{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الاستعجال طلب الشيء قبل وقته.
يعني (شتاب ميكنند كافران ترا بعذاب آرودن بايشان) أي يقول : نضر بن الحارث وأمثاله بطريق الاستهزاء متى هذا الوعد وأمطر علينا حجارة من السماء.
وفيه إشارة إلى أن من استعجل العذاب ولم يصبر على العافية لعجل خلق منه وهو مركوز في جبلته كيف على البلاء والضراء لو لم يصبره الله كما قال لنبيه عليه السلام : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} (النحل : 137) يسأل الله العافية من كل بلية {وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى} أي وقت معين لعذابهم وهو يوم القيامة كما قال {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} (القمر : 46) وذلك أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه لا يعذب قومه استئصالاً بل يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقد سمت الإرادة القديمة بالحكمة الأزلية لكل مقدور كائن آجلاً فلا تقدم له ولا تأخر عن المضروب المسمى.
{لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} عاجلاً.
وفيه إشارة إلى أن الاستعجال في طلب العذاب في غير وقته المقدر لا ينفع وهو مذموم فكيف ينفع الاستعجال في طلب مرادات النفس وشهواتها في غير أوانها وكيف لم يكن مذموماً {وَلَيَأْتِيَنَّهُم} العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل.
وبالفارسية (وبي شك خواهد آمد عذاب بديشان) {بَغْتَةً} (ناكاه).
قال الراغب : البغت مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانه.
يعني (وحال آنكه ايشان ندانند كه عذاب آيد بايشان وايشان ناآكاه).
يقول الفقير : إن قلت عذاب الآخرة ليس من قبيل المفاجأة فكيف يأتي بغتة؟.
قلت : الموت يأتيهم بغتة أي في وقت لا يظنون أنهم يموتون فيه وزمانه متصل بزمان القيامة ولذا عد القبر أول منزل من منازل الآخرة ويدل عليه قوله عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته" وفي البرزخ عذاب ولو كان نصفاً من حيث أنه حظ الروح فقط.
جزء : 6 رقم الصفحة : 484
وقال بعضهم : لعل المراد بإتيانه كذلك أن لا يأتيهم بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسؤولهم فإن ذلك إتيان برأيهم وشعورهم.
وفي بعض الآثار : من مات مصححاً لأمره مستعداً لموته ما كان موته بغتة وإن قبض نائماً ومن لم يكن مصححاً لأمره ولا مستعداً لموته فموته موت فجأة وإن كان صاحب الفراش سنة.
قال في "لطائف المنن" : وقد تحاورت الكلام أنا وبعض من يشتغل بالعلم في أنه ينبغي إخلاص النية فيه وأن لا يشتغل به إلا فقلت : الذي يطلب العلم إذا قيل له غداً تموت لايضع الكتاب من يده أي لكونه وفى الحقوق فلم ير أفضل مما هو فيه فيحب أن يأتيه الموت على ذلك
تو غافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد بايمال
طريقي بدست آروصلحى بجوى
شفيعي برانكيز وغدرى بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد امان
جو يمانه برشد بدور زمان
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} (تعجيل ميكنند ترا بعذاب آوردن) {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} أي :
484
والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه.
{لَمُحِيطَةُا بِالْكَـافِرِينَ} أي : ستحيط بهم عن قريب لأن ما هو آت قريب.
قال في "الإرشاد" : وإنما جيء بالاسمية دلالة على تحقق الإحاطة واستمرارها وتنزيلاً لحال السبب منزلة المسبب فإن الكفر والمعاصي الموجبة لدخول جهنم محيطة بهم.
وقال بعضهم : إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة.
{يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} ظرف لمضمر أي يوم يعلوهم ويسترهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال.
{مِن فَوْقِهِمْ} (أي ازنبر سرهاي ايشان) {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (واز زير بايهاي ايشان) والمراد من جميع جهاتهم {وَيَقُولُ} الله أو بعض الملائكة بأمره {ذُوقُوا} (بجشيد) والذوق وجود الطعم بالفم وأصله مما يقل تناوله فإذا أكثر يقال له الأكل واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب لأن ذلك وإن كان التعارف للقليل فهو مستصلح للكثير فخصه بالذكر ليعلم الأمرين كما في "المفردات" {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 484
قال الكاشفي : (دنيا دار عمل بود وعقبي دار جزاست هرجه آنجا كاشته ايد انيجا مي درويد) :
توخمى بيفشان كه جون بدروى
زمحصول خود شاد وخرم شوى
(6/351)
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} يشير إلى أن استعجال العذاب لأهل العذاب وهو نفس الكفر لا حاجة إليه بالاستعداد {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} الحرص والشره والشهوة والكبر والحسد والغضب والحقد {لَمُحِيطَةُا بِالْكَـافِرِينَ} بالنفوس الكافرة الآن بنفاد الوقت {يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} بإحاطة هذه الصفات {مِن فَوْقِهِمْ} الكبر والغضب والحسد والحقد {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الحرص والشره والشهوة ولكنهم بنوم الغفلة نائمون ليس لهم خبر عن ذوق العذاب كالنائم لا شعور له في النوم بما يجري على صورته لأنه نائم الصورة فإذا انتبه يجد ذوق ما يجري عليه من العذاب كما قال {وَيَقُولُ} يعني يوم القيامة {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي عذاب ما كنتم تعاملون الخلق والخالق به والذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} يعني في الوقت ولا شعور لهم {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} الذي يكون فيه الصلى والدخول يوم القيامة {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} اليوم ولكن لا شعور لهم بها فمن تطلع له شمس الهداية والعناية من مشرق القلب فيخرج من ليل الدين إلى يوم الدين وأشرقت أرض بشريته بنور ربها يرى نفسه محاطة جهنم أخلاقها فيجد ذوق المهاد بقصد الخروج والخلاص منها فإن أرض الله واسعة كما يأتي نسأل الله الخلاص.
جزء : 6 رقم الصفحة : 484
يا عِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} خطاب تشريف لبعض المؤمنين الذين لا يتمكنون من إقامة أمور الدين كما ينبغي لممانعة من جهة الكفر وإرشاد لهم إلى الطريق الأسلم.
قال الكاشفي : (آورده اندكه جمعي ازمؤمنان دركمه اقامت كرده ازجهت قلت زاد وكمى استعداد بابسبب محبت اوطان ياصحبت اخوان هجرت نميكر دند وبترس وهراس برستش خدانمودند) وربما يعذبون في الدين فأنزل الله هذه الآية وقال : يا عبادي المؤمنين إذا لم تسهل لكم
485
العبادة في بلد ولم يتيسر لكم اظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك.
{إِنَّ أَرْضِى} الأرض الجرم المقابل للسماء أي بلاد المواضع التي خلقتها.
{وَاسِعَةٌ} لا مضايقة لكم فيها فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرضي {فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ} أي فأخلصوها في غيره فالفاء جواب شرط محذوف ثم حذف الشرط وعوض عنه تقديم المفعول مع إفادة تقديم معنى الاختصاص والإخلاص.
قال الكاشفي : (واكر از دوستى أهل وولد بابسته بلده شده ايد روزى مفارقت ضرورت خواهد بود زيراكه).
{كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس سواء كان نفس الإنسان أو غيرها وهو مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لما فيها من العموم {ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} أي واجدة مرارة الموت ومتجرعة غصص المفارقة كما يجد الذائق ذوق المذوق وهذا مبني على أن الذوق يصلح للقليل والكثير كما ذهب إليه الراغب.
وقال بعضهم : أصل الذوق بالفم فيما يقل تناوله فالمعنى إذاً إن النفوس تزهق بملابسة البدن جزءاً من الموت.
واعلم أن الإنسان روحاً وجسداً وبخاراً لطيفاً بينهما هو الروح الحيواني فمادام هذا البخار باقياً على الوجه الذي يصلح أن يكون علاقة بينها فالحياة قائمة وعند انطفائه وخروجه عن الصلاحية تزول الحياة ويفارق الروح البدن مفارقة اضطرارية وهو الموت الصوري ولا يعرف كيفية ظهور الروح في البدن ومفارقته له وقت الموت إلا أهل الانسلاخ التام {ثُمَّ إِلَيْنَا} أي إلى حكمنا وجزائنا.
{تُرْجَعُونَ} من الرجع وهو الرد أي تردون فمن كانت هذه عاقبته ينبغي أن يجتهد في التزود والاستعداد لها ويرى مهاجرة الوطن سهلة واحتمال الغربة هوناً هذا إذا كان الوطن دار الشرك وكذا إذا كان أرض المعاصي والبدع وهو لايقدر على تغييرها والمنع منها فيهاجر إلى أرض المطيعين من أرض الله الواسعة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 485
سفر كن جوجاي تو ناخوش بود
كزين جاي رفتن بدان ننك نيست
وكرتنك كردد ترا جايكاه
خداى جهانرا جهان تنك نيست
جزء : 6 رقم الصفحة : 485
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} ومن الصالحات الهجرة للدين {لَنُبَوِّئَنَّهُم} لننزلهم.
وبالفارسية : (هر آينه فرود اديم ايشانرا) قال في "التاج" : النبوء (كسى را جابي فرآوردن) {مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا} مفعول ثان لنبوئنهم أي قصوراً عالية من الدر والزبرجد والياقوت وإنما قال ذلك لأن الجنة في جهة عالية والنار في سافلة ولأن النظر من الغرف إلى المياه والحضر أشهى وألذ {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} صفة لغرفاً {خَـالِدِينَ فِيهَا} أي : ماكثين في تلك الغرف إلى غاية {نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} الأعمال الصالحة.
يعني : (نيك مزديست مزد عمل كنند كان خيررا كو شكهاى بهشت).
(6/352)
{الَّذِينَ صَبَرُوا} صفة للعاملين أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد الهجرة للدين وغير ذلك من المحن والمشاق.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي : لا يعتمدون في أمورهم إلا على الله تعالى وهذا التوكل من قوة الإيمان فإذا قوي الإيمان يخرج من الكفر ملاحظة الأوطان والأموال والأرزاق وغيرهما وتصير الغربة والوطن سواء ويكفي ثواب الله بدلاً من الكل وفي الحديث : "من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد" عليهما السلام أما
486
استيجابه الجنة والغرف فلتركه المسكن المألوف لأجل الدين وامتثال أمر رب العالمين وأما رفاقته لهما فلمتابعتهما في باب الهجرة وإحياء سنتهما فإن إبراهيم عليه السلام هاجر إلى الأرض المقدسة ونبينا عليه السلام هاجر أرض المدينة.
وفيه إشارة إلى أن السالك ينبغي أن يهاجر من أرض الجاه وهو قبول الخلق إلى أرض الخمول
جزء : 6 رقم الصفحة : 486
ـ ـ حكايت كنند از ابو سعيد خراز قدس سره ـ ـ كفت در شهرى بودم ونام من در آنجا مشهور شده دركار من عظيم برفنند خنانكه برست خربزه كه از دست من بيفتاد برداشتند واز يكديكر بصد دينار مى هريدند وبر آن مى افزودونذ باخود كفتم اين نه جاى منست ولائق روز كار من بس از آنجا هجرت كردم تجاى افتادم كه مرازنديق مى كفتند وهر روز دوبار برمن سنك باران همى كردند همان جاى مقام ساختم وآن رنج وبلا همى كشيدم وخوش همى بودم ـ ـ واز ابراهيم ادهم قدس سره حكايت كنند ـ ـ كه كفت درهمه عمر خوريش دردنيا سه شادى ديدم وباذن الله تعالى شادى نفس خويش راقهر كردم.
در شهر انطاكيه شدم برهنه باي وبرهنه سرميرفتم هريكي طغنه برمن همى زد يكى كفت "هذا عبد آبق من مولاه" مرا أين سخن خوش آمد بانفس خويش كفتم اكر كريخته ورميده كاه آن نيامدكه بطريق صلح باز آي.
بوكه دركشتى نشسبته بودم مخرة درميان آن جمع بود وهيج كس را از من حقير تر وخوارتر نمي ديد هر ساعتي بيامدى ودست در قفاى من داشتى سوم.
آن بودكه در شهر مطيه در مسجدى سر بزانوى حسرت نهاده بودم در وادى كم وكاست خود افتاده بي حرمتي بيامد وبند ميزر بكشاد وآب در من ريخت يعني تبول كرد وكفت "خذماء الورد" ونفس من آيات ساعت از آن حقارت خوش بكشت ودلم بدان شا شد ماين شادى از باركاه عزت در حق خود تحفه سعادت يافتم.
بير طريقت كفت بسا مغرور در سير الله ومستدرج در نعمت الله ومفتون بثناى خلق) فعلى العاقل أن يموت عن نفسه ويذوق ألم الفناء المعنوي قبل الفناء الصوري فإن الدنيا دار الفناء(هر نفسي حشنده مر كست وهر كسى را راه كندبر مركست راهي رفقتي ويلي كذشتني وشرابي آشاميثدني سيد صلوات الله عليه بيوسته امت را اين وصيت كردى "أكثروا ذكر هاذم اللذات" زينهار مرك را فراموش مكنيد واز آمدن أو غافل مباشيد.
از ابراهيم بي ادهم قدس سره سؤال كردندكه أي قدوه أهل طريقت واى مقدمه زمره حقيقت آن جه معنى بودكه درسويداى دل وسينه تو يديد ار آمد تاتاج شاهي ازسر بيهادي ولباس سلطاني ازتن بر كشيدي ومرقع درويشي دريوشيدي ومحنت وبي نوايي اختيار كردي روزي برتخت مملكت تشبه بودم وبرجهار بالش حشمت تكيه زده كه ناكاه آينيه درييش روى من داشتند در آينه نكه كردم منزل خود در خاك ديدم ومرامونس نه سفر دراز درييش ومرازادنه زنداني تافته ديدم ومرا طاقت نه قاضي عدل ديدم ومراحجت نه اى مردى كه اكر بساط امل توكوشه باز كشند ازقاف تاقاف بكيرد بارى بنكركه صاحب قاب قوسين جه ميكويد "والله مارفعت قدماً وظننت أني وضعتها وما أكلت لقمة وظننت أني ابتلعتها" كفت بدان خداني كه مرا بخلق فرستادكه هيج قدمى اززمين
487
برنداشتم كه كمان بردم ييش ازمرك من آنرا بزمين باز توانم نهاد وهيج لقمه دردهان سنهادم كه جنان بنداشتم كه من آن لقمه راييش ازمرك توانم فروبرد اوكه سيد اولين وآخرين ومقتداي أهل آسمان وزمين است جنين ميكويد وتومغرور وغافل امل دراز درييش نهاده وصد ساله كار وبار ساخته ودل بر آن نهاده خبر ندارى كه اين دنيا غدار سراي غرورست نه سرور وسراي فراست نه سراي قرار)
جزء : 6 رقم الصفحة : 486
تاكى ازدار الغرورى ساختن دار السرور
تاكى ازدار الفراري ساختن دار القرار
اي خداوندان مال الاعتبار الاعتبار
وي خداوندان قال الاعتذار الاعتذار
ييش ازان كين جان عذر آردفرو ماندث زنطق
ظييش ازان كين حشم عبرت بين فرو ماندزكار
كذا في "كشف الأسرار".
(6/353)
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} كأين للتكثير بمعنى كم الخبرية ركب كاف التشبيه مع أي فجرد عنها معناها الإفرادي فصار المجموع كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في من لا تنوين تمكين ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط وهو مبتدأ.
وجملة قوله الله يرزقها خبره.
ولا تحمل صفة دابة.
والدابة كل حيوان يدب ويتحرك على الأرض مما يعقل.
والحمل بالفتح : (برداشتن بسروبه بشت) وبالكسر اسم للمحمول على الرأس وعلى الظهر.
والرزق لغة ما ينتفع به واصطلاحاً اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله.
روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت والمعنى وكثير من دابة ذات حاجة إلى الغذاء لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها (وذخيره كننده ازجانوران آميست وموش ومور وكفته اند سياه كوش ذخيره نهد وفراموش كند.
ودر كشاف از بعضى نقل ميكند كه بلبلى را ديدم خوردنى درزير بالهاي خودنهان ميكرد القصه جانوران بسيارند ازدواب وطيور ووحوش وسباع وهوام وحيوانات آبى كه ذخيره ننهند وحامل رزق خوثد نشوند) {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} يعطي رزقها يوماً فيوماً حيث توجهت يرزق {إِيَّاكُمْ} حيث كنتم أي ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة والخروج إلى دار الغربة
هست زفيض كرم ذوا الجلال
مشرب ارزاق بر آب ولال
شاه وكدا روزى ازان منخوريد
مور وملخ قسمت ازاوميبرند
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} المبالغ في السمع فيسمع قولكم هذا في أمر الرزق المبالغ في العلم فيعلم ضمائركم.
وقال الكاشفي : (دانا بآنكه شمارا رزوى از كجادهد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 486
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} أي أهل مكة {مِنْ} استفهام {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لمصالح العباد حيث يجريان على الدوام والتسخير جعل الشيء منقاداً للآخر وسوقه إلى الغرض المختص به قهراً.
{لَيَقُولُنَّ} خلقهن {اللَّهِ} إذ لا سبيل لهم إلى الإنكار لما تقرر في المعقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود {فَأَنَّى} (بس كجا)
488
{يُؤْفَكُونَ} الإفك بالفتح الصرف والقلب وبالكسر كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده في الإلهية مع إقرارهم بتفرده فيما ذكر من الخلق والتسخير فهو إنكار واستبعاد لتركهم العمل بموجب العلم وتوبيخ وتقريع عليه وتعجيب منه.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} أن يبسط له {مِنْ عِبَادِهِ} مؤمنين أو كافرين.
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يعنماجه دشمن جه دوست
{وَيَقْدِرُ} (تنك ميسازد) {لَهُ} أي : لمن يشاء أن يقدر له منهم كأئناً من كان على أن الضمير مبهم حسب إبهام مرجعه ويحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحداً على أن البسط والقبض على التعاقب أي يقدر لمن يبسط له على التعاقب.
قال الحسن : يبسط الرزق لعدوه مكراً به ويقدر على وليه نظراً له فطوبى لمن نظر الله إليه {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسط له ويعلم من يليق بقبضه فيقبض له أو يعلم أن كلاً من البسط والقبض في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلاً منهما في وقته وفي الحديث القدسي : "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك".
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} أي مشركي العرب {مِنْ} (كه) {نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا} (بس زنده كرد وتازه ساخت) {بِهِ} (بسبب آن آب) {الارْضِ} بإخراج الزرع والنبات والأشجار منها {مِنا بَعْدِ مَوْتِهَا} يبسها وقحطها.
وبالفارسية : (بس از مردكي وافسر دكي).
ويقال للأرض التي ليست بمنبتة : ميتة لأنه لا ينفع بها كما لا ينتفع بالميتة {لَيَقُولُنَّ} نزل وأحيا {اللَّهِ} أي يعترفون بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلاً.
{قُلِ الْحَمْدُ} على أن جعل الحق بحيث لا يجترىء المبطول على جحوده وأن أظهر حجتك عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} أي : أكثر الكفار.
{لا يَعْقِلُونَ} أي شيئاً من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته وهو الصنم.
يقول الفقير أغناه الله القدير : قد ذكر الله تعالى آية الرزق ثم آية التوحيد ثم كررهما في صورتين أخريين تنبيهاً منه لعباده المؤمنين على أنه سبحانه لا يقطع أرزاق الكفار مع وجود الكفر والمعاصي فكيف يقطع أرزاق المؤمنين مع وجود الإيمان والطاعات
(6/354)
اى كريمى كه از خزانه غيب
كبر وترسا وظيفه خوردارى
دوستانرا كجا كنى محروم
توكه بادشمنان نظر دارى
وإنه سبحانه لا يسأل من العباد إلا التوحيد والتقوى والتوكل فإنما الرزق على الله الكريم وقد قدر سبحانه مقادير الخلق فبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وما قدر في الخلق والرزق والأجل لا يتبدل بقصد القاصدين ألا ترى إلى الوحوش والطيور لا تدخر شيئاً إلى الغد تغدو خماصاً وتروح بطاناً أي ممتلئة البطون والحواصل لاتكالها على الله تعالى بما وصل إلى قلوبها من نور معرفة خالقها فكيف يهتم الإنسان لأجل رزقه وأجله ويدخر شيئاً لغده ولا يعرف
489
حقيقة رزقه وأجله فربما يأكل ذخيرته غيره ولا يصل إلى غده ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغد إذ الأرزاق مجددة كالأنفاس المجددة في كل لمحة والرزق يطلب الرجل كما يطلبه أجله (خواجه عالم صلى الله عليه وسلم فرموده كه اى مردم رزق قسمت كرده شده است تجاوز نمى كند ازمرد آنجه از براى وى نوشته شده است بس خوبى كنيد در طلب روزى يعني بطاعت جوييد نه بمعصيت اى مردم در قناعت فراخى است ودرميانه رفتن واندازه بكار داشتن بسندكي زكفايت است درزهد راحت است وخفت حساب وهر عملي را جزاييست وكل آت قريب) : قال المولى الجامي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
درين خرابه مكش بهر كنج غصه ورنج
جونقد وقت توشد فقر خاك برسر كنج
بقصر عشرت وايوان عيش شاهان بين
كه زاغ نغمه سرا كشت وجفدقا فيه سنج
وعن بعضهم قال : كنت أنا وصاحب لي نتعبد في بعض الجبال وكان صاحبي بعيداً مني فجاءني يوماً وقال : قد نزل بقربنا بدو فقم نمش إليهم لعله يحصل لنا منهم شيء من لبن غيره فامتنعت فلم يزل يلح علي حتى وافقته فذهبنا إليهم فأطعمونا من طعامهم ورجعنا وعاد كل واحد منا إلى مكانه الذي كان فيه ثم إني انتظرت الظبية في الوقت الذي كانت تأتيني فيه فلم تأتني ثم انتظرتها بعد ذلك فلم تأتني فانقطعت عني فعرفت أن ذلك بشؤم ذنبي الذي أحدثته بعد أن كنت مستغنياً بلبنها وهذا الذنب الذي ذكر ثلاثة أشياء أحدها خروجه من التوكل الذي كان دخل فيه والثاني طمعه وعدم قناعته بالرزق الذي كان مستغنياً به والثالث أكله طعاماً خبيثاً فحرم رزقاً حلالاً طيباً محضاً أخرجته القدرة الإلهية من باب العدم وأدخلته من باب الإيجاد بمحض الجود والكرم آتياً من طريق باب خرق العادة كرامة لولي من أوليائه أولى السعادة ذكره اليافعي في الرياض.
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
{وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ} إشارة تحقير للدنيا وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة : والمعنى بالفارسية : (ونيست أين زنكانىء دنيا).
قال الإمام الراغب : الحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان الحياة الدنيا والحياة الآخرة فهي إشارة إلى أن الحياة الدنيا بمعنى الحياة الأولى بقرينة المقابلة بالآخرة فإنه قد يعبر بالأدنى عن الأول المقابل للآخر والمراد بالحياة الأولى ما قبل الموت لدنوه أي قربه وبالآخرة ما بعد الموت لتأخره {إِلا لَهْوٌ} وهو ما يلهي الإنسان ويشغله عما يعنيه ويهمه والملاهي آلات اللهو {وَلَعِبٌ} يقال : لعب فلان إذا لم يقصد بفعله مقصداً صحيحاً.
قال الكاشفي : {إِلا لَهْوٌ} (مكر مشغولي وبيكاري ولعب وبازي يعني درسرعت انقضا وزوال ببازى كود كان مى ماندكه يكجا جمع آيند وساعتي بدان متهج كردند واندك زمانى را ملول ومانده كشته متفرق شوند وجه زيبا كفته است) :
بازيجه ايست طفل قريب اين متاع دهر
بى عقل مردمان كه بدين مبتلا سوند
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن هذه الحياة التي يعيش بها المرء في الدنيا بالنسبة إلى الحياة التي يعيش بها أهل الآخرة في الآخرة وجوار الحق تعالى لهو ولعب وإنما شبهها باللهو واللعب لمعنيين :
أحدهما : أن أمر اللهو واللعب سريع الانقضاء لا يداوم عليه فالمعنى : إن الدنيا وزينتها وشهواتها لظل زائل لا يكون له بقاء فلا تصلح
490
لاطمئنان القلب بها والركون إليها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
والثاني : إن اللهو واللعب من شأن الصبيان والسفهاء دون العقلاء وذوي الأحلام ولهذا كان النبي عليه السلام يقول : "ما أنا من دد ولا الدد مني" والدد اللهو واللعب فالعاقل يصون نفسه منه انتهى.
قال في "كشف الأسرار" : فإن قيل : لم سماها لهواً ولعباً وقد خلقها لحكمة ومصلحة؟ قلنا : إنه بنى الخطاب على الأعم الأغلب وذلك أن غرض أكثر الناس من الدنيا اللهو واللعب انتهى ورد في الخبر النبوي حين سئل عن الدنيا فقال : "دنياك ما يشغلك عن ربك" : وفي المثنوي :
جيست دنيا از خدا غافل شدن
نى نقره فرزند وزنمال را كر بهر دين باشي حمول
نعم مال صالح خواندش رسول
آب در كشتى هلاك كشتى ايت
آب اندر زيركشتى بشتى است
جونكه مال وملك را ازدل براند
زان سليمان خويش جز مسكين نخواند
كوزه سربسته اندر آب رفت
از دل بر باد فوق آب رفت
باد درويشى جو در باطن بود
(6/355)
بر سر آب جهان ساكن بود
كرجه جمله اين ملك ويست
ملك درحشم دل اولا شى است
قيل : الشر كله في بيت واحد ومفتاحه حب الدنيا وما أحسن من شبهها بخيال الظل حيث قال :
رأيت الخيال الظل أعظم عبرة
لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوص وأصوات يخالف بعضها
لبعض وأشكال بغير وفاق
تمر وتقضي أوبة بعد أوبة
وتفني جميعاً والمحرك باقي
ومن إشارات "المثنوي" ما قال :
اى دريده بوستين يوسفان
كرك بر هيزي ازين خواب كرانكشته كركان يك بيك خواهاى تو
درانند از غضب اعضاى تو
خون نخسبد بعد مركت در قصاص
تومكوكه مردم ويابم خلاص
اين قصاص نقد حيلت سازيست
ييش زخم آن قصاص اين بازيست
زين لعب خواندست دنيارا خدا
كين جزا لعبست ييش آن جزا
اين جزا تسكين جنك وفتنه است
آن جواخصا است واين جون ختنه است
{وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} أي : الجنة لهي دار الحياة الحقيقية لامتناع طريان الموت والفناء عليها أو هي في ذاتها حياة للمبالغة.
والحيوان مصدر حيي سمي به ذو الحياة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واواً لئلا يحذف إحدى الألفات وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحيوان ولذلك اختير على الحياة في هذا المقام المقتضي للمبالغة.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لما آثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة ثم ما يحدث فيها من الحياة عارضة سريعة الزوال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن دار الدنيا لهي الموتان لأنه تعالى سمى الكافر وإن كان حيا بالميت بقوله : {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وقال : {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} فثبت أن الدنيا وما فيها من الموتان إلا من أحياه الله بنور الإيمان فهو
491
الحي والآخرة عبارة عن عالم الأرواح والملكوت فهي حياة كلها وإنما سماها الحيوان والحيوان ما يكون حياً وله حياة فيكون جميع أجزائه حياً فالآخرة حيوان لأن جميع أجزائها حي فقد ورد في الحديث : "إن الجنة بما فيها من الأشجار والثمار والغرف والحيطان والأنهار حتى ترابها وحصاها كلها حي" فالحياة الحقيقية التي لا تشينها الغصص والمحن والأمراض والعلل ولا يدكها الموت والفوت لهي حياة أهل الجنات والقربات لو كانوا يعلمون قدرها وغاية كماليتها وحقيقة عزتها لكانوا أشد حرصاً في تحصيلها ههنا فمن فاتته لا يدركها في الآخرة ألا ترى أن من صفة أهل النار أن لا يموت فيها ولا يحيا يعني : ولا يحيا بحياة حقيقة يستريح بها وأنهم يتمنون الموت ولا يجدونه انتهى.
قال في "كشف الأسرار" : (غافل بي حاصل تاشند شربت مرادى آميزي ووتاكي ارزوي زي.
كاه ون شير هرت يش آيدمى شكنى.
كاه ون كرك هره بيني همى درى.
كاه ون كبك در كوههاى مرادمى رى كاه ون آهو در مرغزار ارزو همه جرى.
خبرندارى كه اين دنياكه توبدان همى نازى وتراهمى فرييدو دردام غرورى كشد لهو ولبعست سراى بى سرمايكان وسرمايه بي دولتان وبازيه بى كار ان وبند معشوقه فتانست ورعناى بى سرو سامان دوستى بي وفا وايهَّ بى مهر دشمنى ركزند بوالعجبى رفند هركرا بامداد بنوازد شبانكاه بكدازد وهركرا يك دو ز ، دل بشادى بيفروزد وديكروزش بانش هلاك مى سوزد).
أحلام نوم أو كظل زائل
إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وفي "المثنوي" :
صوفى در باغ از بهرى كشاد
صوفيانه روى بر زانو نهاد
س فروزفت او بخود اندر نفول
شد ملول از صورت خوابش فضول
كه ه خسبى آخر اندر رزنكر
اين درختان بين وآثار خضر
امر حق بشنوكه كفتست انظروا
سوى اين آثار رحمت آر رو
كفت آثارش دلست اي بوالهوس
آن بورن آثار آثارست وبس
باغها وميوها اندردلست
عكس لطف آن برين آب وكلست
آن خيال باغ باشد اندر آب
كه كندر از لطف آب آن اضطراب
باغها وميوها اندر دلست
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
عكس لطف آن برين آب وكلست
كرنبودى عكس آن سر وسرور
س بخواندى انزدش دار الغرور
اين غرور آنست يعنى اين خيال
هست از عكس دل جان رجال
جمله مفروران برين عكس آمده
بر كمانى كين بود جنت كده
مي كريزند از اصول باغها
بر خيالى ميكنند آن لاغها
ونكه خواب غفلت آيد شان بسر
راست بينند وه سودست آن نظر
س بكورستان غربو فاتادواه
تا قيامت زين غلط واحصرتاه
أي خنك آنراكه يش ازمرك مرد
جان او از أصل اين رز بوبي برد
492
(اين حيات لعب ولهو در شم كسى آيدكه از حياة طيبه وزندكاني مهر خبر ندارد مراورا دوستانندكه زندكاني ايشان امروز بذكر است وبمهر وفردا زندكاني ايشان بمشاهدت بود ومعاينت زندكاني مهررا ثمره فنا ايشانندكه يك طرف ازو محجوب نيند وهي محجوب مانندزنده نمانند).
غم كى خورد آنكه شادمانيش تويي
ياكى ميرد آنكه زندكانيش تويى
فالعاقل لا يضيع العمر العزيز في الهوى واشتغال الدنيا الدنية الرذيلة بل يسارع في تحصيل الباقي.
(6/356)
قال الفضيل رحمه الله : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى.
كما روى أن سليمان عليه السلام قال : لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أوتي ابن داود فإنه يذهب والتسبيحة تبقى ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث صفات صفاء القلب أي عن كدورات الدنيا وأنسه بذكر الله وحبه ولا يخفى أن صفاء القلب وطهارته عن أدناس الدنيا لا تكون إلا مع المعرفة والمعرفة لا تكون إلا بدوام الذكر والفكر وخير الأذكار التوحيد.
{فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ} متصل بما دل عليه شرح حالهم.
والركوب هو الاستعلاء على الشيء المتحرك وهو متعد بنفسه كما في قوله تعالى : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} (النحل : 8) واستعماله ههنا وفي أمثاله بكلمة في للإيذان بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة وحركته قسرية غير إرادية.
والمعنى أن الكفار على ما وصفوا من الإشراك فإذا ركبوا في السفينة لتجاراته وتصرفاتهم وهاجت الرياح واضطربت الأمواج وخافوا الغرق.
وبالفارسية : (س ون نشينند كافران دركشتى وبسبب موج در كرداب اضطراب افتند).
{دَعَوُا اللَّهَ} حال كونهم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي : على صورة المخلصين لدينهم من المؤمنين حيث لا يدعون غير الله لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد عنهم إلا هو.
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
وقال في "الأسئلة المقحمة" : ما معنى الإخلاص في حق الكافر والإخلاص دون الإيمان لا يتصور وجوده؟ والجواب أن المراد به التضرع في الدعاء عند مسيس الضرورة والإخلاص في العزم على الإسلام عند النجاة من الغرق ثم العود والرجوع إلى الغفلة والإصرار على الكفر بعد كشف الضر ولا يرد الإخلاص الذي هو من ثمرات الإيمان انتهى ويدل عليه ما قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوا تلك الأصنام في البحر وصاحوا "يا خداي يا خداي" كما في "الوسيط" و"يا رب يا رب" كما في "كشف الأسرار" {فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} البر خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير كما في "المفردات" ؛ والمعنى بالفارسية.
(س آنن هكام كه نجات دهد خداي تعالى ايشانرا از بحر وغرق وبرون آرد بسلامت بسوى خشنك ودشت) {إِذَا هُمْ} (آنكاه يشان) {يُشْرِكُونَ} أي فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.
يعني (بازكردند بعادت خويش).
{لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} اللام فيه لام كي أي ليكونوا كافرين بشركهم بما آتيناهم من نعمة النجاة التي حقها أن يشكروها {وَلِيَتَمَتَّعُوا} أي : ولينتفعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها ويجوز أن يكون لام الأمر
493
في كليهما ومعناه التهديد والوعيد كما في اعملوا ما شئتم.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة ذلك وغائلته حين يرون العذاب.
وفي "التأويلات" : وبقوله : {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ} يشير إلى أن الإخلاص تفريغ القلب من كل ما سوى الله والثقة بأن لا نفع ولا ضرر إلا منه وهذا لا يحصل إلا عند نزول البلاء والوقوع في معرض التلف وورطة الهلاك ولهذا وكل بالأنبياء والأولياء لتخليص الجوهر الإنساني القابل للفيض الإلهي من قيد التعلقات بالكونين والرجوع إلى حضرة المكوّن فإن الرجوع إليها مركوز في الجوهر الإنسان لو خلى وطبعه لقوله : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق : 8) فالفرق بين إخلاص المؤمن وإخلاص الكافر بأن يكون إخلاص المؤمن مؤيداً بالتأييد الإلهي وأنه قد عبد الله مخلصاً في الرخاء قبل نزول البلاء فنال درجة الإخلاص المؤيد من الله بالسر الذي قال تعالى : "الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" فلا يتغير في الشدة والرخاء ولا في السخط والرضى وإخلاص الكافر إخلاص طبيعي قد حصل له عند نزول البلاء وخوف الهلاك بالرجوع الطبيعي غير مؤيد بالتأييد الإلهي عند خمود التعلقات كراكبي الفلك.
{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} دعاء اضطرارياً فأجابهم من يجيب المضطر بالنجاة من ورطة الهلاك {فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} وزال الخوف والاضطرار عاد الميشوم إلى طبعه.
{إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} .
أي ليكون حاصل أمرهم من شقاوتهم أن يكفروا بنعمة الله ليستوجبوا العذاب الشديد {وَلِيَتَمَتَّعُوا} أياماً قلائل {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أن عاقبة أمرهم دوام العقوبة إلى الأبد انتهى : قال الشيخ سعدي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
ره راست بايدنه بالاي راست
كه كافرهم از روى صورت وماست
ترا آنكه شم ودهان داد وكوش
اكر عاقلى در خلافش مكوش
مكن كردن از شكر منعم مي
كهخ روز سين سر بر آرى بهي
(6/357)
قال الشيخ الشهير بزروق الفاسي في شرح حزب البحر : أما حكم ركوب البحر من حيث هو فلا خلاف اليوم في جوازه وإن اختلف فيه نظراً لمشقته فهو ممنوع في أحوال خمسة.
أولها : إذا أدى لترك الفرائض أو نقصها فقد قال مالك للذي يميد فلا يصلي الراكب حيث لا يصلي : ويل لمن ترك الصلاة.
والثاني : إذا كان مخوفاً بارتجاجه من الغرق فيه فإنه لا يجوز ركوبه لأنه من الإلقاء إلى التهلكة قالوا : وذلك من دخول الشمس العقرب إلى آخر الشتاء.
والثالث : إذا خيف فيه الأسر واستهلاك العدو في النفس والمال لا يجوز ركوبه بخلاف ما إذا كان معه أمن والحكم للمسلمين لقوة يدهم وأخذ رهائنهم وما في معنى ذلك.
والرابع : إذا أدى ركوبه إلى الدخول تحت أحكامهم والتذلل لهم ومشاهدة منكرهم مع الأمن على النفس والمال بالاستئمان منهم وهذه حالة المسلمين اليوم في الركوب مع أهل الطرائد ونحوهم وقد أجراها بعض الشيوخ على مسألة التجارة لأرض الحرب ومشهور المذهب فيها الكراهة وهي من قبيل الجائز وعليه يفهم ركوب أئمة العلماء والصلحاء معهم في ذلك وكأنهم استخفوا الكراهة في مقابلة تحصيل الواجب الذي هو الحج وما في معناه.
والخامس : إذا خيف بركوبه عورة كركوب المرأة في مركب صغير لا يقع لها فيه سترها فقد منع مالك
494
ذلك حتى في حجها إلا أن يختص بموضع ومركب كبير على المشهور.
ومن أوراد البحر "الحي القيوم" ويقول عند ركوب السفينة : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (هود : 41).
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام : 91) {وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِهِ سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر : 67) فإنه أمان من الغرق.
{وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي ألم ينظر أهل مكة ولم يشاهدوا {أَنَّا جَعَلْنَا} أي بلدهم {حَرَمًا} محترماً {ءَامَنَّا} مصوناً من النهب والتعدي سالماً أهله آمناً من كل سوء {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} التخطف بالفارسية : (ربودن) وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يتحول إليه أي والحال أن العرب يختلسون ويؤخذون من حولهم قتلاً وسبياً إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب {أَفَبِالْبَـاطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي أبعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه بالباطل وهو الصنم أو الشيطان يؤمنون دون الحق وتقديم الصلة لإظهار شناعة ما فعلوه وكذا في قوله : {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} المستوجبة للشكر {يَكْفُرُونَ} حيث يشركون به غيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
وفي "التأويلات النجمية" : {أَفَبِالْبَـاطِلِ} وهو ما سوى الله من مشارب النفس {يُؤْمِنُونَ} أي يصرفون صدقهم {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} وهي مشاهدة الحق.
{يَكْفُرُونَ} بأن لا يطلبوها انتهى إنما فسر الباطل بما سوى الله لأن ما خلا الله باطل مجازى أما بطلانه فلكونه عدماً في نفسه وأما مجازيته فلكونه مجلى ومرآة للوجود الإضافي.
واعلم أن الكفر بالله أشد من الكفر بنعمة الله لأن الأول لا يفارق الثاني بخلاف العكس والكفار جمعوا بينهما فكانوا أذم.
{وَمَنْ أَظْلَمُ} (وكيست ستمكار تر) {مِمَّنِ افْتَرَى} (بيد اكرد از نفس خويش) {عَلَى اللَّهِ} الأحد الصمد {كَذِبًا} بأن زعم أن له شريكاً ، أي هو أظلم من كل ظالم ، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} بالرسول أو بالقرآن {لَمَّا جَآءَه} من غير توقف عناداً ففي لما تسفيه لهم بأن لم يتوقفوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ} تقريب لثوائهم فيها أي إقامتهم فإن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على النفي صار إيجاباً أي لا يستوجبون الإقامة والخلود في جنهم وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء والتكذيب بالحق الصريح مثل هذا التكذيب الشنيع أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على الافتراء والتكذيب أي ألم يعلموا أن في جنهم مثوى للكافرين حتى اجترؤوا هذه الجراءة.(6/358)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن يرى من نفسه بأن له مع الله حالاً أو وقتاً أو كشفاً أو مشاهدة ولم يكن له من ذلك شيء وقالوا إذا فعلوا فاحشة : وجدنا عليها آباءنا به يشير إلى أن الإباحية وأكثر مدعي زماننا هذا إذا صدر منهم شيء على خلاف السنة والشريعة يقولون : إنا وجدنا مشايخنا عليه والله أمرنا بهذا أي مسلم لنا من الله هذه الحركات لمكانة قربنا إلى الله وقوة ولايتنا فإنها لا تضر بل تنفعنا وتفيد.
{أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} أي : بالشريعة وطريقة المشايخ وسيرتهم لما جاء {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ} النفس {مَثْوًى} محبس {لِّلْكَـافِرِينَ} أي : لكافري نعمة الدين والإسلام والشريعة والطريقة بما يفترون وبما يدعون بلا معنى القيام به كذابين في دعواهم انتهى.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
مدعى خواست كه آيد بتماشا كه راز
دست غيب آمد وبرسينه نا محرم زد
495
فالمدعى أجنبي عن الدخول في حرم المعنى كما أن الأجنبي ممنوع عن الدخول في حرم السلطان وقال الكمال الخجندي :
مدعى نيست محروم دريار
خادم كعبه بولهب نبود
فالواجب الاجتناب عن الدعوى والكذب وغيرهما من صفات النفس واكتساب المعنى والصدق ونحوهما من أوصاف القلب.
قال الحافظ :
طريق صدق بياموز از آب صافى دل
براستي طلب ازاد كي وسرو من
حكي : عن إبراهيم الخواص رحمه الله أنه كان إذا أراد سفراً لم يعلم أحداً ولم يذكره وإنما يأخذ ركوته ويمشي قال حامد الأسوار : فبينما نحن معه في مسجده تناول ركوته ومشى فاتبعته فلما وافينا القادسية قال لي : يا حامد إلى أين؟ قلت : يا سيدي خرجت لخروجك قال : أنا أريد مكة إن شاء الله تعالى قلت : وأنا أريد إن شاء الله مكة فلما كان بعد أيام إذا بشاب قد انضم إلينا فمشى معنا يوماً وليلة لا يسجد تعالى سجدة فعرفت إبراهيم فقلت : إن هذا الغلام لا يصلي فجلس وقال : يا غلام مالك لا تصلي والصلاة أوجب عليك من الحج فقال : يا شيخ ما عليّ صلاة قال : ألست مسلماً؟ قال : لا قال : فأي شيء أنت؟ قال : نصراني ولكن إشارتي في النصرانية إلى التوكل وادعت نفسي أنها قد أحكمت حال التوكل فلم أصدقها فيما ادعت حتى أخرجتها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود أثير ساكني وامتحن خاطري فقام إبراهيم ومشى وقال : دعه يكون معك فلم يزل يسايرنا حتى وافينا بطن مرو فقام إبراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له : ما اسمك؟ قال : عبد المسيح فقال : يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعني الحرم وقد حرم الله على أمثالك الدخول إليه قال الله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا} (التوبة : 28) والذي أردت أن تستكشف من نفسك قد بان لك فاحذر أن تدخل مكة فإن رأيناك بمكة أنكرنا عليك قال حامد : فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا إلى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات إذا به قد أقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح الوجوه حتى وقف علينا فأكب على إبراهيم يقبل رأسه فقال له : ما الحال يا عبد المسيح؟ فقال له : هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له إبراهيم : حدثني حديثك قال : جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج فقمت وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم فساعة وقعت عيني عى الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى دين الإسلام فأسلمت واغتسلت وأحرمت فها أنا أطلبك يومي فالتفت إلى إبراهيم وقال : يا حامد انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام ثم صحبنا حتى مات بين الفقراء رحمه الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
يقول الفقير : أصلحه الله القدير في هذه الحكاية إشارات.
منها كما أن حرم الكعبة لا يدخله مشرك متلوث بلوث الشرك كذلك حرم القلب لا يدخله مدع متلوث بلوث الدعوى.
ومنها أن النصراني المذكور صحب إبراهيم أياماً في طريق الصورة فلم يضيعه الله حيث هداه إلى الصحبة به في طريق المعنى.
ومنها أن صدقه في طريقه أدّاه إلى أن آمن بالله وكفر بالباطل.
ومنها أن من كان نظره صحيحاً فإذا شاهد شيئاً من شواهد الحق يستدل به على الحق ولا يكذب بآيات
496
ربه كما وقع للنصراني المذكور حين رأى الكعبة التي هي صورة سر الذات وكما وقع لعبد الله بن سلام فإنه حين رأى النبي عليه السلام آمن وقال : عرفت أنه ليس بوجه كذاب نسأل الله حقيقة الصدق والإخلاص والتمتع بثمرات أهل الاختصاص.
{وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا} الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو أي جدوا وبذلوا وسعهم في شأننا وحقنا ولوجهنا خالصاً.
وأطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعداء الظاهرة والباطنة أما الأول فكجهاد الكفار المحاربين وأما الثاني فكجهاد النفس والشيطان وفي الحديث : "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم" ويكون الجهاد باليد واللسان كما قال عليه السلام : "جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم" أي بما يسوءهم من الكلام كالهجر ونحوه.
(6/359)
قال ابن عطاء : المجاهدة صدق الافتقار إلى الله بالانقطاع عن كل ما سواه وقال عبد الله بن المبارك المجاهدة علم أدب الخدمة فإن أدب الخدمة أعز من الخدمة.
وفي "الكواشي" : المجاهدة غض البصر وحفظ اللسان وخطرات القلب ويجمعها الخروج عن العادات البشرية انتهى فيدخل فيها الغرض والقصد {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الهداية الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب.
والسبل جمع سبيل وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك ويلزمه السهولة ولهذا قال الإمام الراغب : السبيل الطريق الذي فيه سهولة انتهى.
وإنما جمع لأن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق والمعنى سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المهاجرين والأنصار أي والذين جاهدوا المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة والرضوان.
وقال بعضهم : معنى الهداية ههنا التثبيت عليها والزيادة فيها فإنه تعالى يزيد المجاهدين هداية ما يزيد الكافرين ضلالة فالمعنى لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً لسلوكها كقوله تعالى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) وفي الحديث : "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم" وفي الحديث : "من أخلص أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة ثم قيل : مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم كذا من لزم السنة في الدنيا سلم.
ويقال : والذين جاهدوا بالتوبة لنهدينهم إلى الإخلاص.
والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم إلى طريق العمل به.
والذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى الوصول إلى محل الرضوان.
والذين جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والإنس بنا والمشاهدة لنا.
والذين أشغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى أسرارهم اللطائف والعجب ممن يعجز عن ظاهره ويطمع في باطنه ومن لم يكن أوائل حاله المجاهدة كانت أوقاته موصولة بالأماني ويكون حظه البعد من حيث يأمل القرب.
والحاصل أنه بقدر الجد تكتسب المعالي فمن جاهد بالشريعة وصل إلى الجنة ومن جاهد بالطريقة وصل إلى الهدى ومن جاهد بالمعرفة والانفصال عما سوى الله وصل إلى العين واللقاء.
ومن تقدمت مجاهدته على مشاهدته كما دلت الآية عليه صار مريداً مراداً وسالكاً مجذوباً وهو أعلى درجة ممن تقدمت مشاهدته على مجاهدته وصار مراداً مريداً ومجذوباً سالكاً لأن سلوكه على وفق العادة الإلهية ولأنه متمكن
497
هاضم بخلاف الثاني فإنه متلون مغلوب وربما تكون مفاجأة الكشف من غير أن يكون المحل متهيئاً له سبباً للإلحاد والجنون والعياذ بالله تعالى.
وفي التأويلات : {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي سبيل وجداننا كما قال : "ألا من طلبني وجدني ومن تقرب إليّ شراً تقربت إليه ذراعاً".
قال الكاشفي : در ترجمه بعضي از كلمات زبور آمده :
أنا المطلوب فاطلبني تجدني
أنا المقصود فاطلبني تجدني
اكر در جست وجوى من شتابد
مراد خود بزودى باز يابد
وفي "المثنوي" :
كركران وكر شتابنده بود
آنكه جوينده است يابنده بود
در طلب زن دائما توهر دودست
كه طلب درراه نيكو رهبرست
قالت المشايخ : المجاهدات تورث المشاهدات ولو قال قائل للبراهمة والفلاسفة أنهم يجاهدون النفس حق جهادها ولا تورث لهم المشاهدة قلنا : لأنهم قاموا بالمجاهدات فجاهدوا وتركوا الشرط الأعظم منها وهو قوله : فينا أي خالصاً لنا وهم جاهدوا في الهوى والدنيا والخلق والرياء والسمعة والشهرة وطلب الرياسة والعلو في الأرض والتكبر على خلق الله فأما من جاهد في الله جاهد أولاً بترك المحرمات ثم بترك الشبهات ثم بترك الفضلات ثم يقطع التعلقات تزكية للنفس ثم بالتنقي عن شواغل القلب على جميع الأوقات وتخليته عن الأوصاف المذمومات تصفية للقلب ثم بترك الالتفات إلى الكونين وقطع الطمع عن الدارين تحلية للروح فالذين جاهدوا في قطع النظر عن الأغيار بالانقطاع والانفصال لنهدينهم سبلنا بالوصول والوصال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
واعلم أن الهداية على نوعين هداية تتعلق بالمواهب وهداية تتعلق بالمكاسب فالتي تتعلق بالمواهب فمن هبة الله وهي سابقة والتي تتعلق بالمكاسب فمن كسب العبد وهي مسبوقة ففي قوله تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا} إشارة إلى أن الهداية الموهبية سابقة على جهد العبد وجهده ثمرة ذلك البذر فلو لم يكن بذر الهداية الموهبية مزروعاً بنظر العناية في أرض طينة العبد لما نبتت فيها خضرة الجهد ولو لم يكن المزروع مربى جهد العبد لما أثمر بثمار الهداية المكتسبية.
قال الحافظ :
قومي بجد وجهد نهادند وصل دوست
قومى دكر حواله بتقدير ميكنند
(6/360)
قال بعض الكبار : النبوة والرسالة كالسلطنة اختصاص إلهي لا مدخل لكسب العبد فيها وأما الولاية كالوزارة فلكسب العبد مدخل فيها فكما تمكن الوزارة بالكسب كذلك تمكن الولاية بالكسب {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بمعية النصرة والإعانة والعصمة في الدنيا والثواب والمغفرة في العقبى.
وفي "التأويلات النجمية" : لمع المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه.
وفي "كشف الأسرار" : {جَاهَدُوا} (درين موضع سه منزل است.
بكى جهاد اندر باطن باهوا ونفس.
ديكر جهاد بظاهر اعداى دين وفار زمين.
ديكر اجتهادبإقامت حجت وطلب حق وكشفت شبهت باشد مر آنرا اجتهاد كويند وهره اندر باطن بود اندر رعايت عهد الهي رم آنرا جهد ويند اين {جَاهَدُوا فِينَا} بيان هرسه حالست اوكه بظاهر جهاد كند
498
رحمت نصيب وى اوكه باجتهاد بود عصمت بهره وى اوكه اندر نعمت جهد بود كرامت وصل نصيب وى وشرط هرسه كس آنست كه آن جهد في الله بود تادر هدايت خلعت وى بود آنكه كفت.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ون هدايت دادم من باوى باشم روى بامن بود زبان حال بنده ميكويد الهى بعنايت هدايت دادى بمعونت زرع خدمت رويانيدى به يغام آب قبول دادى بنظر خويش ميوه محبت ووفا رسانيدى اكنون سزدكه سموم مكر ازان بازدارى وبنايى كه خود افراشته بجرم ما خراب نكنى الهى توضيعفانرا ناهى فاصدانرا برسر راهى واجد انرا كواهى ه بودكه افزايى ونكاهى)
روضه روح من رضاى توباد
قبله كاهم در سراى توباد
سرمه ديده جهان بينم
تابود كرد خاكاى توباد
كرهمه راى توفناى منست
جزء : 6 رقم الصفحة : 490
كار من برمراد راى توباد
شد د لم ذره وار در هوست
دائم اين ذره درهواى توباد
انتهى ما في "كشف الأسرار" لحضرة الشيخ رشيد الدين اليزدي قدس سره.
هذا آخر ما أودعت في المجلد الثاني.
من التفسير الموسم بـ"روح البيان" من جواهر المعاني.
ونظمت في سلكه من فوائد العبارة والإشارة والإلهام الرباني.
وسيحمده أولو الألباب.
إن شاء الله الوهاب.
ووقع الاتمام بعون الملك الصمد.
وقت الضحوة الكبرى من يوم الأحد.
وهو العشر السابع من الثلث الثاني من السدس الخامس من النصف الأول من العشر التاسع من العشر الأول من العقد الثاني من الألف الثاني من الهجرة النبوية.
على صاحبها ألف ألف تحية.
وقلت بالفارسية :
و زهجرت كذشت بى كم وكاست
نهن وصد سال يعنى بعد هزار
آخر فصل خزان شد وسم
كه نماند ورقى از كلزار
در جماداى نخستن آخر
بلبل خامه دم كرفت از زار
به نهايت رسيد جلد دوم
شد بتاريك روز اين بازار
جد وجهدى كه اوفتاده درين
شد بنوك قلم حقى زار
499
جزء : 6 رقم الصفحة : 490(6/361)
سورة الروم
مكية إلا قوله : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}
جزء : 6 رقم الصفحة : 499
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{الم} (ابو الجوزاء از ابن عباس رضي الله عنهما نقل كرده كه حروف مقطعه آيت ربانيه اندهر حرفى اشارت است بصفتى كه حق را بدان ثنا كويند نانكه الف ازين كلمه كنايتست از الوهيت ولام از لطف وميم از ملك وكفته اند الف اشارت باسم الله است ولام بلام جبريل وميم باسم محمد.
يعني : الله جل جلاله بواسطة جبرائيل عليه السلام وحى فرستاد بحضرت محمد صلى الله عليه وسلّم .
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالألف إلى إلفة طبع المؤمنين بعضهم ببعض وباللام إلى لؤم طبع الكافرين وبالميم إلى مغفرة رب العالمين فبالمجموع يشير إلى أن ألفة المؤمنين لما كانت من كرم الله وفضله بأن الله ألف بين قلوبهم انتهت إلى غاية حصلت ألفة ما بينهم وبين أهل الكتاب إذ كانوا يوماً ما من أهل الإيمان وإن كانوا اليوم خالين عن ذلك وإن لؤم الكافرين لما كان جبلياً لهم غلب عليهم حتى أنهم من لؤم طبعهم يعادي بعضهم بعضاً كمعاداة أهل الروم وأهل فارس مع جنسيتهم في الكفر وكانوا مختلفين في الإلفة متفقين على العداوة وقتل بعضهم بعضاً وإن مغفرة رب العالمين لما كانت من كرمه العميم وإحسانه القديم انتهت إلى غاية سلمت الفريقين ليتوب على العاتي من الحزبين ويعم للطائفتين خطاب إن الله يغفر الذنوب جميعاً انتهى.
وفي "كشف الأسرار" : ألم ألف بلايانا من عرف كبريانا ولزم بابنا من شهد جمالنا ومكن من قربتنا من أقام على خدمتنا (اى جوانمرد دل باتوحيد او سار وجان باعشق ومحبت او ردار وبغير او التفات مكن هركه بغير او باز نكرد تيغ غيرت دمار از جان اوبر آرد وهركه ازبلاى او بنالد دعوى دوستى درست نيايد.
مردى بود در عهد يشين مهترى از سلاطين دين اورا عامر بن قيس ميكفتند نين مى آيدكه درنماز نافله ايهاى او خون سياه بكرفت كفتند ايها ببر تا اين فساد زيادت نشود كفت سر عبد القيس كه باشدكه اورا بر اختيار حق اختيارى بود س ون در فرائض ونوافل وى خلل آمد روى سوى آسمان كرد كفت ادشاها كره طاقت بلا دارم طاقت باز ماندن از خدمت نمى آرم اى مى برم تا از خدمت باز نمانم آنكه كفت كسى را بخوانيد تا آيتى از قرآن برخواند ون بينيدكه در وجد وسماع حال بر ما بكردد شما بر كار خود مشغول باشيد ابها ازوى جدا كردند وداغ نهادند وآن مهتر دروجد وسماع آن نان رفته بودكه ازان ألم خبر نداشت س ون مقرى خاموش شد وشيخ بحال خود باز آمد كفت اين اى بريده بطلا بشوييد وبمشك وكافور معطر كنيدكه بردركاه خدمت هركز بربى وفايى كامى ننهاده است).
يقول الفقير : الألف من الم إشارة إلى عالم الأمر الذي هو المبدأ لجميع التعينات واللام إشارة إلى عالم الأرواح الذي هو الوسط بين الوجوديات والميم إشارة إلى عالم الملك الذي هو آخر التنزلات والاسترسالات.
فكما أن فعل بالنسبة إلى أهل النحو مشتمل على حروف المخارج الثلاثة التي هي الحلق والوسط والفم.
فكذا الم بالإضافة إلى أهل المحو محتو على حروف المراتب
3
الثلاث التي هي الجبروت والملكوت والملك وفرق بين كلمتيها اللفظيتين كما بين كلمتيها المعنويتين إذ كلمة أهل المحو مستوية مرتبة وكلمة أهل النحو منحية غير مرتبة.
ثم أسرار الحروف المقطعة والمتشابهات القرآنية مما ينكشف لأهل الله بعد الوصول إلى غاية المراتب وإن كان بعض لوازمها قد يحصل لأهل الوسط أيضاً فلا يطمع في حقائقها من توغل في الرسوم واشتغل بالعلوم عن المعلوم نسأل الله تعالى أن ينجينا من ورطات العلاقات الوجودية المانعة عن الأمور الشهودية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الأرْضِ} الغلبة القهر كما في "المفردات" والاستعلاء على القرن بما يبطل مقاومته في الحرب كما في "كشف الأسرار".
والروم : تارة يقال للصنف المعروف وتارة لجميع رومي كفارسي وفرس وهم بنوا روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام والروم الأول منهم بنوا روم بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام.
والفرس بسكون الراء قوم معروفون نسبوا إلى فارس بن سام بن نوح.
وأدنى ألفه منقلبة عن واو لأنه من دنا يدنو وهو يتصرف على وجوه فتارة يعبر به عن الأقل والأصغر فيقابل بالأكثر والأكبر وتارة عن الأحقر والأذل فيقابل بالأعلى والأفضل وتارة عن الأول فيقابل بالآخر وتارة عن الأقرب فيقابل بالأبعد وهو المراد في هذا المقام أي : أقرب أرض العرب من الروم إذ هي الأرض المعهودة عندهم وهي أطراف الشام أو فى أقرب أرض الروم من العرب على أن اللام عوض عن المضاف إليه وهي أرض جزيرة ما بين دجلة والفرات ، والمعنى بالفارسية : (مغلوب شدند روميان يعني فارسيان برايشان غلب بردند درنزديكترين زمين كه عرب را باشد نسبت بزمين روم) وكان ملك الفرس يوم الغلبة ابرويز بن هرمز بن انوشروان بن قباذ صاحب شيرين وهو المعروف بخسرو وتفسير ابرويز بالعربية مظفر وتفسير انوشروان مجدد الملك وآخر ملوك الفرس الذي قتل في زمن عثمان رضي الله عنه هو يزدجر بن شهريار بن ابرويز المذكور وكان ملك الروم هرقل كسبحل وزبرج وهو أول من ضرب الدنانير وأول من أحدث البيعة.
قيل : فارس والروم قريش العجم وفي الحديث : "لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله أصحاب فارس".(7/1)
ـ روي ـ أن النبي عليه السلام كتب إلى قيصر ملك الروم يدعوه إلى الإسلام فقرأ كتابه ووضعه على عينيه ورأسه وختمه بخاتمه ثم أوثقه على صدره ثم كتب جواب كتابه إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفاه الله لعيسى عليه السلام فعجب النبي عليه السلام فقال : "لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة أبداً" وقال لفارس : "نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها" والروم ذات قرون كلما ذهب قرن خلف قرن هيهات إلى آخر الأبد كما في "كشف الأسرار" وأما قوله : "إذا هلك قيصر لا قيصر بعده" فمعناه إذا زال ملكه عن الشام لا يخلفه فيه أحد وكان كذلك لم يبق إلا ببلاد الروم كما في "إنسان العيون" وكتب إلى كسرى ملك فارس وهو خسرو المذكور وكسرى معرب خسرو فمزق كتابه ورجع الرسول بعدما أراد قتله فدعا عليه النبي عليه السلام أن يمزق كل ممزق فمزق الله ملكهم فلا ملك لهم أبداً {وَهُمْ} أي : الروم {مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي : من بعد مغلوبيتهم على يد فارس فهو من إضافة المصدر إلى المفعول والفاعل متروك والأصل بعد غلبة فارس إياهم
4
والغلب والغلبة كلاهما مصدر {سَيَغْلِبُونَ} سيغلبون فارس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{فِى أَدْنَى الارْضِ وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَا لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُا وَيَوْمَـاـاِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّه يَنصُرُ مَن يَشَآءُا وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{فِى بِضْعِ سِنِينَ} البضع بالفتح قطع اللحم وبالكسر المنقطع عن العشرة ويقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشر وقيل بل هو فوق الخمس دون العشر.
وفي "القاموس" ما بين الثلاث إلى التسع.
وفي "كشف الأسرار" البضع اسم للثلاث والخمس والسبع والتسع.
وفي "تفسير المناسبات" : وذلك من أدنى العدد لأنه في المرتبة الأولى وهو مرتبة الأحاد وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ربقة نوع من الجهل تعجيزاً لهم انتهى (كفته اندكه ملك فارس يعني خسرو رويز شهريار وفرخان را كه دو اميروى بودند ودوبرادر بالشكر كران فرستاد وملك روم يعني هرقل ون خبر يافت ازتوجه عسكر فارس خنس نام اميرش مهتر كرد بر لشكر خويش وفرستاد هردو لشكر بازرعات بهم رسيدند) وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلب الفرس على الروم وأخذوا من أيديهم بعض بلادهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون لأن فارس كانوا مجوساً وقد ظهر إخواننا على إخوانكم فلنظهرن عليكم فشق ذلك على المسلمين واغتموا فأنزل الله الآية وأخبر أن الأمر يكون على غير ما زعموا فقال أبو بكر رضي الله عنه للمشركين : لا يقرّنّ الله أعينكم فوالله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال أبيّ بن خلف اللعين كذبت اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليك والمناحبة المخاطرة فناحبه على عشرة ناقة شابة من كل واحد منهما يعني : (ضمان از يكديكر بستند هرآن يكى كه راست كوى بود آن ده شتربستاند ازان ديكر) وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع" فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاهما مائة ناقة إلى تسع سنين فلما خشي أبي أن يخرج أبو بكر مهاجراً إلى المدينة أتاه فلزمه فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فلما أراد أبي أن يخرج إلى أحد أتاه محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما ولزمه فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد ومات أبي من جرح برمح رسول الله بعد قفوله أي : رجوعه من أحد وظهرت الروم على فارس عند رأس سبع سنين (وآن نان بودكه ون شهريار وفرخان بر بعضى بلاد روم مستولى كشتند رويز بغمازى ارباب غرض بردو برادر متغير كشت وخواستند كه يكى را بدست ديكر هلاك كند وهردو بر صورت حال واقف شده كيفيت بقيصر روم عرضه كردند ودين ترسايى اختيار نمودند سهدار لشكر روم شدند وفار سيانرا مغلوب ساخته بعضى از بلاد ايشان بكر فتند وشهرستان روميه آنكه بنا كرند) ووقع ذلك يوم الحديبية.
وفي الوسيط فجاءه جبريل بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم ووافق ذلك يوم بدر انتهى وأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي فجاء به رسول الله فقال : تصدق به (أبو بكر رضي الله عنه آن همه بصدقه بداد بفرمان رسول) وكان ذلك قبل تحريم القمار بقوله تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالانصَابُ وَالازْلَـامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة : 90) والقمار أن يشترط أحد المتلاعبين في اللعب أخذ شيء من صاحبه إن غلب عليه والتفصيل في كراهية الفقه.
والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب.
ثم إن القراءة المذكورة
5
(7/2)
هي القراءة المشهورة.
ويجوز أن يكون غلبت على البناء للفاعل على أن الضمير لفارس والروم مفعوله أي : غلبت فارس الروم وهم أي : فارس من بعد غلبهم للروم سيغلبون على البناء للمفعول أي : يكونون مغلوبين في أيدي الروم ويجوز أن يكون الروم فاعل غلبت على البناء للفاعل أي : غلبت الروم أهل فارس وهم أي : الروم بعد غلبهم سيغلبون على المجهول أي : يكونون مغلوبين في أيدي المسلمين فكان ذلك في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غلبهم على بلاد الشام واستخرج بيت المقدس لما فتح على يد عمر رضي الله عنه في سنة خمس عشرة أو ست عشرة من الهجرة واستمر بأيدي المسلمين أربعمائة سنة وسبعاً وسبعين سنة ثم تغلب عليه الفرنج واستولوا عليه في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الهجرة واستمر بأيديهم إحدى وتسعين سنة إلى أن فتحه الله على يد الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الجمعة سابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فامتدحه القاضي محيى الدين بن البركة قاضي دمشق بقصيدة منها :
فتوحكم حلبا بالسيف في صفر
مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال وفتح القدس في رجب كما تقدم فقيل له : من أين لك هذا فقال : أخذته من تفسير ابن مرجان في قوله تعالى : {الاـما * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الارْضِ وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ} وكان الإمام أبو الحكم بن مرجان الأندلسي قد صنف تفسيره المذكور في سنة عشرين وخمسمائة وبيت المقدس يومئذٍ بيد الإفرنج لعنهم الله تعالى واستخرج الشيخ سعد الدين الحموي من قوله تعالى : {فِى أَدْنَى الأرْضِ} مغلوبية الروم سنة ثمانمائة فغلب تيمور على الروم.
يقول الفقير : لا يزال ظهور الغالبية أو المغلوبية في البضع سواء كان باعتبار المآت أو باعتبار الآحاد وقد غلب أهل الإسلام مرة في تسع وثمانين بعد الألف كما أشار إليه غالبون المفهوم من سيغلبون وغلبهم الكفار في السابعة والتسعين بعد الألف على ما أشار إليه أدنى الأرض يقال ما من حادثة إلا إليها إشارة في كتاب الله بطريق علم الحروف ولا تنكشف إلا لأهله قال علي كرم الله وجهه :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
العلم بالحرف سر الله يدركه
من كان بالكشف والتحقيق متصفاً
وحده {الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ} أي : في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون كأنه قيل من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين.
والمعنى أن كلاً من كونهم مغلوبين أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه وتلك الأيام نداولها بين الناس {وَيَوْمَـاـاِذٍ} أي : يوم إذ يغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (شاد خواهند شدن مؤمنان).
قال الراغب : الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية ولم يرخص في الفرح إلا في قوله فبذلك فليفرحوا وقوله ويومئذٍ يفرح المؤمنون {بِنَصْرِ اللَّهِ} أي : بتغليب من له كتاب على من لا كتاب له وغيظ من شمت بهم من كفار مكة وكون ذلك من دلائل غلبة المؤمنين على الكفرة فالنصرة في الحقيقة لكونها منصباً شريفاً ليست إلا للمؤمنين.
وقال بعضهم يفرح المؤمنون بقتل الكفار بعضهم
6
بعضاً لما فيه من كسر شوكتهم وتقليل عددهم لا بظهور الكفار كما يفرح بقتل الظالمين بعضهم بعضاً.
وفي "كشف الأسرار" : اليوم ترح وغداً فرح.
اليوم عبرة وغداً خبرة.
اليوم أسف وغداً لطف.
اليوم بكاء وغداً لقاء (هرندكه دوستانرا امروز درين سراى بلا وعنا همه دردست واندوه همه حسرت وسوز اما آن اندوه وسوزرا بجان ودل خريدار آيد وهره معلوم ايشانست فداى آن دردمى كنند.
نانكه آن جوانمرد كفته اكنون بارى بنقدى دردى دارم كه آن درد بصدهزار درمان ندهم داود يغمبر عليه السلام ون آن زلت صغيره ازوى برفت واز حق بدو عتاب آمد تازنده بود سربر آسمان نداشت ويكساعت از تضرع نياسود با اين همه مكفت الهي خوش معجونى ازين دردخالى نباشم.
