قوما يعالج قملا أبناؤهم
وسلاسلا ملسا وبابا مؤصدا والمراد مغلقة أبوابها وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام ولذا جيء بضمير الفصل معهم لأفادة الحصر واعتبروا غيبا كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه منالوجوه لأن يكونوا مشارا إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين ونقل عن الشمني أنه قال الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والأتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
من نسل شيبان بين الضال والمسلم ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بدع درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى فذلك الذي يدع اليتيم وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر وبالجملة ما ذكروه ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر
سورة الشمس
مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأل وخمس عشرة في الباقية ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وفي هذه فألهمها فجورها وتقواها وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى وهديناه النجدين على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة وختم جل وعلا هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
والشمس وضحاها أي ضوئها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس والمراد إذا أشرقت وقام سلطانها وقال بعض المحققين حقيقة الضحى تباعد الشمس عن الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة وقته ثم أنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب الزوال ضحاء بالفتح والمد فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن إشراقها كما هنا ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة مقلوبة منها وتعقبه أبو حيان بقوله لعله مختلق عليه لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق أحدهما من الأخرى وأجيب بأنه لم يرد الأشتقاق الصغير ولا يخفى حاله على الصغير والكبير وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير باللازم وعن مقاتل به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم به بعيد ذلك والقمر إذا تلاها أي تبعها فقيل باعتبار طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من الأفق الشرقي بعد (30/140)
طلوعها وذلك أول الشهر فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالا ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره فكما أن الضحى كشباب النهار فكذا غرة الشهر كولادته وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه حينئذ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤسنا كان القمر فيالتحتاني منه أعني ما يلي أقدامنا فإذا غربت طلع من الأفق الشرقي وهو المروي عن قتادة وقولهم سمى بدرا لأنه يسبق طلوعه غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على التقريب ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب تعظيم شأنه وقال ابن زيد تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب ما ذكر في القولين وقيل المراد تبعها في الإضافة بأن طلع وظهر مضيئاعند غروبها آخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل ليلة منه قدرا من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروي عن ابن سلام واختاره الزمخشري وقال الحسن والفراء كما في البحر أي تبعها في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك وأنكر بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد منضوء الشمس وزعم أنه رأى المنجمينلا غير وما ذكر حجة عليه والحجة عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قربا وبعدا منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها وكون الأختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئا والنصف الآخر غير مضيء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما تدريجا وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى وقال الزجاج وغيره تلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعا لها في الأستدارة وكمال النور والنهار إذا جليها أي جلى النهار الشمس أي أظهرها فإنها تنجلي وتظهرإذا انبسط النهار ومضى منه مدة فالأسناد مجازي كالأسناد في نحو صارم نهاره وقيل الضمير المنصوبيعود على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه وقيل يعود على الظلمة وجلاها حينئذ بمعنى أزالها وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى الذكر المرجع واتساق الضمائر وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في جلاها عليه عائدا على الله عز و جل كأنه قيل والنهار إذا جلى الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته وهو كما ترى والليل إذا يغشاها أي الشمس فيغطي ضوءها والإسناد كما مر وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا وجيء بالمضارع هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها قال أبو حيان رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد المفعولين لتعديه إليهمافإنه يقال غشيته كذا كما قال الراغب كذا قيل وقال بعض الأجلة جيء بالمضارع للتنبيه على استواء الأزمنة عنده تعالى شأنه وقال الخفاجي الأولى أن يقال المراد بالليل الظلمة الحادثة بعدمالضوء لا العدم الأصلي والظلمة الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدلعلى المراد واستصعب الزمخشري الأمر في نصب لإإذا بأن ما سوى الواو الأولى إن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف النهار مثلا على الشمس المعمول لحرف القسم وعطف الظرف أعني إذا في إذا جلاها على نظيرتها في إذا أتلاها المعمولة لفعل القسم وإن كانت قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق الأول ونفي ما لزمه فقال إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحا كليا فكان لها شأن (30/141)
خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل تارة وأضمر أخرى فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة مسدهما والواوات والعواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة الجر وعاملة النصب فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد وهذا كما تقول ضرب زيدا عمرا وبكر خالدا فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى وأنت تعلم أن أول الواوات العواطف ههنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى والشمس وضحاها والشمس وضوئها إذا أشرقت وفيه أيضاأنه لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل وأيضا الأشكال مبني على امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقا حتى لو جوز مطلقا أو بشرط كون المعطوف مجرورا على ما ذهب إليه جمع كما في قولك في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال وأيضا هو مبني على قبول هذا الأستكراه وعدم إمكان التخلصمن الأجتماع بتقدير جواب لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أوقبل وقدر لكل جواب لم يبق إشكال وأيضا هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد تجردت عن الظرفية وحينئذ تكون بدلا مما بعد الواو كما قيل في قوله وبعد غد يا لهف نفسي من غد
إذا راح أصحابي ولست برائح إن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل مضاف تتعلق به كان يقدر وتلو القمر إذا تلاها وتجلية النهار إذا جلاها وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع حالا مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائنا إذا تلاها وبالليل كائنا إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث أيضا يرد على الزمخشري مثل قوله تعالى والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس لأن الواو هنالك عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الأقسام بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا وما قيل عليه من أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لأظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار وأيضا إذا كان الإقسام إعظاما لغا تقديره فلو سلم فالإستعارة إما تبعية أو تمثيلية وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقا بحسب الصناعة والتقدير ليتعلق به ما أريد منه مؤكدافلا لغوية والسماء وما بنيها أي ومن بناها وإيثار ما على من لأرادة الوصفية تفخيما على ما تقدم في وما ولد كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلكط ويستدل بها عليه وهو أولى من تفسيره ببانيها لأشعاره بالمراد من البناء وكذا الكلام في قوله تعالى والأرضوما طحيها أي بسطها من كل جانب ووطأها كدحاها ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة طحا بك قلب في الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب وبمعنى أشرف وارتفع ومن إيمانهم لا والقمر الطاحي ويقال طحا يطحو وطحوا وطحى يطحي طحيا وقوله سبحانه ونفس وما سويها أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة والباطنة والتنكير للتكثير وقيل للتفخيم على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم الآتي ومن ذهب إلى ذلك جعله من الأستخدام وذهب الفراء والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاث مصدرية أي (30/142)
وبنائها وطحوها وتسويتها وتعقبه الومخشري بأنه ليس بالوجه لقوله تعالى فألهمها فجورها وتقواها وما يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في الحواشي لما يلزم من عطف الفعل على الأسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر ولا مضمر لعدم مرجعه واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال السابقة أعني بناها طحاها سواها على أن دلالة السياق في صحة الإضمار وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الأسم ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه عطف على ما بعد ما كانه قيل ونفس وتسويتها فألهامها فجورها وتقواها واعترض هذا بأن الفاء يدل على الترتيب من غير مهملة والتيوية قبل نفخ الروح والإلهام بعد البلوغ وأجيب بأن التسوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية إستعمالها في النجدين في هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد القوى كيفية لا وجود على أن المهملة في نحوها عرفي وقد يعد متعقبا دون تراخ ثم أنه مشترك الألزام ولا معنى لقول الطيبي النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز وتنفس وتسويتها فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناء على توهم أن قوله تعالى فألهمها جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه وأبي القاضي عبد الجبار إلا المصدرية دون المصدرية قال لما يلزم منها الأقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه عز و جل وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشسمس فذكرها الله تعالى مع أوصافها الدالة على عظمتها ثم ذكر ذاته المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه الحس فكان ذلك طريقا إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بيداء أو بكبريائه جل شأنه وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر الذي ينيب السماء وطحيت وسويت النفس من الحكم والمصالح التي لا تحصى ويكون إسناد الأفعال إليها مجازا وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازا أيضا وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن الضحاك المعصية والطاعة مطلقا قلبيين كانا أو قالبيين وألهمهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها ضلالها وروي ذلك عن ابن عباس كما في البحر وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فجورها وتقواها بينهما لها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى وهديناه النجدين وقدم الفجور على التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مباديء تجنبه وهو تخلية والتخلية مقدمة على التحلية وقيل قدم مراعاة للفواصل إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن الملهم للنفس فجوز وتقوى قد استعدت لهما فهما لها بحكم الأستعداد وقيل رعاية للفواصل أيضا وقوله تعالى قد أفلح من زكيها جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره وحذف اللام كثير لا سيما عند الكلام المقتضي للتخفيف أو لسده مسدها وفاعل زكاها ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى وقد خاب من دسيها وتكرير قد لأبراز الأعتناء بتحقيق مضمونه والإيذان بتعلق القسم به أصالة والتزكية التنمية والتدسية والأخفاء وأصل دسى دسس فأبدل من ثالث التماثلات ياء ثم أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأطلق بعضهم فقال أبدل من ذلك حرف علة كما قالوا في تقضض تقضي ودسس مبالغة في دس بمعنى أخفى قال الشاعر ودسست عمرا في التراب فأصبحت
حلائله منه أرامل ضيعا وفي الكشاف التزكية الإنماء والإعلاء والتدسية النقص والإخفاء أي لقد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى نفسه وأعلاها بالتقوى علما وعملا ولقد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور (30/143)
جهلا وفسوقا وجوز أن تفسر التزكية بالتطهير من دنس الهيولي والتدسية بالإخفاء فيه والتلوث به وأيا ما كان ففي الوعد والوعيد المذكورين مع إقسامه تعالى عليهما بما أقسم به مما يدل على العلم بوجوده تعالى ووجوب ذاته سبحانه وكمال صفاته عز و جل ويذكر عظائم آلائه وجلائل نعمائه جل وعلا من اللطف بعباده ما لا يخفى وقوله تعالى كذبت ثمود بطغويها استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى وقد خاب من دساها وجعل الزمخشري قوله تعالى قد أفلح الخ تابعا لقوله تعالى فألهمها الخ على سبيل الأستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب محذوفا مدلولا عليه بهذا كأنه قيل ليدمدمن الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام فقيل إن ذلك لما يلزم من حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصود بالأقسام ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالصقائد اليقينية التي هي لب الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب ولو سلم عدم الأختصاص فهي مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لا سيما في الكتاب العزيز وتعقب بأن حذف اللام كثير لاسيما مع الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في قد أفلح المؤمنون فما حدا مما بدا وأن التزكية مرادا بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الأعتناء ببعض المقدمات أحيانا لتوقف المقاصد عليها فتدبر وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال في فألهمها ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئا منهما فقد ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت الحجة عليهم فقال عليه الصلاة و السلام لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور والتقوى بالكلية وإن قيل ما له إلى خلق الله تعالى إياهما ليقال يأباه حينئذ قوله تعالى قد أفلح من زكاها الخ حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد فالأستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكنا من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في زكاها وكذا في دساها الله عز و جل والبارز لمن بتأويل النفس فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك يقول الله تعالى قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله بل أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في قوله تعالى قد أفلح من زكاها الآية أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها الله تعالى من كل خير وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة و السلام إذا تلا الآية وقف وقال ذلك ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم أن ذلك هو (30/144)
المرجح ورجحه صاحب الانتصاف بأن الضمائر في السماء وما بناها الخ تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى قد أفلح من تزكى أوفق به لأن تزكي مطاوع زكي فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى ومع هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى هو السابق إلى الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصا في تعيين المعنى الآخر نعم هو نص في تكذيب الومخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني بهم أهل السنة والجماعة فتأمل والطغوى مصدر من الطغيان بمعنى تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الأسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزياوفي الاسم تقوى وطغوى كذا في الكشاف وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى واوي ويأبى حيث قال يقال طغوت وطغيت طغوانا وطغيانا فلا تغفل والباء عند الجمهور للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول ظلمني الخبيث بجرائته على الله تعالى وجعلها الزمخشري للأستعانة والأمر سهل وجوز أن تكون صلة للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة ويوصف العذاب بالطغيان بهذا المعنى كما في قوله تعالى فأهلكوا بالطاغية وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة طغواها بضم الطاء وهو مصدر أيضا كالرجعي والحسني في المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم لا يقرق فيه بين الأسم والصفة كأنهم شذوا فيه فقلبوا الياء واوا وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية إذ انبعث متعلق بكذبت أو بطغوى وانبعث مطاوع بعثه بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقه أشقيها أي أشقي تمود وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان على ما قال الفراء أو أكثر فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم فقال لهم أي لثمود أو لأشقانا على ما قيل بناء على أن المراد به جمع ولا يأباه وسقياها كما لا يخفى رسول الله هو صالح عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعته وبيانا لغايه عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه ناقة الله وهو نصب على التحذير وشرطه ليس المحذر منه أو كونه محذرا بما يعده فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير بلى شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو بالمعنى على ذلك وإن لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو ألزموا ناقة الله وليس بشيء وسقيها أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما وهو كما ترى وقرأ زيد بن علي ناقة الله بالرفع فقيل أي همكم ناقة الله وسقياها فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها فكذبوه أي في وعيده إياهم كما حكى عنه بقوله تعالى ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب إن فعلوا ما حذرهم منه وقيل إن ما قاله لهم من الأمر قاله ناقلا له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام بعنوان الرسالة ومآل ذلك أنه قال لهم أنه قال الله تعالى (30/145)
ناقة الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به فعقروها أي فنحروها أو أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله قال قتادة بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فدمدم عليهم ربهم فأطبق عليهم العذاب وقالوا دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل لا فعلل من قولهم ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها وقال في القاموس معناه أتم العذاب عليهم وقال مؤرخ الدمدمة إهلاك باستئصالوفي الصحاح دمدمت الشيء ألزقته بالأرض وطحطحته وقرأ أبن الزبير فدهدم بهاه بين الدالين والمعنى كما تقدم بذنبهم بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للأنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب فسويها الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحدا لا صغيرا ولاكبيرا أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة في طغواها وأشقاها والمعنى ما ذكر أيضا أو فسواها بالأرض ولا يخاف أي الرب عز و جلعقبيها أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته وهو استعارة تمثيلية لأهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال أو للأستئناف وجوز أن يكون ضمير لا يخاف للرسول والواو للأستئناف لا غير على ما هو الظاهر ولا يخاف الرسول عقبى هذه الفعلة بهم إذ كانقد أنذرهم وحذرهم وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي الواو للحال والضمير عائد على أشقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه وهو أبعد مما قبله بكثير وقرأ أبي والأعرج ونافع وابن عامر فلا يخاف بالفاء وقريء ولم يخف بواو وفعل مجزوم بلم هذا واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلا فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحا مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصل في موضع آخر وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في صفوفه أنهم وقوم لوط عليه السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم
وذكر بعض أهل التأويل أن الشمس إشارة إلى ذات واجب الوجود سبحانه وتعالى وضحاها إشارة إلى الحقيقة المحمدية والقمر إشارة إلى ماهية الممكن المستفيد للوجود من شمس الذات والنهار إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به صفات جمال الذات وجلاله وكماله والليل إشارة إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات والساتر في أعين المحجوبين للوجود الحق والسماء إشارة إلى عالم العقل والأرض إشارة إلى عالم الجسم والنفس معملوة وناقة الله إشارة إلى راحلة الشوق الموصلة إليه سبحانه وسقياها إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر وقال بعض آخر الشمس إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من الشمس الله نور السماوات والأرض وقال شيخ مشايخنا البندنيجي قدس سره ظاهر أنت ولكن لا ترى
لعيون حجبتها النقط وضحاها إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته والقمر إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو الشمس إشارة إلى الذات وضحاها إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير الأعتباري والقمر إشارة إلى أول التعينات والنهار إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس والليل إشارة إليها أيضا باعتبار نظر المحجوبين أو النهار إشارة إلى صفة الجمال والليل إشارة إلى صفة القهر والجلال والسماء إشارة إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد دخولها في هذا العالم للأعتناء بشأنها والأرض إشارة إلى عالم الكثافة وناقة الله إشارة إلى الطريقة وسقياها (30/146)
مشربها من عين الشريعة وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
سورة الليل
لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية واختلف في مكيتها ومدنيتها فالجمهور على أنها مكية وقال علي بن أبي طلحة مدنية وقيل بعضها مكي وبعضها مدني وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وروي ذلك بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وقال السدي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح فيأخذه منهم فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أهبها لهم بالنخلة التي في الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم افعل فوهبها فنزلت نحوه مطولا مبهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند ضعيف كما نص عليه الحافظ السيوطي وذكر بعضهم أن قوله تعالى فيها وسيجنبها الأتقى الخ نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وسكت عما عداه ونقل عن بعض المفسرين أن هذا مجمع عليه وأن زعم بعض الشيعة أنه نزل في الأمير كرم الله تعالى وجهه وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ما له نزل ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قد أفلح الخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحضل به لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
والليل إذا يغشى أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى والليل إذا يغشاها أو النهار كقوله تعالى يغشى الليل النهار أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله والنهار إذا تجلى ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس والأول على تقدير كون المغشي النهار أو كل ما يواري إذ مآلهما اعتبار وجود الظلام والثاني على تقدير كونه الشمس إذ مآله اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف الفعلين مضيا واستقبالا قد تقدم الكلام فيه وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير تتجلى بتائين على أن الضمير للشمس وقريء تجلى بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضا وما خلق الذكر والأنثى أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم وقال ابن عباس والحسن والكلبي المراد بالذكر آدم عليه السلام وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيا ما كان فما موصولة بمعنى من واوثرت عليها لأرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل المصدرية وليس بذاك وقريء والذي خلق وقرأ ابن مسعود والذكر والأنثى وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن النجار في تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعلي كرم الله تعالى وجهه وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من علقمة أنه قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له أبو الدرداء فمن أنت فقال من أهل الكوفة قال كيف سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ والليل إذا يغشى قال علقمة والذكر والأنثى فقال أبو الدرداء أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحادا لا تجوز القراءة بها لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبي عليه الصلاة و السلام في حكم المتواترة نجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ وما خلق الذكر بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا ذلك على البدل من (30/147)
ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر والأنثى قيل وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي وخلق الذكر والأنثى كما في قوله تطوف العفاة بأبوابه
كما طاف بالبيعة الراهب بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة إن سعيكم أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم فيكون جمعا معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى لشتى فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى الجمع ويكون شتى مصدرا مؤنثا كذكرى وبشرى خبرا له بتقدير مضاف أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعله عين الأفتراق مبالغة وأيا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير عن قتادة وجوز أن يكون الجواب مقدرا كما مر مرة والمراد بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء وقوله تعالى فأما من أعطى الخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك وجوز أن يراد باختلافها كون البعض طالبا لليوم المتجلي والبعض طالبا لليل الغاشي وبعضها مستعانا بالذكر وبعضها مستعانا بالأنثى فيكون الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته والظاهر أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد المراد إنفاق ماله في سبيل الله تعالى وقال قتادة المعنى أعطى حق الله تعالى وظاهره الحقوق المالية واتقى أي واتقى الله عز و جل كما قال ابن عباس وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهى عنه وفي رواية محارم الله تعالى وقال مجاهد واتقى البخل وهو كما ترى وصدق بالحسنى أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وروي ذلك عن ابن عباس لا إله إلا الله أو هي ما دلت على حق كما قال بعضهم وتدخل كلمة التوحيد دخولا أوليا أو بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام وقال عكرمة وجماعة وروي عن ابن عباس أيضا هي المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد الجنة وقيل المثوبة مطلقا ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة والأتقاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل الحسنات وترك السيآت مطلقا والتصديق بالحسنى إشارة إلى الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو تفصيل شامل للمساعي كلها وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول ظاهرا فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه قال قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقيمون دونك فقال يا أبه إنما أريد ما أريد فنزلت فأما من أعطى واتقى إلى وما لا حد عنده من نعمة تجزى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه فأنزل الله تعالى والليل إذا يغشى إلى قوله سبحانه إن سعيكم لشتى وكذا على القول بأنها نزلت في أبي الدحداح ولما كان الإيمان أمرا معتنى به في نفسه أخر عن الأتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة وقيل المراد أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الدالة على الحق ككلمة التوحيد وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير الإيمان عليه بحاله وقيل أخر لأن من جملة إعطاء الطاعة الإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلا بها ومن جملة الأتقاء الأتقاء عن الإشراك وهما متقدمان على ذلك وليس بشيء فسنيسره لليسرى فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها ووصفها (30/148)
باليسرى إما على الإستعارة المصرحة أو المجاز المرسل أو التجوز في الإسناد وأما من بخل بما له فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه واستغنى أي وزهد فيما عنده عز و جل كأنه مستغن عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة واتقى كما أن قوله تعالى وكذب بالحسنى في مقابلة وصدق بالحسنى والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل فسنيسره للعسرى أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومباديه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي إلى راحة وما يفضي إلى شدة في سنيسره قيل للتأكيد وقيل للدلالة على أن الجزاء الموعود معظمه يكون في الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ وتقديم البخل فالأستغناء فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلا منهما أدنى رتبة بعد في استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلا منهما أصيلفيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والأستغناء وقيل التيسير أولا بمعنى اللطف وثانيا بمعنى الخذلان واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي وأعسره على غيره والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وأما من بخل فسندخله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله تعالى يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وأصل هذا فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني لا الموصوف أعني الطاعة ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة وجوز أن يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر المشاكلة على حاله وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة والأعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومباديهما منالصفات المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن الطباق لما صح في الأخبار أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جنازة فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ عليه الصلاة و السلام فأما من أعطى واتقى الآيتين وكان حاصل ما أراده صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اعملوا الخ عليكم شأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها وأيا ما كان فالمراد بمن أعطى الخ وبمن بخل الخ المتصف بعنوان الصلة مطلقا وإن كان السبب إذا لعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومن بخل أمية بن خلف وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفى وفي هذا نظر لأن أبا سفيان أسلم وقوي إسلامه في آخر أمره عند أهل السنة وفي رواية الطستي عنه أن وأما من بخل الخ نزل في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص وما يغني عنه ماله أي ولا يغني عنه على أن ما نافية أو أي شيء يغني عنه (30/149)
ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية إذا تردى أي هلك تفعل من الردى وهو الهلاك قاله مجاهد وقيل تردى في حفرة القبر وقال قتادة وأبو صالح تردى في جهنم أي سقط وقال قوم ترى بأكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه إن علينا للهدى استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مريد عليه فلا يتم الأستدلال بالآية على الوجوب عليه عز و جل بالمعنى الذي يزعمه المعتزلة وقيل المراد أن الهدى موكول علينا لا على غيرنا كما قال سبحانه إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وليس المعنى أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلا على وجوب الأصلح عليه تعالى عن ذلك علوا كثيرا وفيه أن تعلق الجار بالكون الخاص أعني موكولا خلاف الظاهر ومثله ما قيل أن المراد أن علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل أي من سلك السبيل القصد أي المستقيم وصل إليه سبحانه وإن لنا للآخرة والأولى أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أو أن لنأكل ما في الدارين فلا يضرنا ترككم الأهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا أو فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها فأنذرتكم نارا تلظى قيل متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار وبالغت في هدايتكم وتلظي بمعنى تلتهب وأصله تتلظى بتاءين فحذفت منه أحدهما وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير لا يصليها إلا الأشقى المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى الذي كذب أي بالحق وتولى وأعرض عن الطاعة وسيجنبها أي سيبعد عنها الأتقى المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلى المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلا في عموم الأشقى الموصوف بما ذكر وأن سيجنبها الأتقى بمفهومه أن غير الأتقى أعني التقى في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها بل يصلاها فبين الحصرين مخالفة وأجيب بأن الصلي ليس مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على وجه الأشدية فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلي أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيبعد عنها الأتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب من أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا دون ذلك العذاب ويلزم من الثاني أن غير الأتقى لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب بل غايته أنه لا يجنبها فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلي الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى وسيجنبها كذا قيل واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى يجنبها الأتقى ولا بد فيفيد على القول بالمفهوم أن غيره وهو المؤمن العاصي (30/150)
لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير صال بها وقرر الزمخشري الأستشكال بأنه قد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص الصلي بأشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين ذلك وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية واستحسنه في الكشف فقال هو حسن وأنت تعلم أن مبني ما قاله على الأعتزال وتخليد العصاة في النار وقال القاضي أن قوله تعالى لا يصلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكفار كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها إن نارا من النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى وسيجنبها الأتقى فقد علم أن فسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منمهم خاصة وأجيب بأنه لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الأتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحصر في لا يصلاها الخ فإنه كالنص في باديء النظر فيما يدعيه المرجئة لحملهم الصليفيه على مطلق الدخول وأيدوه بما أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يدخل النار إلا من شقى قيل ومن الشقي قال الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعوام وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بين في موضعه وقيل في الجواب أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة تمنى رجال أن أموت فإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره مع أنه خلاف المذهب الحق وأيضا إن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغيره المكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجتبونها وقيل غير ذلك ولعلك بعد الإطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ماعليه الجماعة في أهل الجمع تستحسن أن قلت بالمفهوم صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وأن لم تكن منيقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير ههنا المفعول الثاني والأتقى المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل ويقال جنب فلان خيرا وجنب شرا وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصل جنبته كما قيل جعلته على جانب منه وكثيرا ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى الذي يؤتي ماله أي يعطيه ويصرفه يتزكى طالبا أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولاسمعة أومتطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير يؤتي وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان اعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها تابع فيه وسبب الإعراب وهو الرفع فيالفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معربا بإعراب سابقه لظهور (30/151)
ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبه على بعضه الرضي أما عن الأول فبان المراد أعرب بأعراب سابقه إن كان له إراب أو بأن المراد إراب بإعراب سابقه وجودا وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث أنه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبان الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققا قبل ذلك الشيء لأمر آخر كالف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتى بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى المراد بقولهم كان ثان أعرب الخ كل ثان أعرب لو لم يكن معربا فتدبر ولا تغفل وجوز أن يكون يتزكى بتقدير لأن يتزكى متعلقا بيؤتي علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت إن فارتفع الفعل أو بقي منصوبا كما في قول طرفة
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل أنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت وأيا ما كان يدل الكلام على أن المراد بأيتائه صرفه في وجوه البر والخير وقرأ الحسن ابن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهميزكي بإدغام التاء في الزاي وما لأحد عنده من نعمة تجزى استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للتزكي خالصا لله تعالى أي ليس عنده من شأنها أن تجزي وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتي مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تجزي للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجز به إياها أو يجزيها إياه إلا ابتغاء وجهربه الأعلى منصوب على الأستثناء المنقطع من نعمة لأن الأبتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنهفعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه ورضاه عز و جل لا لمكافأة نعمة وقرأ يحيى بن وثاب ابتغاء بالرفع على البدل من محل من نعمة فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الأبتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم أضحت ذخلاء قفارا لا أنيس بها
إلا الجآذر والظلمان تختلف وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتى ماله لأجل شيءمن الأشياء إلا لأجل طلب رضا ربه عز و جل لا لمكافأة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب وإنما أول لأن الكلام أعني يؤتى ماله موجب والأستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى وما لأحد وقد قال سبحانه أو لا يتزكى متضما نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور وقرأ ابن أبي عبلة إلا ابتغاء مقصور وفيه احتمال النصب والرفع وهذه الآيات على ما سمعتنزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقابا ضعافا فقال له أبو ما قال وأجابه هو بما أجاب وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما ماأريد وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباسأنه رضي الله تعالى عنه اشترى بلالا وكان رقيقا لأمية ابن خلف يعذبه لأسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر الأليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لأسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز و جل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عبيس وأمة بني المؤمل وفيه نزلت وسيجنبها الأتقى (30/152)
إلى آخر السورة واستدل بذلك الإمام على أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في علي كرم الله تعالى وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال قوله تعالى ولسوف يرضى جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى والضمير فيه للأتقى المحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الإمام كون الضمير للرب تعالى حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله تعالى ولسوف يرضى الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز و جل وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين كما قال سبحانه راضية مرضية انتهى والظاهر هو الأول وقد قريء ولسوف يرضى بالبناء للمفعول من الإرضاء وما أشار إليه فيمعنى راضية مرضية غير متعين كما سمعت وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى
سورة الضحى
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وسيجنبها الأتقى وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز و جل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الإمام لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه سورة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لاواسطة بين رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة و السلام لا يدل على أفضليته منه صلى الله تعالى عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز و جل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرانه ثم أن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى بسم الله الرحمن الرحيم
والضحى تقدم الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد وتخصيصه بالأقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير قريبة من ضدها ولذا عد شرفا يوميا للشمس وسعدا ولأنه على ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وألقى فيه السحرة سجدا لقوله تعالى وأن يحشر الناس ضحى ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه تعالى لم يترك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يفارقه ألطافه تعالى وتكليمه سبحانه وقيل المراد به النهار كما في قوله تعالى أن يأتيهم بأسنا ضحى واعترض بالعرق فإنه وقع هناك في مقابلة البيات وهو مطلق الليل وهنا في مقابلة الليل مقيدا معنى باشتداد ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته وأجيبب بمنع دلالة القيد علىالأشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى ما في ذلك وأيا ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنسالضحى والليل أي وجنس الليل إذا سجى أي سكن أهله على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل ونحوه ما روي عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضي برهة من أوله أو ركد ظلامه منسجا البحر سكنت أمواجه قال الأعشى (30/153)
وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم
وبحرك ساج لا يواري الدعامصا فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم والمراد بسكون ظلامه عدم تغيره بالأشتداد والتنزل أي فيما يحس ويظهر وذلك إذا كمل حساب وصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله وبعيده وصرح باعتبار الأشتداد ابن الأعرابي حيث قال سجا الليل اشتد ظلامه وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه قال أي إذا أقبل فغطى كل شيء وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير سجا بدون ذكر التغطية وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال سجا إذا ذهب وكلا التفسيرين خلاف المشهور وشاع ليل ساكن أو ساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون قيل على الحقيقة كما إذا قيل ليل لاريح فيه ولا يقالأن الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال لأنه هواء متحرك ثم أنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما سكن ريحه والتحقيق أن يقال أن السكون على تفسيريه أعني عدم الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيز واحد لا يصح على الليل لأنه زمان خاص لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح لا الهواء قيل ليل ساج وساكن وصف الليل على الحقيقة أي لا إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية وجوز حمل ما في الآية على هذا الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد عن الغوائل وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلا عذر من أعذار الجماعة ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبالليل ليلة المعراج ومن الناس من فسر الضحى بوجهه ص - والليل بشعره عليه الصلاة و السلام كما ذكر الإمام وقال لا استبعاد فيه وهو كما ترى ومثله ما قيل الضحى ذكور أهل بيته عليه الصلاة و السلام إناثهم وقال الإمام يحتملأن يقال الضحى رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم والليل زمان احتباس الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الأستئناس وفي زمان الأحتباس حصل الأستيحاش أو الضحى نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا أو الضحى كمال العقل والليل حال الموت أو الضحى علانيته عليه الصلاة و السلام التي لا يرى الخلق عليها عيبا والليل سره صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيبا انتهى ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك وتقديم الضحى على الليل بناء على ما قلنا أول الرعاية شرفه لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة لكونه وجوديا أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة فإنها نورانية وتقديم الليل في السورة السابقة لما فيه من الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب حادثة وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد سبقه كفر وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسبقه ذلك وتخصيصه تعالى الوقتين بالأقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه الصلاة و السلام ويؤيد عز و جل نفي ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل لحكمة وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة وقيل ليسلي عز و جل بحالهما حبيبه عليه الصلاة و السلام كأنه سبحانه يقول انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق والقولان مبنيان على أن المراد بالضحى (30/154)
النهار كله وبالليل إذا سجى جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت أولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك أنه تعالى أقسم له صلى الله تعالى عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة و السلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزيد قربه وأنسه أماالضحى فلما رواه الدارقطني في المجتبي عن ابن عباس مرفوعا كتب على النحر ولميكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها وأما الليل فلقوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك إرغاما لأعدائه وتكذيبا لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنا اصطفيناك وما هجزناك وقليناك فهو كقوله
وثنا ياك أنها أغريض
وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الأقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضا وكذا الأقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار وبالليل جميعه قيل أن التفرقة للأشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبي عليه الصلاة و السلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللأشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها وقد روي أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت عن يسارة غمامة فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فأمطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت ماذا أمطر فأمرت أن تمطر السرور ساعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا والله تعالى أعلم بصحبة الخبر وقيل غير ذلك وقوله تعالى ما ودعك ربك الخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء بالسلامة ثم صار متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا أي ما تركك ربك وفي البحر والكشاف التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك قيل وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من أن يقال أنه إنما نفي ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد فتدبر وقيل أن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعارة تبعية للترك وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا
فلم أدر أي الظاعنين أشيع وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة ههنا وتعقب بأنه على هذا لا يكون ردا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة و السلام بالمحل الذي هو صلى الله تعالى عليه وسلم فيه من ربه سبحانه وقيل في الجواب أنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلا أنهم قاتلهم الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق وقيل أن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حالهم أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من ذحيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة و السلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك ولما كان المقصود إيناسه صلى الله تعالى عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة و السلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل أن هذا (30/155)
النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلا عما زعموه من الترك المخل بغزير مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز و جل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ما ودعك بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه قال في القاموس ودعه كوضعه وودع بمعنى وقيل ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ما ضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفصحهم وقد قال عليه الصلاة و السلام لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات وقرأ ما ودعك وقال أبو الأسود ليت شعري عن خليلي ما الذي
غاله في الحب حتى ودعه ومثله قول آخر وثم ودعنا آل عمرو وعامر
فرائس أطراف المثقفة السمر وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل وفي الحديث اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعوكم وفي المستوفي أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل نعم وروده نادر وقال الطيبي بعد أن ذكر وروده نظما ونثرا إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه وقيل أن القائلين إنما قالوا ودعه ربه بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشائم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكليف محسن له والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز و جل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كما لك اللائق بك وما قلى أي وما أبغضك وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة و السلام بنسبة القلي وإن كانت في كلام منفي لطفا به صلى الله تعالى عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة و السلام أو لنفي صدوره عنه عز و جل بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يوم القيامة أو للأستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل واللغة المشهورة في مضارع قلي كيرمي وطيء تقول يقل بفتح العين كيرضى وتفسير القلي بالبغض شائع وفي القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومناليائي قلاه كرماه ورضيه قلي وقلاه ومقلية أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقلبه في البغض وفي مفردات الراغب القلي شدة البغض يقال قلاه يقلوه ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من قولهم قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله ومن جعله من اليائي فمن قليت البسر والسويق على الملاقاة انتهى وبينهما مخالفة لا تخفى وعلى اعتبار شذة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس إلا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال المشركون قد قلاه ربه وودعه فأنزل الله تعالى ذلك وأخرج الحاكم عن زيد ابن أرقم قال لما نزلت تبت يدا أبي لهب الخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل أن محمدا صلى الله تعالى عليه (30/156)
وسلم قد هجاك فأتته عليه الصلاة و السلام وهو صلى الله تعالى عليه وسلم جالس في الملا فقالت يا محمد علام تهجوني قال إني والله ما هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى فقالت هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا من مسد ثم انطلقت فمكث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينزل عليه فاتنة فقالت ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك فأنزل الله تعالى ذلك وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب البجلي قال رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحجر في إصبعهفقال
ما أنت إلا اصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة ما أرى شيطانك إلا قد تركك وفي رواية للترمذي أيضا والإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وجماعة بلفظ اشتكى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله تعالى والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والزجر وذلك لا يطعن في صحته وقال جمع من المفسرسن أن اليهود سألوه عليه الصلاة و السلام عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة و السلام سأخبركم غدا ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت وقيل إن عثمان أهدى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم عنقود عنب وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدمه إليه عليه الصلاة و السلام ثانيا ثم عاد السائل فأعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة و السلام ملاطفا لا غضبان أسائل أنت يا فلان أم تاجر فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت ولعلهمأيضا قالوا ما قالوا وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة وكانت تخدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن جروا تحت سرير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمات ولم نشعر فمكث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة أيام ينزل عليه الوحي فقال يا خولة ما حدث في بيت رسول الله عليه الصلاة و السلام جبريل لا يأتيني فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير منا اليوم فأخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهوي بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بد إلي الجرو ميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فقال يا خولة دثريني فأنزل الله تعالى والضحى والليل إلى قوله سبحانه فترضى وهذه الرواية تدل على أن الأنقطاع كان أربعة أيام وعن ابن جريج أنه كان اثني عشر يوما وعن الكلبي خمسة عشر يوما وقيل بضعة عشر يوما وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوما وعن السدي ومقاتل أربعين يوما وأنت تعلم أن مثل ذلك مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلا منه عليه الصلاة و السلام والله تعالى أعلم وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبي عليه الصلاة و السلام فعن الحسن أنه قال ابطأ الوحي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لخديجة إن ربي ودعني وقلاني يشكو إليها فقالت كلا والذي بعثك بالحق ما أبتدأك الله تعالى بهذه الكرامة إلا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلا نحو من العزل وعزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمته عز و جل والنبي عليه الصلاة و السلام أعلم بذلك ويعلم صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا أن أبطأ الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة وأجيب بأن مراده عليه الصلاة و السلام إن صح أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلى الله تعالى عليه وسلم بضرب من التأويل قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين أو أن معاملته سبحانه إياي بأبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي اتعاب الذهن بتأويلها (30/157)
ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال ابطأ جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت والضحى والليل إلى آخرها والوق بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلا من قلى ربك وحاشى أي يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة و السلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام ما جئتني حتى اشتقت إليك فقال جبريل عليه السلام كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وما نتنزل إلا بأمر ربك وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة و السلام والروايات في ذلك مختلفة وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم أنه قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وعدك ربك دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلي أنه عز و جل لا يزال يواصله عليه الصلاة و السلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك وللآخرة خير لك من الأولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة و السلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعاد شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عندما أعد له عليه الصلاة و السلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين وكون أمته صلى الله تعالى عليه وسلم شهداء على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المباديء بالنسبة إلى المطالب كذا في الإرشاد والأختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة و السلام بخيرية الآخرة دون من أذاه وشمت بتأخير الوحي عنه عليه الصلاة و السلام ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له عليه الصلاة و السلام خير من المعد لغيره على الإطلاق ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلى الله تعالى عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروي عن أبي إسحاق وقال ابن عطية وجماعة يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرض على ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى وللآخرة خير لك من الأولى ثم ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلة وجوز أن يقال فيه أنه لما نزل ما ودعك ربك وما قلى حصل له عليه الصلاة و السلام به تشريف عظيم فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له وللآخرة خير لك من الأولى على معنى أن هذا التشريف وأن كان عظيما إلا أن مالك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم (30/158)
وجوز أيضا أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عز عن النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الأستغناء عن الرسالة وذلك إمارة الموت فكأنه تعالى قال انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن مالك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك في الدنيا وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير والمتبادر مما قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقالوا فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف أي ولأنت سوف يعطيك الخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الأعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن الحاجب أن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وأن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وأن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وأنه يلزم التقدير والأصل عدمه وإن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي ورد المؤكد الجملة لا المبتدأ وحده حتى ينافي تأكيده حذفه وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف معها الأسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكان قد مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام فإن مقتضاها إن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باق وإن حذف المبتدأ فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون كثيرا في الكلام قدروا المبتدأ في نحو قمت وأصك عينه وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتخليص المضارع للحال أيضا بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معها الحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد وعلى تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن يقال أنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوف بعدها والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير فالمعنى إن الأعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى أن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة وقيل يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة فلو كانت للقسم لقيل لسوف يعطيك ربك ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أنه يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا ففي المغنى أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله فوربي لسوف يجزي الذي
أسلف المرء سيئا أو جميلا وكذا مع فصل معمول بين اللام والفعل نحو ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ومع كون الفعل للحال نحو لا قسم وقد يمتنعان وذلك مع الفعل المنفي نحو تالله تفتؤ وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو تالله لأكيدن أصنامكم وعليه لا يتجه الأعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإنما ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جمع اللام مع سوف إذا لم يقل أحد من (30/159)
علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلا من اللامين موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي وسوف محمولة على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي علي الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله عصام الدين الأظهر أن جملة ما ودعك حالية أي ما ودعك ربك وما قلاك والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز و جل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة وحينئذ معنى قوله سبحانه ولسوف يعطيك أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل انتهى وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا وأيضا المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك واختلف في قوله تعالى ولسوف الخ فقيل هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز و جل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة و السلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولما ادخر جل وعلا له عليه الصلاة و السلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره والجمهور على أنه عدة أخروية فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي الشفاعة وروي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي قال أي والله حدثني محمد بن الحنفية عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال اشفع لأمتي حتى ينادي ربي أرضيت يا محمد فأقول نعم يا رب رضيت ثم أقبل علي فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا قلت أنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول إن أرجى آية في كتاب الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال هي الشفاعة وقيل هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحا وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا فأنزل الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال أبو حيان الولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روي الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية من رضا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عنه أنه قال رضاه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا يرضى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأحد من أمته في النار وهذا ما يقتضيه (30/160)
شفقته العظيمة عليه الصلاة و السلام على أمته فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم رؤفا بهم مهتما بأمرهم وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام فمن تبعني فإنه مني وقوله تعالى في عيسى أن تعذبهم فإنهم عبادك الآية فرفع عليه الصلاة و السلام يديه وقال اللهم أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له إنا سنرضيك في أمتك يخفى ولا نسوءك وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى تعديل لما أفاض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من فنون النعماء العظام لستشهد بالخاص الموجود على المترقب الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة والهمزة لأنكار النفي وتقرير على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك الخ وودته على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه العلم مجازا بعلاقة اللزوم وفي مفردات الراغب لوجود إضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من لوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن الوصف بالجوارح والآلات وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يتيما وبعضهم بالمصادقة وجعله متعديا لواحد ويتيما حالا وأنت تعلم أن المصادقة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه فلا بد من التجوز بها عن تعلق علمه عز و جل بذلك واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال آوى إليه فلانا أي ضمه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبالك فضمك إلى من قام بأمرك روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة و السلام ابن ست سنين ولما بلغ عليه الصلاة و السلام ثماني سنين مات جده فكلفه عمه الشفيق أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف ماتت أمه عليه الصلاة و السلام وهو ابن ثماني سنين فكلفه عمه وكان شديد الأعتناء بأمره إلى أن بعثه الله تعالى وكان يرى منه صلى الله تعالى عليه وسلم في صغره ما لم ير من صغير أنه قال يوما لأخيه العباس ألا أخبرك عن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما رأيت منه فقال بلى قال إني ضممته لي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فراجع وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عندما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام بسم الله الأحد فإذا فرغ من طعامه قال الحمد لله فكنت أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف من الصبيان وهم يلعبون وهذا لعمري غيض من فيض في المهد يعرب عن سعادة جده
أثر النجابة ساطع البرهان (30/161)
وقيل المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك وتكفلتك والأول هو الظاهر وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد إن شاء الله تعالى ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف إلا مكان فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه وقرأ أبو الأشعث فأوى ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى له أي رحمه ومصدره أياواية وماوية وماوية وتحقيقه على ما قال الراغب أي رجع بقلبه ومنه قوله
أو أني ولا كفران لله أية
وقوله تعالى ووجدك ضآلا فهدى عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو على المضارع المنفي بل داخل في حكمه كأنه قيل أما وجدك يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول كما في قوله تعالى ما كنت تدري ما الكتاب وقوله سبحانه وإن كنت من قبله لمن الغافلين فهداك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحي إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم وعلى هذا كما قال الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج وروي سعيد بن المسيب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل عليه الصلاة و السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبشة ورده إلى القافلة فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فرده لجده وهو متعلق بإستار الكعبة يتضرع إلى الله تعالى في أن يرد إليه محمدا وذكر له أنه لما رآه أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت فكانت الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وفي إرجاعه عليه الصلاة و السلام إلى أهله على يد أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه أرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون وقيل ضل عليه الصلاة و السلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وأن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق وقيل أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه وقيل الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر والمراد أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك ولم يتركك منفردا وقال الجنيد قدس سره أي وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من الأول وقال بعضهم وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على عظيم محلك وقيل وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز و جل وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه وقال الحريري أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي ورأى أبو حيان في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك وقوله تعالى (30/162)
ووجدك عائلا فأغنى على نمط سابقه والعائل المفتقر من عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر أي وجدك عديم المقتنيات فأغناك بما حصل لك من ربح التجارة وذلك في سفره صلى الله تعالى عليه وسلم مع ميسرة إلى الشام وبما وهبته لك خديجة رضي الله تعالى عنها من المال وكانت ذا مال كثير فلما تزوجها عليه الصلاة و السلام وهبته جميعه له صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يقول قائل ما يثقل على سمعه الشريف عليه الصلاة و السلام وبمال أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان أيضا ذا مال فإني به كله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام ما تركت لعيالك فقال تركت الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل بما أفاء عليك من الغنائم وفيه أن السورة مكية والغنائم إنما كانت بعد الهجرة وقيل المراد قنعك وأغنى قلبك فإن غنى القلب هو الغنى وقد قيل من عدم القناعة لم يفده المال غني وقيل أغناك به عز و جل عما سواه وهذا الغنى بالأفتقار إليه تعالى وفي الحديث اللهم أغنني بالأفتقار إليك ولا تفقرني بالأستغناء عنك وبهذا ألم بعض الشعراء فقال ويعجبني فقري إليك ولم يكن
ليعجبني لو لا محبتك الفقر وشاع حديث الفقر فخري وحمل الفقر فيه على هذا المعنى وهو على ما قال ابن حجر باطل موضوع وأشد منه وضعا وبطلانا ما يذكره بعض المتصوفة إذا تم الفقر فهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا خاضوا في بيان المراد به بما لا يدفع بشاعته بل لا يقتضي استقامته وقيل عائلا أي ذا عيال من عال يعول عولا وعيالة كثر عياله ويحتمل المعنيين قول جرير الله نزل في الكتاب فريضة
لابن السبيل وللفقير العائل ولعل الثاني فيه أظهر ورجح الأول في الآية بقراءة ابن مسعود عديما وأنه عليه الصلاة و السلام لم يكن ذا عيال في أول أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ اليماني عيلا كسا بشد الياء المكسورة هذا وذكر عصام الدين في هذه الآيات أنه يحتمل أن يراد باليتيم فاقد المعلم فإن الآباء ثلاثة من علمك ومن زوجك ومن ولدك ويناسبه حمل الضلال على الضلال عن العلم وحمل العيال أي على تفسير عائلا بذا عيال على عيال الأمة الطالبة منه معرفة مصالح الدين مع احتياجه إلى المعرفة فأغناه الله تعالى بالوحي إليه عليه الصلاة و السلام ولا يخفى ما فيه وحدث المفعول في الأفعال الثلاثة لظهور المراد مع رعاية الفواصل وقيل على سعة الكرم والمراد آواك وآوى لك وبك وهداك ولك وبك وأغناك ولك وبك وظاهر مع تلك الأفعال تأبى ذلك وأطال الإمام الكلام في الآيات وأتى فيها بغث وسمين ولولا خشية الملل لذكرنا ما فيه فأما اليتيم فلا تقهر فلا تستذله كما قال ابن سلام وقريب منه قول مجاهد لا تحتقر وقال سفيان لا تظلمه بتضييع ماله وفي معناه ما قيل لا تغلبه على ماله ولعل التقييد لمراعاة الغالب والأولى حمل القهر على الغلبة والتذليل معابان يراد التسلط بما يؤذي أو باستعمال المشترك في معنييه على القول بجوازه وفي مفردات الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي فلا تكهر بالحاف بدل القاف ومعناه على ما في البحر فلا تقهر وفي تهذيب الأزهري الكهر القهر والكهر عبوس الوجه والكهر الشتم واختار بعضهم هنا أوسطها فالمعنى فلا تعبس في وجهه وهو نهي عن الشتم والقهر على ما سمعت من معناه من باب الأولى وأيا ما كان ففي الآية دلالة على الأعتناء بشأن اليتيم وعن ابن مسعود مرفوعا من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر عليها يده نور يوم القيامة وعن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا أيضا أن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم (30/163)
الذي غيب أبوه في التراب فيقول الملائكة أنت أعلم فيقول الله تعالى يا ملائكتي إني أشهدكم أن على لمن أسكنه وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة فكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا ولم يصح في كيفية مسحه شيء والرواية عن ابن مسعود في ذلك قد قيل فيها ما قيل وروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال أنا وكافل اليتيم كهاتين إذا اتقى الله عز و جل وأشار بالسبابة والوسطى إلى غير ذلك من الأخبار وأما السائل فلا تنهر أي فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل وأريد به عند جمع السائل المستجدي الطالب لشيء من الدنيا وتدل الآية على الأعتناء بشأنه أيضا وعن إبراهيم ابن أدهم نعم القول السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وعن إبراهيم النخعي السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول أتبعثون إلى أهليكم بشيء وشاع حديث للسائل حق وأن جاء على فرس وقد قال فيه الإمام أحمد كما في تمييز الطيب من الخبيث لا أصل له وأخرجه أبو داود عن الحسين ابن علي رضي الله تعالى عنهما موقوفا وسكت عنه وقال العراقي سنده جيد وتبعه غيره وقال ابن عبد البر أنه ليس بالقوي وعول كثير على ما قال الإمام أحمد وفي معناه احتمالان كل منهما يؤذن بالأهتمام بأمر السائل وروي من طرق عن عائشة وغيرها لو صدق السائل ما أفلح من رده وهو أيضا على ما قال ابن المديني لا أصل له وقال ابن عبد البر جميع أسانيده ليست بالقوية نعم أخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعا ما يقرب منه وهو لو لا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم ولم أقف على من تعقبه ثم النهي على النهر على ما قالوا إذا لم يلح في السؤال فإن ألح ولم ينفع الرد اللين فلا بأس بالزجر قال أبو الدرداء والحسن وسفيان وغيرهم المراد بالسائل هنا السائل عن العلم والدين لا سائل المال ولعل النهي عن زجره على القول الأول يعلم بالأولى ويشهد للأولوية أنه أنه لا وعيد على ترك أعطاء المستجدي لمن يجد ما يستجديه بخلاف ترك جواب سائل العلم لمن يعلم ففي الحديث من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل من أن الظاهر الثاني من القولين وأما بنعمة ربك فحدث فإن التحدث بها شكر لها كما قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والفضيل بن عياض وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن حيان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله مرفوعا من أعطى فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إذا لم يرد به الرياء والأفتخار وعلم الأقتداء به بل بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم حمل الآية على ذلك أخرج ابن أبي حاتم عن مقسم قال لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما فقلت أخبرني عن قول الله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث فقال الرجل المؤمن يعمل عملا صالحا فيخبر به أهل بيته وأخرج ابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال فيها إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك والظاهر أن المراد بالنعمة ما أفاضه الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من فنون النعم التي من جملتها ما تقدم وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد تفسيرها بالنبوة ورووا عنه أيضا تفسيرها بالقرآن ووافقه في الأول محمد بن إسحاق وفي الثاني الكلبي وعليهما المراد بالتحديث التبليغ ولا يخفى أن كلا التفسيرين غير مناسب لما قبل وهذه الجمل الثلاث مرتبة على ما قبلها على اللف والنشر المشوش وحاصل المعنى أنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك وهداك وإناك فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى فتعطف على اليتيم وترحم على السائل فقد ذقت اليتم والفقر وقوله تعالى وأما بنعمة الخ في مقابلة قوله سبحانه وجدك ضالا فهدى لعمومه وشموله لهدايته عليه الصلاة و السلام من (30/164)
الضلال بتعليم الشرائع وغير ذلك من النعم ولم يراع الترتيب لتقديم حقوق العباد على حقه عز و جل فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين وقيل لتقديم التخلية على التحلية أو للترقي أو لمراعاة الفواصل ونظر في كل ذلك وقال الطيبي الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجد وعليه لا مانع من كون التفصيل على الترتيب فيقال أنه تعالى ذكر أحواله صلى الله تعالى عليه وسلم على وفق الترتيب الخارجي بأن يراد بهدايته عليه الصلاة و السلام ما يعم توفيقه للنظر الصحيح في صباه فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم موفقا لذلك ولذا لم يعبد عليه الصلاة و السلام صنما أو يراد بإغنائه ما كان بعد البعثة ثم فصل سبحانه على ذلك الترتيب فجعل عدم قهر اليتيم في مقابلة إيوائه تعالى له عليه ألصلاة والسلام في يتمه وعدم زجر السائل طالب العلم والمتعلم منه في مقابلة هدايته له والتحدث بالنعمة في مقابلة الغنى وإن كانت النعمة شاملة له ولغيره وآثر سبحانه فحدث على فخبر قيل ليكون ذكر النعمة منه عليه الصلاة و السلام حديثا لا ينساه ويوجده ساعة غب ساعة والله تعالى أعلم وندب التكبير عند خاتمة هذه السورة الكريمة وكذا ما بعدها إلى آخر القرآن العظيم فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن البزي المقري قال سمعت عكرمة بن سليمان يقول قرأت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت والضحى قال كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت والضحى قال كبر حتى تختم وأخبره عبد الله ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره أن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أمره بذلك وأخبره أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمره بذلك وكان ذلك منه عليه الصلاة و السلام فرحا بنزول الوحي بعد تأخره وبطئه حتى قيل ما قيل هذا وعلى ذلك عمل الناس اليوم والحمد لله رب العالمين
سورة الشرح
وتسمى سورة الشرح وهي كما روي عن ابن الزبير وعائشة مكية وأخرج ذلك ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس في رواية عنه زيادة نزلت بعد الضحى وزعم البقاعي أنها عنده مدنية حديث طويل أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما هو ظاهر في أن قوله تعالى فيها فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسر نزل بالمدينة لكن في صحة الحديث توقف وآيها ثمان بالإتفاق وهي شديدة الإتصال بسورة الضحى حتى أنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى ذلك الشيعة كما حكاه الطبرسي منهم قال الإمام والذي دعا إلى ذلك هو أن قوله تعالى ألم نشرح كالعطف على قوله تعالى ألم يجدك يتيما وليس كذلك لأن الأول كان عند اغتنام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من إيذاءه الكفرة وكانت الحالة حال محنة وضيق صدر والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأني يجتمعان وفيه نظر والحق أن مدار مثل ذلك الرواية لا الدارية والمتواتر كونهما سورتين والفصل بينهما بالبسملة نعم هما متصلتان معنى جدا ويدل عليه ما في الإسراء الذي أخرجه ابن أبي حاتم أن الله تعالى قال له عليه الصلاة و السلام يا محمد ألم أجدك يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي الحديث بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك الشرح في الأصل الفسح والتوسعة وشاع استعماله (30/165)
في الإيضاح ومنه شرح الكتاب إذا أوضحه لما أن فسح الشيء وبسطه مستلزم لأظهار باطنه وما خفى منه وكذا شاع في سرور النفس حتى لو قيل أنه حقيقة عرفية لم يبعد وذلك إذا تعلق بالقلب كان قيل شرح قلبه بكذا أي سره به لما أن القلب كالمنزل للنفس ويلزم عادة من فسح المنزل وتوسعته سرور النازل فيه وكذا إذا تعلق بالصدر الذي هو محل القلب وربما يؤذن ذلك بسعة القلب لما أن العادة كالمطردة في أن توسعة ما حوالي المنزل إنما تكون إذا كان المنزل واسعا فيوسع ما حواليه لتحصيل زيادة بهجة ونحوها فيه فينتقل منه إلى سرور النفس بالواسطة وقد يراد به إذا تعلق بالقلب أو الصدر أيضا تكثير ما فيه من المعلومات فقيل يتخيل أنها تحتاج إلى فضاء تكون فيه وإن ذلك محل لها فمتى كانت كثيرة اقتضت أن يكون محلها واسعا ليسعها وقد يراد بها تكثير ما في النفس من ذلك فقيل أيضا بتخيل أن تكثير معلوماتها يستدعي توسيعها وتوسيعها يستدعي توسيع ذلك لتنزيله منزلة محلها وقد يراد به تأييد النفس بقوة قدسية وأنوار إلهية بحيث تكون ميدانا لمواكب المعلومات وسماء لكواكب الملكات وعرشا لأنواع التجليات وفرشا لسوائم الواردات فلا يشغله شأن عن شأن ويستوي لديه يكون وكائن وكان ووجه نسبته إلى الصدر على نحو ما مر وإرادة القلب من الصدر والنفس من القلب بعلاقة المحلية ونحوها مما لا تميل إليه النفس وإرادة كل مما ذكر بقرينة المقام والأنسب بمقام الأمتنان هنا إرادة هذا المعنى الأخير وجوز غيره فالمعنى ألم نفسح صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الأستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلاقة الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الأستغراق في شؤن الحق وقيل المعنى ألم نزل همك وغمك بإطلاعك على حقائق الأمور وحقارة الدنيا فهمان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى ونقل عن الجمهور أن المعنى ألم نفسحه بالحكمة وتوسعه بتيسيرنا لك تلقي ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك وعن ابن عباس وجماعة أنه إشارة إلى شق صدره الشريف في صباه عليه الصلاة و السلام وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأخبار وهو عند مرضعته حليمة فقد روي عنها أنها قالت في شأنه عليه الصلاة و السلام لم نزل نتعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على بقائه عندنا لما نرى من بركته فقلنا لأمه لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليها وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به فو الله إنه ليعد مقدمنا به بشهر أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لفي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد عليهما ثياب بيض فاضجعاه وشقا بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال أي بني ما شأنك قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي فرديه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوفه قالت فاحتملناه إلى أمه فقالت ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه قلنا نخشى الأختلاف والإحداث فقالت ماذاك بكما فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت أخشتما عليه الشيطان لا والله ما للشيطان عليه سبيل وإنه لكائن لابني هذا شأن فدعاه عندكما وفي حديث لأبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرر وقوع ذلك له عليه الصلاة و السلام وهو عند حليمة وقد وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا بعد بلوغه صلى الله تعالى عليه وسلم ففي الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبي بن كعب أن أبا هريرة قال يا رسول الله ما رأيت من أمر النبوة فاستوى رسول (30/166)
الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا وقال لقد سألت أبا هريرة أني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط وثياب لم أجدها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أفلق صدره فهوي أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له اخرج الغل والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فقال لأه ادخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم حز إبهام رجلي اليمنى وقال اغدوا سلم فرجعت أغدوا بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير والذي رأيته في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا بلفظ آخر وفيه أني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه أهو هوالي آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضا والله تعالى أعلم ثم أنه على الروايتين ليس نصا على نفي وقوع شق قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما قبله ووقع له عليه الصلاة و السلام أيضا عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن ذلك الطيالسي والحرث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه ثم قال اقرأ باسم ربك الآيات ووقع أيضا مرة أخرى تواترت بها الروايات خلافا لمن أنكرها ليلة الإسراء به صلى الله تعالى عليه وسلم روي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا قال قتادة قلت يعني لأنس ما تعني قال إلى أسفل بطني قال فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشى إيمانا وحكمة ثم أتى بداية دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا الحديث وطعن القاضي عيد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلا أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني وأنه لا يصح إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا ونسميه إرهاصا والأخبار كثيرة في وقوعه له عليه الصلاة و السلام قبل النبوة والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني ولا يبعد أن يكون إزالته وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني أنه أفضل من ماء الكوثر موجبا لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلا إدخال مابه يحصل كمال ذلك وكثيرا ما يسمى المسبب باسم السبب مجازا ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز وقال العارف بن أبي جمرة كما في المواهب اللدنية للعسقلاني ما حاصله إن ما دل كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة و السلام في نفس الأمر وإن الحكم من التكلم أو نحوه عليها بالعرضية إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله وللعقل حد يقف عنده والحقيقة في الحقيقة ما دل عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي الإلهي والنور القدرسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا المرواة عنه عنعنة فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي (30/167)
صلى الله تعالى عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن حسبها من حسبها كذلك انتهى والأمر فيه اعتقادا وإنكارا إليك ولا ألزمك الأعتقاد فما أريد أن أشق عليك وقال بعض الأجلة لعل ذلك من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا كما مثل له عليه الصلاة و السلام الجنة والنار في عرض حائط مسجده الشريف وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس وهو ميل إلى عدم الوقوع حقيقة قد قال غير واحد جميع ما ورد من الشق وإخراج القلب وغيرهما يجب الإيمان به وإن كان خارقا للعادة ولا يجوز تأويله لصلاحية القدرة له ومن زعم ذلك وقع في هوة المعتزلة في تأويلهم نصوص سؤال الملكين وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط وغير ذلك بالتشهي وأما حكمة ذلك مع إمكان إيجاد ما ترتب عليه بدونه فقد أطالوا الكلام في بيانها في موضعه نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند المحققين والتعبير عن ثبوت الشرح بالأستفهام الإنكاري عن انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يجيب عنه بغير بلى وإسناد الفعل على ضمير العظمة للإيذان بعظمته وجلالة قدره وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمربأن الشرح من منافعه عليه الصلاة و السلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وتشويقا له عليه الصلاة و السلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن وقرأ أبو جعفر المنصور ألم نشرح بفتح الحاء وخرجه ابن عطية وجماعة على أن الأصل ألم نشرحن بنون التأكيد الخفيفة فأبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا كما في قوله اضرب عنك الهموم طارقها
ضربك بالسيف قونس الفرس ولا يخفى أن الحذف هنا أضعف مما في البيت لأن ذلك في الأمر وهذا في النفي ولهذا روي ابن جني في المنتفي عن أبي مجاهد أنه غير جائز أصلا فنون التوكيد أشبه شيء به الإسهاب والأطناب لا الإيجاز والأختصار والبيت يقال أنه مصنوع والأولى في التمثيل ما أنشده أبو زيد في نوادره من أي يومي من الموت أفر
أيوم لم يقدر أم يوم قدر وقال غير واحد لعل أبا جعفر بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها وفي البحر أن لهذه القراءة تخريجا أحسن مما ذكر وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بلم فقد حكى الليحاني في نوادره أن منهم من ينصب بها ويجزم بلن عكس المعروف عند الناس وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد في كل ما هم أمضي رأيه قدما
ولم يشاور في الأمر الذي فعلا وخرجها بعضهم على أن الفتح لمحاورة ما بعدها كالكسر في قراءة الحمد لله بالجر وهو لا يتأتى في بيت عائشة ويتأتى فيما عداه مما مر وقوله تعالى ووضعنا عنك وزرك عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قيل قد شرحنا لك صدرك ووضعنا الخ وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح لما مر من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم والوزر الحمل الثقيل أي وحططنا عنك حملك الثقيل الذي انقض ظهرك أي حمله على النقيض وهو صوت الأنتقاض والأنفكاك أعني الصرير ولا يختص بصوت المحامل والرجال بل يضاف إلى المفاصل فيقال نقيض المفاصل ويراد صوتها فنقيض الظهر ما يسمع من مفاصله من الصوت لثقل الحمل وعليه قول عباس بن مرداس وأنقض ظهري ما تطويت منهم
وكنت عليهم مشفقا متحننا (30/168)
وإسناد الإنقاض للحمل إسناد للسبب الحامل مجازا والمراد بالحمل المنقض هنا ما صدر منه صلى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة مما يشق عليه صلى الله تعالى عليه وسلم تذكره لكونه في نظره العالي دون ما هو عليه عليه الصلاة و السلام بعد أو غفلته عن الشرائع ونحوها مما لا يدرك إلا بالوحي مع تطلبه صلى الله تعالى عليه وسلم لأه أو حيرته عليه الصلاة و السلام في بعض الأمور كإداء حق الرسالة أو الوحي وتلقيه فقد كان يثقل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم في ابتداء أمره جدا أو ما كان يرى صلى الله تعالى عليه وسلم من ضلال قومه مع العجز عن إرشادهم لعدم طاعتهم له وإذعانهم للحق أو ما كان يرى من تعديهم في إيذائه عليه الصلاة و السلام أو همه عليه الصلاة و السلام من وفاة أبي طالب وخديجة بناء على نزول السورة بعد وفاتهما ويراد بوضعه على الأول مغفرته وعلى الثاني إزالة غفلته عليه الصلاة و السلام عنه بتعليمه إياه بالوحي ونحوه وعلى الثالث إزالة ما يؤدي للحيرة وعلى الرابع تيسيره له صلى الله تعالى عليه وسلم بتدربه واعتباره له وعلى الخامس توفيق بعضهم للإسلام كحمزة وعمر وغيرهما وعلى السادس تقويته صلى الله تعالى عليه وسلم على التحمل وعلى السابع إزالة ذلك برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة وفوزه بمشاهدة محبوبة الأعظم ومولاه عز و جل وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية والوضع ترشيح لها وليس فيه دليل لنا في العصمة كما لا يخفى واختار أبو حيان كون وضع الوزر كناية عن عصمته صلى الله تعالى عليه وسلم عن الذنوب وتطهيره من الأدناس عبر ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتقاء ذلك كما يقول القائل رفعت عنك مشقة الزيارة لمن لم يصدر منه زيارة على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه له والتمثيل عليه بحاله على ما قيل المراد وزر أمتك وإنما أضيف إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لاهتمامه بشأنه وتفكره في أمره والمراد بوضعه رفع غائلته في الدنيا من العذاب العاجل ما دام صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم وما داموا يستغفرون فقد قال سبحانه وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ولا يخفى بعد هذا الوجه وقرأ أنس وحططنا وحللنا مكان وضعنا وقرأ ابن مسعود عنك وقرك ورفعنا لك ذكرك بالنبوة وغيرها وأي رفع مثل أن قرن اسمه عليه الصلاة و السلام باسمه عز و جل في كلمتي الشهادة وجعل طاعته وصلى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب كيا أيها المدثر يا أيها المزمل يا أيها النبي الرسول وذكره سبحانه في كتب الأولين وأخذ على الأنبياء عليهم السلام وأممهم أن يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك لا أذكر إلا ذكرت معي وفيه حديث مرفوع أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول أتدري كيف رفعت ذكرك قلت الله تعالى أعلم قال إذا ذكرت ذكرت معي وكان ذلك من الأقتصار على ما هو أعظم قدرا من أفراد رفع الذكر ويشير إلى عظم قدره قول حسان أغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع والكلام في العطف وزيادة لك كالذي سلف والفاء في قوله عز و جل فإن مع العسر يسرا على ما في الكشاف فصيحة والكلام وعد له صلى الله تعالى عليه وسلم مسوق للتسلية والتنفيس قال كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (30/169)
والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف عليه الصلاة و السلام أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال تعالى شأنه أن مع العسر يسرا كأنه قال سبحانه خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله تعالى فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا وهو ظاهر في أن أل في العسر للعهد وأما التنوين في يسرا فللتفخيم كأنه قيل أن مع العسر يسرا عظيما وأي يسر والمراد به ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو يسر الدنيا مطلقا وقوله تعالى إن مع العسر يسرا يحتمل أن يكون تكريرا للجملة السابقة لتقرير معناها وفي النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعدا مستأنفا وأل التنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة واحتمال الأستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الأحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والأستئناف نحوي وتجرده على الواو أكثر من أن يحصى ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل وقال عصام الدين لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم وقد يقال أن فائدته الظهر في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والإشعار بالفرق بين العسر واليسر ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال خرج رسول الله عليه الصلاة و السلام فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين مع أن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وأفاد بعض الأجلة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلى الله تعالى عليه وسلم بتيسير كل عسير فالفاء قيل سببية ودخلت على المسبب وإن تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر وأل في العسر للأستغراق فيدخل فيه سبب النزول والتنوين في يسرا على ما سبق كأنه قيل فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيما كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك وقال بعضهم الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الأستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما تقول أما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ فاعلم بذلك أن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر وفي الجملة الثانية الأحتمالان السابقان والأستئناف أيضا هو الراجح لما تقدم وعلى اتحاد العسر وتعدد اليسر يكون الحاصل من الجملتين أن مع كل عسر يسرين عظيمين والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي وقيل الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك والكلام نظير قولك أن مع الفارس رمحا أن مع الفارس رمحا وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح ولن يغلب عسر يسرين ليس نصا في الحمل على الأستئناف إذ يصح على التأكيد أيضا بأن يكون مبنيا على كون التنوين في يسرا للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضا لن يغلب عسر يسرين وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ مع لمعنى بعد وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر العسر وإنصاله به واستشكل أمر الأستغراق بأن من العسر ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وأن من العسر (30/170)
ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا كعسر الكافر والجواب بأن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه في الموطأ عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجعل الله تعالى بعده فرجا ولن يغلب عسر يسرين ولا يحسم الأشكال إذ يبقى معه أن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر بل منه ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة والظاهر من اليسر هو الثواب فيها على ذلك العسر وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها إن من عسره أيضا ما لا يعقبه اليسر الدنيوي وأجاب بعض على وجه التأكيد بأن الأستغراق عرفي ويكفي فيه أن العسر في الغالب يعقبه يسر وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمن الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وإن لم تذكر قيل ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشر بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة و السلام لن يغلب عسر إن شاء الله تعالى يسرين ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون مع ظاهرها والتنوين في يسر اللنوعية ولا إشكال في الإستغراق إذ لا يخلو المرء في حال العسر عن نوع من اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضا ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع الأعظم وما من عسر إلا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين إما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية أو لأن الآية أفادت أن مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى سيجعل الله بعد عسر يسرا إن كان نزوله متقدما وذكر بعضهم أن المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى أن كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره وتعذيبكم عذب لدي وجوركم
على بما يقتضي الهوى لكم عدل وقول الآخر برجا تم أزتوهر جه
رسدجاي منت أست كدناوك جفا ست
وكر خنجر ستم وتسمية ذلك عسرا لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصحابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال عليه الصلاة و السلام لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله تعالى إن مع العسر يسرا الخ ولفظ الطبراني وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن مع العسر يسرا وإرادة العهد أسلم من القيل والقال وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الأستئناس له بسبب النزول لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الأستغراق فإذا قيل به فلا بد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقا بالله تعالى حسن الرجاء به عز و جل منقطعا إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى العسر يسرا في الموضعين بضم السين فإذا فرغت أي من عبادة كتبليغ الوحي فانصب فاتعب في عبادة أخرى شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز و جل لما عدد عليه ما عدد ووعده صلى الله تعالى عليه وسلم بما وعد بعثه على الشكر والأجتهاد في العبادة وإن لا يخلي وقتا من أوقاته منها فإذا فرغ من (30/171)
عبادة أتبعها بأخرى وإلى ربك وحده فارغب فاحرص بالسؤال ولا تسألأ غيره تعالى فإنه القادر على الإسعاف لا غيره عز و جل وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس أنه قال أي إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء وروي نحوه عن الضحاك وقتادة وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أي إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل وعن الحسن أي إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه وأخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا فرغت من أسباب نفسك وفي لفظ من دنياك فصل وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم وأما قول ابن عباس ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغا وشغلا إما مثالا لا أن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن مسعود وإما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ العبادة فهما هما وقول الحسن فيه ما شاع من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو قريب إلا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر وقول مجاهد نظر فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال الدنيوية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم اغتتم فراغك قبل شغلك وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به الفاء وقال عصام الدين لا نسب أن يراد فإذا فرغت من يسر فانصب بعسر آخر طلبا لليسرين فإذا كنت كذلك فكن راغبا إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعا في يسرين فيها بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى ولعمري أنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ وأشعرت الآية بأن اللائق يحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها وذكروا أن قعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة وعن عمر رضي الله تعالى عنه أني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته وروي أن شريكا مر برجلين يصطرعان فقال ما بهذا أمر الفارغ وقرأ أبو السمال فرغت بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست بفصيحة وقرأ قوم فأنصب بشد الياء مفتوحة من الإنصاب والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه ونسب إلى بعض الإمامية أنه قرأ فأنصب بكسر الصاد فقيل أي فإذا فرغت من النبوة فانصب عليا للأمامة وليس في الآية دليل على خصوصية المفعول فللسني أن يقدره أبا بكر رضي الله تعالى عنه فإن احتج الإمامي ما وقع لإي غدير خم منع السني دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه واحتج لما قدره بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس وقال أنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة و السلام في مرض وفاته قبل وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم بخلاف ما كان في الغدير فإنه لآ يظهر أن زمانه زمان فراغ من النبوة ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع وقال المراد فإذا فرغت من الحج فانصب عليا ورد أمر مكية السورة مع ما لا يخفى وقال في الكشاف لو صح ذلك للرافضي لصح للناصي أن يقرأ هكذا ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض علي كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر ومن الناس من قدر المفعول خليفة والأمر فيه هين وقال ابن عطية إن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة فرغب أمر من رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز و جل (30/172)
سورة التين
ويقال لها سورة التين بلا واو مكية في قول الجمهور وعن قتادة أنها مدنية وكذا عن ابن عباس على ما في البحر ومجمع البيان برواية المعدل وأخرج عنه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي ما يوافق قول الجمهور ويؤيده إشارة الحضور في قوله تعالى وهذا البلد الأمين فإن المراد به مكة بإجماع المفسرين فيما نعلم وآيها ثمان آيات في قولهم جميعا لما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع الإنساني بالإتفاق بل أكمل خلق الله عز و جل على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر عز و جل في هذه السورة حال النوع وما ينتهي إليه أمره وما أعد سبحانه لمن آمن منه بذلك الفرد الأكمل وفخر هذا النوع المفضل صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم فقال عز قائلا بسم الله الرحمن الرحيم
والتين والزيتون
وطور سنين
وهذا البلد الأمين إقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه كثير فأما البلد الأمين فمكة حماها الله تعالى بلا خلاف وجاء في حديث مرفوع وهو مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومبعثه والأمين فعيل بمعنى إما بمعنى فاعل أي الآمن من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين وجاء أمان أيضا كما جاء كريم وكرام ولم يسمع آمن فاعل وسمع على معنى النسب كما في قوله تعالى حرما آمنا بمعنى ذي أمن وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ففيه تشبيه بالرجل الأمين وأما بمعنى مفعول أي المأمون من أمنه أي لم يخفه ونسبته إلى البلد مجازية والمأمون حقيقة الناس أي لا تخاف غوائلهم فيه أو الكلام على الحذف والإيصال أي المأمون فيه من الغوائل وإقحام اسم الإشارة للتعظيم وأما طور سينين فالجبل الذي كلم الله تعالى شأنه موسى عليه السلام عليه ويقال له طور سيناء بكسر السين والمد وبفتحها والمد وقد قرأ بالأول هنا بدل سينين عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن وبالثاني عمر أيضا وزيد بن علي وطور سينين بفتح السين وهي لغة بكر وتميم وقد قرأ بها ابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وفي البحر أنه لم يختلف في أنه جبل بالشام وتعقبه الشهاب بأنه خلاف المشهور فإن المعروف اليوم بطور سينا ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة وسينين قيل اسم للبقعة التي فيها الجبل أضيف إليه الطور ويعامل في الإعراب معاملة بيرون ونحوه فيعرب بالواو والياء ويقر على الياء وتحرك النون بحركات الإعراب وقال الأخفش سينين جمع بمعنى شجر واحدته سينة فكأنه قيل طور الأشجار وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال سينين هو الحسن وأخرج عبد بن حميد نحوه عن الضحاك وكذلك أخرج هو وجماعة عن عكرمة بزيادة بلسان الحبشة وأخرج هو أيضا وابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن قتادة أنه قال سينين مبارك حسن ذو شجر والإضافة على ما ذكر من إضافة الصفة إلى الموصوف وأما التين والزيتون فروي جماعة عن قتادة أن الأول منهما الجبل الذي عليه دمشق والثاني الجبل الذي عليه بيت المقدس ويقال على ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن أبي حبيب الحرث بن محمد للأول تينا وللثاني زيتا وذلك لأنهما منبتا التين والزيتون وكان الكلام على هذا إما على حذف مضاف أو على التجوز بأن يكون قد تجوز بالتين والزيتون عن منبتيهما وشاع ذلك وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبد الله الفارسي أن التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس ولعل إطلاقهما عليهما لأن فيهما شجرا من جنسهما وعن كعب الأحبار أنهما دمشق وإيلياء بلد بيت المقدس وكأن تسميتها بذلك من تسمية المحل باسم الحال فيه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد ن كعب أنهما (30/173)
مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنهما مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي وبيت المقدس وعن شهر بن حوشب أنهما الكوفة والشام وتعقب بأن الكوفة بلدة إسلامية مصرها سعد بن أبي وقاص في أيام أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه ولعله أراد الأرض التي تسمى اليوم بالكوفة فقد كانت كما في القاموس وغيره منزل نوح عليه السلام وقال بعضهم أن الكوفة بلد كانت قبل لكنها خربت فجددت في أيام عمر رضي الله تعالى عنه وقيل هما جبال ما بين حلوان وهمذان وجبال الشام لأنهما منابتهما وأياما كان فالمتعاطفات متناسبة في أن المراد بها أماكن مخصوصة وقيل المراد بهما الشجران المعروفان وأخر ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبن عباس أنه قال التين والزيتون الفاكهة التي يأكلها الناس وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد نحوه وحكاه في البحر أيضا عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وعكرمة والحسن وخصهما الله تعالى على هذا القول بالإقسام بهما من بين الثمار لاختصاصهما بخواص جليلة فإن التين فاكهة طيبة لا فضل لها وغذاء سريع الأنهضام بل قيل أنه أصح الفواكه غذاء إذا أكل على الخلاء ولم يتبع بشيء وهو دواء كثير النفع يفتح السدد ويقوي الكبد ويذهب الطحال وعسر البول وهزال الكلي والخفقان والربو وعسر النفس والسعال وأوجاع الصدر وخشونة القصبة إلى غير ذلك وعن علي الرضا بن موسى الكاظم على جدهما وعليهما السلام أنه يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج وروي أبو ذر أنه أهدى إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ولم أقف للمحدثين على شيء في هذا الحديث لكن قال داود الطبيب بعد سرد نبذة من خواص التين وفي نفعه من البواسير حديث حسن وذكر أن نفعه من النقرس إذا دق دقيق الشعير أو القمح أو الحلبة وذكر أنه حينئذ من الأورام الغليظة وأوجاع المفاصل وله مفردا ومركبا خواص أخرى كثيرة وكذا لشجرته كما لا يخفى على من راجع كتب الطب وما أشبه شجرته بمؤثر على نفسه وبكريم يفعل ولا يقول وأما الزيتون فهو دام ودواء وفاكهة فيما قيل وقالوا إن المكلس منه لا شيء مثله في الهضم والتسمين وتقوية الأعضاء ويكفيه فضلا دهنه الذي عم الأصطباح به في المساجد ونحوها مع ما فيه من المنافع كتحسين الألوان وتصفية الأخلاط وشد الأعصاب وكفتح السدد وإخراج الدود والأدرار وتفتيت الحصى وإصلاح الكلى شربا بالماء وكقلع البياض وتقوية البصر اكتحالا إلى غير ذلك وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل وإذا تتبعت خواص أجزائها ظهر لك أنها أجدى من تفاريق العصا وعن معاذ بن جبل أنه مر بشجرة زيتون فأخذ منها سواكا فاستاك به وقال سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة وسمعته عليه الصلاة و السلام يقول هو سواكي وسواك الأنبياء عليهم السلام وقال بعضهم إن تفسيرهما بما ذكر هو الصحيح وكأن المراد عليه تين تلك الأماكن المقدسة وزيتونها والغرض من القسم بتلك الأبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة ويرجع إلى القسم بالأرض المباركة وبالبلد الأمين وفيه رمز إلى فضل البلد كما يشعر به كلام صاحب الكشاف وبين ذلك في الكشف بقوله وذلك أنه فصل بركتي الأرض المقدسة الدنيوية والدينية بذكر الشجرتين أو تمرتيهما والطور الذي نودي منه موسى عليه السلام وناب المجموع مناب والأرض المباركة على سبيل الكناية فظهر التناسب في العطف على وجه بين إذ عطف البلد على مجموع الثلاثة لأنها (30/174)
كالفرد بهذا الاعتبار كأنه قيل والأرض التي باركنا فيها دينا ودنيا إلا آمن من دخله في الدارين وذلك بركة يتضاءل دونها كل بركة ويتضمن ذلك أن شرف تلك البقاع بمناجاة موسى عليه السلام ربه عز و جل أياما معدودة وكم نوجيت في البلد الأمين ثم قال والحمل على الظاهر أريد المنابت أو الشجر إن يفوته المناسبة بين الأولين والبلد الأمين لأن مناسبة طور سينين للبلد غير مناسبته لهما والكلام مسوق للأول فتأمل فإنه دقيق وأياما كان فجواب القسم قوله تعالى لقد خلقنا الإنسان الخ وأريد بالإنسان الجنس فهو شامل للمؤمن والكافر لا مخصوص بالثاني واستدل عليه بصحة الأستتناء وإن الأصل فيه الأتصال وقوله تعالى في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان أي كائنا في تقويم أحسن تقويم والتقويم التثقيف والتعديل وهو فعل الله عز و جل فمعنى كون الإنسان كائنا في ذلك على ما قيل أنه ملتبس به نظير قولك فلأن في رضا زيد بمعنى أنه مرضي عنه وقال الخفاجي هو مؤول بمعنى القوام أو المقوم وفيه مضاف مقدر أي قوام أحسن تقويم أو في زائدة وما بعدها في موضع المفعول المطلق وقد ناب فيه عن المصدر صفته والتقدير قومناه تقويما أحسن تقويم والمراد بذلك جعله على أحسن ما يكون صورة ومعنى فيشمل ماله من انتصاب القامة وحسن الصورة والإحساس وجودة العقل وغير ذلك ومن أمعن نظره في أمره وأجال فكره في دقائق ظاهره وسره رآه كما قال بعض الأجلة مجمع مجري الغيب والشهادة ومطلع نيري فلكي الأففادة والأستفادة والنسخة الجامعة لما في رسائل إخوان الصفا وسائر المتون والشارح بطور طروس العجائب الإلهية المودعة فيه لما كان وسيكون وظهر له صدق ما قيل ونسب لعلي كرم الله تعالى وجهه دواؤك فيك ولا تشعر
وداؤك منك وما تصبر وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر ومما يدل على أحسنية تقويمه أن الله تعالى رسم فيه من الصفات ما تذكره صفاته عز و جل وتدله عليها فجعله عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك وقال تعالى تخلقوا بأخلاق لئلا يتوهم أن ما للسيد على العبد حرام ويكفي في هذا الباب وهو القول الفصل إن الله تعالى خلقه بيديه وأمر سبحانه ملائكته عليهم السلام بالسجود له وهم المكرمون لديه وجاء أن الله تعالى خلق آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن وهي تأبى احتمال عود الضمير على آدم على معنى خلقه غير متنقل في الأطوار كبنيه ولكونه النسخة الجامعة قال يحيى ابن معاذ الرازي من عرف نفسه فقد عرف ربه والناس يزعمونه حديثا وليس كما قال التووي بثابت وعن يحيى بن أكثم وبعض الحنفية أنهما أفتيا من قال لزوجته إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق بعدم وقوع الطلاق واستدلا بهذه الآية في قصة مشهورة وللشعراء في تفضيل معشوقهم على القمر ليلة تمه ما يضيق عنه نطاق الحصر والحق أن الفرق مثل الصبح ظاهر وثم في قوله تعالى ثم رددناه أسفل سافلين للتراخي الزماني أو الرتبي والرد إما بمعنى الجعل فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كما في قوله فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوههن البيض سودا فأسفل مفعول ثان له هنا والمعنى ثم جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل خلقا وتركيبا لعدم جريه على ما خلقناه عليه من الصفات وجوز أن يكون المراد بالرد (30/175)
تغيير الحال فهو متعد لواحدة وأسفل حال من المفعول أي رددناه حال كونه أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار وأن يكون الرد بمعناه المعروف وأسفل منصوب بنزع الخافض وجعل الأسفل عليه صفة لمكان وأريد بالسافلين الأمكنة السافلة أي رددناه إلى مكان أسفل الأمكة السالفة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار ويعكر على هذا جمعها جمع العقلاء وكونه للفاصلة أو التنزيل منزلة العقلاء ليس مما يهتش له ولعل الأولى على ذلك أن يراد إلى أسفل من سفل من أهل الدركات وقال عكرمة والضحاك والنخعي وقتادة في رواية المراد بذلك رده إلى الهرم وضعف القوى الظاهرة والباطنة أي ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله وابيض شعره بعد سواده وتشنن جلده وكان بضا وكل سمعه وبصره وكانا حديدين وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوته ضعف وشهامته خرف والآية على هذا نظير قوله تعالى ثم يرد إلى أرذل العمر وقوله سبحانه ومن نعمره ننكسه في الخلق وهو باعتبار الجنس فلا يلزم أن يكون كل الإنسان كذلك وفي إعراب أسفل قيل الأوجه السابقة منه غير خفي ثم المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها وإرادة ما ذكر لا يلائمه ومن هنا قيل إنه خلاف الظاهر والظاهر ما لاءم ذلك كما هو المروي عن الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة أيضا وقرأ عبد الله السالفين مقرونا بأل وقوله تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما تقدم استثناء متصل من ضمير رددناه العائد على الإنسان فإنه في معنى الجمع فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ولا تقبح صورهم بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم وحسنا إلى حسنهم وقوله تعالى فلهم أجر غير ممنون أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم مقرر لما يفيده الأستثناء من خروجهم عن حكم الرد ومبين لكيفية حالهم وعلى الأخير الأستثناء منقطع والموصول مبتدأ وجملة لهم أجر خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والكلام على معنى الأستدراك كأنه قيل لكن الذين آمنوا لهم أجر الخ وهو لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره فلا يرد أنه كيف يكون منقطعا والمؤمنون داخلون في المردودين إلى أرذل العمر غير مخالفين لغيرهم في الحكم وقال بعض المحققين الأنقطاع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الأتصال والأنقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج وادلخول فلا تغفل وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمي كأنه قيل لكن الذين كانوا صالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما بتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن النهوض لاداء وظائفهم من العبادة أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيماوفي رواية عنه ثم قرأ صلى الله تعالى عليه وسلم فلهم أجر غير ممنون أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما أبتليه فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب عز و جل إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته ومن الناس من حملهم على قراء القرآن وجعل الأستثناء متصلا مخرجا لهم عن حكم الرد إلى أرذل العمر بناء على ما أخرج الحاكم (30/176)
وصححه والبيهقي في الشعب عن الحبر قال من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله تعالى ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا قال إلا الذين قرؤا القرآن وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وفيه أنه لا ينزل تلك المنزلة يعني الهرم كي لا يعلم من بعد علم شيئا أحد من قراء القرآن ولا يخفى أن تخصيص الذين آمنوا بما خصص به خلاف الظاهر وفي كون أحد من القراء لا يرد إلى أرذل العمر توقف فليتتبع والخطاب في قوله تعالى فما يكذبك بعد بالدين عند الجمهور للإنسان على طريقة الألتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت والفاء لتفريع التوبيخ عن البيان السابق والباء للسببية والمراد بالدين الجزاء بعد البعث أي فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء وإنكاره بعد هذا الدليل والمعنى إن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه على وجه يبهر الأذهان ويضيق عنه نطاق البيان أو هذا مع تحويله من حال إلى حال من أوضح الدلائل على قدرة الله عز و جل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك أيها الإنسان بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيبه فإن كل مكذب بالحق فهو كاذب وقال قتادة والأخفش والفراء الخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك بالجزاء بعد ظهور دليله وهو من باب الألهاب والتعريض بالمكذبين أي أنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالجزاء لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله تعالى ولا يرفعون بها رأسا فالأستفهام لنفي التكذيب وإفادة أنه عليه الصلاة و السلام لاستمرار الدلائل وتعاضدها مستمر على ما هو على عدم التكذيب وفيه من اللطف ما ليس في الأول وجوز على هذا الوجه كون الباء بمعنى في وكونها السببية وتقدير مضاف عليهما والمعنى أي شيء ينسبك إلى الكذب في إخبارك بالجزاء أو بسبب إخبارك به بعد هذا الدليل وكونها صلة التكذيب والدين بمعناه والمعنى أي شيء يجعلك مكذبا بدين الإسلام وروي هذا عن مجاهد وقتادة والأستفهام على ما سمعت وجوز كون الدين بمعناه على الوجه الأول أيضا وبعض من ذهب إلى كون الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم جعل ما بمعنى من لأن المعنى عليه أظهر وضعف بأنه خلاف المعروف في ما فلا ينبغي ارتكابه مع صحة بقائها على المعروف فيها أليس الله بأحكم الحاكمين أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه سبحانه أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء والجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد للكفار وأنه عز و جل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب وأيا ما كان فالأستفهام على ما قيل تقرير بما بعد النفي ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى قوله تعالى أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أتى على هذه الآية سبحانك فبلى وقد تقدم ما يتعلق بهذا في تفسير سورة لا أقسم بيوم القيامة فتذكر
سورة العلق
وتسمى سورة اقرأ لا خلاف في مكيتها وإنما الخلاف في عدد آيها ففي الحجازي عشرون آية وفي العراقي تسع عشرة وفي الشامي ثماني عشرة وفي أنها أول نازل أولا فذهب كثير إلى أنها أول نازل فقد أخرج الطبراني في الكبير بسنده على شرط الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال كان أبو موسى الأشعر يقرئنا فيجلسنا حقا عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقرأ باسم (30/177)
ربك قال هذه أول سورة أنزلت على محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة نحوه وأخرج غير واحد عن مجاهد قال أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم ن والقلم وروي الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أولا قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أحدثكم بما حدثنا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فساق الحديث مستدلا به على ما ادعاه وأجاب عنه الأولون بعدة أجوبة مر ذكرها وقيل الفاتحة واحتج له بحديث مرسل رجاله ثقات أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمر عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وأجيب عنه بأن ما فيه يحتمل أن يكون خبرا عما نزل بعد اقرأ ويا أيها المدثر مع أن غيره أقوى منه رواية وجزم جابر بن زيد بأن أول ما نزل اقرأ ثم ن ثم يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر ثم الفاتحة وقيل أول ما نزل صدرها إلى ما لم يعلم في غار حراء ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى وهو ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وعبد بن حميد وعبد الرزاق وغيرهم من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدء الوحي وفيه فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فرجع بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترجف بوادره إلى أن قالت ثم لم ينشب ورفة أن توفي وفتر الوحي وفي آخرها ما رووا قال بن شهاب وأخبرني أبو سلمة عن جابر ابن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فمحى الوحي وتتابع ويعلم منه ضعف الأستدلال على كون سورة المدثر أول نازل من القرآن على الإطلاق بما روي أولا عن جابر كما لا يخفى على الواقف عليه وقد ذكرناه صدر الكلام في سورة المدثر لقوله فيه وهو يحدث عن فترة الوحي وقوله فإذا الملك الذي جاءني بحراء وقوله فمحي الوحي وتتابع أي بعد فترته وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي اختاره إن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما أنزل من القرآن على الإطلاق كيف وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت ما أنا بقاريء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد الخ والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك إنما يتصور أولا وإلا لكان الأمتناع من أشد المعاصي ويطابقه ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء الله تعالى وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي شرح صحيح مسلم الصواب أن أول ما نزل اقرأ أي مطلقا وأول ما نزل بعد فترة الوحي يا أيها المدثر وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله والله تعالى أعلم ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بين عز و جل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية وهذا كالبيان للعلة المادية وذكر سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عز و جل هناك فقال سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم
إقرأ أي ما يوحى إليك من القرآن مقدر بقرينة المقام كما قيل وليس الفعل منزلا منزلة اللازم ولا أن مفعوله قوله تعالى باسم ربك على أن الباء زائدة كما قال (30/178)