اي مسكين توهميشه بى درد بوده از سوز درد زدكان خبر ندارى ازان كريه رشادى وازان خنده ر اندوه نشانى نديده) :
من كريه بخنده درهمى يوندم
نهان كريم وبآشكارا خندم
اى دوست كمان مبركه من خرسندم
آكاه نه كه من نياز مندم
(7/3)
{يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} أن ينصره من ضعيف وقوي من عباده استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى : {الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ} {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من يشاء أن ينصر عليه كائناً من كان {الرَّحِيمُ} المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء أن ينصره أي : فريق كان أو لا يعز من عادى ولا يذل من والى كما في "المناسبات" وهو محمول على أن المراد بالنصر نصر المؤمنين على المشركين في غزوة بدر كما أشير إليه من الوسيط.
وفي "الإرشاد" المراد من الرحمة هي الرحمة الدنيوية إما على القراءة المشهورة فظاهر لأن كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الدنيوية وإما على القراءة الأخيرة فلأن المسلمين وإن كانوا مستحقين لها لكن المراد بها نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية وتقديم وصف العزة لتقدمه في الاعتبار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{بِنَصْرِ اللَّه يَنصُرُ مَن يَشَآءُا وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّه لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَه وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ} .
{وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله وهو ويومئذٍ الخ في معنى الوعد إذ الوعد هو الإخبار بإيقاع شيء نافع قبل وقوعه وقوله ويومئذٍ الخ من هذا القبيل ومثل هذا المصدر يجب حذف عامله والتقدير وعد الله وعداً يعني انظروا وعد الله ثم استأنف تقرير معنى المصدر فقال : {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه سبحانه {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وهم المشركون وأهل الاضطراب {لا يَعْلَمُونَ} صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم في شؤون الله تعالى.
{يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} وهو ما يشاهدونه من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها وتنكير ظاهراً للتحقير والتخسيس أي : يعلمون ظاهراً حقيراً خسيساً من الدنيا.
قال الحسن : كان الرجل منهم يأخذ درهماً ويقول وزنه كذا ولا يخطىء وكذا يعرف رداءته بالنقد.
وقال الضحاك : يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها ولا فرق بين
7
عدم العلم وبين العلم المقصور على الدنيا.
وفي "التيسير" قوله : {لا يَعْلَمُونَ} نفي للعلم بأمور الدين وقوله : {يَعْلَمُونَ} إثبات للعلم بأمور الدنيا فلا تناقض لأن الأول نفي الانتفاع بالعلم بما ينبغي والثاني صرف العلم إلى ما لا ينبغي ومن العلم القاصر أن يهيىء الإنسان أمور شتائه في صيفه وأمور صيفه في شتائه وهو لا يتيقن بوصوله إلى ذلك الوقت ويقصر في الدنيا في إصلاح أمور معاده ولا بد له منها {وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ} التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسنى {هُمْ غَـافِلُونَ} لا يخطرونها بالبال ولا يدركون من الدنيا ما يؤدي إلى معرفتها من أحوالها ولا يتفكرون فيها.
{وَهُمْ} الثانية تكرير للأولى للتأكيد يفيد أنهم معدن الغفلة عن الآخرة أو مبتدأ وغافلون خبره والجملة خبر للأولى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وفي الآية تشبيه لأهل الغفلة بالبهائم المقصور إدراكاتها من الدنيا على الظواهر الحسية دون أحوالها التي هي من مبادىء العلم بأمور الآخرة وغفلة المؤمنين بترك الاستعداد لها وغفلة الكافرين بالجحود بها.
قال بعضهم : من كان عن الآخرة غافلاً كان عن الله أغفل ومن كان عن الله غافلاً فقد سقط عن درجات المتعبدين (در خبراست كه فردا در انجمن رستاخيز وعرصه عظمى دنيارا بيارند بصورت يره زنى آراسته كويد بار خدايا امروز مر اجزاى كمتر بنده كن از بندكان خود از دركاه عزت وجناب جبروت فرمان آيدكه اى نايز خسيس من راضى نباشم كه كمترين بنده از بندكان خودرا باون تو جزاى وهى دهم آنكه كويد "كونى ترابا" يعني خاك كرد ونيست شونان نيست شودكه هي جاى بديد نيايد.
وكفته اند طالبان دنيا سه كروه اند.
كروهى دردنيا از وجه حرام كردكنند ون دست رسد بغصب وقهر بخود مى كشند واز سر انجام وعاقبت آن نيند يشندكه ايشان اهل عقابند وسزاى عذاب مصطفى عليه السلام كفت كسى كه در دنيا حلال جمع كند از بهر تفاخر وتكاثر تاكردن كشد وبر مردم تطاول جوايد رب العزة ازوى اعراض كند ودر قيامت باوى بخشم بوداوكه دردنيا حلال جمع كرد برنيت تفاخر حالش اينست س اوكه حرام طلب كند وحرام كيرد وخورد حالش خود ون بود.
(7/4)
كروه دوم دنيا بدست آرند ازوجه مباح ون كسب وتجارات وون معاملات ايشان اهل حسابند در مشيت حق در خبرست كه "من نوقش في الحساب عذب".
كروه سوم از دنيا بسد جوعت وستر عورت قناعت كنند مصطفى عليه السلام "ليس لابن آدم حق فيما سوى هذه الخصال بيت يكنه وثوب يوارى عورته وجرف الخبز والماء" يعني از كسر الخبز ايشانرا نه حسابست ونه عتاب ايشانندكه ون سر ازخاك بركنند رويهاى ايشان ون ماه هارده بود).
قال بعضهم : الآية وصف المدعين الذين هم عارفون بالأمور الظاهرة والأحكام الدنيوية محجوبون عن معاملات الله غافلون عما فتح الله على قلوب أوليائه الذين غلب عليهم شوق الله وأذهلهم حب الله عن تدابير عيش الدنيا ونظام أمورها ولذلك قال عليه السلام : "أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور آخرتكم".
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : "غلبت الروم" فيه إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بحسب الأوقات ففي بعض الأحوال يغلب فارس النفس على روم القلب للطالب الصادق فينبغي أن لا يزل هذا قدمه عن صراط الطلب
8
ويكون له قدم صدق عند ربه بالثبات واثقاً {وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} أي : سيغلب روم القلب على فارس النفس بتأييد الله ونصرته {فِى بِضْعِ سِنِينَ} من أيام الطلب {الامْرُ مِن قَبْلُ} يعني غلبة فارس النفس على روم القلب أولاً كانت بحكم الله وتقديره وله في ذلك حكمة بالغة في صلاح الحال والمآل ألا يرى أن فارس نفس جميع الأنبياء والأولياء في البداية غلبت على روم قلبهم ثم غلبت روم قلبهم على فارس نفسهم {وَمِنا بَعْدُ} يعني غلبة روم القلب على فارس النفس أيضاً بحكم الله فإنه يحكم لا معقب لحكمه {وَيَوْمَـاـاِذٍ} يعني يوم غلبت الروم {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} يعني الروح والسر والعقل {بِنَصْرِ اللَّهِ} القلب على النفس وبنصر الله المؤمنين على الكافرين {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فبعزته يعز أولياءه ويذل أعداءه {الرَّحِيمُ} برحمته ينصر أهل محبته وهم أرباب القلوب {وَعْدَ اللَّه لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَه وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} من ناسي ألطافه {لا يَعْلَمُونَ} صدق وعده ووفاء عهده لأنهم {يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} يجدون ذوق حلاوة عسل شهوات الدنيا بالحواس الظاهرة {وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ} وكمالاتها ووجدان شوق شهواتها بالحواس الباطنة وأنها موجبة للبقاء الأبدي وإن عسل شهوات الدنيا مسموم مهلك {هُمْ غَـافِلُونَ} لاستغراقهم في بحر البشرية وتراكم أمواج أوصافها الذميمة انتهى ، قال الكمال الخجندي :
جهان وجمله لذاتش بزنبور عسل ماند
كه شيرينيش بسيارست وزان افزون شر وشورش
عصمنا الله وإياكم من الانهماك في لذات الدنيا.
{يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِما مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآىاِ رَبِّهِمْ لَكَـافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم} الواو للعطف على مقدر ، والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب وهو قبل أن يتصفى اللب والتذكر بعده ولذا لم يذكر في كتاب الله تعالى مع اللب إلا التذكر.
قال بعض الأدباء : الفكر مقلوب الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها قوله : {فِى أَنفُسِهِم} ظرف للتفكر وذكره في ظهور استحالة كونه في غيرها لتصوير حال المتفكر فهو من بسط القرآن نحو يقولون بأفواههم والمعنى أقصر كفار مكة نظرهم على ظاهر الحياة الدنيا ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى {مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ} الأجرام العلوية وكذا سموات الأرواح {وَالارْضُ} الأجرام السفلية وكذا أرض الأجسام {وَمَا بَيْنَهُمَآ} من المخلوقات والقوى ملتبسة بشيء من الأشياء {إِلا} ملتبسة {بِالْحَقِّ} والحكمة والمصلحة ليعتبروا بها ويستدلوا على وجود الصانع ووحدته ويعرفوا أنها مجالي صفاته ومرائي قدرته وإنما جعل متعلق الفكر والعلم هو الخلق دون الخالق لأن الله تعالى منزه عن أن يوصف بصورة في القلب ولهذا روى "تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في ذات الله" ، وفي "المثنوي" :
عالم خلقست باسوى جهات
بى جهت دان عالم امر وصفات
بى تعلق نيست مخلوقى بدو
آن تعلق هست بيون اى عمو
اين تعلق را خرد ون ى برد
بسته فصلست ووصلست اين خرد
زين وصيت كرد مارا مصطفى
بحث كم جوييد در ذات خدا
9
آنكه در ذاتش تفكر كردنيست
در حقيقت آن نظر درذات نيست
هست آن ندار اوزيرا براه
صد هزاران رده آمد تا اله
(7/5)
هريكى در برده موصول جوست
وهم او آنست كه آن عين هوست
س يمبر دفع كرد اين وهم ازو
تانباشد در غلط سودا بزاو
در عجائبهاش فكر اندر رويد
از عظيمى وزمهابت كم شويد
ونكه صنعش ريش وسبلت كم كند
حد خود داند زصانع تن زند
جزكه لا احصى نكويد ازجان
كز شمار وحد برونست آن بيان
ثم أنه لما كان معنى الحق في أسماء الله تعالى هو الثابت الوجود على وجه لا يقبل الزوال والعدم والتغير كان الجاري على ألسنة أهل الفناء من الصوفية في أكثر الأحوال هو الاسم الحق لأنهم يلاحظون الذات الحقيقية دون ما هو هالك في نفسه وباطل في ذاته وهو ما سوى الله تعالى {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} عطف على الحق أي : وبأجل معين قدره الله تعالى لبقائها لا بد لها من أن تنتهي إليه وهو وقت قيام الساعة {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} مع غفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} أي : بلقاء حسابه وجزائه بالبعث والباء متعلق بقوله : {لَكَـافِرُونَ} أي : منكرون جاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية وأن الآخرة لا تكون بحلول الأجل المسمى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا} أهل مكة والسير المضي في الأرض {فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا} أي : أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا فينظروا أي : قد ساروا وقت التجارات في أقطار الأرض وشاهدوا {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المهلكة كعاد وثمود والعاقبة إذا أطلقت تستعمل في الثواب كما في قوله تعالى : {وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة كما في هذه الآية وهي آخر الأمر ، وبالفارسية : (سرانجام) ثم بين مبدأ أحوال الأمم ومآلها فقال : {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يعني : أنهم كانوا أقدر من أهل مكة على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة {وَأَثَارُوا الارْضَ} يقال ثار الغبار والسحاب انتشر ساطعاً وقد أثرته فالإثارة تحريك الشيء حتى يرتفع غباره ، وبالفارسية : (برانكبختن كرد وشورانيدن زمين وميغ آوردن باد) كما في "تاج المصادر" ، والثور اسم البقر الذي يثار به الأرض فكأنه في الأصل مصدر جعل في موضع الفاعل والبقر من بقر إذا شق لأنها تشق الأرض بالحراثة ومنه قيل لمحمد بن الحسين بن علي الباقر لأنه شق العلم ودخل فيه مدخلاً بليغاً.
والمعنى وقلبوا الأرض للزراعة والحراثة واستنباط المياه واستخراج المعادن {وَعَمَرُوهَآ} العمارة نقيض الخراب أي : عمروا الأرض بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها مما يعد عمارة لها {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي : عمارة أكثر كما وكيفا وزماناً من عمارة هؤلاء المشركين.
يعني : أهل مكة إياها كيف لا وهم أهل واد غير ذي زرع لا تنشط لهم في غيره {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} بالمعجزات والآيات الواضحات فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى {فَمَا كَانَ اللَّهُ} بما فعل بهم من العذاب والإهلاك {لِيَظْلِمَهُمْ} من غير جرم
10
يستدعيه من جانبهم {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما اجترأوا على اكتساب المعاصي الموجبة للهلاك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ أساءوا} أي : عملوا السيآت ، وبالفارسية : (بدكردند يعنى كافر شدند) {السُّواأَى} أي : العقوبة التي هي أسوء العقوبات وأفظعها وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوأى.
وقيل السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة وإنما سميت سوأى لأنها تسوء صاحبها ، قال الراغب : السوء كل ما يعم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجة من فوات مال وفقد حميم وعبر بالسوءى عن كل ما يقبح ولذلك قوبل بالحسنى قال : {ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ أساءوا السُّواأَى} كما قال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} (يونس : 26) انتهى.
والسوءى مرفوعة على أنها اسم كان وخبرها عاقبة وقرىء على العكس وهو أدخل في الجزالة كما في "الإرشاد" {ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ} علة لما أشير إليه من تعذيبهم الدنيوي والأخروي أي : لأن كذبوا بآيات الله المنزلة على رسله ومعجزاته الظاهرة على أيديهم {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} عطف على كذبوا داخل معه في حكم العلة وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده.
وحاصل الآيات : أن الأمم السالفة المكذبة عذبوا في الدنيا والآخرة بسبب تكذيبهم واستهزائهم وسائر معاصيهم فلم ينفعهم قوتهم ولم يمنعهم أموالهم من العذاب والهلاك فما الظن بأهل مكة وهم دونهم في العدد والعدد وقوة الجسد.(7/6)
واعلم أن طبع القلوب والموت على الكفر مجازاة على الإساءة كما قال ابن عيينة أن لهذه الذنوب عواقب سوء لا يزال الرجل يذنب فينكت على قلبه حتى يسوّد القلب كله فيصير كافراً والعياذ بالله ، وفيه إشارة إلى طلبة العلم الذين يشرعون في علوم غير نافعة بل مضرة مثل الكلام والمنطق والمعقولات فيشوش عليهم عقيدتهم على مذهب أهل السنة والجماعة وإن وقعوا في أدنى شك وقعوا في الكفر :
علم بى دينان رهاكن جهل را حكمت مخوان
ازخيالات وظنون اهل يونان دم مزن
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
فمن كان له نور الإيمان الحقيقي بالسير والسلوك ينظر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من حكماء الفلاسفة أنهم كانوا أشد منهم قوة في علم القال وأثاروا الأرض البشرية بالرياضة والمجاهدة وعمروها بتبديل الأخلاق والاستدلال بالدلائل العقلية والبراهين المنطقية أكثر مما عمروها المتأخرون لأنهم كانوا أطول أعماراً منهم فوسوس لهم الشيطان وغرهم بعلومهم العقلية واستبدت نفوسهم بها وظنوا أنهم غير محتاجين إلى الشرائع ومتابعة الأنبياء وجاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة فنسبوها إلى السحر والنيرنج واعتمدوا على مسولات أنفسهم من الشبهات بحسبان أنها من البراهين القاطعة فأهلكهم الله في أودية الشكوك والحسبان فما كان الله ليظلمهم بالابتلاء بهذه الآفات بأن يكلهم إلى وساوس الشيطان وهواجس نفوسهم ولا يرسل إليهم الرسل ولم ينزل معهم الكتب ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيب الأنبياء ومتابعة الشيطان وعبادة الهوى ثم كان عاقبة أمر الفلاسفة لما أساءوا بتكذيب الأنبياء السوءى بأن صاروا أئمة الكفر وصنفوا الكتب في الكفر وأوردوا فيها
11
الشبهات على بطلان ما جاء به الأنبياء من الشرائع والتوحيد وسموها الحكمة وسموا أنفسهم الحكماء فالآن بعض المتعلمين من الفقهاء إما الوفور حرصهم على العلم والحكمة وإما لخباثة الجوهر ليتخلصوا من تكاليف الشرع يطالعون تلك الكتب ويتعلمونها وبتلك الشبهات التي دونوا بها كتبهم يهلكون في أودية الشكوك ويقعون في الكفر وهذه الآفة وقعت في الإسلام من المتقدمين والمتأخرين منهم وكم من مؤمن عالم قد فسدت عقدتهم بهذه الآفة وأخرجوا ربقة الإسلام من عنقهم فصاروا من جملتهم ودخلوا في زمرتهم ولعل هذه الآفة تبقى في هذه الأمة إلى قيام الساعة فإن في كل يوم يزداد تقل طلبة علوم الدين من التفسير والحديث والمذهب وتكثر طلبة علوم الفلسفة والزندقة ويسمونها الأصول والكلام :
علم دين فقهست وتفسير وحديث
هركه خواند غير ازين كردد خبيث
وقد قال الشافعي رحمه الله : من تكلم تزندق ثم وبال هذه جملة إلى قيام الساعة يكتب في ديوان من سن هذه السنة السيئة ومن أوزار من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء على أن كذبوا بالقرآن وسموا الأنبياء عليهم السلام أصحاب النواميس وسموا الشرائع الناموس الأكبر عليهم لعنات الله تترى كذا في "تأويلات" حضرة الشيخ نجم الدين قدس سره.
{اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} يخلقهم أولاً في الدنيا وهو الإنسان المخلوق من النطفة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموت إحياء كما كانوا أي : يحييهم في الآخرة ويبعثهم وتذكير الضمير باعتبار لفظ الخلق {ثُمَّ إِلَيْهِ} أي : إلى موقف حسابه تعالى وجزائه {تُرْجَعُونَ} تردون لا إلى غيره والالتفات للمبالغة في الترهيب.
وقرىء بياء الغيبة والجمع باعتبار معنى الخلق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآاـاِهِمْ شُفَعَـاؤا وَكَانُوا} .
(7/7)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} التي هي وقت إعادة الخلق ورجعهم إليه للجزاء.
والساعة جزء من أجزاء الزمان عبر بها عن القيامة تشبيهاً لها بذلك لسرعة حسابها كما قال : {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ} (الأنعام : 62) أو لما نبه عليه قوله : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار} (الأحقاف : 35) {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} يسكنون سكوت من انقطع عن الحجة متحيرين آيسين من الاهتداء إلى الحجة أو من كل خير.
قال الراغب الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت وينسى ما يعينه.
قيل : أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآاـاِهِمْ} أوثانهم التي عبدوها رجاء الشفاعة {شُفَعَـاؤا} يجيرونهم من عذاب الله ومجيئه بلفظ الماضي لتحققه في علم الله وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع أي : لم يكن لكل واحد منهم شفيع أصلاً وكتب في المصحف شفعواء بواو قبل الألف كما كتب علمواء بني إسرائيل في الشعراء والسوأى بالألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها {وَكَانُوا بِشُرَكَآاـاِهِمْ كَـافِرِينَ} يكفرون بآلهتهم حيث يئسوا منهم.
يعني : (ون ازمطلوب نا اميد كردند ازايشان بيزار شوند).
{وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآاـاِهِمْ شُفَعَـاؤا وَكَانُوا بِشُرَكَآاـاِهِمْ كَـافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ} .
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه {يَوْمَـاـاِذٍ} (آن هنكام) {يَتَفَرَّقُونَ} تهويل له أثر تهويل.
وفيه رمز إلى أن التفرق يقع في بعض منه وضمير يتفرقون لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من بدئهم وإعادتهم
12
ورجوعهم لا المجرمين خاصة.
والمعنى : يتفرق المؤمنون والكافرون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبداً.
قال الحسن رحمه الله : لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقن يوم القيامة هؤلاء في أعلى عليين وهؤلاء في أسفل سافلين (يكى در درجه وصلت يكى در دركه فرقت آن بر سرير محبت واين بر حصير محنت آنرا انواع ثواب واين را أصناف عقاب جمعى ازدولت تلاقى نازان وبرخى برآتش فراق كدازان) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
يكى خندان بصدر عشرت
يكى نالان بصد عسرت
يكى در راحت وصلت
يكى در شدت هجرت
قال أبو بكر بن طاهر قدس سره : يتفرق كل إلى ما قدر له من محل السعادة ومنزل الشقاوة ومن كان تفرقته إلى الجمع كان مجموع السر ثم لا يألف الخلق أبداً فينقلب إلى محل السعداء ومن كان تفرقته إلى الفرق كان متفرق السر ثم لا يألف الحق أبداً فيرجع إلى محل أهل الشقاوة ، ثم فصل أحوال الفريقين وكيفية تفرقهم فقال :
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ} عظيمة وهي كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة والمراد بها الجنة ، قال الراغب : الروض مستنقع الماء والخضرة وفي روضة عبارة عن رياض الجنة وهي محاسنها وملاذها انتهى.
وخص الروضة بالذكر لأنه لم يكن عند العرب شيء أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض.
ففيه تقريب المقصود من إفهامهم.
والمعنى بالفارسية : (س ايشان در مر غزارهاى مشتمل برازهار وانهار) {يُحْبَرُونَ} يسرون سروراً تهللت له وجوههم ، يعني : (شادمان كردانيده باشند نان شادمانى كه اثر آن بر صفحات وجنات ايشان ظاهر باشد) فالحبور السرور يقال حبره إذا سره سروراً تهلل له وجهه.
وفي "المفردات" يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم أي : أثره يقال حبر فلان بقي بجلده أثر من قرح.
والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس ومن آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين رضي الله عنه بقوله : "العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة" ويقال التحبير التحسين الذي يسره يقال للعالم حبر لأنه يتخلق بالأخلاق الحسنة.
وللمداد حبر لأنه يحسن به الأوراق فيكون الحبرة كل نعمة حسنة.
قال في "الإرشاد" : واختلف فيه الأقاويل لاختلاف وجوه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد يكرمون.
وعن قتادة ينعمون.
وعن ابن كيسان يحلون.
وعن أبي بكر بن عياش يتوّجون (متوج سازندشان).
وعن وكيع يسرون بالسماع ، يعني : (آواز خوش شنوانند ايشانرا وهي لذت برابر سماع نيست.
در خبراست كه ابكار بهشت تغنى كنند بأصواتي كه خلائق مثل آن نشنيده باشد واين افضل نعيم بهشت بود ازابى درداء رضي الله عنه را رسيدندكه مغنيات بهشت به يز تغنى كنند فرموده كه بالتسبيح.
از يحيى بن معاذ رازى رضي الله عنه را رسيدندكه از آوزها كدام دوستر دارى فرمود مزامير انس في مقاصير قدس بالحان تحميد في رياض تمجيد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/8)
ـ روي ـ أن في الجنة أشجاراً عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع يهب الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا
13
طرباً وفي الحديث : "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين منها كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها سمواً وأوسطها محلاً ومنها يتفجر أنهار الجنة وعليها يوضع العرش يوم القيامة" فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إني رجل حبب إليّ الصوت فهل في الجنة صوت حسن؟ فقال : "أي نعم والذي نفسي بيده إن الله سبحانه ليوحي إلى شجرة في الجنة أن أسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير فترفع صوتاً لم يسمع الخلائق مثله قط من تسبيح الرب وتقديسه" (فردا دوستان خدا در روضات بهشت ميان رياحين انس بشادى وطرب سماع كنند فرمان آيد بداود عليه السلام كه يا داود بآن نغمه دلذير وصوت شوق انكيز كه ترا داده ايم زبور بخوان.
أي : موسى تلاوت تورات كن.
أي : عيسى بتلاوت انجيل مشغول شو.
اي درخت طوبى آواز دل آراى بتسبيح ما بكشاي.
اي اسرافيل توقرآن آغازكن).
قال الأوزاعي : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم (اى ماه رويان فردوس ه نشينيد خيزيد ودوستانرا اقبال كنيد.
اى تلهاى مشك اذفر وكافور معنبر برسر مشتاقان ما نثار شويد.
اى درويشان كه دردنيا غم خورديد اندوه بسر آمدودرخت شادى ببر آمد خيزيد وطرب كنيد در حظيره قدس وخلوتكاه انس بنازيد.
اى مستان مجلس مشاهده.
اي مخمور خمر عشق.
اي عاشقان سوخته كه سحر كاهان در ركوع وسجود ون خون ازديدها روان كرده ودلها باميد وصال ما تسكين داده كاه آن آمدكه در مشاهده ما بياساييد بارغم ازخود فرونهيد وبشادى دم زنيد.
اي طالبان ساكن شويد كه نقد تزديكست.
اي شب روان آرام كيريد كه صبح نزديكست.
اي مشتاقان طرب كنيدكه ديدار نزديكست) فيكشف الحجاب ويتجلى لهم تبارك وتعالى في روضة من رياض الجنة ويقول : أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي فهذا محل كرامتي فسلوني :
روزى كه سرا رده برون خواهى كرد
دانم كه زمانه را زبون خواهى كرد
كر زيب وجمال ازين فزون خواهى كرد
يا رب ه جكر هست كه خون خواهى كرد
(حاصل سخن آنكه شريفترين لذتي بعد ازمشاهده انوار تجلى دربهشت سماع خواهد بود وازينجا كفته آن عزيز در شرح مثنوى كه سماع منادى است كه درماندكان بيابان محنت افزاى دنيارا از عشرت آباد بهشت نورانى ياد ميدهد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
مؤمنان كويند كاثار بهشت
نغز كردانيد هر آواز زشتما همسه اجزاء آدم بورده ايم
دربهشت آن لحن را بشنوده ايم
كره برما ريخت آب وكل شكى
ياد ما آيد ازانها اندكى
س نى ونك ورباب وسازها
يزكى ماند بدان آوهاعاشقان كين نغمهارا بشنوند
خزؤ بكذا رند وسوى كل روند
قال بعض العارفين : إن الله تعالى بجوده وجلاله يطيب أوقات عشاقه بكل لسان في الدنيا وكل صوت حسن في الآخرة ورب روضة في الدنيا للعارف العاشق الصادق يرى الحق فيها
14
ويسمع منه بغير واسطة وربما كان بواسطة فيسمعه الحق من ألسنة كل ذرة من العرش إلى الثرى أصواتاً قدوسية وخطابات سبوحية.
قال جعفر : فابدأ به في صباحك وبه فاختم في مسائك فمن كان به ابتداؤه وإليه انتهاؤه لا يشقى فيما بينهما.
قال البقلي رحمه الله : وصف الله أهل الحبور بالإيمان والعمل الصالح فأما إيمانهم فشهود أرواحهم مشاهد الأزل في أوائل ظهورها من العدم.
وأما أعمالهم الصالحة فالعشق والمحبة والشوق فآخر درجاتهم في منازل الوصال الفرح بمشاهدة الله والسرور بقربه وطيب العيش لسماع كلامه يطربهم الحق بنفسه أبد الآبدين في روح وصاله وكشف جماله.
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا وَلِقَآىاِ الاخِرَةِ فأولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} .
(7/9)
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} القرآنية التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل {وَأَمَّا الَّذِينَ} أي : البعث بعد الموت صرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء بأمره فأولئك الموصوفون بالكفر والتكذيب {فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} مدخلون على الدوام لا يغيبون عنه أبداً.
قال بعضهم : الإحضار إنما يكون على إكراه فيجاء به على كراهة أي : يحضرون العذاب في الوقت الذي يحبر فيه المؤمنون في روضات الجنان فيكونون على عذاب وويل وثبور كما يكون المؤمنون على ثواب وسماع وحبور.
فعلى العاقل أن يجتنب عن القيل والقال ويكسب الوجد والحال من طريق صالحات الأعمال فإن لكل عمل صالح أثراً ولكل ورع وتقوى ثمرة فمن حبس نفسه في زاوية العبادة والطاعة وتخلى في خلوة الذكر والفكر تفرج في رياض الجنان بما قاصى بالأعضاء والجنان.
ومن أغلق باب سمعه عن سماع الملاهي وصبر عنه فتح الله له باب سماع الأغاني في الجنة وإلا فقد حرم من أمثل اللذات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
به ازروى زيباست آواز خوش
كه آن حظ نفس است واين قوت روح
كما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة وأشار بالإحضار إلى أن جهنم سجن الله تعالى فكما أن المجرم في الدنيا يساق إلى السجن وهو كاره له فكذا المجرم في العقبى يساق ويجرّ إلى النار بالسلاسل والأغلال فيذوق وبال كفره وتكذيبه وحضوره محاضر أهل الهوى من أهل الملاهي وربما يحضر في العذاب من ليس بمكذب الحاقاً له في بعض الأوصاف وإن كان غير مخلد فيه وربما تؤدي الجراءة على المعاصي والإصرار عليها إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
فيا أهل الشريعة عليكم بترك المحرمات الموجبة للعقوبات.
ويا أهل الطريقة عليكم بترك الفضلات المؤدية إلى التنزلات ولا يغرنكم أحوال أبناء الزمان فإن أكثرهم إباحيون غير مبالين ألا ترى إلى مجامعهم المشحونة بالأحداث ومجالسهم المملوءة بأهل الملاهي كأنهم المكذبون بلقاء الآخرة فلذا قصروا همتهم على الأمور الظاهرة يطلبون العشق والحال في الأمر الزائل كالمتغنى والمزمّر ويعرضون عن الذكر والتوحيد الباقي لذته وصفوته مدى الدهر ولعمري أن من عقل لا يستن بسنن الجهلاء وأهل الارتكاب ولا يرفع إلى مجالسهم قدماً ولو خطوة خوفاً من العذاب فإنه تعالى قال : {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود : 113) وأي نار أعظم من نار البعد والفراق إذ هي دائمة الإحراق نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لسدّ خلل الدين والإعراض عن متسامحات الغافلين ويجعلنا ممن تعلق بحبل الشرع المبين وعروة الطريق القويم المتين ويحيينا بالحياة الطيبة إلى آخر الأعمار ويعيدنا من الأجداث والوجوه أقمار
15
ولا يخيبنا في رجاء شفاعات الأعالي إنه الكريم المتعالي.
{فَسُبْحَـانَ اللَّهِ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
والسبح المر السريع في الماء أو في الهواء والتسبيح تنزيه الله وأصله المر السريع في عبادة الله جعل عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية والسبوح والقدوس من أسماء الله تعالى وليس في كلامهم فعول سواهما.
وسبحان هنا مصدر كغفران موضوع موضع الأمر مثل فضرب الرقاب والتسبيح محمول على حقيقته وظاهره الذي هو تنزيه الله عن السوء والثناء عليه بالخير.
والمعنى : إذا علمتم أيها العقلاء المميزون أن الثواب والنعيم للمؤمنين العاملين والعذاب والجحيم للكافرين المكذبين فسبحوا الله أي : نزهوه عن كل ما لا يليق بشأنه تعالى {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الحين بالكسر وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر ويتخصص بالمضاف إليه كما في هذا المقام.
والإمساء الدخول في المساء كما أن الإصباح الدخول في الصباح والمساء والصباح ضدان.
قال بعضهم : أول اليوم الفجر ثم الصباح ثم الغداة ثم البكرة ثم الضحى ثم الضحوة ثم الهجير ثم الظهر ثم الرواح ثم المساء ثم العصر ثم الأصيل ثم العشاء الأولى ثم العشاء الأخيرة عند مغيب الشفق.
والمعنى : سبحوه تعالى وقت دخولكم في المساء وساعة دخولكم في الصباح.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ} .
(7/10)
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} يحمده خاصة أهل السموات والأرض ويثنون عليه أي : احمدوه على نعمه العظام في الأوقات كلها فإن الإخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على أهل التمييز من خلق السموات والأرض في معنى الأمر على أبلغ وجه.
وتقديم التسبيح على التحميد لأن التخلية بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة كشرب المسهل متقدم على شرب المصلح وكالأساس متقدم على الحيطان وما يبنى عليها من النقوش {وَعَشِيًّا} آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها ومنه الأعشى وهو معطوف على حين تمسون أي : سبحوه وقت العشي وتقدمه على قوله {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} أي : تدخلون في الظهيرة التي هي وسط النهار لمراعاة الفواصل وتغيير الأسلوب لأنه لا يجيىء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة وتوسيط الحمد بين أوقات التسبيح للإشعار بأن حقها أن يجمع بينها كما ينبىء عنه قوله تعالى : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (الحجر : 98) وقوله عليه السلام : "من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وقوله عليه السلام : "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" وتخصيص التسبيح والتحميد بتلك الأوقات للدلالة على أن ما يحدث فيها من آيات قدرته وأحكام رحمته ونعمته شواهد ناطقة بتنزهه تعالى واستحقاقه الحمد موجبة لتسبيحه وتحميده حتماً وفي الحديث "من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون" الآية.
وحمل بعضهم التسبيح والتحميد في الآية على الصلاة لاشتمالها عليهما.
والسبحة الصلاة ومنه سبحة الضحى وقد جاء في القرآن إطلاق التسبيح بمعنى الصلاة في قوله تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصافات : 143).
قال القرطبي وهو من أجلاء المفسرين أي : من المصلين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها.
تمسون صلاة المغرب والعشاء.
16
وتصبحون صلاة الفجر.
وعشياً صلاة العصر.
وتظهرون صلاة الظهر فالمعنى فصلوافي هذه الأوقات.
واتفق الأئمة على أن الصلاة المفروضة في اليوم والليلة خمس وعلى أنها سبع عشرة ركعة ، الظهر أربع ، والعصر أربع ، والمغرب ثلاث ، والعشاء أربع ، والفجر ركعتان.
قيل فرضت الصلوات الخمس في المعراج أربعاً إلا المغرب ففرضت ثلاثاً وإلا الصبح ففرضت ركعتين وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت الأربع في السفر.
وتجب الصلاة بأول الوقت لغير معذور وعليه بآخره بالاتفاق.
وعند أبي حنيفة إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الفجر بطلت صلاته وليس كذلك إذا خرج الوقت في بقية الصلاة والزائد على قدر واجب في الصلاة في قيام ونحوه نفل بالاتفاق كما في "فتح الرحمن" وفي الحديث "ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد أحب إليه من الصلاة ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة لتعبد به ملائكته فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد" وفي الحديث "من حافظ على الصلوات الخمس بإكمال طهورها ومواقيتها كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة ومن ضيعها حشر مع فرعون وهامان".
والجماعة سنة مؤكدة أي : قوية تشبه الواجب في القوة لقوله عليه السلام : "الجماعة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق" وأكثر المشايخ على أنها واجبة وتسميتها سنة لأنها ثابتة بالسنة لكن إن فاتته جماعة لا يجب عليه الطلب في مسجد آخر كذا في الفقه.
قال أبو سليمان الداراني قدس سره : أقمت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة فأحدثت بها حدثاً فما أصبحت إلا احتملت وكان الحدث فاتته صلاة العشاء بجماعة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
هره آيد برتو از ظلمات غم
آن زبى شرمى وكستاخيست هم فلكل عمل أثر وجزاء وأجر :
دزانكه شاكررا زيادت وعده است
آننانكه قرب مزد سجده استكفت واسجد واقترب يزدان ما
قرب جان شد سجده ابدان ما
(7/11)
{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالإنسان من النطفة والطير من البيضة وأيضاً المؤمن من الكافر والمصلح من المفسد والعالم من الجاهل.
وأيضاً القلب الحي بنور الله من النفس الميتة عن صفاتها وأخلاقها الذميمة إظهاراً للطفه ورحمته {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ} النطفة والبيضة من الحيوان.
وأيضاً الكافر والمفسد والجاهل من المؤمن والمصلح والعالم.
وأيضاً القلب الميت عن الأخلاق الحميدة الروحانية من النفس الحية بالصفات الحيوانية الشهوانية إظهاراً لقهره وعزته {يُخْرِجُ الْحَىَّ} بالمطر والنبات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} قحلها ويبسها {وَكَذَالِكَ} مثل ذلك الإخراج {تُخْرَجُونَ} من القبور أحياء إلى موقف الحساب فإنه أيضاً يعقب الحياة الموت.
تلخيصه الإبداء والإعادة في قدرته سواء.
قال مقاتل : يرسل الله يوم القيامة ماء الحياة من السماء السابعة من البحر المسجور بين النفختين فينشر عظام الموتى وذلك قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ} فكما ينبت النبات من الأرض بالمطر فكذا ينبت الناس من القبور بمطر البحر المسجور كالمنى ويحيون به.
والإشارة : إن الله يحيي الأرض القلوب بعد إماتته إياها وكذلك تخرجون من العدم إلى الوجود بالقدرة وفي الحديث "من قال حين يصبح
17
فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فات من ليلته ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في يومه".
وفي "كشف الأسرار" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من قال سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" هذه الآيات الثلاث من سورة الروم وآخر سورة الصافات "دبر كل صلاة يصليها كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر المطر وعدد ورق الشجر وعدد تراب الأرض فإذا مات أجرى له بكل حسنة عشر حسنات في قبره وكان إبراهيم خليل الله عليه السلام يقولها في كل يوم وليلة ست مرات" يعني : مضمونها بلغة السريان إذ لم تكن العربية يومئذٍ.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً} .
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} أي : ومن علامات الله الدالة على البعث.
وقال الكاشفي : (واز نشانهاى قدرت خداى تعالى) {أَنْ خَلَقَكُم} يا بني آدم في ضمن خلق آدم لأنه خلقه منطوياً على خلق ذرياته انطواء إجمالياً والخلق عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام {مِّن تُرَابٍ} لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم وإنما خلق الله الإنسان من التراب ليكون متواضعاً ذلولاً حمولاً مثله والأرض وحقائقها دائمة في الطمأنينة والإحسان بالوجود ولذلك لا تزال ساكنة وساكتة لفوزها بوجود مطلوبها فكانت أعلى مرتبة وتحققت في مرتبة العلو في عين السفل وقامت بالرضى {ثُمَّ إِذَآ أَنتُم} (س اكنون شما) {بَشَرٌ} (مردمانيد آشكارا) أي : آدميون من لحم ودم عقلاء ناطقون.
قال في "المفردات" : البشرة ظاهر الجلد وعبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر.
واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر {تَنتَشِرُونَ} الانتشار (راكنده شدن).
قال الراغب : انتشار الناس تصرفهم في الحاجات.
والمعنى فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشراً تنتشرون في الأرض فدل بدء خلقكم على إعادتكم وهذا مجمل ما فصل في قوله تعالى في أوائل سورة الحج : يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} (الحج : 5) أي : إن كنتم في شك من البعث بعد الموت فانظروا إلى ابتداء خلقكم وقد خلقناكم بالأطوار لتظهر لكم قدرتنا على البعث فتؤمنوا به وأنشد بعضهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
خلقت من التراب فصرت شخصاً
بصيراً بالسؤال وبالجواب
وعدت إلى التراب فصرت فيه
كأني ما برحت من التراب
قال الشيخ سعدي قدس سره :
امرش وجود ازعدم نقش بست
كه داندجزا وكردن از نيست هست
دكرره بكتم عدم دربرد
واز آنجا بصحراى محشر برد
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن التراب أبعد الموجودات إلى الحضرة لأنا إذا نظرنا إلى الحقيقة وجدنا أقرب الموجودات إلى الحضرة عالم الأرواح لأنه أول ما خلق الله الأرواح ثم العرش لأنه محل استواء الصفة الرحمانية ثم الكرسي ثم السماء السابعة ثم السموات كلها
18(7/12)
ثم فلك الأثير ثم فلك الزمهرير أعني الهواء ثم الماء ثم التراب وهو جمادي لا حس فيه ولا حركة وليس له قدرة على تغيير ذاته وصفاته فلما وجدنا ذاته متغيرة عن وصف الترابية صورة ومعنى متبدلة كتغير صورته بصورة البشر وتبدل صفته بصفة البشرية علم أنه محتاج إلى مغير ومبدل وهو الله سبحانه وأشار بقوله : {ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} يعني كنتم تراباً جماداً ميتاً أبعد الموجودات عن الحضرة جعلتكم بشراً بنفخ الروح المشرف بإضافة من روحي وهو أقرب الموجودات إلى الحضرة فأي آية أظهر وأبين من الجمع بين أبعد الأبعدين وأقرب الأقربين بكمال القدرة والحكمة ثم جعلتكم مسجود الملائكة المقربين وجعلتكم مرآة مظهرة لجميع صفات جمالي وجلالي ولهذا السر جعلتكم خلائف الأرض انتهى.
يقول الفقير : والخليفة لا بد له من الانتقال من موطن إلى موطن إعطاء لأحكام الإسلام فالموطن الدنيوي هو من آثار الاسم الظاهر والانتقال إلى الموطن البرزخي من أحكام الاسم الباطن فلما صار الغيب شهادة بالنسبة إلى الموطن الأول في ابتداء الظهور وأوله فكذلك تصير الشهادة غيباً بالنسبة إلى الموطن الثاني والموطن الحشري في انتهاء الظهور وثانيه.
يعني أن الدنيا تصير غيباً راجعاً إلى حكم الاسم الباطن عند ظهور البعث والحشر كما كانت شهادة قبله راجعة إلى حكم الاسم الظاهر وأن الأخرى تصير شهادة بعده كما كانت غيباً قبله فهي كالقلب الآن وسينقلب الأمر فيكون القلب قالباً والقالب قلباً نسأل الله الانتقال بالكمال التام والظهور في النشأة الآخرة بالوجود المحيط العالم.
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} الدالة على البعث وما بعده من الجزاء {أَنْ خَلَقَ لَكُم} أي : لأجلكم {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (ازتن شما) {أَزْوَاجًا} (زنان وجفتان) فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم متضمن لخلقهن من أنفسكم والأزواج جمع زوج وهو الفرد المزاوج لصاحبه وكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات كما في "المفردات" ويجوز أن يكون معنى من أنفسكم من جنسكم لا من جنس آخر وهو الأوفق بقوله : {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي : لتميلوا إلى تلك الأزواج وتألفوا بها فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
بجنس خود كند هرجنس آهنك
ندارد هيكس ازجنس خود ننك
بجنس خويش دارد ميل هرجنس
فرشته بافرشته انس با نس
يقول الفقير : ذهب العلماء من الفقهاء وغيرهم إلى جواز المناكحة والعلوق بين الجن والإنس فقد جعل الله أزواجاً من غير الجنس والجواب أن ذلك من النوادر فلا يعتبر وليس السكون إلى الجنية كالسكون إلى الإنسية وإن كانت متمثلة في صورة الإنس {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} وبين أزواجكم من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة أو رابطة قرابة ورحم {مَّوَدَّةً} محبة {وَرَحْمَةً} شفقة.
وعن الحسن البصري المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كما قال تعالى : {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أي : في حق عيسى عليه السلام.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المودة للكبير والرحمة للصغير {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة بينهم {لايَـاتٍ} عظيمة {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في
19
صنعه وفعله فيعلمون ما في ذلك من الحكم والمصالح.
قال في "برهان القرآن" : ختم الآية بقوله : {يَتَفَكَّرُونَ} لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المذكورة.
يقول الفقير : لعل الوجه في الختم به أن إدراك ما ذكر ليس مما يختص بخواص أهل التفكر وهم العلماء بل يدركه من له أدنى شيء من التفكر.
والتفكر دون التذكر ولذا لم يذكر التذكر في القرآن إلا مع أولي الباب.
وفي الآية إشارة إلى إزدواج الروح والنفس فإنه تعالى خلق النفس من الروح وجعلها زوجه كما خلق حواء من آدم وجعلها زوجه لتسكن الأرواح إلى النفوس كما سكن آدم إلى حواء ولو لم تكن حواء لاستوحش آدم في الجنة كذلك الروح لو لم تكن النفس خلقت منه ليسكن إليها استوحش من القالب ولم يسكن فيه وجعل بين الروح والنفس إلفة واستئناساً ليسكنا في القالب إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون بالفكر السليم في الإنسان كيف أودع الله فيه سراً من المعرفة التي كل المخلوقات كانت في الخلقية تبعاً له كذا في "التأويلات النجمية".
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةًا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّلْعَـالِمِينَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُم مِّن فَضْلِه إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .(7/13)
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} الدالة على ما ذكر {خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} على عظمتها وكثافتها وكثرة أجزائها بلا مادة فهو أظهر قدرة على إعادة ما كان حياً قبل ذلك فهذه من الآيات الآفاقية ثم أشار إلى شيء من الآيات الأنفسية فقال : {وَاخْتِلَـافُ أَلْسِنَتِكُمْ} أي : لغاتكم من العربية والفارسية والهندية والتركية وغيرها بأن جعل لك صنف لغة.
قال الراغب : اختلاف الألسنة إشارة إلى اختلاف اللغات واختلاف النغمات فإن لكل لسان نغمة يميزها السمع كما أن له صورة مخصوصة يميزها البصر انتهى.
فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه ، يعني : (درست وبلند وفصاحت ولكنت وغير آن).
قال وهب : جميع الألسنة اثنان وسبعون لساناً منها في ولد سام تسعة عشر لساناً وفي ولد حام سبعة عشر لساناً وفي ولد يافث ستة وثلاثون لساناً {وَأَلْوَانِكُمْ} بالبياض والسواد ولأدمة والحمرة وغيرها.
قال الراغب : في الآية إشارة إلى أن أنواع الألوان من اختلاف الصور التي يختص كل إنسان بهيئة غير هيئة صاحبه مع كثرة عددهم وذلك تنبيه على سعة قدرته يعني أن اختلاف الألوان إشارة إلى تخطيطات الأعضاء وهيآتها وحلاها ألا ترى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه (اكربرين وجه نبودي امتياز بين الأشخاص مشكل بودي وبسيار از مهمات معطل ماندى).
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان آدم مؤلفاً من أنواع تراب الأرض ولذلك كان بنوه مختلفين منهم الأحمر والأسود والأبيض كل ظهر على لون ترابه وقابليته وتصور صورة كل رجل على صورة من أجداده إلى آدم يحضر أشكالهم عند تصوير صورته في الرحم كما أشار إليه بعض المفسرين في قوله تعالى : {فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار : 8) {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : فيما ذكر من خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان {لايَـاتٍ} عظيمة في نفسها كثيرة في عددها {لِّلْعَـالِمِينَ} بكسر اللام أي : المتصفين بالعلم كما في قوله : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} (العنكبوت : 43) وخص العلماء لأنهم أهل النظر والاستدلال دون الجهال المشغولين بحطام الدنيا وزخارفها فلما كان الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره إنما يمكن بالعلم ختم الآية بالعالمين.
وقرىء بفتح اللام ففيه إشارة إلى كمال وضوح الآيات وعدم خفائها
20
على أحد من الخلق من ملك وأنس وجن وغيرهم.
وفي الآية إشارة إلى اختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس فإن لسان القلوب يتحرك بالميل إلى العلويات وفي طلبها يتكلم ولسان النفوس يتحرك بالميل إلى السفليات وفي طلبها يتكلم كما يشاهد في مجالس أهل الدنيا ومحافل أهل الآخرة ، ومن كلمات مولانا قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
مارا ه ازين قصه كه كاو آمد وخر رفت
اين وقت عزيزست ازين عربده بازآى
وأيضاً إشارة إلى اختلاف الألوان أي : الطبائع منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ومنكم من يريد الله في أن ذلك لآيات للعارفين الذين عرفوا حقيقة أنفسهم وكماليتها فعرفوا الله ورأوا آياته بإراءته إياهم لقوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53).
(7/14)
ثم إن الله تعالى خلق الآيات وأشار إليها مع وضوحها تنبيهاً للناظرين وتعليماً للجاهلين وتكميلاً للعالمين فمن له بصر رآها ومن له بصيرة عرفها.
يقال الأمم على الاختلاف الأزمان والأديان متفقة على مدح أخلاق أربعة : العلم ، والزهد ، والإحسان ، والأمانة ، والمتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يقطع المسافة.
ثم إن المعتبر هو العلم بالله الناظر إلى عالم الملكوت وهذا العلم من الآيات الكبرى وصاحبه يشاهد الشواهد العظمى بالبصيرة الأجلى بل يعلم الكائنات قبل وجودها ويخبر بها قبل حصول أعيانها وفي زماننا قوم لا يحصى عددهم غلب عليهم الجهل بمقام العلم ولعبت بهم الأهواء حتى قالوا إن العلم حجاب ولقد صدقوا في ذلك لو اعتقدوا أي : والله حجاب عظيم يحجب القلب عن الغفلة والجهل.
قال سهل بن عبد الله التستري قدس سره : السماء رحمة للأرض وبطن الأرض رحمة لظهرها والآخرة رحمة للدنيا والعلماء رحمة للجهال والكبار رحمة للصغار والنبي عليه السلام رحمة للخلق والله تعالى رحيم بخلقه.
وأجناس العلوم كثيرة منها : علم النظر ، وعلم الخبر ، وعلم النبات ، وعلم الحيوان ، وعلم الرصد ، إلى غير ذلك من العلوم ولكل جنس من هذه العلوم وأمثالها فصول تقومها وفصول تقسمها فلننظر ما نحتاج إليه في أنفسنا مما تقترن به سعادتنا فنأخذه ونشتغل به ونترك ما لا نحتاج إليه احتياجاً ضرورياً مخافة فوت الوقت حتى تكون الأوقات لنا إن شاء الله تعالى.
والذي يحتاج من فصول هذه الأجناس فصلان : فصل يدخل تحت جنس النظر وهو علم الكلام ونوع آخر يدخل تحت جنس الخبر وهو الشرع والعلوم الداخلة تحت هذين النوعين التي يحتاج إليها في تحصيل السعادة ثمانية وهي الواجب والجائز والمستحيل والذات والصفات والأفعال وعلم السعادة وعلم الشقاوة فهذه الثمانية واجب طلبها على كل طالب نجاة نفسه وعلم السعادة والشقاوة موقوف على معرفة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح.
وأصول هذه الأحكام الخمسة ثلاثة : الكتاب والسنة والمتواترة والإجماع كذا في مواقع النجوم للشيخ الأكبر قدس سره الأطهر وفقكم الله وإيانا لهذه العلوم النافعة وشرح صدورنا بالفيوض والأسرار وجعلنا مستضيئين بين شمس وقمر إلى نهاية الأعمار وفناء الدار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} أي : ومن أعلام قدرته تعالى على مجازاة العباد في الآخرة {مَنَامُكُم} مفعل من النوم أي : نومكم الذي هو راحة لأبدانكم وقطع لأشغالكم ليدوم لكم به البقاء إلى آجالكم {بِالَّيْلِ} كما هو المعتاد
21
{وَالنَّهَارِ} أيضاً على حسب الحاجة كالقيلولة {وَابْتِغَآؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} وطلب معاشكم فيهما فإن كلاً من المنام وطلب القوت يقع في الليل والنهار وإن كان الأغلب وقوع المنام في الليل والطلب في النهار.
وفيه إشارة إلى الحياة بعد الممات فإنها نظير الانتباه من المنام والانتشار للمعاش ، وفي "المثنوي" :
نوم ما ون شداخ الموت أي : فلان
زين برادر آن برادررا بدان
وقدم الليل على النهار لأن الليل لخدمة المولى والنهار لخدمة الخلق ومعارج الأنبياء عليهم السلام كانت بالليل ولذا قال الإمام النيسابوري : الليل أفضل من النهار.
يقول الفقير : الليل محل السكون وهو الأصل والنهار محل الحركة وهو الفرع كما أشار إليه تعالى في قوله : "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق" إذ الخلق يقتضي حركة معنوية وكان ما قبل الخلق سكوناً محضاً يعني عالم الذات البحت.
قال بعض الكبار : لم يقل تعالى وبالنهار ليتحقق لنا أن يريد أننا في منام في حال يقظتنا المعتادة أي : أنتم في منام ما دمتم في هذه الدار يقظة ومناماً بالنسبة لما أمامكم فهذا سبب عدم ذكر الباء في قوله والنهار والاكتفاء بباء الليل انتهى يعني لو قيل بالنهار كان لا يتعين فيه ذلك لجواز أن يكون الجار والمجرور معمولاً لمحذوف معطوف على المبتدأ تقديره ويقظتكم بالنهار ثم حذف لدلالة معموله أو مقابله عليه كقوله :
علفتها تبناً وماءً بارداً†
أي وسقيتها ماء بارداً {إِنَّ فِى ذَالِكَ} الأمر العظيم العلي المرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما والجد في الابتغاء مع المفاوتة في التحصيل {لايَـاتٍ} عديدة على القدرة والحكم لا سيما البعث {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي : شأنهم أن يسمعوا الكلام من الناصحين سماع من انتبه من نومه فجسمه مستريح نشيط وقلبه فارغ عن مكدر للنصح مانع قبوله.
وفيه إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات فهو نائم لا مستيقظ فهو غير مستأهل لأن يسمع ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
كسى راكه ندار در سربود
مندار هركزكه حق بشنود
زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقايق بباران نرويد بسنك
كرت در درياى فضلست خيز
بتذكير دراى درويش ريز
نه بينى كه دراى افتاده خار
برويد كل وبشكفد نوبهار
وقال الحافظ :(7/15)
ه نسبت است برندى صلاح وتقوى را
سماع وعظ كجا نغمه رباب كجا
قال في "برهان القرآن" : ختم الآية بقوله : {يَسْمَعُونَ} فإن من سمع أن النوم من صنع الله الحكيم لا يقدر أحد على اجتلابه إذا امتنع ولا على دفعه إذا ورد تيقن أن له صانعاً مدبراً.
قال الخطيب : معنى يسمعون ههنا يستجيبون لما يدعوهم إليه الكتاب.
واعلم أن النوم فضل من الله للعباد ولكن للعباد أن لا يناموا إلا عند الضرورة وبقدر دفع الفتور المانع عن العبادة.
سرآنكه ببالين نهد هوشمند
كه خوابش بقهر آورد دركمند
وقد قيل في ذم أهل البطالة :
22
زسنت نه بينى درايشان اثر
مكر خواب يشين ونان سحر
ومن آداب النوم : أن ينام على الوضوء قال عليه السلام : "من بات طاهراً بات في شعاره ملك لا يستيقظ ساعة من الليل إلا قال الملك : اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهراً" وإذا استطاع الإنسان أن يكون على الطهارة أبداً فليفعل لأن الموت على الوضوء شهادة ويستحب أن يضطجع على يمينه مستقبلاً للقبلة عند أول اضطجاعه فإن بدا له أن ينقلب إلى جانبه الآخر فعل ويقول حين يضطجع : "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" وكان عليه السلام يقول : "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها" ويقول عندما قام من نومه : "الحمدالذي أحيانا بعدما أماتنا ورد إلينا أرواحنا وإليه البعث والنشور".
ثم اعلم أن حالة النوم وحالة الانتباه إشارة إلى الغفلة ويقظة البصيرة فوقت الانتباه كوقت انتباه القلب في أول الأمر.
ثم الحركة إلى الوضوء إشارة إلى التوبة والإنابة.
ثم التكبيرة الأولى إشارة إلى التوجه الإلهي فحاله من الانتباه إلى هنا إشارة إلى عبوره من عالم الملك وهو الناسوت ودخوله في عالم الملكوت.
ثم الانتقال إلى الركوع إشارة إلى تجاوزه إلى الجبروت.
ثم الانتقال إلى السجدة إشارة إلى وصوله إلى عالم اللاهوت وهو مقام الفناء الكلي وعند ذلك يحصل الصعود الكلي إلى وطنه الأصلي.
ثم القيام من السجدة إشارة إلى حالة البقاء فإنه رجوع إلى الورى ففي صورة النزول عروج كما أن في صورة العروج نزولاً والركوع مقام قاب قوسين وهو مقام الذات الواحدية والسجدة مقام أو أدنى وهو مقام الذات الأحدية والحركات الست وهي الحركة من القيام إلى الركوع ثم منه إلى القومة ثم منها إلى السجدة الأولى ثم منها إلى الجلسة ثم منها إلى السجدة الثانية ثم منها إلى القيام إشارة إلى خلق الله السموات والأرضين في ستة أيام فالركعة الواحدة من الصلاة تحتوي على أول السلوك وآخره وغيره من الصور والحقائق الدنيوية والأخروية والعلمية والعينية والكونية والإلهية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ثم اعلم أن توارد الليل والنهار إشارة إلى توارد السيئة والحسنة فكما أن الدنيا لا تبقى على الليل وحده أو النهار وحده بل هما على التعاقب دائماً فكذا العبد المؤمن لا يخلو من نور العمل الصالح وظلمة العمل الفاسد والفكر الكاسد فإذا كان يوم القيامة يلقي الله الليل في جهنم والنهار في الجنة فلا يكون في الجنة ليل كما لا يكون في النار نهار يعني أن النهار في الجنة هو نور إيمان المؤمن ونور عمله الصالح بحسب مرتبته والليل في النار هو ظلمة كفر الكافر وظلمة عمله الفاسد فكما أن الكفر لا يكون إيماناً فكذا الليل لا يكون نهاراً والنار لا تكون نوراً فيبقى كل من أهل النور والنار على صفته الغالبة عليه وأما القلب وحاله بحسب التجلي فهو على عكس حاله الغالب فإن نهاره المعنوي لا يتعاقب عليه ليل وإن كان يطرأ عليه استتار في بعض الأوقات فهو استتار رحمة لا استتار رحمة كحال المحجوبين وكذا سمع أهل القلب لا يقصر على أمر واحد بل يسمعون من شجرة الموجودات كما سمع موسى عليه السلام فهم القوم السامعون على الحقيقة.
{وَمِنْ ءَايَـاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} أصله أن يريكم فلما حذف أن لدلالة الكلام عليه سكن الياء كما في "برهان القرآن".
وقيل غير ذلك كما في التفاسير.
والبرق لمعان السحاب
23
(7/16)
وبالفارسية : (درخش).
وفي إخوان الصفاء البرق نار وهواء {خَوْفًا} مفعول له بمعنى الإخافة كقوله فعلته رغماً للشيطان أي : إرغاماً له.
والمعنى يريكم ضوء السحاب إخافة من الصاعقة خصوصاً لمن كان في البرية من أبناء السبيل وغيرهم (وصاعقه آوازيست هائل كه با او آتشى باشد بى زبانه ودودكه بهرجا رسد بسوزد) {وَطَمَعًا} أي : إطماعاً في الغيث لا سيما لمن كان مقيماً.
فإن قلت المقيم يطمع لضرورة سقي الزروع والكروع والبساتين ونحوها وأما المسافر فلا.
قلت : يطمع المسافر أيضاً في الأرض القفر {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ} (از آسمان يا ازابر) {مَآءً} (آبى را).
قال في إخوان الصفاء : المطر هو الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض وبردت وثقلت رجعت نحو الأرض {فَيُحْى بِهِ} أي : بسبب ذلك الماء وهو المطر {الارْضِ} بالنبات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} أي : يبسها.
فإن قيل ما الأرض؟ يقال : جسم غليظ أغلظ ما يكون من الأجسام واقف في مركز العالم مبين لكيفية الجهات الست فالمشرق حيث تطلع الشمس والمغرب حيث تغيب والشمال حيث مدار الجدي والجنوب حيث مدار سهيل والفوق ما يلي المحيط والأسفل ما يلي مركز الأرض.
فإن قيل ما النبات؟ يقال : ما الغالب عليه المائية ويقول الفرس : إذا زخرت الأودية أي : كثرت بالماء كثر الثمر وإذا اشتد الرياح كثر الحب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
واعلم أن الثمر والشجر من فيض المطر والكل آثار شؤونه تعالى في الأرض.
وغرس معاوية نخلاً بمكة في آخر خلافته فقال : ما غرستها طمعاً في إدراكها ولكن ذكرت قول الأسدي :
ليس الفتي بفتى لا يستضاء به
ولا تكون له في الأرض آثار {إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور {لايَـاتٍ} (علامتهاست برقدرت الهي) {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يفهمون عن الله حججه وأدلته.
قال الكاشفي : (مر كروهى راكه تعقل كنند در تكون حادثات حق تابر ايشان ظاهر كمالات قدرت صانع در هر حادثه) فكما أنه تعالى قادر على أن يحيي الأرض بعد موتها كذلك قادر على أن يحيي الموتى ويبعث من في القبور.
قال في "برهان القرآن" ختم بقوله : {يَعْقِلُونَ} لأن العقل ملاك الأمر في هذه الأبواب وهو المؤدي إلى العلم انتهى.
قال بعض العلماء : العاقل من يرى بأول رأيه آخر الأمور ويهتك عن مهماتها ظلم الستور ويستنبط دقائق القلوب ويستخرج ودائع الغيوب.
قال حكيم : العقل والتجربة في التعاون بمنزلة الماء والأرض لا يطيق أحدهما بدون الآخر إنباتاً ، وفي "المثنوي" :
بس نكوكفت آن رسول خوش جواز
ذره عقلت به از صوم ونماز
زانكه عقلت جو هرست اين دو عرض
اين دودر تكميل آن شد مفترض
تاجلا باشد مران آيينه را
كه صفا آيد ز طاعت سينه را
ليك كر آيينه از بن فاسدست
صيقل اورا دير باز آرد بدست
اين تفاوت عقلها را نيك دان
در مراتب از زمين تا آسمان
هست عقلى همو قرص آفتاب
هست عقلى كمتر از زهره شهاب
هست عقلى ون راغ سرخوشى
هست عقلى ون ستاره آنشى
24
عقل جزوى عقل را بدنام كرد
كام دنيا مرد را بى كام كرد
وفي "التأويلات النجمية" : {وَمِنْ ءَايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي : برق شواهد الحق عند انحراق سحاب حجب البشرية وظهور تلألؤاً أنوار الروحانية أولها البروق ثم اللوامع ثم الطوالع ثم الإشراق ثم التجلي فبنور البرق يرى شهوات الدنيا أنها نيران فيخاف منها ويتركها ويرى مكروهات تكاليف الشرع على النفس أنها جنان فيطمع فيها ويطلبها {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ} الروح {مَآءً} الرحمة {وَمِنْ ءَايَاتِهِ يُرِيكُمُ} القلوب {بَعْدَ مَوْتِهَآ} بالمعاصي والذنوب واستغراقها في بحر الدنيا وتموج شهواتها برياح الخذلان {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لا يبيعون الآخرة بالأولى ولا قربات المولى بنعيم جنة المولى انتهى اللهم اجعلنا من المشتغلين بذكرك وحسن طاعتك واصرفنا عن الميل إلى ما سوى حضرتك إنك أنت محيي القلوب بفيوض الغيوب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْى بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالارْضُ بِأَمْرِه ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الارْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا كُلٌّ لَّه قَـانِتُونَ} .(7/17)
{وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالارْضُ} أي : قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه من الهيآت إلى الأجل المقدر لقيامهما وهو يوم القيامة {بِأَمْرِهِ} أي : بإرادته تعالى والتعبير عن الإرادة بالأمر للدلالة على كمال القدرة والغنى عن المبادي والأسباب.
والأمر لفظ عام للأفعال والأقوال كلها كما في "المفردات".
{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرْضِ} متعلق بدعاكم إذ يكفي في ذلك كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ.
والمعنى ثم إذا دعاكم بعد انقضاء الأصل وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال : أيها الموتى اخرجوا (اى مرد كان بيرون آييد) والداعي في الحقيقة هو إسرافيل عليه السلام فإنه يدعو الخلق على صخرة بيت المقدس حين ينفخ في الصور النفخة الأخيرة {إِذَآ أَنتُم} (آنكاه شما) {تُخْرَجُونَ} إذا للمفاجأة ولذلك ناب مناب الفاء في الجواب فإنهما يتشركان في إفادة التعقيب أي : فاجأتم الخروج منها بلا توقف ولا إباء ولذلك قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ} (طه : 108).
وفي الآية إشارة إلى سماء القلب وأرض النفس وقيامهما بالروح فإنه من عالم الأمر وإلى جذبة خطاب ارجعي فإنه تعالى إذا دعا النفس والقلب والروح بتلك الجذبة فتخرج من قبور أنانية الوجود إلى عرصة الهوية والشهود وهو حشر أخص الخواص فإن للحشر مراتب مرتبة العام وهي خروج الأجساد من القبور إلى المحشر يوم النشور ومرتبة الخاص وهي خروج الأرواح الأخروية من قبور الأجسام الدنيوية بالسير والسلوك في حال حياتهم إلى عالم الروحانية لأنهم ماتوا بالإرادة عن صفات الحيوانية النفسانية قبل أن يموتوا بالموت عن صورة الحيوانية ومرتبة الأخص وهي الخروج من قبور الأنانية الروحانية إلى الهوية الربانية وهي مقام الحبيب فيبقى مع الله بلا هو ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشان حياتست ونما
جان هريك مرده اندر كورتن
مى جهد زآواز شان اندر كفن
كويد اين آوازز آواز هاجداست
زنده كردن كار آواز خداست
ما بمرد ديم وبكلى كاستيم
بانك حق آمد همه بر خاستيم
25
بانك حق اندر حجاب وبى حجيب
آن دهد كو داد مريم را زجيب
اى فناتان نيست كرده زير وست
باز كرديد از عدم ز آواز دوست
مطلق آن آواز خود از شه بود
كره از حلقوم عبد الله بود
كفته اورا من زبان وشم تو
من حواسى ومن رضا وخشم تو
{وَلَهُ} أي : خاصة {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ} من الملائكة {وَالارْضُ} من الأنس والجن خلقاً وملكاً وتصرفاً ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه {كُلُّ} أي : كل من فيها {لَّهُ} تعالى وهو متعلق بقوله : {قَـانِتُونَ} القنوت الطاعة ، يعني : (فرمان بردارى).
والمراد طاعة الإرادة لا طاعة العبادة أي : منقادون لما يريده بهم من حياة وموت وبعث وصحة وسقم وعز وذل وغنى وفقير وغيرها لا يمتنعون عليه تعالى في شأن من شؤونه ، يعني : (تمرد نمى توانند كرد) أي : منقادون لما يريده بهم من حياة وموت وبعث وصحة وسقم فهم مسخرون تحت حكمه على كل حال.
وفيه إشارة إلى أن من في سموات الروحانية من أرباب القلوب وأرض البشرية من أصحاب النفوس كل له مطيعون بأن تكون الطائفة الأولى مظهر صفات اللطف والفرقة الثانية مظهر صفات القهر ولذلك خلقهم.
{وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} بمعنى المخلوق أي : ينشئهم في الدنيا ابتداء فإنه أنشأ آدم وحواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ثم يميتهم عند انتهاء آجالهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} تذكير الضمير باعتبار لفظ الخلق أي : ثم يعيدهم في الآخرة بنفخ صور إسرافيل فيكونون أحياء كما كانوا {وَهُوَ} أي : الإعادة وتذكير الضمير لأنها في تأويل أن يعيدوا لقوله : {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي : أسهل وأيسر عليه تعالى من البدء بالإضافة أي : قدركم أيها الإنسان والقياس إلى أصولكم وإلا فهما عليه تعالى سواء إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون سواء هناك مادة أم لا يعني أن ابتداء الشيء أشد عند الخلق من إعادته وإعادته أهون من ابتدائه فتكون الآية واردة على ما يزعمون فيما بينهم ويعتقدون عندهم وإلا فما شق على الله ابتداء الخلق ليكون إعادتهم أهون عليه.
قال الكاشفي : (أعاده باعتقاد شما آسانترست از ابداء س ون ابداء اقرار داريد اعاده را را منكريد وابداء واعاده نزد قدرت او يكسانست) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ون قدرت او منزه از نقصانست
آوردن خلق وبردنش بكسانست
نسبت بمن وتو هره دشوار بود
در قدرت ر كمال او آسانست
قال بعضهم : أفعل ههنا بمعنى فعيل أي : أهون بمعنى هين مثل الله أكبر بمعنى كبير قال الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة.
(7/18)
وفي "التأويلات النجمية" : يعني الإعادة أهون عليه من البداءة لأن في البداءة كان بنفسه مباشراً للخليقة وفي الإعادة كان المباشر إسرافيل بنفخته والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق وعنده سواء لأن أفعال الأغيار أيضاً مخلوقة.
وفيه إشارة أخرى في غاية الدقة واللطافة وهي أن الخلق أهون على الله عند الإعادة منهم عند البداءة لأن في البداءة لم يكونوا متلوثين بلوث الحدوث ولا متدنسين
26
بدنس الشركة في الوجود بأن يكونوا شركاء في الوجود مع الله فلعزتهم في البداءة باشر بنفسه وخلقهم وفي الإعادة لهوانهم باشر بنفسي غيره انتهى.
قال في "القاموس" : هان هوناً بالضم وهواناً ومهانة ذل وهوناً سهل فهو هين بالتشديد والتخفيف وأهون {وَلَهُ} أي : تعالى {الْمَثَلُ الاعْلَى} المثل بمعنى الصفة كما في قوله : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى} (الرعد : 35) {مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ} (الفتح : 29) أي : الوصف الأعلى العجيب الشان من القدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال التي ليس لغيره ما يدانيها فضلاً عما يساويها ، وبالفارسية : (ومروراست صفت برترو صنعت بزركتر ون قدرت كامله وحكمت شامله ووحدت ذات وعظمت صفات) ومن فسره بقوله لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية يعني له الصفة العليا وهو أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره {فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه تعالى قد وصف به وعرف فيهما على ألسنة الخلائق أي : نطقاً وألسنة الدلائل أي دلالة {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي : القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته {الْحَكِيمُ} الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة.
يقول الفقير : دلت الآية على أن السموات والأرض مشحونة بشواهد وحدته ودلائل قدرته تعالى :
زهر ذره بدورويى وراهيست
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
بر اثبات وجود اوكواهيست
وذلك لأهل البصيرة فإنهم هم المطالعون جمال أنواره والمكاشفون عن حقيقة أسراره والعجب منك أنك إذا دخلت بيت غني فتراه مزيناً بأنواع الزين فلا ينقطع تعجبك عنه ولا تزال تذكره وتصف حسنه طول عمره وأنت تنظر أبداً إلى الآفاق والأنفس وهي بيوت الله المزينة بأسمائه وصفاته وآثاره المتجلية بقدرته وعجيب آياته ثم أنت فيما شاهدته أعمى عن حقيقته لعمى باطنك وعدم دخولك في بيت القلب الذي بالتفكر المودع فيه يستخرج الحقائق وبالتذكر الموضوع فيه يرجع الإنسان إلى ما هو بالرجوع لائق وبالشهود الذي فيه يرى الآيات ويدرك البينات ولولا هداية الملك المتعال لبقي الخلق في ظلمات الضلال وسرادقات الجلال.
قال بعض الكبار في سبب توبته : كنت مستلقياً على ظهري فسمعت طيوراً يسبحن فأعرضت عن الدنيا وأقبلت إلى المولى وخرجت في طلب المرشد فلقيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقال لي : اذهب إلى الشيخ عبد القادر قدس سره فإني كنت في مجلسه فقال : إن الله تعالى جذب عبداً إلى جنابه فأرسله إلي إذا لقيته قال : فلما جئت إليه قال : مرحباً بمن جذبه الرب إليه بألسنة الطير وجمع له كثيراً من الخير فجميع ما في العالم حجج واضحة وأدلة ساطعة ترشد إلى المقصود فعليك بتوحيد الله تعالى في الليل والنهار فإنه خير أوراد وأذكار قال تعالى : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت : 45) وذكر الله سبب الحضور وموصل إلى مشاهدة المذكور ولكن الكل بعناية الله الملك الغفور ومن لم يجعل له نوراً فماله من نور :
ياذا الذي أنس الفؤاد بذكره
أنت الذي ما أن سواك أريد
تفنى الليالي والزمان بأسره
وهواك غض في الفؤاد جديد
27
قال ذو النون المصري قدس سره : رأيت في جبل لكام فتى حسن الوجه حسن الصوت وقد احترق بالعشق والوله فسلمت عليه فرد عليّ السلام وبقي شاخصاً يقول :
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها
فأنت والروح شيء غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق
من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأحداق عن سنة
إلا رأيتك بين الجفن والحدق
قلت : أخبرني ما الذي حبب إليك الانفراد وقطعتك عن المؤانسين وهيمك في الأودية والجبال فقال حبي له هيمني وشوقي إليه هيجني ووجدي به أفردني ثم قال : ياذا النون أعجبك كلام المجانين قلت : أي : والله واشجاني ثم غاب عني فلم أدر أين ذهب رضي الله عنه وجعل من حاله نصيباً لأهل الاعتقاد ومن طريقه سلوكاً لأهل الرشاد إنه العزيز الحكيم الجواد والرؤوف بالعباد الرحيم يوم التناد الموصل في الدارين إلى المراد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/19)
{ضَرَبَ لَكُم} يا معشر من أشرك بالله {مَّثَلا} بين به بطلان الشرك {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} من ابتدائية أي : منتزعاً من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم يقال ضرب الدرهم اعتباراً بضربه بالمطرقة وقيل له : الطبع اعتباراً بتأثير السكة فيه وضرب المثل هو من ضرب الدرهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة لتبيين أحدهما بالآخرة وتصويره.
قال أبو الليث : نزلت في كفار قريش كانوا يعبدون الآلهة ويقولون في إحرامهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ثم صور المثل فقال : {هَل لَّكُم} (آياشمارا هست اى ازاد كان) {مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم} من العبيد والإماء ومن تبعيضية {مِّن شُرَكَآءَ} من مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام {فِى مَا رَزَقْنَـاكُمْ} من الأموال والأسباب أي : هل ترضون لأنفسكم شركة في ذلك ثم حقق معنى الشركة فقال : {فَأَنتُمْ} وهم أي : مماليككم {فِيهِ} أي : فيما رزقناكم {سَوَآءٌ} متساوون يتصرفون فيه كتصرفكم من غير فرق بينكم وبينهم.
قال في "الكواشي" : محل الجملة نصب جواب الاستفهام {تَخَافُونَهُمْ} خبر آخر لأنتم داخل تحت الاستفهام الإنكاري كما في "الإرشاد" أي : تخافون مماليككم أن يستقلوا وينفردوا بالتصرف فيه {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} معنى أنفسكم ههنا أمثالكم من الأحرار كقوله : {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} أي : بعضكم بعضاً.
والمعنى خيفة كائنة مثل خيفتكم من أمثالكم من الأحرار المشاركين لكم فيما ذكر والمراد نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي : لا ترضون بأن يشارككم فيما بأيديكم من الأموال المستعارة مماليككم وهم عندكم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بلتعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه الذاتية مخلوقه بل مصنوع مخلوقه حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه.
وقال الكاشفي نقلاً عن بعض التفاسير : (ون حضرت مصطفى عليه السلام اين آيت بر صناديد قريش خواند كفتند "كلا والله لا يكون ذلك أبداً" آن حضرت فرمودكه شما بندكان خودرا درمال خود شركت نمى دهيد س كونه آفريد كانرا كه بند كان خدا اند در ملك او شريك مى سازيد) :
28
خلق ون بندكان سردريش
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
مانده دربند حكم خالق خويش
جمله هم بنده اند وهم بندى
نرسد بنده را خداوندى
وفي الآية دليل على أن العبد لا ملك له لأنه أخبر أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله من الأموال وفيه إشارة إلى أن الإنسان إذا تجلى الله له بأنوار جماله وجلاله حيث اضمحل به آثار ظلمات أوصافه لا يكون شريكاً له تعالى في كمالية ذاته وصفاته بل الكمال في الحقيقةتعالى فلا يحسب أحد من أهل التجلي أن الله صار حالاً فيه أو صار هو بعضاً منه تعالى أو صار العبد حقاً أو الحق عبداً فمن كبريائه أن لا يكون جزءاً لأحد أو مثلاً ومن عظمته أن لا يكون أحد جزأه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك التفصيل الواضح {نُفَصِّلُ الايَـاتِ} أي : نبين ونوضح دلائل الوحدة لا تفصيلاً أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس فيكون في غاية البيان والإيضاح {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في تدبر الأمور والأمثال (أما جاهلان وستمكاران از حقيقت اين سخنها بى خبرند).
ثم اعرض عن مخاطبتهم وبين استحالة تبعيتهم للحق فقال :
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍا فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّه وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
(7/20)
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : لم يعقلوا شيئاً بل اتبعوا {أَهْوَآءَهُم} (آرزوهاى خودرا).
والهوى ميل النفس إلى الشهوة ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي : حال كونهم جاهلين ما أتوا لا يكفهم عنه شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي : خلق فيه الضلالة بصرف اختياره إلى كسبها ، وبالفارسية : (س كيست كه راه نمايد بسوى توحيد كمكرده الله را) أي : لا يقدر على هدايته أحد أي : لمن أضله الله تعالى والجمع باعتبار المعنى والمراد المشركون {مِّن نَّـاصِرِينَ} يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من آفاته أي : ليس لأحد منهم ناصر واحد على ما هو قاعدة مقابلة الجمع بالجمع.
قال في "كشف الأسرار" : (درين آيت اثبات إضلال از خداونداست وبعض آيات اثبات ضلال ازبنده است وذلك في قوله تعالى : {قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ} قدريان منكراند مر اضلال را از خداوند جل جلاله وكويند همه ازبنده است وجبريان منكراند مر ضلال را ازبنده كه ايشان بنده را اختيار نكويند وكويند همه ازالله است واهل سنت هردو اثبات كنند اضلال ازخداوند تعالى واختيار ضلال ازبنده وهره در قرآن ذكر اضلال وضلالت هم برين قاعده است كه يادكرديم وفي "المثنوي") :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
درهر آن كارى كه ميلسنت بدان
قدرت خودرا همى بينى عيان
درهر آن كارى كه ميلت نيست خواست
اندران جبرى شدى كين ازخداست
انبيا دركار دنيا جبريند
كافران دركار عقبى جبريند
انبيارا كار عقبا اختيار
جاهلانرا كار دنيا اختيار
وفي الآية إشارة إلى أن العمل بمقتضى العقل السليم هدى والميل إلى التقليد للجهلة هوى فكما أن أهل الهدى منصورون أبداً فكذا أهل الهوى مخذولون سرمدا والى أن الخذلان
29
واتباع الهوى من عقوبات الله المعنوية في الدنيا فلا بد من قرع باب العفو بالتوبة والسلوك إلى طريق التحقيق والإعراض عن الهوى والبدعة فإنهما شر رفيق ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
غيار هوى شم عقلت بدوخت
سموم هوس كشت عمرت بسوخت
وجود توشهريست رنيك وبد
تو سلطان دستور دانا خرد
هوا وهوس را نماند ستيز
وبينند سرنه عقل تيز
واعلم أن من الهوى ما هو مذموم وهو الميل إلى الدنيا وشهواتها وإلى ما سوى الله ومنه ما هو ممدوح وهو الميل إلى العقبى ودرجاتها بل إلى الله تعالى بتجريد القلب عما سواه.
قال بعضهم ناولت بعض الشبان من أرباب الأحوال دريهمات فأبى أن يأخذ فألححت عليه فألقى كفا من الرمل في ركوته فاستقى من ماء البحر وقال كل فنظرت فإذا هو سويق سكره كثير فقال : من كان حاله معه مثل هذا يحتاج إلى دراهمك ثم أنشأ يقول :
بحق الهوى يا أهل ودي تفهموا
لسان وجود بالوجود غريب
حرام على قلب تعرض للهوى
يكون لغير الحق فيه نصيب
فعلى السالك أن يسأل الله الهداية إلى طريق الهوى والعشق والوصول إلى منزل الذوق في مقعد صدق فإن كل ما سوى الله تعالى هو وبال وصورة وخيال فمن أراد المعنى فلينتقل إليه من المبنى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/21)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} الإقامة (براى كردن وراست كردن) كما في "تاج المصادر" والوجه الجارحة المخصوصة وقد يعبر به عن الذات كما في قوله : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ} (لقمان : 22) والدين في الأصل الطاعة والجزاء واستعير للشريعة.
والفرق بينه وبين الملة اعتباري فإن الشريعة من حيث أنها يطاع لها وينقاد دين ومن حيث أنها تملي وتكتب ملة.
والإملال بمعنى الإملاء وهو أن يقول فيكتب آخر عنه وإقامة الوجه للدين تمثيل لإقباله على الدين واستقامته واهتمامه بترتيب أسبابه فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد عليه طرفه ومد إليه نظره وقوّم له وجهه مقبلاً عليه.
والمعنى فإذا كان حال المشركين اتباع الهوى والإعراض عن الهدى فقوّم وجهك يا محمد للدين الحق الذي هو دين الإسلام وعد له غير ملتفت يميناً وشمالاً ، وبالفارسية : (س راست دار اى محمد روى خود دين را) {حَنِيفًا} أي : حال كونك مائلاً إليه عن سائر الأديان مستقيماً عليه لا ترجع له عنه إلى غيره ويجوز أن يكون حالاً من الدين.
قال في "القاموس" الحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه.
وفي "المفردات" الحنف ميل عن الضلال إلى الاستقامة وتحنف فلان تحري طريق الاستقامة وسمت العرب كل من اختتن أو حج حنيفاً تنبيهاً على أنه على دين إبراهيم عليه السلام.
ومن "بلاغات الزمخشري" : الجود والحلم حاتمي واحنفي.
والدين والعلم حنيفي وحنفي أي : الجود منسوب إلى حاتم الطائي والحلم إلى أحنف بن قيس كما أن الدين منسوب إلى إبراهيم الحنيف والعلم إلى أبي حنيفة رحمه الله.
وقال بعضهم في الآية الوجه ما يتوجه إليه وعمل الإنسان ودينه مما يتوجه الإنسان إليه لتسديده وإقامته.
فالمعنى أخلص دينك وسدد عملك مائلاً إليه عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة {فِطْرَتَ اللَّهِ} الفطرة الخلقة وزناً ومعنى وقولهم صدقة الفطرة أي : صدقة إنسان
30
مفطور أي : مخلوق فيؤول إلى قولهم زكاة الرأس والمراد بالفطرة ههنا القابلية للتوحيد ودين الإسلام من غير إباء عنه وإنكار له.
قال الراغب : فطرة الله ما فطر أي : أبدع وركز في الناس من قوتهم على معرفة الإيمان وهو المشار إليه بقوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف : 87) وانتصابها على الإغراء أي : الزموا فطرة الله والخطاب للكل كما يفصح عنه قوله منيبين إليه والإفراد في أقم لما أن الرسول إمام الأمة فأمره مستتبع لأمرهم والمراد بلزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل الشيطان {الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} صفة لفطرة مؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر فإن خلق الله الناس على فطرته التي هي عبارة عن قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه أو عن ملة الإسلام من موجبات لزومها والتمسك بها قطعاً فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها وما اختاروا عليها ديناً آخر ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن ومنه قوله عليه السلام حكاية عن رب العزة "كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري" والاجتيال بالجيم الجول أي : استخفتهم فجالوا معها يقال اجتال الرجل الشيء ذهب به وساقه كذا في "تاج المصادر" ، قال ابن الكمال في كتابه المسمى بنكارستان :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
بر سلامت زايد ازمادر سر
آن سقامت را يذيرد از در
صدق محض است اين كه كفتم شاهدش
در خبر وارد شد از خير البشر
وهو قوله عليه السلام : "ما من مولود إلا وقد يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" يعني : (بيني بريده) "حتى تكونوا أنتم تجدعونها" أي : تقطعون أنفها معناه كل مولود إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيىء لقبول الدين فلو ترك عليها استمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها لأن هذا الدين حسنه موجود في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد :
بابدان ياركشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزى ند
ى نيكان كرفت ومردم شد
(7/22)
فإن قلت : ما معنى قوله عليه السلام : "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً" وقد قال : "كل مولود يولد على الفطرة"؟ قلت : المراد بالفطرة استعداده لقبول الإسلام كما مر وذلك لا ينافي كونه شقياً في جبليته أو يراد بالفطرة قولهم بلى حين قال الله ألست بربكم؟ قال النووي لما كان أبواه مؤمنين كان هو مؤمناً أيضاً فيجب تأويله بأن معناه والله أعلم أن ذلك الغلام لو بلغ لكان كافراً انتهى.
ثم لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ألا يرى أنه يقول فأبواه يهودانه فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين كما في "كشف الأسرار" ، قال بعض الكبار : (هرآدمى كه باشد اورا البته سه مذهب باشد.
يكى مذهب در ومادر وعوام شهر بود اينست "ما من مولود" الخ.
دوم مذهب ادشاه ولايت بودكه اكر ادشاه عادل باشد بيشتر اهل ولايت عادل شوند
31
واكر ظالم باشد ظالم شوند واكر زاهد باشد زاهد شوند واكر حكيم باشد حكيم شوند واكر حنفي مذهب باشد حنفي شوند واكر شافعي مذهب باشد شافعي شوند ازجهت آنكه همه كس را قرب ادشاه مطلوب باشد وهمه كس طالب ارادت ومحبت ادشاه باشند ابنست معنى "الناس على دين ملوكهم" سوم مذهب يا ربود باكه صحبت دوستى مى ورزد هرآينه مذهب او كيرد ومعنى شرط صحبت مشابهت بيرون وموافقت اندرون اينست معنى "المرء على دين خليله") :
عن المرء لا تسأل وابصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ونعم ما قيل :
نفس از همنفس بكيرد خوى
بر حذر باش ازلقاى خبيث
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
باد ون بر فضاى بد كذرد
بوى بدكيرد ازهواى خبيث
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى لوجوب الامتثال به أي : لا صحة ولا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه وعدم ترتيب مقتضاه عليه بقبول الهوى واتباع وسوسة الشيطان.
وفي "التأويلات النجمية" : لا تحويل لما له خلقهم فطر الناس كلهم على التوحيد فأقام قلب من خلقه للتوحيد والسعادة وأزاغ قلب من خلقه للإلحاد والشقاوة انتهى.
يقول الفقير : عالم الشهادة مرآة اللوح المحفوظ فلصورها تغير وتبدل وأما رحم الأم فمرآة عالم الغيب ولا تبدل لصورها في الحقيقة ولذا "السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه" :
مشكل آيد خلق را تغيير خلق
آنكه بالذات است كى زائل شود
اصل طبعست وهمه اخلاق فرع
فرع لا بد اصل را مائل شود
جعلنا الله وإياكم من المداوين لمرض هذا القلب العليل لا ممن إذا صدمه الوعظ والتذكير قيل لا تبديل {ذَالِكَ} الدين المأمور بإقامة الوجه له أو لزوم فطرة الله المستفاد من الإغراء أو الفطرة إن فسرت بالملة والتذكير بتأويل المذكور أو باعتبار الخبر {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستوي الذي لا عوج فيه وهو وصف بمعنى المستقيم المستوي {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} كفار مكة {لا يَعْلَمُونَ} استقامته فينحرفون عنه انحرافاً وذلك لعدم تدبرهم وتفكرهم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
{مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لعمومه للأمة وما بينهما اعتراض وهو من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى.
والمعنى الزموا على الفطرة أو فأقيموا وجوهكم للدين حال كونكم راجعين إليه تعالى وإلى كل ما أمر به مقبلين عليه بالطاعة (شيخ أبو سعيد خراز قدس سره فرموده كه انابت رجوع است از خلق بحق ومنيب اورا كويندكه جز حق سبحانه مرجعى نباشد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
تومر جعى همه را من رجوع باكه كنم
كرم تودرنذيري كجا روم ه كنم
قال ابن عطاء قدس سره : راجعين إليه من الكل خصوصاً من ظلمات النفوس مقيمين معه على حد آداب العبودية لا يفارقون عرصته بحال ولا يخافون سواه.
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره : إذا صدق العبد في توبته صار منيباً لأن الإنابة ثاني درجة التوبة {وَاتَّقُوهُ} أي : من مخالفة أمره وهو عطف على الزموا المقدر {وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ} أدوها في أوقاتها
32
(7/23)
على شرائطها وحقوقها.
قال الراغب إقامة الشيء توفية حقه ولم يأمر تعالى بالصلاة حيث أمر ولا مدح بها حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة تنبيهاً على أن المقصود منها توفية شرائطها لا الإتيان بهيآتها {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} المبدلين لفطرة الله تبديلاً.
وقال الكاشفي : (ومباشيد از شرك آرندكان بترك نماز متعمداً خطاب با أمّت است.
درتيسير ازشيخ محمد اسلم طوسى رحمه الله نقل ميكندكه حديثى بمن رسيده كه هره ازمن روايت كنند عرض كنيد بركتاب خداى تعالى اكر موافق بود قبول كنيد من اين حديث را كه "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر" خواستم كه بآيتى از قرآن موافقت كنم سى سال تأمل كردم تا اين آيه يافتم كه) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بدل من المشركين بإعادة الجار.
والمعنى بالفارسية : (مباشيد از آنكه جدا كرده اند وراكنده ساخته دين خودرا) وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدون على اختلاف أهوائهم وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى ضرب من اضراب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين {وَكَانُوا شِيَعًا} أي : فرقاً مختلفة يشايع كل منها أي : يتابع إمامها الذي هو أصل دينها {كُلُّ حِزْب} (هر كروهى).
قال في "القاموس" : الحزب جماعة الناس {بِمَا لَدَيْهِمْ} بما عندهم من الدين المعوج المؤسس على الزيغ والزعم الباطل {فَرِحُونَ} مسرورون ظناً منهم أنه حق وأنى لهم ذلك :
هركسى را درخور مقدار خويش
هست نوعى خوشدلى دركار خويش
ميكند اثبات خويش ونفى غير
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ه امام صوخعه ه ير دير
اعلم أن الدين عند الله الإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإن اختلفت الشرائع والأحكام بالنسبة إلى الأمم والأعصار وأن الناس كانوا أمة واحدة ثم صاروا فرقاً مختلفة يهوداً ونصارى ومجوساً وعابدي وثن وملك ونجم ونحو ذلك.
وقد روى أن أمة إبراهيم عليه السلام صارت بعده سبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة وهم الذين كانوا على ما كان عليه إبراهيم في الأصول والفروع.
وأن أمة موسى عليه السلام صارت بعده إحدى وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة كانت على اعتقاد موسى وعمله.
وأن أمة عيسى عليه السلام صارت بعده ثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا من وافقه في اعتقاده وعمله.
وأن أمة محمد عليه السلام صارت بعده ثلاثاً وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه وهم الفرقة الناجية.
وهذه الفرق الضالة كليات وإلا فجزئيات المذاهب الزائغة كثيرة لا تحصى كما قال بعضهم : (من درولايت ارس صد مذهب يافتم كه آن صد مذهب باين هفتاد وسه مذهب هي تعلق ندارد وبهي وجه باين نماند س وقتى كه دريك ولايت صد مذهب باشد جزآن هفتاد وسه مذهب نظركن در عالم هند مذهب بود بدانكه اصل اين هفتاد ودو مذهب كه از اهل آتش اند شش مذهب است.
تشبيه.
وتعطيل.
وجبر.
وقدر.
ورفض.
ونصب اهل تشبيه خدايرا بصفات ناسرا وصف كردند وبمخلوقات ما نندكردند.
واهل تعطيل خدايرا منكر شد ندو نفى صفات خدا كردند.
33
واهل جبر اختيار وفعل بندكانرا منكر شدند وبندكى خودرا بخداوند اضافت كردند.
4
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/24)
واهل قدر خدايى خدايرا بخود اضافت كردند وخودرا خالق افعال خود كفتند.
واهل رفض دردوستى علي رضي الله عنه غلو كردند ودر حق صديق وفاروق طعن كردند وكفتندكه هركه بعد از محمد عليه السلام بلا فصل بأعلى بيعت نكردند واورا خليفه وامام ندانستند ازدائره ايمان بيرون رفتند.
واهل نصب دردوستى صديق وفارق رضي الله عنهما غلو كردند ودرحق على طعن كردند وكفتند هركه بعد از محمد عليه السلام با صديق بيعت نكردند واورا خليفه وامام ندانستند ازدائره ايمان بيرون وفتند وهريك ازين فرقه شش كانه دوازده فرق شدند وهفتاد ودوفرقه آمدند.
واين مذاهب حالا موجودست وجمله از قران واحاديث ميكويند وهريك اين نين ميكويندكه از اوّل قرآن تا آخر قرآن بيان مذهب ماست اما مردم فهم نمى كنند.
واصل خلاف از آنجا يدا آمدكه مردمان شنيدند ازانبيا عليهم السلام كه اين موجوداترا خداوندى هست هركسى در خداوند وصفات خداوندى يزى اعتقاد كردند ونين كمان بردندكه اين جمله دلائل ايشان راست ودرست است وآن كمان ايشان خطابود زيرا جمله را اتفاق هست كه "طريق العقل واحد" ون طريق عقل دونمى شايد هفتاد وسه وبلكه زياده كى روا باشد واين سخن ترابيك حكايه معلوم سودنانكه هي شبهت نماند ـ وحكايت ـ آوردندكه شهرى بودكه اهل آن شهر جمله ناينا بود وحكايت يل شنيده بودند ميخواستندكه يل را مشاهد كنند ودرين آرزو مى بودند ناكاه روزى كاروانى رسيد وبردر آن شهر فرو آمد ودرانكاروان يلى بود اهل آن شهر شنيدند يل آورده اند آنه عاقلترين ايشان بودند كفتندكه بيرون رويم ويل را مشاهده كنيم.
جماعتى ازان شهر بيرون آمدند وبنزديك يل آمدند.
يكى دست دراز كردكوش يل بدست وى آمد يزى ديد همون سرى اين كس اعتقاد كردكه يل همون سرست.
ويكى ديكردست دراز كرد وخرطوم يل بدست او آمد يزى ديدى همون عمودى اين كس اعتقاد كردكه يل همون عموديست.
ويكى ديكردست دراز كرد وشت يل بدست وى آمد يزى ديد همون تخت اين كس اعتقاد كردكه يل همون تختيست.
ويكى ديكر دست دراز كرد واى يل بدست او آمد يزى ديد همون عمادى اين كس اعتقاد كردكه يل همون عماديست.
جمله شادمان شدند وباز كشتند وبشهر در آمدند هركسى محله خود رفتند.
سؤال كردندكه يل را ديديد كفتندكه ديديم كفتند كونه ديديد وه شكل بود.
يكى در محله خود كفت يل همون سر بود.
وديكر در محله خود كفت يل همون عمود بود واهل هر محله نانكه شنيدند اعتقاد كردند.
ون جمله بيكديكر رسيدند همه خلاف يكديكر كفته بودند جمله يكديكررا منكر شدند ودليل كفتن آغاز كردند هريك باثبات اعتقاد خود ونفى اعتقاد ديكران كرد وآن دليل را دليل عقلى ونقلى نام نهادند.
يكى كفت كه يل نقل كنندكه در روز جنك يش لشكرى دارند بايدكه يل همون سرى باشد.
وديكر كفت كه نقل
34
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/25)
ميكنند كه يل روز جنك خودرا برلشكر خصم مى زند ولشكر خصم بدين شكست ميشود س بايدكه يل همون عمودى باشد.
وديكر كفت كه نقل ميكنندكه يل هزار من بار برميدارد وزحمتى بوى نمى رسد س بايدكه يل همون عمادى باشد.
وديكر كفت نقل ميكنندكه ندين كس بريل مينشيند س بايدكه يل همون تختى باشد.
اكنون توباخود انديشه كن كه ايشان بدين دلائل هركز بمدلول كه يل است كجا رسند وبترتيب اين مقدمات هركز نتيجه راست راكجا يابند جمله عاقلا نرا دانندكه هر ندين ازين نوع دليل بيشتر كويند از معرفت يل دور افتند وهركز بمدلول كه يل است نرسند واين اختلاف ازميان ايشان برنخيزد وبكله زياده شود.
ون عنايت حق دررسد ويكى ازميان ايشان بيناشود ويل را نانكه يل است ببيند وبداند وبا يشان كويدكه اين كه شما ازيل حكايت ميكنيد يزى ازيل دانستيد وباقى ديكر ندانستيد مرا خداى تعالى بينا كردانيد كويند ترا خيالست ودماغ توخلل يافته است وديوانكى ترا زحمت مى دهد واكر نه بينا ماييم كس سخن بينارا قبول نكند مكراندك باقى برهمان جهل مركب اصرار نمايند وازان رجوع نكنند.
وآنكه درميان ايشان سخن بينارا شنود وقبول كند وموافقت كند اورا كافر نام نهند "وليس الخبر كالمعاينة" اكنون مذاهب مختله را همون مى دان كه شنيدى اين موجوداترا خداوندى هست وهريك درذات وصفات خداوندى يزى اعتقاد كردند ون بايكديكر حكايت كردند وقرآن واحاديث را آنه موافق اعتقاد ايشان نبود تأويل كردند وباعتقاد خود راست كردند.
س هركه ازسر انصاف تأمل كند وتقليد وتعصب را بكذارد بيقين داندكه اين جمله اعتقادات نه بدليل نقلى ونه بدليل عقلى درستست زيرا كه دلائل عقلى ونقلى مقتضى يك اعتقاد بيش نباشد بس اعتقاد جمله بلا دليل است وجمله مقلد انند واز مقلد كى روا باشدكه ديكريرا كويندكه اوكمراه وكافرست زيرا كه درنادانى باهمه برابرند.
س مذهب مستقيم آنست كه دروى تشبيه وتعطيل وجبر وقدر ورفض ونصب نباشد اسلامست ودرمذهب اهل سنت وجماعتست ازجهت آنكه معنى سنت وجماعة آنست سنت رسول وعقيدة الصحابة.
واعتقاد صحابه آنست كه خدايكيست.
وموصوفتست بصفات سزا.
ومنزه است ازصفات ناسزا.
وذات وصفات اوقديمست ولا غيره كالواحد من العشرة.
واورا ضدّ وند ومثل وشريك وزن وفرزند وحيز ومكان نيست وامكان نداردكه باشد.
واو ازيزى نيست وبر يزى نيست ودريزى نيست وبيزى نيست بلكه همه يزازوى است وقائم بوى است وباقى بوى است.
واوديدنى نيست بشم سر وديدار اودردنيا جائز نيست ودر آخرت اهل بهشت را هرآينه خواهد بود.
وكلام اوقديمست.
واو فاعل مختارست وخالق خير وشر وكفر وايمانست.
وجوى خالق ديكرنيست.
خالق عباد وافعال عبادست.
وعباد خالق افعال خود نيستند اما فاعل مختارند.
وهي صفتى ز صفات مخلوقات بوى نماند.
وهره در خاطر ووهم كسى آيد از خيال وامثال كه وى آنست وى آن نيست وى آفريدكارانست {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} وفعل او از علت وغرض اك ومنزه.
وهي يزى بروى واجب
35
نيست.
وفرستادن انبيا ازوى فضل است.
وانبيا معصومند وغير انبيا معصومند وغير انبيا كسى معصوم نيست.
ومحمد عليه السلام ختم انبياست وبهترين ودانا ترين آدميانست.
وبعد از محمد عليه السلام ابو بكر خليفه وامام بحق بود.
وبعد از ابو بكر عمر خليفه وامام بحق بود.
وبعد ازو عثمان وامامت بعلى تمام شد.
واجماع صحابه واجماع علما بعد ازصحابه حجتست.
واجتهاد وقياس از علما درست است.
ودرين جمله كه كفته شد ابو حنيفه وشافعى را اتفاقست).
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/26)
واعلم أن الشيخين الكاملين من طائفة أهل الحق اسم أحدهما الشيخ أبو الحسن الأشعري من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومن ذهب إلى طريقه واعتقد موافقاً لمذهبه يسمونه الأشعرية واسم الآخر الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله وكل من اعتقد موافقاً لمذهب هذا الشيخ يسمونه الماتريدية.
ومذهب أبي حنيفة موافق لمذهب الشيخ الثاني وإن جاء الشيخ الثاني بعد أبي حنيفة بمدة.
ومذهب الشافعي موافق لمذهب الشيخ الأول في باب الاعتقاد وإن جاء بعد الشافعي بمدة والماتريديون حنفيون في باب الأعمال كما أن الأشاعرة شافعيون في باب الأعمال والتزام مذهب من المذاهب الحقة لازم لقوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ} (النساء : 59) والاحتراز عن المذاهب الباطلة واجب لقوله تعالى : {وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَا إِنَّ اللَّهَ} (الحشر : 7) وقد نهى عليه السلام عن مجالسة أهل الأهواء والبدع وتبرأ منهم.
وفي الحديث "يجيىء قوم يميتون السنة ويوغلون في الدين فعلى أولئك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين".
وقد تفرق أهل التصوف على ثنتي عشرة فرقة فواحدة منهم سنيون وهم الذين أثنى عليهم العلماء والبواقي بدعيون وهم الخلوتية والحالية والأوليائية والشمراخية والحبية والحورية والإباحية والمتكاسلة والمتجاهلة والواقفية والإلهامية.
وكان الصحابة رضي الله عنهم من أهل الجذبة ببركة صحبة النبي عليه السلام ثم انتشرت تلك الجذبة في مشايخ الطريقة وتشعبت إلى سلاسل كثيرة حتى ضعفت وانقطعت عن كثير منهم فبقوا رسميين في صورة الشيوخ بلا معنى ثم انتسب بعضهم إلى قلندر وبعضهم إلى حيدر وبعضهم إلى أدهم إلى غير ذلك وفي زماننا هذا أهل "الإرشاد" أقل من القليل.
ويعلم أهله بشاهدين أحدهما ظاهر والآخر باطن فالظاهر استحكام الشريعة والباطن السلوك على البصيرة فيرى من يقتدي به وهو النبي عليه السلام ويجعله واسطة بينه وبين الله حتى لا يكون سلوكه على العمي.
قال بعض الكبار : (هركه درنين وقت افتدكه اعتقادات بسيار واختلافات بى شمار باشد يادران شهر يادر ولايت دانايى نباشد مذهب مستقيم آنست كه دوازده يزرا حرفت خود سازدكه اين دوازده يز حرفت دانا يانست وسبب نور وهدايت.
اول آنكه بانيكان صحبت دارد.
دوم آنكه فرمان بردارىء ايشان كند.
سوم آنكه ازخداى راضى شود.
هارم آنكه باخلق خداى صلح كند.
نجم آنكه آزارى بخلق نرساند.
ششم آنكه اكرتواند راحت رسانداين شش يزاست معنى "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" هفتم متقى ور هيزكار وحلال خورباشد.
هشتم ترك طمع وحرص كند.
نهم آنكه باهيكس بدنكويد مكر بضرورت وهركز بخود كمال دانايى نبرد.
دهم آنكه اخلاق نيك حاصل كند.
يازدهم آنكه يوسته برياضات ومجاهدات مشغول
36
باشد.
دوازدهم آنكه بى دعوى باشد وهميشه نياز مندبودكه اصل جمله سعادات وتخم جمله درجات اين دوازده يزست درهزكه اين دوازده يزهست مردى ازمردان خدايست ورونده وسالك راه حق ودرهركه اين دوازده يزنيست اكر صورت عوام دارد ودر لباس خواصست ديواست وكمراه كننده مردم است) الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الملتفتين إلى غير الله {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} الذي كانوا عليه في الفطرة التي فطر الناس عليها من التجريد والتفريد والتوحيد والمراقبة في مجلس الأنس والملازمة للمكالمة مع الحق {وَكَانُوا شِيَعًا} أي : صاروا فرقاً فريقاً منهم مالوا إلى نعيم الجنان وفريقاً منهم رغبوا في نعيم الدنيا بالخذلان وفريقاً منهم وقعوا في شبكة الشيطان فساقهم بتزيين حب الشهوات إلى دركات النيران {كُلُّ حِزْب} من هؤلاء الفرق {بِمَا لَدَيْهِمْ} من مشتهى نفوسهم ومقتضى طبائعهم {فَرِحُونَ} فجالوا في ميادين الغفلات واستغرقوا في بحار الشهوات وظنوا بالظنون الكاذبة أن جذبتهم إلى ما فيه السعادة الجاذبة فإذا انكشف ضباب وقتهم وانقشع سحاب جهدهم انقلب فرحهم ترحاً واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة ولم يعرجوا إلا إلى أوطان الجهالة كما قيل :
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك ام حمار
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
(7/27)
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} (وون برسد آدميان يعنى مشركان مكه را) {ضُرٌّ} سوء حال من الجوع والقحط واحتباس المطر والمرض والفقر وغير ذلك من أنواع البلاء.
قال في "المفردات" المس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى {دَعَوْا رَبَّهُم} حال كونهم {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه من دعاء غيره لعلمهم أنه لا فرج عند الأصنام ولا يقدر على كشف ذلك عنهم غير الله {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم} (س ون بشاند ايشانرا) {مِّنْهُ} من عنده {رَحْمَةً} خلاصاً وعافية من الضر النازل بهم وذلك بالسعة والغنى والصحة ونحوها {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي : فاجأ فريق منهم بالعود إلى الإشراك بربهم الذي عافاهم ، وبالفارسية (آنكاه كروهى ازيشان بروردكار خود شرك آرند يعنى در مقابله نجات ازيلا نين عمل كنند) وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك كما في قوله تعالى {فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} (لقمان : 32) أي : مقيم على الطريق القصد أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجملة {لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} اللام فيه للعاقبة والمراد بالموصول نعمة الخلاص والعافية {فَتَمَتَّعُوا} أي : بكفركم قليلاً إلى وقت آجالكم وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وفي "كشف الأسرار" (كوى برخوريد وروزكار فراسر بريد) وقال الكاشفي ، يعني : (اى كافران برخوريد دوسه روز از نعمتهاى دينوى) {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم في الآخرة وهي العقوبة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى طبيعة الإنسان أنها ممزوجة من هداية الروح وإطاعته ومن ضلالة النفس وعصيانها وتمردها فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية انكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم من أسر ظلمة شهواتها ورجعت على وفق طبعها والمجبولة عليه إلى الحضرة ورجعت النفوس أيضاً بموافقة الأرواح على خلاف طباعها مضطرين في دفع البيلة إلى الله
37
مستغيثين بلطفه مستجيرين من محنهم مستكشفين للضر فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم} وهم النفوس المتمردة يعودون إلى عادتهم المذمومة وطبيعتهم الدنيئة وكفران النعمة {لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} من النعمة والرحمة ثم هدّدهم بقوله : {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} جزاء ما تعملون على وفق طباعكم اتباعاً لهواكم.
{أَمْ أَنزَلْنَا} (آيافرستاده ايم) {عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا} أي : حجة واضحة كالكتاب {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلم دلالة كما في قوله تعالى : {هَـاذَا كِتَـابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} (الجاثية : 29) {بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ} أي : بإشراكهم به تعالى وصحته فتكون ما مصدرية أو بالأمر الذي بسببه يشركون في ألوهيته فتكون موصولة والمراد بالاستفهام النفي والإنكار أي : لم ننزل عليهم ذلك.
وفيه إشارة إلى أن أعمال العباد إذا كانت مقرونة بالحجة المنزلة تكون حجة لهم وإن كانت من نتائج طباع نفوسهم الخبيثة تكون حجة عليهم فالعمل بالطبع هوى وبالحجة هدى فقد دخل فيه أفعال العباد صالحاتها وفاسداتها وإن كانوا لا يشعرون ذلك فيظنون بعض أعمالهم الخبيثة طيبة من غير سلطان يتكلم لهم بطيبها ونعوذ بالله من الخوض في الباطل واعتقاد أنه أمر تحته طائل :
ترسم نرسى بكعبه اى اعرابى
كين ره كه توميروى بتركستانست
{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} أي : نعمة وصحة وسعة {فَرِحُوا بِهَا} بطراً وأشراً لا حمداً وشكراً وغرتهم الحياة الدنيا وأعرضوا عن عبودية المولى {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ} أي : شدة من بلاء وضيق {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي : بشؤم معاصيهم {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجأوا القنوط واليأس من رحمة الله تعالى ، وبالفارسية : (آنكاه ايشان نوميد وجزع ميكنند يعنى نه شكر ميكذارند در نعمت ونه صبردارند برمحنت) وهذا وصف الغافلين المحجوبين وأما أهل المحبة والإرادة فسواء نالوا ما يلائم الطبع أو فات عنهم ذلك فإنهم لا يفرحون ولا يحزنون كما قال تعالى : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ} (الحديد : 23) فلما كان بهم من قوة الاعتماد على الله تعالى لا يقنطون من الرحمة الظاهرة والباطنة ويرون التنزلات من التلوينات فيرجعون إلى الله بتصحيح الحالات بأنواع الرياضات والمجاهدات ويصبرون إلى ظهور التمكينات والترقيات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
بصبر كوش دلاروز هجر فائده نيست
طبيب سربت تلخ از براى فائده ساخت
(7/28)
{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَـاَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِا ذَالِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه وَأُولَئكَ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا} أي : ألم ينظروا ولم يشاهدوا {أَنَّ اللَّهَ} الرزاق {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} أي : يوسعه لمن يرى صلاحه في ذلك ويمتحنه بالشكر {وَيَقْدِرُ} أي : يضيقه لمن يرى نظام حاله في ذلك ويمتحنه بالصبر ليستخرج منهم بذلك معلومه من الشكر والكفران والصبر والجزع فمالهم لا يشكرون في السراء ولا يتوقعون الثواب بالصبر في الضراء كالمؤمنين.
قال شقيق رحمه الله كما لا تستطيع أن تزيد في خلقك ولا في حياتك كذلك لا تستطيع أن تزيد في رزقك فلا تتعب نفسك في طلب الرزق.
رزق اكر بر آدمى عاشق نمى باشد را
اززمين كندم كريبان اك مى آيد را
38
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور من القبض والبسط {لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ، قال أبو بكر محمد بن سابق :
فكم قوي قوي في تقلبه
مهذب الرأي عنه الرزق ينحرف
وكم ضعيف ضعيف في تقلبه
كأنه من خليج البحر يغترف
هذا دليل على أن الاله له
في الخلق سر خفي ليس ينكشف
ـ وحكي ـ أنه سئل بعض العلماء ما الدليل على أن للعالم صانعاً واحداً؟ قال : ثلاثة أشياء : ذل اللبيب ، وفقر الأديب ، وسقم الطبيب.
قال في "التأويلات النجمية" : الإشارة فيه إلى أن لا يعلق العباد قلوبهم إلا بالله لأن ما يسوءهم ليس زواله إلا من الله وما يسرهم ليس وجوده إلا من الله فالبسط الذي يسرهم ويؤنسهم منه وجوده والقبض الذي يسوءهم ويوحشهم منه حصوله فالواجب لزوم بابه بالأسرار وقطع الأفكار عن الأغيار انتهى ؛ إذ لا يفيد للعاجز طلب مراده من عاجز مثله فلا بد من الطلب من القادر المطلق الذي هو الحق.
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره : طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر.
فعلى العاقل تحصيل سكون القلب والفناء عن الإرادات فإن الله تعالى يفعل ما يريد على وفق علمه وحكمته.
وفي الحديث "إنما يخشى المؤمن الفقر مخافة الآفات على دينه" فالملحوظ في كل حال تحقيق دين الله المتعال وتحقيقه إنما يحصل بالامتثال إلى أمر صاحب الدين وقد أمر بالتوكل واليقين في باب الرزق فلا بد من الائتمار وإخراج الأفكار من القلب فإن من شك في رازقه فقد شك في خالقه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ـ كما حكي ـ أن معروفاً الكرخي قدس سره اقتدى بإمام فسأله الإمام بعد الصلاة وقال له : من أين تأكل يا معروف؟ فقال معروف : اصبر يا إمام حتى أقضي ما صليت خلفك ثم أجيب فإن الشاك في الرازق شاك في الخالق ولا يجوز اقتداء المؤمن الموقن بالمتزلزل المتردد ولذا قال تعالى : {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإن غير المؤمن لا يعرف الآيات ولا يقدر على الاستدلال بالدلالات فيبقى في الشك والتردد والظلمات.
قال هرم لأويس رضي الله عنه : أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام فقال هرم : كيف المعيشة بها قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها العظة أي : لأن العظة كالصقر لا يصيد إلا الحي والقلب الذي خالطه الشك بمثابة الميت فلا يفيده التنبيه نسأل الله سبحانه أن يوقظنا من سنة الغفلة ولا يجعلنا من المعذبين بعذاب الجهالة إنه الكريم الرؤوف الرحيم.
{فَـاَاتِ} أعطِ يا من بسط له الرزق {ذَا الْقُرْبَى} صاحب القرابة {حَقَّهُ} من الصلة والصدقة وسائر المبرات يحتج أبو حنيفة رحمة الله بهذه الآية على وجوب النفقة لذوي الأرحام المحارم عند الاحتياج ويقيسهم الشافعي على ابن العم فلا يوجب النفقة إلا على الولد والوالدين لوجود الولاد {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ما يستحقانه من الصدقة والإعانة والضيافة فإن ابن السبيل هو الضيف كما في "كشف الأسرار".
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن القرابة على قسمين : قرابة النسب ، وقرابة الدين ، فقرابة الدين أمس والمراعاة أحق وهم الإخوان في الله والأولاد من صلب الولاية من أهل الإرادة الذين تمسكوا بأذيال الأكابر منقطعين إلى الله مشتغلين بطلب الله متجردين عن الدنيا غير مستفزعين
39(7/29)
بطلب المعيشة فالواجب على الأغنياء بالله القيام بأداء حقوقهم فيما يكون لهم عوناً على الاشتغال بمواجب الطلب بفراغ القلب والمسكين من يكون محروماً من صدق الطلب وهو من أهل الطاعة والعبادة أو طالب العلم فمعاونته بقدر الإمكان وحسب الحال واجب وابن السبيل وهو المسافر والضيف فحقه القيام بشأنه بحكم الوقت فمن يكون همته في الطلب أعلى فهو من أقارب ذوي القربى وبإيثار الوقت عليه أولى فحقه آكد وتفقده أوجب انتهى.
قال في "كشف الأسرار" : (قرابت دين سزاوار ترست بمواساة ازفرابت نسب مجرد زيرا كه قرابت نسب بريده كردد وقرابت دين روانيست كه هركز بريده كردد اينست كه مصطفى عليه السلام كفت "كل نسب وسبب ينقطع الإنسبي وسببي" قرابت دين است كه سيد عالم صلوات الله عليه وسلامه اضافت باخود كردد وديندارانرا نزديكان وخويشان خود شمرد بحكم اين آيت وهركه روى بعبادة الله آرد وبر وظائف طاعات مواظبت نمايد ونعمت مراقب برسردارد ودروقت ذكر الله نشيند نانكه باكسب وتجارت نردازد وطلب معيشت نكند كما قال تعالى : {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور : 37) اورا برمسلمانان حق مواسات واجب شود اورا مراعات كنند ودل وى از ضرورت قوت فارغ دارند نانكه رسول خدا كرد باصحاب صفه وايشان بودندكه در صفه يغمبر وطن داشتند وصفه يغمبر جاييست بمدينه كه آنرا قبا خوانند از مدينه تا آنجا دوفرسنك است رسول الله خدا روزى ما حضرى دريش داست وبعضى اهل بيت خويش را كفت "لا أعطيكم وادع اصحاب الصفة تطوى بطونهم من الجوع" اين أصحاب صفه هل تن بودند ازدنيا بيكباركى اعراض كرده واز طلب معيشت بر خاصته وباعبادت وذكر الله رداخته وبرفتوح وتجريد روز بسر آورده وبيشترين ايشان برهنه بودند خويشتن را درميان نهان كرده ون وقت نماز بودى آنكروه كه جامه داشتند نماز كردندى آنكه جامه برديكران دادندى واصل مذهب تصوف ازايشان كرفته اندازدنيا اعراض كردن وازراه خصومت بر خاستن وبر توكل زيستن وبيافته قناعت كردن وآز وحرص وشره بكذاشتن) قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
بر اوج فلك ون رد ره باز
كه بر شهرش بسته سنك آز
ندارند تن روران آكهى
كه ر معده باشد ز حكمت نهى
{ذَالِكَ} أي : إيتاء الحق وإخراجه من المال {خَيْرٌ} من الإمساك {لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي : يقصدون بمعروفهم إياه تعالى خالصاً فيكون الوجه بمعنى الذات أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى من الأغراض والأعواض فيكون بمعنى الجهة.
قال في "كشف الأسرار" : المريد هو الذي يؤثر حق الله على نفسه.
جنيد قدس الله روحه (مريديرا وصيت ميكرد وكفت نان كن كه خلق را بارحمت باشى وخودرا بلاكه مؤنان ودوستان از الله بر خلق رحمت اند ونان كن كه درسايه صفات خود نه نشينى تاديكران درسايه تو بياسايند.
ذو النون مصرى را رسيدندكه مريد كيست ومراد كيست كفت "المريد يطلب والمراد يهرب".
مريد مى طلبد وازو صدر هزارنياز.
ومراد مى كريزد واورا صد هزارناز مريد بادل سوزان.
مرادبا مقصود
40
بربساط خندان.
مريد در خبر آويخته.
مراد درعيان آميخته.
يررا رسيدند مريد به يا مراد از حقيقت تفريد جواب دادكه "لا مريد ولا مراد ولا خبر ولا استخبار ولا حد ولا رسم وهو الكل بالكل" اين نانست كه كويند) :
اين جاى نه عشقست نه شوق نه يار
خود جمله تويى خصومت ازره بردار
{وَأُولَئكَ} (آن كروه منفقان) {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالمطلوب في الآخرة حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
والمعنى لهم في الدنيا خير وهو البركة في مالهم لأن إخراج الزكاة يزيد في المال :
زكات مال بدركن كه فضله رزرا
و باغبان ببرد بيشتر دهد انكور
وفي الآخرة يصير لطاعة ربه في إخراج الصدقة من الفائزين بالجنة :
توانكرا ودل ودست كامرانت هست
بخور ببخش كه دنيا وآخرت بردى
وعن علي رضي الله عنه أن المال حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام.
وكان لقمان إذا مر بالأغنياء يقول : يا أهل النعيم لا تنسوا النعيم الأكبر وإذا مر بالفقراء يقول : إياكم أن تغبنوا مرتين.
وعن علي رضي الله عنه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما منع غني والله يسألهم عن ذلك.
قال بعضهم : أول ما فرض الصوم على الأغنياء لأجل الفقراء في زمن الملك طهمورث ثالث ملوك بني آدم وقع القحط في زمانه فأمر الأغنياء بطعام واحد بعد غروب الشمس وبإمساكهم بالنهار شفقة على الفقراء وإيثاراً عليهم بطعام النهار وتعبداً وتواضعاًتعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
توانكرانرا وقفست وبذل ومهماني
زكاة وفطرة وإعتاق وهدى وقرباني
توكى بدولت ايشان رسى كه نتوانى
جزاين دو ركعت وآن هم بصد ريشانى
شرف نفس بجودست وكرامت بسجود
هركه اين هردوندارد عدمش به زوجود(7/30)
{فَـاَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِا ذَالِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه وأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِندَ اللَّه وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَواةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فأولئك هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَىْءٍا سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{وَمَآ} (يزى كه وآنه) {ءَاتَيْتُم} (مى دهيد) {مِّن رِّبًا} كتب بالواو للتفخيم على لغة من يفخم في أمثاله من الصلوة والزكوة أو للتنبيه على أصله لأنه من ربا يربو زاد وزيدت الألف تشبيهاً بواو الجمع وهي الزيادة في المقدار بأن يباع أحد مطعوم أو نقد بنقد بأكثر منه من جنسه ويقال له ربا الفضل أو في الأجل بأن يباع أحدهما إلى أجل ويقال له ربا النساء وكلاهما محرّم.
والمعنى من زيادة خالية من العوض عند المعاملة {لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ} ليزيد ويزكو في أموالهم ، يعني : (تازيادتى درمال سود خوران بديد آيد) {فَلا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ} لا يزيد عنده ولا يبارك له فيه كما قال تعالى : {يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا} (البقرة : 276) وقال بعضهم : المراد بالربا في الآية هو أن يعطي الرجل العطية أو يهدي الهدية ويثاب ما هو أفضل منها فهذا ربا حلال جائز ولكن لا يثاب عليه في القيامة لأنه لم يرد به وجه الله وهذا كان حراماً للنبي عليه السلام لقوله تعالى : {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر : 6) أي : لا تعط ولا تطلب أكثر مما أعطيت كذا في "كشف الأسرار" يقول الفقير : قوله تعالى : {مِّن رِّبًا} يشير إلى أنه لو قال المعطي للآخذ أنا لا أعطي هذا المال إياك على أنه ربا وجعله في حل لا يكون حلالاً ولا يخرج عن كونه ربا لأن ما كان حراماً بتحريم الله تعالى لا يكون حلالاً بتحليل
41
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
غيره وإلى أن المعطي والآخذ سواء في الوعيد إلا إذا كانت الضرورة قوية في جانب المعطي فلم يجد بدّاً من الأخذ بطريق الرباء بأن لا يقرضه أحد بغير معاوضة {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَواةٍ} مفروضة أو صدقة سميت زكاة لأنها تزكو وتنمو {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} تبتغون به وجهه خالصاً أي : ثوابه ورضاه لا ثواب غيره ورضاه بأن يكون رياء وسمعة {فأولئك هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي : ذووا الأضعاف من الثواب كما قال تعالى : {وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ} (البقرة : 276) ونظير المضعف المقوي لذوي القوة والموسر لذوي اليسار أو الذين أضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة وإنما قال : {فأولئك هُمُ الْمُضْعِفُونَ} فعدل عن الخطاب إلى الأخبار إيماء إلى أنه لم يخص به المخاطبون بل هو عام في جميع المكلفين إلى قيام الساعة.
قال سهل رحمه الله : وقع التضعيف لإرادة وجه الله به لا بإيتاء الزكاة وزكاة البدن في تطهيره من المعاصي وزكاة المال في تطهيره من الشبهات.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن في إنفاق المال في سبيل الله تزكية النفس عن لوث حب الدنيا كما كان حال أبي بكر رضي الله عنه حيث تجرد عن ماله تزكية لنفسه كما أخبر الله تعالى عن حاله بقوله : {وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَه يَتَزَكَّى * وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى} (الليل : 16 ـ 17 ـ 18 ـ 19 ـ 20) أي : شوقاً إلى لقاء ربه {فأولئك هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي : يعطون أضعاف ما يرجون ويتمنون لأنهم بقدر هممهم وحسب نظرهم المحدث يرجون والله تعالى بحسب إحسانه وكرمه القديم يعطي عطاء غير منقطع انتهى.
واعلم أن المال عارية مستردة في يد الإنسان ولا أحد أجهل ممن لا ينقذ نفسه من العذاب الدائم بما لا يبقى في يده وقد تكفل الله بأعواض المنفق ، وفي "المثنوي" :
كفت يغمبركه دائم بهر ند
دو فرشته خوش منادى ميكند
كاى خدايا منفقارنرا سيردار
هردر مشانرا عوض ده صد هزار
اى خدايا ممسكانرا درجهان
تومده الا زيان اندر زيان
كرنماند ازجود دردست تومال
كى كند فضل اهت ايمال
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
هركه كارد كردد انبارش تهى
ليكش اندر مزرعه باشد بهى
وانكه درانبار ماند وصرفه كرد
اشش وموش وحوادثهاش خورد
وفي "البستان" :
ريشان كن امروز كنجينه ست
كه فردا كليدش نه در دست تست
تو باخود ببر توشه خويشتن
كه شفقت نيايد زفرزند وزن
كنون بر كف ودست نه هره هست
كه فردا بدندان كزى شت دست
بحال دل خستكان درنكر
كه روزى دلت خسته باشد مكر
فروماندكانرا درون شاد كن
زروز فروماند كى ياد كن
نه خواهنده بر در ديكران
بشكرانه خواهنده ازدر مران(7/31)
{اللَّهِ} وحده {الَّذِى خَلَقَكُمْ} أوجدكم من العدم ولم تكونوا شيئاً {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أطعمكم ما عشتم ودمتم في الدنيا.
قال في "كشف الأسرار" : (يكى را روزى وجود ارزاقست ويكى را شهود رزاق عامه خلق دريند روزى وتهى معده اند طعام وشراب ميخواهند واهل
42
خصوص روزى دل خواهند توفيق طاعات وإخلاص عبادات دون همت كسى باشدكه همت وى همه آن تان بود شربتى آب "من كانت همته ما يأكل فقيمته ما يخرج منه" نيكو سخنى كه آن خوانمرد كفت) :
اى توانكر بكنج خرسندى
زين بخيلان كناره كير وكنار
اين بخيلان عهدما همه بار
راح خوردند ومستراح انبار
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وقت انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في النفخة الأخيرة ليجازيكم بما عملتم في الدنيا من الخير والشر فهو المختص بهذه الأشياء {هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم} اللاتي زعمتم أنها شركاء الله {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم} أي : الخلق والرزق والإماتة والإحياء {مِّن شَىْءٍ} أي : لا يفعل أحد شيئاً قط من تلك الأفعال (ون ازهيكدام آن كار نيايدش بتانرا شريك كرفتن نشايد) ومن الأولى والثانية تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منهما مستعملة للتأكيد لتعجيز الشركاء {سُبْحَـانَهُ} تنزه تنزيهاً بليغاً {وَتَعَـالَى} تعالياً كبيراً {عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراك المشركين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وفي "التأويلات النجمية" {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ} من العدم بإخراجكم إلى عالم الأرواح {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} استماع كلامه بلا واسطة عند خطابه "ألست بربكم" وهو رزق آذانكم ورزق أبصاركم مشاهدة شواهد ربوبيته ورزق قلوبكم فهم خطابه ودرك مراده من خطابه ورزق ألسنتكم إجابة سؤاله والشهادة بتوحيده {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بنور الإيمان والإيقان والعرفان {هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم} من الأصنام والأنام {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَىْءٍا سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى} منزه بذاته وصفاته {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أعداؤه بطريق عبادة الأصنام وأولياؤه بطريق عبادة الهوى انتهى.
وفي الحديث القدسي "أنا أغنى الشركاء عن الشرك" يعني : أنا أكثر استغناء عن العمل الذي فيه شركة لغيري فافعل للزيادة المطلقة من غير أن يكون في المضاف إليه شيء مما يكون في المضاف ويجوز أن يكون للزيادة على من أضيف إليه يعني أنا أكثر الشركاء استغناء وذلك لأنهم قد يثبت لهم الاستغناء في بعض الأوقات والاحتياج في بعضها والله تعالى مستغن في جميع الأوقات "من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" بفتح الكاف أي : مع شريكه والضمير في تركته لمن يعني أن المرائي في طاعته آثم لا ثواب له فيها.
قيل : الشرك على أقسام أعظمها اعتقاد شريكفي الذات ويليه اعتقاد شريكفي الفعل كقول من يقول العباد خالقون أفعالهم الاختيارية ويليه الشرك في العبادة وهو الرياء وهذا هو المراد في الحديث.
قال الشيخ أبو حامد رحمه الله : إذا كان مع الرياء قصد الثواب راجحاً فالذي نظنه والعلم عند الله أن لا يحبط أصل الثواب ولكن ينقص منه فيكون الحديث محمولاً على ما إذا تساوى القصدان أو يكون قصد الرياء أرجح.
قال الشيخ الكلاباذي رحمه الله : العمل إذا صح في أوله لم يضره فساد بعد ولا يحبطه شيء دون الشرك لأن الرياء هو ما يفعل العبد من أوله ليرائى به الناس ويكون ذلك قصده ومراده عند أهل السنة والجماعة لقوله تعالى : {خَلَطُوا عَمَلا صَـالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا} (التوبة : 102) ولو كان الأمر على ما زعم
43
المعتزلة من إحباط الطاعات بالمعاصي لم يجز اختلاطها واجتماعها كذا في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال في "الأشباه" نقلاً عن "التاتار خانية" : لو افتتح الصلاة خالصاًتعالى ثم دخل في قلبه الرياء فهو على ما افتتح والرياء أنه لو خلا عن الناس لا يصلي ولو كان مع الناس يصلي فأما لو صلى مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب أصل الصلاة دون الإحسان ولا يدخل الرياء في الصوم انتهى.
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الكشف والعيان حتى يلاحظ الله تعالى في كل فعل باشره من مأموراته ولا يلاحظ غيره من مخلوقاته ألا يرى أن الراعي إذا صلى عند الأغنام لا يلتفت إليها إذ وجودها وعدمها سواء فالرياء لها هواء والله تعالى خلق العبد وخلق القدرة على الحركة ورزقه القيام بأمره فما معنى الشركة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
اكر جز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
نسأل الله سبحانه وتعالى الخلاص من الأغيار وإخراج الملاحظات والأفكار من القلب الذي خلق للتوجه إليه والحضور لديه.
ترابكو هردل كرده اند امانتدار
زدزد امانت حق را نكاه دار مخسب
(7/32)
{اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَىْءٍا سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} .
{ظَهَرَ الْفَسَادُ} شاع {فِى الْبَرِّ} كالجدب وقلة النبات والربح في التجارات والريع في الزراعات والدر والنسل في الحيوانات ومحق البركات من كل شيء ووقوع الموتان بضم الميم كبطلان الموت الشائع في الماشية وظهور الوباء والطاعون في الناس وكثرة الحرق بفتحتين اسم من الإحراق وغلبة الأعداء ووجود الفتن والحرب ونحو ذلك من المضار {وَالْبَحْرِ} كالغرق بفتحتين اسم من الإغراق وعمي دواب البحر بانقطاع المطر فإن المطر لها كالكحل للإنسان وإخفاق الغواصين أي : خيبتهم من اللؤلؤ فإنه يتكوّن من مطر نيسان فإذا انقطع لم ينعقد.
وبيانه أنه إذا أتى الربيع يكثر هبوب الرياح وترتفع الأمواج ويضطرب البحر فإذا كان الثامن عشر من نيسان خرجت الأصداف من قعور بحر الهند وفارس ولها أصوات وقعقعة وبوسط كل صدفة دويبة صغيرة وصفحتا الصدفة لها كالجناحين وكالسور تتحصن به من عدو مسلط عليها وهو سرطان البحر فربما تفتتح أجنحتها تشم الهواء فيدخل السرطان مقصيه بينهما ويأكلها وربما يتحيل السرطان في أكلها بحيلة دقيقة وهو أن يحمل في مقصيه حجراً مدوراً كبندقة الطين ويراقب دابة الصدف حتى تشق عن جناحيها فيلقى السرطان الحجر بين صفحتي الصدفة فلا تنطبق فيأكلها ففي الثامن عشر من نيسان لا تبقى صدفة في قعور البحار المعروفة بالدر إلا صارت على وجه الماء وتفتحت على وجه يصير وجه الماء أبيض كاللؤلؤ وتأتي سحابة بمطر عظيم ثم تتقشع السحابة وقد وقع في جوف كل صدفة ما قدر الله تعالى واختار من القطر إما قطرة واحدة وإما اثنتان وإما ثلاث وهلم جرا إلى المائة والمائتين وفوق ذلك ثم تنطبق الأصداف وتلحم وتموت الدابة التي كانت في جوف الصدفة في الحال وترسب الأصداف إلى قعر البحر حتى لا يحركها الماء فيفسد ما في بطنها وتلحم صفحتا الصدفة إلحاماً بالغاً حتى لا يدخل إلى الدرة ماء البحر فيصفرها وأفضل الدر المتكوّن في هذه الأصداف القطرة الواحدة ثم الاثنتان ثم الثلاث وكلما قل العدد كان أكبر جسماً
44
وأعظم قيمة وكلما كثر العدد كان أصغر جسماً وأرخص قيمة والمتكون من قطرة واحدة هي الدرة اليتيمة التي لا قيمة لها والأخريان بعدها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
زبر افكند قطره سوى يم
ز صلب او افكند نطفه درشكم
ازان قطره لؤلؤ لالا كند
وزين صورتى سروبالا كند
فالصدفة تنقلب إلى ثلاثة أطوار في الأول طور الحيوانية فإذا وقع القطر فيها ماتت الدويبة وصارت في طور الحجرية ولذلك غاصت إلى القرار وهذا طبع الحجر وهو الطور الثاني وفي الطور الثالث وهو الطور النباتي تشرس في قرار البحر وتمد عروقها كالشجر ذلك تقدير العزيز العليم ولمدة حملها وانعقادها وقت معلوم وموسم يجتمع فيه الغواصون والتجار لاستخراج ذلك هذا في البحر.
وأما في البر ففي الثامن عشر من نيسان تخرج فراخ الحيات التي ولدت في تلك السنة وتصير من بطن الأرض إلى وجهها كالأصداف في البحر وتفتح أفواهها نحو السماء كما فتحت الأصداف فما نزل من قطر السماء في فمها أطبقت فمها عليه ودخلت بطن الأرض فإذا تم حمل الصدف في البحر وصار لؤلؤاً شفافاً صار ما دخل في فم فراخ الحيات داء وسما فالماء واحد والأوعية مختلفة والقدرة صالحة لكل شيء وقد قيل في هذا المعنى :
ارى الاحسان عند الحرّ دينا
وعند الندل منقصة وذمّا
كقطر الماء في الأصداف درّا
وفي جوف الأفاعي صار سماً
كذا في خريدة العجائب وفريدة الغرائب للشيخ العلامة أبي حفص الوردي رحمه الله.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى بر النفس وبحر القلب وفساد النفس بأكل الحرام وارتكاب المحظورات وتتبع الشهوات وفساد القلب بالعقائد السوء ولزوم الشبهات والتمسك بالأهواء والبدع والاتصاف بالأوصاف الذميمة وحب الدنيا وزينتها وطلب شهواتها ومنافعها ومن أعظم فساد القلب عقد الإصرار على المخالفات كما أن من أعظم الخيرات صحة العزم على التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل انتهى.
وأيضاً البر لسان علماء الظاهر وفساده ب"التأويلات الفاسدة.
والبحر لسان علماء الباطن وفساده بالدعاوي الباطلة :
ماه ناديده نشانها ميدهند
(7/33)
{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ} أي : بسبب شؤم المعاصي التي كسبها الناس في البر والبحر بمزاولة الأيدي غالباً.
ففيه إشارة إلى أن الكسب من العبد والتقدير والخلق من الله تعالى فالطاعة كالشمس المنيرة تنتشر أنوارها في الآفاق فكذا الطاعة تسري بركاتها إلى الأقطار فهي من تأثيرات لطفه تعالى والمعصية كالليلة المظلمة فكما أن الليلة تحيط ظلمتها بالجوانب فكذا المعصية تتفرق شآمتها إلى الأقارب والأجانب فهي من تأثيرات قهره تعالى.
وأول فساد ظهر في البر قتل قابيل أخاه هابيل.
وفي "البحر" أخذ الجلندي الملك كل سفينة غصباً وفي المثل أظلم من ابن الجلندي بزيادة ابن كما في "إنسان العيون" وكان من أجداد الحجاج بينه وبينه سبعون جدّاً وكانت الأرض خضرة معجبة بنضارتها لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذباً وكان لا تقصد الأسود البقر فلما وقع قتل المذكور تغير ما على الأرض
45
وشاكت الأشجار أي : صارت ذات شوك وصار ماء البحر ملحاً مرّاً جدّاً وقصد بعض الحيوان بعضاً.
وتعلقت شوكة بنبي فلعنها فقالت : لا تلعنني فإني ظهرت من شؤم ذنب الآدميين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
يقول الفقير :
ون عمل نيكو بود كلها دمد
و نكه زشت آيد برويد خارزار
كر بد وكر نيك باشد كارتو
هره كارى بدر روى آنجام كار
{لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا} اللام للعلة والذوق وجود الطعم بالفم وكثر استعماله في العذاب يعني أفسد الله أسباب دنياهم بسوء صنيعهم ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا من الذنوب والإعراض عن الحق ويعذبهم بالبأساء والضراء والمصائب وإنما قال بعض لأن تمام الجزاء في الآخرة ويجوز أن يكون اللام للعاقبة أي : كان عاقبة ظهور الشرور منهم ذلك نعوذ بالله من سوء العاقبة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما كانوا عليه من الشرك والمعاصي والغفلات وتتبع الشهوات وتضييع الأوقات إلى التوحيد والطاعة وطلب الحق والجهد في عبوديته وتعظيم الشرع والتأسف على ما فات وهذا كقوله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف : 130) أي : يتعظون فلم يتعظوا ففيه تنبيه على أن الله تعالى إنما يقضي بالجدوبة ونقص الثمرات والنبات لطفاً من جنابه في رجوع الخلق عن المعصية.