أبو عبيدة وزعم أن المعنى اذكر ربك بل هي أصلية ومعناها الملابسة وهي متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا كما روي عن قتادة والمعنى اقرأ مبتدئا أو مفتتحا باسم ربك أي قل بسم الله ثم إقرأ وهو ظاهر في أنه لو افتتح بغير اسمه عز و جل لم يكن ممتثلا واستدل بذلك على أن البسملة جزء من كل سورة وفيه بحث وكذا الأستدلال به على أنها ليست من القرآن للمقابلة إذ لقائل أن يقول أنها تخصص القرآن المقدر مفعولا بغيرها وبعضهم استدل على أنها ليست بقرآن في أوائل السور بأنها لم تذكر فيما صح من أخبار بدء الوحي الحاكية لكيفية نزول هذه الآيات كذا أفاده النووي عليه الرحمة ثم قال وجواب المثبتين أنها لم تنزل أولا بل نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة كذلك وهذا خلاف ما أخرج الواحدي عن عكرمة والحسن أنهما قالا أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم وأول سورة إقرأ وكذا خلاف ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال أول ما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يا محمد استعذ ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم وقد عد القول بأنها أول ما نزل أحد الأقوال في تعيين أول منزل من القرآن وقال الجلال السيوطي أن هذا القول لا يعد عندي قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق وفيه منع ظاهر كما لا يخفى وجوز كون الباء للأستعانة متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا ورجحت الملابسة بسلامتها عن إيهام كون اسمه تعالى آلة لغيره وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول الكتاب ثم أنه ليس في الأمر المذكور تكليف بما لا يطاق سواء دل الأمر على الفور أم لا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم أن ما أوحي قرآن فهو المكلف بقراءته عليه الصلاة و السلام ولا محذور في كون اقرأ الخ مأمورا بقراءته لصدق المأمور بقراءته عليه وهذا كما تقول لشخص اسمع ما أقول لك فإنه مأمور بسماع هذا اللفظ أيضا وقد ذكر جمع من الأصوليين أن هذا بيان للمأمور به في قول جبريل عليه السلام اقرأ المذكور في حديث بدء الوحي المتفق عليه قال الآمدي عند ذكر أدلة جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الذي ذهب إليه جماعة من الحنفية وغيرهم ومن الأدلة ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقرأ قال وما أقرأ كرر عليه ثلاث مرات ثم قال له إقرأ باسم ربك الذي خلق بيان ما أمره به أولا مع إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل عليه السلام وسؤال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع إمكان بيانه أولا وذلك دليل جواز التأخير إلى آخر ما قال سؤالا وجوابا لا يتعلق بهما غرضنا ولا يخفى أن كون هذا بيانا للمراد على الوجه الذي ذكرناه ظاهر وكونه كذلك بجعل اقرأ باسم ربك إلى آخر ما نزل أو بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ الخ ما ادعاه الجلال معمولا لاقرأ المكرر في كلام جبريل عليه السلام مما لا أظن أصوليا يقول به ومثله كونه كذلك بحمل الآية على ما سمعت عن أبي عبيدة وأما بناء الأستدلال على ما في بعض الآثار من أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحراء بنمط من ديباج مكتوب فيه اقرأ باسم ربك إلى ما لم يعلم فقال له اقرأ فقال عليه الصلاة و السلام ما أنا بقاريء قال إقرأ باسم ربك بأن يكون إقرأ الخ بيانا وتلاوة من جبريل عليه السلام لما في النمط المنزل لعدم العلم بما فيه وإن كان مشاهدا منزلة المجمل الغير المعلوم فلا يخفى حاله فتأمل ثم أن في كلام الآمدي من حيث رواية الخبر ما فيه فلا تغفل والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه الصلاة و السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإنزال الوحي المتواتر ووصف الرب بقوله تعالى الذي خلق لتذكيره عليه الصلاة و السلام أول النعماء الفائضة عليه صلى الله تعالى (30/179)
عليه وسلم منه سبحانه مع ما في ذلك من التنبيه على قدرته تعالى على تعليم القراءة بالطف وجه وقيل لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرب فإن العرب كانت تسمي الأصنام أربابا لكنهم لا ينسبون الخلق إليها والفعل إما منزل منزلة اللازم أي الذي له الخلق أو مقدر مفعوله عاما أي الذي خلق كل شيء والأول يفيد العموم أيضا فعلى الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذكر في قوله تعالى خلق الإنسان إنه أشرف المخلوقات وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه أدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أن التنزيل إليه ويجوز أن يراد خلق الإنسان إلا أنه لم يذكر أولا وذكر ثانيا قصدا لتفخيمه بالإبهام ثم التفسير وعن الزمخشري أن المناسب أن يراد خلق الإنسان بعد الأمر بقراءة القرآن تنبيها على أنه تعالى خلقه للقراءة والدراية كما أن ذكر خلق الإنسان عقيب تعليم القرآن أول سورة الرحمن لنحو ذلك وقوله تعالى من علق أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين وأتى به دالا على الجمع لأن الإنسان مراد به الجنس فهو في معنى الجمع فأتى بما خلق منه كذلك ليطابقه مع ما في ذلك من رعاية الفواصل ولعله على ما قيل السر في تخصيص هذا الطور من بين سائر أطواره الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والترب أدل على كمال القدرة لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية وفي البحر لم يذكر سبحانه مادة الأصل يعني آدم عليه السلام وهو التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن متقررا عند الكفار فذكر مادة الفرع وخلقه منها وترك مادة أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال وقيل خص هذا الطور تذكيرا له عليه الصلاة و السلام لما وقع من شرح الصدر قبل النبوة وإخراج العلق منه ليتهيأ تهيئا تاما لما يكون له بعد فكأنه قيل الذي خلق الإنسان من جنس ما أخرجه من صدرك الشريف ليهيئك بذلك لمثل ما يلقى إليك الآن وبهذا تقوى مناسبة هذه السورة لسورة الشرح قبلها أتم مناسبة لا سيما على تفسير الشرح بالشق فتدبره ومن الناس من زعم أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وإن المعنى خلق آدم من طبق يعلق باليد وهو مما لا تعلق به يد القبول ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى وأقدم الدلائل الدالة على وجوده عز و جل وكمال قدرته وعلمه وحكمته سبحانه وصف ذاته تعالى بذلك أولا ليستشهد عليه الصلاة و السلام به على تمكينه تعالى له القراءة ثم كرر جل وعلا الأمر بقوله تعالى اقرأ أي افعل ما أمرت به تأكيدا للأيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى وربك الأكرم الخ فإنه كلام مستأنف وأراد لإزاحة ما بينه صلى الله تعالى عليه وسلم من العذر بقوله عليه الصلاة و السلام لجبريل عليه السلام حين قال له اقرأ ما أنا بقاريء يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل وربك الذي أمرك بالقراءة مفتتحا ومبتدأ باسمه الأكرم الذي علم بالقلم أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره تعالى فكما علم سبحانه القاريء بواسطة الكتابة بالقلم يعلمك بدونها وحقيقة الكرم إعطاء ما ينبغي لا لغرض فهو صفة لا يشاركه تعالى في إطلاقها أحد فافعل للمبالغة وجوز أن لا يكون اقرأ هذا تأكيدا للأول وإنما ذكر ليوصل به ما يزيح العذر فجملة وربك الخ في موضع الحال من الضمير المستتر فيه وقوله تعالى علم الإنسان ما لم يعلم بدل اشتمال من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية ما لم يخطر بباله وفي حذف المفعول أولا وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكمال كرمه عز و جل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة و السلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى قاله في الإرشاد وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم متعلقا به وأيد بقراءة (30/180)
ابن الزبير الذي علم الخط بالقلم حيث صرح فيها بذلك وقال ولجبائي أن اقرأ الأول أمر بالقراءة لنفسه وقيل مطلقا والثاني أمر بالقراءة للتبليغ وقيل في الصلاة المشار إليها فيما بعد وجملة وربك الخ تحتمل الحالية والأستثنافية وحاصل المعنى على إرادة القراءة للتبليغ في قول بلغ قومك وربك الأكرم الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه ويقويك على حفظ القرآن لتبليغه وأولى الأوجه وأظهرها التأكيد وأبعد بعضهم جدا فزعم أن بسم في البسملة متعلق باقرأ وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني ليفيد التقديم اختصاص اسم الله تعالى بالإبتداء وجوز أيضا أن يبقى باسم الله على ما هو المشهور فيه وإقرأ أمر بأحدث القراءة وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني لذلك ولا يخفى أن الظاهر تعلق باسم ربك بما عنده وتقديم الفعل ههنا أوقع لأن السورة المذكورة على ما سبق من التصحيح أول سورة نزلت فالقراءة فيها أهم نظرا للمقام وقيل أنه لو سلم كون غيرها نازلا قبلها لا يضر في حسن تقديم الفعل لأن المعنى كما سمعت عن قتادة اقرأ مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله ثم اقرأ فلو افتتح بغير البسملة لم يكن ممتثلا فضلا عن أن يفتتح بما يضادها من أسماء الأصنام ولو قدم أفاد معنى آخر وهو أن ألمطلوب عند القراءة أن يكون الأفتتاح باسم الله تعالى لا باسم الأصنام ولا تكون القراءة في نفسها مطلوبة لما علم أن مقتضى التقديم أن يكون أصل الفعل مسلما على ما هو عليه من زمان طلبا كان أو خبرا وأجاب من علق الجار بالثاني بأن مطلوبية القراءة في نفسها استفيدت من اقرأ الأول فلا تغفل والظاهر أن المعلم غير معين وقيل هو كل نبي كتب وقال الضحاك هو إدويس عليه السلام وهو أول من خط وقال كعب هو آدم عليه السلام وهو أول من كتب وقد نسبوا لآدم وأدريس عليهما السلام نقوشا مخصوصة في كتابة حروف الهجاء والذي يغلب على الظن عدم صحة ذلك وقد أدمج سبحانه وتعالى التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به وقد قيل فيه لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
وأرى الجني اشتارته أيد عواسل ومما نسبه الزمخشري في ذلك لبعضهم وعنى على ما قيل نفسه ورواقم رقش كمثل أراقم
قطف الخطى نيالة أقصى المدى سود القوائم ما يجد مسيرها
إلا إذا لعبت بها بيض المدى ولهم في هذا الباب كلام فصل يضيق عنه الكتاب وظاهر الآثار أن الكتابة في الأمم غير العرب قديمة وفيهم حادثة لا سيما في أهل الحجاز وذكر غير واحد أن الكتابة نقلت إليهم من أهل الحيرة وأنهم أخذوا من أهل الأنبار وذكر الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل للخط العربي من العراق إلى الحجاز حرب ابن أمية وكان قد قدم الحيرة فعاد إلى مكة به وأنه قيل لابنه أبي سفيان ممن أخذ أبوك هذا الخط فقال من أسلم بن أسدرة وقال سألت أسلم ممن أخذت هذا الخط فقال من واضعه مرامر بن مرة كان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكان لها شأن عندهم فلا يتعاطاها إلا من إذن له تعلمها وأصناف الكتابة كثيرة وزعم بعضهم أن جل كتابات الأمم اثنا عشر صنفا العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية ولعل هذا أن صح باعتبار الأصول وإلا فالفروع توشك أن لا يحصيها قلم كما لا يخفى والله تعالى أعلم ولم ير بعض العلماء من الأدب وصف غيره تعالى كما يفعله كثير من الناس في رسائلهم فيكتبون إلى فلان الأكرم ومع هذا يعدونه وصفا نازلا ويستهجنونه بالنسبة للملوك ونحوهم من الأكابر وقد يصفون (30/181)
به اليهودي والنصراني ونحوهما مع أنه تعالى يقول وربك الأكرم فعلى العبد أن يراعي الأدب مع مولاه شاكرا كرمه الذي أولاه كلا ردع لمن كفر من جنس الإنسان بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وذلك لأن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل كلا كان ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم الحلائل بالكفران الطغيان وكذلك التعليل بقوله تعالى لإن الإنسان ليطغى أي ليتجاوز والحد في المعصية واتباع هوى النفس ويستكبر على ربه عز و جل وقال الكلبي أي ليرتفع عن منزلة إلى منزله في اللباس والطعام وغيرهما وليس بذاك وقدر بعضهم بعد قوله تعالى ما لم يعلم ليشكر تلك النعم الجليلة فطغى وكفر كلا وقيل كلا بمعنى حقا لعدم ما يتوجه إليه الردع والزجر ظاهرا فقوله سبحانه إن الإنسان الخ بيان لما أريد إحقاقه وهذا إلى آخر السورة قيل نزل في أبي جهل بعد زمان من نزول الآيات السابقة وهو الظاهر ومع نزوله في ذلك اللعين المراد بالإنسان الجنس وقوله سبحانه إن رآه استغنى مفعول من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن جملة استغنى مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب وفقد وعدم وذهب جماعة إلى أن رأي البصرية قد تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان وأنشدوا ولقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة وأمامي فإذا جعلت رأي هنا بصرية فالجملة في موضع الحال وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الأستغناء كما ينبيء عنه قوله تعالى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض للإذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير رؤية وتأمل في حقيقته على الثاني وعلى الوجهين المراد بالأستغناء الغني بالمال أعني مقابل الفقر المعروف وقيل المراد أن رأي نفسه مستغنيا عن ربه سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر ويبعده ظاهر ما روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبريل عليه السلام فقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم وقرأ قنبل بخلاف عنه أن رأه بحذف الألف التي بعد الهمزة وهي لام الفعل وروي ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال أن ذلك حذف لا يجوز وفي البحر ينبغي وفي البحر ينبغي أن لا يغلظه بل يتطلب له وجها وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال
وصاني العجاج فيمن وصني
يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لو تر أهل مكة وهو حذف لا ينقاس لكن إذا أصحت الرواية وجب القبول فالقرآت جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها وقوله تعالى إن إلى ربك الرجعى تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان والخطاب قيل للإنسان والألتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد ولمخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد أيضا تهديد الطاغي وتحذيره ولعله الأظهر نظرا إلى الخطابات قبله والرجعي مصدر بمعنى الرجوع كالبشري والألف فيها للتأنيث وتقديم الجار والمجرور عليه للقصر أي إن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا فترى حينئذ عاقبة الطغيان وفي هذه الآيات على ما قيل إدماج التنبيه على مذمة المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم وكفى ذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال وقوله تعالى (30/182)
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها ولم يختلف المفسرون كما قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والناهي هو اللعين أبو جهل فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه فأتى رسول الله عليه الصلاة و السلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا وأنزل الله تعالى كلا إن الإنسان إلى آخر السورة وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان بالمدينة بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة مكية نعم حكم الآية عام فإن كان ما حكى عن أمية واقعا فحكمها شامل له والصلاة التي أشارت إليها الآية كانت على ما حكى أبو حيان صلاة الظهر وحكى أيضا أنها كانت تصلي جماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام وإنه كان معه عليه الصلاة و السلام أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما فمر أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال له يا بني صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورا وأنشأ يقول إن عليا وجعفرا ثقتي
عند ملم الزمال والكرب والله لا أخذل النبي ولا
يخذله من يكون من حسبي لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم وأبي وفي هذا نظر لأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بلا خلاف وادعى ابن حزم الإجماع على أنه كان قبل الهجرة بسنة وجزم ابن فارس بأنه كان قبلها بسنة وثلاثة أشهر وقال السدي بسنة وخمسة أشهر وموت أبي طالب كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين لأنه كان قبل وفاة خديجة بثلاثة وقيل بخمسة أيام وكانت وفاتها بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فأبو طالب على هذا لم يدرك فريضة الصلاة نعم حكى القاضي عياض عن الزهري ورجحه النووي والقرطبي أن الإسراء كان بعد البعث بخمس سنين لكن قيل عليه ما قيل فليراجع والنهي قيل بمعنى المنع وعبر به إشارة إلى عدم اقتدار اللعين على ذلك وفي بعض الأخبار ما ظاهره أنه حصل منه نهي لفظي فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا ألم أنهك عن هذا الحديث والتعبير بما يفيد الأستقبال لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة والرؤية قيل قلبية وكذا في قوله تعالى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز و جل أرأيت إن كذب وتولى والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه والمفعول الثاني للثالث قوله سبحانه ألم يعلم بأن الله يرى والأولان متوجهان إليه أيضا وهو مقدر عندهما وترك إظهاره اختصارا ونظير ذلك أخبرني عن زيدان وفدت عليه أخبرني عنه أن استخبرته أخبرني عنه أن توسلت إليه أما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في غير التنازع وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة ألم يعلم عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة وقيل يدل عليه أرأيت مرادا به ما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك والكلام عليه أيضا نظير ما مر آنفا والضمائر المستترة في كان وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من أرأيت أخبرني (30/183)
فإن الرؤية لما كانت سببا للعلم أجرى الأستفهام عنها مجرى الأستخبار عن متعلقها والأستفهام الواقع موقع المفعول الثاني هو متعلق الأستخبار هنا وهذا الأجراء على ما يفهم من كلام بعض الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه قولان والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون مخاطبا ممن له مسكة وقيل للإنسان كالخطاب في إلى ربك وتنوين عبدا على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير وتقييد النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل بين الجمل للأعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولا بنهيه عن الصلاة وأوعد عليه مطلقا بقوله تعالى أرأيت الذي الخ أي أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع فيجازيه على ذلك النهي وشنع سبحانه عليه ثانيا بنهيه عن ذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه على زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر بواسطته بالتقوى لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له فقال تعالى شأنه أرأيت إن كان الخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه أن كان على هدى ورشد في نفس النهي أو كان أمرا بواسطته بالتقوى كما يزعم وشنع جل شأنه عليه ثالثا بذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه في نفس الأمر وفيما يقوله تعالى مكذبا بحقية الصلاة متوليا عنها معرضا عن فعلها بقوله تعالى أرأيت إن كذب الخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقول نحن والحاصل أنه تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي الزعمي أو الحقيقي ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله الزعمي ثم شنع عز و جل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي وهذا كالترقي في التشنيع والجمهور على عدم تقييد ما في حيز الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا إن كان على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم وأكان مكذبا للحق ومتوليا عن الصواب كما نقول وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول لأن معنى الأول إنه ليس على الهدى وأوضح بأن إدخال حرف الشرط في الأول لآرحاء العنان صورة والتهكم حقيقة إذ لا يكون في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة وفي الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول إذ لا شك أنه مكذب متول فما لهما إلى واحد وقيل إن الرؤية في الجملة الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان وفي الثانية والثالثة قلبية والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده الجملة الشرطية بجوابها وهو في الأخيرة ألم يعلم الخ المذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه ولم تعطف الأخيرة على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب وأما قبلها فأمر الشرط فيه ليس إلا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب والإحالة به على جواب الشرطية بعده والخطاب في الكل لمن يصلح له والتنوين في عبدا لتفخيمه عليه الصلاة و السلام واستعظام النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى أخبرني عن ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى الخ ما ذكر آنفا ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل وقيل أن أرأيت في الجمل الثلاث من الرؤية القلبية والمفعول الأول للأولى الموصول ومفعولها الثاني الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاء عنه بجواب الشرطية الثانية إذ علم من ضرورة التقابل وأرأيت الثانية تكرارا للأولى وأرأيت الثالثة ومفعولها الأول محذوف للقرينة مستقلة لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين يعني قوله تعالى إن كان الخ وقوله سبحانه (30/184)
إن كذب الخ وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام المبكت وتنبيه على حقية الشرط ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيدا والخطاب على ما تقدم أولا والكلام من قبيل الكلام المنصف وإرخاء العنان ولذا قيل عبدا ولم يقل نبيا مجتبى فكأنه قيل أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد الله تعالى فضلا عن النبي المجتبي عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به عبادة الأصنام كما يزعم وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول ألم يعلم الخ وقيل أرأيت في الجملتين الثانية والثالثة تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني للأولى وألم يعلم الخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول محذوف لدلالته عليه ولم يقل أو إن كذب الخ لأنه ليس بقسيم لما قبله على ما قيل والمعنى على نحو ما سمعت وأورد على جميع هذه الأقوال إن في تجويز الإتيان بالأستفهام في جزاء الشرط من غير الفاء وإن صرح به الزخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له بقوله تعالى قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون بحثا لأن ظاهر نقل الزخشري نفسه في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية والإستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في الكشف من الإنشاء وقال أبو حيان إن وقوع جملة الإستفهام جوابا للشرط بغير فاء لا أعلم أحد أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة أو شعر وقال الدماميني في شرح التسهيل إن جعل هل يهلك جزاء مشكل لعدم اقترانه بالفاء والأقتران بها في مثل ذلك واجب واعترض أيضا جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني لا رأيت بأن مفعولها الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما نص عليه أبو حيان وجماعة أو قسمية كما في الإرشاد وقال الخفاجي إن جعل الشرطية في موضع المفعول والجملة الإستفهامية في موقع جواب الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن المفعول الثاني لا رأيت لا يكون إلا جملة استفهامية مخالف لما صرحوا بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب واستظهر في البحر جعله للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز غيره جعله للكافر والمراد تصوير الحال بعنوان كلي وهو كما ترى وقيل الضميران في أن كان وأمر للعبد المصلي والضمائر في كذب وتولي ويعلم للذي ينهى وحاصل المعنى على ما قال الفراء أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي والمنهي على الهدى وآمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا والظاهر أن جواب الشرط عليه محذوف وهو فما أعجب من ذا بقرينة أرأيت فإنه يفيد التعجب والرؤية فيه قيل علمية والمفعول الثاني محذوف نحو هذا الجواب وقيل بصرية وألم يعلم الخ جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وتأكيده وأو تقسيمية بمعنى الواو وقيل الخطاب في أرأيت الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو عز و جل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى وكأنه سبحانه قال يا كافر أخبرني إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمر بالتقوى وأخبرني أتنهاه وأخبرني أيها الرسول إن كان الناهي مكذبا بالحق متوليا عن الدين الصحيح ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه وسكت هذا القائل عن الخطاب في أرأيت الأول فقيل لكل من يصلح له وقيل للأنسان وقيل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالخطاب في الثالث وقوله انتهاه يحتمل أنه جعله مفعولا لرأيت ويحتمل أنه جواب الشرط أو كما في سابقه ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن (30/185)
النهي على ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في الجملة الأولى أيضا بأن يقال أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أو أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية واقتصر على ذكر الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية والصلاة دعوة فعلية والفعل أقوى من القول وإنما كانت دعوة وأمرا لأن المقتدي به إذا فعل فعلا كان في قوة قوله افعلوا هذا وقيل المذكور أولا ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو محتمل أن يكون لها أو لغيرها وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت في تكميل أنفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معا فلذا ذكر في الجملة الثانية انتهى فلا تغفل وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة و السلام وقال في بيان معنى أرأيت إن كان الخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة فلو اختار الرأي الصائب والأهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه عز و جل كأنه تعالى يقول تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع بالمراتب الردية واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخا على تفويت ما ينفع وما بعدها توبيخا على كسب ما يضر فقال إن قوله تعالى أرأيت الذي الخ استشهاد لطغيان الإنسان إن رآه مستغنيا والرؤية بمعنى لأبصار أي أشاهدت الذي ينهى عبدا إذا صلى وعرفت طغيان الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران وقوله سبحانه أرأيت إن كان الخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه بفوت الهدى والأمر بالتقوى يعني أعلمت أنه على أي فوزان كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز و جل أرأيت إن كذب الخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب الأرباب أي أعلمت أنه على عقوبة ومؤاخذة وقوله تعالى ألم يعلم الخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال الشقي وفوت حال السعيد انتهى وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم والله تعالى بمراده أعلم ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار المغضوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن وأشد الأحتياط تحاشي بعضهم عن النهي مطلقا فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى أقواما المكروهة لأن المنهي مطلقا فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد فقال ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك فقيل له رضي الله تعالى عنه ألا تنهاهم فقال رضي الله تعالى عنه أخشى أن أدخل تحت وعيد قوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وفي رواية لا أحب أن أنهى عبدا إذا صلى ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا يوسف قال له أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي فقال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ويقاس على النهي عن الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة ولا فرق بين النهي القالي والنهي الحالي ومنه أن يشغل المرء عن ذلك وقد ابتلي به كثير من الناس كلا ردع للناهي اللعين وزجر له واللام في قوله تعالى لئن لم ينته موطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر لنسفعا بالناصية أي لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار يوم القيامة والسفع قال المبرد الجذب بشدة وسفع بناصية فرسه جذب قال عمرو بن معد يكرب قوم إذ كثر الصياح رأيتهم
ما بين ملجم مهره أو سافع (30/186)
وقال مؤرج السفع الأخذ بلغة قريش والناصية شعر الجبهة وتطلق على مكان الشعر وأل فيها للعهد واكتفى بها عن الإضافة وهو معنى كونها عوضا عن المضاف إليه في مثله والكلام كناية عن سحبه إلى النار وقول أبي حيان أنه عبر بالناصية عن جميع الشخص لا يخفى ما فيه وقيل المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر وفيه بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إن لم ينته وقد فعل عز و جل فقد روي أنه لما نزلت سورة الرحمن قال صلى الله تعالى عليه وسلم من يقرؤها على رؤساء قريش فقام ابن مسعود وقال أنا يا رسول الله فلم يأذن له عليه الصلاة و السلام لضعفه وصغر وصغر جثته حتى قالها ثلاثا وفي كل مرة كان ابن مسعود يقول أنا يا رسول الله فأذن له صلى الله تعالى عليه وسلم فأتاهم وهم مجتمعون حول الكعبة فشرع في القراءة فقام أبو جهل فلطمه وشق أذنه وأماه فرجع وعيناه تدمعان فنزل جبريل عليه السلام ضاحكا فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك فقال عليه السلام ستعلم فلما كان يوم بدر قال عليه الصلاة و السلام التمسوا أبا جهل في القتلى فرآه ابن مسعود مصروعا يخور فارتقى على صدره ففتح عينه فعرفه فقال لقد ارتقيت مرتقي صعبا يا رويعي الغنم فقال ابن مسعود الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فعالج قطع رأسه فقال اللعين دونك فاقطعه بسيفي فقطعه ولم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل فيها خيطا وجعل يجره حتى جاء به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام يضحك ويقول يا رسول الله أذن بأذن والرأس زيادة وكأن تخصيص الناصية بالذكر لأن اللعين كان شديد الأهتمام بترجيلها وتطييبها أو لأن السفع بها غاية الأذلال عند العرب إذ لا يكون إلا مع مزيد التمكن والإستيلاء ولأن عادتهم ذلك في البهائم وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو لنسفعن بالنون الشديدة وقرأ ابن مسعود لأسفعن كذلك مع إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم وحده وكتبت النون الخفيفة في قراءة الجمهور ألفا اعتبارا بحال الوقف فإنه يوقف عليها بالألف تشبيها لها بالتنوين وقاعدة الكتابة مبنية على حال الوقف والأبتداء ومن ذلك قوله
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
وقوله
يحسبه الجاهل ما لم يعلما
وقوله تعالى ناصية بدل من الناصية وجاز إبدالها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت بقوله سبحانه كاذبة خاطئة فاستقلت بالإفادة وقد ذكر البصريون أنه يشترط لأبدال النكرة من المعرفة الإفادة لا غير ومذهب الكوفيين أنها تبدل منها بشرطين اتحاد اللفظ ووصف النكرة وليشمل بظاهره كل ناصية هذه صفتها وهذا مما يتأتى على سائر المذاهب ووصف الناصية بما ذكر مع أنه صفة صاحبها للمبالغة حيث يدل على وصفه بالكذب والخطأ بطريق الأولى ويفيد أنه لشدة كذبه وخطئه كأن كل جزء من أجزائه يكذب ويخطأ وهو كقوله تعالى تصف ألسنتهم الكذب وقولهم وجهها يصف الجمال فالإسناد مجازي من إسناد ما للكل إلى الجزء وقرأ أبو حيوة وابن عبلة وزيد بن علي ناصية كاذبة خاطئة ينصب الثلاثة على الشتم والكسائي في رواية برفعها أي هي ناصية الخ فليدع ناديه النادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون للحديث ويجمع على أندية والكلام على تقدير المضاف أي فليدع أهل ناديه أو الإسناد فيه مجازي أو أطلق اسم المحل على من حل فيه ومثله في هذا المجلس ونحوه كما قال جرير أو ذو الرمة لهم مجلس صهب السبال أذلة
سواسية أحرارها وعبيدها وقال زهير وفيهم مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل وهذا إشارة إلى ما صح من أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فقال ألم أنهك فأغلظ عليه الصلاة و السلام له فقال أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا والأمر على ما في البحر للتعجيز والإشارة إلى أنه لا يقدر (30/187)
على شيء سندع الزبانية أي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط أي أعوان الولاة واختلف فيه فقيل جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وقال أبو عبيدة زبنية بكسر فسكون كعفرية وقال الكسائي واحده زبني بالكسر كأنه نسب إلى الزبن بالفتح وهو الدفع ثم غير للنسب وكسر أوله كأنسي وأصل الجمع زباني فقيل زبانية بحذف إحدى ياءيه وتعويض التاء عنها وقال عيسى بن عمر والأخفش واحده وابن والعرب قد تطلق هذا الأسم على من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان الولاة ومنه قوله مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى
زبانية غلب عظام حلومها وسمي ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إلى النار وهذا الدعاء في الدنيا بناء على ما روي من أنه لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا والظاهر أن سندع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم ورسم في المصاحف بدون واو لأتباع الرسم للفظ فإنها محذوفة فيه عن الوصل لالتقاء الساكنين أو لمشاكلة فليدع وقيل أنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر وقرأ ابن أبي عبلة سيدعي الزبانية بالبناء للمفعول ورفع الزبانية كلا ردع لذلك اللعين بعد ردع وزجر له أثر زجر لا تطعه أي دم على ما أنت عليه من معاصاته واسجد وواظب غير مكترث به على سجودك وهو على ظاهره أو مجاز عن الصلاة واقترب وتقرب بذلك إلى ربك وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وفي الصحيح وغيره أيضا من حديث ثوبان مرفوعا عليك بكثرة السجود فإنه لا تسجد لله تعالى سجدة إلا رفعك الله تعالى بها درجة وحط عنك بها خطيئة ولهذه الأخبار ونحوها ذهب غير واحد إلى أن السجود أفضل أركان الصلاة ومن الغريب أن العز بن عبد السلام من أجلة أئمة الشافعية قال بوجوب الدعاء فيه وفي البحر ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة و السلام سجد في إذا السماء انشقت وفي هذه السورة وهي من العزائم عند علي كرم الله تعالى وجهه وكان مالك يسجد فيها في خاصة نفسه والله تعالى الموفق
سورة القدر
قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر وحكى الماوردي عكسه وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال الجلال في الإتقان فيها قولان والأكثر على أنها مكية ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر ونزلت أنا أنزلناه في ليلة القدر الحديث وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى وقدر أخرج الجلال هذا الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد وذكر فيه أن الترمذي أخرجه وضعفه وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا أنها تعدل ربع القرآن وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها لما (30/188)
قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم وقال الخطابي المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها أنا أنزلناه إلى قوله تعالى ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب في ذاك لأقرأ الخ على ما ستسمعه أن شاء الله تعالى أراد أنه للمقروء من قرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أنزلناه في ليلة القدر الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الأمام فيه اجماع المفسرين وكأنه لم يعتد يقول من قال منهم برجوعه لجبريل عليه السلام أو غيره لضعفه قالوا وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد فهو في قوة المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين وتأكيد الجملة وأشار الزمخشري إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به سبحانه بناء على أنها من باب أنا سعيد في حاجتك مما تقدم فيه الفاعل المعنوي على الفعل وتعقب بأن ما ذكروه في الضمير المنفصل دون المتصل كما في اسم إن هنا نعم الإختصاص يفهم من سياق الكلام وفيه أنهم لم يصرحوا باشتراط ما ذكر في تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى وما أدراك ما لية القدر لما فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يعلم ذلك ولا يعلم به إلا علام الغيوب كما يشعر به قوله سبحانه ليلة القدر خير من ألف شهر فأنه بيان إجمالي لشأنها أثر تشويقه عليه الصلاة و السلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها وعن سفيان ابن عيينه أن كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أدراك أعلم الله تعالى به نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما فيه من قوله سبحانه وما يدريك لم يعلمه عز و جل به وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي إظهار القدر في الموضعين من تأكيد التعظيم والتفخيم ما لا يخفى والمراد بإنزاله فيها إنزاله كله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فقد صح عن ابن عباس أنه قال أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله تعالى ينزله على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعضه في أثر بعض وفي رواية بدل وكان بمواقع الخ ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة وفي رواية أخرى عنه أيضا أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم وفي أخرى أنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام وكون النزول بعد في عشرين سنة قول لهم وقال بعضهم وهو الأشهر في ثلاث وعشرين وقال آخر في خمس وعشرين وهذا للخلاف في المدة صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة بعد البعث وقال الشعبي المراد ابتدأنا بإنزاله فيها والمشهور أن أول ما نزل من الآيات اقرأ وأنه كان نزولها بحراء نهارا نعم في البحر روي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان فإن صح وكان المراد كان ليلا فذاك وإلا فظاهر كلام الشعبي غير مستقيم اللهم إلا أن يقال أنه أراد ابتداء إنزاله إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك وابتداء إنزاله عليه صلى الله تعالى عليه وسلم في الزمان ثم إن في أنزلناه على ما ذكر تجوزا في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو مجازا الطرف أو تضمينا وقيل إنزاله من اللوح إلى السماء الدنيا مفرقا في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجما في جميع السنة وهذا القول ذكره الإمام احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه والصحيح المعتمد عليه احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه والصحيح المعتمد عليه كما قال (30/189)
ابن حجر في شرح البخاري أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم الإجماع عليه نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل عليه السلام في الليالي المذكورة وأجاب السيد عيسى الصفوي بأنه محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبرا به عن التكلم بقولك أتكلم وفي ذلك اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته التي ألفها في الجواب عن مسئلة الحذر الأصم أو يقال يرجع الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبر عن الجملة بأنا أنزلناه وأن كان من جملته أنا أنزلناه وإن كان من جملته أنا أنزلناه المندرج في جملته من غير نظير له بخصوصه وقد ذكروا أن الجزء من حيث من هو مستقل مغاير له من حيث هو في ضمن الكل وفي الإتقان عن أبي شامة فإن قلت أنا أنزلناه أن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة قلت لها وجهان أحدهما أن يكون المعنى أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضينا به وقدرناه في الأزل والثاني أن لفظ أنزلناه ماض ومعناه على الأستقبال أي تنزله جملة في ليلة القدر انتهى ولم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه الله تعالى شامة حسن فأجل في ذلك نظرا فلعلك ترى وقيل المعنى أنا أنزلناه في فضل ليلة القدر أو في شأنها وحقها فالكلام على تقدير مضاف أو الظرفية مجازية كما في قول عمر رضي الله تعالى عنه خشيت أن ينزل في قرآن وقول عائشة رضي الله تعالى عنها لا أنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن وجعل بعضهم في ذلك للسببية والضمير قيل للقرآن بالمعنى الدائر بين الكل والجزء وقيل بمعنى السورة ولا يأباه كون أنا أنزلناه فيها لما مر آنفا فلا حاجة إلى أن يقال المراد بها ما عدا أنا أنزلناه في ليلة القدر وقيل يجوز أن يراد به المجموع لاشتماله على ذلك وأيا ما كان فحمل الآية على هذا المعنى غير معول عليه وإنما المعول عليه ما تقدم والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة أو إثباته لدى السفرة هناك أو نحو ذلك مما لا يشكل نسبته إلى القرآن واختلفوا في تلك الليلة فقيل أنها لخبر في ذلك وهو كما قال الكرماني غلط لأن آخر الخبز يرده والمراد برفع تعيينها فيه وعن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في تحفة المحتاج وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى شهر رمضان أنزل فيه القرآن يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة في ليلة ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على أنها في شهر رمضان فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه وعن الحسن البصري السابعة عشر لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها وحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا وعن أنس مرفوعا التاسعة وحكى مرفوعا على ابن مسعود أيضا وعن محمد بن إسحاق الحادية العشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن سعيد الخدري أنه عليه الصلاة و السلام قال قد رأيت هذه الليلة يعني ليلة القدر ثم نسيتها وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين قال أبو سعيد فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله وعلى جبهته وأنفه أثر الماء الطين من صبيحة إحدى وعشرين وفي مسلم من صبيحة ثلاث وعشرين ومنه مع ما قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو الثالثة والعشرون وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة القدر فقال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول التمسوها الليلة ليلة ثلاث وعشرين وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة القدر ليلة أربع وعشرين وفي الأتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال كان عمر وحذيفة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التمسوا ليلة القدر (30/190)
في آخر ليلة من رمضان وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ليلة وقيل هي في العشر الأوسط تنتقل فيه قيل في أوتاره وقيل في أشفاعه وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة بن الصامت مرفوعا وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره عن جابر ابن سمرة وعن عبد الله بن جابر كذلك ما يدل على ما ذكر أيضا بل الأخبار الصحيحة الدالة عليه كثيرة وبالجملة الأقوال فيها مختلفة جدا إلا أن الأكثرين على أنها في العشر الأواخر لكثرة الأحاديث الصحيحة في ذلك وأكثرهم على أنها أوتارها لذلك وكثير منهم ذهب إلى أنها الليلة السابعة من تلك الأوتار وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود الترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم أن زر بن حبيش سأل أبي كعب عنها فخلق لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقال له بم تقول ذلك يا أبا المنذر فقال بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك وفي بعضها الأستئناس له بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها أنها عدد تام من كون السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والجمار سبعا والطواف بالبيت سبعا السجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما علمت من الأخبار الصحيحة المتظافرة وهو زمان البدن وفيه يزيد أجر العمل ووقت قوة الأستعداد للتجليات لمزيد التصفية وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضا مع أن الله تعالى وتر يحب الوتر وقال ابن حجر الهيتي أختار جمع أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاما أو أعواما تكون وترا إحدى أو ثلاثا أو غيرهما وعاما أو أعواما شفعا اثنتين أو أربعا أو غيرهما قالوا ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلا بذلك وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى ولا يخفى أن الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقا مما لا يتسنى وإنما يتسنى الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر وقيل في الجمع مطلقا أنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن يكون قد علم صلى الله تعالى عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض ليلة كذا فقال عليه الصلاة و السلام هي ليلة كذا أي في هذا الشهر رمضان المخصوص وعلم عليه الصلاة و السلام أنها في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل فقال صلى الله تعالى عليه وسلم هي ليلة كذا وعلم صلى الله تعالى عليه وسلم أنها في أخر في العشر الأخير منه فقال هي في العشر الأخير أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى وعلى القول بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي الليلة السابعة والعشرون وأن كانت ليلة كذا فهي الليلة الحادية والعشرون إلى آخر ما قال وقد ذكرناه مع نظمه في الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت من إماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح وأخرج نحوا منه ابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا وحمل ذلك أن صح على ليلة قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم إطراده ولا أغلبيته فيما يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها كأن يحيى ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف وللإمام في هذا المقام كلام يجل مثله عن التكلم ولعمري لقدسها فيه سهوا بينا وأتى فيه يوشك أن يدل على جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روي عن ابن عباس وغيره أنه يقدر (30/191)
فيها ويقتضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وأحياء وأمانة إلى السنة القابلة والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية وإلا فتقديره تعالى جمع الأشياء أزلي قبل خلق السماوات والأرض لكن قال بعض الأجلة كون التقدير في هذه الليلة يشكل عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان وهي المراد بالليلة ولمباركة التي قال الله تعالى فيها فيها يفرق كل أمر حكيم وأجاب بأن ههنا ثلاثة الأول نفس تقدير الأمور أي تعيين مقاديرها وأوقاتها وذلك في الأزل والثاني إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ وذلك في ليلة النصف من شعبان والثالث إثبات المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليه السلام ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه السلام ونسخة المصائب إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر وقيل يقدر في ليلة النصف الآجال والأرزاق وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة وقيل يقدر في هذه ما يتعلق به أعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقال الزهري المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم رجل له قدر عند فلان أي منزلة وشرف وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها صار ذا قدر وشرف عند الله عز و جل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول ذي قدر لأمة ذات قدر وقيل لأنه يتنزل فيها ملائمة ذوات وقال الخليل بن أحمد المعنى ليلة الضيق من قدر عليه رزقه ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهم السلام وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ولا يعلم مقدار خيريتها منها إلا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله عز و جل وجل أن يخص ما شاء بما شاء ورب عمل قليل خير من عمل كثير ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل لخبر مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها أجرك على قدر نصبك لأنها أغلبية على ما قال غير واحد ولا شك أن العمل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الإداء كصلاة واحدة أديت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الأنفراد إلى غير ذلك نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لا كما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز و جل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلا هو جل شأنه وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وكثيرا ما يراد بالأعداد ذلك وفي البحر حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله أو أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأنزل الله تعالى السورة وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون فعجب أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك فقرأ عليه أنا أنزلناه الخ ثم قال هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسر بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوه ليلة إن أحيوها كانوا أحق (30/192)
بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقال أبو بكر الوراق كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما وفي هذا نظر لأنه إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير وقيل أرى صلى الله تعالى عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه الصلاة و السلام أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وذكره الإمام مالك في الموطأ وقد سمعت ما يدل على أن الألف إشارة إلى ملك بني أمية وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص يوم على ما قيل ثمانين سنة وهي ألف شهر تقريبا لأنها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر ولا يعكر على ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد لأنه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ولذا لم يعد من ملك منهم هناك من خلفائهم وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار وطعن القاضي عبد الجبار في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة أنها خير من ألف شهر مذمومة ألم تران السيف ينقص قدره
إذا قيل أن السيف خير من العصا وأجيب بأن تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يبعد أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية فلا تبقى فائدة واختلف في أن تلك الأيام تيتتبع يومها أم لا فقال الشعبي نعم يومها مثلها وقيل لعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين لزمتاه بيوميهما والكثير لا لكن قيل يسن الأجتهاد في يومها كما يسن فيها ولذا جاء في وصفها أن الشمس تطلع صبيحتها وليس لها شعاع كما تقدم أي لعظم أنوار الملائكة الصاعدين والنازلين فيها فإنه لا فائدة فيه سوى معرفة يومها ولا فائدة فيها لو لم يسن الأجتهاد فيه ومنع بأنه يجوز أن تكون الفائدة معرفتها نفسها ليجتهد فيها من قابل بناء على أنها لا تنتقل وظاهر الآية أنها أفضل من ليلة الجمعة والمسئلة خلافية وأكثر الأئمة على أنها أفضل منها للآية ولأن الله تعالى أنزل فيها القرآن وهو هو ولم ينزله في غيرها ولأنه سبحانه أمر بطلبها فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى وابتغوا ما كتب الله لكم ليلة القدر ولأنه عز و جل جعلها ليلة الفرق والحكم فقال جل شأنه فيها يفرق كل أمر حكيم وسماها جل وعلا ليلة القدر أي التقدير ولما روي عن كعب أنه قال أن الله تعالى اختار الساعات فاختار ساعات أوقات الصلاة واختار الأيام فاختار يوم الجمعة واختار الشهود فاختار شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر فهي أفضل ليلة في أفضل شهر ولأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حث على العمل فيها فقد صح من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية وما تأخر ونهى عليه الصلاة و السلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه أعظم أسمائه عز و جل وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي الصلاة الوسطى إلى غير ذلك وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن الجزري وعبد الله ابن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة الجمعة أفضل لما أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين وهذه فضيلة لم تجيء لغيرها ونحوه ما روي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من ليلة جمعة إلا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر لمن لا يشرك بالله شيئا ولأنه روي ابن بشكوان في كتابه (30/193)
القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روي كثيرون منهم الإمام أحمد أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى وصحح ابن حيان خبر لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة مشهودة يشهدها الخاص والعام من ذكر وأنثى وصغير وكبير وبصير وضرير وتصل بركتها إلى الأحياء والأموات وليلة القدر غير معينة فلا ينتفع بها إلا القليل إلى غير ذلك وأجاب هؤلاء عن الآية بأنه لما أريد فيها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر كما قال قتادة وغيره فليرد أيضا أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة جمعة ويدل للأمرين أن أكثر أسباب النزول السابقة تدل على أن المراد بالشهور شهور من تقدمنا وهي ليس فيها ليلة قدر ولا ليلة جمعة وعن سائر المستندات بأن بعضها معارض وبعضها لا يدل على أكثر من فضلها وهو ما لم ينكر أحد والأولون أجابوا عن مستنداتهم بنحو ما أجابوا وللتعارض قال أحمد بن الحسين بن يعقوب بن قاسم المقري من الحنابلة أن القولين في المسئلة قولان شائعان بين الأصحاب ولكن دلائل تدل على صوابيته فلا ينبغي لأحد أن يطلق الخطا على قائل كل منهما وأنت بعد التأمل في أدلة الطرفين والوقوف على أحوالها يتعين عندك أفضلية ليلة القدر وتعين ليلة الجمعة وههنا قول متوسط بين القولين حكى القاضي أبو يعلى أن أبا الحسن التميمي من الحنابلة أيضا كان يقول ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن أفضل من ليلة الجمعة لما حصل فيها من الخير الكثير الذي لم يحصل في غيرها فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة منها وقيل نظيره في ليلة المعراج مع ليلة الجمعة ونحوها ثم أن ظاهر كلام بعض الحنفية كصاحب الجوهرة أن ليلة النحر أفضل من ليلة القدر وسائر ليالي السنة ويرد عليه ظاهر الآية أيضا ولعله يجيب بنحو ما سبق آنفا ونقل الطحطاوي عليه الرحمة في حواشي المختار عن بعض الشافعية أن أفضل الليالي ليلة مولده عليه الصلاة و السلام ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء ثم ليلة عرفة ثم ليلة الجمعة ثم ليلة النصف من شعبان ثم ليلة العيد وأنا لا أرى أن له ما يعول عليه في ذلك والله تعالى أعلم وما أشير من كونها من خصائص هذه الأمة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول وصرح به الهيتمي وغيره وقال القسطلاني أنه معترض بحديث أبي ذر النسائي حيث قال يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال بل هي باقية ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب النزول من رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم وتعقبه بقوله هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري انتهى والحق الأول والصراحة في حيز المنع وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلهم فتأمل ولا تغفل وقوله تعالى تنزل الملائكة والروح فيها استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة فضمير فيها لليلة وزعم بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر والضمير لها وليس بشيء وجوز بعضهم كون الضمير للملائكة على أن الروح مبتدأ لا معطوف على الملائكة وفيها خبره لا متعلق بتنزل والجملة حال من الملائكة وهو خلاف الظاهر الروح عند الجمهور هو جبريل عليه السلام وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر وقيل ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقال كعب ومقاتل الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة كالزهاد الذين (30/194)
لا نراهم إلا يوم العيد أو الجمعة وقيل حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا وقيل خلق من خلق الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو ولعلهم على ما قيل خدك أهل الجنة وقيل هو عيسى عليه السلام ينزل لمطالعة هذه الأمة وليزور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل أرواح المؤمنين ينزلون لزيادة أهليهم وقيل الرحمة كما قريء لا تيأسوا من روح الله بالضم وعلى الأول المعول والظاهر الذي تشهد له الأخبار أن التنزل إلى الأرض فقيل أن ذلك لما ذكر الله تعالى بعد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه وقيل ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين وقيل لأن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الأشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا كما أن الرجل منا يذهب إلى مكة لتصير طاعته كذلك فيكون المقصود من الأخبار بذلك ترغيب الإنسان في الطاعة وقال عصام الدين يحتمل أن يكون تنزلهم لأدراكها إذ ليس في السماء ليل والجملة حينئذ مقررة لما سبق لا مبنية لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى وقيل غير ذلك مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقيل المراد تنزلهم إلى السماء الدنيا وهو خلاف المتبادر وأنزل منه بكثير كون المراد بتنزلهم تنزلهم عن مراتبهم العلية من الأشتغال بالله تعالى والأستغراق بمطالعة جلاله عز و جل ليسلموا على المؤمنين واستظهر أن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم واستشكل بأن لهم كثرة عظيمة لا تتحملها الأرض وكذا السماء الدنيا لأنها قبل نزولهم مملوءة أطت السماء وحق لها أن تتطء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم وأجيب بأنهم ينزلون فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كالحجاج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة مثلا بأسرهم لكن لا على وجه الأجتماع بل هم بين داخل وخارج وفي التعبير بتنزل المفيد للتدريج دون نزل رمز إليه وقيل أنهم لكونهم أنوارا لا تزاحم بينهم فالنور إذا ملأ حجرة مثلا لا يمنع من إدخال ألف نور عليه وهو كما ترى ومن الناس من خص الملائكة ببعض فرقهم وهم سكان سدرة النتهى أو بعض منهم وفي الغنية للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال إذا كان ليلة القدر يأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان سدرة المنتهى سبعون ألف ملك ومعهم الوية من نور فإذا هبطوا إلى الأرض ركز جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند الكعبة وقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء ثم يقول جبريل عليه السلام تفرقوا فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلا دخلته الملائكة عليهم السلام إلا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة تماثيل فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم من أين أقبلتم فيقولون كنا في الدنيا لأن الليلة ليلة القدر لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقول سكان السماء الدنيا ما فعل الله تعالى بحوائج أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقول جبريل عليه السلام إن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة والرضوان في تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك وهكذا إلى السابعة ثم يقول جبريل عليه السلام يا سكان السماوات ارجعوا فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم فإذا وصلوا إلى سدرة المنتهى يقول لهم سكانها أين كنتم فيجيبونهم مثل ما أجابوا أهل السماوات فيرفع سكان سدرة المنتهى أصواتهم بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم وجنة عدن والفردوس ويسمع عرش الرحمن فيرفع (30/195)
العرش صوته بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه الأمة ويقول إلهي بلغني أنك غفرت البارحة لصالحي أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وشفعت صالحها فيقول الله عز و جل صدقت يا عرشي ولأمة محمد عليه الصلاة و السلام عندي من الكلامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وفي رواية عن كعب نزول جميع ملائكة سدرة المنتهى مع جبريل عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى وإن جبريل عليه السلام لا يدع أحدا من الناس إلا صافحه وفي رواية لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم الأمد من الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران وإن علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين وروي في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك وقد ذكر بعضا من ذلك الإمام وغيره ونسأل الله تعالى صحة الأخبار وذكر بعضهم أن جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من رحمة الله تعالى حتى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به فيقول الله عز و جل قسم على أموات أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقسم حتى يستغرقهم فيقول يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به فيقول سبحانه وتعالى قسمه على الكفار فيقسمه عليهم فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات على الإيمان بإذن ربهم متعلق بتنزل أو بمحذوف وهو حال من فاعله أي ملتبسين بإذن ربهم بأمره عز و جل والتقييد بذلك لتعظيم أمر تنزلهم وقيل الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم وفيه نوع ترغيب في الأجتهاد في الطاعة واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة المعاصي وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في السماء أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين ففي الحديث القدسي لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم المحبة فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم فناسب أن تزورهم ولملائمة عليهم السلام في زواياهم وإن اقتضى ذلك الأجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي
ولأجل عين ألف عين تكرم
من كل أمر أي من أجل كل أمر متعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم قاله غير واحد فمن بمعنى اللام التعليلية متعلقة بتنزل قال عصام الدين فإن قلت المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك الأمور قلت لعل تنزلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر ولا تنزل كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات انتهى وأقول يمكن أن يكون تنزلهم لأعداد القوابل لقبول ما أمروا به وأشار بما ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة أمور وقولهم من أجل كل أمر تعلق الخ قد تقدم ما فيه من البحث فتذكر وقال أبو حاتم من بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر فقيل أي من الخير والبركة وقيل من الخير والشر وجعلت الباء عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مر ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له للأمر به فكأنه قيل تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة وكونهم يتنزلون وهم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك الليلة والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات إذ غيرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير لتنزلوا لأجلها على المعنى السابق وهو خلاف ما تدل عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبرات فتدبر وكأنه لذلك قيل أن من كل أمر متعلق بقوله (30/196)