بارها وشد ى اظهار فضل
باز كيرد ازى اظهار عدلتاشيمان ميشوى ازكار بد
تاحيا دارى زالله الصمد
اعلم أن الله تعالى غير بشؤم المعصية أشياء كثيرة.
غير صورة إبليس واسمه وكان اسمه الحارث وعزازيل فسماه ابليس.
وغير لون حام بن نوح بسبب أنه نظر إلى سوءة أبيه فضحك وكان أبوه نوح نائماً فأخبر بذلك.
فدعا عليه فسوده الله تعالى فتولد منه الهند والحبشة.
وغير الصورة على قوم موسى فصيرهم قردة وعلى قوم عيسى فصيرهم خنازير.
وغير ماء القبط ومالهم فصيرهما دماً وحجراً.
وغير العلم على أمية ابن أبي الصلت وكان من بلغاء العرب حيث كان نائماً فأتاه طائر وأدخل منقاره في فيه فلما استيقظ نسي جميع علومه.
وغير اللسان على رجل بسبب العقوق حيث نادته والدته فلم يجب فصار أخرس.
وغير الإيمان على برصيصا بسبب شرب الخمر والزنى بعدما عبد الله تعالى مائتين وعشرين سنة إلى غير ذلك.
وقد قال كعب الأحبار لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام جاءه ميكائيل بشيء من حب الحنطة وقال : هذا رزقك ورزق أولادك قم فاضرب الأرض وابذر البذر قال : ولم يزل الحب من عهد آدم إلى زمن إدريس عليهما السلام كبيضة النعام فلما كفر الناس نقص إلى بيضة الدجاجة ثم إلى بيضة الحمامة ثم إلى قدر البندقة وكان في زمن عزير عليه السلام على قدر الحمصة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ظهور الفاحشة في قوم وإعلانها سبب لفشوّ الطاعون والأوجاع.
ونقص الميزان والمكيال سبب للقحط وشدة المؤوتة وجور السلطان.
ومنع الزكاة سبب لانقطاع المطر ولولا البهائم لم يمطروا.
ونقض عهد الله وعهد رسوله سبب لتسلط العدو.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وأخذ الأموال من أيدي الناس وعدم حكم الأئمة بكتاب الله سبب لوقوع السيف
46
والقتال بين الناس.
وأكل الربا سبب للزلزلة والخسف فضرر البعض يسري إلى الجميع ولذا يقال : من أذنب ذنباً فجميع الخلق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماؤه يوم القيامة فلا بد من الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة والطاعة والإصلاح فإن فيه الفوز والفلاح.
قال ذو النون المصري قدس سره : رأيت رجلاً إحدى رجليه خارجة من صومعته يسيل منها الصديد فسألته عن ذلك فقال : زارتني امرأة فنامت بجنب صومعتي فحملتني نفسي على أن أنزل عليها بالفجور فساعدتني إحدى رجلي دون الأخرى فحلفت أن لا تصحبني أبداً وهذا حقيقة التوبة والندامة نسأل الله العفو والعافية والسلامة.
توبه كردم حقيقت باخدا
نشكنم تاجان شدن ازتن جدا
كذا في "المثنوي" نقلاً عن لسان نصوح.
(7/34)
{قُلْ} يا محمد {سِيرُوا} أيها المشركون وسافروا {فِى الأرْضِ} في أرض الأمم المعذبة {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} أي : آخر أمر من كان قبلكم والنظر على وجهين يقال نظر إليه إذا نظر بعينه ونظر فيه إذا تفكر بقلبه وههنا قال : فانظروا ولم يقل إليه أو فيه ليدل على مشاهدة الآثار ومطالعة الأحوال {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} أي : كان أكثر الذين من قبل مشركين فاهلكوا بشركهم وهو استئناف للدلالة على أن ما أصابهم لفشوّ الشرك فيما بينهم أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم فإذا أصابهم العذاب بسبب شركهم ومعاصيهم فيلحذر من كان على صفتهم من مشركي قريش وغيرهم إن أصروا على ذلك.
{فَأَقِمْ} عدل يا محمد {وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} البليغ الاستقامة الذي ليس فيه عوج أصلاً وهو دين الإسلام وقد سبق معنى إقامة الوجه للدين في هذه السورة {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ} يوم القيامة {لا مَرَدَّ لَهُ} لا يقدر أحد على ردة ولا ينفع نفساً إيمانها حينئذٍ {مِنَ اللَّهِ} متعلق بيأتي أو بمرد لأنه مصدر على معنى لا يرده الله تعالى لتعلق إرادته القديمة بمجيئه وقد وعد ولا خلف في وعده {يَوْمَئذٍ} أي : يوم القيامة بعد محاسبة الله أهل الموقف {يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون فادغمت التاء في الصاد وشددت.
والصدع الشق في الأجسام الصلبة كالزجاج والحديد ونحوهما ومنه استعير صدع الأمر أي : فصله والصداع وهو الانشقاق في الرأس من الوجع ومنه الصديع للفجر لأنه ينشق من الليل والمعنى يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير كما قال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{مَنْ} (هركه) {كَفَرَ} بالله في الدنيا {فَعَلَيْهِ} لا على غيره {كُفْرُهُ} وبال كفره وجزاؤه وهو النار المؤبدة {وَمِنْ} (وهركه) {عَمِلَ صَـالِحًا} وحده وعمل بالطاعة الخالصة بعد التوحيد ، وبالفارسية : (كارستوده كند) {فَلانفُسِهِمْ} وحدها {يَمْهَدُونَ} أصل المهد إصلاح المضجع للصبي ثم استعير لغيره كما في "كشف الأسرار" يسوّون منزلاً في الجنة ويفرشون ويهيئون ، وبالفارسية : (خويشتن را نشستكاه سازد در بهشت وبساط مى كستراند) ومن التمهيد تمهيد المضاجع في القبور فإن بالعمل الصالح يصلح منزل القبر ومأوى الجنة.
يروى أن بعض أهل القبور في برزخ محمود مفروش فيه الريحان وموسد فيه السندس والاستبرق إلى يوم القيامة وفي الحديث "إن عمل الإنسان يدفن
47
معه في قبره فإن كان العمل كريماً أكرم صاحبه وإن كان لئيماً أسلمه" أي : إن كان عملاً صالحاً آنس صاحبه وبشره ووسع عليه قبره ونوره وحماه من الشدائد والأهوال وإن كان عملاً سيئاً فزع صاحبه وروّعه وأظلم عليه قبره وضيقه وعذبه وخلى بينه وبين الشدائد والأهوال والعذاب والوبال :
برك عيشى بكور خويش فرست
كس نيارد زس زيش فرست
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِن فَضْلِه إِنَّه لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن} .
{لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} به في الدنيا {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} وهي ما أريد به وجه الله تعالى ورضاه {مِّن فَضْلِهِ} (ازبخشش خود) متعلق بيجزى وهو متعلق بيصدعون أي : يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزي كلاً منهما بحسب أعمالهم وحيث كان جزاء المؤمنين هو المقصود بالذات أبرز ذلك في معرض الغاية وعبر عنه بالفضل لما أن الإثابة عند أهل السنة بطريق التفضل لا الوجوب كما عند المعتزلة وأشير إلى جزاء الفريق الآخر بقوله : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ} فإن عدم محبته تعالى كناية عن بغضه الموجب لغضبه المستتبع للعقوبة لا محالة.
قال بعضهم : (دوست نميدارد كافرانرا تابا مؤمنان جمع كند بلكه ايشانرا جدا ساخته بدوزخ فرستد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ـ روي ـ أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : ما خلقت النار بخلاً مني ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة نسأل الله تعالى دار أوليائه ونستعيذ به من دار أعدائه.
وفي الآيات إشارات :
منها : أن النظر بالعبرة من أسباب الترقي في طريق الحق وذلك أن بعض السلاك استحلوا بعض الأحوال فسكنوا إليها وبعضهم استحسنوا بعض المقامات فركنوا إليها فأشركوا بالالتفات إلى ما سوى الحق تعالى فمن نظر من أهل الاستعداد الكامل إلى هذه المساكنات والركون إلى الملائمات يسير على قدمي الشريعة والطريقة لكي يقطع المنازل والمقامات ويجتهد في أن لا يقع في ورطة الفترات والوقفات كما وقع بعض من كان قبله فحرم من الوصول إلى دائرة التوحيد الحقاني.
اى برادر بى نهايت در كهيست
هر كا كه ميرسى بالله مأيست(7/35)
ومنها : أنه لا بد للطالب من الاستقامة وصدق التوجه وذلك بالموافقة بالاتباع دون الاستبداد برأيه على وجه الابتداع ومن لم يتأدب بشيخ كامل ولم يتلقف كلمة التوحيد ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتم ونقصانه أعم من نفعه.
زمن اى دوست اين يك ند بذير
برو فتراك صاحب دولتى كير
كه قطره تا صدف را درنيابد
نكردد كوهر وروشن نتابد
ومنها : أن من أنكر على أهل الحق فعليه جزاء إنكاره وهو الحرمان من حقائق الإيمان والله تعالى لا يحب المنكرين إذ لو أحبهم لرزقهم الصدق والطلب ولما وقعوا بالخذلان في الإنكار والكفران.
مغزرا خالى كن ازنكار يار
تاكه ريحان يابد ازكلزاريار
وفي الحديث : "الأصل لا يخطىء" وتأويله أن أهل الإقرار يرجع إلى صفات اللطف وأهل الإنكار إلى صفات القهر لأن أصل خلقة الأول من الأولى والثاني من الثانية.
48
شراب داد خدا مرمرا وسركه ترا
وقسمت است ه جنكست مرمر اوترا
نسأل الله العشق والاشتياق والسلوك إلى طريقة العشاق ونعوذ بالله من الزيغ والضلال على كل حال.
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} علامات وحدته وقدرته {أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} (فروكشايد ازهوا بادها) اي الشمال والجنوب والصبا فإنها رياح الرحمة.
وأما الدبور فإنها ريح العذاب ومنه قوله عليه السلام : "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً".
قال في "القاموس" : الشمال : بالفتح وبكسر ما مهبه بين مطلع الشمس وبنات نعش أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر ولا تكاد تهب ليلاً.
والجنوب ريح تخالف الشمال مهبه من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا.
والصبا ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ومقابلتها الدبور والصبا موصوفة بالطيب والروح لانخفاضها عن برد الشمال وارتفاعها عن حر الجنوب وفي الحديث : "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها" وكان للمتوكل بيت يسميه بيت مال الشمال فكلما هبت الريح شمالاً تصدق بألف درهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ـ وذكر ـ في سبب مد النيل أن الله تعالى يبعث عليه الريح الشمالي فينقلب عليه من البحر فتصير كالسكر له فيزيد حتى يعم البلاد فإذا بلغ حد الريّ بعث الله عليه ريح الجنوب فأخرجته إلى البحر وليس في الدنيا نهر يضرب من الجنوب إلى الشمال ويمد في شدة الحر حين تنقص الأنهار كلها ويزيد بترتيب وينقص بترتيب غير النيل المبارك وهو أحلى من العسل وأزكى رائحة من المسك ولكنه يتغير بتغير المجاري.
قال وكيع : لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا قيل : الريح تموج الهواء بتأثير الكواكب وسيلانه إلى إحدى الجهات.
والصحيح عند أهل الشرع ما ذكر في الحديث من أنها من روح الله.
والإشارة : أن الله تعالى يرسل رياح الرجاء على قلوب العوام فتكنس قلوبهم من غبار المعاصي وغثاء اليأس ويبشر بدخول نور الإيمان ثم يرسل رياح البسط على أرواح الخواص فيطهرها من وحشة القبض ودنس الملاحظات ويبشرها بدرك الوصال ويرسل رياح التوحيد فتهب على أسرار أخص الخواص ويطهرها من آثار الأغيار ويبشرها بدوام الوصال وذلك قوله تعالى : {مُبَشِّرَاتٍ} أي : حال كون تلك الرياح مبشرات للخلق بالمطر ونحوه ، وبالفارسية : (مده دهند كان بباران تابفرياد شمارسد) {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} وهي : المنافع التابعة لها والجملة معطوفة على مبشرات على المعنى كأنه قيل ليبشركم بها وليذيقكم {وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ} في البحر بسوق الرياح {بِأَمْرِهِ} فالسفن تجري بالرياح والرياح بأمر الله فهي في الحقيقة جارية بأمره.
وفي "الأسرار المحمدية" : لا تعتمد على الريح في استواء السفينة وسيرها وهذا شرك في توحيد الأفعال وجهل بحقائق الأمور ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح لا يتحرك بنفسه بل له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا يتحرك هو في نفسه أيضاً بل هو منزه عن ذلك وعما يضاهيه سبحانه وتعالى {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} يعني تجارة البحر.
وفيه جواز ركوب البحر للتجارة وقد سبق شرائطه في آخر الجلد الثاني.
سود دريانيك بودى كرنبودى بيم موج
صحبت كل خوش بدى كرنيستى تشويش حار
ومن الأبيات المشهورة للعطار قدس سره :
49
بدريا در منافع بى شمارست
اكر خواهى سلامت دركنارست
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وتشكروا نعمة الله فيما ذكر من الغايات الجليلة فتوحدوه وتطيعوه :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
مكن كردن از شكر منعم مي
كه روز سين سربر آرى بهي
ثم حذر من أخل بموجب الشكر فقال :
(7/36)
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِه وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ * اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُه فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُه كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ} .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى قومك {فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} الباء تصلح للتعدية والملابسة أي : جاء كل رسول قومه بما يخصه من الدلائل الواضحة على صدقه في دعوى الرسالة كما جئت قومك بالبراهين النيرة {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} النقمة العقوبة ومنها الانتقام وهو بالفارسية : (كينه كشيدن) والفاء فصيحة أي : فكذبوهم فانتقمنا من الذين أجرموا من الجرم وهو تكذيب الأنبياء والإصرار عليه أي : عاقبناهم وأهلكناهم وإنما وضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على مكان المحذوف وللاشعار بكونه علة للانتقام {وَكَانَ حَقًّا} (سراوار) {عَلَيْنَا} قال بعضهم : واجباً وجوب كرم لا وجوب إلزام.
وفي "الوسيط" : واجباً وجوباً هو أوجبه على نفسه.
وفي "كشف الأسرار" : هذا كما يقال عليّ قصد هذا الأمر أي : أنا أفعله وحقاً خبر كان واسمه قوله {نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} وإنجاؤهم من شر أعدائهم وما أصابهم من العذاب نصر عزيز وإنجاء عظيم.
وفيه إشعار بأن الانتقام للمؤمنين وإظهار لكرامتهم حيث جعلوا مستحقين على الله أن ينصرهم وفي الحديث : "ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم" ثم تلا قوله تعالى : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} .
ـ حكي ـ عن الشيخ أبي علي الروذباري قدس سره : أنه ورد عليه جماعة من الفقراء فاعتل واحد منهم وبقي في علته أياماً فمل أصحابه من خدمته وشكوا ذلك إلى الشيخ أبي علي ذات يوم فخالف الشيخ نفسه وحلف أن لا يتولى خدمته غيره فتولى خدمته بنفسه أياماً ثم مات ذلك الفقير فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه فلما أراد أن يفتح رأس كفنه عند إضجاعه في القبر رآه وعيناه مفتوحتان إليه وقال له : يا أبا علي لأنصرنك بجاهي يوم القيامة كما نصرتني في مخالفتك نفسك.
ففي القصة أمور :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
الأول : أن أحباب الله أحياء في الحقيقة وإن ماتوا وإنما ينقلون من دار إلى دار.
والثاني : ما أشار إليه النبي عليه السلام بقوله : "اتخذوا الأيادي عند الفقراء قبل أن تجيىء دولتهم فإذا كان يوم القيامة يجمع الله الفقراء والمساكين فيقال تصفحوا الوجوه فكل من أطعمكم لقمة أو سقاكم شربة أو كساكم خرقة أو دفع عنكم غيبة فخذوا بيده وأدخلوه الجنة".
والثالث : أن الشفاعة من باب النصرة الإلهية.
وفي الآية تبشير للنبي عليه السلام بالظفر في العاقبة والنصر على ما كذبه وتنبيه للمؤمنين على أن العاقبة لهم لأنهم هم المتقون وقد قال تعالى : {وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص : 83).
سروش عالم غيبم بشارتي خوش داد
كه كس هميشه بكيتى دم نخواهد ماند
وفي "التأويلات النجمية" قوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ} يشير به إلى المتقدمين من المشايخ المنصوبين لتربية قومهم من المريدين ودلالتهم بالتسليك إلى حضرة رب العالمين {فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} على لسان التحقيق في بيان الطريق لأهل التصديق فمن
50
قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق ومن عارضهم بالإنكار والجحود ابتلاهم بعذاب الخلود في الأبعاد والجمود وذلك تحقيق قوله : {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} أي : أنكروا {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} المتقربين إلينا بأن ننصرهم بتقربنا إليهم انتهى اللهم اجعلنا من المنصورين مطلقاً ووجهنا إلى نحو بابك صدقاً وحقاً إنك أنت الناصر المعين ومحول القلوب إلى جانب اليقين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3(7/37)
{اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} رياح الرحمة كالصبا ونحوها {فَتُثِيرُ سَحَابًا} يقال ثار الغبار والسحاب انتشر ساطعاً وقد أثرته.
قال في "تاج المصادر" ، الإنارة : (برانكيختن كرد وشورانيدن زمين وميغ آوردن باد).
والسحاب اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها.
قال في "المفردات" : أصل السحب الجر ومنه السحاب إما لجر الريح له أو لجره الماء.
والمعنى فتنشره تلك الرياح وتزعجه وتخرجه من أماكنه ، وبالفارسية : (برانكيز آن بادهان ابررا) وأضاف الإثارة إلى الرياح وإنما المثير هو الله تعالى لأنها سببها والفعل قد ينسب إلى سببه كما ينسب إلى فاعله {فَيَبْسُطُهُ} (س خداى تعالى بكستراند سحاب را) يعني يجعله متصلاً تارة {فِى السَّمَآءِ} في سمتها {كَيْفَ يَشَآءُ} سائراً وواقفاً مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر من جانب الجنوب أو ناحية الشمال أو سمت الدبور أو جهة الصبا إلى غير ذلك {وَيَجْعَلُه كِسَفًا} تارة أخرى إلى قطعاً ، بالفارسية : (اره اره هر قطعه در طرفي) جمع كسفة وهي قطعة من السحاب والقطن ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة كما في "المفردات" {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي : المطر يا محمد ويا من من شأنه الرؤية.
قيل : الودق في الأصل ما يكون خلال المطر كأنه غبار وقد يعبر به عن المطر {يُخْرِجُ} بالأمر الإلهي {مِنْ خِلَـالِهِ} فرج السحاب وشقوقه في التارتين ، يعني : (در وقتي كه متصل استه ودر وقتى كه متفرق).
قال الراغب : الخلل فرجة بين الشيئين وجمعه خلال نحو خلل الدار والسحاب وقيل : السحاب كالغربال ولولا ذلك لأفسد المطر الأرض.
ـ روي ـ عن وهب بن منبه أن الأرض شكت إلى الله عز وجل أيام الطوفان لأن الله تعالى أرسل الماء بغير وزن ولا كيل فخرج الماء غضباًتعالى فخدش الأرض وخددها ، يعني : (خراشيدروى زمين را وسوراخ كردش) فقالت : يا رب إن الماء خددني وخدشني فقال الله تعالى فيما بلغني والله أعلم إني سأجعل للماء غربالاً لا يخدّدك ولا يخدشك فجعل السحاب غربال المطر {فَإِذَآ أَصَابَ بِه مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الباء للتعدية والضمير للودق.
والمعنى بالفارسية : (س ون بر ساند خداى تعالى بارانرا در اراضي وبلاد هركه خواهد زبندكان خود {إِذَا هُمْ} (آنكاه ايشان) {يَسْتَبْشِرُونَ} (شادمان وخوشدل ميشوند) أي : فاجأوا الاستبشار والفرح بمجيىء الخصب وزوال القحط.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{وَإِن} أي : وإن الشأن {كَانُوا} أي : أهل المطر {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} المطر {مِّن قَبْلِهِ} أي : قبل التنزيل تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم منه {لَمُبْلِسِينَ} أي : آيسين من نزوله خبر كانوا واللام فارقه وقد سبق معنى الإبلاس في أوائل السورة {فَانظُرْ إِلَى ءَاثَـارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} الخطاب وإن توجه نحو النبي عليه السلام فالمراد به جميع
51
المكلفين والمراد برحمة الله المطر لأنه أنزله برحمته على خلقه.
والمعنى فانظروا إلى آثار المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار والأزهار والفاء للدلالة على سرعة ترتب هذه الأشياء على تنزيل المطر {كَيْفَ يُحْىِ} أي : الله تعالى {الارْضِ} بالآثار {بَعْدَ مَوْتِهَآ} أي : يبسها.
قال في "الإرشاد" : كيف الخ في حيز النصب بنزع الخافض وكيف معلق لانظر أي : فانظروا إلى الإحياء البديع للأرض بعد موتها والمراد بالنظر التنبيه على عظيم قدرته وسعة رحمته مع ما فيه من تمهيد أمر البعث {إِنَّ ذَالِكَ} العظيم الشأن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها {لَمُحْىِ الْمَوْتَى} لقادر على إحيائهم في الآخرة فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحياء لمثل ما كان فيها من القوى النباتية {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} أي : مبالغ في القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياء قالب الإنسان بعد موته في الحشر ومن إحياء قلبه بعد موته في الدنيا لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء رجع كل شيء إلى قدرته فلم يعظم عليه شيء فقدرة الله الكاملة بخلاف قدرة العبد فإنها مستفادة من قدرة الله تعالى.
تعالى الله زهى قيوم ودانا
توانايى ده هر ناتوانا
وسيجيىء أن الإنسان خلق من ضعف فالله تعالى أقدره وقواه.
اعلم أن الله سبحانه زين الأرض بآثار قدرته وأنوار فعله وحكمته فأنبت الخضرة وأضاء الزهر وتجلى في صورها لأعين العارفين الذين شاهدوا الله تعالى بنعت الحس ولذا قال الشيخ المغربي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
مغربي زان ميكند ميلى بكلشن كاندر او
هره را رنكى وبويى هست رنك وبوى اوست(7/38)
وسأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام : هل يصبغ ربك؟ قال : نعم يصبغ ألوان الثمار والرياحين الأحمر والأصفر والأبيض والصباغ يقدر بأن يسود الأبيض ولا يقدر بأن يبيض الأسود والله تعالى يبيض الشعر الأسود والقلب الأسود ومن أحسن من الله صبغة.
خرج أبو حفص قدس سره إلى البستان ائتماراً بقوله تعالى :
{فَانظُرْ إِلَى ءَاثَـارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} فأضافه مجوسي في بستان له فلما علم أن قلوب أصحابه نظرت إلى بستان المجوسي قال : اقرأوا {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} (الدخان : 25) الآية ولما أراد أن يخرج أبو حفص أسلم المجوسي وثمانية عشر من أولاده وأقربائه فقال أبو حفص : إذا خرجتم لأجل التفرج فاخرجوا هكذا أشار قدس سره إلى أن هذا الخروج ليس مع النفس والهوى وإلا لم يكن له أثر محمود.
ثم إنه يلزم للإنسان أن ينظر بعين ظاهره إلى زهرة الدنيا وبعين قلبه إلى فنائها ويعتبر أيام الربيع بأنواع الاعتبار وفي الحديث : "إذا رأيتم الربيع فاذكروا النشور" أي : فإن خروج الموتى من القبور كخروج النبات من الأرض فيلزم أن يذكره عند رؤية الربيع ويذكر شمس القيامة عند اشتداد الحر وفي الحديث "إذا كان اليوم حاراً فإذا قال الرجل : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر جهنم قال الله تعالى لجهنم إن عبداً من عبيدي استجار بي من حرك وأنا أشهدك أني قد أجرته وإذا كان اليوم شديد البرد فإذا قال العبد لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله تعالى : إن عبداً من عبيدي استجار بي من زمهريرك وإني
52
أشهدك أني قد أجرته" قالوا : وما زمهرير جهنم؟ قال : "بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده" أي : يتفرق ويتفسخ.
وينبغي أن يذكر بكاء العصاة على الصراط عند رؤية نزول المطر من السماء.
قالت رابعة القيسية : ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي يوم القيامة وما رأيت الثلوج إلا ذكرت تطاير الكتب وما رأيت الجراد إلا ذكرت الحشر.
وأن يذكر حمرة وجوه المشتاقين عند رؤية الريحان الأحمر.
وبياض وجه المؤمنين عند رؤية الأبيض.
وصفرة وجوه العصاة عند رؤية الأصفر.
وغبرة وجوه الشبان والنسوان الحسان في القبر بعد سبعة أيام عند رؤية الريحان الأكهب وهو ماله لون غبرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
وفي "كشف الأسرار" (كل زرد طبيبي است براى شفاى عالم واوخود بيمار.
كل سرخ كويى مست است ازديدار او همه هشيار كشته واودر خمار.
كل سيد كويى ستم رسيده ايست ازدست روزكار جواني بباد داده وعمر رسيده بكنار دروقت اعتدال سال دو آفتاب برآيد از مطلع غيب يكى خورشيد جمال فلكي ويكى خورشيد جمال ملكي آن يكى بركل تابد كل شكفته كردد اين يكى بردل تابد دل افروخته كردد ون كل شكفته شد بلبل بروعاشق شود دل كه افروخته شد نظر خالق در وحاضر بود.
كل باخر بريزد بلبل در هجر او ماتم كيرد.
دل كربماند حق تعالى اورا در كنف الطاف وكرم كيرد ، قلب المؤمن لا يموت أبداً) :
شمى كه تراديد شد ازدرد معاف
جانى كه ترا يافت شد ازمرك مسلم
وخرج ابن السماك قدس سره أيام الربيع فنظر إلى الأنوار فصاح وقال : يا منور الأشجار بأنواع الأنوار نوّر قلوبنا بذكرك وحسن طاعتك.
وبعض الصالحين كانوا يبكون أيام الربيع شوقاً إلى الله تعالى ومنهم من يبكي خوفاً من الفراق.
ـ حكي ـ أن الشيخ الشبلي قدس سره خرج يوماً فوجده أصحابه تحت شجرة يبكي فقيل له في ذلك قال : مررت بهذه الشجرة فقطع منها غصن ووقع على الأرض وهو بعد أخضر لا خبر له بقطعه من أصله فقلت : يا نفس ماذا أنت صانعة أن لو قطعت من الحق ولا علم لك بذلك فجلس أصحابه يبكون.
ويقال الربيع يدل على نعيم الجنة وراحتها والإنسان الكامل في الربيع يظهر تأسفاً وحسرة فلا يدري سبب ذلك وذلك أن الأرواح كلها كانت في صلب آدم عليه السلام حين كان في الجنة فلما تفرقت في أنفس أولاده فإذا رأيت شبه الجنة أو زهرة أو طيباً ذكرت نعيم الجنة فأسفت على مفارقتها وجزعت على الخروج منها.
ونظر بعض العلماء إلى الورد فبكى وقال : إن الميت يبكي في الأرض إلا بياض عينيه فإذا جاء الربيع وانفتح الورد انشق بياض عينيه وإذا تزوجت امرأته انشق قلبه بنصفين.
ويقال في الآية : {رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ} يعني نفس المؤمن بعد يبوستها من الطاعات.
ـ روي ـ في الخبر "من أحيى أرضاً ميتة فهي له" فالله تعالى أحيى نفس المؤمن وقلبه فهو له لا للشيطان كذلك التائب إذا أحيى نفسه بالطاعة فهو للجنة لا للنار.
ويقال يحيي النفوس بعد فترتها بصدق الإرادات ويحيى القلوب بعد غفلتها بأنوار المحاضرات ويحيى الأرواح بعد حجبتها بدوام المشاهدات.
أموت إذا ذكرتك ثم أحيى
فكم أحيى عليكم وكم أموت
53
والقلب بستان العارف وجنته وحياته بمعرفة الله تعالى فمن نظر إلى أنواره استغنى عن العالم وأزهاره ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
صوفى در باغ از بهر كشاد
(7/39)
صوفيانه روى بر زانو نهادس فرو رفت او بخود اندر نغول
شد ملول از صورت خوابش فضول
كه ه خسبى آخر اندر رز ذمكر
اين درختان بين وآثار خضر
امر حق بشنوكه كفت است انظروا
سوى اين آثار رحمت آر رو
كفت آثارش دلست اى بو الهوس
آن برون آثار آثارست وس
باغها وميوها اندر دلست
عكس لطف آن برين آب وكلست
ون حيات ازحق بكيرى اى روى
س غنى كردى زكل دردل روى نسأل الله تعالى أن يفتح بصائرنا لمشاهدة آثار رحمته ومطالعة أنوار صفاته ويأذن لنا في دخول بستان أسرار ذاته والانتقال إلى حرم هويته من حريم آياته وبيناته إنه مفيض الخير والمراد ومحيى الفؤاد.
{فَانظُرْ إِلَى ءَاثَـارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآا إِنَّ ذَالِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَلَـاـاِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِنا بَعْدِه يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
{وَلَـاـاِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ} اللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط والريح ريح العذاب كالدبور ونحوها والفاء فصيحة والضمير المنصوب راجع إلى أثر الرحمة المدلول عليه بالآثار دلالة الجمع على واحده أو النبات المعبر عنه بالآثار فإنه اسم جنس يعم القليل والكثير.
والمعنى وبالله لئن أرسلنا ريحاً مضرة حارة أو باردة فأفسدت زرع الكفار فرأوه {مُصْفَرًّا} من تأثير الريح أي : قد اصفر بعد خضرته وقرب من الجفاف والهلاك.
والاصفرار بالفارسية : (زرد شدن) والصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض وهو إلى البياض أقرب {لَّظَلُّوا} اللام لام جواب القسم الساد مسد الجوابين ولذلك فسر الماضي بالاستقبال أي : يظلون وظل يظل بالفتح أصله العمل بالنهار ويستعمل في موضع صار كما في هذا المقام.
والمعنى الفارسية : (هر آينه باشند) {مِنا بَعْدِهِ} أي : بعد اصفرار الزرع والنبت {يَكْفُرُونَ} من غير توقف وتأخير يعني أن الكفار لا اعتماد لهم على ربهم فإن أصابهم خير وخصب لم يشكروا الله ولم يطيعوه وأفرطوا في الاستبشار وإن نالهم أدنى شيء يكرهونه جزعوا ولم يصبروا وكفروا سالف النعم ولم يلتجئوا إليه بالاستغفار وليس كذلك حال المؤمن فإنه يشكر عند النعمة ويصبر عند المحنة ولا ييأس من روح الله ويلتجىء إليه بالطاعة والاستغفار ليستجلب الرحمة في الليل والنهار ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
ون فرود آيد بلا بى دافعى
ون نباشد از تضرع شافعيجز خضوع وبندكى واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبارونكه غم بينى تو استغفار كن
غم بامر خالق آمد كار كن وفي الآية إشارة إلى أن ريح الشقاوة الأزلية إذا هبت من مهب القهر والعزة على زروع معاملات الأشقياء وإن كانت مخضرة أي : على وفق الشرع تجعلها مصفرة يابسة تذروها الرياح كأَعمال المنافق فيصيرون من بعد الإيمان التقليدي بالنفاق يكفرون بالله وبنعمته وهذا الكفر أقبح من الكفر المتعلق بالنعمة فقط نعوذ بالله من درك الشقاء وسوء الحال وسيآت الأقوال
54
والأفعال.
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي : من كان من الكفار كما وصفنا فلا تطمع يا محمد في فهمهم مقالتك وقبولهم دعوتك فإنك لا تسمع الموتى.
والكفار في التشبيه كالموتى لانسداد مشاعرهم عن الحق وهم الذين علم الله قبل خلقهم أنهم لا يؤمنون به ولا برسله.
وفي الآية دليل على أن الأحياء قد يسمون أمواتاً إذا لم يكن لهم منفعة الحياة.
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أجسادهم مفقودة وآثارهم بين الورى موجودة.
واعلم أن الكفر موت القلب كما أن العصيان مرضه فمن مات قلبه بالكفر بطل سمعه بالكلية فلا ينفعه النصح أصلاً ومن مرض قلبه بالعصيان فيسمع سمعاً ضعيفاً كالمريض فيحتاج إلى المعالجة في إزالته حتى يعود سمعه إلى الحالة الأولى ثم أشار تعالى إلى تشبيه آخر بقوله : {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ} جمع أصم والصمم فقدان حاسة السمع وبه شبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله كما في "المفردات" {الدُّعَآءَ} أي : الدعاء ، وبالفارسية : (خواندن) {إِذَا وَلَّوْا} أعرضوا عن الداعي حال كونهم {مُدْبِرِينَ} تاركين له وراء ظهورهم فارين منه وتقييد الحكم بإذا الخ لبيان كمال سوء حال الكفرة والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء ينبوّ أسماعهم عن الحق وإعراضهم عن الإصغاء إليه ولو كان فيهم إحداهما لكفتهم فكيف وقد جمعوهما فإن الأصم المقبل إلى التكلم ربما يتفطن منه بواسطة أوضاعه وحركات فمه وإشارات يده ورأسه شيئاً من كلامه وإن لم يسمعه أصلاً وأما إذا كان معرضاً عنه يعني : (كرى كه شت بر متكلم دارد) فلا يكاد يفهم منه شيئاً ثم أشار إلى تشبيه آخر بقوله :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/40)
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَـادِ الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بآياتنا فَهُم مُّسْلِمُونَ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ} .
{وَمَآ أَنتَ بِهَـادِ الْعُمْىِ} جمع أعمى وهو فاقد البصر {عَن ضَلَـالَتِهِمْ} متعلق بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف سماهم عمياً إما لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمي قلوبهم كما في "الإرشاد" ، وبالفارسية : (ونيستى توراه نماينده كوردلان ازكمراهى ايشان يعنى قادرنيستى بر آنكه توفيق ايمان دهى مشركانرا) فإنهم ميتون والميت لا يبصر شيئاً كما لا يسمع شيئاً فكيف يهتدي {أَنَّ} ما {تُسْمِعُ} مواعظ القرآن ونصائحه {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِ الْعُمْىِ} فإن إيمانهم يدعوهم إلى التدبر فيها وتلقيها بالقبول.
يعني أن الإيمان حياة القلب فإذا كان القلب حياً يكون له السمع والبصر واللسان ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان أي : إلا من يشارف الإيمان بها ويقبل عليها إقبالاً حقيقياً {فَهُم مُّسْلِمُونَ} تعليل لإيمانهم أي : منقادون لما تأمرهم به من الحق.
وفي "التأويلات النجمية" : مستسلمون لأحكام الشريعة وآداب الطريقة في التوجه إلى عالم الحقيقة انتهى فإن الأحكام والآداب كالجناحين للسالك الطائر إلى الله تعالى فالمؤمن مطلقاً سواء كان سالكاً إلى طريق الجنان أو إلى طريق قرب الرحمان يعرض عن النفس والشيطان ويقبل على داعي الحق بالوجه والجنان ، قال حضرة الشيخ العطار قدس سره في الهي نامه :
يكى مر غيست اندر كوه ايه
كه درسالى نهد ل روزخايه
بحد شام باشد جاى اورا
بسوى بيضه نبود راى اورا
وبنهد بيضه درل روزبسيار
شود از شم مردم نابديدار
55
يكى بيكانه مرغى آيد از راه
نشيند بر سرآن بيضه آنكاه
نان آن بيضه درزير ر آرد
كه تاروزى از وبه بر آرد
نانش برورد آن دايه يوست
كه ندهد هي كس را آننان دست
وجوقى به اور بر آرند
بيكده روى دريكديكر آرند
در آيد زود مادر شان بروان(ز
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
نشيند بر سر كوهى سر افراز
كند بانكى عجب ازدور ناكاه
كه آن خيل به كردند آكاه
و بنيوشند بانك مادر خويش
شوند از مرغ بيكانه برخويش
بسوى مادر خود بازكردند
وزان مرغ دكر ممتاز كردند
اكر روزى دكر ابليس مغرور
كرفته زير رهستى تومعذور
كه ون كردد خطاب خودبديدار
بسوى حق شود زابليس بيزار
فعلى العاقل أن يرجع إلى أصله من صحبة الفروع ويجتهد في أن يحصل له سمع الروع قبل أن تنسدّ الحواس وينهدم الأساس.
{اللَّهِ} مبتدأ خبره قوله : {الَّذِى خَلَقَكُمْ} أوجدكم أيها الإنسان {مِّن ضَعْفٍ} أي : من أصل ضعيف هو النطفة أو التراب على تأويل المصدر باسم الفاعل.
والضعف بالفتح والضم خلاف القوة وفرقوا بأن الفتح لغة تميم واختاره عاصم وحمزة في المواضع الثلاثة والضم لغة قريش واختاره الباقون ولذا لما قرأه ابن عمر رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالفتح اقرأه بالضم {ثُمَّ} للتراخي في الزمان {جَعَلَ} خلق لأنه عدى لمفعول واحد {مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ} آخر وهو الضعف الموجود في الجنين والطفل {قُوَّةً} هي القوة التي تجعل للطفل من التحرك واستدعائه اللبن ودفع الأذى عن نفسه بالبكاء.
قال بعض العلماء أول ما يوجد في الباطن حول ثم ما يجربه في الأعضاء قوة ثم ظهور العمل بصورة البطش والتناول قدرة {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ} أخرى هي التي بعد البلوغ وهي قوة الشباب {ضَعْفًا} آخر هو ضعف الشيخوخة والكبر {وَشَيْبَةً} شيبة الهرم والشيب والمشيب بياض الشعر ويدل على أن كل واحد من قوله ضعف وقوة إشارة إلى حالة غير الحالة الأولى ذكره منكراً والمنكر متى أعيد ذكره معرفاً أريد به ما تقدم كقولك رأيت رجلاً فقال لي الرجل كذا ومتى أعيد منكراً أريد به غير الأول ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الانشراح : 5 ـ 6) لن يغلب عسر يسرين هكذا حققه الإمام الراغب وتبعه أجلاء المفسرين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/41)
وفي "التأويلات النجمية" {خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} في البداية وهو ضعف العقل {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} في العقل بالبراهين والحجج {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} في الإيمان لمن كان العقل عقيله فيعقله بعلاقة المعقولات فينظر فيها بداعية الهوى بنظر مشوب بآفة الوهم والخيال فيقع في ظلمات الشبهات فتزل قدمه عن الصراط والدين القويم فيهلك كما هلك كثير ممن شرع في تعلم المعقولات لإطفاء نور الشريعة وسعى في إبطال الشريعة بظلمة الطبيعة يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وأيضاً {خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} التردد والتحير في الطلب
56
{ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} في صدق الطلب {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ} في الطلب {ضَعْفًا} في حمل القول الثقيل وهو حقيقة قول لا إله إلا الله فإنها توجب الفناء الحقيقي وتوجب الضعف الحقيقي في الصورة بحمل المعاتبات والمعاشقات التي تجرى بين المحبين فإنها تورث الضعف والشيبة كما قال صلى الله عليه وسلّم "شيبتني سورة هود وأخواتها" فإن فيها إشارة من المعاشقات بقوله : {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} (هود : 112) {يَخْلُقُ} الله تعالى {مَا يَشَآءُ} من الأشياء التي من جملتها ما ركب من الضعف والقوة والشباب والشيبة.
يعني هذا ليس طبعاً بل بمشيئة الله تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" : {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} من القوة والضعف في السعيد والشقي فيخلق في السعيد قوة الإيمان وضعف البشرية وفي الشقي قوة البشرية لقبول الكفر وضعف الروحانية لقبول الإيمان {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الْقَدِيرُ} بتحويله من حال إلى حال.
وأيضاً العليم بأهل السعادة والشقاوة والتقدير بخلق أسباب السعادة والشقاء فيهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
واعلم أن نفس الإنسان أقرب إلى الاعتبار من نفس غيرهم ولذا أخبر عن خلق أنفسهم في أطوار مختلفة ليتغيروا ويتقلبوا وينتقلوا من معرفة هذا التغير والتقلب إلى معرفة الصانع الكامل بالعلم والقدرة المنزه عن الحدوث والإمكان ويصرفوا القوى إلى طاعته.
قال بعضهم رحم الله امرأ كان قوياً فأعمل قوته في طاعة الله أو كان ضعيفاً فكف لضعفه عن معصية الله.
قيل إذا جاوز الرجل الستين وقع بين قوة العلل وعجز العمل وضعف الأمل ووثبة الأجل فلا بد للشبان من دفع الكسل وسد الخلل وقد أثنى عليهم رسول الله عليه السلام خيراً حيث قال : "أوصيكم بالشبان خيراً ثلاثاً فإنهم أرق أفئدة ألا وإن الله أرسلني شاهداً ومبشراً ونذيراً فخالصني الشبان وخالفني الشيوخ" ، يعني : (وصيت ميكنم شمارا به جوانا نكه بهتراند سه بار زيرا كه ايشان رحيم دل ترند ركاه باشيد خداى تعالى مرا فرستاد شاهد ومبشر ونذير دوستى كردند بامن جوانان ومخالفت كردند يران) وأثنى على الشيوخ أيضاً حيث قال : "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ما لم يخضبها أو ينتفها" والمراد الخضاب بالسواد فإنه حرام لغير الغزاة وحلال لهم ليكونوا أهيب في عين العدو وأما الخضاب بالحمرة والصفرة فمستحب ودل قوله : {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} على أن الله تعالى لو لم يخلق الشيب في الإنسان ما شاب وأما قول الشاعر :
أشاب الصغير وأفنى الكبيـ
ـر كر الغداة ومر العشى
فمن قبيل الإسناد المجازي.
ونظر أبو يزيد قدس سره إلى المرآة فقال : ظهر الشيب ولم يذهب العيب ولا أدري ما في الغيب.
يا عامر الدنيا على شيبه
فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عذر من يعمر بنيانه
وجسمه مستهدم يخرب
قال الشيخ سعدي قدس سره :
كنون بايد اى خفته بيدار بود
و مرك اندر آردز خوابت ه سود
وشيب اندر آمد بروى شباب
شبت روز شد ديده بركن زخواب
من آن روز بر كندم از عمر اميد
كه افتادم اندر سياهى سيد
57
دريغاكه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دمى ند نيز
فرو رفت جم را يكى نازنين
كفن كرد ون كرمش ابريشمين
يدخمه در آمد س از ند روز
كه بروى بكريد بزارى وسوز
و وسيده ديدش حرير كفن
بفكرت نين كفت باخويشتن
من ازكرم بركنده بودم بزور
بكندند ازو باز كرمان كور
ـ روي ـ أن عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبل لحيته فقيل : تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "إن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه".
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
(7/42)
ـ روي ـ أن الحسن البصري رحمه الله رأى بنتاً على قبر تنوح وتقول : يا أبت كنت أفرش فراشك فمن فرشه الليلة يا أبت كنت أطعمك فمن أطعمك الليلة إلى غير ذلك فقال الحسن : لا تقولي كذلك بل قولي يا أبت وضعناك متوجهاً إلى القبلة فهل بقيت أو حولت عنها يا أبت هل كان القبر روضة لك من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران يا أبت هل أجبت الملكين على الحق أو لا فقالت : ما أحسن قولك يا شيخ وقبلت نصيحته.
فعلى العاقل أن يتذكر الموت ويتفكر في بعد السفر ويتأهب بالإيمان والأعمال مثل الصلاة والصيام والقيام ونحوها وأفضلها إصلاح النفس وكف الأذى عن الناس بترك الغيبة والكذب وتخليص العملتعالى وذلك يحتاج إلى قوة التوحيد بتكريره وتكريره بصفاء القلب آناء الليل وأطراف النهار.
{اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةًا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍا كَذَالِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَـانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِا فَهَـاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـاكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} أي : القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وبداهة وصارت علماً لها بالغلبة كالنجم للثريا والكوكب للزهرة.
وفي "فتح الرحمن" : ويوم تقوم الساعة التي فيها القيامة {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} يحلف الكافرون يقال اقسم أي : حلف أصله من القسامة وهي إيمان تقسم على المتهمين في الدم ثم صار اسماً لكل حلف {مَا لَبِثُوا} في القبور وما نافية ولبث بالمكان أقام به ملازماً له {غَيْرَ سَاعَةٍ} أي : إلا ساعة واحدة هي جزؤ من أجزاء الزمان استقلوا مدة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً ويقال ما لبثوا في الدنيا والأول هو الأظهر لأن لبثهم معني بيوم البعث كما سيأتي وليس لبثهم في الدنيا كذلك {كَذَالِكَ} مثل ذلك الصرف ، وبالفارسية : (مثل اين بركشتن ازراستى در آخرت) {كَانُوا} في الدنيا بإنكار البعث والحلف على بطلانه كما أخبر سبحانه في قوله : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ} من يموت {يُؤْفَكُونَ} (النحل : 38) يقال افك فلان إذا صرف عن الصدق والخير أي : يصرفون عن الحق والصدق فيأخذون في الباطل والأفك والكذب يعني كذبوا في الآخرة كما كانوا يكذبون في الدنيا ، وبالفارسية : (كار ايشان دروغ كفتن است درين سرا ودران سرا).
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
واعلم أن الله تعالى خلق الصدق فظهر من ظله الإيمان والإخلاص وخلق الكذب فظهر من ظله الكفر والنفاق فأنتج الإيمان المتولد من الصدق أن يقول المؤمنون يوم القيامة الحمدالذي صدقنا وعده وهذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ونحوه وأنتج الكفر المتولد من الكذب أن يقول الكافرون يومئذٍ والله ما كنا مشركين وما لبثوا غير ساعة ونحوه من الأكاذيب ، قال الحافظ :
58
بصدق كوش كه خوشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست
يعني : أن آخر الصدق النور كما أن آخر الصبح الصادق الشمس وآخر الكذب الظلمة كما أن آخر الصبح الكاذب كذلك.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَـانَ} في الدنيا من الملائكة والأنس رداً لهم وإنكاراً لكذبهم {لَقَدْ} والله قد {لَبِثْتُمْ فِى كِتَـابِ اللَّهِ} وهو التقدير الأزلي في أم الكتاب أي : علمه وقضائه {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} (تاروز انكيختن) وهو مدة مديدة وغاية بعيدة لا ساعة حقيقة.
وفي الحديث : "ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون" وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام والظاهر أربعون سنة أو أربعون ألف سنة ثم أخبروا بوقوع البعث تبكيتاً لهم لأنهم كانوا ينكرونه فقالوا : {فَهَـاذَا} الفاء جواب شرط محذوف أي : إن كنتم منكرين البعث فهذا {يَوْمِ الْبَعْثِ} الذي أنكرتموه وكنتم توعدون في الدنيا أي : فقد تبين بطلان إنكاركم {وَلَـاكِنَّكُمْ} من فرط الجهل وتفريط النظر {كُنتُمْ} في الدنيا {لا تَعْلَمُونَ} أنه حق سيكون فتستعجلون به استهزاء.
{فَيَوْمَـاـاِذٍ} أي : يوم القيامة {لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي : أشركوا {مَعْذِرَتُهُمْ} أي : عذرهم وهو فاعل لا ينفع.
(7/43)
والعذر تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه بأن يقول لم أفعل أو فعلت لأجل كذا فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنباً أو فعلت ولا أعود ونحو ذلك وهذا الثالث هو التوبة فكل توبة عذر وليس كل عذر توبة وأصل الكلمة من العذرة وهي الشيء النجس تقول عذرت الصبي إذا طهرته وأزلت عذرته وكذا عذرت فلاناً إذا أزلت نجاسة ذنبه بالعفو عنه كذا في "المفردات".
وقال في "كشف الأسرار" أخذ من العذار وهو الستر {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الاعتاب إزالة العتب أي : الغضب والغلظة ، وبالفارسية : (خوشنود كردن) والاستعتاب طلب ذلك ، يعني : (ازكسى خواستن كه ترا خوشنود كند) من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي : استرضاني فأرضيته.
والمعنى لا يدعون إلى ما يقتضي أعتابهم أي : إزالة عتبهم وغضبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا إذ لا يقبل حينئذٍ توبة ولا طاعة وكذا لا يصح رجوع إلى الدنيا لإدراك فائت من الإيمان والعمل ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
كنونت كه شم است اشكى ببار
زبان دردهانست عذري بيار
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه ون نفس ناطق ز كفتن بخفت
بشهر قيامت مرو تنكدست
كه وجهى ندارد بحسرت نشست
وفي الآية : إشارة إلى أن القالب للإنسان كالقبر للميت فهم يستقصرون يوم البعث أيامهم الدنيوية الفانية المتناهية وإن طالت مدتهم بالنسبة إلى صباح الحشر فإنه يوم طويل.
قال عليه السلام : "الدنيا ساعة فاجعلها طاعة".
واحتضر عابد فقال : ما تأسفي على دار الأحزان والغموم والخطايا والذنوب وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة وقد مضى ستة آلاف وليأتينّ عليها مئون من سنين ليس عليها موحد يعني قرب القيامة فإنه حينئذٍ ينقرض أهل الإيمان لما أراد الله من فناء الدنيا ثم ينتهي دور السنبلة وينتقل الظهور إلى
59
البطون ثم بعد تمام مدة البرزخ وينفخ في الصور فيبعث أهل الإيمان على ما ماتوا عليه من التوحيد ويبعث أهل الكفر على ما هلكوا عليه من الإشراك وتكون الدنيا ومدتها وما تحويه من الأمور والأحوال نسياً منسياً فيا طوبى لمن صام طول نهاره حتى يطعمه الله في ذلك اليوم الطويل من نعم جناته ولمن قام طول ليلته فيقيمه الله في ظل عرشه إراحة له من الكدر ولمن وقع في نار محبته فيخلصه من نار ذلك اليوم ويحيطه بالنور فإنه لا يجتمع شدة الدنيا وحدة الآخرة للمؤمن المتقي ، قال الشيخ العطار في الهي نامه :
مكر يكروز دربازار بغداد
بغايت آتشى سوزنده افتاد
فغان برخاست از مردم بيكبار
وزان آتش قيامت شد بديدار
بزه بريره زالى مبتلايى
عصا دردست مى آمد زجايى
يكى كفتا مكر ديوانه تو
كه افتاد آتش اندر خانه تو
زنش كفتا تويى ديوانه من
كه حق هركز نسوزدخانه من
بآخر ون بسوخت عالم جهانى
نبود آن زال را زآتش زيانى
بد وكفتندهان اى زال دمساز
بكو كزه بدانستى تواين راز
نين كفت آنكهى زال فروتن
كه ياخانه بسوزد يادل من
وسوخت ازغم دل ديوانه را
نخواهد سوخت آخر خانه را
فعلى العاقل أن يكون على مراد الله في أحكامه وأوامره حتى يكون الله تعالى على مراده في إنجائه من ناره والاسترضاء لا يكون إلا في الدنيا فإنها دار تكليف فإذا جاء الموت يختم الفم والأعضاء وتنسد الحواس والقوى وطرق التدارك بالكلية فيبقى كل امرىء مرهوناً بعمله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي : وبالله لقد بينا لهم كل حال ووصفنا لهم كل صفة كأنها في غرابتها كالأمثال وذلك كالتوحيد والحشر وصدق الرسل وسائر ما يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا مما يهتدي به المتفكر ويعتبر به الناظر المتدبر {وَلَـاـاِن جِئْتَهُم} (اكر بيارى تو اى محمد عليه السلام بديشان يعني بمنكران متعاندان) {بِـاَايَةٍ} من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك {لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين للنهي عليه السلام والمؤمنين {أَنَّ} ما {أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} مزوّرون يقال أبطل الرجل إذا جاء بالباطل وأكذب إذا جاء بالكذب.
وفي "المفردات" الإبطال يقال في إفساد الشيء وإزالته حقاً كان ذلك الشيء أو باطلاً قال تعالى : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ} (الأنفال : 8) وقد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له قال تعالى : {إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍا وَلَـاـاِن جِئْتَهُم بِـاَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ * كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} .
(7/44)
{كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك الطبع الفظيع {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم بسبب اختيارهم الكفر ، وبالفارسية : (مهرمى نهد خداى تعالى) {عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها وترهات فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق.
واعلم أن الطبع أن يصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وهو أعم من الختم وأخص من النقش والطابع والخاتم ما يطبع به ويختم والطابع فاعل ذلك وبه اعتبر الطبع
60
والطبيعة التي هي السجية فإن ذلك هو نقش النفس بصورة ما أما من حيث الخلقة أو من حيث العادة وهو فيما ينقش به من جهة الخلقة أغلب وشبه إحداث الله تعالى في نفوس الكفار هيئة تمرنهم وتعودهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات بسبب إعراضهم عن النظر الصحيح بالختم والطبع على الأواني ونحوها في أنهما مانعان فإن هذه الهيئة مانعة عن نفوذ الحق في قلوبهم كما أن الختم على الأواني ونحوها مانع عن التصرف فيها ثم استعير الطبع لتلك الهيئة ثم اشتق منه يطبع فيكون استعارة تبعية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذاهم قولاً وفعلاً {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصرتك وإظهار دينك {حَقٌّ} لا بد من إنجازه والوفاء به (نكه داريد وقت كارها را كه هركارى بوقتى بازيسته است) {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي : لا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً.
قال في "المفردات" : لا يزعجنك ولا يزيلنك عن اعتقادك بما يوقعون من الشبه {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} الإيقان (بى كمان شدن) واليقين أخذ من اليقين وهو الماء الصافي كما في "كشف الأسرار" أي : لا يوقنون بالآيات بتكذيبهم إياها وأذاهم بأباطيلهم التي من جملتها قولهم إن أنتم إلا مبطلون فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع منهم أمثال ذلك فظاهر النظم الكريم وإن كان نهياً للكفرة عن استخفافه عليه السلام لكنه في الحقيقة نهى له عن التأثر من استخفافهم على طريق الكناية.
ـ روي ـ أنه لما مات أبو طالب عم النبي عليه السلام بالغ قريش في الأذى حتى أن بعض سفهائهم نثر على رأسه الشريفة التراب فدخل عليه السلام بيته والتراب على رأسه فقام إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي ورسول الله عليه السلام يقول لها : "لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك" وكذا أوذي الأصحاب كلهم فصبروا وظفروا بالمراد فكانت الدولة لهم ديناً ودنيا وآخرة ، قال الحافظ :
دلادر عاشقى ثابت قدم باش
كه دراين ره نباشد كار بى اجر
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {فَاصْبِرْ} يشير إلى الطالب الصادق فاصبر على مقاساة شدائد فطام النفس عن مألوفاتها تزكية لها وعلى مراقبة القلب عن التدنس بصفات النفس تصفية له وعلى معاونة الروح على بذل الوجود لنيل الجود تحلية له {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فيما قال : "ألا من طلبني وجدني".
{وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} يشير به إلى استخفاف أهل البطالة واستجهالهم أهل الحق وطلبه وهم ليسوا أهل الإيقان وإن كانوا أهل الإيمان التقليدي يعني لا يقطعون عليك الطريق بطريق الاستهزاء والإنكار كما هو عادة أهل الزمان يستخفون طالبي الحق وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويزرونهم وينكرون عليهم فيما يفعلون من ترك الدنيا وتجردهم عن الأهالي والأولاد والأقارب وذلك لأنهم لا يوقنون بوجوب طلب الحق تعالى ويجب على طالبي الحق أولاً التجريد لقوله تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَـادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن : 14) وبعد تجريد الظاهر يجب عليهم التفريد وهو قطع تعلق القلب من سعادة الدارين وبهذين القدمين وصل من وصل إلى مقام التوحيد كما قال بعضهم خطوتان وقد وصلت قال الشيخ العطار قدس سره :
مكرسنك وكلوخى بود درراه
بدريايى در افتادند ناكاه
61
بزارى سنك كفتا غرقه كشتم
كنون باقعر كويم سر كذشتم
وليكن آن كلوخ ازخود فناشد
ندانم تاكجا رفت وكجاشد
كلوخى بى زبان آواز برداشت
شنود آن راز اوهركو خبر داشت
كه ازمن در دوعالم تن نماندست
وجودم يك سرسوزن نماندست
زمن نه جان ونه تن مى توان ديد
همه درياست روشن مى توان ديد
اكر همرنك دريا كردى امروز
شوى دروى توهم درشب افروز
وليكن تاتوخواهى بود خودرا
نخواهى يافت جانرا وخردرا
وفي "المثنوي" :
آن يكى نحوى بكشستى درنشست
روبكشيتبان نهاد آن خود رست
كفت هي ازنحو خواندى كفت لا
كفت نيم عمر توشد درفنا
دل شكسته كشت كشتيبان زتاب
ليك اندم كرد خاموش از جواب
باد كشتى را بكردابى فكند
كفت كشتيبان بآن نحوى بلند
هي دانى آشنا كردن بكو
كفت نى از من توسباهى مجو
كفت كل عمرت اى نحوى فناست
زانكه كشتى غرق اين كردابهاست
محومى بايد نه نحو انيجا بدان
كر تومحوى بى خطر درآب ران
آب دريا مرده را برسرنهد
وربود زنده زدر يا كى رهد
ون بمردى تو زاوصاف بشر
بحر اسرارت نهد بر فرق سر
(7/45)
تم تفسير سورة الروم وما يتعلق بها من العلوم بعون الله ذي الإمداد على كافة العباد يوم السبت السادس من شهر الله رجب المنتظم في شهور سنة تسع ومائة وألف من الهجرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 3(7/46)
سورة لقمان
أربع وثلاثون آية مكية
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{الم} أي : هذه سورة الم.
قال بعضهم الحروف المقطعات مبادي السور ومفاتيح كنوز العبر.
والإشارة ههنا بهذه الحروف الثلاثة إلى قوله : أنا الله ولي جميع صفات الكمال ومني الغفران والإحسان.
وقال بعضهم : الألف إشارة إلى إلفة العارفين واللام إلى لطف صنعه مع المحسنين والميم إلى معالم محبة قلوب المحبين.
وقال بعضهم يشير بالألف إلى آلائه وباللام إلى لطفه وعطائه وبالميم إلى مجده وثنائه فبآلائه رفع الجحد من قلوب الأولياء وبلطف عطائه أثبت المحبة في أسرار أصفيائه وبمجده وثنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه :
مراورا رسد كبريا ومنى
كه ملكش قد يمست وذاتش غنى
{تِلْكَ} أي : هذه السورة وآياتها {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} أي : ذي الحكمة لاشتماله عليها أو المحكم المحروس من التغيير والتبديل والممنوع من الفساد والبطلان فهو فعيل بمعنى المفعل وإن كان قليلاً كما قالوا أعقدت اللبن فهو عقيد أي : معقد.
{تِلْكَ ءَاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
{هُدًى} من الضلالة
62
وهو بالنصب على الحالية من الآيات والعامل معنى الإشارة {وَرَحْمَةً} من العذاب.
وقال بعضهم سماه هدى لما فيه من الدواعي إلى الفلاح والإلطاف المؤدية إلى الخيرات فهو هدى ورحمة للعابدين ودليل وحجة للعارفين.
وفي "التأويلات النجمية" هدى يهدي إلى الحق ورحمة لمن اعتصم به يوصله بالجذبات المودعة فيه إلى الله تعالى {لِّلْمُحْسِنِينَ} أي : العاملين للحسنات والمحسن لا يقع مطلقاً إلا مدحاً للمؤمنين.
وفي تخصيص كتابه بالهدي والرحمة للمحسنين دليل على أنه ليس يهدي غيرهم.
وفي "التأويلات" : المحسن من يعتصم بحبل القرآن متوجهاً إلى الله ولذا فسر النبي عليه السلام الإحسان حين سأله جبريل ما الإحسان؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه" فمن يكون بهذا الوصف بكون متوجهاً إليه حتى يراه ولا بد للمتوجه إليه أن يعتصم بحبله وإلا فهو منزه عن الجهات فلا يتوجه إليه لجهة من الجهات انتهى.
ولذا قال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب؟ قال : يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ إشارة إلى أنه ليس هناك شيء من الأين حتى يتوجه إليه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
صوفي ه فغانست كه من اين إلى اين
اين نكته عيانست من العلم إلى العين
جامى مكن انديشه زنزديكى ودورى
لا قرب ولا بعد ولا وصل ولا بين
ثم إن أريد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين فقوله تعالى :
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} الخ صفة كاشفة للمحسنين وبيان لما عملوه من الحسنات فاللام في للمحسنين لتعريف الجنس وإن أريد بها جميع الحسنات الاعتقادية والعملية على أن يكون اللام للاستغراق فهو تخصيص لهذه الثلاث بالذكر من بين سائر شعبها لإظهار فضلها على غيرها ومعنى إقامة الصلاة أداؤها وإنما عبر عن الأداء بالإقامة إشارة إلى أن الصلاة عماد الدين.
وفي "المفردات" إقامة الشيء توفية حقه وإقامة الصلاة توفية شرائطها لا الإتيان بهيئتها ، يعني : (شرائط نماز دوقسم است فسمى را شرائط جواز كويند يعني فرائض وحدود وأوقات آن وقسمي را شرائط قبول كويند يعني تقوي وخشوع وإخلاص وتعظيم وحرمت آن قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة : 27) وتاهردو قسم بجاى نيارد معنى اقامت درست نشود ازينجاست كه رب العزه در قرآن هرجا كه بنده را نماز فرمايد ويابناى مدح كند {أَقِيمُوا الصَّلَواةَ} (البقرة : 83) {وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} (البقرة : 30) كويد "صلوا ويصلون" نكويد).
وفي "التأويلات النجمية" : {يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} أي : يديمونها بصدق التوجه وحضور القلب والإعراض عما سواه انتهى أشار إلى معنى آخر لأقام وهو إدام كما قاله الجوهري وفي الحديث "إن بين يدي الخلق خمس عقبات لا يقطعها إلا كل ضامر ومهزول" فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما هي يا رسول الله قال عليه السلام : "أولاها الموت وغصته.
وثانيتها القبر ووحشته وضيقه.
وثالثتها سؤال منكر ونكير وهيبتهما.
ورابعتها الميزان وخفته.
وخامستها الصراط ودقته" فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه المقالة بكى بكاء كثيراً حتى بكت السموات السبع والملائكة كلها فنزل جبريل وقال : يا محمد قل لأبي بكر حتى لا يبكي أما سمع من العرب كل داء له دواء إلا الموت ثم قال : "من صلى صلاة الفجر هان عليه الموت وغصته ومن صلى صلاة العشاء هان عليه الصراط ودقته ومن
63(7/47)
صلى صلاة الظهر هان عليه القبر وضيقه ومن صلى صلاة العصر هان عليه سؤال منكر ونكير وهيبتهما ومن صلى صلاة المغرب هان عليه الميزان وخفته" ويقال : من تهاون في الصلاة منع الله منه عند الموت قول لا إله إلا الله {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي : يعطونها بشرائطها إلى مستحقيها من أهل السنة فإن المختار أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى أهل البدع كما في الأشباه.
يقال : من منع الزكاة منع الله منه حفظ المال ومن منع الصدقة منع الله منه العافية كما قال عليه السلام : "حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة ومن منع العشر منع الله منه بركة أرضه".
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
وفي "التأويلات النجمية" : {وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} تزكية للنفس.
فزكاة العوام من كل عشرين ديناراً نصف دينار لتزكية نفوسهم من نجاسة البخل كما قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة : 103) فبإيتاء الزكاة على وجه الشرع ورعاية حقوق الأركان الأخرى نجاة العوام من النار.
وزكاة الخواص من المال كله لتصفية قلوبهم من صدأ محبة الدنيا.
وزكاة أخص الخواص بذل الوجود ونيل المقصود من المعبود كما قال عليه السلام : "من كانكان الله له" ، وفي "المثنوي" :
ون شدى من كانازوله
من ترا بالشم كه كان الله له
{وَهُم بِالاخِرَةِ} أي : بالدار الآخرة والجزاء على الأعمال سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا {هُمْ يُوقِنُونَ} فلا يشكون في البعث والحساب (والإيقان بي كمان شدن) ، وبالفارسية : (ايشان بسراى ديكر بى كمانانند يعنى بعث وجزارا تصديق ميكنند) وإعادة لفظة هم للتوكيد في اليقين بالبعث والحساب ولما حيل بينه وبين خبره بقوله بالآخرة.
وفي "التأويلات النجمية" : وهم بالآخرة هم يوقنون لخروجهم من الدنيا وتوجههم إلى المولى.
والآخرة هي المنزل الثاني لمن يسير إلى الله بقدم الخروج من منزل الدنيا فمن خرج من الدنيا لا بد له أن يكون في الآخرة فيكون موقناً بها بعد أن كان مؤمناً بها انتهى.
يقول الفقير : لا شك عند أهل الله أن الدنيا من الحجب الجسمانية الظلمانية وأن الآخرة من الحجب الروحانية النورانية ولا بد للسالك من خرقها بأن يتجاوز من سير الأكوان إلى سير الأرواح ومنه إلى سير عالم الحقيقة فإنه فوق الأولين فإذا وصل إلى الأرواح صار الإيمان إيقاناً والعلم عياناً وإذا وصل إلى عالم الحقيقة صار العيان عيناً والحمدتعالى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{أولئك} المحسنون المتصفون بتلك الصفات الجليلة {عَلَى هُدًى} كائن {مِّن رَّبِّهِمْ} أي : على بيان منه تعالى بين لهم طريقهم ووفقهم لذلك.
قال في "كشف الأسرار" : (برراست راهى اند وراهنمونى خداوند خويش {عَلَى هُدًى} بيان عبوديت است و {مِّن رَّبِّهِمْ} بيان ربوبيت بعد ازكزار ومعاملت وتحصيل عبادت ايشانرا بستود هم باعتقاد سنت همه بكزارد عبوديت هم باقرار ربوبيت).
وفي الآية دليل على أن العبد لا يهتدي بنفسه إلا بهداية الله تعالى ألا ترى أنه قال : {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} وهو رد على المغتزلة فإنهم يقولون : العبد يهتدي بنفسه.
قال شاه شجاع قدس سره : ثلاثة من علامات الهدى : الاسترجاع عند المصيبة ، والاستكانة عند النعمة ، ونفي الامتنان عند العطية {وأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بكل مطلوب والناجون من كل مهروب لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.
قال في "المفردات" : الفلاح الظفر
64
وإدراك البغية وذلك ضربان دنيوي وأخروي.
فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، ولذلك قيل : لا عيش إلا عيش الآخرة ألا ترى إلى قوله عليه السلام : "المؤمن لا يخلو عن قلة أو علة أو ذلة" يعني : ما دام في الدنيا فإنها دار البلايا المصائب والأوجاع ودل قوله تعالى : {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنا بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـاًا} (الحج : 5) على أن الإنسان عند أرذل العمر يعود إلى حال الطفولية من الجهل والنسيان أي : إذا كان علمه حصولياً أما إذا كان حضورياً كالعلوم الوهبية لخواص المؤمنين فإنه لا يغيب ولا يزول عن قلبه أبداً لا في الدنيا ولا في برزخه ولا في آخرته فإن ذلك العلم الشريف الوهبي اللدني ليس بيد العقل الجزئي الذي من شأنه عروض النسيان له عند ضعف حال الشيخوخة ولذا لا يطرأ عليهم العته بالكبر بخلاف عوام المؤمنين والعلماء غالباً.
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يدخل في زمرة أهل الفلاح وذلك بتزكية النفس في الدنيا والترقي إلى مقامات المقربين في العقبى وهي المقامات الواقعة في جنات عدن والفردوس فالعاليات إنما هي لأهل الهمة العالية نسأل الله تعالى أن يلحقنا بالأبرار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62(7/48)
{وَمِنَ النَّاسِ} أي : وبعض الناس فهذا مبتدأ خبره قوله {مَن يَشْتَرِى} الاشتراء دفع الثمن وأخذ المثمن والبيع دفع المثمن وأخذ الثمن وقد يتجوز بالشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شيء فالمعنى ههنا يستبدل ويختار {لَهْوَ الْحَدِيثِ} وهو ما يلهي عما يعني من المهمات كالأحاديث التي لا أصل لها.
والأساطير التي لا اعتداد بها والأضاحيك وسائر ما لا خير فيه من الكلام.
والحديث يستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئاً فشيئاً.