تعالى سلام وهو مصدر بمعنى السلامة خبر مقدم وقوله تعالى هي مبتدأ أي هي سلام من كل أمر مخوف وتعلقه بذلك على التوسع في الظرف وإلا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور وقيل هو متعلق بمحذوف مقدم يفسره المذكور من وقف على كلام العلامة التفتازاني في أوائل شرح التلخيص في مثل ذلك استغنى عماد ذكر وقيل من كل أمر متعلق بتنزل لكن على معنى تنزل إلى الأرض منفصلة من كل أمر لها في السماء وتاركة له فيه إشارة إلى مزيد الأهتمام بالتنزل إلى الأرض وفيه من البعد ما فيه وتقديم الخبر للحصر كما في تميمي أنا والأخبار بالمصدر للمبالغة أي ما هي إلا سالمة جدا حتى كأنها عين السلامة قال الضحاك في معنى ذلك أنه تعالى لا يقدر ولا يقضي فيها إلا السلامة قيل أي لا ينفذ تقديره تعالى ويتعلق قضاؤه إلا بذلك وحاصله لا يوجد إلا ذلك وقال مجاهد أنها سالمة من الشيطان وأذاه وروي أن الشيطان لا يخرج في ليلة القدر حتى يضيء فجرها ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيها سحر ساحر ولعل ما يصدر من المعاصي على هذا من النفس الأمارة بالسوء لا بواسطة الشيطان واستشكل كلام الضحاك بناء على ما قيل فيه بأنه لا تخلوا ليلة من الشر والأمر المخوف ولا موجد إلا الله عز و جل فلعله أراد ما تقدم نقله غير بعيد من أن الله تعالى إنما يقدر في هذه الليلة السلامة والخير أي لا يظهر سبحانه للملائكة عليهم السلام إلا تقديره عز و جل ذلك وقيل ما هي إلا سلامة على نحو ما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا رحمة والمراد أنها سبب تام للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة حيث أن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقيل السلام مصدر بمعنى التسليم أي ما هي إلا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين فيها وروي ذلك عن الشعبي ومنصور وجعلها عين التسليم للمبالغة أيضا وقوله تعالى حتى مطلع الفجر غاية تبين تعميم السلامة أو التسليم كل الليلة فالجار متعلق بسلام ومطلع اسم زمان وقد صرحوا أنه من يفعل ويفعل بفتح العين وضمها على مفعل مفتوح العين وجوز كونه مصدرا ميميا بمعنى الطلوع ويحتاج إلى تقدير مضاف قبله هو وقت أو ما في معناه لتتحد الغاية والمغيا فيكونان من جنس واحد وصح تعلق الجار بذلك مع الفصل لأنه ليس بمصدر نظرا للحقيقة وأفاد الطبرسي وغيره أنه لا بد من تأويله بسالمة أو مسلمة ليصح التعلق أما لو أبقى على مصدريته فلا يصح للزوم الفصل بين الصلة والموصول وذهب بعضهم إلى أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر وجوز أن تتعلق الغاية يتنزل على معنى أنه لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى وقت طلوع الفجر وتعقب بأنه تعسف لأن سلام هي أجنبي وليس باعتراض فلا يحسن الفصل به وجعله حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى فيها أي ذات سلامة أو سلام لا يخفى حاله وقيل يجوز أن يكون الوقف على سلام وهو خبر لمحذوف ومن كل أمر متعلق به وهي مبتدأ وحتى مطلع الفجر خبره ولم يجوز ذلك الطيبي والطبرسي وغيرهما قالوا لعدم الفائدة بالإخبار عنها بأنها حتى مطلع الفجر إذ كل ليلة بهذه الصفة وأجيب بأنه لما أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر وفهم أنها مخالفة لسائر الليالي في الصفة وكان مظنة توهم أن ذاتها في المقدار مغايرة لذوات الليالي فيه أيضا دفع ذلك بقوله تعالى هي حتى مطلع الفجر أي لم تخالف سائر الليالي في ذلك وإن خالفتها في الفضل والخيرية وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي من كل امريء بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به مما قدر في تلك الليلة ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل مصلحته من الأستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امريء مؤمن على ما قيل وقيل الجار والمجرور متعلق بسلام والمراد بكل امريء الملائكة عليهم السلام أي سلام وتحتية هي على المؤمنين من كل ملك وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن (30/197)
محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه مطلع بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر قياس يفعل مكسور العين وفي البحر قيل مطلع بالفتح والكسر مصدران في لغة تميم وقيل المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز انتهى وإرادة الموضع ههنا لا موضع لها كما لا يخفى هذا واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة وهي أحد أوقات الإجابة وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قلت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها وقال سفيان الثوري في تلك الليلة أحب من الصلاة ثم أفاد أنه إذا قرأ ودعا كان حسنا وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا تعوذ وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وقد كان عليه الصلاة و السلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب ليلة القدر بحظ وافر وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجوية والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى والظاهر أنه عني برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب أن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة و السلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنسيها صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بطلبها في ليالي العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى وحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآها ونسيها وقد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة و السلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم أبدا ترددا ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذ ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلان من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر وحكى نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط ففي شرح الصحيح للنووي اعلم أن ليلة القدر موجودة وأنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلظ فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به انتهى (30/198)
بقي في الكلام على هذه الليلة بحث مهم وهو أنه على قول المعتبرين لاختلاف المطالع يلزم القول بتعددها في رمضان وكونها وترا من لياليه عند قوم وشفعا عند آخرين فلا يصح إطلاق القول بأحدهما وكذا لا يصح أطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع والعشرين أو الحادي والعشرين مثلا من الشهر على ذلك أيضا بل لا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليل فالليلة عند قوم نهار في الجهنة المسامتة لأقدامهم وهي قد تكون مسكونة ولو بواسطة سفينة تمر فيها وربما يكون زمان الليل عند قوم بعضه ليلا وبعضه نهارا عند آخرين كأهل بعض العروض البعيدة عن خط الأستواء بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقص يوم واحد بعض العروض بل لا يصح أيضا إطلاق القول بأنها في رمضان وأنها الليلة الأولى أو الأخيرة منه إذ الشهر دخولا وخروجا مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة وأجاب بعض بالتزام أن ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين وهكذا القول بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم نهار بالنسبة إلى آخرين وأن التعبير بالليلة لرعاية مكان المنزل عليه القرآن عليه الصلاة و السلام وغالب المؤمنين به كأن ما هو سمت أقدامهم مما ليلهم نهاره لم يعمر بالمسلمين بل لا يكاد يعمر بهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها وقال أنها حيث كانت نهارا عند قوم لا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها من اجتهد من غيرهم في ليلة ذلك النهار وأن يعطي سبحانه ذلك أيضا من اجتهد منهم ليلا وهي عندهم نهار وعلى نحو هذا يقال في الصور التي ذكرت في البحث وأدعى أن هذا نوع من الجمع بين الأحاديث المتعارضة وأن في قولهم يسن الأجتهاد في يومها رمز إما لشيء من ذلك وهو كما ترى وأجاب آخر بما يستحي القلم من ذكره ويرى تركه هو الحري بقدره وسمعت من بعض أحبابي أن الشيخ إسماعيل العجلوني عليه الرحمة تعرض فيما شرح من صحيح البخاري لشيء من هذا البحث والجواب عنه ولم أقف عليه وعندي أن البحث قوي والأمر مما لا مجال لعقلي فيه ومثل ليلة القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمعة إلى أمثال أخر وللشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام طويل في الأول لم يحضرني منه الآن ما يرى الغليل ولغيره كابن حجر كلام مختصر في الثاني وهو مشهور وربما يقال أنها لكل قوم ليلتهم وإن اختلفت دخولا وخروجا بالنسبة إلى آفاقهم كسائر لياليهم فتدخل الليلة مطلقا في بغداد مثلا عند غروب الشمس فيها وبعد نصف ساعة منه تدخل في أسلامبول مثلا وذلك أول وقت الغروب فيها وهكذا والخروج على عكس ذلك فكان الليلة راكب يسير إلى جهة فيصل إلى كل منزل في وقت ويلتزم أن تنزل الملائكة حسب سيرها ولا يبعد أن يتنزل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم ويعرجون عند مطلع فجرها عندهم أيضا أو يبقى المتنزل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة فيعرجون معا عند انقضائها ويلتزم القول بتعدد التقدير حسب السير أيضا بأن يقدر الله تعالى في أي جزء شاء سبحانه منها بالنسبة إلى من هي عندهم أمورا تتعلق بهم ومناط الفضل لكل قوم تحققها بالنسبة إليهم وقيامهم فيها ومثل هذه الليلة فيما ذكر سائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرهما وهذا غاية ما يخطر بالبال فيما يتعلق بهذا الإشكال وأمر ما يعكر عليه من أخبار الآحاد سهل على أن الكثير منها في صحته مقال فتأمل في ذاك والله عز و جل يتولى هداك ثم إن ليلة القدر عند السادة الصوفية ليلة يختص فيها السالك بتجبل خاص يعرف به قدره ورتبته بالنسبة إلى محبوبه وهي وقت ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع ومقام البالغين في المعرفة وما ألطف قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره (30/199)
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
كما كل أيام اللقا يوم جمعة هذا والله الهادي إلى سواء السبيل
سورة البينة
وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن قال في البحر مكية في قول الجمهور وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار مدنية قاله ابن عطية وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور وروي أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى وقال ابن الفرس الأشهر إنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال لما نزلت لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب إلى آخرها قال جبريل عليه السلام يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة فقال أبي أو قد ذكرت ثم يا رسول الله قال نعم فبكى وهذا هو الأصح وآيها تسع في البصري وثمان في غيره وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن الله تعالى يسمع قراءة لم يكن الذين كفروا فيقول أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولا مكنن لك في الجنة حتى ترضى ووجه مناسبتها لما قبلها إن قوله تعالى فيها لم يكن الذين الخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى وإيراد هم بذلك العنوان قيل لا عظام شناعة كفرهم وقيل للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى في الآية بعد وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم عليهم السلام بالآحاد في صفات الله عز و جل ومن للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على الأعتقاد الحق حتى توفاه الله تعالى وعد من ذلك الملكانية من النصارى فقيل إنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر خلافه وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف المدينة من بني قريظة والنظير وبني قينقاع وقال بعض لا نسلم أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب والمشركين وهم من اعتقدوا الله سبحانه شريكا صنما أو غيره وخصهم بعض بعبدة الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولها كانوا كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر وأيا ما كان فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم عن التبعيض أن لا يكون بعضهم كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما أفاده بعض الأجلة واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزيز ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء وقريء والمشركون بالرفع عطفا على الموصول وحمل قراءة الجمهور على (30/200)
ذلك واعتبار أن الجر للجوار لا يخفى حاله والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير كفروا وقوله تعالى منفكيم خبر يكن والأنفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخوتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصارا ولا اختصارا وحين ليس مجير أي في الدنيا ضرورة وقوله تعالى حتى تأتيهم البينة متعلق بمنفكين والبينة صفة اسم الفاعل أي المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز وعلى الوجهين فقوله تعالى رسول بدل منها بدل كل من كل أو خبر لمقدر أي هي رسول وتنوينه للتفخيم والمراد به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله سبحانه من الله في موضع الصفة له مفيد للفخامة الإضافية فهو مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية وقوله تعالى يتلوا صحفا مطهرة صفة له أو حال من الضمير في صفته الأولى كما أن قوله سبحانه فيها كتب قيمة صفة ثانية لصحفا أو حال من الضمير في صفتها الأولى أعني مطهرة ويجوز أن يكون الصفة أو الحال هنا الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا على الفاعلية وإطلاق البينة عليه عليه الصلاة و السلام على المعنى الأول ظاهر وعلى المعنى الأخير باعتبار أن أخلاقه وصفاته صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بالغة حد الإعجاز كما قال الغزالي في المنقذ من الضلال وأشار إليه البوصيري بقوله كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية والتأديب في اليتم ويعلم منه حكمة جعله عليه الصلاة و السلام يتيما أو باعتبار كثرة معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم غير ما ذكر وظهورها وجوز أن يراد بالبينة القرآن لأنه مبين للحق أو معجز مثبت للمدعي وروي ذلك عن قتادة وابن زيد ورسول عليه قيل بدل اشتمال أو بدل كل من كل أيضا بتقدير مضاف أي بينة أو وحي أو معجز أو كتاب رسول أو هو خبر مبتدأ مقدر أي هي رسول ويقدر معه مضاف كما سمعت وجوز أن يكون رسول مبتدأ لوصفه وخبره جملة يتلو الخ وجملة المبتدأ وخبره مفسرة للبينة وقيل اعتراض لمدحها وقيل صفة لها مرادا بها القرآن ويراد بالصحف المطهرة البينة وقد وضعت موضع ضميرها فكانت الرابط وقرأ أبي وعبد الله رسولا بالنصب على الحالية من البينة والصحف جمع صحيفة وكذا الصحاف القراطيس التي يكتب فيها وأصلها المبسوط من الشيء والمراد بتطهيرها تنزيهها عن الباطل على سبيل الأستعارة المصرحة ويجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية أو تطهير من يمسها على التجوز في النسبة فكأنه قيل صحفا لا يمسها إلا المطهرون والمراد بالكتب المكتوبات وبالقيمة المستقيمة واستقامتها نطقها بالحق وفي التيسير هي كتب الأنبياء عليهم السلام والقرآن مصدق لها فكأنها فيه ووصفه عليه الصلاة و السلام بتلاوة الصحف المذكورة بناء على المشهور من أنه عليه الصلاة و السلام لم يكن يقرأ الكتاب كما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يكتب من باب التجوز في النسبة إلى المفعول لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ ما فيها فكأنه قرأها وقيل على تقدير مضاف أي مثل صحف وقيل في ضمير استعارة مكنية بتشبيهه عليه الصلاة و السلام لتلاوته مثل ما فيها بتاليها أو الصحف مجاز عما فيها بعلاقة الحلول ففي ضمير استخدام لعوده على الصحف بالمعنى الحقيقي وقيل المراد بالرسول جبريل عليه السلام وبالصحف صحف الملائكة عليهم السلام المنتسخة من اللوح المحفوظ وبتطهيرها ما سبق والمراد بتلاوته عليه الصلاة و السلام إياها ظاهر وجعلها (30/201)
مجازا عن وحيه إياها غير وجيه والأولى حمل الرسول على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المروي عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما وقد اختلفوا في المعنى المراد بالآية اختلافا كثيرا حتى قال الواحدي في كتاب البسيط أنها من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وبين ذلك بناء على أن الكفر وصف لكل من الفريقين قبل البعثة بأن الظاهر أن المعنى لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وحتى لأنتهاء الغاية فتقتضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وهو خلاف الواقع ويناقضه قوله تعالى وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال سبحانه وما تفرق الخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والإتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلا مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز و جل ذلك فيزداد فسقا وأعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه وما تفرق الخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعبير فقال هذا هو الثمرة وظاهره أنه أراد بتفرقهم تفرقهم عن الحق وحمل على على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى وما نفرق الخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى وقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتا والأتفاق فاجعلوه ميقاتا للأنفكاك والأفتراق كما قال سبحانه وما تفرق الخ وفي التعبير بمنفكين إشارة إلى وكادة وعدهم وهو من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين وقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا قنقتلكم معه قتل عاد وإرم ومن المشركين لعله وقع من متأخرهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب ويقول قد أظل زمانه وأنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة و السلام سمى منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث والله أعلم حيث يجعل رسالته والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي تلت وقوله تعالى وما تفرق الخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الإنفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبيء عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأعحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة و السلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبر عما صدر منهم عقيب الأتفاق عند الأخبار بوقوعه بالأنفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الأستقلال كل من (30/202)
فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الأتفاق على رأي آخر بل بطريق الأختلاف القديم وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية إلا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق وقال القاضي عبد الجبار المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن تفسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وإن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلا أنه عبر بما ذكر لأنه اخصر وفيه أيضا ما لا يخفى وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة و السلام قولا زورا وتعقب بأنه دلالة على إرادة ما قدر متعلق الأنفكاك وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى مجيء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى وتعقب بأن ظاهر وما تفرق الخ ذم لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد أن الذين كفروا من أهل الكتاب الخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى وقيل معنى منفكين هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجيء الرسول التالي للصحف المبينة نسخه وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه وقال أبو حيان الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم عن بعض بل كان كل منهم مقرا على ما هو مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه وحاصله أنه اتصلت أنه مودتهم كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وما تفرق الذين أوتوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إلا من بعد ما جاءتهم البينة وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله بل كان كل منهم الخ في حيز المنع وأيضا حمل وما تفرق على ما حمله عليه غير ظاهر وقال ابن عطية ههنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز و جل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا وتعديلا ثم أني أقول ما تقدم في تقرير الأشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال أنه سبحانه وتعالى بين أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله عز و جل لم يكن الذين كفروا من أهل الكتوب والمشركين منفكين أي أعماهم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة و السلام بينه سبحانه بقوله (30/203)
جل وعلا وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلا بعد ما جاءتهم البينة وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم أنه تعالى ذكر بعد حال من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة بقوله سبحانه إن الذين كفروا الخ وقوله تعالى الذين آمنوا الخ والذين أميل إليه مما تقدم كون الإنفكاك عن الوعد باتباع الحق ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن الكلام من باب الأعمال فيقال أن منفكين يقتضي متعلقا هو المنفك عنه وتأتيهم يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فاعمل فيه تأتيهم وحذف معمول منفكين لدلالته عليه فكأنه قيل لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم ويراد بعدم الأنفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الأنفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى وما تفرق الخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالأصرار على الكفر إلا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والأستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى وقال الفراء العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن أي إلا بأن يعبدوا الله وأيد بقراءة عبد الله إلا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق مخلصين له الدين أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز و جل فالدين مفعول لمخلصين وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول مخلصين محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين وقراءة الحسن مخلصين بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل ليعبدوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين حنفاء أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه فالحنف الميل إلى الأستقامة وسمي مائل الرجل إلى الأعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا وعن قتادة بمختتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم السلام وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها وذلك إشارة إلى كا ذكر من عبادة الله تعالى بالأخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف دين القيمة أي الكتب القيمة (30/204)
فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى فيها كتب قيمة وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني وقال الزجاج أي الأمة القيمة أي المستقيمة وقال غير واحد أي الملة القيمة والتغاير الأعتباري بين الدين والملة يصحح الإضافة وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل القيمة بمعنى الملة وقيل أي الحجج القيمة وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه الدين القيمة فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل الهاء للمبالغة إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به وجيء بالجملة إسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب وجوزت الأستعارة وقيل أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة خالدين فيها حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب المشركين ولا مساويا له فإن الشرك ظلم عظيم وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار أولئك إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون هم شر البرية أي الخلقية وقيل أي البشر والمراد قيل هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيز التعليل لخلودهم في النار وقيل شرها مقاما ومصيرا فتكون تأكيدا لفظاعة حالهم ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين وأيا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما وكذا والمنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقال بعض لا يبعد أن يكون من كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الأشكال بإبليس ونحوه وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا إشكال إذ يكون المعنى أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون قالا أو حالا وقيل يراد بالبرية البشر ويراد بشريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة و السلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة و السلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة و السلام وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر وأعمال (30/205)
المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل وقيل ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع البريئة هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة لكن عامة العرب إلا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبداء والإدغام فقالوا البرية كما قالوا الذرية والخابية وقيل ليس بالأصل وإنما البرية بغير همز من البري المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر ومختلفتان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليقة الشاملة للملائكة والجن كالبشر وبغير المهموز البشر المخلوقان من التراب فقط وأيا ما كان فليست القراءة خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى الله تعالى عليه وسلم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات بيان لمحاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقا وقال عصام الدين إن قوله تعالى إن الذين كفروا الخ كالتأكيد لقوله تعالى وذلك دين القيمة إذ لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إن الذين آمنوا الخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند أولئك أي المنعوتون بما هو الغاية القاضية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة هم خير البرية وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد هم خيار البرية وهو جمع خير كجياد وجيد جزاؤهم بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا تقدمت نظائره وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى والظاهر أن جملة هم خير البرية اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر وقوله تعالى رضي الله عنهم استئناف نحوي وإخبار عما تفضل عز و جل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى ورضوا عنه عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلك أي ما ذكره من الجزاء والرضوان لمن خشي ربه فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لو لاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر بل الموصل له خشية الله تعالى وإنما يخشى الله من عباده العلماء ولذا قال الجنيد قدس سره الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ (30/206)
لقوله تعالى ذلك الخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للأشعار بعلة الخشية والتحذير من الأغرار بالتربية واستدل بقوله تعالى إن الذين آمنوا الخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا من البشر وفي الآثار ما يدل على ذلك أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤا إن شئتم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت قلت يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى قال يا عائشة أما تقرئين أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا ليتم الأستدلال ثم أنه يحتاج أيضا إلى إدخال الأنبياء عليهم السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يرد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هم يكفرون من يقول به فليتفطن الإمام قد ضعف الأستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الصر إضافيا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيز المنع ثم الظاهر أن المراد بالذين آمنوا الخ مقابل الذين كفروا والأقوم من الذين أنصفوا بما في حيز الصلة بخصوصهم وزعم بعض أنهم مخصوصون فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألم تسمع قول الله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جئت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين وروي نحوه الإمامية عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه وفيه أنه عليه الصلاة و السلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية إن الذين آمنوا الخ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين وذلك في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في مجمع البيان عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته أن أسلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا وأماما تقدم فلا تسلم صحته فإنه يلزم عليه أن يكون علي كرم الله تعالى وجهه خيرا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والإمامية وإن قالوا أنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم السلام لا يقولون بخيريته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن قالوا بأن البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة و السلام للدليل الدال على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خير منه كرم الله تعالى وجهه قيل إنها مخصوصة أيضا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيريتهم وبالجملة لا ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه وأهل بيته وإن دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتاد والله تعالى أعلم ثم أن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها ما أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك (30/207)
القرآن فقرأ عليه الصلاة و السلام لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وإن الدين عند الله الحنفية غير الشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأه هكذا ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله صحفا مطهرة فيها كتب قيمة إن أقوم الدين لحنفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأبدا رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه أخرج ذلك ابن مردويه عن أبي رضي الله تعالى عنه وهو مخالف لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث
سورة الزلزلة
ويقال سورة إذا زلزلت وهي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ومدنية في قول قتادة ومقاتل واستدل له في الإتقان بما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال لما نزلت فمن يعمل مثقال ذرة الخ قلت يا رسول الله إني لراء عملي قال نعم قلت تلك الكبار الكبار قال نعم قلت الصغار الصغار قال نعم قلت واتكل أمي قال أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها الحديث وأبو سعيد لم يكن إلا بالمدنية ولم يبلغ إلا بعد أحد وآيها ثمان في الكوفي والمدني الأول وتتسع في الباقية وصح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا ووجه ما في الأول بأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة إجمالا وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وبحديث الأخبار وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت بالقدر وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام وكأنه لما ذكر عز و جل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته عز و جل شأنه في هذه السورة فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
إذا زلزلت الأرض أي حركت تحريكا عنيفا متداركا متكررا زلزالها أي الزلزال المخصوص بها الذي تقتضيه بحسب المشيئة الإلهية للبنية على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده زلزال فكان ما سواه ليس زلزالا بالنسبة إليه أو زلزالها العجيب الذي لا يقادر قدره فالإضافة على الوجهين للعهد ويجوز أن يراد الأستغراق لأن زلزالا مصدر مضاف فيعم أي زلزالها كله وهو استغراق عرفي قصد به المبالغة وهو مراد من قال أي زلزالها الداخل في حيز الإمكان أو عني بذلك العهد أيضا وقرأ الجحدري وعيسى زلزالها بفتح الزاي وهو عند ابن عطية مصدر كالزلزال بالكسر وقال الزمخشري المكسور مصدر والمفتوح (30/208)
اسم للحركة المعروفة وانتصب ههنا على المصدر تجوزا لسده مسد المصدر وقال أيضا ليس في الأبنية فعلان بالفتح إلا في المضاعف وذكروا أنه يجوز في ذلك الفتح والكسر إلا أن الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى اسم الفاعل كصلصال بمعنى مصلصل وقضقاض بمعنى مقضقض ووسواس بمعنى موسوس وليس مصدرا عند ابن مالك وأما في غير المضاعف فلم يسمع إلا نادرا سواء كان صفة أو اسما جامدا وبهرام وبسطام معربان إن قيل بصحة الفتح فيهما ومن النادر خرعال بمعجمتين وهو الناقة التي بها ظلع ولم يثبت بعضهم غيره وزاد ثعلب قهقازا وهو الحجر الصلب وقيل هو جمع وقيل هو لغة ضعيفة والفصيحة قهقر بتشديد الراء وزاد آخر قسطالا وهو الغبار وهذا الزلزال على ما ذهب إليه جمع عند النفخة الثانية لقوله تعالى وأخرجت الأرض أثقالها فقد قال ابن عباس أي موتاها وقال النقاش والزجاج ومنذر بن سعيد أي كنوزها وموتاها وروي عن ابن عباس أيضا وهذه الكنوز على هذا القول غير الكنوز التي تخرج أيام الدجال على ما وردت به الأخبار وذلك بأن تخرج بعضا في أيامه وبعضا عند النفخة الثانية ولا بعد في أن تكون بعد الدجال كنوز أيضا فتخرجها مع ما كان قد بقي يومئذ وقيل هو عند النفخة الأولى وأثقالها ما في جوفها من الكنوز أو منها ومن الأموات ويعتبر الوقت ممتدا وقيل يحتمل أن يكون إخراج الموتى كالكنوز عند النفخة الأولى وإحياؤها في النفخة الثانية وتكون على وجه الأرض بين النفختين وأنت تعلم أنه خلاف ما تدل عليه النصوص وقيل إنها تزلزل عند النفخة الأولى فتخرج كنوزها وتزلزل عند الثانية فتخرج موتاها وأريد هنا بوقت الزلزال ما يعم الوقتين واقتصر بعضهم على تفسير الأثقال بالكنوز مع كون المراد بالوقت وقت النفخة الثانية وقال تخرج الأرض كنوزها يوم القيامة ليراها أهل الموقف فيتحسر العصاة إذا نظروا إليها حيث عصوا الله تعالى فيها ثم تركوا لا تغني عنهم شيئا وفي الحديث تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانات من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول من هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا وقيل إن ذلك لتتكون بها جباه الذين كنزوا وجنوبهم وظهورهم وأيا ما كان فالأثقال جمع ثقل بالتحريك وهو على ما في القاموس متاع المسافر وكل نفيس مصون وتجوز به ههنا على سبيل الأستعارة عن الثاني ويجوز أن يكون جمع ثقل بكسر فسكون بمعنى حمل البطن على التشبيه والأستعارة أيضا كما قال الشريف المرتضي في الدرر وأشار إلى أنه لا يطلق على ما ذكر إلا بطريق الأستعارة ومنهم من فسر الأثقال ههنا بالأسرار وهو مع مخالفته للمأثور بعيد وإظهار الأرض في موقع الإضمار لزيادة التقرير وقيل للإيماء إلى تبديل الأرض غير الأرض أو لأن إخراج الأرض حال بعض أجزائها أن إخراجها ذلك مسبب عن الزلزال كما ينفض البساط ما فيه من الغبار ونحوه وإنما اختيرت الواو على الفاء تفويضا لذهن السامع كذا قيل ولعل الظاهر أنه لم ترد السببية والمسببية بل ذكر كل مما ذكر من الحوادث من غير تعرض لتسبب شيء منها على الآخر وقال الإنسان أي كل فرد من أفراد الإنسان لما يبرههم من الطامة التامة ويدهمهم من الداهية العامة ما لها وزلزلت هذه المرتبة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال في الجو وصيرت هباء وذهب غير واحد إلى أن المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن بالبعث والأظهر هو الأول على أن المؤمن يقول ذلك بطريق الأستعظام والكافر بطريق التعجب يومئذ بدل من إذا وقوله تعالى تحدث أخبارها أي الأرض واحتمال كون الفاعل المخاطب كما زعم الطبرسي لا وجه له عامل فيهما وقيل العامل مضمر يدل عليه مضمون الجمل بعد والتقدير يحشرون إذا زلزلت ويومئذ متعلق (30/209)
بتحدث وإذا عليه لمجرد الظرفية وقيل هي نصب على المفعولية لا ذكر محذوفا أي اذكر ذلك الوقت فليست ظرفية ولا شرطية وجوز أن تكون شرطية منصوب بجواب مقدر أي يكون مالا يدرك كنهه أو نحوه والمراد يوم إذا زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها وقال الإنسان ما لها تحدث الخلق ما عندها من الأخبار وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها حياة وإدراكا وتتكلم حقيقة فتشهد بما عمل عليها من طاعة أو معصية وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما ويشهد له الحديث الحسن الصحيح الغريب أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال قرأ ص - هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها ثم قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا فهذه أخبارها والباء في قوله تعالى بأن ربك أوحى لها للسببية أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها وأمره سبحانه إياها بالتحديث واللام بمعنى إلى أي أوحى إليها لأن المعروف تعدي الوحي بها كقوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل لكن قد يتعدى باللام كما في قول العجاج يصف الأرض أوحى لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت ولعل اختيارها لمراعاة الفواصل وجوز أن تكون اللام للتعليل أو المنفعة لأن الأرض بتحديثها بعمل العصاة يحصل لها تشف منهم يفضحها إياهم بذكر قبائحهم والموحي إليه هي أيضا والوحي يحتمل أن يكون وحي إلهام وأن يكون وحي إرسال بأن يرسل سبحانه إليها رسولا من الملائكة بذلك وقال الطبري وقوم التحديث استعارة أو مجاز مرسل لمطلق دلالة حالها والإيحاء ما تدل به فيحدث عز و جل فيها من الأحوال ما يكون به دلالة تقوم مقام التحديث باللسان حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال فبعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات وإن هذا ما كانت الأنبياء عليهم السلام ينذرونه ويحذرون منه وما يعلم هو أخبارها وقيل الإيحاء على تقدير كون التحديث حقيقيا أيضا مجاز عن أحداث حالة ينطقها سبحانه بها كإيجاد الحياة وقوة التكلم والأخبار على ما سمعت آنفا وقال يحيى بن سلام تحدث بما أخرجت من أثقالها ويشهد له ما في حديث ابن ماجه في سننه تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان مالها فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك جوابا لهم عند سؤالهم وقال الزمخشري يجوز أن يكون المعنى تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بأخبارها كما تقول نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين فأخبارها عليه هو أن ربك أوحى لها والباء تجريدية مثلها في قولك لئن لقيت فلانا لتلقين به رجلا متناهيا في الخبر وكان الظاهر تحدث بخبرها بالإفراد وكذا على ما قبله من الوجهين لكن جمع للمبالغة كما يشير إليه المثال ونحوه قول الشاعر فأنالني كل المني بزيادة
كانت مخالسة كخطفة طائر فلو استطعت خلعت على الدجى
لتطول ليلتنا سواد الناظر ولا يخفى بعده وبالغ أبو حيان في الحط عليه فقال هو عفش ينزه القرآن عنه وأراد بالعفش بعين مهملة وفاء وشين معجمة ما يدنس المنزل من الكناسة وهي كلمة تستعملها في ذلك عوام أهل المغرب وليس كما قال وجوز أيضا أن يكون بأن ربك الخ بدلا من أخبارها كأنه قيل يومئذ تحدث بأن ربك أوحى لها لأنك تقول حدثته كذا وحدثته بكذا فيصح إبدال بأن الخ من أخبارها وإن أحدهما مجرور والآخر منصوب لأنه يحل محله في بعض الأستعمالات وليس ذلك في الأمتناع خلافا لأبي حيان كاستغفرت الذنب العظيم بنصب الذنب وجر العظيم على أنه نعت له باعتبار قولهم استغفرت من الذنب لأن (30/210)
البدل هو المقصود فهو في قوة عامل آخر بخلاف النعت نعم هو أيضا خلاف الظاهر وبعد كل ذلك اللائق أن يعدل عن المأثور لا سيما إذا صح عن رسول الله ص - بقي ههنا بحث وهو أنهم اختلفوا في نحو حدثت هل هو متعد إلى مفعول واحد أو إلى أكثر فذهب الزمخشري وغيره ونقل عن سيبويه إلى الثاني وهو عندهم ملحق بأفعال القلوب فينصب مفعولين كحدثت زيدا الخبر أو ثلاثة كحدثته عمرا قائما فأخبارها عليه هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما أشرنا إليه ولم يذكر لأنه لا يتعلق بذكره غرض إذ الغرض تهويل اليوم مما ينطق فيه الجماد بقطع النظر عن الحديث كائنا من كان وقال الشيخ ابن الحاجب إنما هو متعد لواحد وما جاء بعده لتعين المفعول المطلق فعمرا قائما في حديث زيدا عمرا قائما منصوب لوقوعه موقع المصدر لا لكونه مفعولا ثانيا وثالثا ولا يقال كيف يصح أن يقع ما ليس بفعل في المعنى أعني عمرا قائما مصدرا لأنه لم يكن مصدرا باعتبار كونه قائما ولكن باعتبار كونه حديثا مخصوصا فالوجه الذي صحح الأخبار به عن الحديث إذا قلت حديث زيد عمرو قائم هو الذي صحح وقوعه مصدرا فأخبارها عليه في موقع المفعول والمفعول به محذوف لما تقدم بل قال بعضهم إنك إذا قلت حدثته حديثا أو خبرا فلا نزاع في أنه مفعول مطلق والظاهر أن الأخبار في زعمه كذلك وتعقب ذلك في الكشف بأن ما ذكره الشيخ غير مسلم فإنه لم يفرق بين التحديث والحديث والأول هو المفعول المطلق كيف وهو يجر بالباء فتقول حدثته الخبر وبالخبر ومعلوم أن ما دخل عليه الباء لا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا وقد يقال كون الشيخ لم يفرق في حيز المنع وكيف يخفى مثل ذلك على مثله لكنه قائل بأن أثر المصدر ومتعلقه قد سد مسده فيما ذكر كما سد مسده آلته في نحو ضربته سوطا ولعل ما قرره في غير ما دخلته الباء وقال الطيبي يمكن أن يقال أن حدث وأخواتها متعديات إلى مفعول واحد حقيقة وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين لمعنى الإعلام واستأنس له بكلام نقله عن المفصل وكلام نقله عن صاحب الأقليد فتأمل وقرأ ابن مسعود تنبيء أخبارها وسعيد بن جبير تنبيء بالتخفيف يومئذ أي يوم إذ ما ذكر وهو يقع ظرف لقوله تعالى يصدر الناس يخرجون من قبورهم بعد أن دفنوا فيها إلى موقف الحساب أشتاتا متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فوعين وراكبين وما شين ومقيدين بالسلاسل وغير مقيدين وعن بعض السلف متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقي وأشقى وقيل إلى مؤمن وكافر وعن ابن عباس أهل الإيمان على حدة وأهل كل على حدة وجوز أن يكون المراد كل وحد وحده لا ناصر له ولا عاضد كقوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى وقيل متفرقين بحسب الأقطار ليروا أعمالهم أي ليبصروا جزاء أعمالهم خيرا أو شرا فالرؤية بصرية والكلام على حذف مضاف أو على أنه تجوز بالأعمال عما يتسبب عنها من الجزاء وقدر بعضهم كتب أو صحائف وقال آخر لا حاجة إلى التأويل والأعمال تجسم نورانية وظلمانية بل يجوز رؤيتها مع عرضيتها وهو كما ترى وقيل المراد ليعرفوا أعمالهم ويوقفوا عليها تفصيلا عند الحساب فلا يحتاج إلى ما ذكر أيضا وقال النقاش الصدور مقابل الورود فيردون المحشر ويصدون منه متفرقين فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم من الجنة والنار وليس بذاك وأيا ما كان فقوله تعالى ليروا متعلق بيصدوا وقيل هو متعلق بأوحي لها وما بينهما اعتراض وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية ليروا بفتح الياء وقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره تفصيل ليروا والذرة نملة صغيرة حمراء رقيقة ويقال أنها تجري إذا مضى لها حول وهي علم في القلة (30/211)
قال امرؤ القيس من القاصرات الطرف لو دب محمول
من الذر فوق الأتب منها لا ثرا وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء وأخرج هناد عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها وقال كل واحدة من هؤلاء مثقال ذرة وانتصاب خيرا وشرا على التمييز لأن مثقال ذرة مقدرا وقيل على البدلية من مثقال والظاهر أن من في الموضعين عامة للمؤمن والكافر وإن المراد من رؤية ما يعادل مثقال ذرة من خير أو شر مشاهدة جزائه بأن يحصل له ذلك واستشكل بأن ذلك يقتضي إثابة الكافر بحسناته وما يفعله من الخير مع أنهم قالوا أعمال الكفرة محبطة وادعى في شرح المقاصد الإجماع على ذلك كيف وقد قال سبحانه وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقال عز و جل أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون وقال تعالى مثل الذين كفروا بربهم أهمالهم كرماد الآية وكون خيرهم الذي يرونه تخفيف العذاب يدفعه قوله تعالى فلا يخفف عنهم العذاب وقوله سبحانه زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويقتضي أيضا عقاب المؤمن بصغائره إذا اجتنب الكبائر مع أنهم قالوا إنها مكفرة حينئذ لقوله تعالى أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم وقول ابن المنير إن الأجتناب لا يوجب التكفير عند الجماعة بل التوبة أو مشيئة الله تعالى ليس بشيء لأن التوبة والأجتناب سواء في حكم النص ومشيئة الله تعالى هي السبب الأصيل فالتزم بعضهم كون المراد بمن الأولى السعداء وبمن الثانية الأشقياء بناء على أن فمن يعمل الخ تفصيل ليصدر الناس أشتاتا وكان مفسرا بما حاصله فريق في الجنة وفريق في السعير فالمناسب أن يرجع كل فقرة إلى فرقة لتطابق المفصل المجمل ولأن الظاهر قوله سبحانه فمن يعمل ومن يعمل بتكرير أداة الشرط يقتضي التغاير بين العاملين وقال آخرون بالعموم إلا أن منهم من قال في الكلام قيد مقدر ترك لظهوره والعلم به من آيات أخر فالتقدير فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبط ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره لم يكفر ومنهم من جعل الرؤية أعم مما تكون في الدنيا وما تكون في الآخرة فالكافر يرى جزاء خيره في الدنيا وجزاء شره في الآخرة والمؤمن يرى جزاء شره في الدنيا وجزاء خيره في الآخرة فقد روي البغوي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس له فيها خير ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن كوفيء ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها شر وأخرج الطبراني في الأوسط البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال بينما أبو بكر الصديق رض عنه يأكل مع النبي ص - إذ نزلت عليه فمن يعمل مثقال ذرة الآية فرفع أبو بكر يده وقال يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال عليه الصلاة و السلام يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة وفي رواية ابن مردويه عن أبي أيوب أنه ص - قال له إذ رفع يده من عمل منكم خيرا فجزاؤه في الآخرة ومن عمل منكم شرا يره في الدنيا مصيبات وأمراضا ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير دخل الجنة ومنهم من قال المراد من رؤية ما يعادل ذلك من الخير والشر مشاهدة نفسه عن غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة يعفو صغائر المؤمن المجتذب عن الكبائر وإثباته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه وبه يشعر ما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس من قوله في الآية ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا وشرا في (30/212)
الدنيا إلا أراه الله تعالى إياه فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر له من سيئاته ويثبته بحسناته وأما الكافر فيريه حسناته وسيئاته فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته واختار هذا الطيبي فقال إنه يساعده النظم والمعنى والأسلوب أما النظم فإن قوله تعالى فمن يعمل الخ تفصيل لما عقب به من قوله سبحانه يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فيجب التوافق والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والأستغراق ويصدر الناس مقيد بقوله عز و جل أشتاتا فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار بحسب أعمالهم المختلفة ومن ثم كانت الجنة ذات درجات والنار ذات دركات وأما المعنى فإنها وردت لبيان الأستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين وأما الأسلوب فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصلا وفرعا روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة سئل ص - عن الحمر أي عن صدقتها قال لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفادة المتفردة في معناها فتلاها عليه الصلاة و السلام وروي الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي ص - فقرأ عليه الآية فقال حسبي لا أبالي لا أسمع من القرآن غيرها انتهى وأقول الظاهر عموم من وكون المراد رؤية الجزاء كما تقدم وكذا الظاهر كون ذلك في الآخرة ولا إشكال وذلك لأن الفقرة الأولى وعدو الثانية وعيد ومذهبنا أن الوعد لازم الوقوع تفضلا وكرما والوعيد ليس كذلك فيفوض أمر الشر في الثانية على الدلائل وهي ناطقة بأنه إن كان كفرا لا يغفر وإن كان صغيرة من مؤمن مجتنب الكبائر يكفر وإن كان كبيرة من مؤمن أو صغيرة منه وهو غير مجتنب فتحت المشيئة وخبرا أنس وأبي أيوب السابقان لا يأبيان ذلك بعد التأمل ولا يبعد فيما أرى أن يكون ما عدا الكفر من الكافر كذلك وأما أمر الخير فباق على ما يقتضيه الظاهر وهو بالنسبة إلى المؤمن ظاهر وأما بالنسبة إلى الكافر فتخفيف العذاب للأحاديث الصحيحة فقد ورد أن حاتما يخفف الله تعالى عنه لكرمه وإن لهب كذلك لسروره بولادة النبي ص - وإعتاقه لجاريته ثوبية حين بشرته بذلك والحديث في تخفيف عذاب أبي طالب مشهور وما يدل على عدم تخفيف العذاب فالعذاب فيه محمول على عذاب الكفر بحسب مراتبه فهو الذي لا يخفف والعذاب الذي دلت الأخبار على تخفيفه غير ذلك ومعنى إحباط أعمال الكفار أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد كأعمال غيرهم وهو معنى كونها سرابا وهباء ودعوى الإجماع على إحباطها بالكلية غير تامة كيف وهم مخاطبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقا والخلاف إنما في خطابهم في غيرها من الفروع ولا شك أنه لا معنى للخطاب بها الأعقاب تاركها وثواب فاعلها وأقله التخفيف وإلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين الخفاجي عليه الرحمة ثم قال وما في التبصرة وشرح المشارق وتفسير الثعلبي من أن أعمال الكفرة الحسنة التي لا يشترط فيها الإيمان كإنجاء الغريق وإطفاء الحريق وإطعام ابن السبيل يجزون عليها في الدنيا ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإجماع للتصريح به في الأحاديث فإن عمل أحدهم في كفره حسنات ثم أسلم اختلف فيه هل يثاب عليها في الآخرة أم لا بناء على أن اشتراط الإيمان في الأعتداد بالأعمال وعدم إحباطها هل هو بمعنى وجود الإيمان عند العمل أو وجوده ولو بعد لقوله ص - في الحديث أسلمت على ما سلف لك من خير غير مسلم ودعوى الإجماع فيه غير صحيحة لأن كون وقوع جزائهم في الدنيا دون الآخرة كالمؤمنين مذهب لبعضهم وذهب آخرون إلى الجزاء بالتخفيف وقال الكرماني أن التخفيف واقع لكنه ليس بسبب عملهم بل لأمر آخر كشفاعة النبي ص - ورجائه ومنه ما يكون (30/213)
لأبي لهب كما قال الزركشي انتهى ولقائل أن يقول إن الشفاعة من آثار عمل المشفوع الخير أيضا فتأمل وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه لما نزل ويطعمون الطعام على حبه كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والبسرة فيردونه ويقولون ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ويقولون إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآية ترغبهم في القليل من الخير أن يعملوه وتحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه وفيها من دلالة الخطاب ما لا يخفى وقد كان الصحابة رض عنهم بعدها يتصدون بما قل وكثر فقد روي أن عائشة رض عنها بعث إليها ابن الزبير بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمها بين الناس فلما أمست قالت لجارتها هلمي وكانت صائمة فجاءت بخبز وزيت فقالت ما أمسكت لنا درهما نشتري به لحما نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت وجاء في عدة روايات أنها أعطت سائلا يوما حبة من عنب فقيل لها في ذلك فقالت هذه أثقل من ذر كثير ثم قرأت الآية وروي نحو هذا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك رض عنهم وكان غرضهم تعليم الناس أنه لا بأس بالتصديق بالقليل ولهم بذلك أسوة برسول الله ص - فقد أخرج الزجاجي في أماليه عن أنس بن مالك أن سائلا أتى النبي ص - فأعطاه تمرة فقال السائل نبي من الأنبياء تصدق بتمرة فقال عليه الصلاة و السلام أما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة وجاء أنه عليه الصلاة و السلام قال اتقوا النار ولو بشق تمرة ثم قرأ وتقديم عمل الخير لأنه أشرف القسمين والمقصود بالأصالة لا يخفى حسن موقعه ويعلم منه أن هذا الإحصاء لا ينافي كرمه عز و جل المطلق وما يحكى من أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل له قدمت وأخرت فقال خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه
كلا جانبي هرشي لهن طريق فغفلة عن اللطائف القرآنية أو لعله أراد أنه فيما يتعلق بالعمل لا بأس به قدم أو أخر لا أن القراءة به جائزة وقرأ الحسين ابن علي على جده وعليهما الصلاة والسلام وابن عباس رض عنهما وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي وأبو حيوة والكلبي وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه يره بضم الياء في الموضعين وقرأ هشام وأبو بكر يره بسكون الهاء فيها وأبو عمرو بضمها مشبعة وباقي السبعة بالإشباع في الأول والسكون في الثاني والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه وحكاها الكسائي أيضا عن بني كلاب وبني عقيل وقرأ عكرمة يراه بالألف فيهما وذلك على لغة من يره الجزم بحذف الحركة المقدرة على حرف العلة كما حكى لأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم أن من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى الأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم أن من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى أنه من يتق ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتق وجزم يصبر وجوز أن تكون الألف للأشباع والوجه الأول أولى والله تعالى أعلم
سورة العاديات
مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء مدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس وقد أخرج عنه البزاز وابن المنذر وابن حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه أنه قال بعث ص - خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر فنزلت والعاديات الخ (30/214)
وآيها إحدى عشرة بلا خلاف وأخرج أبو عبيد في فضائله من مرسل الحسن أنها تعدل بنصف القرآن وأخرج ذلك محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا ولم أقف على سره ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر أتبع ذلك فيها بتعنيت من آثر دنياه على آخرته ولم يستعد لها بفعل الخير ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك وأخرجت الأرض أثقالها وقوله سبحانه هنا إذا بعثر ما في القبور من المناسبة أو العلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأتفاق ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم والكنوز بسم الله الرحمن الرحيم
والعاديات الجمهور على أنه قسم بخيل الغزاة في سبيل الله تعالى التي تعدو أي تجري بسرعة نحو العدو وأصل العاديات العادوات بالواو فقلت ياء لانكسار ما قبلها وقوله تعالى ضبحا مصدر بفعله المحذوف أي تضبح أو يضبحن ضبحا والجملة في موضع الحال وضبحها صوت أنفاسها عند عدوها وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس الخيل إذا عدت قالت أح أح فذلك ضبحها وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه الضبح من الخيل الحمحمة ومن الأبل التنفس وفي البحر تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح بل هو غير الصوت المعتاد من صوت الحيوان الذي ينسب هو إليه وعن ابن عباس ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب ولا يصح عنه فإن العرب استعملت الضبح في الإبل والأسود من الحيات والبوم والأرنب والثعلب وربما تسنده إلى القوس أنشد أبو حنيفة في صفتها حنانة من نشم أو تالب
تضبح في الكف ضباح الثعلب وذكر بعضهم أن أصله للثعلب فاستعير للخيل كما في قول عنترة والخيل تكدح حين تضبح
في حياض الموت ضبحا وإنه من ضبحته النار غيرت لونه ولم تبالغ فيه ويقال انضبح لونه تغير إلى السواد قليلا وقال أبو عبيدة الضبح وكذا الضبع بمعنى العدو الشديد وعليه قيل أنه مفعول مطلق للعاديات وليس هناك فعل مقدر وجوز على تفسيره بما تقدم أن يكون نصبا على المصدرية به أيضا لكن باعتبار أن العدو مستلزم للضبح فهو في قوة فعل الضبح ويجوز أن يكون نصبا على الحال مؤولا باسم الفاعل بناء على أن الأصل فيها أن تكون غير جامدة أي والعاديات ضابحات فالموريات قدحا الإيراء إخراج النار والقدح هو الضرب والصك المعروف يقال قدح فاوري إذا أخرج النار وقدح فأصلد إذا قدح ولم يخرجها والمراد بها الخيل أيضا أي فالتي نوري النار من صدم حوافرها للحجارة وتسمى تلك النار نار الحباحب وهو اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا بها المثل حتى قالوا ذلك لما تقدحه الخيل بحوافرها والأبل بأخفافها وانتصاب قدحا كانتصاب ضبحا على ما تقدم كونه على التمييز المحول عن الفاعل أي فالمروي قدحها ولعلها أمير وأبعد عن القدح وعن قتادة الموريات مجاز في الخيل توري نار الحرب وتوقدها وهو خلاف الظاهر فالمغيرات من أغار على العدو هجم عليه بغتة بخيله لنهب أو قتل أو أسار فالإغارة صفة أصحاب الخيل وإسنادها إليها إما بالتجوز فيه أو بتقدير المضاف والأصل فالمغير أصحابها أي فالتي يغير أصحابها العدو عليها وقيل بسببها صبحا أي في وقت الصبح فهو نصب على الظرفية وذلك هو المعتاد في الغارات كانوا يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون صباحا ليروا ما يأتون وما يذرون وكانوا يتحمسون بذلك ومنه قوله (30/215)
قومي الذين صبحوا الصباحا
يوم النخيل غارة ملحاحا فأثرن به من الإثارة وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه والأصل أثورن نقلت حركة الواو إلى ما قبلها وقلبت ألفا وحذفت لاجتماع الساكنين والفعل عطف على الأسم قبله وهو العاديات أو ما بعده لأنه إسم فاعل وهو في معنى الفعل خصوصا إذا وقع صلة فكأنه قيل فاللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن ولا شذوذ في مثله لأن الفعل تابع فلا يلزم دخول أل عليه ولا حاجة إلى أن يقال هو معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه والحكمة في مجيء هذا فعلا بعد اسم فاعل على ما قال ابن المنير تصوير هذه الأفعال في النفس فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الأسم لما بينهما من التخالف وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة وكذلك التصوير بالمضارع وبعد المضارع كقول ابن معد يكرب بأني قد لقيت الغول يهوى
بشهب كالصحيفة صحصحان فآخذه فأضربه فخرت
صريعا لليدين وللجران وخص هذا المقام من الفائدة على ما قال الطيبي أن الخيل وصف بالأوصاف الثلاثة ليرتب عليها ما قصد من الظفر بالفتح فجيء بهذا الفعل الماضي وما بعده مسببين عن أسماء الفاعلين فأفاد ذلك أن تلك المداومة أنتجت هاتين البغيتين ويفهم منه أن الفاء لتفريع ما بعدها عما قبلها وجعله مسببا عنه وسيأتي الكلام فيها قريبا إن شاء الله تعالى وضمير به للصبح والباء ظرفية أي فهيجن في ذلك الوقت نقعا غبارا وتخصيص آثاره بالصبح لأنه لا يثور أولا يظهر ثورانه بالليل وبهذا يظهر أن الإيراد الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل وفي ذكر إثارة الغبار إشارة بلا غبار إلى شدة العدو وكثرة الكر والفر وكثيرا ما يشيرون به إلى ذلك ومنه قول ابن رواحة عدمت بنيتي أن لم تروها
تثير النقع من كنفي كداء وقال أبو عبيدة النقع رفع الصوت ومنه قول لبيد فمتى ينقع صراخ صادق
يحلبوه ذات جرس وزجل وقول عمر رض عنه وقد قيل له يوم توفي خالد بن الوليد أن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد ما على نساء بني المغيرة أن يسفكن على أبي سليمان دموعهن وهن جلوس ما لم يكن نقع ولا لقلقة والمعنى عليه فيهجين في ذلك الوقت صباح وهو صياك من هجم عليه وأوقع به والمشهور المعنى الأول وجوز كون ضمير به للعدو الدال عليه العاديات أو للأغارة الدال عليها المغيرات والتذكير لتأويلها بالجري ونحوه والباء للسببية أو للملابسة وجوز كونها ظرفية أيضا والضمير للمكان الدال عليه السياق والأول أظهر وألطف ومثله به في قوله عز و جل فوسطن به أي فتوسطن في ذلك الوقت جمعا من جموع الأعداء وجوز فيه وفي بائه نحو ما تقدم في به قبله وجوز أيضا كون الضمير للنقع والباء للملابسة أي فتوسطن ملتبسات بالنقع جمعا أو هي على ما قيل للتعدية أن أريد أنها وسطت الغبار والفاآت كما في الإرشاد للدلالة على ترتيب ما بعد كل منها على ما قبله فتوسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة فأثرن وفوسطن بتشديد الثاء والسين وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى الأول كالجمهور والثاني كذين والمعنى على تشديد الأول فأظهرن به غبارا لأن التأثير فيه معنى الإظهار وعلى التشديد الثاني على نحو ما تقدم فقد نقلوا أن وسط مخففا بمعنى واحد وأنهما لغتان وقال ابن جني المعنى ميزن به جمعا أي (30/216)
جعلنه شطرين أي قسمين وشقين وقال الزمخشري التشديد فيه للتعدية والباء مزيدة للتأكيد كما في قوله تعالى وأوتوا به في قراءة وهي مبالغة في وسطن وجوز أن يكون قلب ثورن إلى وثرن ثم قلبت الواو همزة فالمعنى على ما مر وهو تمحل مستغنى عنه وعن السدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير أنهم قالوا العاديات هي الإبل تعدو ضبحا من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحا فقلت الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى ثم تأوى إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني فذهب إلي علي بن أبي طالب رض عنه وهو جالس تحت سقاية زمزم فسأله عن العاديات ضبحا فقال سألت عنها أحدا قبلي قال نعم سألت عنها ابن عباس فقال هي الخيل تغير في سبيل الله تعالى فقال اذهب فادعه لي فلما وقفت على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام لبدر ومان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقدادين الأسود فكيف تكون العاديات ضبحا إنما العاديات ضبحا الإبل تعد من عرفة إلى المزدلفة فإذا أوو إلى المزدلفة أوروا النيران والمغيرات صبحا من المزدلفة إلى منى فذلك جمع وأما قوله تعالى فأثرن به نقعا فهو نقع الأرض حين تطؤها بخفافها قال ابن عباس فنزعت عن قولي إلى قول علي كرم الله تعالى وجهه ورضي الله تعالى عنه واستشكل رده كرم الله تعالى وجهه كون المراد بها الخيل بما كان من أمر غزوة بدر بأن ابن عباس لم يدع أن أل في العاديات للعهد وأنها إشارة إلى عاديات بدر ولا أن السورة نزلت في شأن تلك الغزوة ليلزم في تحقق ذلك فيها ودخولها تحت العموم بل ظاهر كلامه حمل ذلك على جنس الخيل التي تعدو في سبيل الله عز و جل وإن حملت على العهد وقيل أن المعهود هو الخيل التي بعثها عليه الصلاة و السلام للغزو على ما سمعت صدر السورة وكذا على ما روي من أنه عليه الصلاة و السلام بعث إلى أناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأصاري وكان أحد النقباء فأبطأ عليه ص - خبرها شهرا فقال المنافقون أنهم قتلوا فنزلت السورة إخبارا له عليه الصلاة و السلام بسلامتها وبشارة له ص - بإغارتها على القوم لم يبعد وأجيب بأنه كرم الله تعالى وجهه أراد أن غزوة بدر هي أفضل غزوات الإسلام وبدرها الذي ليس فيه إنثلام فيتعين أن لا تكون المراد ذلك ويسلك في الآية ما يناسبها من المسالك ولا يخفى أن هذا الجواب لا يتحمل لمزيد ضعفه الإغارة عليه وإطلاق أعنة عاديات الأفكار إليه والأحرى أن الخبر لا صحة له وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند أهل الأثر بكثرة التساهل فيه وأنه غير معتبر ثم أن النقل عنه رض عنه في المراد بالعاديات متعارض فما تقدم أنه إبل الحجاج ونقل صاحب التأويلات أنه كرم الله تعالى وجهه فسرها بابل بدر وإن ابن مسعود هو الذي فسرها بإبل الحجاج ويرجح إرادة الخيل أن إثارة النقع فيها أظهر منها في الإبل ثم أن ذلك الخبر يقتضي أن للقسم به نوعان الخيل والإبل وجماعة الغزاة أو الحجاج الموقدة نارا لطعامها أو نحوه وفي بعض الآثار عن ابن عباس ما هو أصرح مما تقدم في تفسير الموريات بما يغاير العاديات بالذات ففي البحر عنه أنها الجماعة التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها وفي رواية أخرى عنه تلك جماعة الغزاة تكثر النار أرهابا ورويت المغايرة عن آخرين أيضا فعن مجاهد وزيد بن أسلم وهي رواية أخرى عن ابن عباس هي الجماعة تمكر في الحرب فالعرب تقول إذا أرادت المكر بالرجل والله لأورين له ومن الغريب ما روي عن عكرمة أنها ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما يتكلم به ويظهر من الحجج والدلائل وإظهار الحق وإبطال الباطل وهو كما ترى
ومن البطون والإشارات أن (30/217)
يكون المقسم به النفوس العادية أثر كما لهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس فأثرن به شوقا فوسطن بذلك الشوق جمعا من جموع العليين ومثله ما قيل أن ذلك قسم بالهمم القالبية التي تعدو في سبيل الله تعالى خارجا من جوف اشتياقها صوت الدعاء من شدة العدو وغاية الشوق بحيث يسمع الروحانيون ضجيج دعائها وتضرعها والتماسها سلوك الطريق الوعر الذى يتعلق بجبال القالب الموريات بحوافر الذكر نار الهداية المستكنة فى حجر القالب وقت تخمير اللطيفة والمغيرات بعد سلوكها فى جبال القالب الراسية فى ظلام الليل القالبى وعبورها عنها الى أفق عالم النفس وتنفس صبح النفس على الخواطر النفسية وشؤنها فهيجن بذلك الجرى غبار الخواطر وأثرنه لئلا يختفى خاطر من الخواطر فوسطن بذلك جمعا من جنود القوى القلبية وحزب الخواطر الذكرية التى هى حزب الرحمن فى وسط عالم النفس ولهم فى هذا الباب غير ذلك وأياما كان فالمقسم عليه قوله تعالى ان الانسان لربه لكنود أى لكفور جحود من كند النعمة كفرها ولم يشكرها وأنشدوا كنود لنعماء الرجال ومن يكن
كنود لنعماء الرجال يبعد وعن ابن عباس ومقاتل الكنود بلسان كندة وحضر موت العاصى وبلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كنانة البخيل السىء الملكة ومنه الارض الكنود التى لاتنبت شيئا وقال الكلبى نحوه الا أنه قال وبلسون مالك البخيل ولم يذكر حضر موت بل اقتصر على كندة وتفسيره بالكفور هنا مروى عن ابن عباس والحسن وأخرجه ابن عساكر عم ابن امامة مرفوعا الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفى رواية أخرى عن الحسن انه قال هو اللائم لربه عز و جل يعد السيآت وينسى الحسنات وروى الطبرانى وغيره بسند ضعيف عن أبى امامة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتدرون ماالكنود قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال هو الكفور الذى يضرب عبده ويمنع رفده ويأكل وحده وأخرج البخارى فى الادب المفرد والحكم الترمذى وغيرهما تفسيره بالذى يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده موقوفا على أبى امامة والجمهور على تفسيره بالكفور وكل مما ذكر لايخلو عن كفران والكفران المبلغ فيه يجمع صنوفا منه وال فى الانسان للجنس والحكم عليه بما ذكر باعتبار بعض الافراد وقيل المراد به كافر معين لما روى عن ابن عباس أنها نزلت فى قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشى وأيد بقوله تعالى بعد أفلا يعلم الخ لانه لايليق الابالكافر وفى الامرين نظر وقيل المراد به كل الناس على معنى أن طبع الانسان يجمله على ذلك الا اذا عصمه الله تعالى بلطفه وتوفيقه من ذلك واختاره عصام الدين وقال فيه مدح للغزاة لسعيهم على خلاف طبعهم 0 ولربه متعلق بكنود واللام غير مانعة من ذلك وقدم للفاصلة مع كونه أهم من حيث ان الذم البالغ انما هو على كنود نعمته عز و جل وقيل للتخصيص على سبيل المبالغة وانه أى الانسان كما قال الحسن ومحمد بن كعب على ذلك أى على كنوده لشهيد لظهور أثره عليه فالشهادة بلسان الحال الذى هو أفصح من لسان المقال وقيل هى بلسان المقال لكن فى الآخرة وقيل شهيد من الشهود لامن من الشهادة بمعنى أنه كفور مع علمه بكفرانه وعمل السوء مع العلم به غاية المذمة والظاهر الاول وقال ابن عباس وقتادة ضمير أنه عائد على الله تعالى أى وان ربه سبحانه شاهد عليه فيكون الكلام على سبيل الوعيد واختاره التبريزى فقال هو الاصح لان الضمير يجب عوده الى أقرب مذكور قبله وفيه ان الوجوب ممنوع واتساق الضمائر وعدم تفكيكها يرجح الاول فان الضمير السابق أعنى ضمير لربه للانسان ضرورة وكذا الضمير اللاحق أعنى الضمير فى قوله تعالى وانه لحب الخير أى المال (30/218)
وورد بهذا المعنى فى القرآن هو المال وخصه بعضهم بالمال الكثير وفسر به فى قوله تعالى ان ترك خيرا الوصية واطلاق كونه خيرا باعتبار مايراه الناس والا فمنه ماهو الشر يوم القيامة واللام للتعليل أى أنه لاجل حب المال لشديد أى لبخيل كما قيل وكما يقال للبخيل شديد يقال له متشدد كما فى قول طرفة أرى الموت يعترى الكرام ويصطفى
عقيلة مال الفاحش المتشدد وشديد فيه يجوز أن يكون بمعنى مفعول كأن البخيل شد عن الافضال ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كانه شد صرته فلا يخرج منها شيئا وجوز غير واحد ان يراد بالشديد القوى ولعله الاظهر وكان اللام عليه بمعنى فى أى وانه لقوى مبالغ فى حب المال والمراد قوة حبه له وقال الزمخشرى المعنى وانه لحب المال وايثار الدنيا وطلبها قوى مطيق وهو لحب عبادة الله تعالى وشكر نعمته سبحانه ضعيف متقاعس تقول هو شديد لهذا الامر وقوى له اذا كان مطيقا له ضابط وجعل النيسابورى اللام على هذا التعليل وليس بظاهر فتأمل وقال الفراء يجوز ان يكون المعنى وانه لحب الخير لشديد الحب يعنى انه يحب المال ويحب كونه محبا له الا أنه اكتفى بالحب الاول عن الثانى كما قال تعالى اشتدت به الريح فى يوم عاصف أى فى يوم عاصف الريح فاكتفى بالاولى عن الثانية وقال قطرب أى انه شديد لحب الخير كقولك فى انه لزيد ضروب فى انه ضروب لزيد وظاهر التمثيل انه اعتبر حب الخير مفعولا به لشديد وان شديد اسم الفاعل جىء به على فعيل للمبالغة وان اللام فى لحب للتقوية وفيه مافيه وقيل يجوز أن يعتبر أن شديدا صفة مشبهة كانت مضاففة الى مرفوعها وهو حب المضاف الى الخير اضافة المصدر الى مفعوله ثم حول الاسناد وانتصب المرفوع على التشبيه بالمفعول به ثم قدم وجر باللام وفيه مع قطع النظر عن التكلف أن تقدم معمول الصفة عليها لايجوز وكونه مجرورا فى مثل ذلك لايجدى نفعا اذ ليس هو فيه نحو زيد بك فرح كما لايخفى ويفهم من كلام الزمخشرى فى الكشاف جواز أن يراد به ماهو عنده تعالى من الطاعات عاى أن المعنى انه لحب الخيرات غير هش منبسط ولكنه شديد منقبض وقوله تعالى أفلا يعلم اذا بعثر مافى القبور الخ تهديد ووعيد والهمزة للانكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ومفعول يعلم محذوف وهو العامل فى اذا وهى ظرفية أى أيفعل مايفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم الآن مآله اذا بعثر من فى القبور من الموتى وايراد مالكونهم اذ ذاك بمعزل من رتبة العقلاء وقال الحوفى العامل فى اذا الظرفية يعلم وأورد عليه أنه لايراد منه فى ذلك الوقت بل العلم فى الدنيا وأجيب بأن هذا انما يرد اذا كان ضمير يعلم راجعا الى الانسان وذلك غير لازم على هذا القول لجواز أن يرجع اليه عز و جل ويكون مفعولا يعلم محذوفين والتقدير أفلا يعلمهم الله تعالى عاملين بما عملوا اذا بعثر على أن يكون العلم كناية عن المجازاة والمعنى أفلا يجازيهم اذا بعثر ويكون الجملة المؤكدة بعد تحقيقا وتقرير لهذا المعنى وهو كما ترى وقيل ان اذا مفعول به ليعلم على معنى أفلا يعلم ذلك الوقت ويعرف تحققه وقل ان العامل فيها يعثر بناء على أنها شرطية غير مضافة قالوا ولم يجوز أن يعمل فيها لخبير لان مابعد ان لايعمل فيما قبلها وأوجه الاوجه ماقدمناه وتعدى العلم اذا كان بمعنى المعرفة لواحد شائع وتقدم تحقيق معنى البعثرة فتذكر 0 وقرأ عبد الله بحثر بالحاء والثاء المثلثة وقرأ الاسود بن زيد بحث بهما بدون راء وقرأ نصر بن عاصم بحثر كقراءة عبد الله لكن بالبناء للفاعل وحصل مافي الصدور أي جمع مافي القلوب من العزائم المصممة وأظهر كاظهار اللب من القشر وجمعه أو ميز خيره من شره فقد استعمل حصل الشىء بمعنى ميزه كما في البحر وأصل التحصيل اخراج اللب من القشر كاخراج الذهب من حجر المعدن (30/219)
والبر من التبن وتخصيص ما في القلوب لأنه الأصل لأعمال الجوارح ولذا كانت الاعمال بالنيات وكان اول الفكر آخر العمل فجميع ماعمل تابع له فيدل على الجميع صريحا وكناية وقرأابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي معدان وحصل مبنيا للفاعل وهو ضميره عز و جل وقرأ ابن يعمر ونصر ايضا حصل مبنيا للفاعل خفيف الصاد فما عليه هو الفاعل ان ربهم أي المبعوثين كنى عنهم بعد الاحياء الثاني بضمير العقلاء بعد ماعبر عنهم قبل ذلك بما بناء على تفاوتهم في الحالين بهم بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها يومئذ أي يوم اذ يكون ماعد من بعث مافي القبور وتحصيل مافي الصدور والظرفان متعلقان بقوله تعالى لخبير أى عالم بظواهر ماعملوا وبواطنه علما موجبا للجزاء متصلا به كما ينىء عنه تقييده بذلك اليوم والا فمطلق علمه عز و جل بما كان وما سيكون 0 وقرأ أبو السمال والحجاج ان ربهم بهم يومئذ خبير بفتح همزة أن واسقاط لام التاكيد فان وما بعدها في تأويل مصدر معمول ليعلم على مااستظهره بعضهم وأيد به كون يعلم معلقة عن العمل في أن ربهم الخ على قراءة الجمهور لمكان اللام واذا على هذا لايجوز تعلقها بخبير أيضا لكونه في صلة ان المصدرية فلا يتقدم معموله عليها ويعلم أمره مما تقدم وقيل الكلام على تقدير لام التعليل وهي متعلقة بحصل كأنه قيل وحصل مافي الصدور لان ربهم بهم يومئذ خبير والاول أظهر والله تعالى أعلم وأخبر 0
سورة القارعة
مكية بلا خلاف وآيها احدى عشرة آية في الكوفي وعشرة في الحجازي وثمان في البصري والشامي ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تذكر 0 بسم الله الرحمن الرحيم
القارعة ماالقارعة وما أدريك ماالقارعة الجمهور على انها القيامة نفسها ومبدوها النفخة الاولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق وقيل صوت النفخة وقال الضحاك هي النار ذات التغيظ والزفير وليس بشيء وأياما كان فهي من القرع وهو الضرب بشدة بحيث يحصل منه صوت شديد وقد تقدم الكلام فيها وكذا مايعلم منه اعراب ماذكر في الكلام على قوله تعالى الحاقة ماالحاقة وماأدراك ماالحاقة وقرأ عيسى القارعة بالنصب وخرج على أنه باضمار فعل أى اذكر القارعة وقوله تعالى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث قيل أيضا منصوب باضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة و السلام الى معرفتها اذكر يوم يكون الناس الخ فانه يدريك ما هي وقال الزمخشري ظرف لمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم وقال الحوفي ظرف تاتي مقدرا وبعضهم قدر هذا الفعل مقدما على القارعة وجعلها فاعلا له أيضا وقال ابن عطية ظرف للقارعة نفسها من غير تقدير ولم يبين أي القوارع أراد وتعقبه أبو حيان بانه ان اراد اللفظ الاول ورد عليه الفصل بين العامل وهو في صلة أل والمعمول بالخبر وهو لايجوز وان اراد الثاني أو الثالث فلا يلتئم معنى الظرف معه وأيد بقراءة زيد بن على يوم بالرفع على ذلك وقدر بعضهم المبتدأ وقتها والفراش قال في الصحاح جمع فراشة التي تطير وتهافت في النار وهو المروىى عن قتادة وقيل هو طير رقيق يقصد النار ولايزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق وقال الفراء هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الارض ويركب بعضه بعضا من الهول وقال صاحب التأويلات اختلفوا في تأويله على وجوه لكن كلها ترجع (30/220)
الى معنى واحد وهو الإشارة الى الحيرة ةالاضطراب من هول ذلك اليوم واختار غير واحد ماروى عن قتادة وقالوا شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجىء والذهاب على غير نظام والتطاير الى الداعى من كل جهة حين يدوعهم الى المحشر بالفراش المتفرق المتطاير قال جرير 0 ان الفرزدق ماعلمت وقومه
مثل الفراش غشين نار المصطلى وتكون الجبال كالعهن أي الصوف مطلقا أو المصبوغ كما قيده الراغب به وقد تقدم الكلام فيه في المعارج وكان بمعنى صار أي وتصير جميع الجبال كالعهن المنفوش المفرق بالاصبع ونحوها في تفرق اجزائها وتطايرها في الجو حسبما ينطق به غير آية وقوله تعالى فأما من ثقلت موازينه الى آخره بيان اجمالي لتحزب الناس حزبين وتنبيه على كيفية الاحوال الخاصة بكل نهما اثر بيان الاحوال الشاملة للكل وهذا اشارة الى وزن الاعمال وهو مما يجب الايمان به حقيقة ولايكفر منكره ويكون بعد تطاير الصحف وأخذها بالايمان والشمائل وبعد السؤال والحساب كما ذكره الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الاسرار بميزان له لسان وكفتان كاطباق السموات والارض والله تعالى أعلم بما هيته وقد روى القول به عن ابن عباس والحسن البصري وعزاه في شرح المقاصد لكثير من المفسرين وكانه بين الجنة والنار كما في نوادر الاصول وذكر يتقبل به العرش أخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا الى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه والاشهر الاصح انه ميزان واحد كما ذكرنا لجميع الامم ولجميع الاعمال فقوله تعالى موازينه وهو جمع ميزان وأصله موزان بالواو لكن قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها قيل للتعظيم كالجمع في قوله تعالى كذبت عاد المرسلين في وجه أو باعتبار أجزائه نحو شابت مفارقه أو و باعتبار تعدد الافراد للتغاير الاعتباري كما قيل فى قوله
لمعان برق أو شعاع شموس
وزعم الرازي على مانقل عنه أن فيه حديثا مرفوعا وقال آخرون يوزن نفس الاعمال فتصور الصالحة بصور حسنة نورانية ثم تطرح في كفة النور وهي اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل الله تعالى وتصور الاعمال السيئة بصور قبيحة ظلمانية ثم تطرح في كفة الظلمة وهي الشمال فتخف بعدل الله تعالى وامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات ممنوع أو مقيد ببقاء آثار الحقيقة الاولى وقد ذهب بعضهم الى أن الله تعالى يخلق أجساما على عدد تلك الاعمال من غير قلب لها وادعى ان فيه أثرا والظاهر ان الثقل والخفة مثلها في الدنيا فما ثقل نزل الى أسفل ثم يرتفع الى عليين وما خف طاش الى أعلى ثم نزل الى سجين وبه صرح القرطبي وقال بعض المتأخرين هما على خلاف مافي الدنيا وأن عمل المؤمن اذا رجح صعد وثقلت سيآته وان الكافر تثقل كفته لخو الاخرى من الحسنات ثم تلا والعمل الصالح يرفعه وفي كونه دليلا نظر وذكر بعضهم أن صفة الوزن أن يجعل جميع أعمال العباد في الميزان مرة واحدة الحسنات في كفة النور عن يمين العرش جهة الجنة والسيآت في كفة الظلمة جهة النار ويخلق الله تعلى لكل انسان علما ضروريا يدرك به خفة أعماله وثقلها وقيل نحوه الا ان علامة الرجحان عمود من نور يثور من كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيآت وعلامة الخفة عمود ظامة يثور من كفة السيآت حتى يكسو كفة الحسنات فالكيفيات أربع وستظهر حقيقة الحال بالعيان وهو قال القرطبي لايكون في حق كل أحد لما في الحديث الصحيح فيقال يامحمد أدخل الجنة من أمتك من لاحساب عليهم من الباب الايمن الحديث وأخرى الانبياء عليهم السلام وقوله سبحانه يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام وانما يبقى الوزن لمن شاء الله تعالى من الفريقين وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لاتوزن أعمالهم وانما يصب لهم (30/221)
الأجر صبا والظاهر أنه يدرج المنافق في الكافر والحق أن أعمالهم مطلقا توزن لظواهر الآيات والاحاديث الكثيرة والمراد في الآية وزنا نافعا والصحيح ان الجن مؤمنهم وكافرهم كالانس في هذا الشأن كما قرر في محله والتقسيم فيما نحن فيه على ماسمعت عن القرطبي بالنسبة الى من توزن أعماله لابالنسبة الى الناس مطلقا وأنكر المعتزلة الوزن حقيقة وجماعة من أهل السنة والجماعة منهم مجاهد والضحاك والاعمش قالوا ان الاعمال أعراض ان أمكن بقاؤها لايمكن وزنها فالوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل وجوزوا فيما هنا أن تكون الموازين جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى وان معنى ثقلها رجحانها وروى هذا عن الفراء أي فمن ترجحت مقادير حسناته وزنها فهو في عيشة راضية المشهور جعل ذلك من باب النسب أي ذات رضا وجوز ان تكون راضية بمعنى المفعول أى مرضية على التجوز في الكلمة نفسها وأن يكون الاسناد مجازيا وهو حقيقة الى صاحب العيشة وجوز ان يكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية على ماقرر في كتب المعاني لكن ذكر بعض الاجلة ههنا كلاما نفسيا وهو أن ماكان للنسب يؤول بذي كذا فلا يؤنث لانه لم يجر على موصوف فالحق بالجوامد ونقل عن السيرافي انه قال يقدح فيما عللوا به سقوط الهاء في عيشة راضية وفيه وجهان أحدهما أن تكون بمعنى انها راضية أهلها فهي ملازمة لهم راضية بهم والآخر أن تكون الهاء للمبالغة كعلامة ورواية ووجه بان الهاء لزمت لئلا تسقط الياء فيخل بالبنية كناقة مشلية وكلبة مجرية وهم يقولون ظبية مطفل ومشدان وباب مفعل ومفعال لا يؤنث وقد ادخلوا الهاء في بعضه كمصكة انتهى ثم قال ان هذا حقيق بالقبول ومحصله الجواب بوجوه أحدهما ان راضية هنا فيه ليس من باب النسب بل هو اسم فاعل أريد به لازم معناه لان من شاء شيئا ورضى به لازمه فهو مجاز مرسل أو استعارة ويجوز ان يراد أنه مجاز في الاسناد وما ذكر بيان لمعناه الثاني ان الهاء للمبالغة ولا تختص بفعال ولذا مثل برواية أيضا والثلث أنه يجوز الحاق الهاء في المعتل لحفظ البنية ومصكة اما شاذا ولتشبه المضاعف بالمعتل انتهى فاحفظه فانه نفيس خلاعنه أكثر الكتب وأما من خفت موازينه بان لم يكن له حسنة يعتد بها او ثقلت سيآته على حسناته فأمه أي فماواه كما قال ابن زيد وغيره هاوية أريد بها النار كما يؤذن به قوله تعالى وما أدريك ماهيه نار حامية فانه تقرير لها بعد ابهامها والاشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل وذكر أن اطلاق ذلك عليها لغاية عمقها وبعد مهواها فقد روى أن أهل النار تهوى فيها سبعين خريفا وخصها بعضهم بالباب الاسفل من النار وعبر عن المأوى بالام عل التشبيه بها فالام مفزع الولد ومأواه وفيه تهكم به وقيل شبه النار بلام في انها تحيط به احاطة رحم الولد بالام 0 وعن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم المعنى فام رأسه هاوية في قعر جهنم لانه يطرح فيها منكوسا وفي رواية أخرى عن قتادة هو من قولهم اذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لانه اذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ومن ذلك قول كعب بن سعد الغنوي هوت أمه مايبعث الصبح غاديا
وماذا يرد الليل حين يؤب وفي الكشف ان هذا أحسن ليطابق قوله سبحانه في عيشة راضية وما فيه من المبالغة وقال الطيبي أنه الاظهر وللبحث فيه مجال والضمير أعنى هي عليه للداهية التي التي دل عليها الكلام وعلى ما قدمناه لهاوية وعلى الوجه الثاني لما يشعر به الكلام كأنه قيل فأم رأسه هاوية في نار وما أدراك ماهيه الخ والهاء الملحقة في هيه هاء السكت وحذفها في الوصل ابن أبي اسحق والاعمش وحمزة وأثبتها الجمهور ورفع نار على انها خبر (30/222)
مبتدأ محذوف أي هي نار وحامية نعت لها وهو من الحمى اشتداد الحر قال في القاموس حمى الشمس والنار حميا وحميا وحموا اشتد حرهما وجعله بعضهم على ماقيل من حميت القدر فهي محمية ففسره بذات حمى وهو كما ترى وقرأ طلحة فامه بكسر الهمزة قال ابن خالويه وحكى ابن دريد أنها لغة وأما النحويون فيقولون لايجوز كسر الهمزة الا ان يتقدمها كسرة أو ياء والله تعالى أعلم
سورة التكاثر
وكان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي هلال يسمونها المقبرة وهي مكية قال أبو حيان عند جميع المفسرين وقال الجلال السيوطي على الاشهر ويدل لكونها مدنية وهو المختار ماأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة فيها قال نزلت في قبيلتين من قبائل الانصار في بني حارثة وبني الحرث تفاخروا وتكاثروا فقالت احداهما فيكم مثل فلان وفلان وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالاحياء ثم قالوا انطلقوا بنا الى القبور فجعلت احدى الطائفتين تقول فيكم مثل فلان تشير الى القبر ومثل فلان وفعل الآخرون مثل ذلك فانزل الله تعالى ألهاكم التكاثر الخ وأخرج البخاري وابن جرير عن أبي ابن كعب قال كنا نرى هذا من القرآن لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ثم يتوب الله على من تاب حتى نزلت ألهاكم التكاثر وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن على كرم الله تعالى وجهه مازلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التكاثر وعذاب القبر لم يذكر الا في المدينة كما في الصحيح في قصة اليهودية انتهى ولقوة الادلة على مدنيتها قال بعض الاجلة انه الحق 0 وآيها ثمان بالاتفاق وهي تعدل ألف آية من القرآن أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم وفي كل يوم قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية قال أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ في ألف آية لقى الله تعالى وهو ضاحك في وجهه فقيل يارسول الله من يقوى على ألف آية فقرأ سورة ألهاكم التكاثر الى آخرها ثم قال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده انها لتعدل ألف آية وذكر ناصر الدين بن الميلق في سر ذلك أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية وكسر فاذا تركنا الكسر كان الالف سدس القرآن وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن فانها على ماذكره الغزالي ستة ثلاثة مهمة وهي تعريف المدعو اليه وتعريف الصراط المستقيم وتعريف الحال عند الرجوع اليه عز و جل وثلاثة متمة وهي تعريف أحوال المطيعين وحكاية أقوال الجاحدين وتعريف منازل الطريق وأحدهما معرفة الآخرة المشاراليه بتعريف الحال عند الرجوع اليه تعالى المشتمل عليه السورة والتعبير على هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل من التعبير بالسدس انتهى 0 والامر والله تعالى أعلم وراء ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة بسم الله الرحمن الرحيم
ألهيكم أي شغلكم وأصل اللهو الغفلة ثم شاع في كل شاغل وخصه العرف بالشاغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب ولذا ورد بمعناه كثيرا وقال الراغب اللهو مايشغلك عما يعني ويهم وقيل وليس بذاك المراد به هنا الغفلة والمعنى جعلكم لاهين غافلين التكاثر أي التباري في الكثرة والتباهي بها بأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر حتى زرتم المقابر حتى اذا استوعبتم عدد الأحياء (30/223)
صرتم الى المقابر وانتقلتم الى ذكر من فيها فتكاثرتم بالاموات فالغاية داخلة في المغيا وقد تقدم من سبب النزول مايوضح ذلك 0 وعن الكلبي ومقاتل أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرتهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم ان البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالاحياء والاموات فكثرتهم بنو سهم وزيارة المقابر على ماتقدم على ظاهلها وأما على هذا فقد عبر بها عن بلوغهم ذكر الموتى كناية أو مجازا واستحسن جعله تمثيلا وفي الكشاف عبر ذلك عما ذكر تهكما بهم ووجهه بعض بأنه كانه قيل أنتم في فعلكم هذا كمن يزور القبور من غير غرض صحيح وبعض آخر بأن زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت وهم عكسوا فجعلوها سببا للغفلة وهذا أولى والمعنى ألهاكم ذلك وهو لايعنيكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعني من كل مهم وحذف الملهى عنه للتعظيم المأخوذ من الابهام بالحذف والمبالغة في الذم حيث أشار الى أن مايلهى مذموم فضلا عن الملهى عن أمر الدين وقيل المراد ألهاكم التكاثر بالاموال والاولاد الى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق اليها والتهالك عليها الى أتاكم اموت لاهم لكم غيرها عما هو أولى بكم من من السعي لعاقبكم والعمل لآخرتكم وصدره قد أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس وهو وابن أبي حاتم 0 وابن أبي شيبة عن الحسن وزيارة المقابر عليه عبارة عن الموت كما قال الشاعر اني رأيت الضمد شئا نكرا
لن يخلص العام خليل عشرا
ذاق الضماد أو يزور القبرا وقال جرير زار القبور أبو مالك
فاصبح ألأم زوارها وفي ذلك اشارة الى تحقق البعث يحكي أن اعرابيا سمع ذلك فقال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فان الزائر منصرف لامقيم وعن عمر بن عبد العزيز انه قال لابد لمن زار أن يرجع الى جنة أو نار وفيه أيضا اشارة الى قصر زمن اللبث في القبور والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو لتغلب من مات أولا أو لجعل موت آبائهم بمنزلة موتهم 0 ومما يقضي منه العجب قول أبي مسلم ان الله عز و جل يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور وقيل هذا تأنيب على الاكثار من زيارة القبور تكثرا بمن سلف ومباهاة وتفاخرا به لااتعاظا وتذكرا للآخرة كما هو المشروع ويشير اليه خبر ابي داود نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانها تذكركم الآخرة ولايخفى ان الآية بمعزل عن ذلك نعم لاكلام في ذم زيارة القبور للتفاخر بالمزور أو للتباهي بالزيارة كما يفعل كثير من الجهلة المنتسبين الى المتصوفة في زياراتهم لقبور المشايخ عليهم الرحمة هذا مع مالهم فيها من منكرات اعتقدوها طاعات وشنائع اتخذوها شرائع الى أمور تضيق عنها صدور السطور وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة آلهاكم بالمد على الاستفهام وروى عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه وابن عباس أيضا والشعبي وابي العالية وأبن أبي عبلة والكسائي في رواية أألهاكم بهمزتين والاستفهام للتقرير كلا ردع عن الاشتغال بما لايعنيه عما يعنيه وتنبه على الخطأ فيه لان عاقبته وخيمة سوف تعلمون سوء مغبة ماأنتم عليه اذا عاينتم عاقبته والعلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد ثم كلا سوف تعلمون تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ كما يقول العظيم لعبده أقول لك ثم أقول لك لاتفعل قيل ولكونه أبلغ نزل منزلة المغايرة فعطف والا فالمؤكد لايعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال وأنت تعلم ان المنع هو رأي اللغويين وقد صرح المفسرون والنحاة بخلافه 0 وقال علي ابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه الاول في القبور والثاني في النشور فلا تكرير والتراخي على ظاهره ولا كلام في العطف وقال الضحاك الزجر الأول ووعيده (30/224)
للكافرين وما بعد للمؤمنين وهو خلاف الظاهر كلا لو تعلمون علم اليقين أي لو تعلمون مابين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ماتستيقنونه من الامور فالعلم مضاف للمفعول واليقين بمعنى المتيقن صفة لمقدور وجوز أبو حيان كون الاضافة من اضافة الموصوف الى صفته أي العلم اليقين وفائدة الوصف ظاهرة بناء على أن العلم يطلق على غير اليقين وجواب لو محذوف للتهويل أي لو تعلمون كذلك لفعلتم مالايوصف ولايكتنه أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره أو نحو ذلك وقوله تعالى لترون الجحيم جواب قسم مضمور أكد به الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ماأنذروه بعد ابهامه تفخيما ولايجوز أن يكون جواب لو الامتناعية لانه محقق الوقوع وجوابها لايكون كذلك وقيل يجوز ويكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال سبحانه لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني تكون الجحيم دائما في نظركم لاتغيب عنكم وهو كما ترى ثم لترونها تكرير للتأكيد وثم للدلالة على الابلغية وجوز أن تكون الرؤية الاولى اذا رأتهم من بعيد والثاني اذا دخلوها أو وردوها والثانية اذا دخلوها أو الاولى المعرفة والثانية المشاهدة والمعاينة وقيل يجوز أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة اشارة الى الخلود وهذا نحو التثنية في قوله تعالى فارجع البصر كرتين وهو خلاف الظاهر جدا عين اليقين أي الرؤية التي هي نفس اليقين فان الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات فهو أحق بأن يكون عين اليقين فعين بمعنى النفس مثله في نحو جاء زيد نفسه وهو صفة مصدر مقدر أي رؤية عين اليقين والعامل فيه لترونها وجوز أن يكون متنازعا فيه للفعلين قبله وفي اطلاقه كلام لاأظنه يخفى عليك واليقين في اللغة على ما قال السيد السند العلم الذي لاشك فيه وفي الاصطلاح اعتقاد الشىء انه كذا مع اعتقاد انه لايمكن الا كذا اعتقادا مطابقا للواقع غير ممكن الزوال وقال الراغب اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية واخوتهما يقال علم يقين ولايقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الفهم وفسر السيد اليقين بما سمعت ونقل عن أهل الحقيقة عدة تفسيرات فيه وعلم اليقين بما أعطاه الدليل من ادراك الشىء على ماهو عليه وعين اليقين بما أعطاه المشاهدة والكشف وجعل وراء ذلك حق اليقين وقال على سبيل المثال علم كل عاقل بالموت علم اليقين واذا عاين الملائكة عليهم السلام غهو عين اليقين واذا ذاق الموت فهو حق اليقين واهم غير ذلك ومبنى اكثر ماقالوه على الاصطلاح فلاتغفل وقرأ ابن عامر والكسائى لترون 0 بضم التاء وقرأعلي كرم الله وجهه وابن كثير في رواية وعاصم كذلك بفتحها في لترون وضمها في لترونها ومجاهد وأشهب وابن أبي عبلة بضمها فيهما وروى عن الحسن وأبي عمر وبخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ووجه بانهم استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا للتخفيف كما همزوا في وقت وكان القياس ترك الهمز لان الضمة حركة عارضة لالتقاه الساكنين فلا يعتد بها لكن لما لزمت الكلمة بحيث لاتزول أشبهت الحركة الاصلية فهمزوا وقد همزوا من الحركة العارضة التي تزول في الوقف نحو اشترؤا الضلالة فالهمز من هذه أولى ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم قيل الخطاب للكفار وحكى ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي والنعيم عام لكل مايتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيا قيل في الخطابات السابقة وقد روى عن ابن عباس انه صرح بان الخطاب في لترون الجحيم للمشركين وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشركوا ذلك بالايمان به عز و جل والسؤال قيل يجوز أن يكون (30/225)
بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسئلون كذلك عن اشياء أخر على مايؤذن به قوله تعالى كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير وقوله سبحانه ماسلككم في سقر وذلك لانه اذ ذاك أشد ايلاما وأدعى للاعتراف بالتقصير فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون ثم للترتيب الذكرى وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في ألهاكم الخ للملهين فيكون قرينة على ماذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى قل من حرم زينة الله وكلوا من الطيبات وهذا أيضا يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمنين وقيل الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال فاخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعا هو الامن والصحة وأخرج البيهقي عن الامير علي كرم الله تعالى وجهه قال النعيم العافية وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعا أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعا النعيم المسئول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفسره قال الخصاف والماء وفلق الكسر وروى عنه وعن جابر أنه ملاذ المأكول والمشروب وقال الحسين بن فضل هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن ويروى عن جابر الجعفي من الامامية قال دخلت على الباقر رضى الله تعالى عنه فقال ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى لتسئلن يومئذ عن النعيم فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك ادخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وسقيته اتمن عليه قلت لا فقال فالله تعالى أكرم من ان يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه قلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة اما سمعت قوله تعالى لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا ومن رواية العياشي من الامامية ايضا ان ابا عبد الله رضى الله تعالى عنه قال لابي حنيفة رضى الله تعالى عنه في الآية ماالنعيم عندك يانعمان فقال القوت من الطعام والماء البارد فقال ابو عبدالله لئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه فقال أبو حنيفة فما النعيم قال نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد ان كانوا مختلفين وبنا ألف الله تعالى بين قلوبهم وجعلهم اخوانا بعد ان كانوا أعداء وبنا هداهم الى الاسلام وهو النعمة التي لاتنقطع والله تعالى سائلهم عن حق النعيم الذي انعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعترته عليه وعليهم الصلاة والسلام وكلا الخبرين لاأرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لايخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لايثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسئل غير مثرب وانما يثرب على الكافر كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود ويدل على عموم الخطاب مأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي هريرة قال خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذات يوم فاذا هو بأبي بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا فقاموا معه عليه الصلاة و السلام فاتى رجلا من الانصار فاذا هو ليس في بيته فلما رأته صلى الله تعالى عليه وسلم المرأة قالت مرحبا فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اين فلان قالت انطلق يستعذب لنا الماء اذ جاء الانصاري فنظر الى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله تعالى عليه وسلم اياك والحلوب فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك (30/226)
العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله تعالى عليه وسلم لأبي بكر وعمرو الذي نفسي بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصاحبيه انطلقوا الى منزل أبي أيوب الانصاري فقالت امرأته مرحبا بنبي الله صلى الله تعالى عليه وسام ومن معه فجاء أبو أيوب فقطع عذقا فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما أردت ان تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره قال أحببت يا رسول الله ان تاكلوا منه تمره وبسره ورطبه ثم ذبح جديا فشوى نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال يا أبا أيوب ابلغ هذا فاطمة رضى الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فذهب به أبو أيوب الى فاطمة رضى الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خبز ولحم وتمر وبسر ورطب ودمعت عيناه عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده ان هذا هو النعيم الذي تسئلون عنه قال الله تعالى ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم فهذا النعيم الذي تسئلون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على اصحابه فقال عليه الصلاة و السلام بلى اذا اصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فاذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فان هذا كفاف بذاك وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقا فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة الى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعا وكذا فيما يصح من الاخبار التى فيها الاقتصار على شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لامر اقتضاه الحال ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة و السلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك هذا من النعيم الذي تسئلون عنه بمن التبعيضية وفي التفسير الكبير الحق الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لابد منه أولا لان كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفا الى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عز و جل فيكون السؤال واقعا عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة و السلام لاتزول قدما العبد حتى يسئل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم ابلاه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم انفقه وعن علمه ماذا عمل به لان كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة و السلام ويشكل عليه ماأخرجه عبد الله بن الامام احمد في زوائد الزهد والدليمي عن الحسن قال رسول الله صلى الله تعلى عليه وسلم ثلاث لايحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يواري به عورته وأجيب بانه ان اصح فالمراد لايناقش الحساب بهن وقيل المراد مايضطر العبد اليه من ذلك لحياته فتامل ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لايسئل عنه وكان ذلك لان في الاكل معه جبرا لقلبه وازالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسئل عنه سؤال تقريع وفي القلب من صحة ذلك شىء والله تعالى أعلم
سورة العصر
مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل وآيها ثلاث بلا خلاف وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت فقد روى عن الشافعي عليه الرحمة انه قال لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس لانها شملت جميع علوم القرآن واخرج الطبراني في الاوسط والبهيقي في الشعب عن ابي حذيفة وكانت له صحبة قال كان الرجلان من اصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر ثم يسلم أحدهما على الآخر وفيها اشارة الى حال من لم يلهه التكاثر ولذا وضعت بعد سورته بسم الله الرحمن الرحيم والعصر قال مقاتل أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها لانها الصلاة الوسطى عند الجمهور لقوله عليه الصلاة و السلام شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ولما في مصحف (30/227)
حفصة والصلاة الوسطى صلاة العصر وفي الحديث من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وروى ان امرأة كانت تصيح في سكك المدينة دلوني على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرآها عليه الصلاة و السلام فسألها ماذا حدث فقالت يا رسول الله ان زوجي غاب فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن خل فمات ثم بعت ذلك الخل فهل لي من توبة فقال عليه الصلاة و السلام أما الزنا فعليك الرجم بسببه وأما القتل فجزاؤه جهنم وأما بيع الخل فقد اتكبت كبيرا لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر ذكر ذلك الامام وهو لعمري امام في نقل مثل ذلك مما لايعول عليه عند أئمة الحديث فاياك والاقتداء به وخصت بالفضل لان التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم وقيل أقسم عز و جل بوقت تلك الصلاة لفضيلة صلاته أو لخلق آدم أبي البشر عليه السلام فيه من يوم الجمعة والى هذا ذهب قتادة فقد روى عنه أنه قال العصر العشى أقسم سبحانه به كما أقسم بالضحى لما فيها من دلائل القدرة وقال الزجاج العصر اليوم والعصر الليلة وعليه قول حميد بن ثور ولم يلبث العصران يوم وليلة
اذا طلبا أن يدركا ما تيمما وقيل العصر بكرة والعصر عشية وهما الابرادان وعليه وعلى ما قبله يكون القسم بواحد من الامرين غير معين وقيل المراد به عصر النبوة وكأنه عنى به وقت حياته عليه الصلاة و السلام كانه اشرف الاعصار لتشريف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هو زمان حياته صلى الله تعالى عليه وسلم وما بعده الى يوم القيامة ومقداره فيما مضى من الزمان مقدار وقت العصر من النهار ويؤذن بذلك ما رواه البخارى عن سالم ابن عبد الله عن أبيه أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول انما بقاأكم فيمن سلف قبلكم من الامم كما بين صلاة العصر الى غروب الشمس وشرفه لكونه زمان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته التي هي خير أمة أخرجت للناس ولا يضره تأخيره كما لايضر السنان تأخره عن اطراف مرانه والنور تأخره عن أطراف أغصانه وقال ابن عباس هو الدهر أقسم عز و جل به لاشتماله على أصناف العجائب ولذا قيل له أبو العجب وكانه تعالى يذكر بالقسم به مافيه من النعم وأضدادها لتنبيه الانسان المستعد للخسران والسعادة ويعرض عز و جل لما في الاقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث اليه وفي اضافة الخسران بعد ذلك للانسان اشعار بانه صفة له لا للزمان كما قيل يعيبون الزمان وليس فيه
معايب غير أهل للزمان وتعقب بان استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر ان الانسان لفي خسر أي خسران في متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم التي لاينتفعون بها في الآخرة بل ربما تضر بهم اذا حلوا الساهره والتعريف للاستغراق بقرينة الاستثناء والتنكير قيل للتعظيم أي في خسر عظيمم ويجوز أن يكون للتنويع أي نوع من الخسر غير مايعرفه الانسان الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس واستبدلوا الباقيات واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيالها من صفقة ماأربحها ومنفعة جامعة للخير ما أوضحها والمراد بالموصول كل من اتصف بعنوان الصلة لا على كرم الله وجهه وسلمان الفارسي رضى الله تعالى عنه فقط كما يتوهم من اقتصار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في الذكر عليهما بل هما داخلان في ذلك دخولا أوليا ومثل ذلك اقتصاره في الانسان الخاسر على أبي جهل وهو ظاهر وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم وقوله تعالى وتواصو بالحق الخ بيان لتكميلهم (30/228)
لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا بالامر الثابت الذي لا سبيل الى انكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الايمان بالله عز و جل واتباع كتبه ورسله عليهم السلام في كل عقد وعمل وتواصو بالصبر عن المعاصي التي تشتاق اليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى مايبتلي الله تعالى به عادة من المصائب والصبر المذكور داخل في الحق وذكر بعده مع اعادة الجار والفعل المتعلق هو لابراز كمال العناية به ويجوز ان يكون الاول عبارة رتبة العبادة اتي هي فعل مايرضى الله تعالى والثاني عبارة رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى فان المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق اليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه عز و جل بالجميل والرضا به باطنا وظاهرا وقرأ سلام وهرون وابن موسى عن أبي عمرو والعصر بكسر الصاد والصبر بكسر الباء قال ابن عطية وهذا لايجوز الا في الوقف على نقل الحركة وروى عن أبي عمرو بالصبر بكسر الباء اشماما وهذا كما قال لايكون أيضا الا في الوقف وقال صاحب اللوامح قرأ عيسى البصرة بالصبر بنقل حركة الراء الى الباء لئلا يحتاج الى أن يؤتى ببعض الحركة في الحركة في الوقف ولاالى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وذلك لغة شائة وليست بشاذة بل مستفيضة وذلك دلالة على الاعراب وانفصال من التقاء الساكنين وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى ومن هذا كما في البحر قوله أنا جرير كنيتي أبو عمرو
اضرب بالسيف وسعد في العصر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن علي كرم الله وجهه أنه كان يقرأوالعصر نوائب الدهر ان الانان لفي خسر وانه لقيه الى آخر الدهر وأخرج عبد بن حميد وابن أبي داود في المصاحف عن ميمون بن مهران أنه قرأ والعصر ان الانسان لفي خسر وانه لفيه الى آخر الدهر الا الذين آمنوا الخ وذكر انها قراءة ابن مسعود هذا واستدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على ان مرتكب الكبيرة مخلد في النار لانه لم يستثن فيها عن الخسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخ وأجيب عنه بانه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر وأما على كونه مخلدا في النار فلا كيف والخسر عام فهو اما بالخلود ان مات كافرا وأما بالدخول في النار ان مات عاصيا ولم يغفروا ما بفوت الدرجات العاليات ان غفر وهو جواب حسن وللشيخ الماتريدى رحمه الله تعالى في التفصى عن ذلك تكلفات مذكورة في التأويلات فلا تغفل وفي السورة من الندب الى الامر بالمعروف والنهي عن النكر وان يحب المرء لاخيه مايحب لنفسه ما لايخفى
سورة الهمزة
مكية وآيها تسع بلاخلاف في الامرين ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الانسان سوى من استثنى في خسر بين عز و جل فيها أحوال بعض الخاسرين فقال عز من قائل بسم الله الحمن الحيم
ويل لكل همزة لمزة تقدم الكلام على اعراب مثل هذه الجملة والهمز الكسر كالهزم واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من اعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم وأصل ذلك كان استعارة لانه لايتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الاجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة الا للمكثر المتعود قال زياد الاعجم اذا لقيتك عن شخط تكاشرني
وان تغيبت كنت الهامز اللمزة (30/229)
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الاخوان وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الانساب وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان وقيل غير ذلك وماتقدم أجمع 0 وقرأ الباقر رضى الله تعلى عنه لكل همزة لمزة بسكون الميم فيهما على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالاضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك عل مأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن سحق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف وعلى ماأخرج عن السدى في أبي بن عمر والثقفي الشهير بالاخلس بن شريق فانه كان مغتابا كثير الوقعية وعلى ماقال ابن اسحق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويعيبه على ماأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر وعلى ماقيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى اله تعالى عليه وسلم وغضه منه وعلى قول في العاص ابن وائل ويجوز أن يكون نازلا في جميع من ذكر لكن استشكل نزولها في الاخنس بانه على ماصححه ابن حجر في الاصابة أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم فلا يتاتى الوعيد ألآتي في حقه فاما ان لايصح ذلك أو لايصح اسلامه وأيضا استشكلت قراءة الباقر رضى الله تعالى عنه بناء على ماسمعت في معناها وكون الآية نازلة في الوليد بن المغيرة ونحوه من عظماء قريش وبه اندفع مافي التأويلات من أنه كيف عيب الكافر بهذين الفعلين مع ان فيه حالا أقبح منهما وهو الكفر وأماما أجاب به من أن الكفر غير قبيح لنفسه بخلافهما فلا يخفى ضعفه لان فوت الاعتقاد الصحيح أقبح من كل شيء قبيح وقوله تعالى الذي جمع مالا بدل من كل بدل وقيل بدل بعض من كل وقال الجار بردى يجوز أن يكون صفة له لانه معرفة على ماذكره الزمخشري في قوله تعالى وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد اذ جعل جملة معها سائق حالا من كل نفس لذلك ولايخفى مافيه ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا على الذم وتنكير ملا للتفخيم والتكثير وقد كان عند القائلين انها نزلت في لاخنس أربعة لآلاف دينار وقيل عشرة آلاف وجوز أن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أنه عند الله تعالى أقل وأحقر شىء وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والاخوان جمع بشد الميم للتكثير وهوأوفق بقوله تعالى وعدده أي عده مرة بعد أخرى حباله وشغفا به وقيل جعله أصنافا وأنواعا كعقار ونقوده حكاه في التاويلات وقال غير واحد أى جعله عة ومدخرا لنوائب الدهر ومصائبه وقرأ الحسن والكلبي وعدده بالتخفيف فقيل معناه وعده فهو فعل ماضي فك ادغامه على خلاف القيلس كما في قوله مهلا اعاذل هل جربت من خلقي
اني أجود لاقوام وان ضننوا وقيل هو اسم بمعنى العدد المعروف معطوف على ماله أي جمع ماله وضبط عدده وأحصاه وليس ذلك على مافي الكشف من باب علفتها تبنا وماء باردا لان جمع العدد عبارة عن ضبطه واحصائه فلا يحتاج الى تكلف وعلى الوجهين ايد بالقراءة المذكورة المعنى الاول لقراءة الجمهور وقيل هو اسم بمعنى الاتباع والانصار يقال فلان ذو عدد وعدد اذا كان له عدد وافر من الانصار وما يصلحهم وهو معطوف على ماله أيضا أي جمع ماله وقومه الذين ينصرونه يحسب أن ماله أخلده جملة حالية أو استئنافية وأخلده وخلده بمعنى أى تركه خالدا أى ماكثا لايتناهى أو مكثا طويلا جدا والكلام من باب الاستعارة التمثيلية والمراد ان المال طول أمله ومناه الاماني البعيدة فهو يعمل من تشييد البنيان وغرس الاشجار وكرى (30/230)
الأنهار ونحو ذلك عمل من يظن انه ماله أبقاه حيا والاظهار في مقام الاضمار لزيادة التقرير والتعبير بالماضي للمبالغة في المعنى المراد وجوز أن يراد انه حاسب ذلك حقيقة لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما امامه من قوارع الآخرة أو لزعمه ان الحياة والسلامة عن الامراض والآفات تدور على مراعاة الاسباب الظاهرة وان المال هو المحور لكرتها والملك المطاع في مدينتها وقيل المراد انه يحسب المال من المخلدات ولانظر فيه الى ان الخلود دنيوي او اخروى ذكرا أو عينا انما النظر في اثبات هذه الخاصة للمال والغرض منه التعريض بان ثم مخلدا ينبغي للعاقل أن يكب عليه وهو السعى للآخرة وهو بعيد جدا ولذا لم يجعل بعض الاجلة التعريض وجها مستقلا وزعم عصام الدين أنه يحتمل أن يكون فاعل أخلدا الحاسب ومفعوله المال أي يظن أن يحفظ ماله أبدا ولايعرف أنه معرض للحوادث أو للمفارقة بالموت كما قيل بشر مال البخيل بحادث أو وارث وهو لعمري مما لاعصام له كلا ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه المفرط على ماقيل واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظا ومعنى وأنا لاأرى بأسا في كون ذلك ردعا له عن كل ماتضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة وقوله تعالى لينبذن جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسب أفعاله المذكورة في الحطمة أى في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقى فيها وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعيا منزلة المعتاد 0 والحطم كسر الشىء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا انا حطمنا بالقضيب مصعبا
يوم كسرنا أنفه ليغضبنا ويقال رجل حطمة أي أكول تشبيها له بالنار ولذا قيل في أكول
كانما في جوفه تنور
وفسر الضحاك الحطمة هنا بالدرك الرابع من النار وقال الكلبي هي الطبقة السادسة من جهنم وحكى القشيرى عنه انها الدرك الثاني وقال الواحدي هي باب من أبواب جهنم وزعم أبو صالح انها النار التي في قبورهم وليس بشيء وقوله تعالى وما أدراك ما الحطمة لتهويل أمرها ببيان انها ليست من الامور التي تنالها عقول الخلق وقرأ علي كرم الله وجهه والحسن بخلاف عنه وابن محيصن وحميد وهرون عن أبي عمرو ولينبذان بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله وعن الحسن أيضا لينبذن بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع لكل همزة باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وانصاره بناء على ماسمعت في قراءته هناك وعن أبي عمرو لننبذنه بنون العظمة وهاء النصب ونو التأكيد وفقرأ زيد بن علي رضى اله تعالى عنه في الحاطمة وماأدراك ماالحاطمة نار الله خبر مبتدا محذوف والجملة لبيان شان المسؤل عنها أي نار الله الموقدة بامر الله عز و جل وفي اضافتها اليه سبحانه ووصفها بالايقاد أمرها مالامزيد عليه التي تطلع على الافئدة أي تعلوا أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد الطف مافي الجسد وأشده تالما بادنى أذى يمسه أو لانه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الاعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد وأخرج عبد بن حميد وابن ابي حاتم عن محمد بن كعب انه قال في الآية تاكل كل شىء منه حتى تنتهي الى فؤاده فاذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه وجوز أن يرد الاطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل انها تطالع الافئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم مافيها فتجازي كلا بحسب مافيه من الصفة المقتضية للعذاب
وارباب الاشارة يقولون ان (30/231)
ما ذكر اشارة الى العذاب الروحاني الذي هو اشد الذاب انها عليهم مؤصدة أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد في عمد جمع عمود كما قال الراغب والفراء وقال ابو عبيدة جمع عماد وفي وهو اسم جمع الواحد عمود وقرأ الاخوان وابو بكر عمد بضمتين وهرون عن أبي عمر وبضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف وقوال تعالى ممدة صفة عمد في القراآت الثلاث أي طوال والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في عليهم أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقاطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها ارجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون وهي والعياذ بالله تعالى على ماروى عن ابن زيد عمد من حديد وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس انها من نار واستظهر بعضهم ان العمد تمدد على الابواب بعد أن تؤصد عليهم ليأسهم واستيثاق وفي حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الاصول عن أبي هريرة مرفوعا أن الله تعالى بعد ان يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز و جل الى أهل النار ملائكة باطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار فيطبق عليهم بتلك الاطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولايبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولايخرج منه غم وينساهم الجبار عز و جل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولايستثيغون بعدها أبدا وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا وفيه فذلك قوله تعالى انها عليهم مؤصدة في عمد ممدة اللهم أجرنا من النار ياخير مستجار وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بمؤصدة حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكاه الطيبي وفي الارشاد عن أبي البقاء انه صفة لمؤصدة وقال بعض لامانع عليه أن يكون صلة مؤصدة على معنى أن الابواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الابواب ثم ان مذكر لاشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفارا همزوا ولمزوا خير البشر صلى الله تعالى عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لان المغتاب كانه سارق من اعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود وقد يقال من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فانه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى همزة لمزة قيل الحطمة للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الاعراض قوبل بكسر الاضلاع المدلول عليه بالحطمة وجىء بالنبذ المنبىء عن الاستحقار في مقابلة ماظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جىء في مقابلة تطلع على الافئدة ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن ياصد عليه قيل في مقابلة انها عليهم مؤصدة ولما تضمن ذلك طول الامل قيل في عمد ممددة وقد صرح بذلك بعض الاجلة فليتامل والله تعالى أعلم
سورة الفيل
مكية وأيها خمس بلا خلاف فيهما وكانه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له عليه الصلاة و السلام عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل للاشارة الى أن عقى كيدهم في الدنيا تدميرهم فان عناية الله عز و جل برسوله صلى الله عليه و سلم أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيت فالسورة مشيرة الى مآلهم في الدنيا اثر بيان مآلهم في الاخرى ويجوز ان تكون كالاستدلال على ما أشير اليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئا أو على قدرته عز و جل انفاذ ما توعد به أولئك الكفرة (30/232)
في قوله سبحانه لينبذن في الحطمة الخ بسم الله الرحمن الرحيم ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل الظاهر ان الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة و السلام بانكار عدمها وهى بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارةالتبعية أوالمجاز المرسل لانها سببيه ويجوز جعلها علمية من اول الامرالا ان ذاك أبلغ وعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لما أنه سعه متواترا وكيف في محل نصب على المصدرية بفعل والمعنى أي فعل فعل وقيل على الحالية من الفاعل واكيفية حقبقة للفعل لابا لم تر لمكان الاستفهام والجملة سادة مسد المفعولين لتر وجوز بعضهم نصب كيف بتر لانسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في شرح المفتاح الشريفي وصرح أبو حيان بامتناعه لانه يراعى صدارته ابقاء لحكم اصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شانه لابنفسه بان يقال الم تر مافعل ربك الخ لتهويل الحادثة والايذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فان ذلك كما قال غير واحد من الارهاصات لما روى ان القصة وقعت في السنة اتي ولد فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ابراهيم بن المنذر شيخ البخاري لايشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الاجماع وكل ماخالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الاقوال المذكورة في كتب السير وعلى الاول المرجح الذي عليه الجمهور قبل ولادته عليه الصلاة و السلام في اليوم الذي بعث الله تعاى فيه الطير على اصحاب الفيل من ذلك العام وهوالمذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس ولد عليه الصلاة و السلام يوم الفيل وذهب السهيلي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يوما وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الاول وقال الحافظ الدمياطي بخمسة وخمسن يوما وقيل باربعين وقيل بشهر والمشهور ماذهب اليه السهيلي وفي قوله تعالى ربك نوع رمز الى الارهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لاينافي الارهاص وكذا لاينافيه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس خلأت أي حزنت ماخلأت ولكن حبسها حابس الفيل اذ لم يدع أن ما كان للارهاص لاغير ومثل هذه العلل الايض تعددها ويؤيد الارهاص قصة القرامطة وغيرهم وتفصيل القصة أن ابرهة الاشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن اسحق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولايأباه التسمية بابرهة بناء على أن معناه بالحبشة الابيض الوجه كما لايخفى وقيل أنه الحميري خرج على ارباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بكسر النون بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الاشرم خلفه غلامه عتورة فحما عليه ارباط بحرية فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الاشرم فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله ملك مكانه فغضب النجاشي فاسترضاه فرضى فاثبته ثم أنه بنى بصنعاء كنيسة لم يرى مثلها في زمانها القليس سماها بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الادب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة وكان ينقل اليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على مايقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام وكتب الى النجاشى انني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبنى مثلها قبلك ولست بمنته حتى أصرف اليها حج العرب فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم ابن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه فأخبر أبرهة (30/233)
فقال من صنع هذا فقيل رجل من أهل هذا البيت الذي تحج اليه العرب بمكة غضب لما سمع قولك اصرف اليها حج العرب ففعل ذلك فاستشاط أبرهة غضبا وحلف ليسيرن الى البيت حتى يهدمه وقيل أججت رفقة من العرب نارا حولها فحملتها الريح فاحرقتها فغضب لذلك فامر الحبشة فتهيات وتجهزت فخرجت في ستين ألف على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره وقيل ثمانية وروى ذلك عن الضحاك وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهوقول الاكثرين الاوفق بظاهر الآية فسمعت العرب بذلك فاعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقا عليهم فخرج اليه رجل من اشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فأراد قتله فقال أيها الملك لاتقتلني فعسى ان يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي فتركه فحبسه عنده حتى اذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل ابن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فهم بقتله فقال نحو ماسبق فخلى سبيله وخرج به يدله اذا مر بالطائف خرج ايه مسعود ابن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقف فقال له أيها الملك انما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت الات انما تربد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عيه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى انزله المغمس كمعظم موضع بطريق الطائف معروف فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن اسحق وقيل القبر الذي هناك لابي رغال رجل من ثمود وهوأبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه اصابته النقمة التي أصابت قومه بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكرا فيه حديثا رواه أبو دواد في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعا وقال فيما تقدم بعد عن الجوهري ليس بجيد جمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم أن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلا من الحبشة يقال له الاسود بن مقصور حتى انتهى الى مكة فساق أموال أهل أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعي وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذ سيد قريش فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لاطاقة لهم به فكفوا فبعث أبرهة حياطة الحميري الى مكة وقال قل لسيد هذا البلد ان الملك يقول اني لم آت لحربكم انما جئت لهدم هذا البيت فان لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فان هو لم يرد حربي فاتني به فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب والله مانريد حربه وما لنا طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله ابراهيم عليه السلام فان يمنعه منه فهو بيته وحرمه وان يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك الا أن أنيسا سائس اليل سارسل ايه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير ان قدر على ذلك فقال حسبي فبعث اليه فقال له ان عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت فقال افعل فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته فكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريه فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه الى جنبه والقول بأنه اعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون (30/234)
القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ماعلمت من القول المرجح اللهم الا ان يقال انه تجلى فيه ذلك النور وان كان قد انتقل ثم قال لترجمانه قل له ماحاجتك فقال حاجتي أن يرد على الملك ابلى فقال أبرهة لترجمانه قل له قد كنت أعجبني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب اني رب الابل وان للبت ربا سيمنعه قال ماكن ليمنع مني قال أنت وذاك وفي رواية انه دخل عليه مع عبد المطلب ثفانة ابن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى ورد الابل على عبد المطاب فانصرف الى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفا من معرة الجيش ثم قال فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز و جل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة لاهم ان المرء يمنع
رحله فامنع حلالك وانصر على آل الصليب
وعابديه اليوم آلك لايغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك جروا جموع بلادهم
والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم
جهلا وما رقبوا جلالك ان تاركهم وكعبتنا
فأمر ما بدا لك وقال أيضا يارب لاأرجوا لهم سواكا
يارب فامنع عنهم حماكا ان عدوا البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا فناكا ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه الى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة اذا دخلها فلما أصبح تهيأ للدخول وعبي جيشه وهيأ الفيل فلما وجهوه الى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام الى جنبه فأخذ باذنه فقال ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت فانك في بلد الله الحرام ثم أرسل اذنه فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعا الى اليمن فقام يهرول الى الشام ففعل مثل ذلك فوجهوه الى مكة فبرك فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك وقيل ان عبد المطلب هو الذي عرك اذنه وقال له ماذكر وكان ذلك عند وادي محسر وأرسل الله تعالى طيرا من البحر قيل سودا وقيل خضرا وقيل بيضا مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لاتصيب أحدا منهم الاهلك ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق الى اليمن فقال نفيل حين رأى مانزل بهم أين المفر والاله الطالب
والاشرم المغلوب ليس الغالب ألا حييت عنا ياردينا
نعمناكم عن الاصباح عينا ردينة لو رأيت ولا تريه
لدى جنب المحصب ما رأينا اذا لعذرتني وحمدت أمري
ولاتأسى على مافات بينا فكل القوم تسأل عن نفيل
كأن عليه للحبشان دينا وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط انملة انملة كلما سقطت انملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات (30/235)
حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار الى ذلك ابن الزبعري بقوله من أبيات يذكر فيها مكة سائل أمير الحبش عنا ماترى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم
بل لم يعش بعد الاياب سقيمها ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم انه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فاخبره الخبر والطير على رأسه فلما فرغ ألقى عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فالحقته بهم وقيل ان سائس الفيل وقائده تخلفا في مكة فسلما فعن عائشة أنها قالت أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعمين مقعدين يستطعمان الناس وعن عكرمة انه من أصابه الحجر جدرته وهو في أول جدري ظهر أي بارض العرب فعن يعقوب بن عتبة انه احدث ان أول ي ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام أنه أول مارؤى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضا ويروى أن عبد المطلب لما ذهب الى شعف الجبال بمن معه بقى ينتظر مايفعل القوم ومايفعل بهم فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر مالقوا فذهب فاذا القوم مشدخين جميعا فرجع رافعا رأسه كاشفا عن فخذه فلما رأى ذلك أبوه قال ألا ان ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته الا بشيرا او نذيرا فلما دنا من ناديهم قالوا ماوراءك قال هلكوا جميعا فخرج عبد المطلب وأصحابه اليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب أنت منعت الحبش والافيالا
وقد رعوا بمكة الاحبالا وقد خشينا منهم القتالا
وكل أمر منهم معضالا شكرا وحمدا لك ذا الجلالا هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير وقرأ السلمي ألم تر بسكون الراء جدا في اظهار أثر الجازم لان جزمه بحذف آخره فاسكان ماقبل اللآخر للاجتهاد في اظهار أثر الجازم قيل والسر فيه هنا الاسراع الى ذكر مايهم من الدلالة على أمر الالوهية والنبوة أو الاشارة الى الحث في الاسراع بالرؤية ايماء الى ان امرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع الى رؤيته لم يدركه حق ادراكه وتعقب هذا بان تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الامر الى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر وقوله تعالى ألم يجعل كيدهم في تضليل الخ بيان اجمالي الى مافعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية مابعدها كأنه قبل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وابطال بان دمرهم أشنع تدمير وأصل التضليل من ضل عنه اذا ضاع فاستعير هنا للابطال ومنه قيل لامرىء القيس الضليل لانه ضلل ملك أبيه وضيعه وأرسل عليهم طيرا أبابيل أي جماعات أي جمع ابالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة وحكى الفراء ابالة مخففا وهي همزة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامنها وتستعمل أيضا في غيرها ومنه قوله كادت تهد من الاصوات راحلتي
اذ الارض بالجرد الابابيل وقيل واحده ابول مثل عجول وعقيل ابيل مثل سكين وقيل أبال وقال ابو عبيدة والفراء لاىواحد له من لفظه كعبابيد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه والشماميط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ماروى عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولاتهامية ولاحجازية وزعم بعض ان حمام (30/236)
الحرم من نسلها ولايصح ذلك ومثله مانقل عن حياة الحيوان من انها تعشعش وتفررخ بين السماء والارض وقد تقدم الخلاف في لونها وعن عكرمة كأن وجوهوها مثل وجوه اسباع لم تر قبل ذلك ولابعده ترميهم يحجارة صفة أخرى لطير وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة وقرأ أبو وأبو يعمر وعيسى وطلحة فى رواية يرميهم بالباء التحتية والضمير المستتر للطير أيضا والتذكير لانه اسم جمع وهو على ماحكى الخفاجى لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة وقيل يجوز الامران وهو ظاهر كلام أبى حيان وقيل الضمير عائد على ربك وليس بذاك ونسبة القراءة امذكورة لابى حنيفة رضى الله تعالى عنه حكاها فى البحر وعن صاحب النشر أنه رضى الله تعالى عنه لاقراءة له وان القراآت المنسوبة له موضوعة من سجيل صفة حجارة أى كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل هو عربى من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ومعنى كون الحجارة من الدلو أنها متتابعة كثيرة كالماء الذى يصب من الدلو ففيه استعارة مكنية وتخييلية وقيل من الاسجال بمعنى الارسال والمعنى من مثل شىء مرسل ومن فى جميع ذلك ابتدائية وقيل من السجل وهو الكتاب أخذ من السجين وجعل علما للديوان 3 الذى كتب فيه عذاب الكفار والمعنى من جملة العذاب المكتوب المدون فمن تبضيعية واختلف في حجم الطير وكذا فى حجم تلك الحجارة فمر أنها مثل الخطاطيف وان الحجارة أمثال الحمص والعدس وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبى معاوية الديلمى انه قال رأيت الحصى التى رمى بها اصحاب الفيل حصى مثل الحمص واكبر من العدس حمر بحتمة 1 كأنها جزع ظفار وأخرج أبو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس أنه قال حجارة مثل البندق وفى رواية ابن مردويه عنه مثل بعر الغنم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن عبيد بن عمير أنه قال فى الآية هى طير خرجت من قبلة البحر كانها رجال السند معها حجارة أمثال الابل البوارك وأصغرها مثل رؤس الرجال أصابته ولاأصابته الا قتلته والمعول عليه ان الطير فى الحجم كالخطاطيف وأن الحجارة منها ماهو كالحمصة ودوينها وفويقها وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبى صالح انه مكتوب على الحجر اسم من رمى به واسم أبيه رأى ذلك عند أم هانىء فجعلهم كعصف مأكول كورق زرع وقع فيه الاكال وهو أن يأكله الدود أوأكل حبه فبقى صفرا منه والكلام على هذا على حذف المضاف واقامة المضاف اليه مقمه أو على الاسناد المجازي والتشبيه بذلك لذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم أو لان الحجر بحرارته يحرق أجوافهم وذهب غير واحد الى أن المعنى كتبن أكلته الدواب وراثته والمراد كروث الا انه لم يذكر بهذا اللفظ لهجنته فجاء على الاداب القرآنية فشبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث ففيه اظهار تشويه حالهم وقيل المعنى كتبن تأكله الدواب وتروثه والمراد جعلهم في حكم التبن الذي لايمنع عنه الدواب أي مبتذلين ضائعين لايلتفت اليم أحد ولايجمعهم ولايدفنهم كتبن في الصحراء تفعل به الدواب ماشاءت لعدم حافظ له الا انه وضع مأكول موضع اكلته الدواب لحكاية الماضي في صورة الحال وهو كما ترى وكأنه لما أن مجيئهم لهدم الكعبة ناسب اهلاكهم بالحجارة ولما أن الذي أثار غضبهم عذرة الكناني شبهم فيما فعل سبحانه بهم على القول الاخير بالروث أو لما ان الذي أثاره احتراقها لما حملته الريح من نار العرب على ماسمعت شبهم عز و جل فيما فعل جل شأنه بهم بعصف أكل حبه على ماأشرنا اليه أخيرا وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه ماكول بفتح الهمزة اتباعا لحركة الميم وهو شاذ وهذا كما اتبعوا في قولهم محموم بفتح الحاء لحركة الميم والله تعالى أعلم (30/237)
سورة قريش
ويقال سورة لايلاف قريش وهي مكية في قول الجمهور مدنية في قول الضحاك وابن السائب وآيها خمس في الحجازي وأربع في غيره ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تخفى بل قالت طائفة انهما سورة واحدة واحتجوا عليه بان أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة بما روى عن عمرو بن ميمون الازدي قال صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فقرأفي الركعة الاولى واتين وفي الثانية الم تر ولايلاف قريش من غير ان يفصل بالبسملة وأجيب بان جمعا أثبتوا الفصل في مصحف أبي والمثبت مقدم على النافي وبأن خبر بن ميمون ان سلمت صحته محتمل لعدم سماعه ولعله قرأها سرا ويدل على كونها سورة مستقلة ماأخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول اله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فضل الله تعالى قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولايعطاها أحد بعدهم أني فيهم وفي لفظ النبوة فيهم والخلافة فيهم والحجابة فيهم والسقاية فيهم ونصروا على الفيل وعبدوا الله تعالى سبع سنين وفي لفظ عشر سنين لم يعبده سبحانه أحد غيرهم ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيا أحد غيرهم لايلاف قريش وجاء نحو هذا الاخير في خبرين آخرين أحدهما عن الزبير بن اعوام يرفعه والثاني عن سعيد بن المسيب عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيد الاستقلال كون آيها ليست على نمط آي ماقبلها وانت تعلم انه بعد ثبوت تواثر الفصل لايحتاج الى شيء مما يذكر بسم الله الرحمن الرحيم
لايلاف قريش الايلاف على ماقال الخفاجي مصدر ألفت الشيء وآلفته هن الالف وهو كما قال الراغب اجتماع مع ألتئام وقال الهروي في الغريبين الايلاف عهود بينهم وبن الملوك فكان هاشم يؤلف ملك الشام وامطلب كسرى وعبد شمس ونوفل يؤالفان ملك مصر والحبشة قال ومعنى يؤالف يعاهد ويصاح وفعله آلف على وزن فاعل ومصدره الاف بغير ياء بزنة قبال أوالف الثلاثي ككتب كتابا ويكون الفعل منه أيضا على وزن أفعل مثل آمن ومصدره ايلاف كايمان وحمل الايلاف على اعهود خلاف ماعليه الجمهور كما لايخفى على المتتبع وفي البحر أيلاف مصدر آلف رباعيا والاف مصدر ألف ثلاثيا يقال ألف الرجل الامر ألفا وآلافا وآلف غيره اياه وقد يأتي آلف متعديا لواحد كالف ومنه قوله من المؤلفات الرمل أدماء حرة
شعاع الضحى في جيدها يتوضح وسيأتي ان شاء الله تعالى مافي ذلك القرآآت وقريش ولد للنضر بن كنانة وهوأصح الاقوال وأثبتها عند القرطبي قيل وعليه الفقهاء لظاهر ماروى أنه عليه الصلاة و السلام سئل من قريش فقال من ولد النضر وقيل ولد فهر بن مالك بن النظر وحكى ذلك عن الاكثرين بل قال الزبير بن بكار أجمع النسابون من قريش وغبيرهم على ان قريشا انما تفرقت عن فهر واسمه عند غير واحد قريش وفهر لقبه ويكنى بابي غالب وقيل ولد مخلد بن النضر وهو ضعيف وفي بعض السير انه لاعقب للنضر ابن كنانة الامالك وأضعف من ذلك بل هو قول رافضي يريد به نفي حقية خلافة الشيخين انهم ولد قصي بن حكيم وقيل عروة بلقبه كلاب لكثرة صيده أو لمكالبته أي مواثيته في الحرب للاعداء تعم قصي جمع قريشا في الحرم حتى اتخذوه بعد أن كانوا متفرقين في غيره وهذا الذي عناه الشاعر بقوله (30/238)
أبونا قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر فلايدل يدل على مازعمه أصلا وهو في الاصل تصغي قرش بفتح القاف اسم لدابة في البحر أقوى دوابه تأكل ولاتؤكل وتعلو ولاتعلى وبذلك أجاب ابن عباس معاوية لما ساله لم سميت قريش قريشا وتلك الدابة تسمى قرشا كما هو المذكور في كلام الحبر وتسمى قريشا وعليه قول تبع كما حكاه عنه أبو الوليد الازرقي وأنشده أيضا الحبر لمعاوبة الا أنه نسبه للجمحي وقريش هي التي تسكن البحر
بها سميت قريش قريشا تاكل الغث والسمين ولاتترك
يوما لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريشا
يأكلون البلاد أكل كميشا ولهم آخر الزمان نبي يكثر
القتل فيهم والخموشا وقال الفراء هو من التقرش بمعنى التكسب سموا بذلك تجارتهم وقيل من التقريش وهو التفتيش ومنه قول الحرث ابن حلزة أيها الشامت المقرش عنا
عند عمرو فهل لنا ابقاء سموا بذلك لان أباهم كان يفتش عن أرباب الحوائج ليقضي حوائجهم وكذا كانوا يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها وقبل من التقرش وهو من التجمع ومنه قوله اخوة قرشوا الذنوب علينا
في حديث من دهرهم وقديم سموا ذلك لتجمعهم بعد التفرق والتصغير اذا كان من المزيد تصغير ترخيم واذا كان من ثلاثي مجرد فهو على أصله وأياما كان فهو للتعظيم مثله في قوله وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفر منها الانامل والنسبة اليه قرشي وقرشي كما في القاموس وأجمعوا على صرفه هنا راعوا فيه معنى الحي ويجوز منع صرفه ملحوظا فيه معنى القبيلة للعمية والتانيث وعليه قوله
وكفى قريش المعضلات وسادها
وعن سيبويه أنه قال في نحو معد وقريش وثقيف هذه للاحياء اكثر اوان جعلت اسماء للقبائل فجائز حسن واللام في لايلاف للتعليل والجار والمجرور متعلق عند الخليل بقوله فليعبدوا وافاء لما في الكلام من معنى الشرط اذ المعنى ان نعم الله غير محصورة فان لم يعبدوا لسائر نعمه سبحانه فليعبدوا لهذه النعمة الجليلة ولما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول مابعدها عليها وقوله تعالى ايلافهم رحلة الشتاء والصيف بدل من ايلاف قريش ورحلة مفعول به لايلافهم على تقدير ان يكون من الالفة أما اذا كانت من المؤالفة بمعنى المعاهدة فهو منصوب على نزع الحافظض أي معاهدتهم على أو لأجل رحلة الخ واطلاق لأيلاف ثم ابدال المقيد منه للتفخيم وروى عن الاخفش أن الجار متعلق بمضمر أي فعلنا مافعلنا من اهلاك اصحاب الفيل لايلاف قريش وقال الكسائي والفراء كذلك الا انهما قدرا الفعل بدلالة السياق اعجبوا كأنه قيل أعجبوا لايلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة اللع تعالى الذي أعزهم ورزقهم وآمنهم فلذا أمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والامن عقبه وقرن بالفاء التفريعية وعن الاخفش أيضا أنه متعلق بجعلهم كعصف في السورة وقبله والقرآن كله كالسورة الواحدة فلا يضر الفصل بالبسملة خلافا لجمع والمعنى أهلك سبحانه من قصدهم من الحبشة ولم يسلطهم عليهم ليبقوا على ماكانوا عليه من ايلافهم رحلة الشتاء والصيف أو أهلك عز و جل من قصدهم ليعتبر الناس ولايجترىء عليهم أحد فيتم لهم الامن في رحلتهم ولاينافي هذا كون اهلاكهم (30/239)
لكفرهم باستهانة البيت لجواز تعليله بأمرين فإن كلا منهما ليس علة حقيقية ليمتنع التعدد وقال وقال غير واحد ان اللام للعاقبة وكان لقريش رحتان رحلة في الشتاء الى اليمن ورحلة في الصيف الى بصرى من ألرض الشام كما روي عن ابن عباس وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز فلايعترض لهم والناس بين متخطف ومنهوب وعن ابن عباس أيضا أنهم كانوا يرحلون في الصيف الى الطائف حيث الماء والظل ويرحلون في الشتاء الى مكة للتجارة وسائر أغراضهم وأفردت الرحلة مع أن المراد رحلتا الشتاء والصيف لأمن اللبس وظهور المعنى ونظيره وقوله
حمامة بطن الوادين ترنمي
حيث لم يقل بطني الواديين وقوله كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فان زمانكم زمن خميص حيث لم يقل بطونكم لا لجمع لذلك وقول سيبويه ان ذلك لايجوز الا في في الضرورة فيه نظر وقال النقاش كانت لهم أربع رحل وتعقبه ابن عطية بأنه قول مردود وفي البحر لاينبغي أن يرد فأن أصحاب الايلاف كانوا أربعة أخوة وهم عبد مناف هاشم كان يؤالف ملك الشام أخذ منه خيلا فأمن به في تجارته الى الشام وعبد شمس يؤالف الى الحبشة والمطلب الى اليمن ونوفل الى فارس فكان هؤلاء يسمون المتجرين فيختلف تجر قريش بخيل هؤلاء الاخوة فلا يعترض لهم قال الازهري الايلاف شبه الاجارة بالخفارة فان كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع باعتبار هذه الاماكن التي كانت التجارة في خفارة هؤلاء الاربعة فيها فيكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد وللاكثر وفي هؤلاء الاخوة يقول الشاعر يا أيها الجل المحول رحله
هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون في العهد من آفاقها
والراحلون لرحلة الايلاف والرائشون ليس يوجد رائش
والقائلون هلم للاضياف والخلطون غنيهم بفقيرهم
حتى يصير فقيرهم كالكافي انتهى وفيه مخالفة لما نقلناه سابقا عن الهروى ثم أن ارادة ما ذكر من الرحل الاربع غير ظاهرة كما لا يخفى وقرأ ابن عامر لالاف قريش بلا ياء ووجهه ذلك مامر والم تختلف السبعة في قراءة ايلافهم بالياء كما اخنلف في قراءة الاول ومع هذا رسم الاول في المصاحف العثمانية بالياء ورسم الثاني بغير باء كما قاله السمين وجعل ذلك احد الادلة على ان القراء يتقيدون بالرواية سماعا دون رسم المصحف وذكر في وجه ذلك انها رسمت في الاول على الاصل وتركت في الثاني اكتفاء بالاول وهو كما ترى فتدبر فروى عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ بهمزتين فيهما الثانية ساكنة وهذا شاذ وان كان الاصل وكانهم انما أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل احتماع همزتين وروى محمد بن داود النقار عن عاصم ائيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما اشبعت والصحيح رجوعه عن القراءة بهمزتين وانه قرأ كالجماعة وقرأ ابو جعفر فيما حكى الزمخشري لالف قريش وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم وحكيت عن عكرمة وابن كثير وأنشدوا زعمتم أن اخوتكم قريش
لهم الف وليس لكم الاف وعن أبي جعفر أيضا وابن عامر الافهم على وزن فعال وعن أبي جعفر أيضا ليلاف بياء ساكنة بعد اللام ووجهه بأنه لما أبدل الثانية ياء حذف الاولى حذفا على غير قياس وعن عكرمة ليألف قريش على صيغة المضارع المنصوب بان مضمرة بعد الللام ورفع قريش على الفاعلية وعنه أيضا لتالف على الامر وعنه وعن هلال بن فتيان بفتح لام (30/240)
الأمر والظاهر ان ايلافهم على جميع ذلك منصوب على المصدرية ولم أر من تعرض له وقرأ أبو السمال رحلة بضم الراء وهي حينئذ بمعنى الجهة التي يرحل اليها وأما مكسور الراء فهو مصدر على ما صرح به في البحر فليعبدوا رب هذا البيت هو الكعبة التي حميت من أصحاب الفيل وعن عمر أنه صلى بالناس بمكة عند الكعبة فلما قرأ فليعبدوا رب هذا البيت جعل يومي باصبعه اليها وهو في الصلاة بين يدي الله تعالى الذي أطعمهم بسب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيرانهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما وقيل أريد به القحط الذي أكلوا فيه الجيف والعظام وآمنهم من خوف عظيم لايقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل او خوف من التخطف في بلدهم ومسايرهم أو خوف الجذام كما اخرج ذلك ابن جرير وغيره عن ابن عباس فلايصيبهم في بلدهم فضلا منه تعالى كالطاعون وعنه أيضا انه قال أطعمهم من جوع بدعوة ابراهيم عليهم السلام حيث قال وأرزقهم من الثمرات وآمنهم من خوف حيث قال ابراهيم عليه السلام رب أجعل هذا البلد آمنا 0 ومن قل تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لازالة الجوع عنهم ويقدر المضاف لتظهر صحة التعليل أو يقال الجوع علة باعثة ولاتقدير وقيل بدلية مثلها في قوله تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة وحكى الكرماني في غرائب التفسير انه قيل في قوله تعالى وآمنهم من خوف ان الخلافة لاتكون الا فيهم وهذا من البطلان بمكان كما لايخفى وقرأالمسيبى عن نافع من خوف باخفاء النون في الخاء وحكى ذلك عن سيبويه وكذا اخفاؤها مع العين نحو من على مثلا والله تعالى أعلم
سورة الماعون
وتسمى سورة أرأيت والدين والتكذيب وهي مكية في قول الجمهور وأخرجه ابن مردويه عن ابي عباس وابن والزبير كما في الدر المنثور وفي البحر انها مدنية في قول ابن عباس وقتادة وحكى ذلك أيضا عن الضحاك وقال هبة الله المفسر الضرير نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ونصفها في المدينة في عبد الله أبن أبي المنافق 0 وآيها سبع في العراقى وست في الباقية ولما ذكر سبحانه في سورة قريش أطعمهم من جوع ذم عز و جل هنا من لم يحض على طعام المسكين ولما قال تعالى هناك فليعبدوا رب هذا البيت ذم سبحانه هنا من سها عن صلاته أو لما عدد نعمة الله على قريش وكانوا لايؤمنون بالبعث والجزاء أتبع سبحانه امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه فقال عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم
أرأيت الذي يكذب بالدين استفهام أريد به تشويق السامع الى تعرف المكذب وان ذلك مما يجب على المتدين ليحترز عنه وعن فعله وفيه أيضا تعجيب منه والخطاب لرسول الله صلى تعالى عليه وسلم أو لكل من يصلح له والرؤية بمعنى المعرفة المتعدية لواحد وقال الحوفي يجوز أن تكون بصرية وعلى الوجهين يجوز أن يتجوز بذلك عن الاخبار فيكون المراد بأرأيت أخبرني وحينئذ تكون متعدية لاثنين أو لهما الموصول وثانيهما محذوف تقديره من هو أو أليس مستحقا للعذاب والقول بأنه لاتكون الرؤية المتجوز بها الا بصرية فيه نظر وكذا اطلاق القول بان كاف الخطاب لاتلحق البصرية اذ لامانع من ذلك بعد التجوز فلا يرجح كونها علمية قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب المزيدة لتأكيد التاء 0 والدين الجزاء وهو أحد معانيه ومنه كما تدين تدان وفي معناه قول مجاهد الحساب أو الاسلام كما هو الاشهر ولعله من فسره بالقرآن 0 وكذا من فسره كابن عباس بكم الله عز و جل وقرأ الكسائى أريت بحذف الهمزة كأنه حمال الماضي في حذف همزته على مضارعه (30/241)
المطرد فيه حذفها وهذا كما ألحق تعد بعيد في الاعلال ولعل تصدير الفعل هنا بهمزة الاستفهام سهل أمر الحذف فيه لمشابهته للفظ المضارع المبدؤ بالهمزة ومن هنا كانت هذه القراءة أقوى توجيها مما في قوله صاح هل رأيت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في العلاب وقيل ألحق بعد همزة الاستفهام بارى ماضي الافعال لشدة مشابهنه به وعدم التفاوت الا بفتحة هي لخفتها في حكم السكون وليس بذاك وان زعم انه الاوجه والفاء في قوله تعالى فذلك يدع اليتيم قيل للسبية وما بعدها مسبب عن التشويق الذي دل عليه الكلام السابق وقيل واقعة في جواب شرط محذوف على ان ذلك مبتدأ والموصول خبره والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالاسلام ان لم تعرفه فذلك الذي يكذب بذلك هو الذي يدع اليتيم أي يدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا ووضع أسم الاشارة موضع الضمير لدلالة على التحقير وقيل للاشعار بعلة الحكم أيضا وفي الاتيان بالموصول من الدلالة على تحقق الصلة ما لا يخفى وقرأ علي كرم الله وتعالى وجهه والحسن وأبو رجاء واليماني يدع بالتخفيف أي يترك اليتيم لا يحسن اليه ويجفوه ولا يحض أي ولا يبعث أحدا من أهله وغيرهم من الموسرين على طعام المسكين أي بذل طعام المسكين وهو ما يتناول من الغذاء واتعبير بالطعام دون الاطعام مع احتياجه لتقدير المضاف كما أشرنا اليه للاشعار بأن مسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى في أموالهم حق للسائل والمحروم فهو بيان لشدة الاستحقاق وفيه اشارة للنهي عن الامتنان وقيل الطعام هنا بمعنى الاطعام وكلام الراغب محتمل لذلك فلا يحتاج الى تقدير لمضاف وقرأ زيد بن علي رضى الله تعالى عنهما ولايحاض مضارع حاضضت وهذه الجملة عطف على جملة الصلة داخلة معها في حيز التعريف للمكذب فيكون سبحانه وتعالى قد جعل علامته الاقدام على ايذاء الضعيف وعدم بذل المعروف على معنى ان ذالك من شأنه ولوازم جنسه فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون أي غافلون غير مبالين بها حتى تفوتهم بالكلية أو يخرج وقتها أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرا ولا يخشعون وينجدون فيا ويتهمون وفي كل واد من الافكار الغير المناسبة لها يهيمون فيسلم أحدهم منها ولايدري ماقرأ فيها الى غي ذلك مما يدل على قلة المبالاة بها وللسلف أقوال كثيرة في المراد بهذا السهو ولعل كل ذلك من باب التمثيل فعن أبي العالية هو الالتفات عن اليمينين واليسار وعن قتادة عدم مبالاة المرء أصلى أم لم يصلي وعن ابن عباس وجماعة تأخيرها عن وقتها وفي حديث أخرجه غير واحد عن سعد ابن أبي وقاص مرفوا وقال الحاكم والبيهقي وقفه أصح وعن أبي العالية هو أن لا يدري المرء عن كم انصرف عن شفع أم وتر وفسر بعضهم السهو عنها بتركها وقال المراد بالمصلين المتسمون بسمة أهل الصلاة ان أريد بالترك الترك رأسا وعدم الفعل بالكلية أو المصلون في الجماة ان أريد بالترك الترك أحيانا الذين هم يراؤن الناس فيعلمون حيث يروا الناس ويرونهم طلبا للثناء عليهم ويمنعون الماعون أي الزكاة كما جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وابنه محمد بن الحنيفة وابن عباس وابن عمر وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة ومنه قول الراعي أخليفة الرحمن انا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا عرب نرى الله من أموالنا
حق الزكاة منزلا تنزيلا قوم على الاسلام لما يمنعوا
ماعونهم ويضيعوا التهليلا وعن محمد بن كعب والكلبي المعروف كاه وأخرج جماعة عن ابن أبي مسعود تفسيره بما يتعاوره الناس بينهم من القدر والفاس ونحوها من متاع البيت وجاء عن ابن أبي عباس أيضا في خبر رواه عنه الضياء في (30/242)
المختارة والحاكم وصححه البيهقي وغيرهم ورووا فيه عدة أحاديث مرفوعة ومنع ذلك قد يكون محضورا في الشريعة كما اذا استعير عن اضطرار وقبيحا في المرؤة كما اذا استعير في غير حال الضررة وهوعلى ما أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري المال بلسان قريش وقال أبو عبيدة والزجاج وامبرد هو في الجاهلية كل مافيه منفعة من قليل أو كثير وأريد به في الاسلام الطاعة 0 واختلف في أصله فقال قطرب أصله فاعول من المعن وهو الشيء القليل وقالوا ماله معنى أي شىء قليل وقيل أصله معونة والالف عوض عن الهاء فوزنه مفعل في الاصل كمكرم فتكون الميم زائدة ووزنه بعد زيادة الالف عوضا مافعل وقيل هو اسم مفعول من أعان يعين وأصله معوون فقلب فصارت عينه مكان فائه فصار معون ثم قلبت الواو الفا فصار ماعونا معفول بتقديم العين على الفاء والفاء في قوله تعالى فويل الخ جزائية والكلام ترق من ذلك المعرف الى معرف أقوى أي اذا كان دع اليتيم والحض بهذه المثابة فما بال المصلي الذي ساه عن صلاته التي هي عماد الدين والفارق بين الايمان والكفر ورتكب للرياء في أعماله الذي هو شعبة من الشرك ومانع للزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الاسلام أو مانع لاعارة الشيء الذي تعارف الناس أعارته فضلا عن اخرج الزكاة من ماله فذاك العلم على التكذيب لذي لايخفى والمعرف له الذي لا يوفى والغرض التغليظ في أمر هذه الرذائل التي ابتلى بها كثير من الناس وانها لما كانت من سيماء المكذب بالدين كان على المؤمن المعتقد له أن يبعد عنها بمراحل ويتبين أن أم كل معصية التكذيب بالدين والمراد بامكذب على هذا الجنس والاشارة لاتمنع منه كما لايخفى 0 وقيل هو أبو جهل وكان وصيا ليتيم فأتاه عرياتا يأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا وقال ابن جريج وهو أبو سفيان نحر جزروا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه وقيل الوليد بن المغيرة وقيل العاص بن وائل وقيل عمروابن عائد وقيل منافق بخيل وعلى جميع هذه الاقوال يكون معينا وحينئذ فالقول بان الساهين عن الصلاة المرائين أيضا معرف قال صاحب الكشف غير ملائم بل يكون شبه استطراد مستفاد من الوصف المعرف اعنى دع اليتيم على معنى أن الدع اذا كان حاله انه علم المكذب فماهو حال السهو عن الصلاة وماعطف عليه وهما أشد من ذلك وأشد وانما جعل شبه استطراد على ما قال لان الكلام في التكذيب لا في التحذير من الدع بالاصالة والمراد اللجنس الصادق بالجمع وكون ذلك تكلفا واضحا كما قيل غير واضح فكانه قبل أخبرني ماتقول فيمن يكذبون بالدين وفيمن يؤذن اليتيم أحسن حالهم ومايصنعون أم قبح والغرض بت القول بالقبح على أسلوب قوله تعالى فهل أنتم منتهون ثم قيل فويل للمصلين على معنى اذا علم أن حالهم قبيح فويل لهم فوضع المصلين موضع الضمي دلالة على أنهم مع الاتصاف بالتكذيب متصفون بهذه الاشياء أيضا وجعل بعضهم الفاء في فويل على العطف المذكور للسببية وهذا الوجه يقتضي اتحاد المصلين والمكذبين وعليه قيل المراد بهم المنافقون بل روى اطلاق القول بأنهم المرادون عن ابن عباس ومجاهد والامام مالك وقال في البحر يدل عليه الذين هم يراؤن ويصح أن يراد بالمصلين على الاتحاد المكلفون بالصلاة ولو كفارا غير منافقين وبسهوهم عن الصلاة تركهم اياها بالكلية وياتزم القول بأن الكفار مكلفون بالفروع مطلقا وأعترض أبو حيان ذلك الوجه بأن التركيب عليه تركيب غريب وهوكقولك أكرمت الذي يزورني فذاك الذي لالى والمتبادر الى الذهن منه أن فذلك مرفوع بالابتداء وعلى تقدير النصب بالعطف يكون التقدير أكرمت الذي يزورني فأكرمت ذلك الذي يحسن الى واسم الاشارة فيه غير متمكن تمكن ماهو فصيح اذ لاحاجة اليه بل الفصيح أكرمت الذي يزورني فيحين الى وقيل ان اسم الاشارة هنا مقحم للاشارة الى بعد المنزلة في الشر والفساد فتأمل وجوز أيضا أن يكون العطف عطف ذات (30/243)
على ذات فالاستخبار عن حال المكذبين وحال الداعين أحسن هو أم قبيح على قياس مامر وتعقبه في الكشف بأنه لايلائم المقام رجوع الضمير الى الطائفتين حتى يوضع موضع المصلين فافهم وقرأ ابن اسحق والاشهب يرؤون بالقصر وتشديد الهمزة وفي رواية أخرى عن ابن اسحق أنه قرأ بالقصر وترك التشديد والله تعالى أعلم
سورة الكوثر
وتسملى كما قال البقاعي سورة النحر 0 وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ونسب في البحر الى الجمهور مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد وفي الاتقان انه الصواب ورجحه النووى عليه الرحمة في شرح صحيح مسلم لما أخرج الامام احمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه وغيرهم عن أنس بن مالك قال أغفى رسول الله صلىالله تعالى عليه وسلم اغفاءة فرفع رأسه متبسما فقال انه انزل آنفا سورة فقرأبسم الله الرحمن الرحيم انا اعطيناك الكوثر حتى ختمها الحديث 0 وفي اخبار سبب النزول مايقتضي كلا من القولين وستسمع بعضا منها منها ان شاء الله تعالى ومن هنا استشكل أمرها وذكر الخفاجي أن لبعضهم تأليفا صحح فيه أنها نزلت مرتين وحينئذ فلا اشكال 0 وآيها ثلاث بلا خوف وليس في القرآن كما أخرج البيهقي عن ابن شبرمة سورة آيها أقل من ذلك بل قد صرحوا بأنها أقصر سورة في القرآن وقال الامام هي كالمقابلة للتي قبلها لان السابقة وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة فذكر عز و جل في هذه السورة في مقابة البخل انا أعطيناك الكوثر أي الخير الكثير وفي مقابلة ترك الصلاة فصل أي دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وانحر وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الاضاحى ثم قال فاعتبر هذه المناسبة العجيبة انتهى فلا تغفل بسم الله الرحمن الرحيم
انا أعطيناك وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني أنطيناك بالنون وهي على ما قال التبريزي لغة العرب العرباء من أولى قريش وذكر غيره انها لغة بني تميم وأهل اليمن وليست من الابدال الصناعي في شىء ومن كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم اليد المنطية واليد السفلى المنطاة وكتب عليه الصلاة و السلام لوائل أنطوا الثبجة أي الوسط في الصدقة الكوثر فيه أقوال كثيرة فذهب أكثر المفسرين الى انه نهر في الجنة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في آخر الحديث المتقدم آنفا المروى عن الامام احمد ومسلم ومن معهما هل تدرون ما الكوثر قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يارب أنه من أمتي فيقال انك لا تدري ما أحدث بعدك وقوله عليه الصلاة و السلام على ماأخرجه الامام أحمد والشيخان والترمذى والنسائى وابن ماجه وآخرون عن أنس عنه صلى الله تعالى عليه وسلم دخلت الجنة فاذا بأنا بنهر حافتاه خيام الؤلؤ فضربت بيدى الى مايجري فيه الماء فاذا مسك اذفر قلت ماهذا ياجبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى وجاء في حديث عن أنس أيضا قال دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال قد أعطيت الكوثر قلت يارسول الله وماالكوثر قال نهر في الجنة عرضه وطوله مابين المشرق والمغرب لايشرب منه أحد فيظمأ ولايتوضأ منه أحد فيشعف ابدا لايشرب منه من أخفر ذمتي ولامن قتل أهل بيتي وروى عن عائشة انها قالت هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضا (30/244)
من اللبن وأحلى من العسل شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد خص الله تعالى به نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من بين الانبياء عليهم الصلاة والسلام وقالت ليس أحد يدخل اصبعيه في أذنيه الا سمع خرير ذلك النهر وهو على التشبيه البليغ وقيل هو حوض له عليه الصلاة و السلام في المحشر 0 وقول بعضهم الاختلاف في الروايات سببه ملاحظة اختلاف سرعة السير وعدمها وهو قبل الميزان والصراط عند بعض وبعدهما قريب من باب الجنة حيث يحبس أهلها من أمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين ويكون على هذا في الارض المبدلة 0 وقيل له صلى الله تعالى عليه وسلم حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده ويسمى كل منهما على ماحكاه القاضي زكريا كوثرا وصحح رحمه الله تعالى انه بعد الصراط وان الكوثر في الجنة وان ماءه ينصب فيه ولذا يسمى كوثرا وليس هو من خواصه عليه الصلاة و السلام كالنهر السابق بل يكون لسائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام يرده مؤمنو أممهم ففي حديث الترمذي ان لكل نبي حوضا وانهم يتباهون أيهم أكثر واردة واني أرجو أن أكون أكثرهم واردة وهو كما قال حديث حسن غريب وهذه الحياض لايجب الايمان بها كما يجب الايمان بحوضه عليه الصلاة و السلام عندنا خلافا للمعتزلة النافين له لكون أحاديثه بانت مبلغ التواتر بخلاف أحديثها فانها آحاد بل قيل لاتكاد تبلغ الصحة ورأيت في بعض الكتب ان الكوثر هو النهر الذي ذكره أولا وهوالحوض وهو على ملك عظيم يكون مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث يكون فيكون في المحشر اذ يكون عليه الصلاة و السلام فيه في الجنة اذ يكون عليه الصلاة و السلام فيها ولايعجز الله تعالى شىء وقيل هو أولاده عليه الصلاة و السلام لان السورة نزلت ردا على من عابه صلى الله تعالى عليه وسلم وهم والحمد لله تعالى كثيرون قد ملؤا البسيطة وقال أبو بن عباس ويمان بن وثاب أصحابه وأشيائه صلى الله تعالى عليه وسلم الى يوم القيامة وقيل علماء أمته صلى اله تعالى عليه وسلم وهم أيضا كثيرون وفي كل قطر وان كانوا لداليوم في بعض الاقطار والامر لله تعالى أقل قليل وعن الحسن انه القرآن وفضائله لاتحصى وقال الحسين بن الفضل هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل هو الاسلام وقال هلال هو التوحيد وقال عكرمة هو النبوة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه هو نور قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هو العلم والحكمة وقال ابن كيسان هو الايثار وقيل هو الفضائل الكثيرة المتصف بها عليه الصلاة و السلام وقيل المقام المحمود وقيل غير ذلك وقد ذكر في التحرير ستة وعشرين قولا فيه وصحح في البحر قول النهر وجماعة هو انه الخير الكثير والنعم الدنيوية والاخروية من الفضائل والفواضل ورواه ابن جرير وابن عساكر عن مجاهد وهو المشهور عن الحبر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وقد أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه رضى الله تعالى عنه أنه قال الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى اياه عليه الصلاة و السلام قال أبو بشر قلت لسعيد فان ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز و جل اياه صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا وفيه اشارة الى أن ما صح في الاحاديث من تفسيره صلى الله تعالى عيه وسلم اياه بالنهر من باب التمثيل والتخصيص لنكتة والا فيعدان صح الحديث في ذلك بل كاد يكون متوترا كيف يعدل عنه الى التفسير آخر وكذا يقال في سائر ما في الاقوال السابقة وغيرها 0 وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة اشىء الكثير كثرة مفرطة قيل لاعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت بكوثر وقال الكميت وأنت كثير ياابن مروان طيب
وكان أبوك بن العقائل كوثرا (30/245)
وفي حذف موصوفه مالا يخفى من المبالغة على ماأشار اليهه شيخ الاسلام ابن تميمة وفي اسناد الاعطاء اليه دون الايتاء اشارة الى أن ذلك أيتاء على جهة التمليك فان الاعطاء دونه كثيرا مايستعمل في ذلك ومنه تعالى لسليمان عليه السلام هذا عطاؤنا فامن أو أمسك بعد قوله هب لي ملكا وقيل فيه اشارة الى المعطى وان كان كثيرا في نفسه قليل بالنسبة الى شأنه عليه الصلاة و السلام بناء على أن الايتاء لايستعمل الا في الشىء العظيم كقوله تعالى وآتاه الله الملك ولقد آتينا داود منا فضلا وآتيناك سبعا من المثاني والقرآن الععظيم والاعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى أعطى قليلا وأكدى ففيه من تعظيمه عليه الصلاة و السلام مافيه وقيل والتعبير بذلك لانه بالتفضل أشبه بخلاف الايتاء فانه قد يكون واجبا ففيه اشارة الى الدوام والتزايد أبدا لان التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير متناهي وفي جعل المفعول الاول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه اشعار بأن الاعطاء غير معلل بل هو من محض الاختيار والمشيئة وفيه أيضا من تعظيمه عليه الصلاة و السلام بالخطاب ما لايخفى وجوز أن يكون في أسناد الاعطاء الى نا اشارة الى أنه مما سعى فيه الملائكة والانبياء المتقدمون عليهم السلام وفي التعبير بالماضي قيل اشارة الى تحقق الوقوع وقيل اشارة الى تعظيم الاعطاء وأنه أمر مرعى لم يترك الى أن يفعل بعد وقيل اشارة الى بشارة أخرى كانه قيل انا هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية وقيل اشارة الى أن حكم الله تعالى بالاغناء والافقار والاسعاد والاشقاء لبس أمرا محدثا بل هو حاصل في الازل 0 وبنى الفعل على المبتدأللتأكيد والتقوي وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الاقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بأن ما لايخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استعباد السامع الاعطاء الما أنه الم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الانكار على بعض الاقوال في الكوثر والفاء في قوله تعالى فصل لربك وأنحر لترتيب مابعدها على ماقبلها فان اعطاءه تعالى أياه عليه الصلاة و السلام ماذكر من العطية التي لم يعطها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي أستيجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك مالأفاض من الخير خالصا لوجهه عز و جل خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحق شكره تعالى على ذلك فان الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر ولذا قيل فصل دون فاشكر وانحر وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى تصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون كذا قيل وجعل السورة عليه كالمقابلة لما قبلها كما فعل الامام وام يذكروا مقابل التكذيب بالدين وقال الشهاب الخفاجي أن الكوثر بمعنى الخير الكثير الشامل للاخروى يقابل ذلك الما فيه من اثباته ضمنا وكذا اذا كان بمعنى النهر والحوض واللامر على تفسيره بالاسلام وتفسير الدين به أيضا في غاية الظهور والمراد بالصلاة عند أبي مسلم الصلاة المفروضة وأخرج ذلك أبن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرجه الاول وابن المنذر عن ابن عباس وذهب جمع الى انها جنس الصلاة وقيل المراد بها صلاة العيد وبالنحر التضحية أخرج بن جرير وابن مردويه عن سعيد ابن جبير قال كانت هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل عليه الصلاة و السلام فقال انحر وارجع فقام رسول اله صلى الله تعالى عليه وسام فخطب خطبة الاضحى ثم ركع ركعتين ثم انصرف الى البدن فنحرها فذلك قوله تعالى فصل لربك وانحر واستدل به على وجوب تقديم الصلاة على التضحية وليس بشيء وأخرج عبد الرزاق وغيره عن مجاهد وعطاء عكرمة أنهم قالوا المراد صلاة الصبح بمزدلفة والنحر بمنى والاكثرون على أن المراد بالنحر نحر الاضاحي واستدل به بعضهم على وجوب للاضحية لمكان الامر مع قوله تعالى فاتبعوه وأجيب بالتخصص بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الضحى (30/246)
والأضحية والوتر وأخرج بن أبي حاتم الأحوص أنه قال وانحر أي استقبل القبلة بنحرك واليه ذهب الفراء وقال يقال منازلهم تتناحر أي تتقابل وأنشد قوله أبا حكم هل أنت عم مجالد
وسيد أهل الابطح المتناحر واخرج أبن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه لما قال نزلت هذه السورة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انا أعطيناك الخ قال رسول عليه الصلاة و السلام لجبريل عليه السلام ماهذه النحيرة التي أمرني بها ربي فقال أنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك اذا تحرمت للصلاة ان ترفع يديك اذا كبرت واذا ركعت واذا رفعت يرأسك من الركوع فانها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع وان لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر رضى الله تعالى عنه أنه قال في ذلك ترفع يديك أول ما تكبر في الافتتاح وأخرج البخاري في تاريخه والدار قطنى في الافراد وآخرون عن الامير كرم الله تعالى وجهه أنه قال ضع يدك اليمنى على ساعد ايسرى ثم ضعها على صدرك في الصلاة وأخرج نحوه أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس مرفوعا ورواه جماعة عن ابن عباس وروى عباس وروى عن عطاء ان معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وعن الضحاك وسليمان التيمي انهما قالا معناه ارفع يديك عقيب الصلاة عند الدعاء الى نحرك ولعل في صحة الاحاديث عند الاكثرين مقالا والا فمقالوا الذي قالوا وقد قال الجلال السيوطي في حديث علي كرم الله تعالى وجهه الاول انه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك بسند ضعيف وقال ابن كثير انه حديث منكر جدا بل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات وقال الجلال في الحديث الآخر عن الامير كرم الله تعالى وجهه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم بسند لابأس به ويرجح قول الاكثرين ان لم يصح عن النبي صالى اله تعالى عليه وسلم مايخالفه ان الاشهر استعمال النحر في نحر الابل دون تلك المعاني وان سنة القآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكر بذلك المعنى قريب منها بخلافه على تلك المعاني وان ماذكروه من المعاني يرجع الى آداب الصلاة أو ابعاضها فيدخل تحت فصل لربك ويبعد عطفه عليه دون ماعليه الاكثر ومع أن القوم كانوا يصلون وينحرون لللاوثان فالانسب أن يؤمر صلى الله تعالى عليه وسلم في مقابلتهم بالصلاة وانحر له عز و جل هذا واعتبار الخلوص في فصل الخ كما أشرنا اليه لدلالة السياق عليه وقيل لدلالة لام الاختصاص وفي الالتفات عن ضمير العظمة الى خصوص اللب مضافا الى ضميره عليه الصلاة و السلام تأكيد لترغيبه صلى الله تعالى عليه وسلم في أداء ما أمر به على الوجه الاكمل ان شانئك أي مبغضك كائنا من كان هو الابتر الذي لاعقب له حيث لايبقى منه نسل ولاحسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك الى يوم القيامة ولك في الاخرة ما لايتدرج تحت البيان وأصل البتر القطع وشاع في قطع الدنب وقيل لمن لاعقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد والاثر الباقي بالذنب لكونه خافه فاكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة عالى أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد واسم الفاعل أعنى شانىء ههنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالاضافة فيكون الابتر خبره ولايشكل ذلك بمن كان يبغضه عليه الصلاة و السلام قبل الايمان من لأكابر الصحابة رضى الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للايمان وذاق حلاوته فكان صلى الله تعالى عليه وسلم أحب اليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام ان الابترية معللة (30/247)
بالبغض فتدور معه وقد زال في أولئك الاكابر رضى الله تعالى عنهم واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضا عليه الصلاة و السلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكما لان من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبه منه بالدعاء ونحوه لانه لاعصمة بين مسلم وكافر 0 وما أشرنا اليه من ان هو ضمير فصل هو الاظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره الابتر والجملة خبر شانئك وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحمل شانئك على الجنس الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدا أو متعددا وفيه روايات أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان أكبر ولد رسول الله تعالى عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم عليه السلام وهوأول ميت من ولده عليه الصلاة و السلام بمكة ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو ابتر فانزل الله تعالى ان شانئك هو الابتر وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال كان عقبة بن أبي معطية يقول انه لايبقى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عقب وهو ابتر فأنزل الله تعالى فيه ان شانئك هو الابتر وأخرج الطبراني قال لما مات ابراهيم بن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مشى المشركون بعضهم الى بعض فقالوا ان هذا الصابىء قد بتر الليلة فانزل الله تعالى انا أعطيناك السورة وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس انه قال في الآية هو ابو جهل أي لانها نزات فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لابأس به وحكاية عنه عنه لما مات ابراهيم بن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج أبو جهل الى أصحابه فقال بتر محمد عليه الصلاة و السلام فانزل الله سبحانه وتعالى ان شانئك هو الابتر لاتكاد تصح لان هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة ابراهيم عليه السلام وعن عطاء أنها نزلت في أبي لهب والجمهور على نزولها في العاص بن وائل وأياما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليال لما يفهمه الكلام فكأنه قيل انا أعطيناك ما لايدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصا لوجه ربك ولاتكترث بقول الشانىء الكريه فانه الابتر لاأنت وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى ولاتخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرفون وذلك لما كان فلاتكترث الخ المفهوم من السياق وفي التعبير بالابتر دون المبتور على ما قال شيخ الاسلام ابن تيمية ما لايخفى من المبالغة وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأى الجملة فقال انه سبحانه يبتر شانىء رسول الله صالى تعالى عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلاينتفع بها ولايتزود فيها صالحا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولايؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والايمان برسله عليهم السلام ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ويبتره من الانصار فلا يجد له ناصرا ولاعونا ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعما ولايجد لها حلاوة وان باشرها بظاهره فقلبه بشارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ماجاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لاجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه الصلاة و السلام أو تمنى أن لاتكون نزلت أو قيلت ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها اذا سمعها حين يستدل بها السلفى على مادلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عE أعظم من ذلك وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فاذا سمعوا القرآن يتلى أو قرىء في مجلسهم استطالوه واستثقلوه وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة الى غير ذلك ولكل نصيب من الانبتار على قدر شنآته انتهى وفي بعضه نظر لايخفى وقرأابن عباس شنيك بغير (30/248)
ألف فقيل مقصور من شانى كما قالوا برج في بارد وبر في بار وجوز أن يكون بناء على فعل هذا واعلم ان هذه السورة على قصرها وايجازها قد اشتملت على ماينادي على عظيم اعجازها وقد اطال الامام فيها الكلام وأتى بكثير 3 مما يستحسنه ذوو الافهام وذكلر أن قوله تعالى وانحر متضمن الاخبار بالغيب وهو ذات سعة ذات يده صالى الله تعالى عليه وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك ان شانئك هو الابتر 0 وذكر أنه روى أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله انا أعطيناك الزمجار فصل لربك وهاجر ان مبغضك رجل كافر 0 ثم بين الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع الى تفسير الامام والله تعالى ولي التوفيق والانعام
سورة الكافرون
وتسمى المقشقشة كما اخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن او في وهومن قشقش المريض اذا صح وبرأ أي المبرثة من الشرك والنفاق وتسمى أيضا كما في جمال سورة العبادة وكذا تسمى
سورة الاخلاص
وهي عند أبي عباس والجمهور مكية وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير انها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف مافي مجمع البيان من انه قائل بمكيتها وأياما كان قول الدواني أنها مكية بالاتفاق ليس في محله 0 وآيها ست بلا خلاف وفيها اعلان مافهم مما قللها من الامر باخلاص العبادة له عز و جل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لجبلة بن حارثة وهوأخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة و السلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الامام أحمد والطبراني في الاوسط وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة و السلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه وأخرج أبو يعلى والطبراني عن أبن عباس مرفوعا الا أدلكم على كلمة تنجيكم من الاشراك بالله تعالى تقرؤن قل يأيها الكافرون عند منامكم وروى الديلمي عن عبد اله بن جراد قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المنافق لايصلي الضحى ولايقرأ قل ياأيها الكافرون ويسن قراءتها أيضا مع سورة قل هو الله أحد في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الاكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب وهي حجة على من قال منن الائمة انه لايسن في سنة الفجر ضم سورة الى الفاتحة وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الاوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك انها تعدل ربع القرآن ووجه ذلك الامام بان القرآن مشتمل على الامر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما أما ان يتعلق بالقلب أو الجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهى عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع القرآن وتعقب بأن العبادة (30/249)
أعم من القلبية والقالبية والامر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقلبية وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد اخرى كاحوال المبدا والمعاد ومن هنا قيل لعل الاقرب ان يقال ان مقاصد القرآن التوحيد والاحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا اليه الانبياء عيهم السلام اولا بالذات والتخصيص انما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز و جل اذ التخصيص له جزآن النفى عن الغير والاثبات للمخصص به فصارت المقاصد بهذا الاعتبار اربعة وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالامر بعبادة الله عز و جل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل ان مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والاحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الاول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه وذكر بعض أجلة أحبابي المعاصرين اوجها في ذلك احسنها فيما ارى ان الدين الذي تضمنه القرآن اربعة أنواع عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات والسورة متضمنة من النوع الاول فكانت ربعا وتعقب بانه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وان اراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه انما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن اذ هو الذي تشعر به الاخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على ان المقابلة الحقيقية بين ماذكر من الانواع غير تامة وأجيب باحتمال انه اراد أن مقاصد القرآن هي تلك الاربعة التي هي الدين ولايبعد ان يكون ماتضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده أحوال المبدا والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لايضر اذ يكفي في الغرض عد أهل العرف تلك الامور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لاقوم المسالك بسم الله الرحمن الرحيم
قل يا أيها الكافرون قال أجلة المفسرين المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى انهم لايتاتى منهم الايمان أبدا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الانباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال لقى الوليد بن المغيرة والعاصي بن واثل والاسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا يامحمد هلم فلتعبد مانعبد ونعبد ماتعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله فان كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا وان كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فانزل الله تعالى قل ياأيها الكافرون حتى انقضت السورة وفي رواية ان رهطا من عتاة قريش قالوا له صلى الله عليه و سلم هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة وعبد الهك سنة فقال عليه الصلاة و السلام معاذالله تعالى ان اشرك بالله سبحانه غيره فقالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد الهك فنزلت فعدا صلى الله تعالى عليه وسلم الى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة و السلام على رؤسهم فقرأها عليهم فايسوا ولعل نداءهم بيا ايها للمبالغة في طلب اقبلهم لئلا يفوتهم شىء مما يلقى اليهم وبالكافرون دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم أولا لان الخطاب مع الذين يعام استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة الى ذكر مايقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والاكثر التعبير عنهم بذلك لان ماذكر انكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ وقيل هذا للاشارة الى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن (30/250)
يكون في هذه الاشارة انكاء لهم أيضا وفي ندائه عليه الصلاة و السلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة و السلام بهم اذ المعنى قل يامحمد والمراد حقيقة الامر خلافا لصاحب التأويلات للكافرين يأيها الكافرون لا أعبد ماتعبدون ولاأنتم عابدون ما أعبد ولاأنا عابد ماعبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد يتراءى أن فيه تكرارا للتأكيد فالجملة الثالثة المنفية على مافي البحر توكيد للاولى على وجهه أبلغ لاسمية المؤكدة والرابعة توكيد للثانية وهو الذي اختاره الطيبى وذهب اليه الفراء وقال ان القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرار الكلام للتأكيد والافهام فيقول المجيب بلى بلى والممتنع لالا وعليه قوله تعالى كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون وأنشد قوله كائن وكم عندي لهم من صنيعة
أيدي سنوها على وأوجبوا وقوله نعق الغراب ببين ليلى غدوة
كم كم وكم بفراق ليلى ينعق وقوله هلا سألت جموع كندة
يوم ولوا أين أينا وهو كثير نظما ونثرا وفائدة التأكيد ههنا قطع أطماع الكفار وتحقيق انهم باقون على الكفر أبدا واعترض بأن تأكيد الجمل لايكون مع العاطف الا بثم وكأن القائل بذاك قاس الواو على ثم والظاهر ان من قال بالتأكيد جعل الجملة الرابعة معطوفة على الثالثة وجعل المجموع معطوفا على مجموع الجملتين الاوليين فهناك مجموعان متعاطفان يؤكد ثانيهما أولهما ولمغايرة الثاني للاول بمافيه من الاستمرار عطف عليه بالواو فلايرد ماذكر ويتضمن ذلك معنى تأكيد الجزء الاول من الثاني للجزء الاول من الاول وتاكيد الجزء الثاني من الثاني للجزء الثاني من الاول والا فظاهر مافي البحر مما لايكاد يجوز كما لايخفى والذي عليه الجمهور انه لاتكرار فيه لكنهم اختلفوا فقال الزمخشري لاأعبد أريد به نفي العبادة فيما يستقبل لان لالا تدخل الا على مضارع في معنى الاستقبال كما ان مالاتدخل الاعلى مضارع في معنى الحال والمعنى لاأفعل في المستقبل ماتطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولاأنتم فاعلون فيه مأطلب منكم من عبادة الهى وماكنت عابدا قط فيما سلف ماعبدتم فيه وماعبدتم في وقت ماأنا على عبادته والظاهر انه اعتبر في الجملة الاخيرة استمرار النفي وانه حمل المضارع فيها على افادة الاستمرار والتصوير وفي الثانية استغرق النفي للازمنة الماضية وقال الطيبي انه جعل القرينتين للاولين للاستقبال والآخرين للماضي واعترض عليه بان الحصرين اللذين ذكرهما في لا وما غير صحيح وان كانا يشعر بهما ظاهر كلام سيبويه وقال الخفاجي ما ما ذكر اغلبي او مقيد بعدم القرينة القائمة على ما يخالفه او هو كلى ولا حجر في التجوز والحمل على غيره لمقتض كدفع التكرار هنا وان قيل بتحقق الاستغراب على القول باشتراطه في الحكاية في عابد الاول وعدم ضرر فقده في الثاني لان النصب به للمشاكلة وقيل القرينتان الاوليان للاستقبال كما مر والاخريان للحال واختاره ابو حيان اي ولست في الحال بعابد معبودكم ولاانتم في الحال بعابدى معبودي وقيل بالعكس وعليه كلام الزجاج ومحيى السنة وقيل الاولين للماضي والاخريان للمستقبل نقله ابن كثير عن حكاية البخارى وغيره ونقل ايضا عن شيخ الاسلام ابن تيمية ان المراد بقوله سبحانه لا اعبد ما تعبدون نفي الفعل لانها جملة فعلية وبقوله تعالى ولا انا عابد ما عبدتم نفي قبوله صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك بالكلية لان النفي بالجملة الاسمية آكدا فكأنه نفى الفعل وكونه عليه الصلاة و السلام قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي امكانه الشرعي ونوقش في افادة الجملة الاسمية نفي القبول ولايبعدان يقال ان معنى الجملة الفعلية نفي الفعل في زمان معين والجملة الاسمية معناها نفي الدخول تحت هذا المفهوم مطلقا (30/251)
من غير تعرض للزمان كأنه قيل أنا ممن لا يصدق عليه هذا المفهوم أصلا وأنتم ممن لايصدق عليه ذلك المفهوم فتدبر وقيل الاوليان لنفي الاعتبار الذي ذكره الكافرون والاخريان للنفي على العموم أي لا أعبد ما تعبدون رجاء أن تعبدوا الله تعالى ولاأنتم عابدون رجاء ما أعبد صنمكم ثم قيل ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الاغراض بوجه من الوجوه وكذا انتم لاتعبدون الله تعالى لغرض من الاغراض وايثار ما في اعبد قيل على حميع الاقوال السابقة على من لان المراد الصفة كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته وجوز أن يقال لما أطلقت ما على الاصنام أولا وهو اطلاق في في محزه أطلقت على المعبود بحق للمشاكلة ومن يقول ان ما يجوز أن تقع على من يعلم ونسب الى سيبويه لايحتاج الى ماذكر وقال أبو مسلم ما في الاوليين بمعنى الذي مفعول به والمقصود المعبود أي لاأعبد الاصنام ولا تعبدون الله تعالى وفي الآخرين مصدرية أي ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشك وان شئت قلت على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقية ولا أنتم عابدون مثل عبادتى المبينة على اليقين وان شئت قلت على التوحيد والاخلاص وعليه لايكون تكرار ايضا وقال بعض الاجلة في هذا المقام ان قوله تعالى لا اعبد ما تعبدون وقوله سبحانه ولاأنا عابد ما عبدتم اما كلاهما نفي الحال او كلاهما نفي الاستقبال او احدهما للحال والآخر للاستقبال وعلى التقادير فلفظ ما اما مصدرية في الموضعين واما موصولة فيهما واما مصدرية في أحدهما وموصولة او موصوفة في الآخر وهذه ستة أحتمالات حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين ولم يلتفت الى تقسيم صورة الاختلاف الى الفرق بين الاولى والاخرى ولا الى الفرق بين الموصولة والموصوفة لتكثر الاقسام لان صورة الاختلاف متساوية الاقدام في دفع التكرار ومؤدى الموصولة والموصوفة متقاربان فيكتفي باحداهما وكذا الحال قفي قوله تعالى ولاأنتم عابدون ما أعبد في الموضعين ومعلم انه لاتكرار في صورة الاختلاف سواء كان باعتبار الحال والاستقبال أو باعتبار كون مافي أحدهما موصولة أو موصوفة وفي الاخر مصدرية ونفي عبادتهم في الحال أو الاستقبال معبوده عليه الصلاة و السلام بناء على عدم الاعتداد بعبادتهم لله تعالى مع الاشراك المحبط لها وجعلها هباء منثورا كما قيل اذا صافى صديقك من تعادي
فقد عاداك وانقطع الكلام ومن هنا قال بعض الافاضل في اخراج الآية عن التكرار يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى لاأعبد ماتعبدون نفى عبادة الاصنام ومن قوله تعالى ولا أنتم عابدون ما أعبد نفى عبادة الله تعالى من غير تعرض لشىء آخر ولما كان مظنة أن يقولوا لغفلة عن المراد أو نحوها كيف يسوغ لك أن تنفي عنك عبادة مانعبد ونحن أيضا نعبد اله تعالى غاية مافي الباب أنا نعبد معه غير أردف ذلك بقوله سبحانه ولا أنا عابد ماعبدتم الخ للاشارة الى أنهم ماعبدوا الله حقيقة وامنا عبدوا شيئا قالوا انه الله والله عز و جل وراء ذلك أي ولا أنا عابد في وقت من الاوقات الاله الذي عبدتم شيئا تخيلتموه وذلك بعنوان ماتخيلتم ليس بالاله الذي أعبده ولاأنتم عابدون في وقت من الاوقات ما أنا على عبادته لانى انما أعبد الاله المتصف بالصفات التي قام البرهان على انها صفات الاله 0 النفس الامرى ويعلم منه وجه غير ماتقدم للتعبير بالكافرون دون المشركون وكانه لم يؤت بالقرينتين الاوليين بهذا المعنى ويكتفي بهما عن الاخريين لانهما أوفق بجوابهم مع أن هذا الاسلوب أنكى لهم فلاتغفل ومن الناس من اختار كون مافي القرينتين الاوليين موصولة مفعولا به لما قبلها والمراد بها أولا آلهتهم وثانيا الهه عليه الصلاة و السلام والمراد نفى العبادة ملاحظا معها (30/252)
التعلق بما تعلقت به من المفعول بل هو المقصود ومحط النظر كما يقتضي ذلك وقوع القرينتين في الجواب ويعتبر الاستقبال رعاية للغالب في استعمال لا داخلة على المضارع مع كونه أوفق الجواب أيضا ويكون قد تم بهما فكأنه قيل لاأعبد في المستقبل ماتعبدون في الحال من الآلهة أي لاأحدث ذلك حسبما تطلبونه منى وتدعوني اليه ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد في الحال وكونها في الاخريين مصدرية مؤولة مع مابعدها بمصدر وقع مفعولا مطلقا لما قبل كما فعل أبو مسلم ليتضمن الكلام الاشارة الى بيان حال العبادة في نفسها من غير نظر الى تعلقها بالمفعول وان كانت لاتخلو عنه في الواقع اثر الاشارة الى بيان حالها مع ملاحظة تعلقها بالمفعول ويراد استمرارالنفي في كلتيهما كما في قوله تعالى لاخوف عليهم ولاهم يحزنون وفي ذلك من انكائهم ماليس في الاقتصار على ماتم به الجواب فكأنه قيل ولا أنا عابد على الاستمرار عبادة مثل عبادتكم اتي اذهبتم بها أعماركم لان عبادتى مأمور بها وعبادتكم منهى عنها ولاأنتم عابدون على الاستمرار عبادة مثل عبادتي التي أنا مستمر عليها لانكم الذين خذلهم الله تعالى وختم على قلوبهم واني الحبيب المبعوث بالحق فلا زلتم في عبادة منهى عنها ولازلت في عبادة مأمور بها ولك أن تعتبر الفرق بين العبادتين بوجه آخر واعتبار الاستمرار في ما أعبد يشعر به العدول عن ماعبدت الذي يقتضيه ماعبدتم قبله اليه وعن العدول في الثانية الى ذلك لان أنواع عبادته عليه الصلاة و السلام لم تكن تامة بعد بل كانت تتجدد لها أنواع أخر فأتى بما يفيد الاستمرار التجددى للاشارة الى حقيقة جميع ما يأتي به صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك وقال الزمخشري لم يقل ماعبدت كما قيل ماعبدتم لانهم كانوا يعبدون الاصنام قبل البعث وهو عليه الصلاة و السلام لم يكن يعبد اله تعالى في ذلك الوقت وتعقب بان فيه نظرا لما ثبت أنه عليه الصلاة و السلام كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة ونص أبو الوفاء على ابن عقيل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان متدينا قيل بعثه بما يصح عنه أنه من شريعة أبراهيم عليه السلام وأما بعد البعث فقال ابن الجوزى في كتاب الوفاء فيه روايتان عن الامام أحمد احداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي لا من جهتهم ولانقلهم ولاكتبهم المبدلة واختارها أبو الحسن التميمى وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثانية ان لم يكن متعبدا الابما يوحى اليه من شريعته وهو قول المعتزلة والاشعرية ولاصحاب الشافعى وجهان كالروايتين والقائلون بانه عليه الصلاة و السلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل كان متعبدا بشريعة أبراهيم عليه السلام وعليه أصحاب الشافعي وقيل بشريعة موسى عليه السلام الاما نسخ في شرعنا وظاهر كلام أحمد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان متعبدا بكل ماصح أنه شريعة لنبي قبله مالم يثبت نسخه لقوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقال ابن قتيبة لم تزل العرب على بقايا دين اسماعيل عليه السلام كالحج والختان وايقاع الطلاق الثلاث والدية والغسل من الجنابة وتحريم المحرم بالقرابة والصهر وكان عليه الصلاة و السلام على ماكانوا عليه من الايمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم انتهى والمعتزلة لم يجوزوا ذلك لزعمهم ان فيه مفسدة وهوايجاب النفرة نعم من أصولهم وجوب التعبد العقلي بالنظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده سبحانه ومعرفته عز و جل ولايمكن أن يخلى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك وفي الكشف العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح الواقعة على سبيل القربة فالايمان والنية والاخلاص شروط ومنه لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد واختلف أنه عليه الصلاة و السلام كان متعبدا بهذا المعنى قبل نبوته بشرع أولا فميل الامام فخر الدين وجماعة من الشافعية وأبي الحسين البصري وأتباعه الى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن متعبدا وأجابوا عن الطواف والتحنث (30/253)