قال أبو عثمان رحمه الله : كل كلام سوى كتاب الله أو سنة رسوله أو سبرة الصالحين فهو لهو.
وفي "عرائس البيان" : الإشارة فيه إلى طلب علوم الفلسفة من علم الأكسير والسحر والنير نجات وأباطيل الزنادقة وترهاتهم لأن هذه كلها سبب ضلالة الخلق.
وفي "التأويلات النجمية" : ما يشغل عن الله ذكره ويحجب عن الله سماعه فهو لهو الحديث.
والإضافة بمعنى من التبيينية إن أريد بالحديث المنكر لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فأضيف العام إلى الخاص للبيان كأنه قيل : من يشتري اللهو الذي هو الحديث وبمعنى من التبعيضية إن أريد به الأعم من ذلك كأنه قيل : من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه.
وأكثر أهل التفسير على أن الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة (مردى كافر دل وكافر كيش بود سخت خصومت بارسول خدا كرد) قتله رسول الله صبراً حين فرغ من وقعة بدر.
ـ روي ـ أنه ذهب إلى فارس تاجراً فاشترى كليلة ودمنة وأخبار رستم واسفنديار وأحاديث الأكاسرة فجعل يحدث بها قريشاً في أنديتهم ولعلها كانت مترجمة بالعربية ويقول إن محمداً يحدثكم بعاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فيكون الاشتراء على حقيقته بأن يشتري بماله كتباً فيها لهو الحديث وباطل الكلام {لِيُضِلَّ} الناس ويصرفهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي : دينه الحق الموصل إليه أو ليضلهم ويمنعهم بتلك الكتب المزخرفة عن قراءة كتابه الهادي إليه وإذا أضل غيره فقد ضل هو أيضاً {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي : حال كونه جاهلاً بحال ما يشتريه ويختاره أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن
65
{وَيَتَّخِذَهَا} بالنصب عطفاً على ليضل والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث أي : وليتخذها {هُزُوًا} مهزوءاً بها ومستهزأة {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الاشتراء والإضلال {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لإهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه ، وبالفارسية : (عذابي خوار كننده كه سبى وقتل است دردنيا وعذاب خزي در عقبى).
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ} أي : على المشتري افرد الضمير فيه وفيما بعده كالضمائر الثلاثة الأول باعتبار لفظ من وجمع في أولئك باعتبار معناه.
قال في "كشف الأسرار" : هذا دليل على أن الآية السابقة نزلت في النضرين الحارث {ءَايَـاتُنَا} أي : آيات كتابنا {وَلَّى} أعرض غير معتد بها {مُسْتَكْبِرًا} مبالغاً في التكبر ودفع النفس عن الطاعة والإصغاء {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حال من ضمير ولى أو من ضمير مستكبراً والأصل كأنه فحذف ضمير الشان وخففت المثقلة أي : مشابهاً حاله حال من لم يسمعها وهو سامع.
وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا} حال من ضمير لم يسمعها أي : مشابهاً حاله حال من في أذنيه ثقل مانع من السماع.
قال في "المفردات" الوقر الثقل في الأذن.
وفي "فتح الرحمن" الوقر الثقل الذي يغير إدراك المسموعات.
قال الشيخ سعدي : (ازانراكه كوش ارادت كران آفريده است ه كندكه بشنود وانرا كه بكند سعادت كشيده اند ون كندكه نرود).
قال في "كشف الأسرار" : (آدميان دوكر وهند آشنايات وبيكانكان آشنايانرا قرآن سبب هدايت است بيكانكانرا سبب ضلالت كما قال تعالى : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا} (البقرة : 26) بيانكان ون قرآن شنوند شت بران كنند وكردن كشند كافر وارنانكه رب العزة كفت) {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا وَلَّى} الخ :
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
و باطلان ز كلام حقت ملولى يست
(آشنايان ون قرآن شنوندبنده وار بسجود درافتند وبادل تازه وزنده دران زارند نانكه الله تعالى كفت) {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ سُجَّدًا} (الإسراء : 107) :
ذوق سجده در دماغ آدمي
ديورا تلخى دهد اواز غمى
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي : فاعلمه بأن العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة وذكر البشارة للتهكم ثم ذكر أحوال أضدادهم بقوله :(7/49)
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بآياتنا {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} وعملوا بموجبها.
قال في "كشف الأسرار" : الإيمان التصديق بالقلب وتحقيقه بالأعمال الصالحة ولذلك قرن الله بينهما وجعل الجنة مستحقة بهما قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر : 10) {لَهُمُ} بمقابلة إيمانهم وأعمالهم {جَنَّـاتُ النَّعِيمِ} (بهشتهاى بانعمت ناز ويا نعمتهاى بهشت) كما قال البيضاوي أي : نعيم جنات فعكس للمبالغة.
وقيل جنات النعيم إحدى الجنات الثمان وهي دار الجلال ودار السلام ودار القرار وجنة عدن وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة الفردوس وجنة النعيم كذا روى وهب بن منبه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{خَـالِدِينَ فِيهَا} حال من الضمير في لهم {وَعْدَ اللَّهِ} أي : وعد الله جنات النعيم
66
وعداً فهو مصدر مؤكد لنفسه لأن معنى لهم جنات النعيم وعدهم بها {حَقًّا} أي : حق ذلك الوعد حقاً فهو تأكيد لقوله لهم جنات النعيم أيضاً لكنه مصدر مؤكد لغيره لأن قوله {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ} وعد وليس كل وعد حقاً {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده أو تحقيق وعيده.
{الْحَكِيمِ} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة :
نه در وعده اوست نقض وخلاف
نه در كار او هي لاف وكذاف
هذا ، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بلهو الحديث في الآية المتقدمة الغناء ، يعني : (تغنى وسرور فاسقانست در مجلس فسق وآيت درذم كسى فرود آمدكه بندكان مغنيان خرد يا كنيز كان مغنيات تافاسقانرا مطربى كند) فيكون المعنى من يشتري ذا لهو الحديث أو ذات لهو الحديث.
قال الإمام مالك : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بهذا العيب.
قال في الفقه : ولا تقبل شهادة الرجل المغنى للناس لاجتماع الناس في ارتكاب ذنب يسببه لنفسه ومثل هذا لا يحترز عن الكذب وأما من تغنى لنفسه لدفع الوحشة وإزالة الحزن فتقبل شهادته إذ به لا تسقط العدالة إذا لم يسمع غيره في الصحيح وكذا لا تقبل شهادة المغنية سواء تغنت للناس أو لا إذ رفع صوتها حرام فبارتكابها محرماً حيث نهى النبي عليه السلام عن صوت المغنية سقطت عن درجة العدالة وفي الحديث "لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن ولا شراؤهن وثمنهن حرام" وقد نهى عليه السلام عن ثمن الكلب وكسب الزمارة ، يعني : (ازكسب ناى زدن).
قالوا المال الذي يأخذه المغنى والقوال والنائحة حكمه أخف من الرشوة لأن صاحب المال أعطاه عن اختيار بغير عقد.
قال مكحول : من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله يقول : {وَمِنَ النَّاسِ} الخ وفي الحديث "إن الله بعثني هدى ورحمة للعالمين وأمرني بمحو المعازف والمزامير والأوتار والصنج وأمر الجاهلية وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمداً إلا سقيته من الصديد مثلها يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً ولا يتركها من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة" وفي الحديث "بعثت لكسر المزامير وقتل الخنازير".
قال ابن الكمال : المراد بالمزامير آلات الغناء كلها تغليباً أي : وإن كانت في الأصل أسماء لذوات النفخ كالبوق ونحوه مما ينفخ فيه والكسر ليس على حقيقته بدليل قرينه بل مبالغة في النهي وفي الحديث : "من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة" قيل : وما الروحانيون يا رسول الله قال : "قراء أهل الجنة" أي : من الملائكة والحور العين ونحوهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
قال أهل المعاني يدخل في الآية كل من اختار اللهو واللعب والمزامير والمعازف على القرآن وإن كان اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيراً كما في "الوسيط".
قال في "النصاب" ويمنع أهل الذمة عن إظهار بيع المزامير والطنابير وإظهار الغناء وغير ذلك.
وأما الأحاديث الناطقة برخصة الغناء أيام العيد فمتروكة غير معمول بها اليوم ولذا يلزم على المحتسب إحراق المعازف يوم العيد.
واعلم أنه لما كان القرآن أصدق الأحاديث وأملحها وسماعه والإصغاء إليه مما يستجلب الرحمة من الله استحب التغني به وهو تحسين الصوت وتطييبه لأن ذلك سبب للرقة وإثارة للخشيبة على ما ذهب إليه الإمام
67
(7/50)
الأعظم رحمه الله كما في "فتح القريب" ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفى حرفاً فهو حرام كما في "أبكار الأفكار".
وعليه يحمل ما في "القنية" من أنه لو صلى خلف إمام للحسن في القراءة ينبغي أن يعيد وما في "البزازية" من أن من يقرأ بالألحان لا يستحق الأجر لأنه ليس بقارىء فسماع القرآن بشرطه مما لا خلاف فيه وكذا لا خلاف في حرمة سماع الأوتار والمزامير وسائر الآلات.
لكن قال بعضهم حرمة الآلات المطربة ليست لعينها كحرمة الخمر والزنى بل لغيرها ولذا استثنى العلماء من ذلك الطبل في الجهاد وطريق الحج فإذا استعملت باللهو واللعب كانت حراماً وإذا خرجت عن اللهو زالت الحرمة.
قال في "العوارف" : وأما الدف والشبابة وإن كان في مذهب الشافعي فيهما فسحة فالأولى تركهما والأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف انتهى خصوصاً إذا كان في الدف الجلاجل ونحوها فإنه مكروه بالاتفاق كما في "البستان".
وإنما الاختلاف في سماع الإشعار بالألحان والنغمات فإن كانت في ذكر النساء وأوصاف أعضاء الإنسان من الخدود والقدود فلكونه مما يهيج النفس وشهوتها لا يليق بأهل الديانات الاجتماع لمثل ذلك خصوصاً إذا كان على طريقة اللهو والتغني بما يعتاده أهل الموسيقى "من يلالا" و"تنادرتن" وخرافات يستعملونها في مجالس أهل الشرب ومحافل أهل الفساد كما في "حواشي العوارف" للشيخ زين الدين الحافي قدس سره.
وقد أدخل الموسيقى في "الأشباه" في العلوم المحرمة كالفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وغيرها وإن كانت القصائد في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار ووصف نعم الملك الجبار وذكر العبادات والترغيب في الخيرات فلا سبيل إلى الإنكار.
ومن ذلك قصائد الغزاة والحجاج ووصف الغزو والحج مما يثير العزم من الغازي وساكن الشوق من الحاج.
وإذا كان القوال أمرد تنجذب النفوس بالنظر إليه وكان للنساء إشراف على الجمع يكون السماع عين الفسق المجمع على تحريمه.
واللوطية على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون ، وصنف يصافحون ، وصنف يعملون ذلك العمل الخبيث.
وكما يمنع الشاب الصائم من القبلة لحليلته حيث جعلت حريم حرام الوقاع.
ويمنع الأجنبي من الخلوة بالأجنبية يمنع السامع من سماع صوت الأمرد والمرأة لخوف الفتنة وربما يتخذ للاجتماع طعام تطلب النفوس الاجتماع لذلك لا رغبة للقلوب في السماع فيصير السماع معلولاً تركن إليه النفوس طلباً للشهوات واستجلاءاً لمواطن اللهو والفضلات فينبغي أن يحذر السامع من ميل النفس لشيء من هواها.
وسئل بعضهم عن التكلف في السماع فقال : هو على ضربين : تكلف في المستمع بطلب جاه أو منفعة دنيوية وذلك تلبيس وخيانة وتكلف فيه لطلب الحقيقة كمن يطلب الوجد بالتواجد وهو بمنزلة التباكي المندوب إليه فإذا فعل لغرض صحيح كان مما لا بأس به كالقيام للداخل لم يكن في زمن النبي عليه السلام فمن فعله لتطييب قلب الداخل والمداراة ودفع الوحشة إن كان في البلاد عادة يكون من قبيل العشرة وحسن الصحبة.
قالوا : لو قعد واحد على ظهر بيته وقرىء عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق وإلا فليحذر العاقل من دخول الشيطان في جوفه وحمله عند السماع على نعرة أو تصفيق أو تحريق أو رقص رياء وسمعة.
وفي سماع
68
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
أهل الرياء ذنوب.
منها : أنه يكذب على الله وأنه وهب له شيئاً وما وهب له والكذب على الله من أقبح اللذات.
ومنها : أن يغر بعض الحاضرين فيحسن به الظن والإغرار خيانة لقوله عليه السلام : "من غشنا فليس منا".
ومنها : أن يحوج الحاضرين إلى موافقته في قيامه وقعوده فيكون متكلفاً مكلفاً للناس بباطله فيجتنب الحركة ما أمكن إلا إذا صارت حركته كحركة المرتعش الذي لا يجد سبيلاً إلى الإمساك وكالعاطس الذي لا يقدر أن يرد العطسة.
والحاصل أن الميل عند السماع على أنواع :
منها : ميل يتولد من مطالعة الطبيعة للصوت الحسن وهو شهوة وهو حرام لأنه شيطاني.
ه مردسماعست شهوت رست
بآواز خوش خفته خيزد نه مست
ومنها : ميل يتولد من النفس ومطالعة النغمات والألحان وهو هوى وهو حرام أيضاً لكونه شيطانياً حاصلاً لذي القلب الميت والنفس الحية ومن علامات موت القلب نسيان الرب ونسيان الآخرة والإنكباب على أشغال الدنيا واتباع الهوى فكل قلب ملوث بحب الدنيا فسماعه سماع طبع وتكلف.
اكر مردى بازى ولهوست ولاغ
قوى تر بود ديوش اندر دماغ
ومنها ميل يتولد من القلب بسبب مطالعة نور أفعال الحق وهو عشق وهو حلال لأنه رحماني حاصل لذي قلب حي ونفس ميتة.
ومنها ميل يتولد من الروح بسبب مطالعة نور صفاته وهو محبة وحضور وسكون وهو حلال أيضاً.
ومنها ما يتولد من السر بسبب مشاهدة نور ذاته تعالى وهو أنس وهو حلال أيضاً ولذا قال الشيخ سعدي قدس سره :
نكويم سماع اى برادر كه يست
مكر مستمع را بدانم كه كيست
كر از برج معنى رد طير او
فرشته فروماند از سير او
(7/51)
فهو حال العاشق الصادق وأصحاب الحال هم الذين أثرت فيهم أنوار الأعمال الصالحة فوهبهم الله تعالى على أعمالهم بالمجازاة حالاً والوجد والذوق ومآلا الكشف والمشاهدة والمعاينة والمعرفة بشرط الاستقامة.
قال زين الدين الحافي قدس سره : فمن يجد في قلبه نوراً يسلك به طريق من أباحه وإلا فرجوعه إلى من كرهه من العلماء أسلم.
ومعنى السماع استماع صوت طيب موزون محرك للقلب وقد يطلق على الحركة بطريق تسمية المسبب باسم السبب وجبلت النفوس حتى غير العاقل على الإصغاء إلى ما يحب من سماع الصوت الحسن فقد كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لسماع صوته.
به از روى خويست آواز خوش
كه اين حظ نفس است وآن قوت روح
وكان الأستاذ الإمام أبو علي البغدادي رحمه الله أوتي حظاً عظيماً وأنه أسلم على يده جماعة من اليهود والنصارى من سماع قراءته وحسن صوته كما تغير حال بعضهم من سماع بعض الأصوات القبيحة.
ونقل عن الإمام تقي الدين المصري أنه كان استاذاً في التجويد وأنه قرأ يوماً في صلاة الصبح : {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} (النمل : 20) وكرر هذه الآية فنزل طائر على رأس الشيخ يسمع قراءته حتى أكملها فنظروا إليه فإذا هو هدهد قالوا : الروح
69
إذا استمع الصوت الحسن والتذ بذلك تذكر مخاطبة الحق إياه بقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (الأعراف : 172) فحنّ إلى العود بالحضرة الربوبية وطار من الأوكار البشرية إلى الحضرة الصمدية :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ه كونه جان نرد سوى حضرت متعال
نداه لطف الهي رسدكه عبدي تعال
قال حضرة الشيخ أبو طالب المكي في "قوت القلوب" : إن أنكرنا السماع مجملاً مطلقاً غير مقيد مفصل يكون إنكارنا على سبعين صديقاً وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء والمتعبدين إلا أنا لا نفعل ذلك لأنا نعلم ما لا يعلمون وسمعنا عن السلف من الأصحاب والتابعين ما لا يسمعون انتهى.
فقد جوز الشيخ قدس سره السماع أي : سماع الصوت الحسن واستدل عليه بأخبار وآثار في كتابه وقوله يعتبر كما في "العوارف" لوفور علمه وكمال حاله وعلمه بأحوال السلف ومكان ورعه وفتواه وتحريه الأصوب والأعلى لكن من أباحه لم ير إعلانه في المساجد والبقاع الشريفة فعليك بترك القيل والقال والأخذ بقوة الحال.
{خَـالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍا وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ} .
{خَلْقُ} تعالى وأوجد {السَّمَـاوَاتِ} السبع وكذا الكرسي والعرش {بِغَيْرِ عَمَدٍ} بفتحتين جمع عماد كأهب وأهاب وهو ما يعمد به أي : يسند يقال عمدت الحائط إذا أدعمته أي : خلقها بغير دعائم وسواري على أن الجمع لتعدد السموات ، وبالفارسية : (بيافريد آسمانها را بى ستون) {تَرَوْنَهَا} استئناف جيىء به للاستشهاد على ما ذكر من خلقه تعالى إياها غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك أو صفة لعمد أي : خلقها بغير عمد مرئية على أن التقييد للرمز على أنه تعالى عمدها بعمد لا ترى هي عمد القدرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
(7/52)
واعلم أن وقوف السموات وثبات الأرض على هذا النظام من غير اختلال إنما هو بقدرة الله الملك المتعال ولله تعالى رجال خواص مظاهر القدرة هم العمد المعنوية للسموات والسبب الموجب لنظام العالم مطلقاً وهم موجودون في كل عصر فإذا كان قرب القيامة يحصل لهم الانقراض والانتقال من هذه النشأة بلا خلف فيبقى العالم كشبح بلا روح فتنحل أجزاؤه انحلال أجزاء الميت ويرجع الظهور إلى البطون ولا ينكر هذه الحال إلا مغلوب القال نعوذ بالله من الإنكار والإصرار {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ} الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه وتراه ثم صار في التعارف إسماً لكل طرح.
والرواسي جمع راسية من رسا الشيء يرسو أي : ثبت والمراد الجبال الثوابت لأنها ثبتت في الأرض وثبتت بها الأرض شبه الجبال الرواسي استحقاراً لها واستقلالاً لعددها وإن كانت خلقاً عظيماً بحصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن في الأرض وما هو إلا تصوير لعظمته وتمثيل لقدرته وأن كل فعل عظيم يتحير فيه الأذهان فهو هين عليه والمراد قال لها : كوني فكانت فأصبحت الأرض وقد أرسيت بالجبال بعد أن كانت تمور موراً أي : تضطرب فلم يدر أحد مم خلقت {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} الميد اضطراب الشيء العظيم كاضطراب الأرض يقال ماد يميد ميداً وميداناً تحرك واضطرب ، وبالفارسية : (الميد ، جنبيدن وخراميدن) والباء للتعدية.
والمعنى كراهة أن تميل بكم فإن بساطة أجزائها تقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز معين ووضع مخصوص ، وبالفارسية (تازمين شمارا نه جنباند يعنى حركت ندهد ومضرب نسازد ه زمين برروى آب متحرك بود ون كشتى وبجبال راسيات آرام يافت) كما قال الشيخ سعدى قدس سره :
70
ومى كسترانيد فرش تراب
و سجاده نيك مردان برآب
زمين ازتب لرزه آمد ستوه
فرو كفت بردامنش ميخ كوه
(درموضح از ضحاك نقل ميكنندكه حق سبحانه نوزده كوه را ميخ زمين كرد تابر اى بايستاد از جمله كوه قاف وابو قبيس وجودى ولبنان وسينين وطورسينا وفيران).
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
واعلم أن الجبال تزيد في بعض الروايات على ما فيه الموضح كما سبق في تفسير سورة الحجر.
قال بعضهم : إن الجبال عظام الأرض وعروقها وهذا كقول من قال من أهل السلوك : الشمس والقمر عينا هذا التعين والكواكب ليست مركوزة فيه وإنما هي بانعكاس الأنوار في بعض عروقه اللطيفة وهذا لا يطلع عليه الحكماء وإنما يعرف بالكشف {وَبَثَّ} (ورا كنده كرد) {فِيهَا} (در زمين) {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} من كل نوع من أنواعها مع كثرتها واختلاف أجناسها.
أصل البث إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر فبث كل دابة في الأرض إشارة إلى إيجاده تعالى ما لم يكن موجوداً وإظهاره إياه والدب والدبيب مشي خفيف ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ} من السحاب لأن السماء في اللغة ما علاك وأظلك {مَآءً} هو المطر {فَأَنابَتْنَا فِيهَا} في الأرض بسبب ذلك الماء والالتفات إلى نون العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بأمرهما {مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كل صنف كثير المنفعة.
قال في "المفردات" : وكل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم ، وبالفارسية : (ازهر صنف كياهى نيكو وبسيار منفعت) وكل ما في العالم فإنه زوج من حيث أن له ضداً ما أو مثلاً ما أو تركبا ما من جوهر وعرض ومادة وصورة.
وفيه تنبيه على أنه لا بد للمركب من مركب وهو الصانع الفرد.
واعلم وفقنا الله جميعاً للتفكر في عجائب صنعه وغرائب قدرته أن عقول العقلاء وأفهام الأذكياء قاصرة متحيرة في أمر النباتات والأشجار وعجائبها وخواصها وفوائدها ومضارها ومنافعها وكيف لا وأنت تشاهد اختلاف أشكالها وتباين ألوانها وعجائب صور أوراقها وروائح أزهارها وكل لون من ألوان ينقسم إلى أقسام كالحمرة مثلاً كورديّ وأرجواني وسوسني وشقائقي وخمري وعنابي وعقيقي ودموي ولكيّ وغير ذلك مع اشتراك الكل في الحمرة ثم عجائب روائحها ومخالفة بعضها بعضاً واشتراك الكل في طيب الرائحة وعجائب أشكال أثمارها وحبوبها وأوراقها ولكل لون وريح وطعم وورق وثمر وزهر وحب وخاصية لا تشبه الأخرى ولا يعلم حقيقة الحكمة فيها إلا الله والذي يعرف الإنسان من ذلك بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من بحر وقد أخرج الله تعالى آدم وحواء عليهما السلام من الجنة فبكيا على الفراق سنين كثيرة فنبت من دموعهما نباتات حارة كالزنجبيل ونحوه فلم يضيع دموعهما كما لم يضيع نطفته حيث خلق منها يأجوج ومأجوج إذ لا يلزم أن يكون نزول النطفة على وجه الشهوة حتى يرد أنه لم يحتلم نبي قط وقد سبق البحث فيه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{هَـاذَا} الذي ذكر من السموات والأرض والجبال والحيوان والنبات {خَلْقُ اللَّهِ} مخلوقة كضرب الأمير أي : مضروبه فأقيم المصدر مقام المفعول توسعاً {فَأَرُونِى} أيها المشركون ، والإراءة بالفارسية : (تمودن)
(7/53)
71
يقال أريته الشيء وأصله أرأيته {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} أي : من دون الله تعالى مما اتخذتموهم شركاء له تعالى في العبادة حتى استحقوا مشاركته في العبودية وماذا بمنزلة اسم واحد بمعنى أي : شيء نصب بخلق أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا وصلته وأروني معلق عنه على التقديرين {بَلِ الظَّـالِمُونَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} إضراب عن تبكيتهم أي : كفار قريش إلى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على ناظر أي : في ذهاب عن الحق بين واضح وأبان بمعنى بان ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.
وفي "فتح الرحمن" بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين فذكرهم بالصفة التي تعم معهم أشباههم ممن فعل فعلهم من الأمم.
قال الكاشفي : (بلكه مشركان در كمراهى آشكارانند كه عاجزرا باقادر ومخلوق را باخالق در رستش شركت مى دهند) :
هركه هست آفريده اوبنده است
بنده دربند آفريننده است
س كجا بنده كه در بنده است
لائق شركت خداونداست
واعلم أن التوحيد أفضل الفضائل كما أن الشرك أكبر الكبائر وللتوحيد نور كما أن للشرك ناراً وأن نور التوحيد أحرق لسيآت الموحدين كما أن نار الشرك أحرق لحسنات المشركين ولكون التوحيد أفضل العبادات وذكر الله أقرب القربات لم يقيد بالزمان والأوقات بخلاف سائر الأعمال من الصيام والصلوات فالخلاص من الضلالة إنما هو بالهداية إلى التوحيد وإخلاص العبادةالحميد وفي الحديث : "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" أي : في الآخرة فيما يخفيه من الإخلاص وغيره ، ثم علم المشرك بالشرك الجلي وكذا عمله وإن كانا في صورة الحسنة كلاهما مردود مبعود وكذا علم المشرك بالشرك الخفي وعمله فإن عمل الرياء والسمعة يدور بين السماء والأرض ثم يضرب به على وجه صاحبه وأما المخلص وعمله فكلاهما محبوب مقرب عند الله تعالى.
ـ روي ـ أن المنزل الأول من منازل الأعمال المتقبلة المشروعة هو سدرة المنتهى ويتعدى بعض الأعمال إلى الجنة وبعضها إلى العرش وكل عمل غلبت عليه الصفات الروحانية وقواها إذا اقترن به علم محقق له اعتقاد حاصل عن تصور صحيح مطابق للمتصور مع حضور وجمعية وصدق فإنه يتجاوز العرش إلى عالم المثال فيدخر فيه لصاحبه إلى يوم الجمع وقد يتعدى من عالم المثال إلى اللوح فيتعين صورته فيه ثم يرد إلى صاحبه يوم الجمع ثم من تتعدى أعماله إلى مقام القلم ثم إلى العماد فانظر إلى الأعمال الصالحة ومقاماتها العلوية واعرض عن الشرك والأعمال السفلية قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ره راست روتا بمنزل رسى
تو برره نه زين قبل واسى
وكاوى كه عصار شمش به بست
دوان تابشب شب هم آنجا كه هست
كسى كربتابد زمحراب روى
بكفرش كواهى دهند اهل كوى
توهم شت برقبله كن درنماز
كرت در خدانيست روى نياز
فإذا كان ما سوى الله تعالى لا يقدر على خلق شيء وإعطاء ثواب فلا معني للقصد إليه بالعبادة
72
ففروا إلى الله أيها المؤمنون لعلكم تنزلون منازل أهلها آمنون.
{هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِه بَلِ الظَّـالِمُونَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّه وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَـانُ ابْنِه وَهُوَ يَعِظُه يا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ} .
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ} (آورده اندكه قصه لقمان حكيم ووصايا او نزد يهود شهرتى داشت عظيم وعرب در مهمى كه بديشان رجوع كردندى ازحكمتها ولقمان براى ايشان مثل زدندى حق سبحانه وتعالى ازحال وى خبر داد وفرمود ، ولقد الخ) وهو على ما قال محمد بن إسحاق صاحب المغازي لقمان بن باغور بن باحور بن تارخ وهو آزر ابو ابراهيم الخليل عليه السلام وعاش ألف سنة حتى أدرك زمن داود عليه السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث ترك الفتيا فقيل له في ذلك فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وقال بعضهم : هو لقمان بن عنقا بن سرون كان عبداً نوبياً من أهل ايلة أسود اللون ولا ضير فإن الله تعالى لا يصطفي عباده اصطفاء نبوة أو ولاية وحكمة على الحسن والجمال وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم ونِعْمَ ما قال المولى الجامي :
ه غم زمنقصت صورت اهل معنى را
وجان زروم بود كوتن ازحبش مى باش
(7/54)
والجمهور على أنه كان حكيماً حكمة طب وحكمة حقيقة ، يعني : (مردى حكيم بود ازنيك مردان بني إسرائيل خلق را ند دادى وسخن حكمت كفتى وليكن سبط او معلوم نيست ولم يكن نبياً اما هزار يغمبررا شاكردى كرده بود وهزار يغمبر اورا شاكرد بودند درسخن حكمت).
وفي بعض الكتب قال لقمان : خدمت أربعة آلاف نبي واخترت من كلامهم ثماني كلمات : إن كنت في الصلاة فاحفظ قلبك ، وإن كنت في الطعام فاحفظ حلقك ، وإن كنت في بيت الغير فاحفظ عينيك ، وإن كنت بين الناس فاحفظ لسانك ، واذكر اثنين ، وانسى اثنين أما اللذان تذكرهما فالله والموت وأما اللذان تنساهما إحسانك في حق الغير وإساءة الغير في حقك.
ويؤيد كونه حكيماً لا نبياً كونه أسود اللون لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا حسن الشكل حسن الصوت.
وما روي أنه قيل ما أقبح وجهك يا لقمان فقال : أتعيب بهذا على النقش أم على النقاش.
وما قال عليه السلام حقاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
أقول : لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه فمنّ عليه بالحكمة وهي إصابة الحق باللسان وإصابة الفكر بالجنان وإصابة الحركة بالأركان إن تكلم تكلم بحكمة وإن تفكر تفكر بحكمة وإن تحرك تحرك بحكمة كما قال الإمام الراغب : الحكمة إصابة الحق بالعلم والفعل.
فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام.
ومن الإنسان : معرفة الموجودات على ما هي عليه وفعل الخيرات وهذا هو الذي وصف به لقمان في هذه الآية.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : من عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله لم يستحق أن يسمى حكيماً لأنه لم يعرف أجل الأشياء وأفضلها والحكمة أجل العلوم وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم ولا أجل من الله ومن عرف الله فهو حكيم وإن كان ضعيف المنة في سائر العلوم الرسمية كليل اللسان قاصر البيان فيها ومن عرف الله كان كلامه مخالفاً لكلام غيره فإنه قلما يتعرف للجزئيات بل يكون كلامه جملياً ولا يتعرض لمصالح العاجلة بل يتعرض لما ينفع في العاقبة ولما كانت الكلمات الكلية أطهر عند الناس من أحوال الحكيم من معرفته بالله ربما أطلق الناس اسم الحكمة على مثل تلك
73
الكلمات الكلية ويقال للناطق بها حكيم وذلك مثل قول سيد الأنبياء عليه السلام : "رأس الحكمة مخافة الله" ، "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" ، "كن ورعاً تكن أعبد الناس" "وكن قنعاً تكن أشكر الناس" ، "البلاء موكل بالمنطق" ، "السعيد من وعظ بغيره" ، "القناعة مال لا ينفد" ، "اليقين الإيمان كله" فهذه الكلمات وأمثالها تسمى حكمة وصاحبها يسمى حكيماً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
(7/55)
وفي "التأويلات النجمية" : الحكمة عدل الوحي قال عليه السلام : "أوتيت القرآن وما يعدله" وهو الحكمة بدليل قوله تعالى : {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة : 20) فالحكمة موهبة للأولياء كما أن الوحي موهبة للأنبياء وكما أن النبوة ليست كسبية بل هي فضل الله يؤتيه من يشاء فكذلك الحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء إياه طريق تحصيلها بل بإيتاء الله تعالى كما علمنا النبي عليه السلام طريق تحصيلها بقوله : "من أخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" وكما أن القلب مهبط الوحي من إيحاء الحق تعالى كذلك مهبط الحكمة بإيتاء الحق تعالى كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ} وقال : {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة : 269) فثبت أن الحكمة من المواهب لا من المكاسب لأنها من الأقوال لا من المقامات والمعقولات التي سمتها الحكماء حكمة ليست بحكمة فإنها من نتائج الفكر السليم من شوب آفة الوهم والخيال وذلك يكون للمؤمن والكافر وقلما يسلم من الشوائب ولهذا وقع الاختلاف في أدلتهم وعقائدهم ومن يحفظ الحكمة التي أوتيت لبعض الحكماء الحقيقية لم تكن هي حكمة بالنسبة إليه لأنه لم يؤت الحكمة ولم يكن هو حكيماً انتهى.
قال في "عرائس البيان" : الحكمة ثلاث : حكمة القرآن وهي حقائقه ، وحكمة الإيمان وهي المعرفة ، وحكمة البرهان وهي إدراك لطائف صنع الحق في الأفعال وأصل الحكمة إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام.
قال شاه شجاع ثلاث من علامات الحكمة : إنزال النفس من الناس منزلتها ، وإنزال الناس من النفس منزلتهم ، ووعظهم على قدر عقولهم فيقوم بنفع حاضر.
وقال الحسين بن منصور : الحكمة سهام وقلوب المؤمنين أهدافها والرامي الله والخطأ معدوم.
وقيل : الحكمة هو النور الفارق بين الإلهام والوسواس ويتولد هذا النور في القلب من الفكر والعبرة وهما ميراث الحزن والجوع.
قال حكيم : قوت الأجساد المشارب والمطاعم وقوت العقل الحكمة والعلم.
وأفضل ما أوتي العبد في الدنيا الحكمة وفي الآخرة الرحمة والحكمة للأخلاق كالطب للأجساد.
وعن علي رضي الله عنه : روّحوا هذه القلوب واطلبوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان وفي الحديث : "ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا وعيوب نفسه وإذا رأيتم أخاكم قد زهد فاقربوا إليه فاستمعوا منه فإنه يلقى الحكمة".
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
والزهد في اللغة ترك الميل إلى الشيء وفي اصطلاح أهل الحقيقة هو بعض الدنيا والإعراض عنها وشرط الزاهد أن لا يحنّ إلى ما زهد فيه وأدبه أن لا يذم المزهود فيه لكونه من جملة أفعال الله تعالى وليشغل نفسه بمن زهد من أجله.
قال عيسى عليه السلام : أين تنبت الحبة؟ قال : في الأرض فقال : كذلك الحكمة لا تنبت إلا في قلب مثل الأرض وهو موضع نبع الماء.
والتواضع سر من أسرار الله المخزونة عنده لا يهبه على الكمال إلا لنبيّ أو صديق فليس كل تواضع تواضعاً
74
وهو أعلى مقامات الطريق وآخر مقام ينتهي إليه رجال الله وحقيقة العلم بعبودية النفس ولا يصح من العبودية رياسة أصلاً لأنها ضد لها.
ولهذا قال أبو مدين قدس سره : آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ولا تظن أن هذا التواضع الظاهر على أكثر الناس وعلى بعض الصالحين تواضع وإنما هو تملق بسبب غاب عنك وكل يتملق على قدر مطلوبه والمطلوب منه فالتواضع شريف لا يقدر عليه كل أحد فإنه موقوف على صاحب التمكين في العالم والتحقق في التخلق كذا في "مواقع النجوم" لحضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر.
ـ روي ـ أن لقمان كان نائماً نصف النهار فنودي يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض وتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم عليّ أي : جزم فسمعاً وطاعة فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن أصاب فبالحرى أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه ثم نام نومة أخرى فأعطى الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها.
(7/56)
قال الكاشفي : (حق سبحانه وتعالى اوراسنديد وحكمت را برو افاضه كرد بمثابه كه ده هزار كلمه حكمت ازو منقولست كه هر كلمه بعالمى ارزد) فانظر إلى قابليته وحسن استعداده لحسن حاله مع الله.
وأما أمية ابن أبي الصلت الذي كان يأمل أن يكون نبي آخر الزمان وكان من بلغاء العرب فإنه نام يوماً فأتاه طائر وأدخل منقاره في فيه فلما استيقظ نسي جميع علومه لسوء حاله مع الله تعالى.
ثم نودي داود بعد لقمان فقبلها فلم يشترط ما اشترط لقمان فوقع منه بعض الزلات وكانت مغفورة له.
وكان لقمان يوازره بحكمته ، يعني : (وزيرىء وى ميكند بحكمت) فقال له داود : طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى وأعطى داود الخلافة وابتلى بالبلية والفتنة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
درقصر عافيت ه نشينيم اى سليم
مارا كه هست معركهاى بلا نصيب
وقال :
دائم كه شاد بودن من نيست مصلحت
جزغم نصيب جان ودل ناتوان مباد
ولما كانت الحكمة من أنعام الله تعالى على لقمان ونعمة من نعمه طالبه بشكره بقوله : {أَنِ اشْكُرْ} أي : قلنا له اشكرعلى نعمة الحكمة إذا آتاك الله إياها وأنت نائم غافل عنها جاهل بها {وَمِنَ} (وهركه) {يَشْكُرْ} له تعالى على نعمه {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن منفعته التي هي دوام النعمة واستحقاق مزيدها عائدة إليها مقصورة عليها ولأن الكفران من الوصف اللازم للإنسان فإنه ظلوم كفار والشكر من صفة الحق تعالى فإن الله شاكر عليم فمن شكر فإنما يشكر لنفسه بإزالة صفة الكفران عنها واتصافها بصفة شاكرية الحق تعالى.
{وَمَن كَفَرَ} نعمة ربه فعليه وبال كفره {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ} عنه وعن شكره {حَمِيدٌ} محمود في ذاته وصفاته وأفعاله سواء حمده العباد وشكروه أم كفروه ولا يحصى عليه أحد ثناء كما يثني هو على نفسه وعدم التعرض لكونه تعالى شكوراً لما أن الحمد متضمن للشكر وهو رأسه
75
كما قال عليه السلام : "الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده" فإثباته له تعالى إثبات للشكر قال في "كشف الأسرار" : رأس الحكمة الشكرثم المخافة منه ثم القيام بطاعته ولا شك أن لقمان امتثل أمر الله في الشكر وقام بعبوديته (لقمان ادبى تمام داشت وعبادت فراوان وسينه آبادان ودلى رنور وحكمت روشن برمردمان مشفق ودرميان خلق مصلح وهمواره ناصح خودرا وشيده داشتى وبرمرك فرزندان وهلاك مال غم نخوردى وازتعلم هي نياسودى حكيم بود وحليم ورحيم وكريم) فلقمان ذو الخير الكثير بشهادة الله له بذلك فإنه قال : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة : 269).
وأول ما روي من حكمته الطبية أنه بينا هو مع مولاه إذ دخل المخرج فأطال الجلوس فناداه لقمان أن طول الجلوس على الحاجة يتجزع منه الكبد ويورث الناسور ويصعد الحرارة إلى الرأس فأجلس هوينا وقم هوينا فخرج فكتب حكمته على باب الحش.
وأوّل ما ظهرت حكمته العقلية أنه كان راعياً لسيده فقال مولاه يوماً امتحاناً لعقله ومعرفته : أذبح شاة وائتني منها بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب.
وفي "كشف الأسرار" : (آنه ازجانور بدتراست وخبيث تربمن آر) فأتاه باللسان والقلب أيضاً فسأله عن ذلك فقال لقمان : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا (خواجه آن حكمت ازوى بسنديد واورا آزاد كرد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
وفي بعض الكتب : أن لقمان خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة فبينما هو يعظ الناس يوماً وهم مجتمعون عليه لاستماع كلمة الحكمة إذ مر به عظيم من عظماء بني إسرائيل فقال : ما هذه الجماعة؟ قيل له : هذه جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم فأقبل إليه فقال له : ألست العبد الأسود الذي كنت ترعى بموضع كذا وكذا ، وبالفارسية : (توآن بنده سياه نيستى كه شبانىء رمه فلان مى كردى) قال : نعم فقال : فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال : صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعني ، يعني : (آنه دردين بكار نيايد وازان بسر نشود بكذاشتن).
قال في "كشف الأسرار" : (لقمان سى سال باداود همى بود بيك جاى وازس داود زنده بود تابعهد يونس بن متى).
وكان عند داود وهو يسرد دروعاً لأن الحديد صار له كالشمع بطريق المعجزة فجعل لقمان يتعجب مما يرى ويريد أن يسأله وتمنعه حكمته عن السؤال فلما أتمها لبسها وقال نعم درع الحرب هذه فقال لقمان : إن من الحكمة الصمت وقليل فاعله أي : من يستعمله كما قال الشيخ سعدي : (هرآنه دانى كه هرآينه معلوم توخواهدشد برسيدن او تعجيل مكن كه حكمت را زيان كند).
و لقمان ديد كاندر دست داود
همى آهن بمعجز موم كردد
نرسيدش ه مى سازى كه دانست
كه بى رسيدنش معلوم كردد
(7/57)
ومن حكمته أن داود عليه السلام قال له يوماً : كيف أصبحت؟ فقال : أصبحت بيد غيري فتفكر داود فيه صعق صعقة ، يعني : (نعره زد وبيهوش شد ومراد ازيد غير قبضتين فضل وعدلست) كما في تفسير الكاشفي.
قال لقمان : ليس مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس.
وقال ضرب الوالد كالسبار للزرع (درتفسير ثعلبي ازحكمت لقمان مى آردكه روزى خواجه وى اورا باغلامان ديكر بباغ فرستاد تاميوه بيارد "وكان من أهون مملوك على سيده" :
76
بود لقمان يش خواجه خويشتن
درميان بندكانش خوارتنبود لقمان در غلامان ون طفيل
رمعانى تيره صورت همو ليل
غلامان ميوه را درراه بخورند وحواله خوردن آن بلقمان كردند خواجه بروخشم كرفت لقمان كفت ايشان ميوه خورده اند دروغ بمن بستند خواجه كفت حقيقت اين سخن به يز معلوم توان كرد كفت آنكه مارا آب كرم بخورانى ودرصحرا اره بدوانى تاقى كنيم ازدرون هركه ميوه بيرون آيد خائن اوست) :
كشت ساقى خواجه از آب حميم
مر غلامانرا وخوردند آن زبيمبعد ازان مى راند شان دردشتها
ميدويدند آن نفر تحت وعلا
قى در افتادند ايشان ازعنا
آب مى آورد زيشان ميوها
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ونكه لقمان را در آمد قى زناف
مى برآمد از درونش آب صاف
حكمت لقمان وداند اين نمود
س ه باشد حكمت رب ودود
يوم تبلى والسرائر كلها
بان منكم كامن لا يشتهى
ون سقوا ماء حميما قطعت
جملة الاستار مما افضحت
هره نهان باشد آن يدا شود
هركه او خائن بود رسوا شود وعن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال : ما فعل أبي؟ قال : مات قال : الحمدملكت أمري قال : وما فعلت أمي؟ قال : قد ماتت قال : قد ذهب همي قال : ما فعلت امرأتي؟ قال : ماتت قال : جدد فراشي قال : ما فعلت أختي؟ قال : ماتت قال : سترت عورتي قال : ما فعل أخي؟ قال : مات قال : انقطع ظهري وانكسر جناحي ثم قال : ما فعل ابني؟ قال : مات قال : انصدع قلبي.
قال في "فتح الرحمان" : وقبر لقمان بقرية صرفند ظاهر مدينة الرملة من أعمال فلسطين بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين هي البلاد التي بين الشام وأرض مصر منها الرملة وغزة وعسقلان وعلى قبره مشهد وهو مقصود بالزيارة.
وقال قتادة قبره بالرملة ما بين مسجدها وسوقها وهناك قبور سبعين نبياً ماتوا بعد لقمان جوعاً في يوم واحد أخرجهم بنو إسرائيل من القدس فألجأوهم إلى الرملة ثم أحاطوهم هناك فتلك قبورهم.
جهان جاى راحت نشد اى فتى
شدند انبيا اوليا مبتلا
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَـانُ} واذكر يا محمد لقومك وقت قول لقمان {ابْنِهِ} انعم فهو أبو أنعم أي : يكنى به كما قالوا {وَهُوَ} أي : والحال أن لقمان {يَعِظُهُ} أي : الابن.
والوعظ زجر يقترن بتخويف.
وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب والاسم العظة والموعظة ، وبالفارسية : (ولقمان ند مى داد اورا وميكفت) يا بُنَىَّ} بالتصغير والإضافة إلى ياء المتكلم بالفتح والكسر وهو تصغير رحمة وعطوفة ولهذا أوصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ، وبالفارسية : (اى سرك من) {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} لا تعدل بالله شيئاً في العبادة ، وبالفارسية : (انباز مكير بخداى) {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه.
وفي "كشف الأسرار" (بيدادى است برخويشتن بزرك) وعظمه أنه لا يغفر أبداً قال الشاعر :
77
الحمدلا شريك له
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ومن أباه فنفسه ظلما
وكان ابنه وامرأته كافرين فما زال بهما حتى أسلما بخلاف ابن نوح وامرأته فإنهما لم يسلما وبخلاف ابنتي لوط وامرأته فإن ابنتيه أسلمتا دون امرأته ولذا ما سلمت فكانت حجراً في بعض الروايات كما سبق.
قيل : وعظ لقمان ابنه في ابتداء وعظه على مجانبة الشرك.
والوعظ زجر النفس عن الاشتغال بما دون الله وهو التفريد للحق بالكل نفساً وقلباً وروحاً فلا تشتغل بالنفس إلا بخدمته ولا تلاحظ بالقلب سواه ولا تشاهد بالروح غيره وهو مقام التفريد في التوحيد :
هركه در درياى وحدت غرقه باشد جان او
جوهر فرد حقيقت يافت از جانان او
اللهم اجعلنا من المفرّدين.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَـانُ ابْنِه وَهُوَ يَعِظُه يا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّه وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَـالُه فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} .
(7/58)
{وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى آخره اعتراض في أثناء وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك يقال وصيت زيداً بعمر وأمرته بتعهده ومراعاته ، والمعنى : (وصيت كرديم مردم را به در ومادر ورعايت حقوق ايشان).
ثم رجح الأم ونبه على عظم حق والديه فقال : {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلى قوله : {وَفِصَـالُهُ} اعتراض بين المفسر والمفسر أي : التوصية والشكر.
والمعنى بالفارسية : (برداشت مادر اورا درشكم) {وَهْنًا} حال من أمه أي : ذات وهن والوهن الضعف من حيث الخلق والخلق {عَلَى وَهْنٍ} أي : ضعفاً كائناً على ضعف فإنه كلما عظم ما في بطنها زادها ضعفاً إلى أن تضع {وَفِصَـالُه فِى عَامَيْنِ} الفصال التفريق بين الصبي والرضاع ومنه الفصيل وهو ولد الناقة إذا فصل عن امه.
والعام : بالتخفيف السنة لكن كثيراً ما تستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب ولذا يعبر عن الجدب بالسنة والعام فيما فيه الرخاء أي : فطام الإنسان من اللبن يقع في تمام عامين من وقت الولادة وهي مدة الرضاع عند الشافعي فلا يثبت حرمة الرضاع بعدها فالإرضاع عنده واجب إلى الاستغناء ويستحب إلى الحولين وجائز إلى حولين ونصف وهذا الخلاف بينهما في حرمة الرضاع كما أشير إليه أما استحقاق الأجرة فمقدر بحولين فلا تجب نفقة الإرضاع على الأب بعد الحولين بالاتفاق وتمام الباب في كتاب الرضاع في الفقه.
قال في الوسيط : المعنى ذكر مشقة الوالدة بإرضاع الولد بعد الوضع عامين
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} تفسير لوصيناه أي : قلنا له اشكر لي أو علة له أي : لأن يشكر لي وما بينهما اعتراض مؤكد للوصية في حقها خاصة ولذلك قال عليه السلام : لمن قال له من أبر "أمك ثم أمك ثم أمك" ثم قال بعد ذلك "ثم أباك" والمعنى اشكر لي حيث أوجدتك وهديتك بالإسلام واشكر لوالديك حيث ربياك صغيراً وشكر الحق بالتعظيم والتكبير وشكر الوالدين بالإشفاق والتوقير.
وفي "شرح الحكم" : قرن شكرهما بشكره إذ هما أصل وجودك المجازي كما أن أصل وجودك الحقيقي فضله وكرمه فله حقيقة الشكر كما له حقيقة النعمة ولغيره مجازه كما لغيره مجازها وفي الحديث "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" فجعل شكر الناس شرطاً في صحة شكره تعالى أو جعل ثواب الله على الشكر لا يتوجه إلا لمن شكر عباده.
ثم حق المعلم في الشكر فوق حق الوالدين.
سئل الاسكندر وقيل ما بالك تعظم مؤدّبك أشد من تعظيمك لأبيك فقال : أبي حطني من السماء إلى الأرض ومؤدبي رفعني من الأرض إلى السماء.
قال الحافظ :
78
من ملك بودم وفردوس برين جايم بود
آدم آورد درين دير خراب آبادم
وقيل : لبرزجمهر ما بالك تعظيمك لمعلمك أشد من تعظيمك لأبيك؟ قال : لأن أبي سبب حياتي الفانية ومعلمي سبب حياتي الباقية.
{إِلَىَّ الْمَصِيرُ} تعليل لوجوب الامتثال بالأمر أي : إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على شكرك وكفرك.
ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه.
قال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر والديه وفي الحديث : "من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده ومن مات والداه وهو لهما غير بار وهو حي فليستغفر لهما ويتصدق لهما حتى يكتب باراً لوالديه ومن زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة كان باراً" وفي الحديث : "من صلى ليلة الخميس ما بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي خمس مرات وقل هو الله أحد خمس مرات والمعوذتين خمساً خمساً فإذا فرغ من صلاته استغفر الله خمس عشرة مرة وجعل ثوابه لوالديه فقد أدى حق والديه عليه وإن كان عاقاً لهما وأعطاه الله تعالى ما يعطي الصديقين والشهداء" كذا في "الإحياء" و"قوت القلوب".
{وَإِن جَـاهَدَاكَ} المجاهدة استفراغ الجهد أي : الوسع في مدافعة العدو ، وبالفارسية : (باكسى كار زاركردن در راه خداى) والمعنى وقلنا للإنسان إن اجتهد أبواك وحملاك ، وبالفارسية : (واكر كشش وكوشش كنند دو ومادر تو باتو) {عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} أي : بشركته تعالى في استحقاق العبادة {عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} في الشرك يعني أن خدمة الوالدين وإن كانت عظيمة فلا يجوز للولد أن يطيعهما في المعصية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر از مودت قربى
(7/59)
{وَصَاحِبْهُمَا} (ومصاحبت كن با يشان ومعاشرت) {فِى الدُّنْيَا} صحاباً {مَعْرُوفًا} ومعاشرة جميلة يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم من الإنفاق وغيره وفي الحديث : "حسن المصاحبة أن يطعمهما إذا جاعا وأن يكسوهما إذا عريا" فيجب على المسلم نفقة الوالدين ولو كانا كافرين وبرهما وخدمتهما وزيارتهما إلا أن يخاف أن يجلباه إلى الكفر وحينئذٍ يجوز أن لا يزورهما ولا يقودهما إلى البيعة لأنه معصية ويقودهما منها إلى المنزل.
وقال بعضهم : المعروف ههنا أن يعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله.
قال في "المفردات" : المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه والمنكر ما ينكر بهما ولهذا قيل للاقتصاد في الجود معروف لما كان ذلك مستحناً في العقول بالشرع {وَاتَّبِعْ} في الدين {سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} رجع بالتوحيد والإخلاص في الطاعة وهم المؤمنون الكاملون {ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ} مرجعك ومرجعهما {فَأُنَبِّئُكُم} عند رجوعكم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بأن أجازي كلاً منكم بما صدر عنه من الخير والشر ، وبالفارسية : (س آكاه كنم شمارا بياداش آن يزكه مى كرديد) ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من العشرة المبشرة حين أسلم وحلفت أمه أن لا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه (آورده اندكه مادر سعد سه روزنان
79
وآب نخورد تادهن او بوى بشكافتند وآب دران ريختند وسعد ميكفت اكر اورا هفتاد روح باشد ويك بيك اكر قبض كنند يعني بفرض اكر هفتاد باربميرد من از دين اسلام بر نمى كردم) وقد سبقت قصته مع فوائد كثيرة في أوائل سورة العنكبوت.
واعلم أن أهم الواجبات بعد التوحيد بر الوالدين.
ـ روي ـ أن رجلاً قال : يا رسول الله إن أمي هرمت فأطعمها بيدي وأسقيها وأوضئها وأحملها على عاتقي فهل جازيتها حقها؟ قال عليه السلام : "لا ولا واحداً من مائة" قال : ولم يا رسول الله قال : "لأنها خدمتك في وقت ضعفك مريدة حياتك وأنت تخدمها مريداً مماتها ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل الكثير" ، قال الشيخ سعدي :
جوانى سرازراى مادر بتافت
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
دل درد مندش بآزر بتافت
و بياره شد يشش آورد مهد
كه اى سست مهر وفراموش عهد
نه كريان ودرمانده بودى وخرد
كه شبها زدست تو خوابم نبرد
نه در مهد نيروى حالت نبود
مكس راندن ازخود مجالت نبود
توانى كه از يك مكس رنجه
كه امروز سالار سر نه
بحالى شوى باز در قعر كور
كه نتوانى ازخويشتن دفع مور
دكرديده ون بر فروزد راغ
و كرم لحد خورد يه دماغ
و وشيده شمى نه بينى كه راه
نداند همى وقت رفتن زاه
توكر شكر كردى كه باديده
وكونه توهم شم وشيده
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "لولا أني أخاف عليكم تغير الأحوال عليكم بعدي لأمرتكم أن تشهدوا لأربعة أصناف بالجنة : أولهم امرأة وهبت صداقها لزوجها لأجل الله وزوجها راض ، والثاني ذو عيال كثير يجتهد في المعيشة لأجلهم حتى يطعمهم الحلال ، والثالث : التائب من الذنب على أن لا يعود إليه أبداً كاللبن لا يعود إلى الثدي ، والرابع البار بوالديه" ثم قال عليه السلام : "طوبى لمن بر بوالديه وويل لمن عقهما".
وعن عطاء بن يسار أن قوماً سافروا فنزلوا برية فسمعوا نهيق حمار حتى أسهرهم فلما أصبحوا نظروا فرأوا بيتاً من شعر فيه عجوز فقالوا : سمعنا نهيق حمار وليس عندك حمار فقالت : ذاك ابني كان يقول لي يا حمارة فدعوت الله أن يصيره حماراً فذاك منذ مات ينهق كل ليلة حتى الصباح.
وعن وهب لما خرج نوح عليه السلام من السفينة نام فانكشفت عورته وكان عنده حام ولده فضحك ولم يستره فسمع سام ويافث صنع حام فألقيا عليه ثوباً فلما سمعه نوح قال : غير الله لونك فجعل السودان من نسل حام فصار الذل لأولاده إلى يوم القيامة ، قال الحافظ :
دخترانرا همه جنكست وجدل بامادر
سرانرا همه بدخواه در مى بينم
ثم إن الآية قد تضمنت النهي عن صحبة الكفار والفساق والترغيب في صحبة الصالحين فإن المقارنة مؤثرة والطبع جذاب والأمراض سارية.
وفي الحديث : "لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم وليس منا" أي : لا تسكنوا مع المشركين في المسكن
80
الواحد ولا تجتمعوا معهم في المجلس الواحد حتى لا تسري إليكم أخلاقهم الخبيثة وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة :
باد ون برفضاى بد كذرد
بوى بدكيرد از هواى خبيث
قال إبراهيم الخواص قدس سره داوء القلب خمسة : قراءة القرآن بالتدبر ، وإخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع إلى الله تعالى عند السحر ، ومجالسة الصالحين :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ى نيك مردان ببايد شتافت
كه هركه اين سعادت طلب كرد يافت
وليكن تو دنبال ديو خسى
ندانم كه در صالحان كى رسى
كذا في "البستان".
(7/60)
{وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّا ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يا بُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَـاوَاتِ أَوْ فِى الارْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّه إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَا إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} .
يا بُنَىَّ} (كفت لقمان فرزند خودرا كه انعم نام بود) بضم العين (اى سرك من).
قال في "الإرشاد" : شروع في حكاية بقية وصايا لقمان أثر تقرير ما في مطلعها من النهي عن الشرك وتأكيده بالاعتراض.
{إِنَّهَآ} أي : الخصلة من الإساءة أو الإحسان.
وقال مقاتل وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبتاه إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله فرد عليه لقمان فقال : يا بني إنها أي : الخطيئة.
{إِن تَكُ} أصله تكون حذفت الواو لاجتماع الساكنين الحاصل من سقوط حركة النون بأن الشرطية وحذفت النون أيضاً تشبيهاً بحرف العلة في امتداد الصوت أو بالواو في الغنة أو بالتنوين.
وقال بعضهم : حذفت تخفيفاً لكثرة الاستعمال فلا تحذف من مثل لم يصن ولم يخن فإن وصلت بساكن ردت النون وتحرك نحو لم يكن الذين الآية {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} المثقال ما يوزن به وهو من الثقل وذلك اسم لكل صنج.
وفي "كشف الأسرار" يقال : مثقال الشيء ما يساويه في الوزن وكثر الكلام فصار عبارة عن مقدار الدنيا انتهى ، والحبة بالفارسية : (دانه) والخردل من الحبوب معروف.
والمعنى مقدار ما هو أصغر المقادير التي توزن بها الأشياء من جنس الخردل الذي هو أصغر الحبوب المقتاتة {فَتَكُن} (س باشد آن) أي : مع كونها في أقصى غايات الصغر {فِى صَخْرَةٍ} الصخر الحجر الصلب أي : في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة ما.
وقال المولى الجامي في صخرة هي أصلب المركبات وأشدها منعاً لاستخراج ما فيها انتهى والمراد بالصخرة أية صخرة كانت لأنه قال بلفظ النكرة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأرض على الحوت والحوت في الماء والماء على صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة التي ذكر لقمان ليست في السموات ولا في الأرض كذا في "التكملة"
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{أَوْ فِى السَّمَـاوَاتِ} مع ما بعدها.
وفي بعض التفاسير في العالم العلوي كمحدب السموات {أَوْ فِى الأرْضِ} مع طولها وعرضها.
وفي بعض التفاسير في العالم السفلي كمقعر الأرض {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي : يحضرها فيحاسب عليها لأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، وبالفارسية : (بيارد خداى تعالى آثراً وحاضر كرداند وبرآن حساب كند) فالباء للتعدية.
قال المولى الجامي في "شرح الفصوص" : إنها أي : القصة إن تك مثقال حبة بالرفع كما هو قراءة نافع وحينئذٍ كان تامة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة وقوله : يأت بها الله أي : للاغتذاء بها {أَنَّ اللَّهَ} من قول لقمان {لَطِيفٌ} يصل علمه إلى
81
كل خفي فإن أحد معاني اللطيف هو العالم بخفيات الأمور ومن عرف أنه العالم بالخفيات يحذر أن يطلع عليه فيما هو فيه ويثق به في علم ما يجهله.
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
{خَبِيرٌ} عالم بكنهه.
قال في شرح حزب البحر الخبير هو العليم بدقائق الأمور التي لا يتوصل إليها غيره إلا بالاختيار والاحتيال ومن عرف أنه الخبير ترك الرياء والتصنع لغيره بالإخلاص له فالله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويحيط بأسرار الضمائر وبطون الخواطر ويحاسب عليها سواء كانت في صخرة النفوس أو في سماء الأرواح أو في أرض القلوب.
وفيه تنبيه لأهل المراقبة والتحذير من الملاحظات لاطلاع الحق على نوادر الخطرات وبطون الحركات.
وفي "التأويلات النجمية" : يا بُنَىَّ إِنَّهَآ} يشير إلى المقسومات الأزلية من الأرزاق والإخلاصات الإنسانية والمواهب الإلهية {إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ} أي : صخرة العدم {أَوْ فِى السَّمَـاوَاتِ} في الصورة والمعنى {أَوْ فِى الأرْضِ} في الصورة والمبني {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} لمن قدر له وقسم من أسباب السعادة والشقاوة إن شاء بطريق كسب العبد وإن شاء يجعل له مخرجاً في حصولها من حيث لا يحتسب {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} بعباده {خَبِيرٌ} بإتيان ما قسم لهم بلطف ربوبيته فالواجب على العبد أن يثق بوعده ويتكل على كرمه فيما قدر له ويسعى إلى القيام بعبوديته انتهى.
وفي بعض الكتب إن هذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62(7/61)
يقول الفقير : هذا الحضور في مقام الهيبة من صفات المقربين.
وكان إبراهيم عليه السلام إذا صلى يسمع غليان صدره وذلك من استيلاء الهيبة عليه وهذا الغليان يقال له برهان الصدر وقع لنبينا عليه السلام في مرتبة الأكملية فواعجبا لأمثالنا كيف لا ينجع فينا الوعظ ولا يأخذ بنا معاني اللفظ وليس إلا من الغفلة والنسيان وكثرة العصيان.
تا نيابى رتبه لقمانرا
آتش هيبت نسوزد جانرا
جان عاشق همو روانه بود
نزد شمع آيدا كر سوزان شود
ومن وصايا لقمان ما قال في "كشف الأسرار" : (لقمان سر خويش را ندداد ووصيت كردكه اى سر بسورها مروكة ترا رغبت دردنيا بديد آيد وأخرى بردل توفراموش كردد وكفت كه اى سر كر سعادت آخرت ميخواهى وزهد دردنيا به تشييع جنازها بيرون شو ومرك رايش شم خويش دار ودر دنيا مباش كه عيال ووبال مردم شوى از دنيا قوت ضروري بردار وفضول بكذار وزاننك زنان تاتوانى بر حذر باش وبرزنان بد فرياد خواه بالله كه ايشان دام شيطانند وسبب فتنه) يا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَواةَ} التي هي أكمل العبادات تكميلاً لنفسك من حيث العمل بعد تكميلها من حيث العلم والاعتقادات لأن النهي عن الشرك فيما سبق قد تضمن الأمر بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على الإنسان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
وفي "التأويلات النجمية" أدمها وإدامتها في أن تنتهي عن الفحشاء والمنكر فإن الله وصف الصلاة بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر فمن كان منتهياً عنهما فإنه في الصلاة وإن لم يكن على هيئتها ومن لم يكن منتهياً عنهما فليس في الصلاة وإن كان مؤدياً هيئتها انتهى.
ومن وصايا لقمان ما قال في "كشف الأسرار" :
82
(اى سر روزه كه دارى نان دار كه شهوت ببرد نه قوت ببرد وضعيف كند تا ازنماز بازمانى كه بنزديك خدانماز دوستر ازروزه) وذلك لأن الصوم والرياضات لإصلاح الطبيعة وتحسين الأخلاق وأما الصلاة فلإصلاح النفس التي هي مأوى كل شر ومعدن كل هوى وما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} بالمستحسن شرعاً وعقلاً وحقيقته ما يوصل العبد إلى الله {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي : عن المستقبح شرعاً وعقلاً وتكميلاً لغيرك وحقيقته ما يشغل العبد عن الله {وَاصْبِرْ} الصبر حبس النفس عما يقتضي الشرع أو العقل الكف عنه {عَلَى مَآ أَصَابَكَ} من الشدائد والمحن كالأمراض والفقر والهم والغم لا سيما عند التصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أذى الذين تأمرهم بالمعروف وتبعثهم على الخير وتنهاهم عن المنكر وتزجرهم عن الشر {إِنَّ ذَالِكَ} المذكور من الوصايا وهو الأمر والنهي والصبر {مِنْ عَزْمِ الامُورِ} العزم والعزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر وعزم الأمور ما لا يشوبه شبهة ولا يدافعه ريبة.
وفي الخبر "من صلى قبل العصر أربعاً غفر الله له مغفرة عزماً" أي : هذا الوعد صادق عزيم وثيق وفي دعائه عليه السلام : "أسألك عزائم مغفرتك" أي : أسألك أن توفقني لَلأعمال التي تغفر لصاحبها لا محالة وأطلق المصدر أي : العزم على المفعول أي : المعزوم.
والمعنى من معزومات الأمور ومقطوعاتها ومفروضاتها بمعنى مما عزمه الله أي : قطعه قطع إيجاب وأمر به العباد أمراً حتماً ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي : من عازمات الأمور وواجباتها ولازماتها من قوله فإذا عزم الأمر أي : جد.
وفي هذا دليل على قدم هذه الطاعات والحث عليها في شريعة من تقدمنا وبيان لهذه الأمة أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يكون صابراً على ما يصيبه في ذلك إن كان أمره ونهيه لوجه الله لأنه قد أصابه ذلك في ذات الله وشأنه.
وإشارة إلى أن البلاء والمحنة من لوازم المحبة فلا بد للمريد الصادق أن يصبر على ما أصابه في أثناء الطلب مما ابتلاه الله به من الخوف من الأعداء في الظاهر والباطن والجزع من الجوع الظاهر عند قلة الغذاء للنفس ومن الباطن عند قلة الكشوف والمشاهدات التي هي غذاء للقلب ونقص من الأموال والأنفس من مفارقة الأولاد والأهالي والإخوان والأخدان والثمرات.
يعني : ثمرات المجاهدات وبشر الصابرين على هذه الأحوال بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون إلى الحضرة.
ومن وصايا لقمان على ما في "كشف الأسرار" (اى سر مبادا كه ترا كارى يش آيد از محبوب ومكروه كه تونيز در ضمير خود نان دانى كه خير وصلاح تو در آنست سر كفت اى در من أين عهد نتوانم داد تا آنكه بدانم كه آنه كفتى نانست كه توكفتى در كفت الله تعالى يغمبر مى فرستاداست وعلم وبيان آنه من كفتم باوى است تاهردو نزديك وى شويم وازوى برسيم هردو بيرون آمدند وبر مركوب نشستند وآنه دربايست بود ازتوشه وزاد سفر برداشتند بيابانى دريش بود مركوب همى راندند تاروز بنماز يشين رسيد وكرما عظيم بود آب وتوشه سرى كشت وهي نماند هر دو ازمركوب فرود آمدند وياده بشتاب همى رفتند نا كاه لقمان دريش نكرست سياهى ديد ودود بادل خويش كفت آن
83
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
(7/62)
سياهى درخت است وآن دودنشان آبادانى ومردمانكه آنجا وطن كرفته اند همنان رفتند بشتاب ناكاه سر لقمان اى بر استخوانى نهاد آن استخوان بزير قدم وى برآمد وبشت اى بيرون آمد سر بيهوش كشت وبر جاى بيفتاد لقمان دروي آويخت واستخوان بدندان ازاى وى بيرون كرد وعمامه وى اره كرد وبراى وى بست لقمان آن ساعت بكربست ويك قطره آب شم برروى سر افتاد وسرروى فرا دركرد وكفت اى باباى من بكريى بيزى كه ميكويى كه بهتر من وصلاح من در آنست اى يدره بهتريست مارا درين حال وتوشه سرى شد وما هردو درين بيابان متحير مانده ايم اكر توبروى ومرا درين حال بجاى مانى باغم وانديشه روى واكر با من اينجا مقام كنى برين حال هردو بميريم درين ه بهترست وه خبرست در كفت كريستن من اينجا آنست كه مرا دوست داشتيد كه بهر حظى كه مرا ازدنياست من فداى توكردمى كه من درم وخهربانى دران رفرزندان معلومست واما آنه توميكويى كه درين ه خيرست توه دانى مكرآن بلاكه از توصرف كرده اند خود بزركتر ازين بلاست كه بتو رسانيده اند وباشدكه اين بلاكه بتو رسانيده اند آسانتر ازآنست كه ازتو صرف كرده اند ايشان درين سخن بودندكه لقمان فلارا يش نكرست وهي يز نديد ازان سواد ودخان دال خويش كفت من اينجا يزى ميديدم واكنون نمى بينم ندانم تا آن ه بودنا كاه شخصى را ديدكه مى آمد براسبى نشسته وجامه وشيده آوازدادكه لقمان تويى كفت آرى كفت حكيم تويى كفت نين ميكويند كفت آن سربى خرده كفت اكر آن نبودى كه اين بلا بوى رسيد شمارا هردو بزمين فرو بردندى نانكه آن ديكرانرا فروبردند لقمان روى باسر كرد وكفت دريافتى وبدانستى كه هر ه بربنده رسد از محبوب ومكروه خيرت وصلاحت در آنست س هردو برخاستند ورفتند.
عمر خطاب رضي الله عنه از آنجا كفت من باك ندارم كه بامداد بر خيزم بر هر حال باشم بر محبوب يابر مكروه زيرا كه من ندانم خيرت من اندر يست.