وغيرهما من المكارم انها لاتحرم من شرع حتى يقال الآتى بها لابد أن يكون متعبدا بل هي من أقتضاء العادات المستمرة والمكارم الغريزية دون نظر الى قربة الزمخشرى اختار ذلك القول وعليه بنى تفسيره وقد أظهر أنه لم يخالف أصله في وجوب التعبد العقلى بالنظر فى الآيات وأدلة التوحيد والمعرفة ثم قال والظاهر حمل مأعبد على افادة الاستمرار والتصوير على أنهم ماكانوا ينكرون ماكان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فيما مضى عبادة كانت أولابل كانوا يعظمونه ويلقبونه بالامين انما كان المنكر ماكان عليه بعد النبوة فذلك قيل ثانيا ولا أنتم عابدون ماأعبد اذ لو قيل ماعبدت لم يطابق المقام وفيه أن ماكانوا يتوهمونه من موافقته عليه الصلاة و السلام قبل النبوة لم يكن صحيحا بل انما كان ذلك لانه لم يكن صلى اله تعالى عليه وسلم مأمورا بالدعوة انتهى فتدبره وزعم بعضهم ان تغاير الاساليب في هذه السورة لتغاير أحوال الفريقين وليس بشىء وفي تكليف مثل هؤلاء المخاطبين بما ذكر على القول بافادته الاستمرار على الكفر بالايمان بحث مذكور في كتب الاصول ان اردته فارجع اليه وسيأتي ان شاء الله تعالى في سورة تبت اشارة ما الى ذلك وقوله تعالى لكم دينكم هو عند الاكثرين تقرير لقوله تعالى لاأعبد ماتعبدون وقوله تعالى ولا أنا عابد ماعبدنم كما ان قوله تعالى ولى دين عندهم تقرير لقوله تعالى ولا أنتم عابدون مأعبد والمعنى أن دينكم وهوالاشراك مقصور على الحصول لكم لايتجاوزه الى الحصول كما تطمعون فيه فلاتعقلوا به أمانيكم الفارغة فان ذلك من المحالات وأن دينى هو التوحيد مقصور على الحصول لى لايتجاوزه الى الحصول لكم أيضا لان الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لانكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتى لآلهتكم أو استلامى لها أو لان ماوعدتموه عين الاشراك وحيث أن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر افراد حتما وجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى ولاأنا عابد ماعبدتم والآية على ماذكر محكمة غير منسوخة كما لايخفى أو المراد المتاركة على معنى انى نبي مبعوث اليكم لادعوكم الى الحق والنجاة فاذا لم تقبلوا منى ولم تتبعونى فدعونى كفافا ولاتدعونى الى الشرك فهى على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف وفسر الدين بالحساب أى لكم حسبكم ولى حسابى لايرجع الى كل منا من عمل صاحبه أثر وبالجزاء أى لكم جزاؤكم ولى جزائى قيل والكلام على الوجهين استتئناف بيانى كانه قيل فما يكون اذا بقينا على عبادة آلهتنا واذا بقيت على عبادة الهك فقيل لكم الخ والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة و السلام الخير لكن أتى باللام فى لكم للمشاكلة وعليه لانسخ أيضا ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لايخفى وقد يفسر الدبن بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالى في أماليه وغيره أى لكم حالكم اللائق بكم الذى يقتضيه سوء استعدادكم ولى حالى اللائق بى الذى يقتضيه حسن استعدادى والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ والاولى أن تفسر بما لاتكون منسوخة لان النسخ خلاف الظاهر فلا يصار اليه الا عند الضرورة وللامام الرازى أوجه فى تفسيرها لايخلوا بعضها عن نظر وذكر عليه الرحمة انه جرت العادة بان الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لايجوز لان القرآن ماأنزل ليتمثل به بل ليهتدى به وفيه ميل الى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع فى كلامه عليه الصلاة و السلام وكلام كثير من الصحابة والائمة والتابعين وللجلال السيوطى رسالة وافية كافبة فى ازالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس عن وجه جوازا الاقتباس وما ذكر من الدليل فاظهر من أن ينبه على ضعفه وقرأ سلام ويعقوب دينى بياء وصلا ووقفها وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم (30/254)
سورة النصر
وتسمى سورة أذا جاء وعن ابن مسعود انها تسمى سورة التوديع لما فيها من الايماء الى وفاته عليه الصلاة و السلام وتوديعه الدنيا وما فيها وجاء في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين نزلت نعيت الى نفسى وفى رواية البيهقى عنه أنه لما نزلت دعا عليه الصلاة و السلام فاطمة رضى الله تعالى عنها وقال انه قد نعيت الى نفسى فبكت ثم ضحكت فقيل لها فقالت أخبرنى انه نعيت اليه بنفسه فبكيت ثم أخبرنى بأنك أول أهلى لحاقا بى فضحكت وقد فهم ذلك منها عمر رضى الله تعالى عنه وكان يفعل عليه الصلاة و السلام بعدها فعل مودع وهى مدنية على القول الاصح في تعريف المنى فقد أخرج الترمذى في مسنده والبيهقى من حديث موسى بن عبيدة وعبد الله بن دينار وصدقة بن بشار عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قال هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسام أوسط أيام التشريق بمعنى وهو في حجة الوداع اذا جاء نصر الله والفتح حتى ختمها الخبر وأخرجه أيضا ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وغيرهما لكن قال الحافظ بن رجب بعد أن أخرجه عن الاولين أن اسناده ضعيف جدا وموسى بن عبيدة قال احمد لاتحل الرواية عنه وعليه ان صح يكون نزولها قريبا جدا من زمان وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم فان مابين حجة الوداع واجابته عليه الصلاة و السلام داع الحق ثلاثة أشهر ونيف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال والله ماعاش صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نزول اذا جاء نصر الله والفتح قليلا سنتين ثم توفى عليه الصلاة و السلام وفي البحر ان نزولها عند منصرفه صلى الله تعالى عليه وسلم من خيبر وأنت تعلم أن غزوة خيبر كانت فى سنة سبع أواخر المحرم فيكون مافى البين أكثر من سنتين ويدل على مدنيتها أيضا ماأخرجه مسلم وابن شيبة وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال خر سورة نزلت من القرآن جميعا اذا جاء نصر الله وآيها ثلاث بالاتفاق وفيها اشارة الى اضمحلال ملة الاصنام وظهور دين الله عز و جل على اتم وجه وهو وجه مناسبتها لما قبلها ويحتمل غير ذلك وهى على مأخرج الترمذى وغيره من حديث أنس اذا جاء نصر الله والفتح ربع القرآن ولم اظفر بوجه ذلك وسيأتى ان شاء الله تعالى مايتعلق به بسم الله الرحمن الرحيم
اذا جاء نصر الله اى اعانته تعالى واظهاره اياك على عدوك وهذا معنى النصر المعدى بعلى وفسر به لانه اوفق بقوله تعالى والفتح وجوز أن يراد به المعدى بمن ومعناه الحفظ والفتح يتضمن النصر بالمعنى الاول فحينئذ يكون الكلام مشتملا على افادة النصرين والاول هو الظاهر واذا منصوب بسبح والفاء غير مانعة على ماعليه الجمهور فى مثل ذلك وأبو حيان على أنها معمولة للفعل بعدها وليست مضافة اليه وسيأتى ان شاء الله تعالى قول آخر والمراد بهذا النصر ماكان في أمر مكة من غلبته عليه الصلاة و السلام على قريش وذكر النفاش عن ابن عباس أن النصر هو صلح الحديبية وكان فى آخر سنة ست واما الفتح فقد أخرج جماعة عنه وعن عائشة أن المراد به فتح مكة وروى ذلك عن مجاهد وغيره وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة وقال ابن شهاب لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان على رأس ثمان سنين ونصف من الهجرة وخرج عليه الصلاة و السلام على مأخرجه أحمد بسند صحيح عن أبى سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان وفى رواية أخرى لثنتى عشرة وعند مسلم لست عشرة وقال الواقدى خرج صلى الله تعالى علسه وسلم يوم الاربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر وضعفه القسطلانى وكان المسلمون في تلك الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والانصار وطوائف من العرب وفى الاكليل اثني (30/255)
عشر ألفا وجمع بان العشرة خرج بها عليه الصلاة و السلام من المدينة ثم تلاحق الالفان والاولى أن يحمل النصر على ماكان مع الفتح المذكولر فان كانت السورة الكريمة نازلة قبل ذلك فالامر ظاهر وتتضمن الاعلام بذلك قبل كونه وهو من أعلام النبوة واذا كانت نازلة بعده فقال الماتردى فى التأويلات ان اذا بمعنى اذ التى للماضى ومجيئها بهذا المعنى كثير فى القرآن وعليه تكون متعلقة مقدر ككمل الامر أو أتم النعمة على العباد أو نحو ذلك لابسبح لان الكلام حينئذ نحو أضرب زيدا أمس وقال بعض الاجلة هى لما يستقبل كما هو الاكثر فى استعمالها وحينئذ لم يكن بد من أن يجعل شىء من ذلك مستقبلا مترقيا باعتبار أن فتح مكة كان أم الفتوح والدستور لما يكون من بعده فهو مرتقب باعتبار مايدل عليه وان كان متحققا باعتباره في نفسه وجوز ان يكون الاستقبال باعتبار مجموع ما في حيز اذا فمنه ماهو مستقبل وهوماتضمنه قوله سبحانه ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ولو باعتبار آخر داخل وهو مما لابأس به ان لم يكن النزول بعد تمام الدخول وقيل المراد جنس نصر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة و السلام والمؤمنين وجنس الفتح فيعم اكان في أمر مكة زادها الله شرفا وغيره وأمر الاستقبال عليه ظاهر وأيما كان فالمراد بالمجىء الحصول وهوحقيقة فيه على مايقتضيه ظاهر كلام الراغب وقال القاضى مجاز والظاهر أن الخطاب في رأيت للنبى عليه الصلاة و السلام وارؤية بصرية أوعلمية متعدية لمفعولين والناس والعرب ودين الله ملة الاسلام اتى لادين له تعالى يضاف اليه غيرها والافواج جمع فوج وهوعلى ماقال الراغب الجماعة المارة المسرعة ويراد به مطلق الجماعة قال الحوفى وقياس جمعه أفوج ولكن أستثقلت الضمة على الواو فعدل الى أفواج وفى البحلر قياس فعل صحيح العين أن يجمع على أفعل لاعلى أفعال ومعتل العين بالعكس فالقياس فيه أفعل كحوض وأحواض وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب ونصب أفواجا على الحال من الضمير يدخلون وأما جملة يدخلون فهى حال من الناس على الاحتمال الاول في الرؤية ومفعول ثان على الاحتمال الثانى فيها وكونها حالا أيضا بجعل رلأيت بمعنى عرفت كما قال الزمخشرى تعقبه أبوحيان بقوله لانعام أن رأيت جاءت بمعنى عرفت فيحتاج فى ذلك الى استثبات والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجا أى جماعات كثيرة اسلامهم من غير قتال وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته عليه الصلاة و السلام وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين أخرج البخارى عن عمرو بن سلمة قال لما كان الفتح بادر كل قوم باسلامهم الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكنت الاحياء تتلوم باسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فان ظهر عليهم فهو نبى وعن الحسن قال لما فتح رسول الله صلى الله تعالى علسه وسلم مكة قالت الاعراب أما اذ ظفر بأهل مكة وقد أجارهم الله تعالى من اصحاب الفيل فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا وقال أبو عمر بن عبد البر لم يتوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفى العرب رجل كافر بل دخل الكل فى الاسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم ومنهم قدم وافده وتأول ذلك ابن عطية فقال المراد والله تعالى أعلم العرب عبدة الاوثان فان نصارى بنى تغلب ماأراهم الله أسلموا في حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن أعطوا الجزية ونص بعضهم على انهم لم يسلموا اذ ذاك فالمراد بالناس عبدة الاوثان من العرب كأهل مكة والطائف واليمن وهوزان ونحوهم وقال عكرمة ومقاتل المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وأسلموا واحتج له بما أخرجه ابن جرير من طريق الحصين بن عيسى عن معمر الزهرى عن أبى حازم عن أبى عباس قال بينما رسول الله صلى اله تعالى عليه وسلم فى المدينة اذ قال الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن قال قوم رقيقة قلوبهم (30/256)
لينة طاعتهم الايمان والفقه يمان والحكمة يمانية وأخرجه أيضا من طريق عبد الاعلى عن معمر عن عكرمة مرسلا وقوله عليه الصلاة و السلام الايمان يمان جاء في حديث أخرجه البخارى ومسلم والترمذى عن أبى هريرة مرفوعا بلفظ أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة والين قلوبا الايمان يمان والحكمة يمانية فقيل قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لان مكة يمانية ومنها بعث صلى الله تعالى عليه وسلم وفشأ الايمان وقيل ارادة عليه الصلاة و السلام مدح الانصار لانهم يمانون وقد تبوؤا الدار والايمان وقول ابن عباس في الخبر في المدينة يعارض قول من قال ان ذلك انما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم بتبوك وكان بينه وبين اليمن مكة والمدينة وهما دارا الايمان ومظهراه ويحتمل تكرر القول والظاهر انه ثناء على أهل اليمن لاسراعهم الى الايمان وقبولهم له بلا سيف ويشمل الانصار من أهل اليمن وغيرهم فكان الايمان كان في سنخ قلوبهم فقبلوه كما أنهى اليهم كمن يجد ضالته ومثله في الثناء عليهم قوله عليه الصلاة و السلام أجد نفس ربكم من قبل اليمن وقال عصام الدين يحتمل أن يكون الخطاب في رأيت الناس عاما لكل مؤمن ثم قال ومما يختلج في القلب أن الناسب بقوله تعالى يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمل قوله سبحانه والفتح على فتح باب الدين عليهم انتهى وكلا الامرين كما ترى وقرأابن عباس كما اخرج ابو عبيدة وابن المنذر عنه اذاء جاء فتح الله والنصر وقرا ابن كثير في رواية يدخلون بالبناء للمفعول فسبح بحمد ربك اى فنزهه تعالى بكل ذكر يدل عالى التنزيه حامدا له جلا وعلا زيادة في عبادته والثناء عيه سبحانه لزيادة انعامه سبحانه عليك فالتسبيح التنزيه لا التلفظ بكلمة سبحان الله والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والحمد مضاف اى المفعول وامعنى على الجمع بين تسبيحه تعالى وهو تنزيه سبحانه عما لايليق به به عز و جل من النقائص وتحميده وهو اثبات مالايليق به تعالى من الحامد له لعظم ما انعم سبحانه به عليه عليه الصلاة و السلام وقيل أي نزهه تعالى عن العجز في تأخير ظهور الفتح واحمده على التأخير وصفه تعالى بان توقيت الامور من عنده ليس الا لحكمة لايعرفها الا هو عز و جل وهوكما ترى وايد ذلك بما في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر ان يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى يتأول القرآن تعنى هذا مع قوله تعالى واستغفره أى اطلب منه ان يستغفر لك وكذا كما في مسند الامام أحمد وصحيح ومسلم عن عائشة أيضا قالت كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب اليه وقال ان ربي كان أخبرنى ان سأرى علامة فى أمتى وامرنى أذا رأيتها ان اسبح بحمده واستغفره الخ وروى ابن جرير من طريق حفص ابن عاصم عن الشعبى عن ام سلمة قالت كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في آخر أمره لايقوم ولايقعد ولايذهب ولا يجىء الا قال سبحان الله وبحمده قال اتي امرت بها وقرأ السورة وهو غريب وفي المسند عن ابي عبيدة عن عبد الله بن مسعود لما نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اذا جاء نصر الله والفتح كان يكثر اذا قرأها وركع أن يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى انك أنت التواب الرحيم ثلاثا وجوز أن تكون الباء للاستعانة والحمد مضاف الى الفاعل أى سبحه بما حمد سبحانه به نفسه قال ابن رجب اذ ليس كل تسبيح بمحمود فتبيح المعتزلة يقتضى تعطيل كثير من الصفات وقد كان بشر المريسى يقول سبحان ربى الاسفل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا والظاهر الملابسة وجوز ان يكن التسبيح مجازا عن التعجب بعلاقة السببية فأن رأى أمرا عجيبا قال سبحان الله أى فتعجب لتيسير الله تعالى بما لم يخطر ببالك وبال أحد من ان يغلب أحد على أهل الحرم وأحمده تعالى على صنعه وهذا التعجب تعجب (30/257)
متأمل شاكر يصح أن يؤمر به وليس الامر بمعنى الخبر بان هذه القصة من شأنها أن يتعجب منها كما زعم ابن المنير والتعليل ان الامر فى صيغة التعجب ليس أمرا بين السقوط نعم هذا الوجه ليس بشىء والاخبار دالة على ان ذلك أمر له صلى اله تعالى عليه وسلم بالاستعداد للتوجه الى ربه تعالى والاستعداد للقائه بعدما أكمل دينه وأدى ماعليه من البلاغ وأيضا ماذكرناه من الآثار آنفا لايساعد عليه وقيل المراد بالتسبيح الصلاة لاشتمالها عليه ونقله ابن الجوزى عن ابن عباس اى فصل له تعالى حامددا على نعمه وقد روى صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أم هانىء ثمان ركعات وزعم بعضهم انه صلاها داخل الكعبة وليس بالصحيح واياما كان فهى صلاة الفتح وهى سنة قد صلاها سعد يوم الفتح المدائن وقيل صلاة الضحى وقيل أرع منها للفتح وأربع منها للضحى وعلى كل ليس فيها دليل على أن المراد بالتسبيح الصلاة والاخبار أيضا تساعد على خلافه واستغفاره صلى الله تعالى عليه وسلم قيل لانه كان دائما في الترقى فاذا ترقى الى مرتبة استغفر لما قبلها وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الاولى بمنصبه المنيف وقيل عما كان من سهو ولو قيل النبوة وقيل لتعليم أمته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هو استغفار لامته وجوز بعضهم كون الخطاب في رأيت عاما وقال ههنا يجوز حينئذ ان يكون الامر بالاستغفار لمن سواه عليه الصلاة و السلام وادخاله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الامر تغليب وهذا خلاف الظاهر جدا وأنت تعلم ان كل احد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغى وادائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وانما يؤديها على قدر مايعرف ان قدر الله عز و جل اعلى واجل من ذلك فهو يستحى من عمله ويرى انه مقصر وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه اخوف وبرؤية تقصيره ابصر وقد كان كهمس يصلى كل ألف ركعة فاذا صلى اخذ بلحيته ثم يقول لنفسه قومى ياماؤى كل سوء فوالله مارضيتك لله عز و جل طرفة عين وعن مالك بن دينار لقد هممت ان اوصى اذا مت ان ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق الى سيده فاذا سالنى قلت يارب انى لم ارض لك نفسى طرفة عين فيمكن ان يكون استغفاره عليه الصلاة و السلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته فيرى ان عبادته وان كانت أجل من جميع عبادة العابدين دون مايليق ذلك الجلال وتلك العظمة اتى هى وراء مايخطر بالبال فيستحى ويهرع الى الاستغفار وقد صح انه عليه الصلاة و السلام كان يستغر الله فى اليوم والليلة اكثر من سبعين مرة وللاشارة الى قصور العابد عن الاتيان بما يليق بجلال المعبود وان يذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا انه يشرع لمصلى المكتوبة ان يستغفر عقبها ثلاثا وللمجتهد فى الاسحار ان يستغفلر ما شاء الله تعالى وللحاج ان يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله أن الله غفور رحيم وروى انه يشرع لختم الوضوء وقالوا يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يقول اذا قام من المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب اليك ففى الامر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ماقيل الى مافهم من النعى والمشهور أن ذلك للدلالة على مشارفة تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين والكلام وان كان مشتملا على التعليق وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل على طريقة النزول من الخالق الى الخلق كما قيل مارأيت شيئا الا ورأيت (30/258)
الله تعالى قبله لأن جميع الاشياء مرايا لتجيله جل جلاله وذلك لان التسبيح والحمد توجها بالذات لجلال الخالق وكماله فى الاستغفار توجها بالذات لحال العبد وتقصيراته ويجوز أن يكون تأخير الاستغفار عنها لما أشرنا اليه في مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار وقيل فب تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء وهو أن لايسأل فجأة من غير تقديم اثناء عاعللى المسؤل منه انه كان توابا أى منذ خلق المكلفين أى مبالغا فى قبول توبتهم فليكن المستغفر التائب متوقعا للقبول فالجملة فى موضع التعليل لما قبلها واختيار توابا على غفارا مع انه الذى يستدعيه استغفره ظاهرا للتنبيه كما قال بعض الاجلة على ان الاستغفار انما ينغع اذا كان مع التوبة وذكر ابن رجب ان الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون فاستغفر الله تعالى وأتوب اليه سبحانه هو طلب المغفرة بالدعاء فقط وقال أيضا أن المجرد طلب وقاية شر الذنب الماضى بالدعاء والندم عليه ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الاقلاع عنه وهذا يمنع الاصرار كما جاء ماأصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ولاصغيرة مع الاصرار ولاكبيرة مع الاستغفار والمقرون بالتوبة مختص بالنوع الاول فان لم يصحبه الندم على الذنب الماضى فهو دعاء محض وان صحبه ندم فهو توبة انتهى والظاهر ان ذلك الدعاء المحض غير مقبول وفيه سوء من الادب مع الله تعالى مافيه وقال بعض الافاضيل ان فى الآية احتباكا والاصل واستغفره انه كان غفارا وتب اليه انه كان توابا وأبد بما قدمناه من حديث الامام أحمد ومسلم عن عائشة رضى الله تعالى عنها وحمل الزمان الماضى على زمان خلق المكلفين هو مارتضاه غير واحد وقال الماتريدى فلى التأويلات أى لم يزل توابا لا أنه سبحانه تواب لاأنه سبحانه تواب بامر أكتسبه وأحدثه على مايقوله المعتزلة من أنه سبحانه صار توابا اذ أنشأ الخلق فتابوا فقبل توبتهم فاما قبل ذلك فلم يكن توابا ورد عليه بان قبول التوبة من الصفات الاضافية ولانزاع فى حدوثها واختار بعضهم ماذهب اليه الماتريدى على أن المراد أنه تعالى لم يزل بحيث يقبل التوبة ومآله قدم منشأ قبولها من الصفات اللائقة به جل شانه وفى ذلك يقوى الرجاء به عز و جل مافيه وصح لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم وفى خير الدنيا والآخرة أخرج الامام أحمد من حديث حديث عطية عن أبى سعيد مرفوعا من قال حين يأوى الى فراشه استغفر اله الذى لااله الا هو الحى القيوم وأتوب اليه غفر له ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر وان كانت مثل رمل عالج وان كانت عدد ورق الشجر وأخرج أيضا من حديث ابن عباس من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا وأنا أقول سبحان اله وبحمده أستغفر الله تعالى وأتوب اليه وأسلأله أن يجعل لى من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا بحرمة كتابه وسيد أحبابه صلى الله تعالى عليه وسلم
سورة تبت
وتسمى سورة المسد وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف فى الامرين ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس فى ملة الاسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه على نفسه فليبك من ضاع عمره
وليس له منها نصيب ولاسهم كذا قيل فى وجه الاتصال وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفى كل مسرة له عليه الصلاة و السلام وقال الامام في ذلك انه تعالى لما قال لكم دينكم واى دين فكانه صلى الله تعالى عليه وسلم قال اهى فما جزائى فقال اله تعالى لك النصر والفتح فقال فما جزاء عمى الذى دعانى الى عبادة الاصنام فقال تبت يداه وقدم الوعد على الوعيد (30/259)
ليكون النصر متصلا بقوله تعالى ولى دين والوعيد راجعاالى قوله تعالى لكم دينكم على حد يوم تبيض وجوه الآية فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر مانزل بالمدينة وتبت من من أوائل مانزل بمكة لتعلم ان ترتيبها من الله تعالى وبامره عز و جل ثم قال ووجه آخر وهو انه لما قال لكم دينكم ولى دين فكانه قيل الهى ما جزاء المطيع قال حصول النصر والفتح ثم قيل فما جزاء العاصى قال الخسار فى الدنيا والعقاب فى العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى بسم اله الرحمن الرحيم
تبت أى هلكت كما قال جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أى خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة وعن الاول أيضا خابت وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهى على مافى فى البحر أقوال متقاربة وقال الشهاب ان مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد الى الهلاك ولذا فسر به وقال الراغب هو الاستمرار فى الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفان كذا أى استمر ويرجع هذا المعنى الى الهلاك يدا أبى لهب هو عبد العزى عبد المطلب عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة و السلام ومن ذلك مافى المجمع عن طارق المحاربى قال بينا أنا بسوق ذى المجاز اذا أنا برجل حديث السن يقول أيها الناس قولوا لااله الا الله تفلحوا واذا رجل خلفه يرميه قد قد أدمى ساقيه وعر قوبيه وبقول ياأيها الناس انه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يزعم أنه نبى وهذا عمه أبو لهب يزعم انه كذاب وأخرج الامام أحمد والشيخان والترمذى عن ابن عباس قال لما نزلت وأنذر عشيرتك الاقربين صعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على الصفا فجعل ينادى يابنى فهر يابنى عدى لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل اذ لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى قالوا نعم ماجربنا عليك الاصدقا قال فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك سائر الايام ألهذا جمعتنا فنزلت ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمى بها رسول الله صلى الله تعالى عيه وسلم ومن هذا يعلم وجه ايثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم واسناده الى يديه وكذا مما روى البيهقى فى الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال اما خرج من الشعب وظاهر قريشا ان محمدا يعدنا اشياء لانراها كائنة يزعم انها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يديه ثم نفخ فى يديه ثم قال تبا لكما ماأرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلى اله تعالى عليه وسلم فنزلت تبت يدا أبى لهب ومما روى عن طارق يعلم وجه الثانى فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما وقوله سبحانه وتب دعاء بجلاك كله وجوز ان يكونا اخبارين بهلاك ذينك الامرين والتعبير بالماضى فى الموضعين لتحقق الوقوع وقال الفراء الاول دعاء بهلاك جملته على ان اليدين اما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم فى الجملة أومجاز من اطلاق الجزء على الكل كما قال محى السنة والقول في رده انه يشترط أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا وفى قوله تعالى ولاتلقوا بأيديكم الى التهلكة أو المراد على ماقيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في اطلاق العين على الربيئة واليد على المعطى أو المتعاطى لبعض الافعال فان الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو والثانى اخبار بالحصول أى وكان ذلك وحصل كقول النابغة جزانى جزاه الله شر جزائه
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود وفى الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس (30/260)
فى سبب النزول فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب وقد تب وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لان قد لاتدخل على أفعال الدعاء وقيل الاول اخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم يمنعه لان الاعمال تزاول بالايدى غالبا والثانى اخبار عن هلاك نفسه وفى التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن الى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والى قريش ويقول ان كان الامر لمحمد فلى عنده يد وان كان لقريش فكذلك فأخبر أنه خسرت يده التى كانت عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعناده له ويده التى عند قريش أيضا بخسران قريش وهلاكهم فى يد النبى عليه الصلاة و السلام فهذا معنى تبت يدا أبى لهب والمراد بالثانى الاخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وان تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك ويؤيد ذلك قراءة من قرأ يدا أبو لهب كما قيل على بن أبو طالب ومعاوية ابن أبوسفيان لئلا يغير منه شىء فيشكل على السامع أو لكراهة ذكر أسمه القبيح أو لانه كما روى عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه واشراقهما فذكر ذلك تهكما به وبافتخاره بذلك أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظا ومعنى والقول بأنه ليس بتجنيس لفظى لانه ليس فى الفاصلة وهم فانهم لم يشترطوه فيه أو لجعله كناية عن الجهنمى فكأنه قيل تبت يدا جهنمى وذلك لان انتسابه الى اللهب كانتساب الاب الى الولد يدل على ملابسته له وملازمته اياه كما يقال هو أبو الخير وأبو الشر وأخو الفضل وأخو الحرب لمن يلابس هذه الامور ويلازمها وملازمته لذلك تستلزم كونه جهنميا لزوما عرفيا فان اللهب الحقيقى هولهب جهنم فالانتقال من أبى لهب الى جهنمى انتقال من الملزوم الى اللازم أو بالعكس على اختلاف الرأيين فى الكناية فان التلازم بينهما فى الجملة متحقق في الخارج والذهن الا ان هذا اللزوم انما هو بحسب الوضع الاول أعنى الاضافى دون الثانى أعنى العلمى وهم يعتبرون فى الكنى المعنى الاصلية فأبو لهب باعتبار الوضع العلمى مستعمل فى الشخص العين وينتقل منه الى انه جهنمى فهو كناية عن الصفة بالواسطة وهذا ماختاره العلامة الثانى فعنده بلا بواسطة لان معناه الاصلى أعنى ملابس اللهب ملحوظ مع معناه العلمى واحق مع العلامة لان أبا لهب يستعمل في الشخص المعين والمتكلم بناء على اعتبارهم المعانى الاصلية فى الكنى ينتقل منه الى المعنى الاصلى ثم ينتقل منه الى الجهنمى ولايلاحظ معه معناه الاصلى والا لكان لفظ أبى لهب فى الآية مجازا سواء لوحظ معه معناه الاصلى بطريق الجزئية أو التقييد لكونه غير موضوع للمجموع وماقيل ان المعنى الحقيقى لايكون مقصودا فى الكناية وان مناط الفائدة والصدق والكذب فيها هو المعنى الثانى وههنا قصد الذات المعين فليس بشىء لان الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز ارادته معه فيجوز ههنا ان يكون كلا المعنيين مرادا وفي المفتاح تصريخ بان المراد في الكناية هو المعنى الحقيقى ولازمه جميعا وزعم السيد أيضا ان الكناية فدل أبى لهب لانه اشتهر بهذا الاسم وبكونه جهنميا فدل اسمه على كونه جهنميا دلالة حاتم على أنه جواد فاذا أطلق وقصد به الانتقال الى هذا المعنى يكون كناية عنه وفيه انه يلزم منه أن تكون الكناية فى مثله موقوفة على اشتهار الشخص بذلك العلم وليس كذلك فانهم ينتقلون من الكنية الى مايلزم مسماها باعتبار الاصل من غير توقف على الشهرة قال الشاعر قصدت أنا المحاسن كى أراه
لشوق كان يجذبنى اليه فلما أن رأيت له فردا
ولم أر من بنيه ابنا لديه (30/261)
على أن فيه بعد ما فيه وقرأ ابن محيص وابن كثير أبى لهب بسكون الهاء وهو من تغيير الاعلام على مافى الكشاف وقال أبو البقاء الفتح والسكون لغتان وهوقياس على المذهب الكوفى ما أغنى عنه ماله أى لم يغنى عنه ماله حين حل به التباب على أن ما نافية ويجوز أن تكون استفهامية فى محل نصب بما بعدها على أنها مفعول به أومفعول مطلق أى اغناء أو أى شىء أغنى عنه ماله وماكسب أى والذى كسبه على أن ما موصولة وجوز أن تكون مصدرية أى وكسبه وقال أبو حيان اذا كان ما الاولى استفهامية فيجوز أن تكون هذه كذلك أى وأى شىء كسب أى لم يكسب شيئا وقال عصام الدين يحتمل أن تكون نافية والمعنى ما أغنى عنه ماله مضرة وما كسب منفعة وظاهرة أنه جعل فاعل كسب ضمير المال وهو كما ترى واستظهر فى البحر موصوليتها فالعائد محذوف أى والذى كسبه به من الارباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع أو ما أغنى عنه ماله الموروث من أبيه والذى كسبه بنفسه أو ماله والذى كسبه من عمله الخبيث الذى هو كيده فى عداوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال الضحاك أو من عمله الذى يظن أنه منه على شىء كقوله تعالى وقدمنا الى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا كما قال قتادة وعن ابن عباس ومجاهد ماكسب من الولد أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعا أن أطيب مايأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه وروى أنه كان كان يقول ان كان مايقول ابن أخى حقا فانا أفتدى منه نفسى بمالى وولدى وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح وسر النبى عليه الصلاة و السلام باسلامهما ودعا لهما وشهدا حنينا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم وفى ذلك يقول صاحب كتاب الباء كرهت عتيبة اذ أجرما
وأحببت عتبة اذ أسلما كذا معتب مسلم فأحترز
وخف أن تسب فتى مسلما وكانت أم كلثوم بنت رسول اله صلى الله تعالى عليه وسلم عند عتيبة وأختها عند أخيه عتبة فلما نزلت هذه السورة قال أبو لهب لهما رأسى ورأسكما حرام ان لم تطلقا ابنتى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فطلقاهما الا ان عتيبة المصغر كان قد أراد الخروج الى الشام مع أبيه فقال لآتين محمدا عليه الصلاة و السلام وأوذينه فأتاه فقال يامحمد انى كافر بالنجم اذا هوى وبالذى دنا فتدلى ثم تفل تجاه رسول الله صلى تعالى عليه وسلم ولم يصبه عليه الصلاة و السلام شىء وطلق ابنته أم كلثوم فاغضبه عليه الصلاة و السلام بما قال وفعل فقال صلى تعالى عليه وسلم اللهم سلط عليه كلبا من كلابك وكان أبو طالب حاضرا فكره ذلك وقال ما أغناك باأبن أخى عن هذه الدعوة فرجع الى أبيه ثم خرجوا الى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم ان هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب أغيثونى يامعشر قريش فى هذه الليلة فانى أخاف على أبنى دعوة محمد صلى اله تعالى عليه وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوهم حولهم خوفا من الاسد فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفى ذلك يقول حسان من يرجع العام الى أهله
فما أكيل ايبع راجع وهلك أبو لهب نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوى وكانت قريش تتقيها كالطاعون فبقى ثلاثا حتى نتن فلما خافوا العار استأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه وفى رواية حفروا له حفرة ودفعوه بعود حتى وقع فيها حتى وقع فيها فقذفوه بالحجارة حتى واروه وفى أخرى انهم لم يحفروا له وأنما أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خافه حتى توارى فكان الامر كما أخبر به القرآن وقرأ عبد الله وماأكتسب بناء الافتعال سيصلى نارا سيدخاها لامحالة فى الآخرة ويقاسى حرها (30/262)
والسين لتأكيد الوعيد والتنوين للتعظيم أى نارا عظيمة ذات لهب ذات اشتعال وتوقد عظيم وهى نار جهنم ما أغنى الخ قال فى الكشف استئناف جوابا عما كان يقول انا افتدى بمالى ويتوهم من صدقه وفى تحسير له وتهكم بما كان مفتخر به من المال والبنين وهذه الجملة تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم أغناء المال والولد وهو ظاهر على تفسير ماكسب بالولد وقال بعض الافاضل الاولى اشارة لهلاك عمله وهذه اشارة لهلاك نفسه وهوأيضا على بعض الاوجه السابقة فتذكر ولاتغفل وقوله تعالى وامرأته عطف على المستكن فى سيصلى لمكان الفصل بالمفعول وقوله تعالى حمالة الطب نصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء عالى أن الاضافة غير حقيقة للاستقبال على ما ستسمعه ان شاء الله تعالى وهى أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان اخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضى الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبى طالب دخل على معاوية فقال له معاوية له أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال له عقيل اذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب ولاأظن صحة هذا الخبر عن الصادق لان فيه مافيه وكانت على مافى البحر عوراء ووسمت بذلك لانها على ماأخرج بن أبى حاتم وابن جرير عن ابن زيد كانت تأتى بأغصان الشوك تطرحها بالليل فى طريقه عليه الصلاة و السلام وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير وروى عن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت نحمل الحطب عالى ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عنه وعن مجاهد انها كانت تمشى بالنميمة وأخرجه ابن أبى حاتم عن الحسن أيضا وروى عن ابن عباس والسدى ويقال لمن يمشى بها يحمل الحطب بين الناس أى يوقد بينهم النائرة ويؤرث الشر فالحطب مستعار للنميمة وهى استعارة مشهورة ومن ذلك قوله من البيض لم تصطد على ظهر لامة
ولم تمشى بين الحى بالحطب الرطب وجعاه رطبا ليدل على التدخين اذى هو زيادة فى الشر ففيه ايغال حسن وكذا قول الراجز ان بنى الادرم حمالوا الحطب
هم الوشاة فى الرضاء والغضب وقال ابن جرير حمالة الخطايا واذنوب من فلان يحطب على ظهره اذا كان يكتسب الآثام والخطايا والظاهر ان الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلا مبدأ للاحراق وقيل الحطب جمع حاطب جمع حارس وحرس أى تحمل الجناة على الجنايات وهومحمل بعيد وقر أبو حيوة وابن مقسم سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ومريئته بالتصغير والهمز وقرىء ومريته بالتصغير وقاب الهمزة ياء وادغامها وقرأ الحسن وابن اسحق سيصلى بضم الياء وسكون الصاد واختلس حركة الهاء فى أمرأته أبو عمر وفى رواية وقرأ أبو قلابة حاملة الحطب على وزن فاعله مضافا وقرأ الاكثرون حمالة الحطب بالرفع والاضافة وقرىء حمالة للحطب بالتنوين رفعا ونصبا وبلام الجر فى الحطب وقوله تعالى فى جيدها حبل من مسد جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فى موضع الحال من الضمير فى حمالة وقيل من أمرأته المعطوف على الضمير وقيل الظرف حال منها وحبل مرتفع به على الفاعلية وقيال هو خبر لامرأته وهى مبتدأ لامعطوفة على الضمير وحبل فاعل وعلى قراءة حمالة بالرفع وقيل امرأته مبتدأ وحمالة خبر وفى جيدها حبل خبر ثان أو حال من ضمير حمالة أو الظرف كذلك وحبل مرتفع به على الفاعلية أو امرأته عطف على الضمير وحمالة خبر مبتدأ محذوف أى هي حمالة وما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير مامر وفى التركيب غير ذلك من أوجه الاعراب سيذكر ان شاء الله تعالى وبعض ماذكرناه ههنا غير مطرد على (30/263)
جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل والمسد مامسد أى فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل على ماقال أبو الفتح ومن أى ليف على ماقيل وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروى ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما فى البحر من جلود الابل أو أوبارها ومنه قوله ومسد أمر من أيانق
ليست بانياب ولا حقائق أى فى عنقها مما مسد من الحبال والمراد تصويرها بصورة الحطابة التى تحمل الحزمة وتربطها فى جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها اذا كانا فى بيت العز والشرف وفى منصب الثروة والجدة ولقد عير بغض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب بحاله الحطب فقال مذا أردت الى شتمى ومنقصتى
ام ماتعير من حمالة الحطب غراء شادخة غى الجد غرتها
كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب وقد أغضبها ذلك فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضى الله تعالى عنه وهومع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى المسجد وفى يدها فهر فقالت أن صاحبك قد هجانى ولافعلن وأفعلن وان كان شاعرا فانا مثله أقول مذمما أبينا
ورينه قلينا
وأمره عصينا وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى تعالى عليه وسلم فروى أن أبا بكر قال لها هل ترى معى أحدا فقالت أتهزأ بى لاأرى غيرك فسكت أبو بكر ومضت وهى تقول قريش تعلم انى بنت سيدها فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام لقد حجبنى عنها ملائكة فما رأتنى وكفى الله تعالى شرها وقيل ان ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره فى حمالة الحطب وفى الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون فى نار جهنم على الصورة التى كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله فى جرمه وعيه فالحبل مستعار للسلسلة وروى هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان وأمر الاعراب على مافى الكشف انه أن نصب حمالة يكون حالا هو والجملة أعنى فى جيدها حبل علعن المعطوف على ضميلر سيصلى أى ستصلى امرأته على هذه الحالة أو يكون حمالة نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو امرأته فى جيدها حبل جملة وقعت حالا عن الضمير ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وان يكون امرأته عطفا على الفاعل وحمالة الحطب فى جيدها جملة لامحل لها من الاعراب وقعت بيانا لكيفية صليها أى هى حمالة الحطب انتهى فتأمل ولاتغفل وعلى جميع الاوجه والاحتمالات انما لم يقل سبحانه فى عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى فى اعناقهم أغلالا والجيد مع الحلى كقوله
او أحسن من جيد المليحة حليها
ولو قال عنقها كان غثا من الكلام قال فى الروض الانف لانه تهكم نحو فبشرهم بذاب أليم اى لاجبد لها فيحلى ولو لكانت حليته هذه لتحقيرها قيل امرأته ولم يقل زوجه انتهى وهو بديع جدا الا انه يعكر على آخره قوله تعالى وامرأته قائمة ولعله استعان ههنا على ماقال بالمقام وعن قتادة انه كان فى جيدها قلادة من ودع وفى معناه قول الحسن من خرز وقال ابن المسيب كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت واللات والعزى لانفقنها على عداوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل المراد على هذا انها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها (30/264)
لانفقنها الخ وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى حمالة الحطب على ما نقلناه سابقا عن قتادة ويحتمل غير ذلك ووجه التعبير بالجيد على ماذكر مما لايخفى وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو عن الذهن مناط الثريا نعم ذكر انها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لايستدعى حمل ماذكر على الدعاء هذا 0 واستشكل أمر تكليف أبى لهب بالايمان مع قوله تعالى سيصلى الخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه بأنه سيصلى النار لابد أن يصلاها ولايصلاها الا الكافر فالاخبار بذلك يتضمن الاخبار بانه لايؤمن أصلا فمتى كان مكلفا بالايمان متى جاء به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه ماذكر لزم أن يكون مكلفا بان يؤمن بان لايؤمن أصلا وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الامكان وأجيب عنه بأن ماكلفه هو الايمان بجميع ماجاء به النبى عليه الصلاة و السلام اجمالا لا الايمان بتفاصيل مانطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الايمان بعدم ايمانه المستمر ويقال نحو هذا فى الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين فى قوله تعالى قل ياأيها الكافرون الخ بالايمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى ولاأنتم عابدون ما أعبد الخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم مايعبد عليه الصلاة و السلام وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى سيصلى الخ ليس نصا فى أنه لايؤمن أصلا فان صلى النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره ولايجرى هذا فى الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة ارادة بالاستمرار وأجاب بعض آخر بان من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بان يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم وأجاب الكعبى وأبو الحسين البصرى وكذا القاضى عبد الجبار بغير ماذكر مما رده الامام وقيل فى خصوص هذه الآية أن المعنى سيصلى نارا ذات لهب ويخلد فيها ان مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص فى أنه لايؤمن وما لهذه الاجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الاصول والكلام واستدل بقوله تعالى وامراته على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم سورة الاخلاص 2 1 وسميت بها لما فيها من التوحيد ولذا سميت أيضا بالاساس أصل لسائر أصول الدين وعن كعب كما قال الجاحظ بن رجب أسست السموات السبع والارضون السبع على هذه السورة قل هو الله أحد ورواه الزمخشرى عن أبى وأنس مرفوعا ولم يذكره أحد من المحدثين المعتبرين كذلك وكيف كان المراد فالمراد به كمال قال ماخلقت السموات والارضون الا لتكون دلائل على توحيد الله تعالى ومعرفة صفاته التى تضمنتها هذه السورة وقيل معنى تأسيسها عليها انها انما خلقت بالحق كما قال تعالى وما خلقنا السموات والارض ومابينهما لاعبين ماخلقناهما الا بالحق وهو العدل والتوحيد وهوان لم يرجع الى الاول لايخلو عن نظر وقيل المراد أن مصحح ايجادهما أى بعد امكانهما الذاتى ما أشارت اليه السورة من وحدته عز و جل واستحالة ان يكون له سبحانه تعالى شريك اذ لولا ذلك لم يمكن وجودهما لا مكان التمانع كما قرره بعض الاجلة في توجيه برهانية قوله تعالى لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا وفيه بعد وتسمى أيضا سورة قل هو الله أحد كما هو مشهور يشير اليه الاثر أيضا والمقشقشة لما سمعت فى تفسير سورة الكافرون وسورة التوحيد وسورة التفريد وسورة التجريد وسورة النجاة وسورة الولاية وسورة المعرفة لان معرفة الله تعالى انما تتم بمعرفة مافيها وفى اثر أن رجلا صلى فقرأها فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ان هذا عبد عرف ربه وسورة الجمال قيل لما روى انه عليه الصلاة و السلام قال ان الله جميل يحب (30/265)
الجمال فسألوه صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال احد صمد لم يلد ولم يولد ولااظن صحة الخبر وسورة النسبة لورودها جوابا لمن قال انسب لنا ربك على ماستسمعه ان شاء الله تعالى وقيل لما اخرجه الطبرانى من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرايفى عن الوازع بن نافع عن أبى سلمة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكل شىء نسبة ونسبة الله تعالى قل هو الله احد الله الصمد وهو كما قال الجاحظ ابن رجب ضعيف جدا وعثمان يروى المناكير وفى الميزان انه موضوع وسورة الصمد وسورة المعوذة لما أخرج النسائى والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن عبد الله بن أنيس قال أن رسول الله صالى الله تعالى عليه وسلم وضع يده على صدرى ثم قال قل فلم أدرى ما أقول ثم قال قل هو الله أحد فقلت حتى فرغت منها ثم قال قل أعوذ برب الفلق من شر ماخلق فقلت حتى فرغت منها ثم قال قل أعوذ برب الناس فقلت حتى فرغت منها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهم قط ووسورة المانعة قيل لما روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حين عرج به أعطيتك سورة الاخلاص وهى من ذخائر كنوز عرشى وهى المانعة تمنع كربات القبر ونفحات النيران والظاهر عدم صحة هذا الخبر ويعارضه ماأخرجه ابن الضريس عن أبى أمامة أربع آيات نزلت من كنز العرش لم ينزل منه غيرهن أم الكتاب وآية الكرسى وخاتمة سورة البقرة والكوثر وحكمه حكم المرفوع بل أخرجه الشيخ ابن حبان والديلمى وغيرهما بالسند عن أبى أمامة مرفوعا وسورة المحضر قيل لان الملائكة عليهم السلام تحضر لاستماعها اذا قرئت وسورة المنفرة قيل لان الشيطان ينفر عند قرائتها وسورة البراءة قيل لما روى أنه عليه الصلاة و السلام رأى رجلا يقروها فقال أما هذا فقد برىء من الشرك ولم أدر من روى ذلك نعم روى أبو نعم من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن مهاجر قال سمعت رجلا يقول صحبت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى سفر فسمع رجلا يقرأ قل ياأيها الكافرون فقال قد برىء من الشرك وسمع آخر يقرأ قل هو الله أحد فقال غفر له وعليه فألحق بهذا الاسم سورة الكافرون ولعل الاولى أن يقال سميت بذلك لما فى حديث الترمذى عن أنس من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كتب الله تعالى له براءة من النار وسورة المذكرة لانها تذكر خالص التوحيد وسورة النور قيل لما روى من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ان لكل شىء نورا ونور القرآن قل هو الله أحد وسورة الايمان لانه لايتم بدون ماتضمنته من التوحيد وقد ذكر معظم هذه الاشياء الامام الرازى وبين وجه التسمية بها بما بين والرجل رحمه الله تعالى ليس بامام فى معرفة أحوال المرويات لايميز غثها من سمينها أو لايبالى بذلك فيكتب ماظفر به وان عرف شدة ضعفه وهى مكية فى قول عبد الله والحسن عكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة مدنية فى قول ابن عباس ومحمد ابن كعب وأبى العالية والضحاك قاله فى البحر وخبر ابن عباس السابق ان صح ظاهر فى انها عنده مكية وفى الاتقان فيها قولان لحديثين فى سبب نزولها متعارضين وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ثم ظهلر لى ترجيح انها مدنية ا ه وعلى مافى الكتابين لايخفى مافى قول الدوانى انها مكية بالاتفاق من الدلالة على قلة الاطلاع وآيها خمس فى المكى والشامى أربع فى غيرهما ووضعت هنا قيل للوزان فى اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة المسد وقيل وهو الاولى انها متصلة بقل ياأيها الكافرون فى المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد فى النفى الاثبات ولذا يسميان المقشقشتين وقرن بينهما فى القراءة فى صلوات كثيرة على ماقاله بعض الائمة كركعتى الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة الا انه فصل بينهما بالسورتين لما تقدم من الوجه ونحوه وكان في ايلائها سورة تبت ردا على أبى لهب بخصوصه وجاء فى أخبار كثيرة تدل على مزيد فضلها منها ما تقدم (30/266)
آنفا وروى مبارك بن فضالة عن أنس ان لرجلا قال يارسول الله انى أحب هذه السورة قل هو الله أحد قال ان حبك اياها أدخلك الجنة وأخرجه الامام أحمد فى المسند عن أبى النضر عن مبارك المذكور عن أنس وذكر البخارى ان حبها يوجب دخول الجنة تعليقا وروى مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن قال سمعت ابا هريرة يقول أقبلت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجبت قلت وما وجبت قال الجنة وأخرجه النسائى والترمذى وقال حديث صحيح لانعرفه الا من حديث مالك وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذى وقال حسن غريب عن بريدة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلا يقول اللهم انى أسألك بانى أشهد أنك أنت الله لااله الا انت الاحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والذى نفسى بيده لقد سأل الله باسمه الاعظم الذى اذا دعى به أجاب واذا سئل به اعطى وفى المسند عن محجن بن الادرع ان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دخل المسجد فاذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول انى أسألك يا الله الواحد الاحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لى ذنوبى انك انت الغفور الرحيم فقال نبى الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث مرات قد غفر له قد غفر له قد غفر له وأخرج البخارى ومالك وأبو داود والنسائى عن أبى سعيد ان رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء الى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والذى نفسى بيده انها لتعدل ثلث القرآن وأخرج أحمد والنسائى فى اليوم والليلة من طريق هشيم عن ابىبن كعب أو رجل من الانصار قال رسول الله صلى تعالى عليه وسلم من قرأ قل هو الله أحد فكانما قرأ بثلث القرآن وفى رواية يوسف بن عطية الصفار بسنده عن أبى مرفوعا من قرأقا هو الله أحد فكانما قرأ ثلث القرآن وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله تعالى وآمن به وجاء انهلا تعدل ثلث القرآ ن فى عدة أخبار مرفوعة وموقوفة وفى المسند من طريق ابن لهيعة عن عن احرث بن يزيد عن أبى الهيثم عن أبى سعيد قال بات قتادة بن النعمان يقرأ الليلة كله بقل هو الله أحد فذكر ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال والذى نفسى بيده انها لتعدل نصف القرآن أو ثلثه وحمل على الشك من الراوى والروايات تعين الثلث واختلف فى المراد بذلك فقيل المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزأ الى ثلاثة لا أن ثواب قراءتها ثلث ثواب القرآن والى هذا ذهب جماعة لكنهم اختلفوا فى بيان ذلك فقيل أن القرآن يشتمل على قصص وأحكام وعقائد وهى كالها مما يتعلق بالعقائد فكانت ثلثا بذلك الاعتبار وقال تالغزالى في الجواهر ماحاصله هى عدل ثلثه باعتبار أنواع العلوم الثلاثة اتى هى أم القرآن علم المبدأ وعلم المعاد وعلم مابينهما أعنى علم الصراط المستقيم وقال الجونى المطالب التى فى القرآن معظمها الاصول الثلاثة اتى بها يصح الاسلام ويحصل الايمان وهى معرفة الله تعالى والاعتراف بصدق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم واعتقاد القيام بين يديه وهذه السورة تفيد الاصل الاول فهى ثلثه من هذا الوجه وقيل القرآن قسمان خبر وانشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث وسورة الاخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهى بهذا الاعتبار ثلث وهذا كما ترى وأياما كان قيل لاتنافى بين رواية الثلث ورواية عدل القرآن كله المذكورة فى الكشاف على تقدير ثبوتها لجواز ان يقال هى عدل القرآن باعتبار ان المقصود التوحيد ومادعاه ذرائع اليه ويؤيد اعتبار الاجزاء انفسها دون الثواب ما فى صحيح مسلم من طريق قتادة عن أبى الدرداء أن رسول الله صلى اله تعالى عليه وسلم قال أيعجز أحدكم ان يقرأ كل يوم ثلث القرآن قالوا نعم قال فان الله جزأ القرآن (30/267)
ثلاثة أجزاء فقل هو الله أحد ثلث القرآن وقيل المراد تعدل الثلث ثوابا بالظواهر الاحاديث وضعف ذلك ابن عقيل وقال لايجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات فيكون ثواب قراءة القرآن بتمامه أضعافا مضاعفة بالنسبة لثواب قراءة هذه السورة والدوانى أورد هذا اشكالا على هذا القول ثم أجاب بان للقارىء ثوابين تفصيليا بحسب قلراءة الحروف واجماليا بسب ختمه القرآن فثواب قل هو الله أحد يعدل ثلث ثواب الختم الاجمالى لاغيره ونظيره اذا عين أحد لمن يبنى له دارا فى كل يوم دنانير وعين له اذا أتمه جائزة أخرى غير أجرته اليومية وفى شرح البخارى للكرمانى فان قلت المشقة فى قراءة الثلث أكثر منها فى قراءتها 0 فكيف يكون حكمه حكمها قلت يكون ثواب قراءة الثلث بعشر وثواب قراءتها بقدر ثواب ملرة منها لان التشبيه فى الاصل دون الزائد وتسع منها فى مقابلة زيادة المشقة وقال الخفاجى بعد أن قال ليس فيما ذكر مايثلج الصدر ويطمئن له البال والذى عندى فى ذلك ان للنظر فى معنى كلام الله تعالى المتدبر لآياته ثوابا وللتالى له وان لم يفهمه ثواب آخر فالمراد ان من تلاها مراعيا حقوق ادائها فاهما دقيق معانيها كانت تلاوته لها مع تاملها وتدبرها تعدل ثواب تلاوة ثلث القرآن من غير نظر فى معانيه أو ثلث ليس فيه ما يتعلق بمعرفة الله تعالى وتوحيده ولابدع فى أشرف المعنى اذا ضم لبعض من أشرف الالفاظ أن يعدل من جنس تلك الالفاظ مقدارا كثيرا كلوح ذهب زنته عشرة مثاقيل مرصع بانفس الجواهر يساوى ألف مثقال ذهبا فصاعدا انتهى ولاأرى له كثير امتياز على غيره مما تقدم والذى اختاره ان يقال لامانع من ان يخص الله عز و جل بعض العبادات التى ليس فيها كثير مشقة بثواب اكثر من ثواب ماهو جنسها واشق منها باضعاف مضاعفة وهو سبحانه الذى لاحجر عليه ولايتناهى جوده وكرمه فلا يبعد ان يتفضل جل وعلا على قارىء القرآن بكل حرف عشر حسنات ويزيد على ذلك اضعافا مضاعفة جدا لقارىء الاخلاص بحيث يعدل ثوابه ثواب قارىء ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة ويفوض حكمة التخصيص الى علمه سبحانه وكذا يقال فى أمثالها وهذا مراد جعل ذلك من المتشابه الذى استأثر الله تعالى بعلمه وليس هذا بابعد ولاأبدع من تخصيص بعض الازمنة والامكنة الماهية بان للعبادة منه ولو قليلة من الثواب مابزيد أضعافا مضاعفة على ثواب العبادة فى مجاوره مثلا ولو كثيرة بل قد خص سبحانه بعض الازمنة والامكنة بوجوب العبادة وفى بعضها بحرمتها فيه وله سبحانه فى كل ذلك من الحكم ماهو به أعلم وقال ابن عبد البر السكوت فى هذه المسئلة أفضل من الكلام فيها وأسلم وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثى الذى افتتح به الامام الكلام فى هذه السورة الكريمة خرجه الطبرانى وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة والاحاديث الصحيحة الواردة فيها تكفى فى فضلها بل (30/268)
قيل لذلك انها أفضل سورة فى القرآن ومنهم من استدل عليه بما روى الدارمى فى مسنده عن أبى المغيرة عن صفوان الكلاعى قال قال رجل يارسول الله أى سور القرآن أعظم قال قل هو الله أحد وفى المسند من طريقى معاذ بن رفاعة وأسيد بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت فى التوراة والانجيل والزبور والقرآن العظيم قلت بلى قال فاقرأنى قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم قال ياعقبة لاتنساهن ولاتبت ليلة حتى تقرأهن وروى الترمذى بعض هذا الحديث وحسنه ولايدل على أنها أفضل سور القرآن مطلقا بل على أنها من الافضل وقال ابن الحصاد العجب ممن ينكر الاختلاف فى الفضل مع كثرة النصوص الواردة فيه واختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم الفضل راجع الى عظم ومضاعفة الثواب بحسب انتقالات النفس وخشيتها وتدبرها عند أوصاف العلا وقيل بل يرجع لذات اللفظ فان تضمنته سورة الاخلاص مثلا من الدلالة على الوحدانية وصفاته تعالى ليس موجودا فى تبت مثلا فالتفضيل انما هو بالمعانى العجيبة وكثرتها ونقل الحليمى عن البيهقى ان معنى التفضيل بين الآيات والسور يرجع الى أشياء أحدها أن يكون العمل بها أولى من العمل باخرى واعود على الناس وعلى هذا يقال فى آيات الامر والنهى والوعد والوعيد خير من آيات القصص لانه انما أريد بها تأكيد الأمر والنهى الانذار والتنشير ولاغنى للناس عن هذه الامور وقد يستغنون عن القصص فكان ماهو اعود عليهم وانفع لهم مما يجرى مجرى الاصول خير لهم مما يجعل تبعا لما لابد منه الثانى ان يقال الآيات التى تشتمل على تعديد اسماء الله تعالى وبيان صفاته والدلالة على عظمته عز و جل افضل بمعنى انها واجل قدرا مما لاتشتمل على ذلك الثالث لن يقال سورة خير من سورة أو آية خير من آية بمعنى ان القارىء يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل وبتادى منه بتلاوتها عبادة كآية الكرسى والاخلاص والمعوذتين فان قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى والاعتصام بالله تعالى ويتادى بتلاوتها عبادة الله سبحانه لما فيها من ذكره تعالى بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس الى فضل ذلك الذكر وبركته واما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها اقامة حكم وانما يقع بها علم وقد يقال ان سورة افضل من سورة لان الله تعالى جعل قراءتها كقراءة اضعافها مما سواها واوجب بها من الثواب ما لم يوجب سبحانه لغيرها وان كان المعنى الذى لاجله بلغ بها هذا المقدار لايظهر لنا وهذا نظير مايقال فى تفضيل الازمنة والامكنة بعضها على بعض على ماسمعت آنفا وبالجملة التفضيل باحد هذه الاعتبارات لاينافى كون الكل كلام الله عز و جل ومتحد النسبة اليه سبحانه كما لايخفى والله تعالى أعلم 0 بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد المشهور أن ضمير الشأن ومحله الرفع على الابتداء خبره الجملة بعده ومثلها لايكون لها رابط لانها عين المبتدأ فى المعنى والسر فى تصديرها به التنبه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع مافيه من زيادة التحقيق والتقرير فان الضمير لا يفهم من أول الامر الا شأن مبهم له خطر جليل فيبقى الذهن مترقبا لما أمامه مما يفسره ويزيل ابهامه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن وقول الشيخ عبد القاهر فى دلائل الاعجاز ان له مع ان حسنا بل لايصح بدونها غير مسلم نعم قال الشهاب القاسمى ان ههنا اشكالا لانه ان جعل الخبر مجموع معنى الجملة المبين فى باب القضية أعنى مجموع الله أحد والنسبة بينهما ففيه ان الظاهر ان ذلك المجموع ليس هو الشأن مضمون الجملة الذى هو مفرد أعنى الوحدانية وان جعل مضمون الجملة الذى هو مفرد فتخصيص عدم الرابط بالجملة المخبر بها عن (30/269)
ضمير الشأن غير متجه اذ كل جملة كذلك لان الخبر لابد من اتحاده بالمبتدأ بحسب الذات ولايتحد به كذلك الا مضمون الجملة الذى هو مفرد وأجيب باختيار الشق الاول كما يرشد اليه تعبيرهم عن هذا الضمير احيانا بضمير القصة ضرورة أن مضمون الجملة الذى هو مفرد ليس بقصة وانما القصة معناها المبين فى باب القضية وأيضا يعدون مثل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أحق ماقال العبد وكلنا لك عبد لامانع لما أعطيت ولامعطى لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولاينفع ذا الجد منك الجد من الجمل التى هى عين المبتدأ فى المعنى الغير المحتاجة الى الضمير لذلك ومن المعلوم أن ما يقال ليس المضمون الذى هو مفرد بل هو الجملة بذلك المعنى ولذا تراهم يوجبون كسر همزة ان بعد القول وكذا تمثيلهم لها بنطقى الله حسبى وكفى أى منطوقى أى منطوقى الذى أنطق به ذلك اذ من الظاهر أن مانطق به الجملة بالمعنى المعروف وقد دل كلام ابن مالك فى التسهيل على المراد يكون الجملة التى لاتحتاج الى رابط عين المبتدأ انها وقعت خبرا عن مفرد مدلوله جملة وهو ظاهر فيما قلنا ايضا وكون ذلك شانا اى عظيما من الامور باعتبار ماتضمنه ووصف الكلام بالعظم ومقابله بهذا الاعتبار شائع ذائع وقال العلامة احمد الغنيمى ان اريد أنها عينه بحسب المفهوم فهو مشكل لعدم الفائدة وان اريد عينه بحسب المصدق مع التغاير فى المفهوم كما هو شأن سائر الموضوعات مع محمولاتها فقد يقال انه مشكل ايضا اذ ماصدق ضمير الشأن أعم من الله أحد والخالص لايحمل على العام فى القضايا الكلية ودعوى الجزئية فى هذا المقام ينبو عنه تصريحهم بأن ضمير الشأن لايخلو عن ابهام وبعبارة أخرى ان ماصدق عليه ضمير الشأن مفرد وماصدق الجملة مركب ولاشىء من المفرد بمركب ولذا تراهم يؤولون الجملة الواقعة خبرا بمفرد صادق على المبتدأ ليصح وقوعها خبرا عن ضمير الشأن ينافيه تصريحهم بانها غير مؤولة بالمفرد وان كانت فى موقعه وأجيب بان معنى قولهم هو ضمير الشأن انه ضمير راجع اليه الموضوع موضعه وان لم يسبق له ذكر للايذان بانه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد واليه يشير كل مشير وعليه يعود كل ضمير وقولهم فى عد الضمائر التى ترجع الى متأخر لفظا ورتبة منها ضمير الشأن فانه راجع الى الجملة بعده مسامحة ارتكبوها لان بيان الشأن وتعيين المراد به بها فما صدق الضمير هو بعينه ماصدق الشأن الذى عاد هو عليه فيختار الشق الثانى فاما ان يراد بالشأن الشأن المعهود ادعاء وتجعل القضية شخصية نظير هذا زيد واما أن يراد المعنى الكلى وتجعل القضية مهملة وهى فى قوة الجزئية كأنه قيل بعض الشان الله أحد وجاء الابهام الذى ادعى تصريحهم به من عدم تعين البعض قبل ذكر الجملة وحملها عليه وماصدق عليه الشان كما يكون مفردا يكون جملة فليكن هنا كذلك واستمحد الاول واحتمال الكلية مبالغة نحو كل الصيد فى جوف الفرا كما ترى فليتأمل وجوزوا ان يكون هو ضمير المسؤل عنه أو المطلوب صفته أو نسبته فقد أخرج الامام أحمد فى مسنده والبخارى فى تاريخه والترمذى والبغوى فى معجمه وابن عاصم فى السنة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبى كعب ان المشركين قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يامحمد انسب لنا ربك فانزل الله تعالى قل هو الله أحد السورة وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبرانى فى الاوسط والبيهقى بسند حسن وآخرون عن جابر قال جاء اعرابى الى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال انسب لنا ربك فانزل الله تعالى قل هو الله أحد الخ وفى المعالم عن ابن عباس ان عامر بن الطفيل وأريد ابن ربيعة أتيا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عامر الام تدعونا يامحمد قال الى الله قالا صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة أو من حديد أو من خشب فنزلت هذه السورة فاهلك الله تعالى اربد بالصاعقة وعامرا بالطاعون وأخرج بن أبى حاتم فى الاسماء والصفات عن ابن عباس ان اليهود جاءت الى النبى عليه الصلاة (30/270)
والسلام منهم كعب بن الاشرف وحيى بن أخطب فقالوا يا محمد صف لنا ربك الذى بعثك فانزل الله تعالى السورة وكون السائلين اليهود مروى عن الضحاك وابن جبير وقتادة ومقاتل وهو ظاهر فى أن السورة مدنية وجاز رجوع الضمير الى ذلك للعلم به من السؤال وجرى ذكره فيه وهو عليه المبتدأ والاسم الجليل خبره وأحد خبر بعد خبر وأجاز الزمخشرى أن يكون بدلا من الاسم الجليل على ماهو المختار من جواز ابدال النكرة من المعرفة وان يكون خبر مبتدأ محذوف أى هو أحد وأجاز أبو البقاء ان يكون الاسم الاعظم بدلا من هو وأحد خبره والله تعالى وتقدس علم على الذات الواجب الوجود كما ذهب اليه جمهور الاشاعرة وغيرهم خلافا للمعتزلة حيث قالوا العلم في حقه سبحانه محال لان أحدا لايعلم ذاته تعالى المخصوص بخصوصية حتى يوضع له وانما يعلم بمفهومات كلية منحصرة فى فرد فيكون اللفظ موضوعا لامثال تلك المفهومات الكلية فلا يكون علما ورد بانه تعالى عالم بخصوصية ذاته فيجوز أن يضع لفظا بازائه بخصوصه فيكون علما وهذا على مذهب القائلين بأن الوضع هو الله تعالى ظاهر الا انه يلزم أن يكون مايفهم لفظ الله غير ماوضع له اذلايعلم غيره تعالى خصوصية ذاته تعالى التى هى الموضع له على هذا التقدير والقول بانه يجوز ان يكون المفهوم الكلى آلة للوضع ويكون الموضوع له هو الخصوصية التى يصدق عليها المفهوم الكلى كما قيل فى هذا ونظائره يلزم عليه ايضا ان يكون وضع اللفظ لما لايفهم منه فانا لانفهم من أسمائه تعالى الا تلك المفهومات الكلية والظاهر ان الملائكة عليهم السلام كذلك لاحتجاب ذاته عز و جل عن غيره سبحانه ومن هنا استظهر بعض الاجلة ما نقل عن حجة الاسلام ان الاشبه ان الاسم الجليل جار فى الدلالة على الموجود الحق الجامع لصفات الالهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى مجرى الاعلام اى وليسى بعلم وقد مر مايتعلق بذلك أول الكتاب فارجع اليه بقى فى هذا المقام بحث وهو ان الاعلام الشخصية كزيد اما ان يكون كل منها موضوعا للشخص المعين كما هو المتبادر المشهور فاذا اخبر أحد بتولد ابن له فسماه زيدا مثلا من غير ان يبصره يكون ذلك اللفظ اسما للصورة الخيالية التى حصلت فى مخيلته وحينئذ اذا لم يكن المولود بهذه السورة لم يكن اطلاق الاسم عليه بحسب ذلك الوضع ولو قيل بكونه موضوعا للمفهوم الكلى المنحصر فى ذلك الفرد لم يكن علما كما سبق ثم اذا سمعنا علما من تلك الاعلام الشخصية ولم نبصر مسماه أصلا فانا لانفهم الخصوصية التى هو عليها بل ربما تخيلناه عل غير ماهو عليه الصور واما يكون جميع تلك الصور الخيالية موضوعا له فيكون من قبيل الالفاظ المشتركة بين معان غير محصورة واما أن يكون الموضوع له هو الخصوصية التى هو عليها فقط فيكون غيرها خارجا عن الموضوع له فيكون فهم غيرها من الخصوصيات منه غلطا فاما أن يترك دعوى كون تلك الاعلام جزئيات حقيقية ويقال انها موضوعات للمفهومات الكلية المنحصرة فى الفرد أو يلتزم أحد الاحتمالات الاخر وكلا الوجهين محل تامل كما ترى فتامل واحدا قالوا همزته مبدلة من الواو وأصله وحد وابدال الواو المفتوحة همزة قليل ومنه قولهم امرأة أناة يريدون وناة لانه من الونى وهو الفتور وهذا بخلاف أحد الذى يلازم النفى ونحوه ويراد به العموم كما في قوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين وقوله عليه الصلاة و السلام أحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبلى وقوله تعالى هل تحس منهم أحد وقوله سبحانه فلا تدعوا مع الله أحدا وقوله عز و جل وان أحدا من المشركين استجارك فان همزته أصلية وقيل الهمزة فيه أصلية كالهمزة فى الآخر والفرق بينهما قال الراغب ان المختص بالنفى منهما لاستغراق جنس الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق على نحو ما فى الدار (30/271)
أحد أى لا واحد ولا اثنان فصاعدا لامجتمعين ولامفترقين ولهذا لم يصح أستعماله فى الاثبات لان النفى المتضادين يصح ولايصح اثباتهما فلو قيل فى الدار أحد لكان فيه أثبات واحد منفرد مع اثبات مافوق الواحد يصح ان يقال مامن أحد فاضلين وعليه الآبة المذكورة آنفا والمستعمل فى الاثبات على ثلاثة أوجه الاول ان يضم الى العشرات نحو أحد عشر وأحد وعشرون والثانى أن يستعمل مضافا أو مضافا اليه بمعنى الاول كما فى قوله تعالى أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وقولهم يوم الاحد أى يوم الاول والثالث أن يستعمل مطلقا وصفا وليس ذلك الا فى وصف الله تعالى وهو أن كان أصله واحدا الا أن أحدا يستعمل فى غيره سبحانه نحو قول النابغة كأن رحلى وقد زال النهار بنا
بذى الجليل على مستأنس وحدى انتهى 0 وقال مكى أصل أحد واحد فابدلوا الواو همزة فاجتمع ألفان لان الهمزة تشبه الالف فحذفت احداهما تخفيفا وفرق ثعلب بين أحد وواحد بان أحدا لايبنى عليه العدد ابتداء فلايقال احد واثنان كما يقال واحد واثنان ولايقال رجل أحد كما يقال رجل واحد ولذلك اختص به سبحانه وفرق بعضهم بينهما أيضا بأن الاحد فى النفى نص فى العموم بخلاف الواحد فانه محتمل للعموم وغيره فيقال مافى الدار أحد ولايقال بل أثنان ويجوز ان يقال مافى الدار واحد بل اثنان ونقل عن بعض الحنفية انه قال فى التفرقة بينهما ان فى الاحدية لاتحتمل الجزئية والعددية بحال والواحدية تحتملها لانه يقال مائة واحد والف واحد ولايقال مائة أحد الا ألف أحد وبنى على ذلك مسئلة الامام محمد بن الحسن التى ذكرها فى الجامع الكبير اذا كان لرجل أربع نسوة فقال والله لاأقرب واحدة منكن صار موليا منهن جميعا ولم يجز ان يقرب واحدة منهن الا بكفارة ولو قال والله لاأقرب أحداكن لم يصر موليا الا من احداهن والبيان اليه وفرق الخطابى بأن الاحدية لتفرد الذات والواحدية لنفى لمشاركة فى الصفات ونقل عن المحققين التفرقة بعكس ذلك ولما لم ينفك فى شأنه تعالى أحد الامرين من الآخر قيل الواحد الاحد فى حكم أسم واحد وفسر الاحد هنا ابن عباس وأبو عبيدة كما قال الجوزى بالواحد وأيد بقراءة الاعمش قل هو الله الواحد وفسر بما لايتجزأ ولاينقسم وقال بعض الاجلة أن الواحد مقول على ماتحته بالتشكيك فالمراد به هنا حيث أطلق المتصف بالواحدية التى لايمكن أن يكون أزيد منها ولاأكمل فهو مايكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد خارجا وذهنا ومايستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة فى الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للالوهية وهو مأخوذ من كلام الرئيس أبى على بن سينا فى تفسيره السورة الجليلة حيث قال ان أحدا دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لاكثرة هناك أصلا لاكثرة معنوية وهى كثرة المقومات والاجناس والفصول وكثرة الاجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما فى المادة والصورة والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما فى الجسم وذلك يتضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل والمادة والصورة والاعراض والابعاض والاعضاء والاشكال والالوان وسائر مايثلم الوحدة الكاماة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز و جل عن أن يشبهه شىء أويساويه سبحانه شىء وقال ابن عقيل الحنبلى الذى يصح لنا من القول مع اثبات الصفات أنه تعالى واحدا فى الهيته لاغير وقال غيره من السلفيين كالجاحظ ابن رجب هو سبحانه الواحد فى الهيته (30/272)
وربوبيته فلا معبود ولارب سواه عز و جل واختار بعد وصفه تعالى بما ورد له سبحانه من الصفات أن المراد الواحدية الكاملة وذلك على الوجهين كون الضمير للشأن وكنه للمسؤل عنه ولايصح أن يراد الواحد بالعدد أصلا اذ يخلوا الكلام عليه من الفائدة وذكر بعضهم أن الاسم الجليل يدل على جميع صفات الكمال وهى الصفات الثبوتية ويقال لها صفات الاكرام أيضا والاحد يدل على جميع صفات الجلال وهى الصفات السلبية ويتضمن الكلام على كونهما خبرين الاخبار بكون المسؤل عنه متصفا بجميع الصفات الجلالية والكمالية وتعقب بان الهية جامعة لجميع ذلك بل كل واحد الاسماء الحسنى كذلك لان الهوية الالهية لايمكن التعبير عنها لجلالتها وعظمتها الا بأنه هو هو وشرح تلك الهوية بلوازم منها ثبوتية ومنها سلبية واسم الله تعالى متناول لهما جميعا فهو اشارة الى هويته تعالى والله سبحانه كالتعريف لها فلذا عقب به وكلام الرئيس ينادى بذلك وسنشير اليه ان شاء الله تعالى وقرأ عبد الله وابى هو الله احد بغير قل وقد اتفقوا على انه لابد منها فى قل ياأيها الكافرون ولاتجوز فى تبت فقيل لعل ذلك لان سورة الكافرين مشاقة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم او موادعته عليه الصلاة و السلام لهم ومثل ذلك يناسب ان يكون من الله تعالى لان صلىالله تعالى عليه وسلم مأمور بالانذار والجهاد وسورة تبت معاتبة لابى لهب والنيى عليه الصلاة و السلام على خلق عظيم وأدب جسيم فلو امر بذلك لزم مواجهته به وهو عمه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه السورة توحيد وهو يناسب ان يقول به تارة ويؤمر بان يدعوا اليه أخرى وقيل فى وجه قل فى سورة الكافرون ان فيها مالا يصح ان يكون من الله تعالى كلا أعبد ماتعبدون فلا بد فيها من ذكر قل وفيه نظر لانه لايلزم ذكره بهذا اللفظ فافهم وقال الدوانى فى وجه ترك قل فى تبت لايبعد ان يقال ان القول بمعاتبة أبى لهب اذا كان من الله تعالى كان أدخل فى زجره وتفضيحه وقيل فيه رمز الى أنه لكونه على العلات عمه صلى الله تعالى عليه وسلم لاينبغى أن يهينه بمثل هذا الكلام الا الذى خلقه اذ لايبعد أن يتأذى مسلم من أقاربه لو سبه أحد غيره عز و جل فقد أخرج ابن أبى الدنيا وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضى الله تعالى عنهما قال مرت درة ابنة أبى لهب برجل فقال هذه ابنة عدو الله أبى لهب فاقبلت عليه فقالت ذكر الله تعالى أبى بنباهة وشرفه وترك أباك بجهالته ثم ذكرت ذلك النبى صلى اله تعالى عليه وسلم فخطب فقال لايؤذين مسلم بكافر ثم ان اثبات قل على قراءة الجمهور فى المصحف والتزام قراءتها فى هذه السورة ونظائرها مع أنه ليس من دأب المأمور بقل ان يتلفظ فى مقام الائتمار الا بالمقول قال الماتريدى فى التأويلات لان المأمور ليس المخاطب به فقط بل كل احد ابتلى بما ابتلى به المأمور فاثبت ليبقى على مر الدهور منا على العباد وقيل يمكن ان يقال المخاطب بقل نفس التالى كأنه تعالى أعلم به أن كا أحد عند مقام هذا المضمون ينبغى أن يامر نفسه بالقول به وعدم التجاوز عنه فتامل والله تعالى الموفق وقوله تعالى الله الصمد مبتدأ وخبر وقيل الصمد نعت والخبر مابعده وليس بشىء 0 والصمد قال ابن الانبارى لاخلاف بين أهل اللغة أنه السيد الذى ليس فوقه أحد الذى يصمد اليه الناس فى حوائجهم وامورهم وقال الزجاج هو الذى ينتهى اليه السودد ويصمد اليه أى يقصده كل شىء وأنشدوا لقد بكلر الناعى بخير بنى أسد
بعمرو بنى مسعود وبالسيد الصمد وقوله علوته بحسام ثم قلت له
خذها خزيت فانت السيد الصمد وعن على أبن ابى طلحة عن ابن عباس انه قال هو السيد الذى قد كمل فى سودده والشريف الذى قد كمل فى شرفه والعظيم (30/273)
الذي قد كمل فى عظمته والحليم الذي قد كمل فى حلمه والعليم الذي قد كمل فى علمه والحكيم الذى قد كمل فى حكمته وهو الذى قد كمل فى أنواع الشرف والسودد وعن أبى وعن أبى هريرة هو المستغنى عن كل أحد المحتاج أليه كل أحد وعن أبن جبير هو الكامل فى جميع صفاته وافعاله وعن الربيع هو الذى لاتعتريه الآفات وعن مقاتل ابن حيان هو الذى لاعيب فيه وعن قتادة هو الباقى بعد خلقه ونحوه قول معمر هو الدائم وقول مرة الهمدانى هو الذى لايبلى ولايفنى وعنه أيضا هو الذى يحكم مايريد ويفعل مايشاء لامعقب لحكمه ولا راد لقضائه وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال لاأعلمه الا قد رفعه قال الصمد الذى لاجوف له وروى عن الحسن ومجاهد ومنه قوله شهاب حروب لاتزال جياده
عوابس يعلكن الشكيم المصمدا وعن أبى عبد الرحمن السلمى عن ابن مسعود قال الصمد الذى ليس له أحشاء وهو رواية عن ابن عباس وعن عكرمة هو الذى لايطعم وفى لرواية أخرى الذى لم يخرج منه شىء وعن الشعبى هو الذى لايأكل ولايشرب وعن طائفة منهم أبى بن كعب والربيع ابن أنس انه الذى لم يلد ولم يولد كانهم جعلوا مابعده تفسير اله والمعول عليه تفسيرا بالسيد الذى يصمد اليه الخلق فى الحوائج والمطالب وتفسيره بالذى لاجوف له وماعداهما اما راجع اليهما أو هو مما لاتساعد عليه اللغة وجعل معنى كونه تعالى سيد أنه مبدأ الكل وفى معناه تفسيره بالغنى المطلق المحتاج اليه ما سواه وقال يحتمل أن يكون كلا المعنيين مرادا فيكون وصفا له تعالى بمجموع السلب والايجاب وهو ظاهر فى جواز استعمال المشترك فى كلا معنييه كما ذهب اليه الشافعى والذى اختار تفسيره بالسيد الذى يصمد اليه الخلق وهو فعل بمعنى مفعول من صمد بمعنى قصد فيتعدى بنفسه وباللام واطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لاخوف فيه وان كان فى اطلاق السيد نفسه خلاف والصحيح اطلاقه عليه عز و جل كما فى الحديث السيد الله وقال السهيلى لايطلق عليه تعالى مضافا فلا يقال سيد الملائكة والناس مثلا وقصد الخلق أياه تعالى بالحوائج أعم من القصد الطبيعى والقصد بحسب الاستعداد الاصلى الثابت لجميع الماهيات اذ هى كلها متوجهة اى المبدأ تعالى فى طلب كمالاتها منه عز و جل وتعريفه دون أحد قيل لعلمهم بصمديته تعالى دون أحديته وتعقب بانه لايخلو عن كدر لان علم المخاطب بمضمون الخبر لايقتضى تعريفه بل أنما يقتضى أن لايلقى اليه الابعد تنزيله منزلة الجاهل لان افادة لازم فائدة الخبر بمعزل عن هذا المقام فالاولى أن يقال ان التعريف لافادة الحصر كقولك زيد الرجل ولاجاجة اليه فى الجملة السابقة بناء على أن مفهوم أحد المنزه عن أنحاء التركيب والتعدد مطلقا الى آخر ماتقدم مع انهم لايعرفون أحديته تعالى ولايعترفون بها وأعترض بأنه يقتضى ان الخبر اذا كان معلوما للمخاطب لايخبر به الا بتنزيله منزلة الجاهل أوافادنه لازم الخبر أو اذا قصد الحصر وهو ينافى ماتقرر فى المعنى من أن كون المبتدأ والخبر معلومين لاينافى كون الكلام مفيدا للسامع فائدة مجهولة لان مايستفيده السامع من الكلام هو أنتساب أحدهما للآخر وكونه هو هو فيجوز أن يقال هنا انهم يعرفونه تعالى بوجه ما ويعرفون معنى المقصود سواء كان هو الله سبحانه أو غيره عندهم ولكن لايعرفون انه هو سواء كان بمعنى الفرد الكامل أو لجنس فعينه الله تعالى لهم وقيل ان أحد فى غير النفى والعدد لايطلق على يره تعالى فلم يحتج الى تعريفه بخلاف الصمد فانه جاء فى كلامهم اطلاقه على غيره عز و جل أي كما فى البيتين السابقين فلذا عرف وتكرار الاسم الجليل دون الاتيان بالضمير قيل للاشعار بأن من لم يتصف بالصمدية لم يستحق الألوهية وذلك على ماصرح به الدوانى مأخوذ من افادة تعريف الجزأين الحصر فاذا قلت السلطان العادل أشعر بان لم يتصف (30/274)
بالعدل لم يستحق السلطنة وقيل ذلك تعليق الصمد بالله يشعر بعلية الالوهية للصمدية بناء على أنه فى الاصل صفة واذا كانت الصمدية نتيجة الالوهية لم يستحق الالوهية من لم يتصف بها وبحث فيه بأن الالوهية فيما يظهر للصمدية لانه انما يعبد لكونه محتاجا اليه دون العكس الا أن يقال المراد بالالوهية مبدأها وماترتب عليه لاكونه معبودا بالفعل وانما لم يكتف بمسند اليه واحد لاحد والصمد هو الاسم الجليل بان يقال الله الاحد الصمد للتنبه على ان كلا من الوصفين مستقل فى تعيين الذات وترك العطف فى الجملة المذكورة لنها كالدليل عليه فان من كان غنيا لذاته محتاجا اليه جميع ماسواه لايكون الاواحد او ماسواه لايكون الاممكنا محتاجا اليه أو لانها كالنتيجة لذلك بناء على ان الاحدية تستلزم الصمدية والغنى المطلق وبالجملة هذه الجملة من وجه تشيه الدليل ومن وجه تشبيه النتيجة فهى مستأنفة أو مؤكدة وقرأ أبان بن عثمان وزيد بن على ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وأبن أبى أسحق وأبو السمال وأبو عمر وفى رواية يونس ومحبوب والاصمعى واللؤلؤى وعبيد أحد الله بحذف لتنوين لالتقائه مع لام التعريف وه موجود فى كلام العرب وأكثر مايوجد فى الشعر كقول أبى الاسود الدؤلى فألفيته غير مستعتب
ولاذاكر الله الاقليلا وقول الآخر عمرو الذى هشم الفربد لضيفه
ورجال مكو مسنتون عجاف والجيد هو التنوين وكسره لالتقاء الساكنين وقوله تعالى لم يلد الخ على نحو ماسبق ونفى ذلك عنه تعالى لأن الولادة تقتضى انفصال مادة منه سبحانه وذلك يقتضى التركيب المنافى للصمدية والاحدية أو لأان الولد من جنس أبه ولايجانسه سبحانه تعالى أحد لانه سبحانه واجب وغيره ممكن لان الولد على ماقيل يطلبه العاقل اما لاعانته أو ليخلفه بعده وهو سبحانه دائم باق غير محتاج الى شىء من ذلك والاقتصار على الماضى دون أن يقال لن يلد لوروده ردا على من قال أن الملائكة بنات الله سبحانه أو المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ويجوز أن يكون المراد استمرار النفى وعبر الماضى لمشاكلة قوله تعالى ولم يلد وهو لابد أن يكون بصيغة الماضى ونفى المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة فيلزم التركيب المنافى للغنى المطلق والاحدية الحقيقية أو لاقتضائها سيق العدم ولو بالذات أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة وقدم نفى الولادة لانه الاهم لان طائفة من الكفار توهموا خلافه بخلاف نفى المولودية أو لكثرة متوهمى خلاف الاول دون خلاف الثانى بناء على أن النصارى يلزمهم بواسطة دعوى الاتحاد القول بالولادة والمولودية فيمن يعتقدونه الها وذلك على ماتضمنته كتبهم انهم يقولون ان الاب هو الاقنوم الاول من الثالوث والابن هو الثانى الصادر منه صدوره أزليا مساويا بالازلية وروح القدس هو الثالث الصادر عنهما كذلك والطبيعة الالهية واحدة وهى لكل من الثلاثة وكل منها متحد معها ومع ذلك هم ثلاثة جواهر لاجوهر واحد فالاب ليس هو الابن والابن ليس هو الاب وروح القدس ليس هو الاب ولا الابن وهما ليسا روح القدس ومع ذا هم اله واحد اذلهم لاهوت واحدة وطبيعة واحدة وجوهر واحد وكل منهم متحد مع اللاهوت وان كان بينهم تمايز واللأول هو الوجود الواجب الجوهرى والثانى هو العقل الجوهرى ويقال له العلم والثالث هو الادارة الجوهرية ويقال لها المحبة فالله ثلاثة أقانيم جوهرية وهى على تمايزها تمايزا حقيقيا وقد يطلقون عليه اضافيا أى باضافة بعضها الى بعض جوهر وطبيعة واحدة هو الله وليس يوجد فيه غيره بل كل ماهو داخل فيه عين ذاته ويقولون ان فيه تعالى عما يقولون أربع أضافات أولاها فاعلية التعقيل فى الاقنوم الاول ثانيتها مفعولية التعقل فى الاقنوم الثانى (30/275)
الذي هو صورة عقل الأب ثالثتها فاعلية الانبثاق فى الاقنوم الاول والثانى اللذين لهما الارادة رابعتها مفعولية هذا الانبثاق فى الاقنوم الثالث الذى هو حب الارادة الالهية التى للاقنوم الاول والثانى وزعموا أن التعبير الفاعلية والمفعولية فى الاقانيم الالهية على سبيل التوسع وليست الفاعلية فى الاب نحو الابن الا الابوة وفيه وفى الابن نحو روح القدس ليست الابدء صدوره منهما وليست المفعولية فى الابن وروح القدس الا البنوة فى الابن والانبثاق فى الروح ويقولون كل ذلك مما يجب الايمان به وان كان فوق الطور البشرى ويزعمون أن لتلك الاقانيم أسماء تلقوها من الحواريين فالاقنوم الاول فى الطبع الالهى يدعى أبا والثانى أبنا وكلمة وحكمة ونورا وضياء وشعاعا والثالث روح القدس ومغريا وهو معنى قولهم باليونانية اراكليط وقالوا فى بيان وجه الاطلاق ان ذلك لان الاقنوم الاول بمنزلة ينبوع ومبدأ أعطى الاقنوم الثانى الصادر عنه بفعل يقتضى شبه فاعله وه فعل العقل طبيعته وجوهره كله حتى أن الاقنوم الثانى الذى هو فى صورة الاول الجوهرية الالهية مساو له كمال المساواة وحد الايلاد هو صدوره حى من حى بآلة ومبدأ مقارن يقتضى شبه طبيعته وهنا كذلك بل أبلغ لان الثانى للطبيعة الالهية نفسها فلا بدع اذا سملى الاول أبا والثانى ابنا وانما قيل للثانى كلمة لان الايلاد ليس على نحو ايلاد احيوان والنبات بل يفعل العقل أي يتصور يتصور الأب لاهوته وفهمه ذاته ولاشك ان تلك الصورة كلمة لانها مفهومية العقل ونطقه وقيل لها حكمة كان مولود من الاب بفعل عقله الالهى الذى هو حكمة وقيل له نور وشعاع وضياء لانه حيث كان حكمة كان به معرفة حقائق الاشياء وانكشافها كالمذكورات وقيل للثلث روح القدس لانه صادر من الاب والابن بفعل الارادة التى هى واحدة للاب والابن ومنبثق منهما بفعل هو كهيجان الارادة بالحب نحو محبوبها فهو حب الله والله هو نفسه الروح الصرف والتقدس عينه ولكل من الاول والثانى وجه لان يدعى روحا لمكان الاتحاد لكن لما دعى الاول باسم يدل على رتبته واضافته الى الثانى والثانى كذلك اختص الثلث بالاسم المشاع وام يدع ابنا وان كان له طبيعة الاب وجوهره كالابن لانه لم يصدر من الاب بفعل يقتضى شبه فاعله يعنى بفعل العقل بل صدر منه فعل الارادة فالثانى من الاول كهابيل من آدم والثلث كحواء منه والكل حقيقة واحدة لكن يقال لهابيل ابن ولايقال لها بنت وقيل له مغزى لانه كان عتيدا لان يأتى الحواريين فيغريهم لفقد المسيح عليه السلام وأما الفعلية والمفعولية فلانهما غير موجودين حقيقة والابوة والبنوة ههنا لاتقتضيها كما فى المحدثات ولذا لايقال هنا للاب علة وسبب لابنه وان قيل هناك فالثلاثة متساوية فى الجوهر والذات واستحقاق العبادة والفضل من كل وجه ثم أنهم زعموا تجسد الاقنوم الثانى وهو الكلمة واتحاده باشرف أجزاء البتول من الدم بقوة روح القدس فكان المسيح عليه السلام المركب من الناسوت والكلمة والكلمة مع اتحادها لم تخرج عن بساطتها ولم تتغير لانها الحد الذى ينتهى اليه الاتحاد فلا مانع فى جهتها من الاتحاد وكذا لامانع من جهة الناسوت منه فلا يتعاصى الله تعالى شىء زعموا أنه المسيح عليه السلام كان الها تاما وانسانا تاما ذات طبيعتين ومشيئتين قائمتين باقنوم الهى وهو اقنو م الكلمة ومن ثم تحمل عليه الصفات الالهية والبشرية معا لكن من حيثيتين ثم أنهم ازادوا فى الطنبور رنة وقالوا ان المسيح اطعم يوما الحواريين خبزا وسقاهم خمرا فقال أكلتم لحمى وشربتم دمى فاتحدتم معى وانا متحد مع الاب الى رنات اخر هى أشهر من أن تذكر ويعلم مما ذكرنا انه لافرق عندهم بين أن يقال أن الله تعالى هو المسيح وبين أن يقال أن المسيح هو أبنه وبين أن يقال ان سبحانه ثالث ثلاثة ولذا جاء فى التنزيل كل من هذه الاقوال منسوبا اليهم ولاحاجة الى جعل كل قول لقوم كما قال غير واحد (30/276)
من المفسرين والمتكلمين ثم لايخفى منافاة ماذكروه للاحدية والصمدية وقولهم ان الاقانيم مع كونها ثلاث جواهلر متمايزة تمايزا حقيقيا جوهر واحد لبداهة بطلانه لايسمن ولايغنى وما يذكونه من المثال لايضاح ذلك فهو عن الايضاح بمعزل وبعيد عن المقصود بألف ألف منزل وكنا ذكرنا فى ضمن هذا الكتاب مايتعلق ببعض عقائدهم مع رده الاأنه كان قبل النظر فى كتبهم وقد اعتمدنا فيه ماذكره المتكلمون عنهم واليوم لنا عزم على تأليف رسالة تتضمن تحرير اعتقداتهم فى الواجب تعالى وذكر شبههم العقلية والنقلية التى يستندون اليها ويعولون فى التثليث عليها حيبما وقفنا عليه فى كتبهم مع ردها على أكمل وجه ان شاء الله تعالى ونسأل الله تعالى التوفيق لذلك وأن يسلك سبحانه بنا فى جميع أمورنا أقوم المسالك فهو سبحانه الجواد الاجود الذى لم يجبه من توجه اليه بالرد ولم يكن له كفوا أحد أى لم يكافئه أحد ولم يماثله ولم يشاكله من صاحبة وغيرها وقيل هو نفى للكفاءة المعتبرة بين الازواج وهو كما ترى وله صلة كفوا على ماذهب اليه المبرد وغير ه والاصل أن يؤخر الا أنه قدم للاهتمام لان المقصود نفى الكفاءة عن ذاته عز و جل وللاهتمام أيضا قدم الخبر مع مافيه من رعاية الفواصل قيل أن الظرف هنا وان لم يكن خيرا مبطلا سقوطه معنى الكلام لانك لو قلت لم يكن كفوا أحد لم يكن له معنى فلما احتيج اليه صار بمنزلة الخبر فحسن ذلك وقال أبو حيان كلام سيبويه فى الظرف اذى يصلح أن يكون خبرا وهو الظرف التام وما هنا ليس كذلك وقال ابن الحاجب قدم الظرف للفواصل ورعايتها ولم يقدم على أحد لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره وفيه نظر ظاهر وجوز أن يكون الظرف حالا من أحد قدم عليه رعاية للفاصلة ولئلا يلتبس بالصفة أو الصلة وأن يكون خبرا ليكن ويكون كفوا حالا من الضمير فى الظرف الوقع خبرا وهذا الوجه نقله أبو على فى الحجة عن بعض النحاة ورد بانه كما سمعت آنفا عن أبى حيان ظرف ناقص لايصح أن يكون خبرا فان قدر له متعلق خاص وهو مماثل ونحوه مما تم به الفائدة يكون كفوا زائدا ولعل وقوع الجمل الثلاث متعاطفة دون ماعداها من هذه السورة لانها سيقت لمعنى وغرض واحد وهو نفى المماثلة والمناسبة عنه تعالى بوجه من الوجوه وما تضمنته أقسامها لان المماثل اما ولد او والد أو نظير غيرهما فلتغاير الاقسام واجتماعها فى المقسم لزم العطف فيها بالواو كما هو مقتضى قواعد المعنى وفى كفوا لغات ضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الكاف مع ضم الفاء وقرأ حمزة ويعقوب ونافع فى رواية كفوا بالهمز والتخفيف وحفص بالحركة وابدال الهمزة واوا وباقى السبعة بالحركة مهموزا وسهل الهمزة الاعرج وأبو جعفر وشيبة فى رواية وفى أخرى عنه كفى من غير همز نقل حركة الهمزة الى الفاء وحذف الهمزة وقرأ سليمان ابن على بن عبد الله بن عباس كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد كما فى قول النابغة
لاتقذفنى بركن لاكفاء له
أى لامثل له كما قال الاعلم وهذه السورة الجليلة قد انطوت مع تقارب قطرها على أشتات المعارف الالهية والعقائد الاسلامية ولذا جاء فيها ما جاء من الاخبار وورد ماورد من الاخبار ودل على معنى تحقيق الالهة الصمدية التى معناها وجوب الوجود أو المبدئية لوجود كل ماعداه من الموجودات تم عقب ذلك ببيان انه لايتولد عنه غيره لانه غير متولد عن غيره وبين أنه تعالى وان كان الها لجميع الموجودات فياضا للوجود عليها (30/277)
فلا يجوز أن يفيض الوجود على مثله كما لو يكن وجوده من غيره ثم عقب ذلك ببيان انه ليس فى الوجود مايساويه فى قوة الوجود فمن أول السورة الى الصمد فى ماهيته تعالى ولوازم ماهيته ووحدة حقيقته وانه غير ملركب أصلا ومن قوله تعالى لم يلد الى أحد فى بيان انه ليس مايساويه من نوعه ولا من جنسه لا بأن يكوون سبحانه متولدا عنه ولا بأن يكون موازى فى الوجود وبهذا المبلغ يحصل تمام معرفة ذاته عز و جل انتهى وأشار فيه الى أن ولم يولد كالتعليل لما قبله وكأن قد قال قبل أن كل ما كان ماديا أو كان له علاقة بالمادة يكون متولدا من غيره فيصير تقدير الكلام لم يلد لانه لم يتولد والاشارة اللى دليله بهو أول السورة فانه لما لم يكن له ماهية واعتبار سوى انه لذاته وجب أن لايكون متولدا عن غيره والا لكانت هويته مستفادة من غيره فلا يكون هو لذاته وظاهر العطف يقتضى عدم أعتبار ما أشار اليه من العلية وقد علمت فيما سبق وجه ذكره وجعل بعضهم العطف فيه قريبا من عطف لايستقدمون على لايستاخرون وأشار بعض السلف الى أن ذكر ذلك لانه جاء فى سبب النزول انهم سألوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربه سبحانه من أى شىء أمن كذا أم من كذا وممن ورث الدنيا ولمن يورثها وقال الامام انه هو الله أحد ثلاثة ألفاظ وكل واحد منها اشارة الى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الاول مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين الى الله تعالى وهؤلاء نظروا بعيون عقولهم الى ما هيأت الاشياء وحقائقها من حيث هى فما راؤا موجودا سوى الحق لانه الذى يجب وجوده لذاته وماعداه ممكن لذاته فهو من حيث ذاته ليس فقالوا هو اشارة الى الحق اذ ليس هناك فى نظرهم يرجع اليه سواه عز و جل ليحتاج الى التمييز والمقام الثانى لاصحاب اليمين هؤلاء شاهدوه الحق سبحانه موجودا وكذا شاهدوا الخلق فحصلت كثرة فى الموجودات فى نظرهم فلم يكن هو كافيا فى الاشارة الى الحق بل لابد من مميز فاحتاجوا الى يقرنوا لفظة الله بلفظ فقيل لاجلهم هو الله والمقام الثالث هو مقام أصحاب الشمال الذين أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد والاله كذلك فجىء باحد ردا عليهم وابطالا لمقالتهم انتهى وبعض الصوفية عد لفظة هو من اعداد الاسماء الحسنى بل قال ان هاء الغيبة هى اسمه تعالى الحقيقى لدلالته على الهوية المطلقة مع كونه من ضروريات التنفس الذى به بقاء حياة النفس واشعار رسمه بالاحاطة ومرتبته من العدد الى دوامه وعدم فنائه ونقل الدوانى عن الامام انه قال علمنى بعض المشايخ يا هو يامن هو يا من لا اله هو وعلى ذلك اعتقاد أكثر المشايخ اليوم ولم يرد ذلك فى الاخبار المقبولة عن المحدثين والله تعالى أعلم
سورة الفلق
مكية فى قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ورواية كريب عن ابن عباس مدنية فى قول ابن عباس فى رواية أبى صالح وقتادة وهو الصحيح لان سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتى ان شاء الله تعالى وهم انما سحروه عليه الصلاة و السلام بالمدينة كما جاء فى الصحاح فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا فى الكلام فى سورة الناس وآيها الخمس بلا خلاف ولما شرح أمر الاهية فى السورة قبلها جىء بها بعدها شرحا لما يستعاذ منه بالله تعالى من الشر الذى فى مراتب العالم ومراتب مخلوقاته وهى السورة التى بعدها نزلتا معا كما فى الدلائل للبيهقى فلذلك قرنتا مع اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ 0 وأخرج مسلم والترمذى والنسائى وغيرهما عنه قال قال رسول الله صالى تعالى عليه وسلم أنزلت على الليلة آيات لم أرى مثلهن قط (30/278)
قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اذا أوى الى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأفيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثن تمسح بهما مااستطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه وعلى وجهه وماأقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات وجاء فى الحديث أن من قرأهما مع سورة الاخلاص ثلاثا حين يمسى وحين يصبح كفته من كل شىء وفى فضلهما أخبار كثيرة غير ماذكر وعن أبن مسعود أنه أنكر قرآنيتهما أخرج الامام أحمد والبزار والطبرانى وابن مردويه من طرق صحيحة عنه انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول لاتخلطوا القرآن بما ليس منه انهما ليستا من كتاب الله تعالى انما أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما وكان أبن مسعود لايقرأ بهما قال البزار لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبى صلىالله تعالى عليه وسلم أنه قرأ بهما فى الصلاة واثبتتا فى المصحف وأخرج الامام أحمد والبخارى والنسائى وابن حبان وغيرهم عن زر بن حبيش قال أتيت المدينة فلقيت أبى بن كعب فقلت له ياأبا المنذر انى رأيت ابن مسعود لايكتب المعوذتين فى مصحفه فقال أما والذى بعث محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم عنهما وما سألنى عنهما أحد منذ سألت غيرك فقال قيل لى قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبهذا الاختلاف قدح بعض الملحدين فى أعجاز القرآن قال لو كانت بلاغة ذلك بلغت حد الاعجاز لتميز به عن القرآن فلم يختلف فى كونه منه وأنت تعلم أنه وقع الاجماع على قرآنيتهما وقالوا ان انكار ذلك اليوم كفر ولعل ابن مسعود رجع عن ذلك وفى شرح المواقف ان اختلاف الصحابة فى بعض سور القرآن مروى بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالنواتر المفيد لليقين الذى يضمحل الظن فى مقابلته فتلك الآحاد مما يلتفت اليه ثم انا سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا انهم لم يختلفوا فى نزوله على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا فى بلوغه فى البلاغة حد الاعجاز بل مجرد كونه من القرآن وذلك لايضر فيما نحن بصدده انتهى وعكس هذا القول فى السورتين المذكورتين قيل فى سورتى الخلع والحفد وفى الفلظهما روايات منها مايقنت به الحنفية فقد روى انهما فى مصحف أبى ابن كعب وفى مصحف ابن عباس وفى مصحف ابن مسعود ان صح انهما كلام الله تعالى منسوخا التلاوة وليسا من القرآن كما لا يخفى بسم اله الرحمن الرحيم
قل أعوذ أى ألتجىء وأعتصم وأتحرز برب الفلق فعل بمعنى مفعول صفة مشبهة كقصص بمعنى مقصوص من فلق شق وفرق وهو يعم جميع الموجدات الممكنة فانه تعالى فلق بنور الايجاد سيما مايخرج من أصل كالعيون من الجبال والامطار من السحاب والنبات من الارض والاولاد من الارحام وخص عرفا بالصبح واطلاقهم المفلوق عليه مع قولهم فلق الله تعالى الليل عن الصبح على نحو أطلاق المسلوخ على الشاة مع قولهم سلخت الجلد من الشاة وتفسيره بالمعنى العام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبن أبى حاتم عن ابن عباس ولفظه الفلق الخلق وأخرج الطستى عنه أنه فسره بالصبح وأنشد رضى الله تعالى عنه قول زهير الفارج الهم مسد ولاعساكره
كما يفرج غم الظلمة الفلق وهو مروى عن جابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبى وابن زيد وعليه فتعليق العياذ باسم الرب المضاف الى الفلق المنبىء عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة باعاذة العائذ مما يعوذ منه وانجائه (30/279)
منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له فى الجد والاعتناء بقرع باب الالتجاء اليه عز و جل وقيل أن فى تخصيص الفلق بالذكر لانه انموذج من يوم القيامة فالدور كالقبور والنوم أخو الموت والخارجون من منازلهم صباحا منهم من يذهب لنضرة وسرور ومنهم من يكون من مطالبة من ديون فى غموم وشرور الى أحوال أخر تكون للعباد هى أشبه شىء بما يكون لهم فى المعاد وفى تفسير القاضى أن لفظ الرب ههنا أوقع من سائر الاسماء أى التى يجوز أضافتها ال الفلق عالى ماقيل لان الاعاذة من المضار تربية وهو على تعميم الفلق ظاهر لشموله للمستعيذ والمستعاذ منه وعلى تخصيصه بالصبح قيل لانه مشعر بانه سبحانه قادر مغير للاحوال مقلب للاطوار فيزيل الهموم والاكدار وقال الرئيس أبن سينا بعد أن حمل الفلق على ظلمة العدم المفلوقة بنور الوجود ان فى ذكر الرب سرا لطيفا من حقائق العلم وذلك أن المربوب لايستغنى فى شىء من حالاته عن الرب كما يشاهد فى الطفل مادام مربوبا ولما كانت الماهيات الممكنة غير مستغنية عن أضافة المبدأ الأول لاجرم ذكر لفظ الرب للاشارة الى ذلك وفيه أشارة أخرى من خفيات العلوم وهو أن العوذ والعياذ فى اللغة عبارة عن الالتجاء الى الغير فلما أمر بمجرد الالتجاء الى الغير وعبر عنه بالرب دل ذلك على أن عدم الحصول ليس بأمر يرجع الى المستعاذ به المفيض للخيرات بل لامر يرجع الى قابلها فان من المقرر انه ليس شىء من الكمالات وغيرها مبخولا به من جانب المبدأ الأول سبحانه بل الكل حاصل موقوف على ان يصرف المستعذ جهة قبوله اليه وهو المعنى بالاشارة النبوية ان لربكم فى أيام دهركم نفحات من رحمته الا فتعرضوا لها بين ان نفحات الالطاف دائمة وانما الخلل من المستذ انتهى وفى رواية عن ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة والتابعين ان الفلق جب فى جنهم وأخرج ابن مردويه والديلمى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قول الله عز و جل قل أعوذ برب الفلق قال هو سجن فى جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون وان جهنم لتعوذ بالله تعالى منه وأخرج بن مردويه عن عمر بن عنبسة قال صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ قل أعوذ برب الفلق فقال ياأبن عنبسة أتدري ما الفلق قلت الله ورسوله أعلم قال بئر فى جهنم فاذا سعرت البئر فمنها تسعر جهنم لتتاذى منه كما يتاذى ابن آدم من جهنم وأخرج جرير وأبن أبى حاتم عن كعب قال الفلق بيت فى جهنم اذا فتح صاح أهل النار من شدة حره وعن الكلبى أنه واد فى جهنم وقيل انه هو جهنم وهو على مافى الكشاف من قولهم لما اطمأن من الارض الفلق والجمع فلقان كخلق وخلقان وتخصيصه بالذكر قيل لانه مسكن اليهود فعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وماهم من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم فقال لاأبالى أليس من ورائهم الفلق وفسر بما روى آنفا عن كعب ومنهم الذى سحر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ففى تعليق العياذ بالرب مضافا اليه عدة كريمة باعاذته صلى الله تعالى عليه وسلم من شرهم ولايخفى ان هذا مما لايثلج الصدر وأظن ضعف الاخبار السالفة ويترجح نظرى المعنى الاول للفلق من شر ماخلق أى من شر الذى خلقه من الثقلين وغيرهم كائنا ماكان من ذوات الطباع والاختيار والظاهر عموم الشر للمضار البدنية وغيرها وزعم بعضهم أن الاستعاذة ههنا من المضار البدنية وانها تعم الانسان وغيره مما ليس بصدد الاستعاذة ثم جعل عمومها مدار أضافة الرب الى الفلق بالمعنى العام وهو كما ترى نعم الذى يتبادر الى الذهن ان عمومه لشرور الدنيا وقال بعض الافاضل هو عام لكل شر فى الدنيا والآخرة وشر الأنس والجن والشيطين وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل (30/280)
نفس المستعيذ ولايأبى ذلك نزول السورة ليستعيذ بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز بعضهم جعل ما مصدرية مع تأويل المصدر باسم المفعول وهو تكلف مستغنى عنه واضافة الشر الى ماخلق قيل لاختصاصه بعلم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة المستتبعة للكون والفساد وأما عالم الأمر الذى أوجد بمجرد أمركن من غير مادة فهو خير محض منزه شوائب الشر بالمرة والظاهر أنه أعنى بعالم الامر عالم المجردات وهم الملائكة عليهم السلام وأورد عليه بعذ غض الطرف عن عدم ورود ذلك فى عالم الشرع أن منهم من يصدر منه شر كخسف البلاد وتعذيب العباد وأجيب بأن ذلك بأمره تعالى فالم يصدر الا لامتثال الامر لا لقصد الشر من حيث هو شر فلا ايراد نعم يرد أن كونهم مجردين خلاف المختار الذى عليه سلف الامة ومن تبعهم بل هم أجسام لطيفة نورية ولو سلم بتجردهم قلنا بعدم حصر المجردات فيهم كيف وقد قال كثير بتجرد الجن فقالوا انها ليست أجساما ولاحالة فيها بل هى جواهر مجردة قائمة بانفسها مختلفة بالماهية بعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة حرة حبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور والآفات وبالجملة ماخلق أعم من المجرد على القول به وغيره والكل له مخلوق تعالى أى موجد بالاختيار بعد العدم الاأن المراد بالاستعاذة مما فيه شر من ذلك وقرأ عمرو بن فائد على مافى البحر من شر بالتنوين وقال ابن عطية هى قراءة عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بان الله تعالى لم يخلق الشر وحملوا على ما فى النفى وجعلوا الجملة فى موضع الصفة أى من شر ما خلقه الله تعالى ولا أوجده وهى قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى وأنت تعلم أن القراءة بالرواية ولايتعين فى هذه القراءة هذا التوجيه بل يجوز أن تكون ما بدلا من شر على تقدير محذوف قد حذف لدلالة ماقبله عليه أى منشر ماخلق من شر غاسق تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل لزيادة مساس الحاجة الى الاستعاذة منه لكثر وقوعه ولان تعيين المستعاذ منه أدل على الاغتناء بالاستعاذة وادعى الى الاعاذة والغاسق الليل أذا أعتكر ظلامه وأصل الغسق الامتلاء يقال غسقت اذا امتلأت دمعا وقيل هو السيلان وغسق الليل انصباب ظلامه على الاستعارة وغسق العين سيلان دمعها واضافة الشر الى الليل لملابسته له لحدوثه فيه على حد نهاره صائم وتنكيره لعموم شمول الشر لجميع أفراده ولكل أجزائه اذا وقب أى اذا دخل ظلامه فى كل شىء وأصل الوقب النقرة والحفرة ثم استعمل فى الدخول ومنه قوله وقب العذاب عليهم فكانهم
لحقتهم نار السموم فأخمدوا كذا فى المغيب لما أن ذلك كالدخول فى الوقب أى النقرة والحفرة وقد فسر هنا بالمجىء أيضا والتقييد بهذا الوقت لأن حدوث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر ومن أمثالهم الليل اخفى للويل الغاسق بالليل والوقوب بدخول ظلامه أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وابن أبى حاتم عن الضحاك وروى عن الحسن ايضا واليه ذهب الزجاج الا أنه جعل الغسق بمعنى البارد وقال أطلق على الليل لانه أبرد من النهار وقال محمد ابن كعب هو النهار ووقب بمعنى دخل فى الليل وهو كما ترى وقيل القمر أذا امتلأ نورا على ان الغسق الامتلاء ووقوبه دخوله فى الخسوف واسوداده وقيل التعبير عنه بالغاسق لسرعة سيره وقطعه البروج على أن الغسق مستعار من السيلان وقيل التعبير عنه بذلك لان جرمه مظلم وانما يستنير من ضوءالشمس ووقوبه على القولين المحاق فى آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسا ولذلك لاتشتغل بالسحر المورث للمرض الا فى ذلك الوقت قيل وهو المناسب لسبب نزول واستدل على تفسيره بالقمر على أخرجه (30/281)
الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت نظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما الى القمر لما طلع فقال ياعائشة استعيذى بالله من شر هذا فان هذا الغاسق اذا وقب ومن سلم صحة هذا لاينبغى له العدول الى تفسير آخر وأخرج أبن أبى حاتم عن ان شهاب أنه قال الغاسق اذا وقب الشمس اذا غربت وكأن اطلاق الغاسق عليها لامتلائها نورها ونقل ابن زيد عن العرب أن الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها وكانت الاسقام والطواعين تكثر عند ذلك وروى تفسيره غير واحد عن أبى هريرة مرفوعا وفى الحديث اذا طلع النجم ارتفعت العاهة وفى بعض الروايات زيادة عن جزيرة العرب وفى بعضها ما طلع النجم ذات غداة الا رفعت كل آفة أو عاهة أو خفت وفيه روايات أخر فليرجع شرح المناوى الكبير للجامع الصغير وقيل أريد يذلك الحية أذا لدغت واطلاق الغاسق عليها لامتلائها سما وقتل أريد سمها اذا دخل فى الجسد واطلق عليه الغاسق لسيلانه من نابها وكلا القولين لايعول عليه وقيل هو كل شر يعترى الانسان والشر يوصف بالظلمة والسواد ووقبه هجومه وذكر المجد الفيروز ابادى فى القاموس فى مادة وقب قولا فى معنى الآية زعم انه حكاه الغزالى وغيره عن ابن عباس ولا أظن صحة نسبته لظهور أنه عورة بين الاقوال ومن شر النفاثات فى العقد أى ومن شر النفوس السواحر اللاتى يعقدن عقدا فى خيوط وينفثن عليها فالنفاثات صفة للنفوس واعتبر ذلك لمكان التأنيث مع أن تأثير السحر انما هو من جهة النفوس الخبيثة والارواح الشريرة وسلكانه منها وقدر بعضهم النساء موصوفا والاول أولى ليشمل الرجال ويتضمن الاشارة السابقة ويطابق سبب النزول فان الذى سحره صلى الله تعالى عليه وسلم كان رجلا على المشهور كما ستسمع ان شاء الله تعالى وقيل أعانه بعض النساء ولكون مثل ذلك من عمل النساء وكيدهن غلب المؤنث على المذكر هنا وهو جائز على مافصله الخفجى فى شرح درة الغواصى والنفث النفخ مع ريق كما قال الزمخشرى وقال صاحب اللومح هو شبه النفخ يكون فى الرقية ولاريق معه فان كان يريق فهو تفل والاول هو الاصح لما نقله ابن القيم من انهم اذا سحروا واستعانوا على تأثير فعلهم بنفس يمازجه بعض أجزاء أنفسهم الخبيثة وقرأ الحسن النفاثات بضم النون وقرأ هو أيضا وابن عمر وعبد الله بن القاسم ويعقوب فى رواية النفاثات وأبو الربيع والحسن أيضا النفثات بغير ألف كالحذرات وتعريفها اما للعهد أو للايذان بشمول الشر لجميع افرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى البخارى ومسلم وابن ماجه عن عائشة رضى الله الله تعالى عنها قالت سحر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انه ليخيل اليه انه فعل الشىء ولم يكن فعله حتى اذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا ثم قال أشعرت ياعائشة أن الله تعالى قد أفتانى فيما استفتيته فيه قلت وماذاك يارسول الله فقال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى فقال الذى عند رأسى للذى عند رجلى أو الذى عند رجلى للذى عند رأسى ماوجع الرجل قال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الاعصم قال فى أى شىء قال فى مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال فاين هو قال فى بئر ذى اروان قالت فاتاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى أناس من أصحابه ثم قال ياعائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤس الشياطين قالت فقلت يارسول اله افلا أحرقته قال لا اما انا فقد عافانى الله تعالى وكرهت ان أثير على الناس فامرت بها فدفنت وهذان الملكان على مايدل على رواية ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس همل جبريل وميكائيل عليهما السلام ومن حديثهما فى الدلائل للبيهقى بعد ذكر حديث الملكين فما لأصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غدا ومعه أصحابه الى البئر فدخل رجل فاستخرج جف طلعة من تحت الراعوثة فاذ فيها مشط رسول (30/282)
الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن مشاطة رأسه واذا تمثال من شمع تمثال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واذا فيها أبر مغروزة واذا وتر فيه احدى عشرة عقدة فأتاه جبريل عليه السلام بالمعوذتين فقال يامحمد قل أعوذ برب اللق وحل عقدة من شر ماخلق وحل عقدة حتى فرغ منهما وحل العقدة كلها وجعل لاينزع أبرة الا وجد لها ألما ثم يجد بعد ذلك راحة فقيل يارسول الله لو قتلت اليهودى قال قد عافانى الله تعالى ومايراه من عذاب الله أشد وفى رواية ان الذى تولى السحر لبيد بن الاعصم وبناته فمرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فنزل جبريل بالمعوذتين وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره فارسل صلى الله تعالى عليه وسلم عليا كرم الله وجهه والزبير وعمارا فنزحوا ماء البئر وهو كنقاعة الحناء ثم رفعوا راعوثة البئر فاخرجوا أسنان المشط ومعها وتر قد عقد فيه احدى عشرة عقدة مغرزة بالابر فجاؤا بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما يقرأ آية انحلت عقدة ووجد عليه الصلاة و السلام خفة حتى انحالت العقدة الاخيرة عند تمام السورتين فقام صلى الله تعالى عليه وسلم كأنما أنشط من عقال الخبر والرواية الأولى أصح من هذه وقال الامام المازرى قد أنكر ذلك الحديث المبتدعة من حيث انه منصب النبوة ويشكك فيها وان تجويزه يمنع الثقة بالشرع وأجيب بأن الحديث صحيح وهو غير مراغم للنص ولايلزم عليه حط منصب النبوة والتشكيك فيها لان الكفار أرادوا بقولهم مسحور انه مجنون وحاشاه ولو سلم أرادة ظاهره فهو كان قبل هذه القصة أو مرادهم ان السحر أثر فيه وان مايأتيه من الوحى من تخيلات السحر وهو كذب أيضا لأن الله عصمه فيما يتعلق بالرسالة وأما مايتعلق أمور الدنيا التى لم يبعث عليه الصلاة و السلام بسبها وهى مما يعرض للبشر فغير بعيدان يخيل اليه من ذلك ما لا حقيقة له وقد قيل أنما هو كان انه وطىء زوجاته وليس بواطىء وقد يتخيل الانسان مثل هذا فى المنام فلا يبعد تخيله فى اليقظة وقيل انه يخيل أنه فعله وما فعله ولكن لايعتقد صحة ماتخيله فتكون اعتقاداته عليه الصلاة ولسلام على السداد وقال القاضى عياض قد جاءت روايات حديث عائشة مبنية ان السحر تسلط على جسده الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وظواهر جوارحه لاعلى عقله عليه الصلاة و السلام وقلبه واعتقاده ويكون معنى مافى بعض الروايات حتى يظن انه يأتى أهله ولايأتيهن وفى بعض انه يخيل اليه انه الخ انه يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فاذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور وكل ماجاء فى الروايات من انه عليه الصلاة و السلام يخيل اليه فعل شىء ولم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالصبر لالخلل تطرق الى العقل وليس فى ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولاطعنا لاهل الضلالة انتهى أنكر ونفى السحر حقيقته وأضاف مايقع منه الى خيالات باطلة لاحقائق لها ومذهب أهل السنة وعلماء الامة على ثباته وانه له حقيقة كحقيقة غيره من الاشياء لدلالة الكتاب والسنة على ذلك ولايستنكر فى العقل ان الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام مخصوصة والمزج بين قوى على ترتيب لايعرفه الا الساحر واذا شاهد الانسان بعض الاجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالادوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله ان ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد (30/283)
الى التفرقة ومع ذلك لا يخلوا من تأثير نفساني ثم أن القائلين به اختلفوا فى القدر الذى يقع به فقال بعضهم لايزيد تأثيره على قدرة التفرقة بين المرء وزوجه لان الله تعالى انما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلا له فلو وقع به أعظم منه للذكرة لأن المثل لايضرب عند المبالغة الا باعلى أحوال المذكور ومذهب الاشاعرة انه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك وهو الصحيح عقلا لانه لا فاعل الا الله ومايقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى ولاتفترق الافعال فى ذلك وليس بعضها باولى من بعض ولورود الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير اليه ولكن لايوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ماقاله القائل الاول وذكر التفرقة بين الزوجين فى الآية ليس فى بنص فى منع الزيادة وانما النظر فى أنه ظاهر أم لا والفرق بين الساحر وبن النبى والولى على قول الاشاعرة بأنه يجوز خرق العادة على يد الساحر مبين فى الكتب الكلامية وغيرها من شروح الصحاح وقيل فى الآية الملراد بالنفث فى العقد ابطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وهو يقرب من بدع التفاسير ومن شر حاسد اذا حسد أى اذا أظهر ما فى نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادى الاضرار بالمحسود وقولا وفعلا من ذلك على ماقيل النظر الى المحسود وتوجيه نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب فان نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة ربما تؤثر فى المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد شرا قد يصل الى حد الاهلاك ورب حاسد يؤذى بنظره بعين حسده نحو مايؤذى بعد الحيات بنظرهن وذكروا أن العائن والحاسد يشتركان فى أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تريد اذاه الا أن العائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين والمعاينة والحاسد يحصل حسده فى الغيبة والحضور وأيضا العائن قد يعين من لايحسده من حيوان وزرع وان كان لاينفك من حسده صاحبه والتقييد بذلك اذ لاضرر بل قيل ان ضرر الحسد انما يحيق بالحاسد لاغير كما قال على كرم الله تعالى وجهه لله در الحسد مأعدله بدأ بصاحبه فقتله وقال بن المعتز اصبر على حسد الحسود
فان صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها
ان لم تجد ماتأكاه وليعلم أن الحسد يطلق على تمنى زوال نعمة الغير وعلى تمنى استصحاب عدم النعمة ودوام مافى لغير من نقص أو فقر أو نحوه والاطلاق الاول هو الشائع والحاسد بكلا الاطلاقين ممقوت عند الله تعالى وعند عباده عز و جل آت بابا من الكبائر على ماشتهر بينهم لكن التحقيق ان الحسد الغريزى الجبلى اذا لم يعمل بمقتضاه من الاذى مطلقا بل عامل متصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهدا نفسه لاأثم فيه بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه وحسن معاملة أخاه ثوابا عظيما لما فى لما فى ذلك مشقة مخالفة الطبع كما لايخفى ويطلق الحسد على الغبطة مجازا وكان ذلك شائعا فىالعرف الأول وهى تمنى أن يكون له مثل مالأخيه من النعمة من غير تمنى زوالها وهذا مما لابأس به ومن ذلك ماصح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لاحسد الا فى اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا وسلطه على هلكته ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس وقال أبو تمام هم حسدوه لاملومين مجده
وماحاسد فى المكرمات بحاسد وقال أيضا وأعذر حسدوك فيما قد خصصت به
ان العلا حسن فى مثلها الحسد هذا وقال الرئيس ابن سينا الغاسق القوة الحيوانية فهى ظلمة غاسقة منكدرة على خلاف النفس الناطقة التى هى المستعيذة فانها خلقت فى جوهرها نقية صافية مبرأة عن كدورات المادة وعلائقها قابلة لجميع الصور والحقائق وانما تتلوث من الحيوانية والنفاثات فى العقد اشارة الى القوى النباتية (30/284)
من حيث انها تزيد في المقدار من جميع جهاته الطول والعرض والعمق فكانها تنفث فى العقد الثلاث ولما كانت العلاقة بين النفس الانسانبة والقوى النباتية بواسطة الحيوانية لاجرم قدم ذكر القوى الحيوانية على القوة النباتية والشر اللازم من هاتين القوتين فى جوهر النفس هو استحكام علائق البدن وامتناع تغذيها بالغداء الموافق لها واللائق بجوهرها وهو الاحاطة بملكوت السماوات والأرض والانتقاش بالنقوش الباقية وعنى بقوله تعالى ومن شر حاسد اذا حسد النزاع الحاصل بين البدن وقواه وبين النفس فالحاسد هو البدن من حيث له القوتان والمحسود هو النفس فالبدن وبال عليها فما أحسن حالها عند الاعراض عنه وما أعظم لذتها بالمفارقة ان لم تكن تلوثت منه وقيل الغاسق اشارة الى المعدن والنفاثات الى النباتات والحاسد الى الحيوان ولما كان الانسان لايتضرر عن الاجسام الفلكية وامنا يتضرر عن الاجسام العنصرية وهى اما معدن أو نبات أو حيوان أمر بالاستعاذة من شر كل منها وكلا القولين كما ترى والله تعالى أعلم
سورة الناس
وتسمى ماقبلها كما أشرنا اليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام فى أمر مكيتها ومدنيتها وهى ست آيات لاسبع وان أختار بعضهم بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ وقرىء فى السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها الى اللام كما قرىء فخذ أربعة برب الناس أي مالك امورهم ومربيهم بافاضة مايصلحهم ودفع ما يضرهم وأمال الناس هنا أبو عمرو والدورى عن الكسائى وكذا فى كل موضع وقع فيه مجرورا ملك الناس عطف بيان على ماأختاره الزمخشرى جىء به لبيان ان تربيته تعالى اياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلى والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى اله الناس فانه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولى لترتيب مبادىء حفظهم وحمايته كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الالوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهم احياء واماتة وايجادا واعداما وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لامانع منه عقلا ثم ماهنا وان لم يكن جامدا فهو فى حكمه ولعل الجزالة دعت الى اختياره وتخصيص الاضافة الى الناس مع انتظام جميع العالم في سلك ربويته تعالى وملكوته والوهيته على مافى الارشاد للارشاد الى منهاج الاستعاذة الحقيقية بالاعاذة فان توسل العائذ بربه وانتسابه اليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعى مزيد الرحمة والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالاعاذة لامحالة ولان المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففى التنصيص على انتظامهم فى سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز الى انجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به تعالى ان عبادى ليس لك عليهم سلطان واقتصر بعض الاجلة فى بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر مايخص النفوس البشرية وهى الوسسوسة كما قال تعالى من شر الوسواس وبحث فيه بعض الاغماض عما فيه القصور فى توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الابدان أيضا وفيه شىء سنشير ان شاء الله تعالى اليه واختار هذا الباحث فى ذلك أنه (30/285)
لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب الى كل شىء أى بناء على عموم الفلق ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف الى كل شىء وكان النظر الى السورة السابقة يقتضى الاضافة الى الوسواس لكنه لم يضف اليه حطا لدرجته عن اضافة الرب اليه بل الى المستعيذ وكان فى هذا الحط رمزا الى الوعد بالاعاذة وهو الذى لما يجعل لما ذكر حظا فى أداء حق المقام وربما يقال ان فى اضافة الرب الى الناس فى لآخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه فى عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالاقرار به فيما بعد كما أشار الى قوله تعالى واذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الآية فيكون فى ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد وفيه أيضا رمز الى الوعد الكريم بالاعاذة وذكر القاضى أن فى النظم الجليل اشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فانه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل فى النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غنى عن الكل وذات كل شىء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستعذ للعبادة لاغير ويندرج فى وجوه الاستعاذتة المعتادة تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات فان عادة من ألم به هم أن يرفع أمره الى لسيده ومربيه كوالده فان لم يقدر على رفعه لملكه وسلطانه فان لم يزل ظلامته شكاه الى ملك الملوك ومن اليه المشتكى والمفزع وفى ذلك اشارة الى عظم الآفة المستعاذ منها ولابن سينا ههنا كلام تتحرج منه الاقلام كما لايخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى ألمام وتكرير المضاف اليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالاضافة وقيل لاتكرار فانه يجوز ان يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الاجنة والاطفال المحتاجين للتربية والثانى الكهول والشبان لانهم المحتاجون لمن يسوسهم والثالث والشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على مافيه يبعده حديث اعادة الشىء معرفة وان كان أغلبيا والوسواس عند الزمخشرى اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلى والهمس الخفى ثم استعمل فى الخطرة الردية وأريد ههنا الشيطان سمى بفعله مبالغة كانه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أى ذى الوسواس وقال بعض أئمة العربية ان فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائى مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس والفتح شاذ لكنه كثر فى المكرر كتمتام وفأفأة ويكون للمبالغة كفعال فى الثلاثى كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر والحق أنه صفة فليحمل عليه ما فى الآية الكريمة من غير حاجة الى التجوز أو حذف المضاف وقد تقدم فى سورة الزلزال مايتعلق بهذا المبحث فتذكر فما فى العهد من قدم والظاهر ان المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس ومآله الى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من شر وسوسة الوسواس قيل وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره انه كما فى صحيح البخارى يعقد على قافية رأس العيد اذا نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفى وعد هذا من الشر البدنى خفاء وبعضهم عد من التخبط اذا لحق عند أهل السنة انه قد يكون من مسه كما تقدم فى موضعه وقوله تعالى الخناس صيغة مبالغة أونسبة أى الذى عادته أن يخنس ويتأخر اذا ذكر الانسان ربه عز و جل أخرج الضياء فى المختارة والحاكم وصححه وابن منذر وغيرهم عن ابن عباس قال مامن مولود يولد الا على قلبه الوسواس فاذا عقل فذكر الله تعالى خنس فاذا غفل وسوس وله على ماروى قتادة خرطوم كخرطوم الكلب ويقال ان رأسه كرأس الحية وأخرج ابن شاهين عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله (30/286)
تعالى عليه وسلم يقول أن للوسواس خطما كخطم الطائر فاذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار فى أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعال نكص وخنس فلذلك سمى الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس قيل أريد قلوبهم مجازا وقال بعضهم ان الشيطان يدخل الصدر الذى هو بمنزلة الدهليز فليقى مايريد ألقاءه الى القلب ويوصله اليه ولامانع عقلا من دخوله فى جوف الانسان وقد ورد السمع كما سمعت فوجب قبوله والايمان به ومن ذلك ان الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم ومن الناس من حمله على التمثيل وقال فى الآية انها لاتقتضى الدخول كما ينادى عليه البيان الآتى وقال ابن سينا الوسواس القوة التى توقع الوسوسة وهى القوة المتخيلةبحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم أن حركتها تكون بالعكس فان النفس وجهتها الى المبادى المفارقة فالقوة المتخيلة اذا أخذتها الا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس خناسا ونحوه ماقيل انه القوة الوهمية فهى تساعد العقل فى المقدمات فاذا آل الامر اللى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه ولايخفى ان تفسير الكلام الله تعالى بامثال ذلك من شر الوسواس الخناس والقاضى ذكر الاخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الوصول اما الجر على الوصف واما الرفع والنصب على الذم والشتم ويحسن أن يقف القارىء على أحد هذين الوجهين على الخناس وأما على الاول ففى الكواشى أنه لايجوز الوقف وتعقبه الطيبى بان فى عدم الجواز نظر للفاصلة وفى الكشف انه اذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم الا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله فى فاصلة خاصة من الجنة والناس بيان للذى يوسوس على أنه ضربان جنى وأنسى كما قال تعالى شياطين الآنس والجن أو متعلق بيوسوس ومن لابتداء الغاية أى يوسوس فى صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقى فى قلب المرء من جهتهم انهم ينفعون ويضرون ومن جهة الناس مثل ان يلقى فى من جهة المنجمين والكهان انهم يعلمون الغيب وجوز فيه الحالية من ضمير يوسوس والبدلية من قوله تعالى من شر باعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن من تبضيعية وقال الفراء وجماعة انه بيان للناس بناء على أيه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبى ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع فى ذلك من شبه جعل قسم الشىء قسيما له ومثله لايناسب بلاغة القرآن وان سلم صحته وتعقب أيضا بانه يلزم عليه القول بان الشيطان يوسوس فى صدور الانس ولم يقم دليل عليه ولايجوز جعل الآية دليلا لما يخفى وأقرب منه على ماقيل أن يراد بالناس الناسى بالياء مثله فى قراءة بعضهم من حيث أفاض الناس بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها فى قوله تعالى يوم يدع الداع ثم يبين بالجنة والناس فان كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى الا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته جعلنا الله ممن نال عصمته احظ والاوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى ثم أنه قيل أن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذالك بعدد السنين التى أنزل فيها القرآن فليراجع وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لايخفى كون سنى النزول اثنتى وعشرين سنة قول لبعضهم والمشهور انها ثلاث وعشرون اه ومثل هذا الرمز ماقيل أن أول حروفه الباء وآخرها السين فكأنه قيل بس أى حسب ففيه اشارة الى أنه كاف عما سواه ورمزالى قوله تعالى مافرطنا فى الكتاب من شىء وقد نظم ذلك بعض الفرس فقال (30/287)
أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين
يعنى اندرد وجهان رهبر ما قرآن بس ومثله من الرموز كثير لكن قيل لاينبغى أن يقال أن مراد الله عز و جل فلى هذه السورة الى الاستعانة به تعالى شأنه كما أرشد جل وعلا اليها فى الفاتحة بل لايبعد أن يكون مراده تعالى على القول بان ترتيب السور يوحيه سبحانه من ختم كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس الاشارة كما فى الفاتحة الى جلالة شأن التقوى والرمز الى أنها ملاك الأمر كاه وبها يحصل حسن الخاتمة فسبحانه من ملك جليل ماأجل كلمته ولله در التنزيل مأحسن فاتحته وخاتمته وبعد فهذا والحمد لله تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا فأسعدنى وله الشكر بالتوفيق لتفسير كتابه العزيز الذى لايذل من لاذ به 0 فاذ وفقتنى يا الهى لتفسير عبارته ووقفتنى على ماشئت من مضمر اشارته فاجعلنى يارباه ممن يعتصم بمحكم حبله ويتمسك بعروته الوثقى ويأوى الى المتشابهات الى حرز معقله ويستظل بظلال كهفه الاوقى وأعذنى من وساوس الشيطان ومكايده ومن الارتباك بشباك غروره ومصايده واجعله وسيلة لى الى أشرف منازل الكرامة وسلما أعرج فيه الى محل السلامة فطالما يا الهى أسهرتنى أياته حتى خفقت برأسى سنة الكرى فلم الاوقد لطمتنى من صفاح صحائف سورة ذات سوار وكم وكم سرت بى يامولاى عباراته حتى حققت لى دعوى عند الصباج يحمد القوم السرى فلم أشعر الا وقد تلفعت نواعس السوادىمن فضل مئزر مهاة الصبح بخمار ولم أزل أسود الأوراق فلى تحرير ماأفضت على حتى بيض نسخة عمرى المشيب وأجدد النظر بتحديق الاحداق فيما أفيضت من المشايخ الى حتى بل برد شبابى القشيب 0 هذا ماقاسيته من خليل غادر وجليل جائر وزمان غشوم وغيوم أبلها غموم 0 الى أمور انت ياالهى أعلم ولم يكن لى فيها سواك من يرحم 0 وأكثر ذلك ياألهى قد كان حيث أهلتنى لخدمة كتابك ومننت على من غير حد بالفحص عن مستودعات خطابك فاكفنى اللهم بحرمته مؤنة معرة العباد وهب لى أمن يوم المعاد وأذنى بلطفك وأعذنى بنعمتك ووفقنى للتى هى أزكى واستعملنى بما هو أرضى واسلك بى الطريقة المثلى وذودنى مطيات الهدى وزودنى باقيات التقى وأصلح ذريتى وبلغنى بهم أمنيتى واجعلهم علماء عاملين وهداة مهدين وكن لى ولهم فى جميع الامور واحفظنى واحفظهم من فتن الغرور وأيد اللهم خليفتك فى خليقتك ووفقه بحرمة كلامك لاعلاء كلمتك وصل وسلم على روح معانى الممكنات على الاطلاق وروح معانى قلوب المؤمنين والمؤمنات فى سائر الآفاق 0 وعلى آله وأصحابه وكل من سلك سنن سنته واقتفى (30/288)