موسى عليه السلام كفت بار خدايا ازبندكان توكيست بزرك كناهتر كفت آنكس كه مرامتهم دارد كفت آن كيست كفت استخارت كند وازمن بهترى خويش خواهد آنكه بحكم من رضا ندهد) قال الصائب :
ون سرو در مقام رضا ايستاده ام
آسوده خاطرم زبهار وخزان خويش
يا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَا إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَا إِنَّ أَنكَرَ الاصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} التصعر : التواء وميل في العنق من خلقة أو داء أو من كبر في الإنسان وفي الإبل.
والتصعير إمالته عن النظر كبراً كما قال في "تاج المصادر" (التصعير : روى بكردانيدن ازكبر).
وخد الإنسان ما اكتنف الأنف عن اليمين والشمال أو ما جاوز مؤخر العينين إلى منتهى الشدق أو من لدن المحجر إلى اللحى كما في "القاموس".
والمعنى أقبل على الناس بجملة وجهك عند السلام والكلام واللقاء تواضعاً ولا تحول وجهك عنهم ولا تغط شق وجهك وصفحته كما يفعله المتكبرون استحقاراً للناس خصوصاً الفقراء وليكن الغني والفقير عندك على السوية في حسن المعاملة.
والإشارة لا تمل خدك تكبراً أو تجبراً معجباً بما فتح الله عليك فتكون بهذا مفسداً في لحظة ما أصلحته في مدة ، قال الحافظ :
84
ببال ور مرو ازره كه تير رتابى
هوا كرفت زمانى ولى بخاك نشست
{وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا} المرح : أشد الفرح والخفة الحاصلة من النعمة كالأشر والبطر أي : حال كونك ذا فرح شديد ونشاط وعجب وخفة أي : مشياً كمشي المرح من الناس كما يرى من كثيرهم لا سيما إذا لم يتضمن مصلحة دينية أو دنيوية ، وبالفارسية : (مخرام ون جاهلان ومانند دنيا رستان) {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} الاختيال والخيلاء التكبر عن تخيل فضيلة ومنه لفظ الخيل كما قيل إنه لا يركب أحد فرساً إلا وجد في نفسه نخوة أي : لا يرضى عن المتكبر المتبختر في مشيته بل يسخط عليه ، وبالفارسية : (هرخرامنده كه متكبر انه رود) وهو بمقابلة الماشي مرحاً {فَخُورٍ} هو بمقابلة المصعر خده وتأخيره لرعاية الفواصل.
والفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه والفخور الذي يعدد مناقبه تطاولاً بها واحتقاراً لمن عدم مثلها.
والمعنى بالفارسية : (نازش كننده كه باسباب تنعم بر مردمان تطاول نمايد).
وفي الحديث : "خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حلة فأمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" :
و صبيان مباز وو صنوان منازل
برو مرد حق شو زروى نياز
(7/63)
قال بعض الحكماء : إن افتخرت بفرسك فالحسن والفراهة له دونك.
وإن افتخرت بثيابك وآلاتك فالجمال لها دونك.
وإن افتخرت بآبائك فالفضل فيهم لا فيك ولو تكلمت هذه الأشياء لقالت هذه محاسننا فمالك من الحسن شيء.
فإن افتخرت فافتخر بمعنى فيك غير خارج عنك.
قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
قلندران حقيقت بنيم جو نخرند
قباى اطلس آنكس كه از هنر عاريست
وإذا أعجبك من الدنيا شيء فاذكر فناءك وبقاءه أو بقاءك وزواله أو فناءكما جميعاً فإذا راقك ما هو لك فانظر إلى قرب خروجه من يدك وبعد رجوعه إليك وطول حسابه عليك إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر.
ـ حكي ـ أنه حُمِلَ إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجوهر لم ير له نظير ففرح به الملك فرحاً شديداً فقال لمن عنده من الحكماء : كيف ترى هذا؟ فقال : أراه فقراً حاضراً ومصيبة عاجلة قال : وكيف ذلك؟ قال : إن انكسر كانت مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر فاتفق أنه انكسر القدح يوماً فعظمت المصيبة على الملك وقال : صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا.
إنما الدنيا كرؤيا فرّحت
من رآها ساعة ثم انقضت
{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ} القصد ضد الإفراط والتفريط.
والمعنى واعدل في المشي بعد الاجتناب عن المرح فيه ، وبالفارسية : (وميانه باش دررفتن خود) اى توسد بين الدبيب والإسراع فلا تمشي كمشي الزهاد المظهرين الضعف في المشي من كثرة العبادات والرياضات فكأنهم أموات وهم المراؤون الذين ضل سعيهم ولا كمشي الشطار ووثوبهم وعليك بالسكينة والوقار وفي الحديث "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" وقول عائشة رضي الله عنها في عمر رضي الله عنه كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت.
قال بعضهم إن للشيطان من ابن آدم
85
نزغتين بأيتهما ظفر قنع الإفراط والتفريط وذلك في كل شيء يتصور ذلك فيه {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} يقال غض صوته وغض بصره إذا خفض صوته وغمض بصره.
قال في "المفردات" : الغض النقص من الطرف والصوت ، وبالفارسية : (فرو خوابانيدن شم وفرداشتن اواز) والصوت هو الهواء المنضغط عند قرع جسمين.
قال بعضهم : الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطيع يسمى نفساً بفتح الفاء وإن خرج بالإرادة وعرض له تموّج بتصادم جسمين يسمى صوتاً وإذا عرض للصوت كيفيات مخصوصة بأسباب معلومة يسمى حروفاً.
والمعنى وانقص من صوتك واقصر واخفض في محل الخطاب والكلام خصوصاً عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعند الدعاء والمناجاة.
وكذلك وصية الله في الإنجيل لعيسى ابن مريم مُر عبادي إذا دعوني يخفضوا أصواتهم فإني أسمع وأعلم ما في قلوبهم ، وبالفارسية : (فرو آور وكم كن آوز خويش يعنى فرياد كننده ونعره زننده ودراز زبان وسخت كوى مباش) واستثنى منه الجهر لإرهاب العدو ونحوه.
وقال محمد بن طلحة في "العقد الفريد" : قد اختار الحكماء للسلطان جهارة الصوت في كلامه ليكون أهيب لسامعيه وأوقع في قلوبهم انتهى.
وفي "الخلاصة" لا يجهر الإمام فوق حاجة الناس وإلا فهو مسيء كما في "الكشف".
والفرق بين الكراهة والإساءة هو أن الكراهة أفحش من الإساءة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
وفي "إنسان العيون" : لا بأس برفع المؤذنين أصواتهم لتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين لما فيه من النفع بخلاف ما إذا بلغهم صوت الإمام فإن التبليغ حينئذٍ بدعة منكرة باتفاق الأئمة الأربعة ومعنى منكرة مكروهة.
وفي "أنوار المشارق" المختار عند الأخيار أن المبالغة والاستقصاء في رفع الصوت بالتكبير في الصلاة ونحوه مكروه والحالة الوسطى بين الجهر والإخفاء مع التضرع والتذلل والاستكانة الخالية عن الرياء جائز عير مكروه باتفاق العلماء.
وقد جمع النووي بين الأحاديث الواردة في استحباب الجهر بالذكر والواردة في استحباب الإسرار به بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى المصلون أو النائمون والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين ولأنه يوقظ قلب الذاكر ويجمع همة الفكر ويشنف سمعه ويطرد النوم ويزيد في النشاط وكان عليه السلام إذا سلم من صلاته قال بصوته الأعلى "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
(7/64)
ومن اللطائف أن الحَجَّاجَ سأل بعض جلسائه عن أرق الصوت عندهم فقال أحدهم : ما سمعت صوتاً أرق من صوت قارىء حسن الصوت يقرأ كتاب الله في جوف الليل قال إن ذلك لحسن.
وقال آخر ما سمعت صوتاً أعجب من أن أترك امرأتي ماخضاً وأتوجه إلى المسجد بكيراً فيأتيني آتٍ فيبشرني بغلام فقال : واحسناه.
فقال شعبة بن علقمة التميمي لا والله ما سمعت قط أَحب إلي من أن أكون جائعاً فأسمع خفخفة الخوان فقال الحجاج أبيتم يا بني تميم إلا حب الزاد {إِنَّ أَنكَرَ الاصْوَاتِ} أوحشها وأقبحها الذي ينكره العقل الصحيح ويحكم بقبحه ، وبالفارسية : (زشت ترين آوازها) {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} جمع حمار.
قال بعضهم : سمي حماراً لشدته من قولهم طعنة حمراء أي : شديدة وحمارة القيظ شدته وافراد الصوت مع إضافته إلى الجمع لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل
86
بيان حال صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس.
قال أبو الليث : صوت الحمار كان هو المعروف عند العرب وسائر الناس بالقبح وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان وإنما ضرب الله المثل بما هو معروف عند الناس بالقبح لأن أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار يتوحش من يسمعه ويتنفر منه كل التنفر.
والمعنى أن أنكر أصوات الناس حين يصوتون ويتكلمون لصوت من يصوّت صوت الحمار أي : يرفع صوته عند التصويت كما يرفع الحمار صوته.
ففيه تشبيه الرافعين أصواتهم فوق الحاجة بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة وجعلهم حميراً وأصواتهم نهاقاً مبالغة شديدة في الذم والزجر عن رفع الصوت فوق الحاجة وتنبيه على أنه من المكاره عند الله لا من المحاب.
قال الكاشفي : (يعني در ارتفاع صوت فضلتي نيست و صوت حمار باوجود رفعت مكروهست طباع را وموجب وحشت اسماع است.
درعين المعاني آورده كه مشركان عرب برفع أصوات تفاخر ميكردندى بدين آيت رد كرد برايشان فخر ايشان).
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
يقول الفقير : إن الرد ليس بمنحصر في رفع الصوت بل كل ما في وصايا لقمان من نهي الشرك وما يليه رد لهم لأنهم كانوا متصفين بالشرك وسائر ما حكي من الأوصاف القبيحة آتين بالسيآت تاركين للصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزعين عند المصيبات والحمار مثل في الذم سيما نهاقه ولذلك كنى عنه فيقال طويل الأذنين.
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى : صوت كل شيء تسبيح إلا صوت الحمير فإنها تصيح لرؤية الشيطان ولذلك سماه منكراً وفي الحديث : "إذا سمعتم نهاق الحمير" وهو بالضم صوتها "فتعوّذوا بالله من الشيطان فإها رأت شيطاناً وإذا سمعتم صياح الديكة" بفتح الياء جمع ديك "فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً" وفي الحديث دلالة على نزول الرحمة عند حضور أهل الصلاح فيستحب الدعاء في ذلك الوقت وعلى نزول الغضب عند أهل المصيبة فيستحب التعوذ كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
يقول الققير : ومن هنا قال عليه السلام : "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب" أي : يقطع كمالها وينقصها مرور هذه الأشياء بين يدي المصلي.
أما المرأة فلكونها أحب الشهوات إلى الناس وأشد فساداً للحال من الوسواس.
وأما الكلب والمراد الكلب الأسود فلكونه شيطاناً كما قال عليه السلام : "الكلب الأسود شيطان" سمي شيطاناً لكونه أعقر الكلاب وأخبثها وأقلها نفعاً وأكثرها نعاساً ومن هذا قال أحمد بن حنبل : لا يحل الصيد به.
وأما الحمار فلكون الشيطان قد تعلق بذنبه حين دخل سفينة نوح عليه السلام فهو غير مفارق عنه في أكثر الأوقات وهو السر في اختصاص الحمار برؤية الشيطان والله أعلم كما أن وجه اختصاص الديك برؤية الملك كون صياحه تابعاً لصياح ديك العرش كما ثبت في بعض الروايات الصحيحة فالملك غير مفارق عنه في غالب الحالات وفي الحديث "إن الله يبغض ثلاثة أصواتها نهقة الحيمر ونباح الكلب والداعية بالحرب".
(ورد فيه ما فيه ازحضرت مولوى قدس سره وجه انكريت صوت حمار نين نقل كرده اندكه درغالب او براى كاه وجوست.
ويا بجهت اجراء شهوت.
يا جنك بادرازكوش ديكر.
وصدايى كه
87
(7/65)
از غلبه صفات بهيمى زايد زشت ترين صداها باشد وازينجا معلوم ميشودكه ندايى كه از صاحب اخلاق روحاني وملكي آيد خوبترين نداها خواهد بود نغمهاى عاشقانه س دلكش است استماع نغمه ايشان خوش وحضرت رسالت عليه السلام آواز نرم را دوست داشتى وجهر صوت راكاره بودى) ودخل في الصوت المنكر العطسة المنكرة فلتدفع بقدر الاستطاعة وكذا الزفرات والشهقات الصادرة من أهل الطبيعة والنفس بدون غلبة الحال فإنها ممزوجة بالحظوظ مخلوطة بالرياء فلا تكون صيحة حقيقة بل صيحة طبيعة ونفس نعوذ بالله من شهوات الطبيعة وهوى النفس ومخالطة أهل الدعوى.
قال بعضهم في الآية إشارة إلى الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحق وقبل أوانه ومن تصدر قبل أوانه تصدى لهوانه.
ثم من وصايا لقمان على ما في "كشف الأسرار" قوله : (أي سر ون قدرت يابى برظلم بندكان قدرت خداى برغقوبت خود يادكن واز انتقام وى بينديش كه او جل جلاله منتقم است دادستان از كردن كشان وكين خواه از ستمكاران وبحقيقت دان كه ظلم تو ازان مظلوم فراكذرد وعقوبة الله بران ظلم برتو بماند واينده بود) ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
شنيدم كه لقمان سيه فام بود
نه تن رور ونازك اندام بود
يكى بنده خويش نداشتش
ببغداد دركار كل داشتش
به سالى سرايى بر داختش
كس ازبنده خواجه نشتاختش
ويش آمدش بنده رفته باز
زلقمانش آمد نهيبى فراز
به ابش درافتاد ووزش نمود
بخنديد لقمان كه وزش ه سود
بسالى زجورت جكر خون كنم
بيك ساعت ازدل بدر ون كنم
وليكن ببخشايم اى نيك مرد
كه سود تومارا زيانى نكرد
تو آباد كردى شبستان خويش
مراحكمت ومعرفت كشت بيش
غلاميست درخيم اى نيك بخت
كه فرمايمش وقتها كار سخت
دكرره نيازارمش سخت دل
و ياد آيدم سختى كار كل
هرآنكس كه جور بزركان نبرد
نسوزد دلش بر ضعيفان خرد
كه از حاكمان سخت آيد سخن
تو برزير دستان درشتى مكن
مهازور مندى مكن بركهان
كه بريك نمط مى نماند جهان
(لقمانرا كفتند ادب از كه آموختى كفت ازبى ادبان كه هره از ايشان درنظرم ناسند آمد ازان فعل رهيز كردم) :
نكويند ازسر بازيه حرفى
كزان ندى نكيرد صاحب هوش
وكر صد باب حكمت يش نادان
بخوانند آيدش بازيه در كوش
وعن علي رضي الله عنه : الحكمة ضالة المؤمن فالتقفها ولو من أفواه المشركين ، يعني : (مرد مؤمن هميشه طالب حكمت بود نانكه طالب كم كرده خويش بود) قال عيسى عليه
88
السلام : لا تقولوا العلم في السماء من يصعد يأتي به ولا في تخوم الأرض من ينزل يأتي به ولا من وراء البحر من يعبر يأتي به العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي الله بآداب الروحانيين يظهر عليكم كما في "شرح منازل السائرين".
ومن آداب الروحانيين ترك الأمور الطبيعية والقيام في مقام الصمدية (عابدى را حكايت كنند كه هرشب ده من طعام بخوردى وتابسحر ختمى درنماز بكردى صاحب دلى بشنيد وكفت اكر نيم من بخوردى وبخفتى بسيار ازين فاضلتر بودى :
اندرون از طعام خالى دار
ادرو نور معرفت بينى
تهى از حكمتى بعلت آن
كه رى از طعام تابينى
واعلم أن الحكمة قد تكون متلفظاً بها كالأحكام الشرعية المتعلقة بظواهر القرآن وقد تكون مسكوتاً عنها كالأسرار الإلهية المستورة عن غير أهلها المتعلقة ببواطن القرآن فمن لج في الطلب من طريقه ولج في المعرفة بفضل الله تعالى وتوفيقه.
{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَا إِنَّ أَنكَرَ الاصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ * أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه ظَـاهِرَةً وَبَاطِنَةًا وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَـانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
(7/66)
{أَلَمْ تَرَوْا} ألم تعلموا يا بني آدم {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم} التسخير سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهراً {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ} من الكواكب السيارة مثل الشمس والقمر وغيرهما والملائكة المقربين بأن جعلها أسباباً محصلة لمنافعكم ومراداتكم فتسخير الكواكب بأن الله تعالى سيرها في البروج على الأفلاك التي دبر لكل واحد منها فلكاً وقدر لها القرانات والاتصالات وجعلها مدبرات العالم السفلي من الزماني مثل الشتاء والصيف والخريف والربيع ومن المكاني مثل المعدن والنبات والحيوان والإنسان وظهور الأحوال المختلفة بحسب سير الكواكب على الدوام لمصالح الإنسان ومنافعهم منها.
قال الكاشفي : (رام ساخت براى نفع شما آنه در آسمانهاست از آفتاب وماه وستاره تا از روشنى ايشان بهره مندشويد) :
ز مشرق بمغرب مه وآفتاب
روان كرد وكسترد كيتى بر آب
(واز ستاركان تابدايشان راه بريد) كما قال تعالى : {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وتسخير الملائكة بأن الله تعالى من كمال قدرته وحكمته جعل كل صنف من الملائكة موكلين على نوع من المدبرات وعوناً لها كالملائكة الموكلين على الشمس والقمر والنجوم وأفلاكها والموكلين على السحاب والمطر.
وقد جاء في الخبر "إن على كل قطرة من المطر موكلاً من الملائكة لينزلها حيث أمر" والموكلين على البحور والفلوات والرياح والملائكة الكتاب للناس الموكلين عليهم ومنهم المعقبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله حتى جعل على الأرحام ملائكة فإذا وقعت نطفة الرجل في الرحم يأخذها الملك بيده اليمنى وإذا وقعت نطفة المرأة يأخذها الملك بيده اليسرى فإذا أمر بمشجها يمشج النطفتين وذلك قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} (الإنسان : 2) والملائكة الموكلين على الجنة والنار كلهم مسخرون لمنافع الإنسان ومصالحهم حتى الجنة والنار مسخرتان لهم تطميعاً وتخويفاً لأنهم يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وكذا سخر ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل واليقين والصبر والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية والمواهب الربانية وتسخيرها بأن يسر لمن يسر له العبور عليها بالسير والسلوك المتداركة بالجذبة والانتفاع
89
بمنافعها والاجتناب عن مضارها {وَمَا فِى الأرْضِ} من الجبال والصحاري والبحار والأنهار والحيوانات والنباتات والمعادن بأن مكنكم من الانتفاع بها بوسط أو بغير وسط وكذا سخر ما في أرض النفوس من الأوصاف الذميمة مثل الكبر والحسد والحقد والبخل والحرص والشره والشهوة وغيرها وتسخيرها بتبديلها بالأخلاق الحميدة والعبور عليها والتمتع بخواصها محترزاً عن آفاتها {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} أتم وأكمل {نِعَمَهُ} جمع نعمة وهي في الأصل الحالة الطيبة التي يستلزها الإنسان فأطلقت للأمور اللذيذة الملائمة للطبع المؤدية إلى تلك الحالة الطيبة {ظَـاهِرَةً} أي : حال كون تلك النعم محسوسة مشاهدة مثل حسن الصورة وامتداد القامة وكمال الأعضاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
دهد نطفه را صورتى ون رى
كه كر دست برآب صورتكرى
والحواس الظاهرة : من السمع والبصر والشم والذوق واللمس والنطق وذكر اللسان والرزق والمال والجاه والخدم والأولاد والصحة والعافية والأمن ووضع الوزر ورفع الذكر والأدب الحسن ونفس بلا ذلة وقدم بلا ذلة والإقرار والإسلام من طق الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج والقرآن وحفظه ومتابعة الرسول والتواضع لأولياء الله والإعراض عن الدنيا ويبين آياته للناس وأنتم الأعلون يعني النصرة والغلبة وغير ذلك مما يعرفه الإنسان.
{وَبَاطِنَةً} ومعقولة غير مشاهدة بالحس كنفخ الروح في البدن وإشراقه بالعقل والفهم والفكر والمعرفة وتزكية النفس عن الرذائل وتحلية القلب بالفضائل ولذا قال عليه السلام : "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" ومحبة الرسول وزينه في قلوبكم والسعادة السابقة وأولئك المقربون وشرح الصدر وشهود المنعم وإمداد الملائكة في الجهاد ونحوه وصحة الدين والبصيرة وصفاء الأحوال والولاية فإنها باطنة بالنسبة إلى النبوة والفطرة السليمة وطلب الحقيقة والاستعداد لقبول الفيض واتصال الذكر على الدوام والرضى والغفران وقلب بلا غفلة وتوجه بلا علة وفيض بلا قلة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت : يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة قال : "أما الظاهرة : فالإسلام وما حَسُنَ من خلقك وما أفضل عليك من الرزق وأما الباطنة فما ستر من سوء عملك ولم يفضحك به".
س رده بيند عملهاى بد
هم او رده وشد بآلاى خود
(7/67)
"يا ابن عباس يقول الله تعالى : إني جعلت للمؤمن ثلث صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفر به عنه خطاياه وجعلت له ثلث ماله ليكفر به عنه خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أريته للناس لنبذه أهله فمن سواهم" {وَمِنَ النَّاسِ} أي : وبعض الناس فهو مبتدأ خبره قوله {مَن يُجَـادِلُ} ويخاصم يقال جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ومنه الجدال فكأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه {فِى اللَّهِ} في توحيده وصفاته ويميل إلى الشرك حيث يزعم أن الملائكة بنات الله.
وقال الكاشفي : {فِى اللَّهِ} (دركتاب خداى يعنى نضر بن الحارث كه ميكفت افسانه يشينيانست.
ودر عين المعاني آورده كه
90
يكى از يهود از حضرت رسالت ناه عليه السلام رسيدكه خداى تو ازتو يزست في الحال اورا صاعقه كرفت واين آيت آمدكه كسى بودكه مجادله كند در ذات حق) {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفاد من دليل {وَلا هُدًى} من جهة الرسول {وَلا كِتَـابٍ} أنزله الله تعالى {مُّنِيرٍ} مضيىء له بالحجة بل يجادل بمجرد التقليد كما قال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي : لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى {اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} على نبيه من القرآن الواضح والنور البين فآمنوا به {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ} الماضين يريدون به عبادة الأصنام يقول الله تعالى في جوابهم : {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَـانُ يَدْعُوهُمْ} الاستفهام للإنكار والتعجب من التعلق بشبهة هي في غاية البعد من مقتضى العقل والضمير عائد إلى الآباء والجملة في حيز النصب على الحالية.
والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم بما هم عليه من الشرك {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} فهم مجيبون إليه حسبما يدعوهم والسعر التهاب النار وعذاب السعير أي : الحميم كما في "المفردات".
وفي الآية منع صريح من التقليد في الأصول أي : التوحيد والصفات والتقليد لغة وضع الشيء في العنق محيطاً به ومنه القلادة ثم استعمل في تفويض الأمر إلى الغير كأنه ربطه بعنقه واصطلاحاً قبول قول الغير بلا حجة فيخرج الأخذ بقوله عليه السلام لأنه حجة في نفسه.
وفي "التعريفات" : التقليد عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقداً للحقية فيه من غير نظير وتأمل في الدليل كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه انتهى.
فالتقليد جائز في الفروع والعمليات ولا يجوز في أصول الدين والاعتقاديات بل لا بد من النظر والاستدلال لكن إيمان المقلد ظاهر عند الحنفية والظاهرية وهو الذي اعتقد جميع ما يجب عليه من حدوث العالم ووجود الصانع وصفاته وإرسال الرسل وما جاءوا به حقاً من غير دليل لأن النبي عليه السلام قبل إيمان الإعراب والصبيان والنسوان والعبيد والإماء من غير تعليم الدليل ولكنه يأثم بترك النظر والاستدلال لوجوبه عليه.
قال في "فصل الخطاب" : من نشأ في بلاد المسلمين وسبح الله عند رؤية صنائعه فهو خارج عن حد التقليد يعني إن مثل هذا المقلد لو ترك الاستدلال لا يأثم كمن في شاهق جبل فإن تسبيحه عند رؤية المصنوعات عين الاستدلال فكأنه يقول الله خالق هذا النمط البديع ولا يقدر أحد غيره على خلق مثل هذا فهو استدلال بالأثر على المؤثر وإثبات للقدرة والإرادة وغير ذلك فالاستدلال هو الانتقال من المصنوع إلى الصانع لا ملاحظة الصغرى والكبرى وترتيب المقدمات للإنتاج على قاعدة العقول وعلى هذا فالمقلد في هذا الزمان نادر.
وفي الآية إشارة إلى أن من سلك طريق المعرفة بالعقل القاصر فهو مقلد لا يصح الاقتداء به.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
خواهى بصوب كعبه تحقيق ره برى
ى برى مقلد كم كرده ره مرو
فلا بد من الاقتداء بصاحب ولاية عالم رباني واقف على أسرار الطريقة عارف بمنازل عالم الحقيقة مكاشف عن حقائق القرآن مطلع على معاني الفرقان فإنه يخرج بإذن الله تعالى من الظلمات الإنسانية إلى النور الرباني ويخلص من عذاب النفس الأمارة ويشرف بنعيم
91
القلب فإن كان مطلبك أيها السالك هو المطلب الحقيقي فإن طريقه بعيد وبرازخ منازله كثيرة لا يقدر أهل الجدل وأرباب العقول المشوبة بالوهم والخيال والشبهات على دلالة تلك الطريق فأين الثريا من يد المتطاول فهم إنما يصيدون الريح لا العنقاء إذ العنقاء في قاف الوجود وحقائق الوجود لا يعرفها إلا أهل المعرفة والشهود نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من العاملين بأحكام القرآن العظيم والمتأدبين بآداب الكلام القديم والواصلين إلى أنواره والمصاحبين بمن يتحقق بأسراره.
(7/68)
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه إِلَى اللَّهِ} من شرطية معناها بالفارسية (هركه ما) واسلم إذا عدى بالى يكون بمعنى سلم وإذا عدى باللام تضمن معنى الإخلاص والوجه بمعنى الذات.
والمعنى ومن يسلم نفسه إلى الله تسليم المتاع للعامل بأن فوض أمره إليه وأقبله بكليته عليه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} والحال أنه محسن في عمله آت به على الوجه اللائق الذي هو حسنه الوصفي المستلزم لحسنه الذاتي ولا يحصل ذلك غالباً إلا عن مشاهدة ولذا فسر النبي عليه السلام "الإحسان" : بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .
قال في "المفردات" : إمساك الشيء التعلق به وحفظه واستمسكت بالشيء إذا تحريت بالإمساك انتهى.
والاستمساك بالفارسية (نك درزدن) كما في "تاج المصادر".
والعروة بالضم ما يعلق به الشيء من عروته بالكسر أي : ناحيته والمراد مقبض نحو الدلو والكوز.
والوثقى الموثقة المحكمة تأنيث الأوثق كالصغرى تأنيث الأصغر والشيء الوثيق ما يأمن صاحبه من السقوط.
والمعنى فقد تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وأقواه ، وبالفارسية : (دست درزد استوارتر كوشه وبدست آويز محكم) وهو تمثيل لحال المتوكل المشتغل بالطاعة بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلى منه بحيث لا يخاف انقطاعه {وَإِلَى اللَّهِ} لا إلى أحد غيره {عَـاقِبَةُ الامُورِ} عاقبة أمر المتوكل وأمر غيره فيجازيه أحسن الجزاء ، وبالفارسية (وبالله كردد سر انجام همه كار ونان بود كه او خواهد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{وَمَن كَفَرَ} (وهركه نكردد نك در عروه وثقى نزند) {فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُه} فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة يقال احزنه من المزيد ويحزنه من الثلاثي وأما حزن الثلاثي ويحزن المزيد فليس بشائع في الاستعمال {إِلَيْنَا} لا إلى غيرنا {مَرْجِعُهُمْ} رجوعهم ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه {فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب وجمع الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الموضعين باعتبار لفظه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي : الضمائر والنيات المصاحبة بالصدر فيجازي عليها كما يجازي على الأعمال الظاهرة.
{وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُه ا إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا} .
{نُمَتِّعُهُمْ} أي : الكافرين بمنافع الدنيا {قَلِيلا} تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً ، وبالفارسية : (برخور دارى دهم ايشانرا بنعمت وسرور زمانى اندك كه زود انقطاع يابد) فان ما يزول وإن كان بعد أمد طويل بالنسبة إلى ما يدوم قليل {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} الاضطرار حمل الإنسان على ما يضره وهو في التعارف حمل على أمر يكرهه أي : نلجئهم ونردهم في الآخرة قهراً ، وبالفارسية : (س بياريم ايشانرا به بياركى
92
يعني نا ر بيايند) {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق.
وفي "التأويلات النجمية" : غلظة العذاب عبارة عن دوامه إلى الأبد انتهى.
والغليظ ضد الرقيق وأصله أن يستعمل في الأجسام لكن قد يستعار للمعاني كما في "المفردات".
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} أي : الكافرين {مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} أي : الأجرام العلوية والسفلية {لَيَقُولُنَّ} خلقهن {اللَّهِ} لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به {قُلِ الْحَمْدُ} على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} شيئاً من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم بأن يتركوا الشرك ويعبدوا الله وحده.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا} .(7/69)
{مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} فلا يستحق العبادة فيهما غيره {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ} بذاته وصفاته قبل خلق السموات والأرض وبعده لا حاجة به في وجوده وكماله الذاتي إلى شيء أصلاً وكلمة هو للحصر أي : هو الغني وحده وليس معه غني آخر دليله قوله : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} (محمد : 28) {الْحَمِيدُ} المحمود في ذاته وصفاته وإن لم يكن له حامد فهو الحامد لنفسه :
اى غنى درذات خود ازما سواى خويشتن
خود توميكويى بحمد خود ثناى خويشتن
وفي الأربعين الإدريسية : يا حميد الفعال ذا المنّ على جميع خلقه بلطفه.
قال السهروردي رحمه الله من داوم على هذا الذكر يحصل له من الأموال ما لا يمكن ضبطه.
وفي الآيات أمور :
منها أن التفويض والتوكل وإخلاص القصد والإعراض عما سوى الله والإقبال على الله بالتوحيد والطاعة من موجبات حسن العاقبة وهي الجنة والقربة والوصلة كما أن الكفر والشرك والرياء والسمعة من أسباب سوء العاقبة وهي النار والعذاب الغليظ والفرقة والقطيعة ، قال الشيخ العطار قدس سره :
زر وسيم وقبول كار وبارت
نيايد دردم آخر بكارت
اكراخلاص باشد آن زمانت
بكارآيد وكرنه واى جانت
وفي "البستان" :
شنيدم كه نا بالغى روزه داشت
بصد محنت آورد روزى باشت
در ديده بوسيد وما درسرش
فشاندند بادام وزر برسرش
و بروى كذر كرديك نيم روز
فتاد اندر روز آتش معده سوز
بدل كفت اكر لقمه ندى خورم
ه داند در غيب يا مادرم
و روى سر دردر بود وقوم
نهان خورد ويدا بسر برد صوم
س اين ير ازان طفل نادانترست
كه ازبهر مردم بطاعت درست
فالتمسك بأحكام الدين هي العروة الوثقى لأهل اليقين فإنها لا تنفصم بخلاف سائر العرى.
ومنها : أن ليس لعمر الدنيا بقاء بل هي ساعة من الساعات.
فعلى العاقل أن لا يغتر بالتمتع القليل بل يتأهب لليوم الطويل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
دريغاكه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دمى ندنيز
93
كنون وقت تخمست اكر رورى
كر امبد دارى كه خر من برى
ومنها : أن الله تعالى قدر المقادير ودبر الأمور فالكل يجري في الأفعال والأحوال على قضائه وقدره وليس على الناصح إلا التبليغ دون الجبر والحزن على عدم القبول فإن الحجر لا يصير مرآة بالصيقل.
توان اك كردن ز نك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
ومنها أن عدم الجريان بموجب العلم من الجهل في الحقيقة.
كرهمه علم عالمت باشد
بى عمل مدعى وكذابى
ومنها أن الله تعالى خلق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم فمنفعة الطاعات والعبادات راجعة إلى العباد لا إلى الله تعالى إذ هو غني عن العالمين لا ينتفع بطاعاتهم ولا يتضرر بمعاصيهم فهو يمنّ عليهم أن هداهم للإيمان والطاعات وليس لهم أن يمنوا عليه بإسلامهم جعلنا الله وإياكم من عباده المخلصين وحفظنا في حصنه الحصين من عونه وتوفيقه الرصين.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ} جواب لليهود حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء يعني أن علم التوراة وسائر ما أوتي الإنسان من الحكمة والمعرفة وإن كان كثيراً بالنسبة إليهم لكنه قطرة من بحر علم الله.
وقال قتادة : قال المشركون القرآن يوشك أن ينفد وينقطع فنزلت.
وقوله : {مِن شَجَرَةٍ} حال من الموصول وهي ماله ساق وتوحيدها لما أن المراد تفصيل الأحاد يعني أن كل فرد من جنس الشجر بحيث لا يبقى منه شيء لو برى قلماً وأصل القلم القص من الشيء الصلب كالظفر وخص ذلك بما يكتب به.
وفي "كشف الأسرار" : سمي قلماً لأنه قط رأسه والإقليم القطعة من الأرض وتقليم الأظفار قطعها.
والفرق بين القط والقدّ أن القط القطع عرضاً والقدّ القطع طولاً والقطع فصل الجسم بنفوذ جسم آخر فيه.
والمعنى : لو ثبت أن الأشجار أقلام {وَالْبَحْرُ} أي : والحال أن البحر المحيط بسعته وهو البحر الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة وهو بحر لا يعرف له ساحل ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه وفي هذا البحر عرش إبليس لعنه الله وفيه مدائن تطفو على وجه الماء وأهلها من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض وفي هذا البحر ينبت شجر المرجان كسائر الأشجار في الأرض وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أي : البحر مبتدأ خبره قوله
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
(7/70)
{يَمُدُّهُ} أي : يزيده وينصب فيه من مد الدواة جعلها ذات مداد وزاده فيها فلذا أغنى عن ذكر المداد {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد نفاده وفنائه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} نحو بحر الصين وبحر تبت كسكر على ما في "القاموس" وبحر الهند وبحر السند وبحر فارس وبحر الشرق وبحر الغرب والله أعلم.
قال في "أسئلة الحكم" : إن الله زين الدنيا بسبعة أبحر وسبعة أقاليم انتهى ولم يتعرضوا لتعداد الأبحر فيما رأينا وقد استخرجناها من موضعها بطريق التقريب وأجرينا القلم فيها ويحتمل أن يكون المراد الأنهار السبعة من الفرات ودجلة وسيحان
94
وسيحون وجيحان وجيحون والنيل لأن البحر عند العرب هو الماء الكثير.
وقال الكاشفي : {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (هفت درياى ديكر مانند او) انتهى فيكون ذكر العدد للتكثير كما لا يخفى.
وفي "الإرشاد" إسناد المد إلى الأبحر السبعة دون البحر المحيط مع كونه أعظم منها وأطم لأنها هي المجاورة للجبال ومنابع المياه الجارية وإليها تنصب الأنهار العظام أولاً ومنها تنصب إلى البحر المحيط ثانياً.
والمعنى يمده الأبحر السبعة مداً لا ينقطع أبداً وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ} أي : ما فنيت متعلقات علمه وحكمته ونفدت تلك الأقلام والمداد وقد سبق تحقيقه في أواخر سورة الكهف عند قوله تعالى : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} (الكهف : 109) الآية وإيثار جمع القلة في الكلمات للإيذان بأن ما ذكر لا يفي بالقليل منها فكيف بالكثير.
وفي "التأويلات النجمية" : أي : لو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام والبحر يصير مداداً وبمقدار ما يقابله ينفق القرطاس ويتكلف الكتاب حتى تنكسر الأقلام وتفنى البحار وتستوفي القراطيس وفنى عمر الكتاب ما نفدت معاني كلام الله تعالى لأن هذه الأشياء وإن كثرت فهي متناهية ومعاني كلامه لا تتناهى لأنها قديمة والمحصور لا يفي بما لا حصر له انتهى وقد قصر من جعل الأرض قرطاساً.
وفي الآية إشارة ظاهرة إلى قدم القرآن فإن عدم التناهي من خاصية القديم.
وجاء في حق القرآن "ولا تنقضي عجائبه" أي : لا ينتهي أحد إلى كنه معانيه العجيبة وفوائده الكثيرة.
وفي الآية إشارة أيضاً إلى أن كلمات الحكماء الإلهية وعلومهم لا تنقطع أبداً لأنها من عيون الحكمة كما أن ماء العين لا ينقطع عن عينه وكيف ينقطع وحكمة الحكيم تلقين من رب العالمين وفيض من خزائنه وخزائنه لا تنفد كما دلت عليه الآية ولبعض العارفين تجلي برقيّ يعطي في مقدار طرفة عين من العلوم ما لا نهاية له وإذا كان حاله هذا في جزء يسير من الزمان فما ظنك بحاله في مدة عمره {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يعجزه شيء {حَكِيمٌ} لا يخرج عن علمه وحكمته أمر فلا تنفد كلماته المؤسسة عليهما.
وخاصية الاسم العزيز وجود الغنى والعز صورة ومعنى فمن ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أغناه الله وأعزه فلم يحوجه إلى أحد من خلقه والتقرب بهذا الاسم في التمسك بمعناه وذلك برفع الهمة عن الخلائق وهو عزيز جداً.
وخاصية الاسم الحكيم دفع الدواهي وفتح باب الحكمة من أكثر ذكره صرف عنه ما يخشاه من الدواهي وفتح له باب من الحكمة والتقرب بهذا الاسم تعلقاً أن تراعي حكمته في الأمور مقدماً ما جاء شرعاً ثم عادة فتسلم من معارض شرعي وتخلقاً أن تكون حكيماً والحكمة في حقنا الإصابة في القول والعمل وقد سبق في أول قصة لقمان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
واعلم أن في خلق البحار والأنهار والجزائر ونحوها حكماً ومصالح تدل على عظم ملكه تعالى وسعة سلطانه وليس من بر ولا بحر إلا وفيه خلق من الخلائق يعبد الله تعالى على أن الاسكندر وصل إلى جزيرة الحكماء وهي جزيرة عظيمة فرأى بها قوماً لباسهم ورق الشجر وبيوتهم كهوف في الصخر والحجر فسألهم مسائل في الحكمة فأجابوا بأحسن جواب وألطف خطاب لما أنهم من مظاهر الاسم الحكيم فقال لهم : سلوا حوائجكم لتقضى فقالوا له : نسألك
95
الخلد في الدنيا فقال : وأنى به لنفسي ومن لا يقدر على نفس من أنفاسه كيف يبلغكم الخلد فقال كبيرهم : نسألك صحة في أبداننا ما يقينا فقال : وهذا أيضاً لا أقدر عليه قالوا فعرّفنا بقية أعمارنا فقال : لا أعرف ذلك لروحي فكيف بكم؟ فقالوا له : فدعنا نطلب ذلك ممن يقدر على ذلك وأعظم من ذلك وجعل الناس ينظرون إلى كثرة الجنود أي : جنود الاسكندر وعظمة موكبه وبينهم شيخ صعلوك لا يرفع رأسه فقال الإسكندر : مالك لا تنظر إلى ما ينظر إليه الناس؟ قال الشيخ : ما أعجبني الملك الذي رأيته قبلك حتى أنظر إليك وإلى ملكك فقال الاسكندر : وما ذاك؟ قال الشيخ : كان عندنا ملك وآخر صعلوك فماتا في يوم واحد فغبت عنهما مدة ثم جئت إليهما واجتهدت أن أعرف الملك من المسكين فلم أَعرفه فتركهم وانصرف.
قال الشيخ العطار قدس سره :
ه ملكت اين وتوه ادشاهى
كه باشير اجل بر مى نيايى
اكر تو في المثل بهرام زورى
بروزوا سين بهرام كورى
حوملك اين جهان ملكى رونده است
(7/71)
بملك آن جهان شد هركه زنده است
اكر آن ملك خواهى اين فداكن
كه بابراهيم ادهم اقتداكن
رباط كهنه دنيا در انداخت
جهاندارى بدرويشى فروباخت
اكره ملك دنيا ادشاييست
ولى ون بنكرى اصلش كداييست
{وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ} .
{مَّا خَلْقُكُمْ} قال مقاتل وقتادة : إن كفار قريش قالوا : إن الله خلقنا أطواراً نطفة علقة مضغة لحماً فكيف يبعثنا خلقاً جديداً في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية وقال : ما خلقكم أيها الإنسان مع كثرتكم.
وقال الكاشفي : (نيست آفريدن شما اى اهل مكة) {وَلا بَعْثُكُمْ} إحياؤكم وإخراجكم من القبور ، وبالفارسية : (ونه برانكيختن شما بعدا ازمرك) {إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلا كخلقها وبعثها في سهولة الحصول إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته وقدرته قلوا أو كثروا ويقول : كن فيكون.
وقال الكاشفي : يعني (حق سبحانه وتعالى در خلق اشيا بآلات وادوات احتياج ندارد بلكه اسرافيل را كويد بكوبر خيز نداز كورها بيك دعوت او همه خلائق از كور بابيرون آيند) ومثاله في الدنيا أن السلطان يضرب النقارة عند الرحيل فيتهيأ الكل في ساعة واحدة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ} يسمع كل مسموع فيدخل فيه ما قالوا في أمر الخلق والبعث مما يتعلق بالإنكار والاستبعاد {بَصِيرٌ} يبصر كل مبصر لا يشغله علم بعضها عن بعض فكذلك الخلق والبعث.
وقال بعضهم : بصير بأحوال الأحياء والأموات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
س بقدرت نين كس عجز راراه نيست
قدرت بى عجز ندادى بكس
قدرت بى عجز تودارى وبس
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} .
{أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم يا من يصلح للخطاب علماً قوياً جارياً مجرى الرؤية.
{أَنَّ اللَّهَ} بقدرته وحكمته {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} الولوج الدخول في مضيق والإيلاج الإدخال أي : يدخل
96
الليل في النهار ويضيفه إليه بأن يزيد من ساعات الليل في ساعات النهار صيفاً بحسب مطالع الشمس ومغاربها ، يعني : (ازوقت نزول آفتاب بنقطه شتوى تازمان حلول أو بنقطه انقلاب صيفي از اجزاى شب مى كاهد ودر اجزاى روز مى افزايد تاروزى كه دراول جدى اقصر ايام سنه دراول سرطان اطول ايام سنه ميشود) يعني يصير النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات.
قال عبد الله بن سلام : أخبرني يا محمد عن الليل لِمَ سمي ليلاً قال : "لأنه منال الرجال من النساء جعله الله الفة ومسكناً ولباساً" قال : صدقت يا محمد ولِمَ سمي النهار نهاراً قال : "لأنه محل طلب الخلق لمعايشهم ووقت سعيهم واكتسابهم" قال : صدقت {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} أي : يدخله فيه ويضم بعض أجزائه إليه بأن يزيد من ساعات النهار في ساعات الليل شتاء بحسب المطالع والمغارب ، يعني : (درباقى سنه ازاجزاى روز كم مى كند واجزاى شب را بدان زياده مى زاد تاشبى كه در آخر جوزا اقصر ليالى بود در آخر قوس اطول ليالى ميشود) ، يعني : يصير الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات ووجدت مملكة في خط الاستواء لها ربيعان وصيفان وخريفان وشتاآن في سنة واحدة وفي بعضها ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار وبعضها حر وبعضها برد وممالك الأقاليم السبعة التي ضبط عددها في زمن المأمون ثلاثمائة وثلاث وأربعون مملكة منها ثلاثة أيام وهي أضيقها وثلاثة أشهر وهي أوسعها والمملكة سلطان الملك وبقاعه التي يتملكها
جزء : 7 رقم الصفحة : 62(7/72)
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (رام كرد رفتاب وماه راكه سبب منافع الخلق اند).
قال عبد الله بن سلام : أخبرني يا محمد عن الشمس والقمر أهما مؤمنان أم كافران؟ قال عليه السلام : "مؤمنان طائعان مسخران تحت قهر المشيئة" قال : صدقت قالك فما بال الشمس والقمر لا يستويان في الضوء والنور قال : "لأن الله محا آية الليل وجعل آية النهار ومبصرة نعمة منه وفضلاً ولولا ذلك لما عرف الليل من النهار" والجملة عطف على يولج والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر أمر متجدد في كل حين وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره وقد أشير إلى ذلك حيث قيل : {كُلُّ} من الشمس والقمر {يَجْرِى} بحسب حركته الخاصة القسرية على المدارات اليومية المتخالفة المتعددة حسب تعدد الأيام جرياً مستمراً {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن فإنهما لا ينقطع جريهما إلا حينئذٍ وذلك لأنه تموت الملائكة الموكلون عليهما فيبقى كل منهما خالياً كبدن بلا روح ويطمس نورهما فيلقيان في جهنم ليظهر لعبدة الشمس والقمر والنار أنها ليست بآلهة ولو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها فالجملة اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد هذا وقد جعل جريانهما عبارة عن حركتها الخاصة بهما في فلكهما والأجل المسمى عن منتهى دورتهما وجعل مدة الجريان للشمس سنة وللقمر شهراً فالجملة حينئذٍ بيان لحكم تسخيرهما وتنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر وكون ذلك بحسب انقلاب جريان الشمس والقمر على مداراتهما اليومية {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بكنهه عطف على أن الله يولج الخ داخل معه في حيز الرؤية فإن من شاهد ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون
97
صانعه محيطاً بجلائل أعماله ودقائقها.
{ذَالِكَ} المذكور من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها {بِأَنَّ اللَّهَ} أي : بسبب أن الله تعالى {هُوَ الْحَقُّ} الهيته فقط {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} تعالى من الأصنام {الْبَـاطِلُ} الهيته لا يقدر على شيء من ذلك فليس في عبادته نفع أصلاً والتصريح بذلك مع أن الدلالة على اختصاص حقية الهيته به تعالى مستتبعة للدلالة على بطلان الهية ما عداه لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ} المرتفع عن كل شيء {الْكَبِيرُ} المتسلط عليه يحتقر كل في جنب كبريائيه.
قال في "شرح حزب البحر" : من علم أنه العلي الذي ارتفع فوق كل شيء علوه مكانة وجلالاً يرفع همته إليه ولا يختار سواه ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها.
وعن علي رضي الله عنه علو الهمة من الإيمان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
قال الحافظ :
همايى ون توعالى قدر حرص استخوان حيفست
دريغا سايه همت كه برنا اهل افكندى
ومن عرف كبرياءه ونسي كبرياء نفسه تعلق بعروة التواضع والإنصاف ولزم حفظ الحرمة.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا كبير أنت الذي لا تهتدي العقول لوصف عظمته.
قال السهروردي : إذا أكثر منه المديان أدى دينه واتسع رزقه وأن ذكره معزول عن رتبة سبعة أيام كل يوم ألفاً وهو صائم فإنه يرجع إلى مرتبته ولو كان ملكاً ثم في قوله : {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَـاطِلُ} إشارة إلى أن كل ما يطلب من دونه تعالى هو الباطل فلا بد من تركه بالاختيار قبل الفوت بالاضطرار ومن المبادرة إلى طلب العلى الكبير قبل فوات الفرصة.
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيزاست والوقت سيف
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
نسأل الله التدارك.
{ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَـاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَاتِهِ ا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَا فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} .
(7/73)
{أَلَمْ تَرَ} رؤية عيانية أيها الذي من شأنه الرؤية والمشاهدة {أَنَّ الْفُلْكَ} بالفارسية (كشتى) {تَجْرِى} (مى رود).
قال في "المفردات" الجري المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه {فِى الْبَحْرِ} (دردريا) {أَلَمْ تَرَ} الباء للصلة أي : متعلقة بتجري أو للحال أي : متعلقة بمقدر هو حال من فاعله أي : ملتبسة بنعمته تعالى وإحسانه في تهيئة أسبابه.
وقال الكاشفي : (بمنت واحسان او آنرا برورى آب نكه ميدارد بادرا براى رفتن او ميفرستد).
وفي "الأسئلة المقحمة" برحمة الله حيث جعل الماء مركباً لكم لتقريب المزار {لِيُرِيَكُم} (تابنمايد شمارا) {مِّنْ ءَايَاتِهِ} أي : بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته وبعض عجائبه وهو في الظاهر سلامتهم في السفينة كما قيل لتاجر ما أعجب ما رأيته من عجائب البحر قال : سلامتي منه وفي الحقيقة سلامة السالكين في سفينة الشريعة بملاحية الطريقة في بحر الحقيقة {إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور من أمر الفلك والبحر {لايَـاتٍ} عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} مبالغ في الصبر على المشاق فيتعب نفسه في التفكر في الأنفس والآفاق {شَكُورٍ} مبالغ في الشكر على نعمائه وهما صفتا المؤمن فكأنه قيل لكل مؤمن وأنه وصفه بهما لأن أحسن خصاله الصبر والشكر والإيمان نصفان نصف للصبر ونصف للشكر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
واعلم : أن الصبر تحمل المشاق بقدر القوة البدنية وذلك في الفعل كالمشي ورفع الحجر كما يحصل للجسوم
98
الخشنة وفي الانفعال كالصبر على المرض واحتمال الضرب والقطع وكل ذلك ليس بفضيلة تامة بل الفضيلة في الصبر عن تناول مشتهى لإصلاح الطبيعة والصبر على الطاعات لإصلاح النفس فالصبر كالدواء المر وفيه نفع.
طبيب شربت تلخ ازبراى فائده ساخت†
والشكر تصور النعمة بالقلب والثناء على المنعم باللسان والخدمة بالأركان وجعل الصبر مبدأ والشكر منتهى يدل على كون الشكر أفضل من الصبر فإن من صبر فقد ترك إظهار الجزع ومن شكر فقد تجاوز إلى إظهار السرور بما جزع له الصابر فكم من فرق بين حبس النفس على مقاساة البلاء وهو الصبر وبين عدم الالتفات إلى البلاء بل يراه من النعماء وهو الشكر وفي وصف الأولياء :
خوشا وقت شوريد كان غمش
اكر زخم بينند اكر مرهمش
دمادم شراب الم در كشند
وكر تلخ بينند دم در كشند
نه تلخ است صبرى كه برياد اوست
كه تلخى شكر باشد ازدست دوست
{وَإِذَا غَشِيَهُم} غشيه ستره وعلاه والضمير لمن ركب البحر مطلقاً أو لأهل الكفر أي : علاهم وأحاط بهم {مَّوْجٌ} هو ما ارتفع من الماء {كَالظُّلَلِ} كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما ، وبالفارسية : (موج دريا كه دربزركى مانند سايبانها يا مثل كوهها يا ابراها) جمع ظلة بالضم ، وبالفارسية : (سايبان) كما قال في "المفردات" الظلة شيء كهيئة الصفة وعليه حمل قوله تعالى : {مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} وذلك موج كقطع السحاب انتهى.
وفي "كشف الأسرار" كل ما أظلك من شيء فهو ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها وجعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء {دَعَوُا اللَّهَ} (خوانند خدايرا) حال كونهم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي : الدعاء والطاعة لا يذكرون معه سواه ولا يستغيثون بغيره لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد والإخلاص أفراد الشيء من الشوائب {فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ} الله تعالى {إِلَى الْبَرِّ} وجاد بتحقيق مناهم بسبب إخلاصهم في الدعاء ، وبالفارسية : (س آن هنكام كه برهاند ايشانرا وبرساندبسلامت بسوى صحرا وبيابان) {فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} أي : مقيم على الطريق القصد وهو التوحيد أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجملة.
قال بعضهم لما كان يوم فتح مكة : أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس إلا أربعة نفر وقال : "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة ابن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح" فأما عكرمة فهرب إلى البحر فأصابتهم ريح عاصف فقال أهل السفينة : اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ههنا فقال عكرمة لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فما ينجيني في البر غيره اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلاجدن عفوّاً كريماً فسكنت الريح فرجع إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
قضا كشتى آنجا كه خواهد برد
وكرنا خدا جامه برتن درد
99
كرت بيخ اخلاص در بوم نيست
ازين در كسى ون تومحروم نيست
سلامت در اخلاص اعمال هست
شود زورق زرق كاران شكست(7/74)
{وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا} (وانكار نكنند نشانهاى قدرت مارا) {إِلا كُلُّ خَتَّارٍ} غدار فإنه نقض للعهد الفطري أو رفض لما كان في البحر.
والختر أسوء الغدر وأقبحه.
قال في "المفردات" الختر غدر يختر فيه الإنسان أي : يضعف ويكسر لاجتهاده فيه {كَفُورٍ} مبالغ في كفران نعم الله تعالى وإنما يذكر هذا اللفظ لمن صار عادة له كما يقال ظلوم وإنما وصف الكافر بهما لأنهما أقبح خصال فيه.
وقد عدَّ النبي عليه السلام الغدر من علامات المنافق لكن قال علي رضي الله عنه : الوفاء لأهل الغدر غدر والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى كما أن التكبر على المتكبر صدقة.
فعلى العاقل الوفاء بالعهد ، وهو الخروج عن عهدة ما قيل عند الإقرار بالربوبية بقوله : {بَلَى} حيث قال الله تعالى : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (الأعراف : 172) وهو للعامة العبادة رغبة في الوعد ورهبة من الوعيد وللخاصة الوقوف مع الأمر لا لغرض وقد يعرض للإنسان النسيان فينسى العهد فيصير مبتلى بحسب مقامه.
ـ حكي ـ أن الشيخ أبا الخير الأقطع سئل عن سبب قطع يده فقال : كنت أتعيش من سقط مائدة الناس فخطر لي الترك والتوكل فعهدت أن لا آكل من طعام الناس ولا من حبوب الأراضي فلم يفتح الله لي شيئاً من القوت قريباً من خمسين يوماً حتى غلب الضعف على القوى ثم فتح قرصتين مع شيء من الأدام ثم إني خرجت من بين الناس وسكنت في مغارة فيوماً من الأيام خرجت من المغارة فرأيت بعض الفواكه البرية فتناولت شيئاً منها حتى إذا جعلته في فمي تذكرت العهد وألقيته وعدت إلى المغارة ففي أثناء ذلك أخذ بعض اللصوص وقطاع الطريق فقطع أيديهم وأرجلهم في حضور أمير البلدة فأخذوني أيضاً وقالوا : أنت منهم حتى إذا كنت عند الأمير قطع يدي فلما أرادوا قطع رجلي تضرعت إلى الله تعالى وقلت يا رب إن يدي هذه جنت فقطعت فما جناية رجلي فعند ذلك جاء شخص إلى الأمير كان يعرفني فوصف له الحال حتى عفا بل اعتذر اعتذاراً بليغاً فهذه حال الرجال مع الله فالعبرة حفظ العهد ظاهراً وباطناً.
قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ازدم صبح ازل تاآخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
وأما الكفران فسبب لزوال الإيمان ألا ترى أن بلعم بن باعوراء لم يشكر يوماً على توفيق الإيمان وهداية الرحمن حتى سلب عنه والعياذ بالله تعالى.
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَا فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌا وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ * يا اأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِه شَيْـاًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} .
{أَيُّهَا النَّاسُ} نداء عام لكافة المكلفين وأصله لكفار مكة {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} (برهيزيد ازعذاب وخشم خداوند خويش) وذلك بالاجتناب عن الكفر والمعاصي وما سوى الله تعالى.
قال بعض العارفين مرة يخوّفهم بأفعاله فيقول : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} (الأنفال : 25) ومرة بصفاته فيقول : {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (العلق : 14) ومرة بذاته فيقول : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران : 28) {وَاخْشَوْا} الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى عليه {يَوْمًا} .
قال في "التيسير" يجوز أن يكون على ظاهره لأن يوم القيامة مخوف {لا يَجْزِى} فيه {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أي : لا يقضي عنه شيئاً من الحقوق ولا يحمل من سيآته ولا يعطيه من طاعاته يقال جزاه دينه إذا قضاه.
وفي "المفردات" الجزاء
100
الغناء والكفاية كقوله تعالى : {لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 123) والفارسية (وبترسيد از روزى كه دفع نكند عذاب را وباز ندارد در از سر خويش) والولد ولو كان يقع على القريب والبعيد أي : ولد الولد لكن الإضافة تشير إلى الصلبي القريب فإذا لم يدفع عما هو الصق به لم يقدر أن يدفع عن غيره بالطريق الأولى.
ففيه قطع لأطماع أهل الغرور المفتخرين بالآباء والأجداد المعتمدين على شفاعتهم من غير أن يكون بينهم جهة جامعة من الإيمان والعمل الصالح
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
(7/75)
{وَلا مَوْلُودٌ} (ونه فرزندى) عطف على والد وهو مبتدأ خبره قوله : {هُوَ جَازٍ} قاض ومؤدّ {عَن وَالِدِه شَيْـاًا} ما من الحقوق وخص الولد والوالد بالذكر تنبيهاً على غيرهما والمولود خاص بالصلبي الأقرب فإذا لم يقبل شفاعته للأب الأول الذي ولد منه لم يقبل لمن فوقه من الأجداد وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي ولقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة ولذا قالوا : إن هذا الخبر خاص بالكفار فإن أولاد المؤمنين وآباءهم ينفع بعضهم بعضاً قال تعالى : {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور : 21) أي : بشرط الإيمان {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالحشر والجنة والنار والثواب والعقاب والوعد يكون في الخير والشر يقال وعدته بنفع وضر وعداً وميعاداً والوعيد في الشر خاصة {حَقٌّ} كائن لا خلف فيه {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} يقال غره خدعه وأطمعة بالباطل فاغتر هو كما في "القاموس" والمراد بالحياة الدنيا زينتها وزخارفها وآمالها ، يعني : (بمتاعهاى دلفريب او فريفته مشويد).
وفي "التأويلات النجمية" : أي : بسلامتكم في الحال وعن قريب ستندمون في المآل انتهى {وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
قال في "المفردات" الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوات وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين أي : ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور والخدعة بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي وينسيكم الرجوع إلى القبور ويحملكم على الغفلة عن أحوال القيامة وأهوالها.
وعذر فردارا عمر فردا بايد†
كار امروز بفردا نكذارى زنهار
روز ون يافته كاركن وعذر ميار
قال في "كشف الأسرار" : الغرة بالله حسن الظن به مع سوء العمل وفي الخبر : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله المغفرة" ونعم ما قيل :
إن السفينة لا تجري على اليبس†
فلا بد من الأعمال الصالحة فإن بها النجاة وبها يلتحق الأواخر بالأوائل.
ففي الآية حسم لمادة الطمع في الانتفاع بالغير مع إهمال الإسلام أو الطاعات اعتماداً على صلاح الغير فإن يوم القيامة يوم عظيم لا ينفع فيه من له اتصال الولادة فما ظنك بما سواها ويشتغل كل أحد بنفسه إلا من رحمه الله تعالى.
وعن كعب الأحبار تقول امرأة من هذه الأمة لولدها يوم القيامة : يا ولدي أما كان لك بطني وعاء وحجري وطاء وثديي سقاء كما قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
نه طفلى زبان بسته بودى زلاف
همى روزى آمد بجوفت زناف
ونافت بريدند روزى كسست
به ستان مادر در آويخت دست
101
كنار وبرمادر دلذير
بهشت است وستان ازوجوى شير
فاحمل عني واحداً فقد أثقلني ذنوبي فيقول هيهات يا أماه كل نفس بما كسبت رهينة فإذا حملت عنك فمن يحمل عني.
من وتو دو محتاج يك مائده
نه ازمن نه از تو بمن فائده
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إنه ليكون للوالدين على ولدهما دين فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به فيقول : أنا ولدكما فيودّ أن لو كان أكثر من ذلك" فلا يليق للمؤمن الإهمال في العبادة والتوبة والندم اغتراراً واعتماداً على مجرد الكرم.
ـ ذكر في الإسرائيليات ـ أن الكليم عليه السلام مرض فذكر له دواء المرض فأبى وقال : يعافيني بغير دواء فطالت علته ، فأوحى الله إليه وقال : وعزتي وجلالي لا أبرئك حتى تتداوى ، أتريد أن تبطل حكمتي.
فاتضح بهذا أن الأعمال أسباب ووسائل للجنات والدرجات وإن لم تكن عللاً موجبة فكما أن أهل الدنيا يباشرون الأسباب في تحصيل مرامهم فكذلك ينبغي لأهل الآخرة أن يباشروا الأعمال الصالحة في تحصيل الدرجات العالية والمطالب الأخروية.
ومن هذا المقام ما حكي عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنه لما منع من دخول الحمام بلا أجرة تأوّه وقال : إذا منع من دخول بيت الشيطان بلا شيء فأنى يدخل بيت الرحمن بلا شيء؟ قال بعض الكبار : لا ينبغي للمؤمن أن يتطير ويعد نفسه من الأشقياء فيتكاسل في العمل بل ينبغي أن يحسن الظن بالله تعالى ويجاهد في طريقه فإن للاعتقاد تأثيراً بليغاً وقد وعد الله ووعد الشيطان ووعد الله تعالى صدق محض لأنه هو الولي ووعد الشيطان كذب محض لأنه هو العدو فالإصغاء لكلام الولي خير من استماع كلام العدو فلا تغتر بتغرير الشيطان والنفس ولا بالحياة الدنيا فإن دولتها ذاهبة وزينتها زائلة وليس لها لأحد وفاء.
برمرد هشيار دنيا خس است
كه هر مدتى جاى ديكر كسست
منه برجهان دل كه بيكانه ايست
و مطرب كه هرروز درخانه ايست
نه لائق بود عشق بادلبرى
كه هربا مدادش بود شوهرى
مكن تكيه برملك وجاه وحشم
كه يش ازتو بودست وبعد ازتوهم
همه تخت وملكى ذيرد زوال
بجز ملك فرمانده لا يزال
وغم وشادمانى نماند وليك
جزاى عمل ماند ونام نيك
عروسى بود نوبت ماتمت
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
كرت نيك روزى بود خاتمت
(7/76)
خدايا بحق بني فاطمة
كه برقول ايمان كنم خاتمه
نسأل الله سبحانه أن يختمنا على أفضل الأعمال الذي هو التوحيد وذكر رب العرش المجيد ويجعلنا في جنات تجري من تحتها الأنهار ويشرفنا برؤية جماله المنير في الليل والنهار آمين بجاه النبي الأمين.
يا اأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِه شَيْـاًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسُا بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ} .
{إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} الساعة جزء من أجزاء الجديدين سميت بها القيامة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أي : عنده علم وقت قيام القيامة وما يتبعه من الأحوال والأهوال وهو متفرد بعلمه فلا يدري أحد من الناس في أي : سنة وفي أي :
102
شهر وفي أي : ساعة من ساعات الليل والنهار تقوم القيامة.
ـ روي ـ أن الوارث بن عمرو من أهل البادية أتى النبي عليه السلام فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إن أرضنا أجدبت وإني ألقيت حباتي في الأرض فمتى ينزل المطر وتركت امرأتي حبلى فحملها ذكر أم أنثى وإني أعلم ما عملت أمس فما أعمل غداً وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت فنزلت ، يعني : (اين ن علم در خزانه مشيت حضرت آفريد كاراست وكليد اطلاع بدان بدست اجتهاد هي آدمى نداده اند) وإنما أخفى الله وقت الساعة ليكون الناس على حذر وأهبة كما روي أن أعرابياً قال للنبي عليه السلام : متى الساعة فقال عليه السلام : "وما أعددت لها" قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال : "أنت مع من أحببت".
لي حبيب عربي مذنى قرشي
كه بود دردو غمش مايه سودا وخوشى
ذره وارم بهوا دورىء اورقص كنان
تاشد او شهره آفاق بخورشيد وشى
{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} عطف على ما يقتضي الظرف من الفعل تقديره أن الله يثبت عنده علم الساعة وينزل الغيث كما في "المدارك".
وسمي المطر غيثاً لأنه غياث الخلق به رزقهم وعليه بقاؤهم فالغيث مخصوص بالمطر النافع أي : وينزله في زمانه الذي قدره من غير تقديم وتأخير إلى محله الذي عينه في علمه من غير خطأ وتبديل فهو متفرد بعلم زمانه ومكانه وعدد قطراته.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62
ـ روي ـ مرفوعاً "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا السماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء" وفي الحديث : "ما سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا أعصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" فمن أراد استجلاب الرحمة فعليه بالتوبة والندامة والتضرع إلى قاضي الحاجات بأخلص المناجاة.
تو ازفشاندن تخم اميد دست مدار
كه در كرم نكند ابرنوبهار امساك
{وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِ} الرحم بيت منبت الولد ووعاؤه أي : يعلم ذاته أذكر أم أنثى حي أم ميت وصفاته أتام أم ناقص حسن أم قبيح سعيد أم شقي :
براحوال نابوده علمش بصير
براسرار كفته لطفش خبير
قديمى نكو كار نيكوسند
بكلك قضا در رحم نقش بند
زبر افكند قطره سوى يم
زصلب آورد نطفه درشكم
ازان قطره لؤلؤى لالا كند
وزين صورتي سرو بالاكند
{وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ} من النفوس ، والدراية : المعرفة المدركة بضرب من الحيل ولذا لا يوصف الله بها ولا يقال الداري وأما قول الشاعر :
لا هم أدرى وأنت تدري†
فمن تصرف أجلاف العرب أو بطريق المشاكلة كما في قوله تعالى : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} (المائدة : 116) أي : ذاتك {مَّاذَا} أي : أي شيء {تَكْسِبُ غَدًا} الكسب ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ مثل كسب المال وقد يستعمل فيما يظن الإنسان أن يجلب به منفعة به مضرة والغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه كما أن أمس اليوم الذي قبل يومك بليلة أي : يفعل ويحصل من خير وشر ووفاق وشقاق وربما تعزم على خير فتفعل الشر وبالعكس وإذا لم يكن
103
للإنسان طريق إلى معرفة ما هو أخص به من كسبه وإن أعمل حيله وأنفذ فيها وسعه كان من معرفة ما عداه مما لم ينصب له دليل عليه أبعد وكذا إذا لم يعلم ما في الغد مع قربه فما يكون بعده لا يعلمه بطريق الأولى.
نداندكسى ون شود امر او
ه حاصل كند درس عمر او
يجز حق كه علمش محيط كلست
برابر باوماضى مستقبلست
{وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ} وإن أعملت حيلها {بِأَىِّ أَرْضٍ} مكان {تَمُوتُ} من بر وبحر وسهل وجبل كما لا تدري في أي : وقت تموت وإن كان يدري أنه يموت في الأرض في وقت من الأوقات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 62(7/77)
ـ روي ـ أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت فقال : كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني في بلاد الهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
قال في "المقاصد الحسنة" : كان رجل يقول : اللهم صلِ على ملك الشمس فيكثر ذلك فاستأذن ملك الشمس ربه أن ينزل إلى الأرض فيزوره فنزل ثم أتى الرجل فقال : إني سألت الله النزول من أجلك فما حاجتك؟ فقال : بلغني أن ملك الموت صديقك فسأله أن ينسىء في أجلي ويخفف عني الموت فحمله معه وأقعده مقعده من الشمس وأتى ملك الموت فأخبره فقال : من هو؟ فقال : فلان ابن فلان فنظر ملك الموت في اللوح معه فقال : إن هذا لا يموت حتى يقعد مقعدك من الشمس قال : فقد قعد مقعدي من الشمس فقال : فقد توفته رسلنا وهم لا يفرّطون فرجع ملك الشمس إلى الشمس فوجده قد مات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطوف ببعض نواحي المدينة فإذا بقبر يحفر فأقبل حتى وقف عليه فقال : لمن هذا؟ قيل : لرجل من الحبشة فقال : "لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه حتى دفن في الأرض التي خلق منها تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني" وأنشدوا :
إذا ما حمام المرء كان ببلدة
دعته إليها حاجة فيطير
وفائدة هذا : تنبيه العبد على التيقظ للموت والاستعداد له بحسن الطاعة والخروج عن المظلمة وقضاء الذين وإثبات الوصية بما له وعليه في الحضر فضلاً عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض وأنشد بعضهم :
مشينا في خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
وأرزاق لنا متفرقات
فمن لم تأته منا أتاها
ومن كتبت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
كما في "عقد الدرر" {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ} يعلم الأشياء كلها {خَبِيرٌ} يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها وعنه عليه السلام : "مفاتيح الغيب خمس وتلا هذه الآية فمن ادعى علم شيء من هذه المغيبات الخمس فهو كافر بالله تعالى" وإنما عد هذه الخمس وكل المغيبات لا يعلمها إلا الله لما أن السؤال ورد عنها كما سبق في سبب النزول.
وكان أهل الجاهلية يسألون المنجمين عنها زاعمين أنهم يعلمونها وتصديق الكاهن بما يخبره عن الغيب كفر لقوله عليه السلام : "من أتي كاهناً فصدقه
104
(7/78)
فيما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد" والكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدّعي معرفة الأسرار وكان في العرب كهنة يدعون معرفة الأمور فمنهم من يزعم أنه له رئيا من الجن يلقي إليه الأخبار.
قال أبو الحسن الآمدي في "مناقب الشافعي" التي ألفها : سمعت الشافعي يقول : من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلنا شهادته لقوله تعالى : {إِنَّه يَرَااكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف : 27) إلا أن يكون الزاعم نبياً كذا في "حياة الحيوان".
والمنجم إذا ادعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن وفي الحديث : "من سأل عرّافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" والعرّاف من يخبر عن المسروق ومكان الضالة والمراد من سأله على وجه التصديق لخبره وتعظيم المسؤول يعني إذا اعتقد أنه ملهم من الله أو أن الجن يلقون إليه مما يسمعون من الملائكة فصدقه فهو حرام وإذا اعتقد أنه عالم بالغيب فهو كفر كما في حديث الكاهن.
وأما إذا سأل ليمتحن حاله ويخبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهو جائز فعلم أن الغيب مختص بالله تعالى.
وما روي عن الأنبياء والأولياء من الأخبار عن الغيوب فبتعليم الله تعالى إما بطريق الوحي أو بطريق الإلهام والكشف فلا ينافي ذلك الاختصاص علم الغيب مما لا يطلع عليه إلا الأنبياء والأولياء والملائكة كما أشار إليه بقوله : (الجن : 26 ـ 27) ومنه ما استأثر لنفسه لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل كما أشار إليه بقوله : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ} (الأنعام : 59) ومنه علم الساعة فقد أخفى الله علم الساعة لكن إماراتها بانت من لسان صاحب الشرع كخروج الدجال ونزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها وغيرها مما يظهر في آخر الزمان من غلبة البدع والهوى وكذا أخبر بعض الأولياء عن نزول المطر وأخبر عما في الرحم من ذكر وأنثى فوقع كما أخبر لأنه من قبيل الإلهام الصحيح الذي لا يتخلف وكذا مرض أبو العزم الأصفهاني في شيراز فقال : إن مت في شيراز فلا تدفنوني إلا في مقابر اليهود فإني سألت الله أن أموت في طرطوس فبرىء ومضى إلى طرطوس ومات فيها يعني أخبر أنه لا يموت في شيراز فكان كذلك.
يقول الفقير : أخبر شيخي وسندي قدس سره في بعض تحريراته عن وقت وفاته قبل عشرين سنة فوقع كما قال وذلك من إمارات وراثته الصحيحة.
فإن قيل : إذا أمكن العلم بالغيب لخلص عباده تعالى بتعليمه إياهم فلم لم يعلم الله نبيه الغيوب المذكورة في الآية؟ فالجواب أن الله تعالى إنما فعل ذلك إشعاراً بأن المهم للعبد أن يشتغل بالطاعة ويستعد لسعادة الآخرة ولا يسأل عما لا يهم ولا يشتغل بما لا يعنيه فافهم جداً واعمل لتكون عاقبتك خيراً.
105
جزء : 7 رقم الصفحة : 62(7/79)
سورة السجدة
مكية وآيها ثلاثون
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{الم} (مرتضى علي كرم الله وجهه فرمودكه هر كتاب خدايرا خلاصه بوده وخلاصه قرآن حروف مقطعه است.
وكفته اند الف ازاقصاى حلق آيد وآن اول مخارج است.
ولام ازطرف لسانكفته شود وآن اوسط مخارج است.
وميم را ازشفه كويند وآن آخر مخارج است واين سخن اشارتست بآن كه بنده بايدكه درمبادى وأواسط وأواخر أقوال وأفعال خود بذكر حق بسحانه وتعالى مستأنس باشد).
وقال البقلي رحمه الله : الألف إشارة إلى الأعلام واللام إلى اللزوم والميم إلى الملك أعلم من نفسه أهل الكون لزوم العبودية عليهم وملكهم قهراً وجبراً حتى عبدوه طوعاً وكرهاً فمن علم وقع في الاسم ومن عبد وقع في الصفة ومن تسخر لمراده كما أراد وقع في نور الذات.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالألف إلى أنه ألف المحبوب بقربتي فلا يصبرون عني وألف العارفون بتمجيدي فلا يستأنسون بغيري والإشارة في اللام لأني لأحبائي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على صفائي أم قصروا في وفائي والإشارة في الميم ترك أوليائي مرادهم لمرادي فلذلك آثرتهم على جميع عبادي.
وفي "كشف الأسرار" (كفته اندكه رب العزة جل جلاله ون نور فطرت مصطفى عليه السلام بيافريد انرا بحضرت عزت خود بداشت نانكه خود خواست) فبقي بين يدي الله مائة ألف عام وقيل ألفي عام ينظر الله في كل يوم سبعين ألف نظرة يكسوه في كل نظرة نوراً جديداً وكرامة جديدة (ودران نظرها باسر فطرت او كفته بودندكه عزت قرآن مرتبت دار عصمت توخواهد بودآن خبردر نظرت اوراسخ كشته بود ون عين طينت او باسر فطرت او باين عالم آوردند واز دركاه عزت وحى منزل روى آورد اومى كفت ارجوك اين تحقيق آن وعد است كه مرا آن وقت دادند تسكين دل ويرا وتصديق انديشه او آيت فرستادكه {الم} الف اشارتست بالله لام بجبرئيل ميم بمحمد.
ميكويد بالهيت من وتقدس جبريل ومجد تو يا محمد اين وحى وآن فرآن آنست كه ترا وعده داده بوديم كه مرتبت دار نبوت ومعجز دولت توخواهد بود) وقال أهل التفسير : ألم خبر لمبتدأ محذوف أي : هذه السورة مسماة بألم.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} في هذا المقام وجوه من الاعراب الأوجه الأنسب بما بعده أنه مبتدأ ومعناه بالفارسية : (فرو فرستادن قرآن) {لا رَيْبَ فِيهِ} حال من الكتاب أي : حال كونه لا شك فيه عند أهل الاعتبار {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} خبر المبتدأ فإن كونه من رب العالمين حكم مقصود الإفادة وإنما كان منه لكونه معجزاً فلما أنكر قريش كونه منزلاً من رب العالمين قال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{أَمْ} منقطعة أي : بل أ {يَقُولُونَ افْتَرَااهُ} اختلق محمد القرآن فهذا القول منهم منكر متعجب منه لغاية ظهور بطلانه.
وفي "التأويلات النجمية" : إذا تعذر لقاء الأحباب فأعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب.
ذوقي رسد ازنامه تو روز فراقم
كرنامه طاعت نرسد روز قيامت
أنزل رب العالمين إلى العالمين كتاباً في الظاهر ليقرأ على أهل الظاهر فينذر به أهل الغفلة ويبشر به أهل الخدمة وكتاباً في الباطن على أهل الباطن ليتنور بأنواره بواطنهم ويتزين بأسراره سرائرهم فينذر به أهل القربة لئلا يلتفتوا إلى غيره ولا يستأنسوا بغيره فتسقطهم الغيرة عن القربة ويبشر به أهل المحبة بالوفاء بوعد الرؤية وباللقاء على بساط الوصلة وبالبقاء
106
بعد الفناء في الوحدة فيتكلموا بالحق عن الحق للحق فإذا سمع أهل الباطن كلامهم في الحقائق من ربهم أنكر عليهم أهل الغفلة أنه من الله.
زدشيخ شهر طعنه بر اسرار اهل دل
المرء لا يزال عدواً لما جهل
ثم أضرب عنه إلى بيان حقيقة ما أنكروه فقال : {بَلْ} (نه ننين است كافران ميكويند بلكه) {هُوَ} أي : القرآن {الْحَقُّ} (سخن درست وراست است فرآمده) {مِن رَّبِّكَ} (از رورد كار تو) ثم بين غايته فقال : {لِتُنذِرَ} (تابيم كنى از عذاب الهى) {قَوْمًا} هم العرب {مَّآ} نافية {أَتَااهُم مِّن نَّذِيرٍ} مخوف {مِّن قَبْلِكَ} أي : من قبل إنذارك أو من قبل زمانك إذ كان قريش أهل الفطرة وأضل الناس وأحوجهم إلى الهداية لكونهم أمة أمية وفي الحديث : "ليس بيني وبينه نبي" أي : ليس بيني وبين عيسى نبي من العرب أما إسماعيل عليه السلام فكان نبياً قبل عيسى مبعوثاً إلى قومه خاصة وانقطعت نبوته بموته وأما خالد بن سنان فكان نبياً بعد عيسى ولكنه أضاعه قومه فلم يعش إلى أن يبلغ دعوته وقد سبقت قصته على التفصيل فعلم من هذا أن أهل الفطرة ألزمتهم الحجة العقلية لأنهم كانوا عقلاء قادرين على الاستدلال لكنهم لم تلزمهم الحجة الرسالية {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} بإنذارك إياهم والترجي معتبر من جهته عليه السلام أي : لتنذرهم راجياً لاهتدائهم إلى التوحيد والإخلاص فعلم منه أن المقصود من البعثة تعريف طريق الحق وكل يهتدي بقدر استعداده إلا أن لا يكون له استعداد أصلاً كالمصرين فإنهم لم يقبلوا التربية والتعريف وكذا من كان على جبلتهم إلى يوم القيامة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
وأما قول "المثنوي" :
كرتوسنك صخره ومرمر شوى
ون بصاحب دل رسى كوهر شوى(7/80)
فلذلك في حق المستعد في الحقيقة ألا ترى أن أبا جهل رأى النبي عليه السلام ووصل إليه لكن لما رآه بعين الاحتقار وأنه يتيم أبي طالب لا بعين التعظيم وأنه رسول الله ووصل إليه وصول عناد وإنكار لا وصول قبول وإقرار لم يصر جوهراً وهكذا حال ورثته مع المقرين والمنكرين ثم إن الاهتداء إما اهتداء إلى الجنة ودرجاتها وذلك بالإيمان والإخلاص وإما اهتداء إلى القربة والوصلة وذلك بالمحبة والترك والفناء والأول حال أهل العموم والثاني حال أهل الخصوص وهو أكمل من الأول فعليك بقبول "الإرشاد" لتصل إلى المراد وإياك ومتابعة أهل الهوى فإنهم ليسوا من أهل الهدى والميت لا يقدر على تلقين الحي وإنما يقدر الحي تلقين الميت.
ـ روي ـ أن الشيخ نجم الدين الأصفهاني قدس سره خرج مع جنازة بعض الصالحين بمكة فلما دفنوه وجلس الملقن يلقنه ضحك الشيخ نجم الدين وكان من عادته لا يضحك فسأله بعض أصحابه عن ضحكه فزجره فلما كان بعد ذلك قال : ما ضحكت إلا أنه لما جلس على القبر يلقن سمعت صاحب القبر يقول : ألا تعجبون من ميت يلقن حياً.
قال الصائب :
107
زبى دران علاج درد خود جستن بدان ماند
كه خاراز ابرون آرد كسى بانيش عقربها
وقال المولى الجامي :
بلاف ناخلفان زمانه غره مشو
مرو و سامرى ازره ببانك كوساله
وقال الحافظ :
درراه عشق وسوسه اهر من بسست
هش دار وكوش دل بيام سروش كن
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المهتدين إلى جنابه اللائقين بحسن خطابه ويصوننا من الضلالة والصحبة بأربابها ويحفظنا من الغواية والاقتداء بأصحابها إنه الهادي والمرشد.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِا مَا لَكُم مِّن دُونِه مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الامْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الارْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{اللَّهُ} مبتدأ خبره قوله : {الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} أي : الأجرام العلوية والسفلية {وَمَا بَيْنَهُمَا} من السحاب والرياح ونحوهما {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} (درمقدار شش از ايام دنيا).
وقال في "كشف الأسرار" : (درشش روز هرروزى ازان هزار سال) انتهى ولو شاء خلقها في ساعة واحدة لفعل ولكنه خلقها في ستة أيام ليدل على التأني في الأمور {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (س مستولى شد حكم اوبر عرش كه اعظم مخلوقاتست) وقد سبق تحقيق الآية مراراً ويكفي لك إرشاداً ما في سورة الفرقان إن كنت من أهل الإيمان فارجع إلى تفسيرها وما فيها من الكلام الأكبرى قدس سره الخطير {مَا لَكُم مِّن دُونِه مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} أن مالكم حال كونكم متجاوزين رضى الله تعالى أحد ينصركم ويشفع لكم ويجيركم من بأسه {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (آياند ذير نمى شويد از مواعظ ربانى ونصائح قرآني).
قال في "الإرشاد" أي : ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها فالإنكار متوجه إلى عدم الاستماع وعدم التذكر أو تسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكار متوجه إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع.
والفرق بين التذكر والتفكر أن التفكر عند فقدان المطلوب لاحتجاب القلب بالصفات النفسانية وأما التذكر فهو عند رفع الحجاب والرجوع إلى الفطرة الأولى فيتذكر ما انطبع في الأزل من التوحيد والمعارف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{يُدَبِّرُ الامْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأرْضِ} التدبير التفكر في دبر الأمور والنظر في عاقبتها ، وبالفارسية : (انديشه كردن درعاقبت كار) وهو بالنسبة إليه تعالى التقدير وتهيئة الأسباب وله تعالى مدبرات سماوية كما قال فالمدبرات أمراً فجبريل موكل بالرياح والجنود وميكائيل بالقطر والنبات وملك الموت بقبض الأنفس وإسرافيل ينزل عليهم بالأمور.
والمعنى يدبر الله تعالى أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض وأضاف التدبر إلى ذاته إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره لا أثر له {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} العروج ذهاب في صعود من عرج بفتح الراء يعرج بضمها صعد أي : يصعد ذلك الأمر إليه تعالى ويثبت في علمه موجوداً بالفعل {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} (اندازه آن) {أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} أي : في برهة من الزمان متطاولة والمراد بيان طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان.
وقال بعضهم : {يُدَبِّرُ الامْرَ} (ميسازد كار ذنيا يعني حكم ميكند بدان وميفرستد ملكي راكه موكلست بدان {مِنَ السَّمَآءِ} ) از آسمان {إِلَى الأرْضِ} بسوى زمين س ملك مى آيد وآن كار بجاى
108
(7/81)
مى آرد س عروج ميكند بسوى آسمان در روزى كه هست اندازه او هزار سال از آنه شما شماره ميكنيد سالى دوازده ماه وما هى سى روز يعنى فرشته فرو مى آيد از آسمان وبالا ميرود درمدتى كه اكر آدمى رود آيد جز هزار سال ميسر نشود زيرا كه از زمين تا آسمان انصد سالى راهست س مقدار نزول وعروج هزار سال بود وأما قوله في سورة المعارج : {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج : 4) فأراد به مدة المسافة بين سدرة المنتهى والأرض ثم عوده إلى السدرة فالملك يسيره في قدر يوم واحد من أيام الدنيا فضمير إليه حينئذٍ راجع إلى مكان الملك يعني المكان الذي أمره الله تعالى أن يعرج إليه.
وقال بعضهم يدبر الله أمر الدنيا مدة أيام الدنيا فينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض ثم يعود الأمر والتدبير إليه حين ينقطع أمر الأمراء وحكم الحكام وينفرد الله بالأمر في يوم أي : يوم القيامة كان مقداره ألف سنة لأن يوماً من أيام الآخرة مثل ألف سنة من أيام الدنيا كما قال تعالى : {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} فمعنى خمسين ألف سنة على هذا أن يشتد على الكافرين حتى يكون كخمسين ألف سنة في الطول ويسهل على المؤمنين حتى يكون كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا فقيامة كل واحد على حسب ما يليق بمعاملته ففي الحشر مواقف ومواطن بحسب الأشخاص من جهة الأعمال والأحوال والمقامات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
يقول الفقير : قد اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على وجوه شتى وسكت بعضهم تفويضاً لعلمها إلى الله تعالى حيث أن كل ما ذكر فيها يقبل نوعاً من الجرح ويشعر بشيء من القصور ولا شك عند العلماء بالله أن لليوم مراتب وأحكاماً في الزمان فيوم كالآن وهو الجزء الغير المنقسم المشار إليه بقوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) ثم ينفصل منه اليوم الذي هو كألف سنة وهو يوم الآخرة ويوم الرب ثم ينفصل منه اليوم الذي هو كخمسين ألف سنة وهو يوم القيامة فالله تعالى يمتحن عباده بما شاء فيتقدر لهم اليوم بحسبه ومنهم من يكون حاله أسرع من لمح البصر كما قال : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحا بِالْبَصَرِ} (القمر : 50) وهو سر اليوم الشأني المذكور.
ثم إن للملائكة مقامات علوية معلومة في عالم ملكوت فربما ينزل بعضهم من المصعد المعلوم إلى مسقط الأمر في أقل من ساعة بل في لمحة كجبريل عليه السلام فإنه كان ينزل من سدرة المنتهى التي إليها ينزل الأحكام ويصعد الأعمال إلى النبي عليه السلام كذلك وربما ينزل في أكثر منها وإنما يتفاوت النزول والعروج باعتبار المبدأ فإذا اعتبر السماء الدنيا التي هي مهبط أحكام السدرة قدر مدتهما بألف سنة وإذا اعتبر سدرة المنتهى التي هي مهبط أحكام العرش قدرت بأكثر منها ولما كان القرآن يفسر بعضه بعضاً دل قوله : {تَعْرُجُ الملائكة وَالرُّوحُ} (المعارج : 4) الآية على أن فاعل يعرج في آية سورة السجدة أيضاً الملك وإنما قال إليه أي : إلى الله مع كونه لم يكن للحق مكان ومنتهى يمكن العروج إليه إشارة إلى التقرب وشرف العندية المرتبية وحقيقته إلى المقام العلوي المعين له هذا ما سنح لي والعلم عند الله الملك العلي.
وفي "التأويلات النجمية" : هو الذي {يُدَبِّرُ الامْرَ مِنَ السَّمَآءِ} أي : أمركن طبق سماء الروح والقلب {إِلَى الأرْضِ} أرض النفس والبدن بتدبير الأمر ثم يعرج إليه النفس المخاطبة لخطاب ارجعي إلى ربك {فِى يَوْمٍ}
109
طلعت فيه شمس القلب وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق تعالى {كَانَ مِقْدَارُهُ} في العروج بالجذبة {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} من أيامكم في السير من غير جذبة كا قال عليه السلام : "جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين" انتهى.
وفي "كشف الحقائق" : للشيخ النسفي قدس سره : (بدانكه نفس جزؤى اوجى دارد حضيضي دارد اوج وى فلك نهم است كه فلك الأفلاك محيط عالمست وحضيض وى خاكست كه مركز عالمست ونزولى دارد وعروجى دارد ونزول وى آمدنست بخاك {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ} (القدر : 4) وعروج وى بازكشتن است بفلك الأفلاك {تَعْرُجُ الملائكة وَالرُّوحُ} (المعارج : 4) ومدت آمدن ورفتن از هزار سال كم نيست وازنجاه هزار سال زياده نيست) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106(7/82)
{ذَالِكَ} الله العظيم الشأن المتصف بالخلق والاستواء وانحصار الولاية والنصرة فيه وتدبير أمر الكائنات {عَـالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن الخلق {وَالشَّهَـادَةِ} ما حضر لهم ويدبر أمرهما حسبما يقتضيه.
وقال الكاشفي : (داند امور دنيا وآخرت يا عالم بآنه بوده باشد وخواهد بود).
وقال بعض الكبار : الغيب الروح والشهادة النفس والبدن {الْعَزِيزُ} الغالب على أمره {الرَّحِيمُ} على عباده في تدبيره.
وفيه إيماء إلى أنه تعالى يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً لا إيجاباً.
{الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} خبر آخر لذلك.
قال الراغب : الإحسان يقال على وجهين : أحدهما : الإنعام على الغير يقال أحسن إلى فلان والثاني : إحسان من فعله وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً وعلى هذا قول أمير المؤمنين رضي الله عنه : الناس على ما يحسنون أي : منسوبون إلى ما يعلمون من الأفعال الحسنة انتهى أي : جعل كل شيء خلقه على وجه حسن في الصورة والمعنى على ما يقتضيه استعداده وتوجبه الحكمة والمصلحة ، وبالفارسية : (نيكو كرد هريزى راكه بيافريد يعنى بياراست بروجه نيكو بمقتضاى حكمت) :
كردن آنه درجهان شايد
كرده آننانكه مى بايد
ازتو رونق كرفت كار همه
كه تويى آفريد كار همه
نقش دنيا بلوح خاك ازتست
دل دانا وجان اك ازتست
طوّل رجل البهيمة والطائر وطوّل عنقهما لئلا يتعذر عليهما ما لا بد لهما منه من قوتهما ولو تفاوت ذلك لم يكن لهما معاش وكذلك كل شيء من أعضاء الإنسان مقدر لما يصلح به معاشه فجميع المخلوقات حسنة وإن اختلفت أشكالها وافترقت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الإنسان في خلقه حسن.
قال البقلي : القبيح قبيح من جهة الامتحان وحسن من حيث صدر من أمر الرحمن.
وقال الشيخ اليزدي : إن الله تعالى خلق الحسن والقبيح لكن القبيح كان في علمه أن يكون قبيحاً فلما كان ينبغي تقبيحه كان الأحسن والأصوب في خلقه تقبيحه على ما ينبغي في علم الله لأن المستحسنات إنما حسنت في مقابلة المستقبحات فلما احتاج الحسن إلى قبيح يقابله ليظهر حسنه كان تقبيحه حسناً انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
يقول الفقير : لا شك أن الله تعالى خلق الحسن والقبح وإن كان كل صنعه وفعله جميلاً ومطلق الخلق قد مدح به ذاته كما قال : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ} (النحل : 17)
110
لكنه لا يقال في مقام المدح أنه تعالى خالق القردة والخنازير والحيات والعقارب ونحوها من الأجسام القبيحة والضارة بل يقال خالق كل شيء فالقبيح ليس خلقه وإيجاده بل ما خلقه وإن كان قبح القبيح بالنسبة إلى مقابلة الحسن لا في ذاته وقد طلب عين الحمار بلسان الاستعداد صورته التي هو عليها وكذا الكلب ونحوه وصورتها مقتضى عينها الثابتة وكذا الحكم على الكلب بالنجاسة مقتضى ذاته وكل صورة وصفة في الدنيا فهي صورة كمال وصفة كمال في مرتبتها في الحقيقة ولو لم يظهر كل موجود في صورة التي هو عليها وفي صفته التي ألبسها الخلاق إليه بمقتضى استعداده لصار ناقصاً قبيحاً فأين القبح في الأشياء وقد خلقها الله بالأسماء الحسنى.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ} من بين جميع المخلوقات وهو آدم أبو البشر عليه السلام.
{مِنَ الطِّينِ} الطين التراب والماء المختلط وقد سمى بذلك وإن زال عنه قوة الماء.
قال الشيخ عبد العزيز النسفي رحمه الله : (خداوند تعالى قالب آدم را زخاك آفريد يعني از عناصر أربعه أما خاك ظاهر تربود خاكرا ذكر كردد وخاك آدم را ميان مكه وطائف مى رورد وتربيت داد بروايتى هل سال وبروايتى هل هزار سال اينست معنى "خمرت طينة آدم بيدى أربعين صباحاً").
وفي "كشف الأسرار" : (ه زيان دارد اين جوهر راكه نهادوى از كل بوده ون كمال وى دردل نهاده قيمت اوكه هست از روى تربت آن سركه با آدميان بود نه باعرش ونه باكرسى نه فافلك نه باملك زيرا كه همه بندكان مجرد بودند وآدميان همه بندكان بودند وهم دوستان) {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذريته سميت به لأنها تنسل من الإنسان أي : تنفصل كما قال في "المفردات" النسل الانفصال من الشيء والنسل الولد لكونه ناسلاً عن أبيه انتهى {مِن سُلَـالَةٍ} أي : من نطفة مسلولة أي : منزوعة من صلب الإنسان.
وقال الكاشفي : (از خلاصه بيرون آورده از صلب) ثم أبدل منها قوله : {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} حقير وضعيف كما في "القاموس" ، وبالفارسية : (از آب ضعيف وخوار) وهو المنى.
(7/83)
{ثُمَّ سَوَّاـاهُ} أي : قوم النسل بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي.
وقال الكاشفي : (س راست كرد قالب آدم را).
قال النسفي : (مراد : از تسويه آدم برابرىء اركانست يعني اجزاى هر هار برابر باشد وستويه قالب بمثابت نارست كه آهن را بتدبير بجايى رسانندكه شفاف وعكس طير شود وقابل صورت كردد) {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} أضافه إلى نفسه تشريفاً وإظهاراً بأنه خلق عجيب ومخلوق شريف وأنه له شأناً له مناسبة إلى حضرة الربوبية ولأجله من عرف نفسه فقد عرف ربه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
وفي "الكواشي" جعل فيه الشيء الذي اختص تعالى به ولذلك أضافه إليه فصار بذلك حياً حساساً بعد أن كان جماداً لا أن ثمة حقيقة نفخ.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الروح ليس بجسم يحل في البدن حلول الماء في الإناء ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر لا يتجزأ باتفاق أهل البصائر فالتسوية عبارة عن فعل في المحل القابل وهو الطين في حق آدم عليه السلام والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية فيستعد لقبول الروح وإمساكها والنفخ عبارة عما
111
اشتعل به نور الروح في المحل القابل فالنفخ سبب الاشتعال وصورة النفخ في حق الله محال والمسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ بالنفخ وهو الاشتعال والسبب الذي اشتعل به نور الروح هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل أما صفة الفاعل فالجود الذي هو ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل بالاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما والقابل هو الملونات دون الهواء الذي لا تلون له وأما صفة المحل القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل في التسوية ومثال صفة القابل صقالة المرآة والروح منزهة عن الجهة والمكان وفي قوتها العلم بجميع الأشياء والاطلاع عليها وهذه مناسبة ومضاهاة ليست لغيرها من الجسمانية فلذلك اختصت بالإضافة إلى الله تعالى انتهى كلامه باختصار.
قال الشيخ النسفي : (انسانرا ند روح است انسان روح طبيعي دارد ومحل وى خكرست دربهلوى راست است وروح حيواني دارد ومحل وى دلست دربهلوى ب است وروح نفساني دارد ومحل وى دماغست وروح انساني دارد ومحل آن روح نفسانيست وروح قدسي دارد ومحل وى روح انسانيست روح قدسي بمثابة نارست وروح انساني بمثابة روغنست وروح نفساني بمثابة فتيله است وروح حيواني بمثابة زجاجه است وروح طبيعي بمثابه مشكاتست اينست) معنى {مَثَلُ نُورِه كَمِشْكَـاوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور : 35) الآية والمنفوخ هو الروح الإنساني والإنسان يشارك الحيوان في الروح الطبيعي والروح الحيواني والروح النفساني ويمتاز عنه بالروح الإنساني الذي هو من عالم الأمر وخواص الإنسان يشاركون عوامهم في الأرواح الأربعة المذكورة ويمتازون عنهم بالروح القدسي الذي ينفخه الله عند الفناء التام جعلنا الله وإياكم ممن حيى بهذا الروح وأوصلنا إلى أنواع الفتوح
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{وَجَعَلَ} وخلق {لَكُمُ} لمنافعكم يا بني آدم {السَّمْعَ} لتسمعوا الآيات التنزيلية الناطقة بالبعث وبالتوحيد {وَالابْصَـارَ} لتبصروا الآيات التكوينية المشاهدة فيهما {وَالافْـاِدَةَ} لتعقلوا وتستدلوا بها على حقيقة الآيتين جمع فؤاد بمعنى القلب لكن إنما يقال فؤاد إذا اعتبر في القلب معنى التفؤد أي : التوقد {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} أي : تشكرون رب هذه النعم شكراً قليلاً على أن القلة بمعنى النفي والعدم فهو بيان لكفرهم بتلك النعم وربها.
وفيه إشارة إلى أن قليلاً من الإنسان يعرف نفسه بالمرآتية ليعرف ربه بالمحسنية المتجلى فيها وقد خلقه الله تعالى لمعرفة ذاته وصفاته كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) أي : ليعرفون وإنما يصل الإنسان إلى مرتبة المعرفة الحقيقية بدلالة الرسول ووراثته (حق سبحانه وتعالى همه عالم بيافريد فلك وملك وعرش وكرسي ولوح وقلم وبهشت ودوزخ وآسمان وزمين وباين آفريدها هي نظر مهر ومحبت نكرد رسول بايشان نفرستاد ويغام بايشان نداد ون نوبت بخاكيان رسيدكه بركشيدكان لطف بودند ونواختكان فضل ومعادن انوار وأسرار بلطف وكرم خويشتن ايشانرا محل نظر خودكرد يغمير بايشان فرستاد تا مهتدى شوند وفرشتكانرا رقيب ونكهبان ايشان كرد سوز مهر درسينهاى ايشان نهاد وآتش عشق در دلها افكند وخطوط ايمان بر صفحه دلهاى شان
112
(7/84)
بنوشت ورقم محبت برضمير شان كشيد ونعيم دنيا وطيبات رزق كه افريد از بهر مؤمنان آفريد نانكه كفت {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ} (الأعراف : 32) كافركه دردنيا روزى ميخورد وبطفيل مؤمن ميخورد آنكه كفت {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف : 32) روز قيامت خالص مر مؤمن را بود وكافررا يك شربت آب نبود) فعلى العاقل أن يعرف النعم والمنعم ويجتهد في خدمة الشكر حتى لا يكون من أهل البطالة وإذا كان من أهل الشكر للنعم الداخلة والخارجة من القوى والأعضاء وغيرهما فالله تعالى يشكر له أي : يقبل طاعته ويثني عليه عند الملأ الأعلى ويجازيه بأحسن الجزاء وهو الجنان ودرجاتها ونعيمها الأبدي لأهل العموم وقرباته ومواصلاته وتجليه السرمدي لأهل الخصوص نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين مدحهم بالشكر والطاعة في كل ساعة لا ممن ذمهم بتضييع الحقوق وإفساد الاستعداد والسعي في الأرض بالفساد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{وَقَالُوا} أي : كفار قريش كأبي بن خلف ونحوه من المنكرين للبعث بعد الموت (آياون) {ضَلَلْنَا فِى الأرْضِ} .
قال في "القاموس" ضل صار تراباً وعظاماً وخفي وغاب انتهى وأصله ضل الماء في اللبن إذا غاب وهلك.
والمعنى هلكنا وصرنا تراباً مخلوطاً بتراب الأرض بحيث لا نتميز منه ، يعني : (خاك أعضاى ما ازخاك زمين ممتيز نباشد نانكه آب درشير متميز نباشد) أو غبناً فيها بالدفن ذهبنا عن أعين الناس والعامل فيه نبعث أو يجدد خلقنا كما دل عليه قوله : (آياما) والهمزة لتأكيد الإنكار السابق وتذكيره {لَفِى خَلْقٍ جَدِيد} أي : أنبعث بعد موتنا وانعدامنا ونصير أحياءً كما كنا قبل موتنا يعني هذا منكر عجب فإنهم كانوا يقرون بالموت ويشاهدونه وإنما ينكرون البعث فالاستفهام الإنكاري متوجه إلى البعث دون الموت ، وبالفارسية : (در آفرينش نو خواهم بود يعنى ون خاك شويم آفريدن نو بما تعلق نخواهد كرفت) ثم أضرب وانتقل من بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة وما يلقونه فيها من الأهوال فقال : {بَلْ} (نه نانست كه ميكويند بلكه) {هُم} (ايشان) {بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ} لقاء الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه ، يعني : (بآخرت كه سراى بقاست) {كَـافِرُونَ} جاحدون فمن أنكره لقي الله وهو عليه غضبان ومن أقره لقي الله وهو عليه رحمن.
{قُلْ} بياناً للحق ورداً على زعمهم الباطل {يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} التوفي أخذ الشيء تاماً وافياً واستيفاء العدد.
قال في "الصحاح" توفاه الله قبض روحه والوفاة الموت.
والملك جسم لطيف نوراني يتشكل بأشكال مختلفة.
قال بعض المحققين : المتولي من الملائكة شيئاً من السياسة يقال له ملك بالفتح ومن البشر يقال له ملك بالكسر فكل ملك ملائكة وليس كل ملائكة ملكاً بل الملك هم المشار إليهم بقوله : فالمدبرات فالمقسمات والنازعات ونحو ذلك ومنه ملك الموت انتهى.
والموت صفة وجودية خلقت ضداً للحياة.
والمعنى يقبض عزرائيل أرواحكم بحيث لا يترك منها شيئاً بل يستوفيها ويأخذها تماماً على أشد ما يكون من الوجوه وأفظعها من ضرب وجوهكم وأدباركم أو يقبض أرواحكم بحيث لا يترك منكم أحداً ولا يبقى شخصاً من العدد الذي كتب عليهم الموت وأما ملك الموت نفسه فيتوفاه الله تعالى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
ـ كما روي ـ أنه إذا أمات
113
الله الخلائق لم يبق شيء له روح يقول الله لملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول : يا رب أنت أعلم بمن بقي لم يبقَ إلا عبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله : يا ملك الموت قد أذقت أنبيائي ورسلي وأوليائي وعبادي الموت وقد سبق في علمي القديم وأنا علام الغيوب أن كل شيء هالك إلا وجهي وهذه نوبتك فيقول الهي ارحم عبدك ملك الموت والطف به فإنه ضعيف فيقول سبحانه وتعالى : ضع يمينك تحت خدك الأيمن واضطجع بين الجنة والنار ومت فيموت بأمر الله تعالى.
وفي الآية رد للكافرين حيث زعموا أن الموت من الأحوال الطبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلة {الَّذِى وُكِّلَ} التوكيل أن تعتمد على غيرك وتجعله نائباً عنك ، وبالفارسية : (وكيل كردن كسى را بر يزى كماشتن وكاربا كسى كذاشتن) {بِكُمْ} أي : بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} تردون بالبعث للحساب والجزاء وهذا معنى لقاء الله.
(7/85)
واعلم أن الله تعالى أخبر ههنا ملك الموت هو المتوفي والقابض في موضع أنه الرسل أي : الملائكة وفي موضع أنه هو تعالى فوجه الجمع بين الآي أن ملك الموت يقبض الأرواح والملائكة أعوان له يعالجون ويعملون بأمره والله تعالى يزهق الروح فالفاعل لكل فعل حقيقة والقابض لأرواح جميع الخلائق هو الله تعالى وأن ملك الموت وأعوانه وسائط.
قال ابن عطية : إن البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت كأنه يعدم حياتها وكذلك الأمر في بني آدم إلا أن لهم نوع شرف بتصرف ملك الموت والملائكة معه في قبض أرواحهم.
قالوا إ عزرائيل يقبض الأرواح من بني آدم وهي في مواضع مختلفة وهو في مكان واحد فهو حالة مختصة به كما أن لوسوسة الشيطان في قلوب جميع أهل الدنيا حالة مختصة به.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : لقي جبريل ملك الموت بنهر بفارس فقال : يا ملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس عند الوباء ههنا عشرة آلاف وههنا كذا وكذا فقال له ملك الموت تزوى لي الأرض حتى كأنها بين فخذيّ فالتقطهم بيديّ.
ـ وروي ـ أن الدنيا لملك الموت كراحة اليد أو كطست لديه يتناول منه ما يشاء من غير تعب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في اليوم مرتين فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال : الآن يزاد بك عسكر الموتى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
ـ وروي ـ أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فينزع أعوانه روح الإنسان ويخرجونها من جسده فإذا بلغت ثغرة النحر نزعها هو.
ـ وروي ـ في الخبر أن له وجوهاً أربعة فوجه من نار يقبض به أرواح الكافرين ووجه من ظلمة يقبض به أرواح المنافقين ووجه من رحمة يقبض به أرواح المؤمنين ووجه من نور يقبض به أرواح الأنبياء والصديقين فإذا قبض روح المؤمن دفعها إلى ملائكة الرحمة وإذا قبض روح الكافر دفعها إلى ملائكة العذاب.
وكان ملك الموت يقبض الأرواح بغير وجع فأقبل الناس يسبونه ويلعنونه فشكا إلى ربه فوضع الله الأمراض والأوجاع فقالوا : مات فلان من وجع كذا وكذا.
وفي الحديث "الأمراض والأوجاع
114
كلها بريد الموت ورسل الموت فإذا جاء الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال : أيها العبد كم خبر بعد خبر وكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد أنا المخبر ليس بعدي خبر وأنا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعاً أو مكرهاً فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون فوالله ما ظلمت له أجلاً ولا أكلت له رزقاً بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحداً" قال عليه السلام : "لو رأوا مكانه وسمعوا كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم".
قال الكاشفي : (عجب إذ آدمي كه با وجود نين حريفي دركمين كونه لاف آسايش تواند زد) :
آسودكى مجوى كه از صدمت اجل
كس را نداده اند برات مسلمي
وفي "البستان" :
بيا اى كه عمرت بهفتاد رفت
مكر خفته بودى كه برباد رفت
كه يك لحظه صورت نبندد امان
و يمانه رشد بدور زمان
قال بعضهم لولا غفلة قلوب الناس ما أحال قبض أرواحهم على ملك الموت (خير نساج قدس سره بيمار بود ملك الموت خواست كه جان اوبر آرد مؤذن كفت وقت نماز شام كه الله أكبر الله أكبر خير نساج كفت يا ملك الموت باش تافريضه نمازبكزارم كه اين فرمان برمن فوت ميشود وفرمان توفوت نمى شود ون نماز بكزارد سربسجود نهاد كفت الهي آن روز كه اين وديعت مى نهادى زحمت ملك الموت درميان نبود ه باشدكه امروز بى زحمت او بردارى اين بكفت وجان بداد) :
يا رب ارفانى كنى مارا بتيغ دوستى
مر فرشته مرك را باما نباشد هي كار
هركه ازجام توروزى شربت شوق توخورد
ون نماند آن شراب اوداند آن رنج خمار
قال بعض الكبار : ملك الموت هو المحبة الآلهية فإنها تقبض الأرواح عن الصفات الإنسانية وتميتها عن محبوباتها لقطع تعلق الروح الإنساني عما سوى الحق تعالى فلترجع إلى الله بجذبة ارجعي إلى ربك والموت باصطلاح أهل الحقيقة قمع هوى النفس فمن مات عن هواه حيى حياة حقيقة.
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه : الموت هو التوبة قال تعالى : {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (البقرة : 54) فمن تاب فقد قتل نفسه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
مكن دامن ازكرد زلت بشوى
كه ناكه زبالا به بندند وى
(7/86)
{قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} .
{وَلَوْ تَرَى} (واكر بينى اى بيننده) {إِذِ الْمُجْرِمُونَ} هم القائلون أئذا ضللنا الخ.
قال في "الكواشي" : لو وإذ للماضي ودخلتا على المستقبل هنا لأن المستقبل من فعله كالماضي لتحقق وقوعه {نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} النكس قلب الشيء على رأسه ، وبالفارسية : (سرفرو افكندن ونكونسار كردن) أي : مطرقوا رؤوسهم ومطأطئوها في موقف العرض على الله من الحياء والحزن والغم يقولون {رَبَّنَآ} (اى روردكار ما) {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي : صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والمسموعة وكنا من قبل عمياً لا ندرك شيئاً {فَارْجِعْنَا} فأرددنا إلى الدنيا من رجعه رجعاً أي : رده وصرفه
{نَعْمَلْ}
115
عملاً {صَـالِحًا} حسبما تقضيه تلك الآيات {إِنَّا مُوقِنُونَ} الآن ، يعني : (بى كمانيم).
قال في "الإرشاد" : ادعاء منهم لصحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بموجبها كما أن ما قبله ادعاء لصحة مشعري البصر والسمع كأنهم قالوا أيقنا وكنا من قبل لا نعقل شيئاً أصلاً وجواب لو محذوف أي : لرأيت أمراً فظيعاً فهذا الأمر مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل كأنه قيل قد انقضى الأمر ومضى لكنك ما رأيته ولو رأيته لرأيت أمراً فظيعاً.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أهل الدنيا من المجرمين وكان جرمهم أنهم نكسوا رؤوسهم في أسفل الدنيا وشهواتها بعد أن خلقوا رافعي رؤوسهم عند ربهم يوم الميثاق عنداستماع خطاب ألست بربكم حيث رفعوا رؤوسهم وقالوا : بلى فلما ابتلوا بالدنيا وشهواتها وتزيينها من الشيطان نكسوا رؤوسهم بالطبع فيها فصاروا كالبهائم والأنعام في طلب شهوات الدنيا كما قال تعالى : {أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (الأعراف : 179) لأن للأنعام ضلالة طبيعية جبلية في طلب شهوات الدنيا وما كانوا مأمورين بعبودية الله ولا منهيين عن الشهوات حتى يحصل لهم ضلالة مخالفة للأمر والنهي وللإنسان شركة مع الأنعام في الضلالة الطبيعية بميل النفس إلى الدنيا وشهواتها وله اختصاص بضلالة المخالفة فلهذا صار أضل من الأنعام فكما عاشوا ناكسي رؤوسهم إلى شهوات الدنيا ماتوا فيما عاشوا فيه ثم حشروا على ما ماتوا عليه ناكسي رؤوسهم عند ربهم وقد ملكتهم الدهشة وغلبتهم الخجلة فاعتذروا حين لا عذر واعترفوا حين لا اعتراف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
سر ازجيب غفلت بر آور كنون
كه فردا نماند بخجلت نكون
كنونت كه شمست اشكى ببار
زبان دردهانست عذرى بيار
نه بيوسته باشد روان در بدن
نه همواره كردد زبان در دهن
{وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا} مقدر بقول معطوف على ما قدر قبل قوله {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} أي : ونقول لو شئنا أي : لو تعلقت مشيئتنا تعلقاً فعلياً بأن نعطي كل نفس من النفوس البرّة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق لهما لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو {لامْلَأَنَّ} (نا ر ركنيم) {جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} بالكسر جماعة الجن والمراد الشياطين وكفار الجن {وَالنَّاسِ} الذين اتبعوا إبليس في الكفر والمعاصي {أَجْمَعِينَ} يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر.
وقال بعضهم : {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} أي : سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله : {لاغْوِيَنَّهُمْ} الآية {لامْلَأَنَّ} الخ.
وفي "التأويلات" : {وَلَوْ شِئْنَا} في الأزل هدايتكم وهداية أهل الضلالة {لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا} بإصابة رشاش النور على الأرواح {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} قبل وجود آدم وإبليس {لامْلَأَنَّ} إلخ ولكن تعلقت المشيئة بإغواء قوم كما تعلقت بإهداء قوم وأردنا أن يكون للنار قطان كما أردنا أن يكون للجنة سكان إظهاراً لصفات لطفنا وصفات قهرنا لأن الجنة وأهلها مظهر لصفات لطفي والنار وأهلها مظهر لصفات قهري وإني فعال لما أريد.
وفي "عرائس البيان" إن جهنم فم قهره انفتح ليأخذ نصيبه ممن له
116
استعداد مباشرة القهر كما أن الجنة فم لطفه انفتح فيأخذ نصيبه ممن له استعداد مباشرة لطفه فاللطيف يرجع إلى اللطيف والكثيف يرجع إلى الكثيف ولو شاء لجعل الناس كلهم عارفين به ولكن جرى القلم في الأزل بالوعد والوعيد كما قال ابن عطاء قدس سره : لو شئنا لوفقنا كل عبد لرضانا ولكن حق القول بالوعد والوعيد ليتم الاختيار.
(7/87)
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
وسئل الشبلي قدس سره عن هذه الآية فقال : يا رب املأ نارك من الشبلي واعف عن عبيدك ليتروح الشبلي بتعذيبك كما يتروح جميع العباد بالعوافي وذلك أن من استوى عنده اللطف والقهر بالوصول إلى الأصل رأى مقصوده في كل واحد منهما كما رأى أيوب عليه السلام المبتلي في بلائه فطاب وقته وحاله وصفاً باله في عين الكدر.
ما بلا خواهيم وزاهد عافيت
هرمتاعى را خريدارى فتاد
وعن الحسن قال : خطبنا أبو هريرة رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : سمعت رسول الله يقول : "ليعتذرن الله إلى آدم ثلاث معاذير يقول الله يا آدم لولا أني لعنت الكذابين وأبغضت الكذب والخلف وأعذب عليه لرحمت اليوم ولدك أجمعين من شدة ما أعددت لهم من العذاب ولكن حق القول مني لئن كذب رسلي وعصى أمري لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.
ويقول الله يا آدم : اعلم أني لا أدخل من ذريتك النار أحداً ولا أعذب منهم بالنار أحداً إلا من قد علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى أشر مما كان فيه ولم يرجع ولم يتب ويقول الله قد جعلتك حكماً بيني وبين ذريتك قم عند الميزان فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أدخل منهم إلا ظالماً".
واعلم أن الله تعالى يملأ جهنم من الأقوياء كما يملأ الجنة من الضعفاء بدليل قوله عليه السلام : "إذا ملئت جهنم تقول الجنة ملأت جهنم من الجبابرة والملوك والفراعنة ولم تملأني من ضعفاء خلقك فينشىء الله خلقاً عند ذلك فيدخلهم الجنة فطوبى لهم من خلق لم يذوقوا موتاً ولم يروا سوأ بأعينهم" رواه أنس رضي الله عنه.
وقوله عليه السلام : "تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت" أي : فضلت "بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة إني لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطعهم فقال الله للنار أنت عذابي أعذبك من أشاء من عبادك ولكل واحدة منكما ملؤها" رواه أبو هريرة رضي الله عنه كذا في "بحر العلوم".
{وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَآ إِنَّا نَسِينَـاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بآياتنا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{فَذُوقُوا} الفاء لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قبله من نفي الرجع إلى الدنيا {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَآ} النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلب وإما عن غفلة أو قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره وكل نسيان من الإنسان ذمه الله به فهو ما كان أصله من تعمد كما في هذه الآية وأشار بالباء إلى أنه وإن سبق القول في حق التعذيب لكنه كان بسبب موجب من جانبهم أيضاً فإن الله قد علم منهم سوء الاختيار وذلك السبب هو نسيانهم لقاء هذا اليوم الهائل وتركهم التفكر فيه والاستعداد له بالكلية بالاشتغال باللذات الدنيوية وشهواتها فإن التوغل فيها يذهل الجن والإنس عن تذكر الآخرة وما فيها من لقاء الله ولقاء جزائه ويسلط عليهم نسيانها وإضافة اللقاء إلى اليوم كإضافة المكر في قوله : {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (سبأ : 33) أي : لقاء الله في يومكم هذا.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنكم كنتم في الغفلة والنائم لا يذوق ألم ما عليه من العذاب ما دام نائماً ولكنه إذا انتبه من نومه
117
يذوق ألم ما به من العذاب فالناس نيام ليس لهم ذوق ما عليهم من العذاب فإذا ماتوا انتبهوا فقيل لهم : ذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا {إِنَّا نَسِينَـاكُمْ} تركناكم في العذاب ترك المنسي بالكلية استهانة بكم ومجازاة لما تركتم.
وفي "التأويلات" : {إِنَّا نَسِينَـاكُمْ} من الرحمة كما نسيتمونا من الخدمة {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أي : العذاب المخلد في جهنم فهو من إضافة الموصوف إلى صفته مثل عذاب الحريق {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي : بالذي كنتم تعملونه من الكفر والمعاصي وهو تكرير للأمر للتأكيد وإظهار الغضب عليهم وتعيين المفعول المطوي للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا وعن كعب الأحبار قال : إذا كان يوم القيامة تقوم الملائكة فيشفعون ثم تقوم الشهداء فيشفعون ثم تقوم المؤمنون فيشفعون حتى إذا نصرمت الشفاعة كلها خرجت الرحمة فتشفع حتى لا يبقى في النار أحد يعبأ الله به ثم يعظم بكاء أهلها فيها ويؤمر بالباب فيقبض عليهم فلا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم أبداً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
(7/88)
الهى زدوزخ دو شمم بدوز
بنورت كه فردا بنارت مسوز
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بآياتنا} أي : إنكم أيها المجرمون لا تؤمنون بآياتنا ولا تعملون بموجبها عملاً صالحاً ولو رجعناكم إلى الدنيا كما تدعون حسبما ينطق به قوله تعالى : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) وإنما يؤمن بها {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} وعظوا ، بالفارسية : (ندداده شوند) {خَرُّوا سُجَّدًا} .
قال في "المفردات" : خر سقط سقوطاً سمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من العلو فاستعمال الخرور في الآية تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح.
وقوله بعد {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تنبيه على أن ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا شيئاً آخر انتهى أي : سقطوا على وجوههم حال كونهم ساجدين خوفاً من عذاب الله {وَسَبَّحُوا} نزهوه عن كل ما لا يليق به من الشرك والشبه والعجز عن البعث وغير ذلك {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} في موضع الحال أي : ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه كتوفيق الإيمان والعمل وغيرهما {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} الظاهر أنه عطف على صفة الذين أي : لا يتعظمون عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبراً كأن لم يسمعها وهذا محل سجود بالاتفاق.
قال الكاشفي : (اين سجده نهم است بقول امام اعظم رحمه الله وبقول امام شافعي دهم حضرت شبخ اكبر قدس سره الأطهر اين را سجده تذكر كفته وساجد بايدكه متذكر كردد آن يزى راكه ازان غافل شده وتصديق كند دلالات وجود واحد را كه آن دلالتها درهمه اشيا موجودست) :
همه ذرات ازمه تابماهى
بوحدانينش داد كواهى
همه اجزاى كون از مغزتا وست
ووا بينى دليل وحدت اوست
وينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها ففي هذه الآية يقول : اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك وكره مالك رحمه الله قراءة السجدة في قراءة صلاة الفجر جهراً وسراً فإن قرأ هل يسجد
118
فيه قولان كذا في فتح الرحمن.
قال في "خلاصة الفتاوي" : رجل قرأ آية السجدة في الصلاة إن كانت السجدة في آخر السورة أو قريباً من آخرها من بعدها آية أو آيتان إلى آخر السورة فهو بالخيار إن شاء ركع بها ينوي التلاوة وإن شاء سجد ثم يعود إلى القيام فيختم السورة وإن وصل بها سورة أخرى كان أفضل وإن لم يسجد للتلاوة على الفور حتى ختم السورة ثم ركع وسجد لصلاته سقط عنه سجدة التلاوة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
وفي "التأويلات" : {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عن سجودك كما استكبر إبليس أن يسجد لك إلى قبلة آدم ولو سجد لآدم بأمرك لكان سجوده في الحقيقة لك وكان آدم قبلة للسجود كما أن الكعبة قبلة لنا في سجودنا لك انتهى.
قال بعض الكبار : وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده لأنه حينئذٍ يتذكر الشيطان معصيته فيحزن ويشتغل بنفسه ويعتزل عن المصلي فالعبد في سجوده معصوم من الشيطان غير معصوم من النفس.
فخواطر السجود كلها إما ربانية أو ملكية أو نفسية وليس للشيطان عليه من سبيل فإذا قام من سجوده غابت تلك الصفة عن إبليس فزال حزنه واشتغل بك.
فعلى العاقل أن يسارع إلى الصلاة فريضة كانت أو نافلة حتى يحصل الرغم للشيطان والرضى للرحمان ويتقرب الروح إلى حضرة الملك المتعال ويجد لذة المناجاة وطعم الوصال.
ذوق سجده زائداست از ذوق سكر نزدجان
هركرا اين ذوق نى بى مغز باشد درجهان
اللهم اجعلنا من أهل سجدة الفناء إنك سميع الدعاء.
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بآياتنا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَا * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
(7/89)
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} استئناف لبيان بقية محاسن المؤمنين.
والتجافي النبوّ والبعد أخذ من الجفاء فإن من لم يوافقك فقد جافاك وتجنب وتنحى عنك والجنوب جمع جنب وهو شق الإنسان وغيره.
والمعنى ترتفع وتتنحى أضلاعهم {عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي : الفرش ومواضع النوم جمع مضجع كمقعد بمعنى موضع الضجوع أي : وضع الجنب على الأرض ، وبالفارسية : (دور ميشود هلوهاى ايشان از خوابكهها) وفي إسناد التجافي إلى الجنوب دون أن يقال يجافون جنوبهم إشارة إلى أن حال أهل اليقظة والكشف ليس كحال أهل الغفلة والحجاب فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم كأن الأرض ألقتهم من نفسها وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حال من ضمير جنوبهم أي : داعين له تعالى على الاستمرار {خَوْفًا} من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته {وَطَمَعًا} في رحمته قال عليه السلام في تفسير الآية : قيام العبد من الليل يعني أنها نزلت في شأن المتهجدين فإن أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل.
قال الكاشفي : (ون رده شب فرو كذارند وجهانيان سربر بالين غفلت بنهند ايشان هلو از ستر كرم وفراش نرم تهى كرده برقدم نياز بايستند ودر شب در از باحضرت خداوند رازكويند.
از سهيل يمنى يعنى اويس قرنى رضي الله عنه منقولست كه درشبى ميكفت "هذه ليلة الركوع" وبيك ركوع بسر مى برد ودرشى ديكر ميفرمودكه "هذه ليلة السجود" وبيك سجده بصبح ميرسانيد كفتند اى اويس ون طاقت طاعت دارى سبب يست كه شبها بدين درازى بريك حال مى كدرانى كفت كجاست
119
شب درازى كاشكى ازل وابديكشب بودى تابيك سجده بآخر بردمى دران سجده نالهاى زار وكريهاى بيشمار كردمى) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
به نيم شب كه همه مست خواب خوش باشند
من وخيال تو ونهالهاى درد آلود
وفي الحديث : "عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أحبته وأهله إلى صلاته فيقول الله تعالى لملائكته : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين أحبته وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وإشفاقاً مما عندي ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وماله في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وإشفاقاً مما عندي حتى اهريق دمه" وفي الحديث "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام" قال ابن رواحة رضي الله عنه يمدح النبي عليه السلام :
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدي بعد العمي فقلوبنا
به موقنات إن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وفي الحديث "إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فيقول ليقم الذين يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرّحون جميعاً إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس".
واعلم أن قيام الليل من علو الهمة وهو وهب من الله تعالى فمن وهب له هذا فيلقم ولا يترك ورد الليل بوجه من الوجوه.
قال أبو سليمان الداراني قدس سره : نمت عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول يا أبا سليمان تنام وأنا أربى لك في الخيام منذ خمسمائة عام.
وعن الشيخ أبي بكر الضرير رضي الله عنه قال : كان في جواري شاب حسن الوجه يصوم النهار ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فجاءني يوماً وقال لي : يا أستاذ إني نمت عن وردي الليلة فرأيت كأن محرابي قد انشق وكأني بجوار قد خرجن من المحراب لم أر أحسن أوجهاً منهن وإذا فيهن واحدة شوهاء لم أر أقبح منها منظراً فقلت : لمن أنتن ولمن هذه فقلن نحن لياليك التي مضين وهذه ليلة نومك فلو مت في ليلتك هذه لكانت هذه حظك ثم أنشأت الشوهاء تقول :
اسأل لمولاك وارددني إلى حالي
فأنت قبحتني من بين أشكالي
لا ترقدنّ الليالي ما حييت فإن
نمت الليالي فهنّ الدهر أمثالي
فأجابتها جارية من الحسان تقول :
أبشر بخير فقد نلت الغنى أبداً
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
في جنة الخلد في روضات جنات
نحن الليالي اللواتي كنت تسهرها
تتلو القرآن بترجيع ورنات
أبشر وقد نلت ما ترجوه من ملك
بر يجود بأفضال وفرحات
غداً تراه تجلى غير محتجب
تدني إليه وتحظى بالتحيات
120
(7/90)
قال : ثم شهق شهقة خر ميتاً رحمه الله تعالى.
وفي "آكام المرجان" : ظهر إبليس ليحيى عليه السلام فقال له يحيى : هل قدرت مني على شيء؟ قال : لا إلا مرة واحدة فإنك قدّمت طعاماً لتأكله فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد فنمت تلك الليلة فلم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها فقال له يحيى : لا جرم لا شبعت من طعام أبداً قال له الخبيث : لا جرم لا نصحت آدمياً بعدك :
باندازه خور زاد اكرمردى
نين رشكم آدمي يا خمي
ندارند تن روران آكهى
كه بر معده باشد زحكمت تهى
{وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} أعطيناهم من المال {يُنفِقُونَ} في وجوه الخير والحسنات.
قال بعضهم : هذا عام من الواجب والتطوع وذلك على ثلاثة أضرب : زكاة من نصاب ، ومواساة من فضل ، وإيثار من قوت.
بدونيك را بذل كن سيم وزر
كه آن كسب خيراست وآن دفع شر
از آن كس كه خيرى بماند روان
دمادم رسد رحمتش بر روان
{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عمن عداهم {مَّآ أُخْفِىَ لَهُم} أي : لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة من التجافي والدعاء والإنفاق ومحل الجملة نصب بلا تعلم سدت مسد المفعولين {مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} مما تقربه أعينهم إذا رأوه وتسكن به أنفسهم.
وقال الكاشفي : (از روشنى شمها يعني يزى كه بدان شمها روشن كردد) وفي الحديث "يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما اطلعتم عليه اقرأوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : جزوا جزاء بسبب ما كانوا يعملون في الدنيا من إخلاص النية وصدق الطوية في الأعمال الصالحة (برزكى فرموده كه ون عمل نهان ميكردند جزا نيز نهانست تانانه كس را برطاعت ايشان اطلاع نبود كسى را نيز بمكافاة ايشان اطلاع نباشد).
روزى كه روم همره جانان بمن
نه لاله وكل بينم ونه سرو وسمن
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
زيرا كه ميان من واو كفته شود
من دانم واو داند واو داند ومن
وفي "التأويلات النجمية" : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} هممـ {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} عن مضاجع الدارين وتتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم ويفارقون مآلفهم ويهجرون في الله معارفهم يدعون ربهم بربهم لربهم خوفاً من القطيعة والإبعاد {وَطَمَعًا} في القربات والمواصلات {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} من نعمة الوجود {يُنفِقُونَ} ببذل المجهود في طلب المفقود وليردّ إليهم بالجود ما أخفي لهم من النقود كما قال تعالى : {فَلا تَعْلَمُ} الخ.
وفي الحقيقة إن ما أخفي لهم إنما هو جمالهم فقد أخفي عنهم لعينهم فإن العين حق.
فاعلم أنه ما دام أن تكون عينكم الفانية باقية يكون جمالكم الباقي مخفياً عنكم لئلا تصيبه عينكم فلو طلع صبح سعادة التلاقي وذهب بظلمة البين من البين وتبدلت العين بالعين فذهب الجفاء وظهر الخفاء ودام اللقاء
121
كما أقول :
مذ جاء هواكم ذاهباً بالبين
لم يبق سوى وصالكم في البين
ما جاء بغير عينكم في عيني
والآن محت عينكمولي عيني
وبقوله : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يشير إلى أن عدم علم كل نفس بما أخفي لهم وحصول جهلهم به إنما كان جزاء بما كانوا يعملون بالإعراض عن الحق لإقبالهم على طلب غير الله وعبادة ما سواه انتهى.
{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُانَ * أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَلَهُمْ جَنَّـاتُ الْمَأْوَى نُزُا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
(7/91)
{أَفَمَن} (آيا آنكس كه) {كَانَ} في الدنيا {مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} خارجاً عن الإيمان لأنه قابل به المؤمن وأيضاً أخبر أنه يخلد في النار ولا يستحق التخليد فيها إلا الكافر {لا يَسْتَوُانَ} في الشرف والجزاء في الآخرة والتصريح به مع إفادة الإنكار نفي المشابهة للتأكيد وبناء التفصيل الآتي عليه والجمع للحمل على معنى من ، قال الكاشفي : (آورده اندكه وليد بن عقبه باشير بيشه مردى در مقام مفاخرت آمده كفت اى على سنان من از سنان توسخترست وزبان من از زبان توتيز تر على كفت خاموش باش أي : فاسق تراباً من ه زهره مساواة وه ياراي مجادلاتست حق سبحانه وتعالى براى تصديق علي رضي الله عنه آيت فرستاد) فالمؤمن هو عليّ رضي الله عنه ودخل فيه من مثل حاله والكافر هو الوليد ودخل فيه من هو على صفته ولذلك أورد الجمع في لا يستوون.
قال ابن عطاء : من كان في أنوار الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمات الفسق والطغيان.
وفي "كشف الأسرار" أفمن كان في حلة الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعاني مشقة الكلفة أفمن أيد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان لا يستويان ولا يلتقيان :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
وهي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
{أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَلَهُمْ} استحقاقاً {جَنَّـاتُ الْمَأْوَى} قال الراغب : المأوى مصدر أوى إلى كذا انضم إليه وجنة المأوى كقوله دار الخلود في كون الدار مضافاً إلى المصدر.
وفي "الإرشاد" : أضيفت الجنة إلى المأوى الحقيقي وإنما الدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة ولذلك سميت قنطرة لأنها معبر للآخرة لا مقر ، وبالفارسية : (ايشانراست بوستانها وبهشتهاكه مأواى حقيقي است).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما جنة المأوى كلها من الذهب وهي إحدى الجنان الثمان التي هي دار الجلال ودار القرار ودار السلام وجنة عدن وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة الفردوس وجنة النعيم {نُزُ} أي : حال كون تلك الجنان ثواباً وأجراً ، وبالفارسية : (در حالتى كه يشكش باشد يعنى ما حضرى كه براى مهمانان آرند) وهو في الأصل ما يعد للنازل والضيف من طعام وشراب وصلة ثم صار عاماً في العطاء {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا.
وفي "التأويلات النجمية" : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا} بطلب الحق تعالى {كَمَن كَانَ فَاسِقًا} بطلب ما سوى
122
الحق {لا يَسْتَوُانَ} أي : الطالبونوالطالبون لغير الله فـ {أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بطلب الحق {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} بالإقبال على الله والإعراض عما سواه {فَلَهُمْ جَنَّـاتُ الْمَأْوَى نُزُ} يعني أن جنات مأوى الأبرار ومنزلهم يكون نزلاً للمقربين السائرين إلى الله وأما مأواهم ومنزلهم ففي مقعد صدق عند مليك مقتدر.
{أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَلَهُمْ جَنَّـاتُ الْمَأْوَى نُزُا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُا كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} خرجوا عن الإيمان والطاعة بإيثار الكفر والمعصية عليهما {فَمَأْوَاـاهُمُ} اسم مكان أي : ملجأهم ومنزلهم {النَّارُ} مكان جنات المأوى للمؤمنين {كُلَّمَآ} (هركاه كه) {أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} عبارة عن الخلود فيها فإنه لا خروج ولا إعادة في الحقيقة كقوله : {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا} (الإسراء : 97) ونار جهنم لا تخبو يعني كلما قال قائلهم قد خبت زيد فيها ويروى أنه يضربهم لهيب النار فيرتفعون إلى طبقاتها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم لهيب النار أو تتلقاهم الخزنة بمقامع ، يعني : (بكرزهاى آتشين) فتضربهم فيهوون إلى قعرها سبعين خريفاً وهكذا يفعل بهم أبداً وكلمة في للدلالة على أنهم مستقرون فيها وإنما الإعادة من بعض طبقاتها إلى بعض {وَقِيلَ لَهُمْ} إهانة وتشديداً عليهم وزيادة في غيظهم {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ} أي : بعذاب النار {تُكَذِّبُونَ} على الاستمرار في الدنيا وتقولون لا جنة ولا نار.
(7/92)
قال في "برهان القرآن" وفي سبأ.
{عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} (سبأ : 42) لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها والكنايات لا توصف بوصف العذاب وفي سبأ لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار وهذه لطيفة فاحفظها انتهى.
وفي "التأويلات" : {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} خرجوا عن سبيل الرشاد ووقعوا في بئر البعد والإبعاد {فَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُا كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} لأنهم في هذه الصفة عاشوا وفيها ماتوا فعليها حشروا وذلك أن دعاة الحق لما كانوا في الدنيا ينصحون لهم أن يخرجوا من أسفل الطبيعة بحبل الشريعة برعاية آداب الطريقة حملهم الشوق الروحاني على التوجه إلى الوطن الأصلي العلوي فلما عزموا على الخروج من الدركات الشهوانية أدركتهم الطبيعة النفسانية الحيوانية السفلية وإعادتهم إلى أسفل الطبيعة {وَقِيلَ لَهُمْ} يوم القيامة {ذُوقُوا} الخ لأنكم وإن كنتم معذبين في الدنيا ولكن ما كان لكم شعور بالعذاب الذي يجلل حواسكم الأخروية ولو كنتم تجدون ذوق العذاب لانتهيتم عن الأعمال الموجبة لعذاب النار كما أنكم لما ذقتم ألم عذاب النار في الدنيا احترزتم عنها غاية الاحتراز انتهى.
فالاحتراق وصف الكافر والفاسق وأما المؤمن والمطيع فقد قال عليه السلام في حقه : "تقول جهنم للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" كما قال في "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
كويدش بكذر سبك اى محتسم
ورنه زاتشهاى تومرد آتشم
وذلك النور هو نور التوحيد وله تأثير جداً في عدم الاحتراق.
ـ كما حكي ـ أن مجذوباً كان يصاحب الشيخ الحاجي بيرام قدس سره وكان يحبه فلما توفي الشيخ جاء المجذوب إلى الشيخ الشهير بآق شمس الدين لكونه خليفة الشيخ الحاجي بيرام فقال له شمس الدين يوماً : يا أخي ما لبست كسوة الشيخ الحاجي بيرام في حياته فكيف لو لبستها من يدنا فقبل ففرح شمس الدين مع مريديه فعملوا ضيافة وألبسوه كسوة فلما لبسها ألقى نفسه في نار كانت في ذلك المجلس فلبث
123
فيها حتى احترقت الكسوة ولم يحترق المجذوب ثم خرج منها وقال : يا أيها الشيخ لا خير في كسوة تحرقها النار.
قال بعض العارفين : لو كان المشتاقون دون جماله في الجنة واويلاه ولو كانوا في الجحيم معه واشوقاه فمن كان مع المحبوب فهو لا يحترق ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى جهنم وما فيها ليلة المعراج ولم يحترق منه شعرة وكما أن النار تقول للمؤمن ذلك القول كذلك الجنة تقول كذلك الجنة تقول له حين يذهب إلى مقامه جز يا مؤمن إلى مقامك فإن نورك يذهب بزينتي ولطافتي كما قال في "المثنوي" :
كويدش جنت كذركن همو باد
ورنه كردد هره من دارم كساد
وذلك لأن نور المؤمن نور التجلي والتجلي إما يكون للمؤمن لا للجنة فيغلب نوره على الجنة التي ليس لها نور التجلي ألا ترى أن من جلس للوعظ وفي المجلس من هو أعلى حالاً منه في العلم يحصل له الانقباض والكساد فلا يطلب إلا قيام ذلك من المجلس فإذا كان هذا حال العالم مع من هو أعلم منه في الظاهر فقس عليه حال العالم مع من هو أعلم منه في الباطن فمن عرف مراتب أهل الله تعالى يسكت عند حضورهم لأن لهم الغلبة في كل شأن ولهم المعرفة بكل مقام قدس الله أسرارهم.
{وَلَنُذِيقَنَّهُم} أي : أهل مكة.
والإذاقة بالفارسية : (شانيدن) {مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى} أي : الأقرب وهو عذاب الدنيا وهو ما محنوا به من القحط سبع سنين بدعاء النبي عليه السلام حين بالغوا في الأذية حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام المحترقة والعلهز وهو الوبر والدم بأن يخلط الدم بأوبار الإبل وشوي على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان وكذا ابتلوا بمصائب الدنيا وبلاياها مما فيه تعذيبهم حتى آل أمرهم إلى القتل والأسر يوم بدر {دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} أي : قبل العذاب الأكبر الذي هو عذاب الآخرة فدون هنا بمعنى قبل.
وفي "كشف الأسرار" وتبعه الكاشفي في تفسيره (فروتر از عذاب بزركتركه خلودست در آتش) وذلك لأنه في الأصل أدنى مكان من الشيء فيقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلاً ثم استعير منه للتفاوت في الأموال ، (والرتب درلباب ازتفسير نقاش نقل كرده كه ادنى غلاى اسعارست واكبر خروج مهدي بشمشير آبدار وكفته اندخوارى دنيا ونكو نسارىء عقبا يا افتادن دركناه ودور افتادن ازدركاه قرب الله) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
دور ماندن از وصال او عذاب اكبر است
آتش سوز فراق ازهر عذابى بدترست
وفي "حقائق البقلى" : العذاب الأدنى حرمان المعرفة والعذاب الأكبر الاحتجاب عن مشاهدة المعروف.
وقال أبو الحسن الوراق : الأدنى الحرص على الدنيا والأكبر العذاب عليه {لَعَلَّهُمْ} أي : لعل من بقي منهم وشاهده ولعل من مثله بمعنى كي {يَرْجِعُونَ} ويتوبون عن الكفر والمعاصي.
(7/93)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أرباب الطلب وأصحاب السلوك إذا وقعت لأحدهم في أثناء السلوك وقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة نفس أو لحسبان وغرور قبول أو وقعت له فترة بالتفاته إلى شيء من الدنيا وزينتها وشهواتها فابتلاه الله إما ببلاء في نفسه أو ماله أو بيته من أهاليه وأقربائه وأحبائه لعلهم بإذاقة عذاب البلاء والمحن انتبهوا من نوم الغفلة وتداركوا أيام العطلة قبل أن يذيقهم العذاب الأكبر بالخذلان والهجران وقسوة القلب كما قال تعالى :
124
{وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ} (الأنعام : 110) الآية لعلهم يرجعون إلى صدق طلبهم وعلو محبتهم.
{وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَلا تَكُن فِى مِرْيَةٍ} .
{وَمَنْ أَظْلَمُ} (وكيست ستمكارتر) {مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ} أي : وعظ بالقرآن {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ} فلم يتفكر فيها ولم يقبلها ولم يعمل بموجبها وثم لاستبعاد الإعراض عنها مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كقولك لصاحبك : دخلت المسجد ثم لم تصل فيه استبعاداً لتركه الصلاة فيه.
والمعنى هو أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب على نفي الأعظم من غير تعرض لنفي المساوي {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي : من كل من اتصف بإجرام وإن هانت جريمته.
{مُنتَقِمُونَ} فكيف من كان أظلم من كل ظالم وأشد جرماً من كل مجرم ، وبالفارسية : (انتقام كشيد كانيم هلاك وعذاب) يقال نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة والنقمة العقوبة والانتقام (كينه كشيدن) فإذا نبه العبد بأنواع الزجر وحرك في تركه حدود الوفاق بصنوف من التأديب ثم لم يرتدع عن فعله واغتر بطول سلامته وأمن هواجم مكر الله وخفايا أمره أخذه بغتة بحيث لا يجد فرجة من أخذته كما قال : {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي : المصرين على جرمهم {مُنتَقِمُونَ} بخسارة الدارين ، قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
كمين كهست وتوخوش تيزميروى هش دار
مكن كه كرد بر آيد زشهره عدمت
وفي الحديث : "ثلاثة من فعلهن فقد أجرم من عقد لواء في غير حق ومن عق لوالديه ومن نصر ظالماً".
واعلم أن الظلم أقبح الأمور ولذلك حرمه الله على نفسه فينبغي للعاقل أن يتعظ بمواعظ الله ويتخلق بأخلاقه ويجتنب عن أذية الروح بموافقة النفس والطبيعة وأذية عباد الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه استند إلى جدار الكعبة وقال : يا كعبة ما أعظم حرمتك على الله لكني لو هدمتك سبع مرات كان أحب إلي من أن أوذي مسلماً مرة واحدة.
وعن وهب بن منبه أنه قال : جمع عالم من علماء بني إسرائيل سبعين صندوقاً من كتب العلم كل صندوق سبعون ذراعاً فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان أن قل لهذا العالم لا تنفعك هذه العلوم وإن جمعت أضعافاً مضاعفة ما دام معك ثلاث خصال حب الدنيا ومرافقة الشيطان وأذى مسلم فهذه الأسباب توقع الإنسان في ورطة الانتقام وانتقام الله لا يشبه انتقام غيره ألا ترى أنه وصف العذاب بالأكبر.
وفي الحديث "إن في أهون باب منها سبعين ألف جبل من نار وفي كل جبل سبعون ألف واد من نار وفي كل واد سبعون ألف شعب من نار وفي كل شعب سبعون ألف مدينة من نار وفي كل مدينة سبعون ألف دار من نار وفي كل دار سبعون ألف قصر من نار وفي كل قصر سبعون ألف صندوق من نار وفي كل صندوق سبعون ألف نوع من العذاب ليس فيها عذاب يشاكل عذاباً" فسمع عمر رضي الله عنه فقال : يا ليتني كنت كبشاً فذبحوني وأكلوني ولم أسمع ذكر جهنم.
وقال أبو بكر رضي الله عنه يا ليتني كنت طيراً في المفازة ولم أسمع ذكر النار.
وقال علي رضي الله عنه يا ليت أمي لم تلدني ولم أسمع ذكر جهنم نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الوقوع في أسباب العذاب والوقوف في مواقف المناقشة وسوء الحساب وهو الذي خلق فهدى إلى طريق رضاه ومنه الثبات على دينه الموصل إلى جنته وقربته ووصلته ولقاه.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} أي : التوراة {فَلا تَكُن فِى مِرْيَةٍ} أي : شك.
125
وفي "المفردات" المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك {مِّن لِّقَآاـاِهِ} اللقاء (ديدن) يقال لقيه كرضيه رآه.
قال الراغب يقال ذلك في الإدراك بالحس بالبصر وبالبصيرة وهو مضاف إلى مفعوله.
والمعنى من لقاء موسى الكتاب فإنا ألقينا عليه التوراة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
(7/94)
يقول الفقير : هذا هو الذي يستدعيه ترتيب الفاء على ما قبلها.
فإن قلت : ما معنى النهي وليس له عليه السلام في ذلك شك أصلاً.
قلت فيه تعريض للكفار بأنهم في شك من لقائه إذ لو لم يكن لهم فيه شك لآمنوا بالقرآن إذ في التوراة وسائر الكتب الإلهية ما يصدق القرآن الشواهد والآيات فإيتاء الكتاب ليس ببدع حتى يرتابوا فيه فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن موسى عليه السلام لما أوتي الكتاب وهو حظ سمعه فلا تشك يا محمد أن يحظى غداً حظ بصره بالرؤية ولكن بشفاعتك وبركة متابعتك واختصاصه في دعائه بقوله : اللهم اجعلني من أمة أحمد فإن الرؤية مخصوصة بك وبأمتك بتبعيتك {وَجَعَلْنَـاهُ} أي : الكتاب الذي آتيناه موسى {هُدًى} من الضلالة ، وبالفارسية : (راه نماينده) {لِّبَنِى إِسْرَءِيلَ} لأنه أنزل إليهم وهم متعبدون به دون بني إسماعيل وعليهم يحمل الناس في قوله تعالى : {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِه مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} (الأنعام : 91)
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَلا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآاـاِه وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآياتنا يُوقِنُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} أي : من بني إسرائيل {أَاـاِمَّةً} جمع إمام بمعنى المؤتم والمقتدى به قولاً وفعلاً ، وبالفارسية : (يشوا) {يَهْدُونَ} يرشدون الخلق إلى الحق بما في التوراة من الشرائع والأحكام والحكم {بِأَمْرِنَا} إياهم بذلك أو بتوفيقنا لهم {لَمَّا صَبَرُوا} على الحق في جميع الأمور والأحوال وهي شرط لما فيها من معنى الجزاء نحو أحسنت إليك لما جئتني والتقدير لما صبر الأئمة أي : العلماء من بني إسرائيل على المشاق وطريق الحق جعلناهم أئمة أو هي ظرف بمعنى الحين أي : جعلناهم أئمة حين صبروا {وَكَانُوا بآياتنا} التي في تضاعيف الكتاب {يُوقِنُونَ} لإمعانهم فيها النظر والإيقان (بى كمان شدن) ولا تشك أنها من عندنا كما يشك الكفار من قومك في حق القرآن.
وفيه إشارة إلى أنه كما أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل فاهتدوا بها إلى مصالح الدين والدنيا كذلك جعل القرآن هدى لهذه الأمة المرحومة يهتدون به إلى الشرائع والحقائق وكما أنه جعل من بني إسرائيل قادة أدلاء كذلك جعل من هذه الأمة سادة أجلاء بل رجحهم على الكل بكل كمال فإن الأفضل أولى بإحراز الفضائل كلها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
قال الشيخ العارف أبو الحسن الشاذلي قدس سره : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم باهى موسى وعيسى عليهما السلام بالإمام الغزالي قدس سره وقال : أفي أمتكما حبر كذا قالا : لا ورضي الله عن جميع الأولياء والعلماء ونفعنا بهم فانظر ما أشرف علم هذه الأمة وما أَز معرفتهم ولذا يشرفون يوم القيامة بكل حلية.
ـ كما قال بعض الأخيار ـ رأيت الشيخ أبا إسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي رحمه الله في النوم بعد وفاته وعليه ثياب بيض وعلى رأسه تاج فقلت له : ما هذا البياض؟ فقال : شرف الطاعة قلت : والتاج قال : عز العلم.
قال بعض الكبار : من عدم الإنصاف عدم إيمان الناس بما جاء به الأنبياء المعصومون وعدم الإيمان بما أتى به الأولياء المحفوظون فإن البحر واحد فمن آمن بما جاء به الأصل من الوحي يجب أن يؤمن بما جاء به
126
الفرع من الإلهام بجامع الموافقة وقد ثبت أن العلماء ورثة الأنبياء فعلومهم علومهم ففي الاتباع لهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم أجر كثير وثواب عظيم ونجعة من المهالك كما قال الحافظ :
يا مردان خدا باش كه دركشتى نوح
هست خاكى كه بآبى نخرد طوفانرا
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} يقضي {بَيْنَهُمْ} بين الأنبياء وأممهم المكذبين أو بين المؤمنين والمشركين {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} فيميز بين المحق والمبطل (وهريك را مناسب اوجزا دهد) وكلمة هو للتخصيص والتأكيد وإن ذلك الفصل يوم القيامة ليس إلا إليه وحده لا يقدر عليه أحد سواه ولا يفوّض إلى من عداه {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين هنا أي : في الدنيا.
قال بعض الكبار : إن الله تعالى تبارك وتعالى يحكم بين عباده لوجوه :
أولها : لعزتهم لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين بل هو بفضله وكرمه يكون حاكماً عليهم.
وثانيها : غيرة عليهم لئلا يطلع على أحوالهم أحد غيره.
وثالثها : رحمة وكرماً فإنه ستار لا يفشى عيوبهم ويستر عن الأغيار ذنوبهم.
ورابعها : لأنه كريم ومن سنة الكرام أنهم إذا مروا باللغو مروا كراماً.
(7/95)
وخامسها : فضلاً وعدلاً لأنه الخالق الحكيم الذي خلقهم وما يعملون على مقتضى حكمته ووفق مشيئته فإن رأى منهم حسناً فذلك من نتائج إحسانه وفضله وإن رأى منهم قبيحاً فذلك من موجبات حكمته وعدله وأنه {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍا وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا} (النساء : 40) الآية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
وسادسها : عناية وشفقة فإنه تعالى خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم فلا يجوز من كرمه أن يخسروا عليه.
وسابعها : رحمة ومحبة فإنه تعالى بالمحبة خلقهم لقوله : "فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" وللمحبة خلقهم لقوله : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضى :
وعين الرضى عن كل عيب كليلة†
وثامنها : لطفاً وتكريماً فإنه نادى عليهم بقوله : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) فلا يهين من كرّمه.
وتاسعها : عفواً وجوداً فإنه تعالى عفو يحب العفو فإن رأى جريمة في جريدة العبد يحب عفوها وأنه جواد يحب أن يجود عليه بالمغفرة والرضوان.
وعاشرها : أنه تعالى جعلهم خزائن أسراره فهو أعلم بحالهم وأعرف بقدرهم فإنه خمر طينتهم بيده أربعين صباحاً وجعلهم مرآة يظهر بها جميع صفاته عليهم لا على غيرهم ولو كان الملائكة المقربين ألا ترى أنه تعالى لما قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةًا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30) فما عرفوهم حق معرفتهم حتى قال تعالى فيهم عزة وكرامة {إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30) أي : من فضائلهم وشمائلهم فإنهم خزائن أسراري ومرآة جمالي وجلالي فأنتم تنظرون إليهم بنظر الغيرة وأنا أنظر إليهم بنظر المحبة والرحمة فلا ترون منهم إلا كل قبيح ولا أرى منهم إلا كل جميل فلا أرضى أن أجعلكم حاكماً بينهم بل بفضلي وكرمي أنا أفصل بينهم فيما كانوا فيها يختلفون فأحسن إلى محسنهم وأتجاوز عن مسيئهم فلا يكبر عليّ اختلافهم لعلمي بحالهم أنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم.
فعلى العاقل أن يرفع الاختلاف من البين ولا يقع
127
في البين فإن الله تعالى قد هدى بهداية القرآن إلى طريق القربات ولكن ضل عن الاتفاق الأعضاء والقوى في قطع العقبات اللهم ارحم إنك أنت الجواد الأكرم.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍا أَفَلا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} تخويف لكفار مكة أي : اغفلوا ولم يبين لهم مآل أمرهم والفاعل ما دل عليه قوله : {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي : كثرة إهلاكنا لأن كم لا يقع فاعلاً فلا يقال جاءني كم رجل {مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ} مثل عاد وثمود وقوم لوط.
والقرن اسم لسكان الأرض عصراً والقرون سكانها على الأعاصير {يَمْشُونَ فِى مَسَـاكِنِهِمْ} الجملة حال من ضميرهم يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديار الهالكين وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم وخراب منازلهم {إِنَّ فِى ذَالِكَ} الإهلاك وما يتعلق به من الآثار {لايَـاتٍ} حججاً ومواعظ لكل مستبصر ومعتبر ، وبالفارسية (عبرتهاست مر امم آتيه را) {أَفَلا يَسْمَعُونَ} آيات الله ومواعظه سماع تدبر واتعاظ فينتهوا عما هم عليه من الكفر والكذيب.
كسى راكه ندار درسر بود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
(7/96)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ} السوق (راندن) والمراد سوق السحاب الحامل للماء لأنه هو الذي ينسب إلى الله تعالى وأما السقي بالأنهار فمنسوب إلى العبد وإن كان الإنبات من الله تعالى ولما كان هذا السوق وما بعده من الإخراج محسوساً حمل بعضهم الرؤية على البصرية ويدل عليه أيضاً آخر الآية وهو أفلا يبصرون.
وقال في "بحر العلوم" حملاً على المقصود من النظر أي : قد علموا أنا نسوق الماء ، وبالفارسية : (أيا نمى بينند ونميدانندكه ما آب را در ابر ميرانيم) {إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ} أي : التي جرز نباتها أي : قطع وازيل بالكلية لعدم المطر أو لغيره كالرعي لا التي لا تنبت لقوله : {فَنُخْرِجُ} من تلك الأرض {بِهِ} أي : بسبب ذلك الماء المسوق {زَرْعًا} (كشت زارها وغلات وأشجار) وهو في الأصل مصدر عبر به عن المزروع {تَأْكُلُ مِنْهُ} أي : من ذلك الزرع {أَنْعَـامُهُمْ} (هار ايان ايشان) كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها {وَأَنفُسُهُمْ} كالحبوب التي يقتاتها الإنسان والثمار {أَفَلا يُبْصِرُونَ} أي : لا ينظرون فلا يبصرون ذلك فيستدلون به على وحدته وكمال قدرته وفضله تعالى وأنه الحقيق بالعبادة وأن لا يشرك به بعض خلقه من ملك وإنسان فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع وأيضاً فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم وإحيائهم.
.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
قال ابن عطاء في الآية نوصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية المعرضة عن الحق فتتعظ بتلك المواعظ.
قال بعضهم : يسوق مياه معرفته من بحار تجلي جلاله إلى أرض القلوب الميتة فينبت نرجس الوصلة وياسمين المودة وريحان المؤانسة وبنفسج الحكمة وزهر الفطنة وورد المكاشفة وشقائق الحقيقة.
وقال بعضهم : نسوق ماء الهداية إلى القلوب الميتة فنسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها فيعود عودها مورقاً بعد ذبوله حاكياً لحالة حال حصوله فنخرج به زرعاً من الواردات التي تصلح لزينة النفوس ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب ولا يخفى أن الهداية على أنواع فهداية الكافر
128
إلى الإيمان وهداية المؤمن الفاسق إلى الطاعات وهداية المؤمن المطيع إلى الزهد والورع وهداية الزاهد المتورع إلى المعرفة وهداية العارف إلى الوصول وهداية الواصل إلى الحصول فعنف الحصول تنبت حبة القلب بفيض الإلهام الصريح نباتاً لا جفاف لها بعده فمن ههنا يأخذ الإنسان الكامل في الحياة الباقية وينبغي لطالب الحق أن يجتهد في طريق العبودية فإن الفيض والنماء إنما يحصل من طريق العبادات ولذا جعل الله الطاعات رحمة على العباد ألا ترى أن الإنسان إذا صلى صلاة الفجر يقع في بحر المناجاة مع الله ولكن تنقطع هذه الحالة إلى صلاة الظهر بالنسبة إلى الإنسان الناقص إذ ربما يشتغل في البين بما ينقطع به المدد فصلاة الظهر إذا تجدد له حالته وهكذا فتكرر الصلوات في الليل والنهار كتكرر سقي الأرض والزرع صباحاً ومساءً وكذا الصوم فإن شهر رمضان يفتح فيه باب القلب ويغلق باب الطبيعة فيحصل للصائم صفة الصمدية فيكون كالملائكة في المحل ففي تكرر رمضان عليه إمداد له لتكميل تلك الصفة الإلهية وإنما لا يظهر أثر الطاعات في حق العوام لأنهم لا يؤدونها من طريقها وبشرائطها فالله تعالى قادر على أن ينقذهم من شهواتهم ويخرجهم من دائرة غفلاتهم ومن استعجز القدرة الإلهية فقد كفر.
قال في "شرح الحكم" وإن أردت الاستعانة على تقوية رجائك فانظر لحال من كان مثلك ثم أنقذه الله وخصه بعنايته كإبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض وابن المبارك وذي النون ومالك بن دينار وغيرهم من محرومي البداية ومرزوقي النهاية ، وفي "المثنوي" :
سايه حق برسر بنده بود
عاقبت جوينده يابنده بودكفت يغمبر كه ون كوبى درى
عاقبت زان در برون آيد سرى
ون نشينى برسر كوى كسى
عاقبت بيني توهم روى كسى
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
ون زاهى ميكنى هر روز خاك
عاقبت اندر رسى درآب اك
جمله دانند اين اكر تو نكروى
هره ميكاريش روزى بد روى
وقال في موضع آخر :
ون صلاى وصل بشنيدن كرفت
اندك اندك مرده نبيدن كرفتنى كم ازخاكست كز عشوه صبا
سبز وشد سر برآرد ازقنا
كم زآب نطفه نبود كز خطاب
يوسفان زايند رخ ون آفتاب
كم زبادى نيست شد از امركن
در رحم طاوس ومرغ خوش سخن
كم زكوه وسنك نبود كز ولاد
ناقه كان ناقه ناقه زاد زاد
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِه زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَـانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} .
(7/97)
{وَيَقُولُونَ} وذلك أن المؤمنين كانوا يقولون لكفار مكة إن لنا يوماً يفتح الله فيه بيننا أي : يحكم ويقضي يريدون يوم القيامة أو إن الله سيفتح لنا على المشركين ويفصل بيننا وبينهم وكان أهل مكة إذا سمعوه يقولون بطريق الاستعجال تكذيباً واستهزاء {مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ} أي : في أي : وقت يكون الحكم والفصل أو النصر والظفر {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنه كائن.
{قُلْ} تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحق لا تستعجلوا ولا تستهزئوا فإن {يَوْمَ الْفَتْحِ} يوم إزالة الشبهة بإقامة القيامة فإن أصله إزالة الإغلاق والإشكال أو يوم الغلبة على الأعداء {لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ}
129
فاعل لا ينفع والموصول مفعوله {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون ويؤخرون فإن الأنظار بالفارسية (زمان دادن) أما إذا كان المراد يوم القيامة فإن الإيمان يومئذٍ لا ينفع الكافر لفوات الوقت ولا يمهل أيضاً في إدراك العذاب ولا في بيان العذر فإنه لا عذر له وأما إذا كان المراد يوم النصرة كيوم بدر فإنه لا ينفع إيمانه حال القتل إذ هو إيمان يأس كإيمان فرعون حين ألجمه الغرق ولا يتوقف في قتله أصلاً والعدول عن تطبيق الجواب على ظاهر سؤالهم للتنبيه على أنه ليس مما ينبغي أن يسأل عنه لكونه أمراً بيناً غنياً عن الأخبار وكذا إيمانهم واستنظارهم يومئذٍ وإنما المحتاج إلى البيان عدم نفع ذلك الإيمان وعدم الإنظار {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي : لا تبال بتكذيبهم ، وبالفارسية : (س روى بكردان بطريق اهانت از ايشان تامدن معلوم يعني تانزول آية السيف) {وَانتَظِرْ} النصرة عليهم وهلاكهم لصدق وعدي {إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} الغلبة عليك وحوادث الزمان من موت أو قتل فيستريحوا منك أو إهلاكهم كما في قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (البقرة : 210) الآية ويقرب منه ما قيل وانتظر عذابنا فإنهم منتظرون فإن استعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقد أنجز الله وعده فنصر عبده وفتح للمؤمنين وحصل أمانيهم أجمعين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 106
شكر خداكه هره طلب كردم ازخدا
برمنتهاى همت خود كامران شدم
قال بعضهم :
هركرا اقبال باشد رهنمون
دشمنش كردد بزودى سر نكون
وفي الآية حث على الانتظار والصبر.
قد يدرك المتأنى بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وإشارة إلى أن أهل الأهواء ينكرون على الأولياء ويستدعون منهم إظهار الكرامات وعرض الفتوحات ولكن إذا فتح الله على قلوب أوليائه لا ينفع الإيمان بفتوحهم زمرة أعدائه إذ لم يقتدوا بهم ولم يهتدوا بهدايتهم فمالهم إلا الحسرات والزفرات فانتظار المقر المقبل لفتوحات الألطاف وانتظار المنكر المدبر لهواجم المقت وخفايا المكر والقهر نعوذ بالله تعالى.
وفي الحديث : "من قرأ الم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر" وفي الحديث : "من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام" كما في "الإرشاد" وفي الحديث : "تجيىء الم تنزيل السجدة يوم القيامة لها جناحان تطاير صاحبها وتقول لا سبيل عليك" كما في "بحر العلوم".
ـ وروي ـ عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان لا ينام حتى يقرأ الم السجدة وتبارك الذي بيده الملك ويقول : "هما تفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة فمن قرأهما كتب له سبعون حسنة ومحى عنه سبعون سيئة ورفع له سبعون درجة" وعن أبي هريرة رضي الله عنه كان النبي عليه السلام يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل وهل أتى على الإنسان كما في "كشف الأسرار".
ويسن عند الشافعي وأحمد أن يقرأ في فجر يوم الجمعة في الركعة الأولى ألم السجدة وفي الثانية هل أتى على الإنسان وكره أحمد المداومة
130
عليها لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة وعند أبي حنيفة ومالك لا يسن بل كره أبو حنيفة تعيين سورة غير الفاتحة لشيء من الصلوات لما فيه من هجران الباقي كما في "فتح الرحمن".
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر إن من أدب العارف إذا قرأ في صلاته المطلقة أن لا يقصد قراءة سورة معينة أو آية معينة وذلك لأنه لا يدري أين يسلك به ربه من طريق مناجاته فالعارف يقرأ بحسب ما يناجيه به من كلامه وبحسب ما يلقي إليه الحق في خاطره كما في "الكبريت الأحمر" نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن يقوم بكلامه آناء الليل وأطراف النهار ويتحقق بمعانيه ومناجاته في السر والجهار :
جزء : 7 رقم الصفحة : 106(7/98)
سورة الأحزاب
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية
جزء : 7 رقم الصفحة : 130
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} من النبأ وهو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن وسمي نبياً لأنه منبىء أي : مخبر عن الله بما تسكن إليه العقول الزكية أو من النبوة أي : الرفعة لرفعة محل النبي عن سائر الناس المدلول عليه بقوله : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (مريم : 57) ناداه تعالى بالنبي لا باسمه أي : لم يقل يا محمد كما قال يا آدم ويا نوح ويا موسى ويا عيسى ويا زكريا ويا يحيى تشريفاً فهو من الألقاب المشرفة الدالة على علو جنابه عليه السلام.
وله أسماء وألقاب غير هذا وكثرة الأسماء والألقاب تدل علي شرف المسمى وأما تصريحه باسمه في قوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} (الفتح : 29) فلتعليم الناس أنه رسول الله وليعتقدوه كذلك ويجعلوه من عقائدهم الحقة (در أسباب نزول مذكور است كه ابو سفيان وعكرمة وأبو الأعور بعد از واقعة أحد از مكة بمدينه آمده در مركز نفاق يعني وثاق ابن أبي نزول كردند وروزى ديكر از رسول خدا در خواستند تا ايشانرا امان دهد وباوى سخن كويند رسول خدا ايشانرا امان داد باجمعى از منافقان برخاستند بحضرت مصطفى عليه السلام آمدند وكفتند "ارفض ذكر آلهتنا وقل انها تشفع يوم القيامة وتنفع لمن عبدها ونحن ندعك وربك" اين سخت بدان حضرت شاق آمد روى مبارك درهم كشيد عبد الله ابن أبيّ ومقت بن قشير وجد بن قيس از منافقان كفتند يا رسول الله سخن اشراف عرب را باوركن كه صلاح كلى درضمن آنست فاروق رضي الله عنه حميت اسلام وصلابت دين دريافته قصد قتل كفره فرمود حضرت عليه السلام كفت اى عمر من ايشانرا بجان امان داده ام تونقض عهد مكن) فأخرجهم عمر رضي الله عنه من المسجد بل من المدينة وقال : اخرجوا في لعنة الله وغضبه فنزلت هذه الآية {اتَّقِ اللَّهَ} في نقض العهد ونبذ الأمان وأثبت على التقوى وزد منها فإنه ليس لدرجات القتوى نهاية وإنما حملت على الدوام لأن المشتغل بالشيء لا يؤمر به فلا يقال للجالس مثلاً اجلس أمره الله بالتقوى تعظيماً لشأن التقوى فإن تعظيم المنادى ذريعة إلى تعظيم شان المنادى له.
قال في "كشف الأسرار" يأتي في القرآن الأمر بالتقوى كثيراً لتعظيم ما بعده من أمر أو نهي كقول {اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ} (الحديد : 28)
131
وقول لوط {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى} (هود : 78).
قال في الكبير : لا يجوز حمله على غفلة النبي عليه السلام لأن قوله النبي ينافي الغفلة لأن النبي خبير فلا يكون غافلاً.
قال ابن عطاء : أيها المخبر عني خبر صدق والعارف بي معرفة حقيقية اتق الله في أن يكون لك الالتفات إلى شيء سواي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أن التقوى في اللغة بمعنى الاتقاء وهو اتخاذ الوقاية وعند أهل الحقيقة هو الاحتراز بطاعة الله من عقوبته وصيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك.
قال بعض الكبار المتقي إما أن يتقي بنفسه عن الحق تعالى وإما بالحق عن نفسه والأول هو الاتقاء بإسناد النقائص إلى نفسه عن إسنادها إلى الحق سبحانه فيجعل نفسه وقاية له تعالى والثاني هو الاتقاء بإسناد الكمالات إلى الحق سبحانه عن إسنادها إلى نفسه فيجعل الحق وقاية لنفسه والعدم نقصان فهو مضاف إلى العبد والوجود كمال فهو مضاف إلى الله تعالى.
وفي "كشف الأسرار" (آشنا باتقوى كسانند كه بناه طاعت شوند ازهره معصيتست واز حرام برهيزند خادمان تقوى ايشانندكه بناه احتياط شوند واز هره شبهتست برهيزند عاشقان تقوى ايشانند كه از حسنات وطاعات خويش از روى ناديدن نان رهيز كنند كه ديكران از معاصى) :
ما سواى حق مثال كلخنست
تقوى ازوى ون حمام روشنست
هركه درحمام شد سيماى او
هست يدا بررخ زيباى او
{وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي : المجاهرين بالكفر {وَالْمُنَافِقِينَ} أي : المضمرين له أي : دم على ما أنت عليه من انتفاء الطاعة لهم فيما يخالف شريعتك ويعود بوهن في الدين وذلك أن رسول الله لم يكن مطيعاً لهم حتى ينهى عن إطاعتهم لكنه أكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه والإطاعة الانقياد وهو لا يتصور إلا بعد الأمر.
فالفرق بين الطاعة والعبادة أن الطاعة فعل يعمل بالأمر لا غير بخلاف العبادة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ} على الاستمرار والدوام لا في جانب الماضي فقط {عَلِيمًا} بالمصالح والمفاسد فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلا عما فيه مفسدة {حَكِيمًا} لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكة البالغة.
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
{وَاتَّبِعْ} في كل ما تأتي وما تذر من أمور الدين {مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} في التقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك أي : فاعمل بالقرآن لا برأى الكافرين.
قال سهل : قطعه بذلك عن اتباع أعدائه وأمره بالاتباع في كل أحواله ليعلم أن أصح الطريق شريعة الاتباع والاقتداء لا طريقة الابتداع والاستبداد :(7/99)
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
من بسر منزل عنقا نه بخود بردم راه
قطع اين مرحله بامرغ سليمان كردم
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الامتثال وتركه وهو خطاب للنبي عليه السلام والمؤمنين {خَبِيرًا} (آكاه وخبردار) فيرتب على كل منهما جزاءه ثواباً أو عقاباً فهو ترغيب وترهيب.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي : فوض جميع أمورك إليه {وَكَفَى بِاللَّهِ} أي : الله تعالى {وَكِيلا} حافظاً موكولاً إليه كل الأمور ، وبالفارسية : (كار ساز ونكهبان وكفايت كننده مهمات) :
ون ره لطف عنايت كند
جمله مهمات كفايت كند
قال الشيخ الزورقي في "شرح الأسماء الحسنى" : الوكيل هو المتكفل بمصالح عباده والكافي لهم في كل أمر ومن عرف أنه الوكيل اكتفى به في كل أمره فلم يدبر معه ولم يعتمد إلا عليه.
وخاصيته نفي الحوائج والمصائب فمن خاف ريحاً أو صاعقة أو نحوهما فليكثر منه فإنه يصرف
132
ويفتح له أبواب الخير والرزق.
قال في "كشف الأسرار" أبو يزيد بسطامي قدس سره (باكروه مريدان برتوكل نشسته بودند مدتى بكذشت كه ايشانرا فتوحى برنيامد وازهي كس رفقي نيافتند بى طاقت شدند كفتند اى شيخ اكر دستورى باشد بطلب رزقي رويم شيخ كفت اكر دانيد كه روزى شما كجاست رويد وطب كنيد كفتند تا الله را خوانيم ودعا كنيم).
ارباب حاجتيم وزبان سؤال نيست
در حضرت كريم تمنا ه حاجتست
(كفتند اى شيخ س برتوكل مى نشينيم وخاموش مى باشيم كفتا خدايرا آزمايش ميكنيد كفتند اى شيخ س اره وحيلت يست شيخ كفت "الحيلة ترك الحيلة" يعني حيلت آنست كه اختيار ومراد خود در باقي كنيد تا آنه قضاست خود ميرود اى جو انمرد حقيقت توكل آنست كه مرد از راه اختيار خود بر خيزد ديده تصرف را ميل در كشد خيمه رضا وتسليم برسر كوى قضا وقدر بزندديده مطالعت بر مطالع مجارىء احكام كذارد تا از رده عزت ه آشكاراشود وبهر ه يش آيد در نظاره محول باشد نه در نظاره حال ون مرد بدين مقام رسد كليد كنج مملكت دركنار وى نهند توانكر دل كردد).
فعلى العاقل أن يجتهد في ترك الالتفات إلى غير الله ويركب المشاق في طريق من يهواه فإن الأخذ بالعزائم نعت الرجل الحازم وأولوا العزم من الرسل هم الذين لقوا الشدائد في تمهيد السبل.
ما جنح إلى الرخص إلا من يقع في الغصص.
من سلك ههنا ما توعر تيسر له في آخرته ما تعسر.
فما أثقل ظهرك سوى وزرك.
فهنا تحط الأثقال أثقال الأعمال والأقوال.
فاحذر من الابتداع في حال الاتباع.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أن النعم لا يمكن العبد تحصيلها بالأصالة فالله يحصلها له بالوكالة والعاقبة للتقوى.
وقال بعض الكبار : من الأدب أن تسأل لأنه تعالى ما أوجدك إلا لتسأل فإنك الفقير الأول فاسأل من كريم لا يبخل فإنه ذو فضل عميم ومن اتبع هواه لم يبلغ مناه ومن قام بالخدمة مع طرح الحرمة والحشمة فقد خاب وما نجح وخسر وما ربح الخادم في مقام الإذلال فما له وللدلال إذا دخل الخادم على مخدومه واعترض ففي قلبه مرض فبالحرمة والتسليم والتوكل تنال الرغائب في جميع المناصب والله تعالى هو الخبير أي : العليم بدقائق الأمور وخفاياها ومن عرف أنه الخبير اكتفى بعلمه ورجع عن غيره ونسي ذكر غيره بذكره ويترك الدعوى والرياء والتصنع ويكون على إخلاص في العمل فإن الناقد بصير.
بروى ريا حرقه سهلست دوخت
كرش باغدا در توانى فروخت
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل التقوى والإخلاص ويلحقنا بأرباب الاختصاص ويفتح لنا باب الخيرات والفتوح ما مكث في هذا البدن الروح.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا * مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِه وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـاـِاى تُظَـاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ}
{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ} جعل بمعنى خلق والرجل مخصوص بالذكر من الإنسان والتنكير ومن الاستغراقية لإفادة التعميم والقلب مضغة صغيرة في هيئة الصنوبرة خلقها الله في الجانب الأيسر من صدر الإنسان معلقة بعرق الوتين وجعلها محلاً للعلم وجوف الإنسان بطنه كما في اللغات وذكره لزيادة التقرير كما في قوله تعالى : {وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46) ، والمعنى بالفارسية :
133
(7/100)
(الله تعالى هي مردرا دو دل نيافريد در اندرون وى زيرا كه قلب معدن روح حيواني ومنبع قوتهاست س يكى بيش نشايد زيراكه روح حيوانى يكيست) وفيه طعن على المنافقين كما قاله القرطبي يعني أن الله تعالى لم يخلق للإنسان قلبين حتى يسع أحدهما الكفر والضلال والإصرار والانزعاج والآخر الإيمان والهدى والإنابة والطمأنينة فما بال هؤلاء المنافقين يظهرون ما لم يضمروه وبالعكس.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان المنافقون يقولون أن لمحمد قلبين قلباً معنا وقلباً مع أصحابه فأكذبهم الله.
وقال بعضهم : هذا رد ما كانت العرب تزعم من أن للعاقل المجرب للأمور قلبين ولذلك قيل لأبي معمر ذي القلبين وكان من أحفظ العرب وأدراهم وأهدى الناس إلى طريق البلدان وكان مبغضاً للنبي عليه السلام وكان هو أو جميل بن أسد يقول : في صدري قلبان أعقل بهما أفضل مما يعقل محمد بقلبه (كفت در سينه من دودل نهاده اند تادانش ودر يافت من بيش از در يافت محمد باشد) وكان الناس يظنون أنه صادق في دعواه فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم فيهم وهو يعدو في الرمضاء وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله فلقيه أبو سفيان وهو يقول : أين نعلي أين نعلي ولا يعقل أنها في يده فقال له إحدى نعليك في يدك والأخرى ي رجلك فعلموا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ويقول الفقير : أمَّا ما يقال بين الناس لفلان قلبان فليس على حقيقته وإنما يريدون بذلك وصفه بكمال القوة وتمام الشجاعة كأنه رجلان وله قلبان.
وفي الآية إشارة إلى أن القلب خلق للمحبة فقط فالقلب واحد والمحبة واحدة فلا تصلح إلا لمحبوب واحد لا شريك له كما أشار إليه من قال :
دلم خانه مهريارست وس
ازان مى نكنجد دروكين كس
فمن اشتغل بالدنيا قالباً وقلباً ثم ادعى حب الآخرة بل حب الله فهو كاذب في دعواه.
مشيد جز حكايت جام از جهان نبرد
زنهار دل مبند بر اسباب دنيوي
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ} نساءكم جمع زوج كما أن الزوجات جمع زوجة والزوج أفصح وإن كان الثاني أشهر ، وبالفارسية : (ونساخته زنان شمارا) {الَّـاـِاى} جمع التي {تُظَـاهِرُونَ مِنْهُنَّ} أي : تقولون لهن أنتن علينا كظهور أمهاتنا أي : في التحريم فإن معنى ظاهر من امرأته قال لها : أنت عليّ كظهر أمي فهو مأخوذ من الظهر بحسب اللفظ كما يقال لبى المحرم إذا قال لبيك واقف الرجل إذا قال : أف وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب وكان طلاقاً في الجاهلة وكانوا يجتنبون المطلقة ، يعني : (طلاق جاهليت اين بود كه بازن خويش ميكفتند) أنت عليّ كظهر أمي أي : أنت عليّ كظهر أمي أي : أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج وإنما جعلوا الكناية بالظهر عن البطن لأنه عمود البطن وقوام البنية {أُمَّهَـاتِكُمْ} أي : كأمهاتكم جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق من أراق وشدت زيادتها في الواحدة بأن يقال أمه.
والمعنى ما جمع الله الزوجية والأمومة في امرأة لأن الأم مخدومة لا يتصرف فيها والزوجة خادمة يتصرف فيها والمراد بذلك نفي ما كانت العرب تزعمه من أن الزوجة المظاهر منها كالأم.
قال في "كشف الأسرار" : (ون
134
اسلام آمد وشريعت راست رب العالمين براى اين كفارت وتلت بديد كرد وشرع آثرا اظهار نام نهاد) وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة وهي عتق رقبة فإن عجز صام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان ولا شيء من الأيام المنهية وهي يوما العيد وأيام التشريق فإن عجز أطعم ستين مسكيناً كل مسكين كالفطرة أو قيمة ذلك.
وقوله : أنت عليّ كظهر أمي لا يحتمل غير الظهار سواء نوى أو لم ينو ولا يكون طلاقاً أو إيلاء لأنه صريح في الظهار.
ولو قال : أنت عليّ مثل أمي فإن نوى الكرامة أي : إن قال : أردت أنها مكرمة عليّ كأمي صدق أو الظهار فظهار أو الطلاق فبائن وإن لم ينو شيئاً فليس شيء.
ولو قال : أنت عليّ حرام كأمي ونوى ظهاراً أو طلاقاً فكما نوى.
ولو قال : أنت عليّ حرام كظهر أمي ونوى طلاقاً وإيلاء فهو ظهار وعندهما ما نوى ولا ظهار إلا من الزوجة فلا ظهار من أمته لأن الظهار منقول عن الطلاق لأنه كان طلاقاً في الجاهلية ولا طلاق في المملوك.
ولو قال لنسائه أنتن عليّ كظهر أمي كان مظاهراً منهن وعليه لكل واحدة كفارة وإن ظاهر من واحدة مراراً في مجلس أو مجالس فعليه لكل ظهار كفارة كما في تكرار اليمين فكفارة الظهار واليمين لا تتداخل بخلاف كفارة شهر رمضان وسجدة التلاوة أي : إذا تكررت التلاوة في موضع لا يلزم إلا سجدة واحدة
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/101)
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ} جمع دعى فعيل بمعنى مفعول وهو الذي يدعى ولداً ويتخذ ابناً أي : المتبنى بتقديم الباء الموحدة على النون ، وبالفارسية : (كسى را به سر كرفتن) وقياسه أن يجمع على فعلى كجرحى بأن يقال دعيا فإن أفعلاء مختص بفعيل بمعنى فاعل مثل تقي وأتقياء كأنه شبه فعيل بمعنى مفعول في اللفظ بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه {أَبْنَآءَكُمْ} حقيقة في حكم الميراث والمحرمة والنسب أي : ما جعل الله الدعوة والبنوة في رجل لأن الدعوة عرض والبنوة أصل في النسب ولا يجتمعان في الشيء الواحد وهذا أيضاً رد ما كانوا يزعمون من أن دعى الرجل ابنه فيجعلون له من الميراث مثل نصيب الذكر من أولادهم ويحرمون نكاح زوجته إذا طلقها ومات عنها ويجوز أن يكون نفي القلبين لتمهيد أصل يحمل عليه نفي الأمومة عن المظاهر منها والبنوة عن المتبني.
والمعنى : كما لم يجعل الله قلبين في جوف واحد لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلاً لكل القوى وغير أصل كذلك لم يجعل الزوجة أمّاً والدعيّ ابنا لأحد يعني كون المظاهر منها أمّاً وكون الدعيّ ابناً أي : بمنزلة الأم والابن في الآثار والأحكام المعهودة بينهم في الاستحالة بمنزلة اجتماع قلبين في جوف واحد.
وفيه إشارة إلى أن في القرابة النسبية خواص لا توجد في القرابة السببية فلا سبيل لأحد أن يضع في الأزواج بالظهار ما وضع الله في الأمهات ولا أن يضع في الأجانب بالتبني ما وضع الله في الأبناء فإن الولد سر أبيه فما لم يجعل الله فليس في مقدور أحد أن يجعله {ذالِكُمْ} (اين مظاهره را مطلقه ودعى را ابن خواندن) أو هو إشارة إلى الأخير فقط لأنه المقصود من سياق الكلام أي : دعاؤكم الدعي بقولكم هذا ابني.
{قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} فقط لا حقيقة له في الأعيان كقول الهازل فإذا هو بمعزل عن أحكام البنوة كما زعمتم والأفواه جمع فم واصل فم فوه بالفتح مثل ثوب وأثواب
135
وهو مذهب سيبويه والبصريين وفوه بالضم مثل سوق وأسواق وهو مذهب الفراء حذفت الهاء حذفاً غير قياسي لخفائها ثم الواو لاعتلالها ثم أبدلت الواو المحذوفة ميماً لتجانسهما لأنهما من حروف الشفة فصار فم.
قال الراغب وكل موضع علق الله فيه حكم القول بالفم فإشارة إلى الكذب وتنبيه على أن الاعتقاد لا يطابقه {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي : الكلام المطابق للواقع لأن الحق لا يصدر إلا من الحق وهو أن غير الابن لا يكون ابناً {وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ} أي : سبيل الحق لا غيره فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله هذا.
والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك وما فيه سهولة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/102)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} فيما سمي كل شيء بازاء معناه {وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ} إلى اسم كل شيء مناسب لمعناه كما هدى آدم عليه السلام بتعليم الأسماء كلها وخصصه بهذا العلم دون الملائكة المقربين.
قال بعض الكبار : اعلم أن آداب الشريعة كلها ترجع إلى ما نذكره وهو أن لا يتعدى العبد في الحكم موضعه في جوهر كان أو في عرض أو في زمان أو مكان أو في وضع أو في إضافة أو في حال أو في مقدار أو عدد أو في مؤثر أو في مؤثر فيه.
فأما أولاها في الجوهر فهو أن يعلم العبد حكم الشرع في ذلك فيجربه فيه بحسنه.
وأما أدب العبد في الأعراض فهو ما يتعلق بأفعال المكلفين من وجوب وحظر وإباحة ومكروه وندب.
وأما أدبه في الزمان فلا يتعلق إلا بأوقات العبادات المرتبطة بالأوقات فكل وقت له حكم في المكلف ومنه ما يضيق وقته ومنه ما يتسع.
وأما أدبه في المكان كمواضع العبادات مثل بيوت الله فيرفعها عن البيوت المنسوبة إلى الخلق ويذكر فيها اسمه.
وأما أدبه في الوضع فلا يسمى الشيء بغير اسمه ليغير عليه حكم الشرع بتغيير اسمه فيحلل ما كان محرماً ويحرم ما كان محللاً كما في حديث "سيأتي على أمتي زمان يظهر فيه أقوام يسمون الخمر بغير اسمها" أي : فتحاً لباب استحلالها بالاسم وقد تفطن لما ذكره الإمام مالك رحمه الله فسئل عن خنزير البحر فقال : هو حرام فقيل له إنه من جملة سمك البحر فقال : أنتم سميتوه خنزيراً فانسحب عليه حكم التحريم لأجل الاسم كما سموا الخمر نبيذاً أو ابريزاً فاستحلوها بالاسم وقالوا إنما حرم علينا ما كان اسمه خمراً.
وأما أدب الإضافة فهو مثل قول الخضر عليه السلام : {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} (الكهف : 79) وقوله : {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} (الكهف : 81) وذلك للاشتراك بين ما يحمد ويذم وقال : {فَأَرَادَ رَبُّكَ} (الكهف : 82) لتخليص المحمدة فيه فإن الشيء الواحد يكتسب ذماً بالنسبة إلى جهة ويكتسب حمداً بالإضافة إلى جهة أخرى وهو هو يعينه وإنما بغير الحكم بالنسبة.
وأما أدب الأحوال كحال السفر في الطاعة وحال السفر في المعصية فيختلف الحكم بالحال.
وأما الأدب في الأعداد فهو أن لا يزيد في أفعال الطهارة على أعضاء الوضوء ولا ينقص وكذلك القول في أعداد الصلوات والزكوات ونحوها وكذلك لا يزيد في الغسل عن صاع والوضوء عن مد.
وأما أدبه في المؤثر فهو أن يضيف القتل أو الغصب مثلاً إلى فاعله ويقيم عليه الحدود.
وأما أدبه في المؤثر فيه كالمقتول قوداً فينظر هل قتل بصفة ما قتل به أو بأمر آخر وكالمغصوب إذا وجد بغير يد الذي باشر الغصب فهذه أقسام آداب الشريعة كلها فمن عرفها وأجراها كان من المهتدين إلى السبيل الحق والمحفوظين عن الضلال المطلق فاعرف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِه وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـاـِاى تُظَـاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَآءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُم بِه وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} .
{ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ} يقال فلان يدعى لفلان أي : ينسب إليه ووقع اللام
136
ههنا للاستحقاق.
قال بعضهم : (اين آيت براى زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي بود) سبى صغيراً وكانت العرب في جاهليتها يغير بعضهم على بعض ويسبي فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأعتقه ورباه كالأولاد وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب وكان يدعى زيد بن محمد وكذا يدعى المقداد بن عمرو البهراني المقداد بن الأسود وسالم مولى أبي حذيفة سالم بن أبي حذيفة وغير هؤلاء ممن تبنى وانتسب لغير أبيه (ودر صحيح بخاري از ابن عمر منقولست كه نمى كفتيم إلا زيد بن محمد تا اين آيت آمد وما اورا زيد بن حارثة كفتيم) فالمعنى انسبوا الأدعياء إلى الذين ولدوهم فقولوا : زيد بن حارثة وكذا غيره ، وبالفارسية : (مردانرا به دران باز خوانيد) {هُوَ} أي : الدعاء لآبائهم فالضمير لمصدر ادعوا كما في قوله : {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة : 8) اقسط عند الله القسط بالكسر العدل وبالفتح هو أن يأخذ قسط غيره وذلك غير إنصاف ولذلك قيل قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/103)
ـ حكي ـ أن امرأة قالت للحَجَّاجِ : أنت القاسط فضربها وقال : إنما أردت القسط بالفتح وأقسط أفعل تفضيل قصد به الزيادة المطلقة والمعنى بالغ في العدل والصدق ، وبالفارسية : (راسترست ودادتر).
وفي "كشف الأسرار" : هو أعدل وأصدق من دعائهم إياهم لغير آبائهم {فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا} (س اكر ندانيد ونشناسيد) {ءَابَآءَهُمُ} (دران ايشانرا تانسبت دهيد بآنها).
قال بعضهم متى عرض ما يحيل معنى الشرط جعلت أن بمعنى إذ وإذ يكون للماضي فلا منافاة ههنا بين حرفي الماضي والاستقبال.
قال البيضاوي في قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} (البقرة : 24) إن تفعلوا جزم بلم فإنها لما صيرته أي : المضارع ماضياً صارت كالجزء منه وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما أي : حرف الشرط ولم {فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ} أي : فهم إخوانكم في الدين يعني من أسلم منهم {وَمَوَالِيكُمْ} وأولياؤكم فيه أي : فادعوهم بالإخوة الدينية والمولوية وقولوا : هذا أخي وهذا مولاي بمعنى الأخوة والولاية في الدين فهو من الموالاة والمحبة.
قال بعضهم : (ايشانرا برادر مى خوانيد واكر شمارا مولاست يعنى آزاد كرده مولى ميخوانيد) ويدل عليه أن أبا حذيفة أعتق عبداً يقال له سالم وتبناه وكانوا يسمونه سالم ابن أبي حذيفة كما سبق فلما نزلت هذه الآية سموه مولى أبي حذيفة {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي : إثم يقال جنحت السفينة أي : مالت إلى أحد جانبيها وسمي الإثم المائل بالإنسان على الحق جناحاً ثم سمي كل إثم جناحاً.
وقال بعضهم : إنه معرب كناه على ما هو عادة العرب في الإبدال ومثله الجوهر معرّب كوهر {فِيمَآ أَخْطَأْتُم بِهِ} بقطع الهمزة لأن همزة باب الأفعال مقطوعة أي : فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على سبق اللسان أو النسيان.
وقال ابن عطية : لا تتصف التسمية بالخطأ إلا بعد النهي والخطأ العدول عن الجهة.
وفرق بين الخاطىء والمخطيء فإن من يأتي بالخطى وهو يعلم أنه خطأ فهو خاطىء فإذا لم يعلم فهو مخطىء يقال : أخطأ الرجل في كلامه وأمره إذا زل وهفا وخطأ الرجل إذا ضل في دينه وفعله ومنه {لا يَأْكُلُه إِلا الْخَـاطِـاُونَ} (الحاقة : 37)
137
والمعنى بالفارسية : (دران يزى كه خطا كرديد بآن) {وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي : ولكن الجناح فيما قصدت قلوبكم بعد النهي على أن ما محل الجر عطفاً على ما أخطأتم أو ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح على أن محل ما الرفع على الابتداء محذوف الخبر وفي الحديث : "من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام" {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} بليغ المغفرة والرحمة يغفر لخطيئتي ويرحم.
وسمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول : اللهم اغفر خطاياي فقال : يا ابن آدم استغفر الصمد وأما الخطأ نقد تجاوز لك عنه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يقول الفقير : هذا لا يخالف الآية لأن المخطىء إذا قصر ووقع في أسباب أدّته إلى الخطأ كأن مظنة المغفرة ومحل الرحمة ثم المتبني بقوله هو ابني إذا كان مجهول النسب وأصغر سناً من المتبني ثبت نسبه منه وإن كان عبداً له عتق مع ثبوت النسب وإن كان لا يولد لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه فإنه لا يعتق عندهما لأن كلامه محال فيلغو وأما معروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبداً عتق.
واعلم أن من نفى نسب الدعي عنه لا يلزمه شيء إذ هو ليس بابن له حقيقة وأما إذا نفى نسب ولده الثابت ولادته منه فيلزمه اللعان لأنه قذف منكوحته بالزنى وإن كذب نفسه يحد واللعان باب من الفقه فليطلب هناك.
ثم اعلم أن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه النسب الباقي كما قال : "كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي" فحسبه الفقر ونسبه النبوة فينبغي أن لا يقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته فإن قطع الرحم الحقيقي فوق قطع الرحم المجازي في الإثم إذ ربما يقطع الرحم المجازي إذا كان الوصل مؤدياً إلى الكفر أو المعصية كما قال تعالى : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى} (لقمان : 15) إلخ.
ون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر ازمودت قربى
وأما قطع الرحم الحقيقي فلا مساغ له أصلاً والأب الحقيقي هو الذي يقدر على التوليد من رحم القلب بالنشأة الثانية يعني في عالم الملكوت وهم الأنبياء والورثة من كمل الأولياء فاعرف هذا وانتسب نسبة لا تنقطع في الدنيا والآخرة قال عليه السلام : "كل تقي نقي آلى" جعلنا الله وإياكم من هذا الآل.
{النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} يقال : فلان أولى بكذا أي : أحرى وأليق ، وبالفارسية : (سراوارتر).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/104)
ـ روي ـ أنه عليه السلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس نشاور آباءنا وأمهاتنا فنزلت ، والمعنى النبي عليه السلام أحرى وأجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من أمور الدين والدنيا كما يشهد به الإطلاق على معنى أنه لو دعاهم إلى شيء ودعتهم نفوسهم إلى شيء آخر كان النبي أولى بالإجابة إلى ما يدعوهم إليه من إجابة ما تدعوهم إليه نفوسهم لأن النبي لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نجاتهم وفوزهم وأما نفوسهم فربما تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم وبوارهم كما قال تعالى حكاية عن يوسف الصديق عليه السلام {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ} (يوسف : 53) فيجب أن يكون عليه السلام أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وآثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها وأن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه في الخطوب والحروب ويتبعوه في كل ما دعاهم إليه ، يعني : (بايدكه فرمان اورا ازهمه فرمانها لاز مترشناسند) وفي الحديث : "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب" جمع جندب
138
بضم الجيم وفتح الدال وضمها نوع من الجراد.
والفراش جمع فراشة بفتح الفاء وهي دويبة تطير وتقع في النار ، وبالفارسية : (روانه) "يقعن فيها وهو يذب عنها" أي : يدفع عن النار من الوقوع فيها "وأنا آخذ بحجزكم" بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجزة وهي معقد الإزار وحجزة السراويل موضع التكة "عن النار" أي : ادفع عن نار جهنم "وأنتم تفلتون" بتشديد اللام أي : تخلصون "من يدي" وتطلبون الوقوع في النار بترك ما أمرته وارتكاب ما نهيته وفي الحديث : "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة" أي : في الشفقة "من أنفسهم ومن آبائهم" وفي الحديث : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين".
قال سهل قدس سره : من لم ير نفسه في ملك الرسول ولم ير ولايته عليه في جميع أحواله لم يذق حلاوة سننه بحال.
دردو عالم غيب وظاهر اوست دوست
دوستى ديكران بربوى اوست
دوستى اصل بايد كرد وبس
فرع را بهر ه دارد دوست كس
اصل دارى فرع كوهر كزمباش
تن بمان وجان بكيراى خواجه تاش
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال في "الأسئلة المقحمة" : والآية تشير إلى أن اتباع الكتاب والسنة أولى من متابعة الآراء والأقيسة حسبما ذهب إليه أهل السنة والجماعة {وَأَزْوَاجُهُ} (وزنان او) {أُمَّهَـاتِهِمْ} أي : منزلات منازلهن في وجوب التعظيم والاحترام وتحريم النكاح كما قال تعالى : {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَه مِنا بَعْدِه أَبَدًا} (الأحزاب : 53) وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن والمسافرة معهن والميراث فهن كالأجنبيات فلا يحل رؤيتهن كما قال تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} (الأحزاب : 53) ولا الخلوة والمسافرة ولا يرثن المؤمنين ولا يرثونهن.
وعن أبي حنيفة رحمه الله كان الناس لعائشة رضي الله عنها محرماً فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم وليس غيرها من النساء كذلك انتهى وقد سبق وجهه في سورة النور في قصة الإفك فبان أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن فقط ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء أي : بل أمهات الرجال وضعف ما قال بعض المفسرين من أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً ولما ثبت التحريم خصوصاً لم يتعد عشيرتهن فلا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاته ولهذا قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت أم المؤمنين ولم يقل هي خالة المؤمنين ثم إن حرمة نكاحهن من احترام النبي عليه السلام واحترامه واجب وكذا احترام ورثته الكمل وكذا قال بعض الكبار : لا ينكح المريد امرأة شيخه إن طلقها أو مات عنها وقس عليه حال كل معلم مع تلميذه وهذا لأنه ليس في هذا النكاح يمن أصلاً لا في الدنيا ولا في الآخرة وإن كان رخصة في الفتوى ولكن التقوى فوق أمر الفتوى فاعرف هذا.
ورد مصحف أبيّ وقرأة ابن مسعود رضي الله عنهما (نين بوده "وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم" مراد شقت تمام ورحمت لا كلام است).
وقال بعضهم أي : النبي عليه السلام أب لهم في الدين لأن كل نبي أب لأمته من حيث أنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوة.
قال الإمام الراغب :
139
الأب الوالد ويسمى كل من كان سبباً إلى إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمي النبي عليه السلام أباً للمؤمنين قال الله تعالى : {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُه أُمَّهَـاتُهُمْ} وفي بعض القراآت وهو "أب لهم".
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/105)
ـ وروي ـ أنه قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "أنا وأنت أبو هذه الأمة" وإلى هذا أشار بقوله : "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" {وَأُوْلُوا الارْحَامِ} أي : ذووا القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التوارث كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالموالاة في الدين والمؤاخاة وبالهجرة لا بالقرابة كما كانت تؤلف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات ثم نسخ ذلك لما قوي الإسلام وعز أهله وجعل التوارث بالقرابة {فِى كِتَـابِ اللَّهِ} أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن المنزل وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيما فرض الله كقوله كتاب الله عليكم وهو متعلق بأولوا وأفعل يعمل في الجار والمجرور {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني الأنصار {وَالْمُهَـاجِرِينَ} (وازمهاجران كه حضرت يغمبر ايشانرا بايكديكر برادرى داد) وهو بيان لأولي الأرحام أي : الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى ببعض بأن يرث بعضهم بعضاً من الأجانب أو صلة أولى أي : أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة.
وفي "التأويلات النجمية" : {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي : أحق بهم في توليدهم من صلبه فالنبي بمنزلة أبيهم {وَأَزْوَاجُه أُمَّهَـاتُهُمْ} يشير إلى أن أمهاتهم قلوبهم وهن أزواجه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليأخذوا من صلب النبوة نطفة الولاية في أرحام القلوب وإذا حملوا النطفة صانوها من الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فإنها تسقط الجنين فيرتدوا على أعقابهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ثم قال : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} يعني بعد أولوية النبي عليه السلام بالمؤمنين أولوا الأرحام في الدين بعضهم أولى ببعض للتربية أو بعد النبي عليه السلام أكابرهم من المؤمنين الكاملين أولى بأصاغرهم من الطالبين {فِى كِتَـابِ اللَّهِ} أي : في سنة الله وتقديره للتوالد في النشأة الثانية نيابة عن النبي عليه السلام {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنشأة الأخرى {وَالْمُهَـاجِرِينَ} عما سوى الله انتهى {إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآاـاِكُم مَّعْرُوفًا} استثناء من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كقولك القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية تريد أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فالمراد بالأولياء من يوالونهم ويواخونهم وبفعل المعروف التوصية بثلث المال أو أقل منه لا بما زاد عليه أي : أنهم أحقاء في كل نفع منهم إلا في الوصية لأنه لا وصية لوارث ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً أي : الأقارب أحق بالميراث من الأجانب لكن فعل التوصية أولى للأجانب من الأقارب لأنه لا وصية لوارث {كَانَ ذَالِكَ} أي : ما ذكر في الآيتين من أولوية النبي عليه السلام وتوارث ذوي الأرحام {فِى الْكِتَـابِ} متعلق بقوله : {مَسْطُورًا} يقال سطر فلان كذا أي : كتب سطراً سطراً وهو الصف من الكتابة أي : مثبتاً محفوظاً في اللوح أو مكتوباً في القرآن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
اعلم أنه لا توارث بين المسلم والكافر ولكن صحت الوصية بشيء من مال المسلم
140
للذمي لأنه كالمسلم في المعاملات وصحت بعكسه أي : من الذمي للمسلم ولذا ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأولياء هم الأقارب من غير المسلمين أي : إلا أن توصوا لذوي قرابتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان وذلك فإن القريب الغير المسلم يكون كالأجنبي فتصح الوصية له مثله وندبت الوصية عند الجمهور في وجوه الخير لتدارك التقاصير.
وفي الزاهدي أنها مباحة كالوصية للأغنياء من الأجانب ومكروهة كالوصية لأهل المعصية ومستحبة كالوصية بالكفارات وفدية الصيامات والصلوات.
وفي الآية إشارة إلى أن النفس إذا تزكت عن الأخلاق الذميمة وتبدلت عداوتها وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيواسيها ويعمل معها معروفاً برفق من الأرفاق كان ذلك المعروف في حق النفس مسطوراً في أم الكتاب وأما قبل التزكي فلا يرفق بها لأنها عدوة الله ولا بد للعدو من الغلظة وترك المواساة ولهذا لم تصح الوصية للحربي لأنه ليس من أهل البر فالوصية لمثله كتربية الحية الضارة لتلدغه ، وفي "المثنوي" :
دست ظالم را ببر ه جاى آن
كه بدست او نهى حكم وعنانتوبدان بزمانى اى مجهل داد
كه ناد كرك را او شيرداد
نقش بى عهدست كان رو كشتنيست
(7/106)
او دنى وقبله كاه او دنيست ومن الأمثال : "كمجير أم عامر" وكان من حديثه أن قوماً خرجوا إلى الصيد في يوم حار فبينما هم كذلك إذ عرضت لهم أم عامر وهي الضبع فطردوها حتى ألجأوها إلى خباء أعرابي فاقتحمت فخرج إليهم الأعرابي فقال : ما شأنكم؟ قالوا : صيدنا وطريدتنا قال : كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثبت قائم سيفي بيدي فرجعوا وتركوه فقام إلى لقحة فحلبها وقربّ منها ذلك وقرب إليها ماء فأقبلت مرة تلغ من هذا ومرة من هذا حتى عاشت واستراحت فبينما الأعرابي قائم في جوف بيته إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وشربت دمه وتركته فجاء ابن عم له وإذا به على تلك الصورة فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها فقام أثرها فقال صاحبتي والله وأخذ سيفه وكنانته واتبعها فلم يزل حتى أدركها فقتلها وأنشأ يقول :
ومن يصنع المعروف مع غير أهله
يلاق كما لاقى مجير أم عامر
أدام لها حين استجارت بقربه
قراها بالبان اللقاح الغزائر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من
غدا يصنع المعروف مع غير شاكر
كذا في "حياة الحيوان" نسأل الله العناية والتوفيق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُه أُمَّهَـاتُهُمْ وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَـابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآاـاِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ مَسْطُورًا * وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَا وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا * لِّيَسْـاَلَ الصَّـادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} .
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ} أي : واذكر يا محمد لقومك أو ليكن ذكر منك يعني لا تنس وقت أخذنا من الأنبياء كافة عند تحميلهم الرسالة {مِيثَـاقَهُمْ} الميثاق عقد يؤكد بيمين أي : عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق {وَمِنكَ} أي : وأخذنا منك يا حبيبي خاصة وقدم تعظيماً وإشعاراً بأنه أفضل الأنبياء وأولهم في الخلق وإن كان آخرهم في البعث وفي الحديث "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي : لا قول هذا بطريق الفخر {وَمِن نُّوحٍ} شيخ الأنبياء وأول الرسل بعد الطوفان {وَإِبْرَاهِيمَ} الخليل {وَمُوسَى} الكليم {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} روح الله خصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين للإيذان بمزيد فضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع وأساطين أولى العزم من الرسل
141
{وَأَخَذْنَا مِنْهُم} أي : من النبيين {مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} أي : عهداً وثيقاً شديداً على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالات وأداء الأمانات وهذا هو الميثاق الأول بعينه والتكرير لبيان هذا الوصف.
{لِّيَسْـاَلَ الصَّـادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من أخذ الميثاق وغاية له لا بأخذنا فإن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان الغرض منه بياناً قصدياً كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة.
والمعنى : فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوا لقومهم يعني : (از راستى ايشان درسخن كه باقوم كفته اند).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ روي ـ في الخبر أنه يسأل القلم يوم القيامة فيقول : ما فعلت بأمانتي؟ فيقول : يا رب سلمتها إلى اللوح ثم يصير القلم يرتعد مخافة أن لا يصدقه اللوح فيسأل اللوح فيقر بأن القلم قد أدى الأمانة وأنه قد سلمها إلى إسرافيل فيقول لإسرافيل : ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح؟ فيقول : سلمتها إلى جبريل فيقول لجبريل : ما فعلت بأمانتي؟ فيقول : سلمتها إلى أنبيائك فيسأل الأنبياء فيقولون : سلمناها إلى خلقك فذلك قوله : {لِّيَسْـاَلَ الصَّـادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} قال القرطبي : إذا كان الأنبياء يسألون فكيف من سواهم.
دران روز كز فعل رسند وقول
اولوا العزم راتن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
توعذر كنه را ه دادى بيا
وفي مسألة الرسل والله يعلم أنهم لصادقون التبكيت للذين كفروا بهم وإثبات الحجة عليهم ويجوز أن يكون المعنى ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم لأن مصدق الصادق صادق.
وفي "الأسئلة المقحمة" : ما معنى السؤال عن الصدق فإن حكم الصدق أن يثاب عليه لا أن يسأل عنه والجواب أن الصدق ههنا هو كلمة الشهادتين وكل من تلفظ بهما وارتسم شعائرهما يسأل عن تحقيق أحكامهما والإخلاص في العمل والاعتقاد بهما كما قال الراغب : ليسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله ففيه تنبيه على أنه لا يكفي الاعتراف بالحق دون تحريه بالفعل.
ازعشق دم مزن ونكشتى شهيد عشق
دعوى اين مقام درست ازشهادتست
وفي "المثنوي" :
وقت ذكر غز وشمشيرش دراز
وقت كروفر تيغش ون ياز
(7/107)
قال الجنيد قدس سره في الآية : ليسأل الصادقين عن صدقهم أي : عنده لا عندهم انتهى وهذا الذي فسره معنى لطيف فإن الصدق والإسلام عندالخلق سهل ولكن عند الحق صلب فنسأل الله أن يجعل صدقنا وإسلامنا حقيقياً {وَأَعَدَّ} (واماده كرد وساخت) {لِلْكَـافِرِينَ} المكذبين للرسل {عَذَابًا أَلِيمًا} (عذابي دردناك ودردنماى) وهو عطف على ما ذكر من المضمر وعلى ما دل عليه ليسأل الخ كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذاباً أليماً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ} في الأزل وهم في كتم العدم مختفون {وَمِنكَ} يا محمد أولا بالحبيبية {وَمِن نُّوحٍ} بالدعوة من {إِبْرَاهِيمَ} بالخلة من {مُوسَى} بالمكالمة من {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} بالعبدية {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} بالوفاء وبغلظة الميثاق يشير إلى أنا غلظنا ميثاقهم بالتأييد والتوفيق للوفاء به {لِّيَسْـاَلَ الصَّـادِقِينَ} في العهد والوفاء به {عَن صِدْقِهِمْ}
142
لما صدقوا إظهاراً لصدقهم كما أثنى عليهم بقوله : {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب : 23) فكان سؤال تشريف لا سؤال تعنيف وسؤال إيجاب لا سؤال عتاب.
والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب.
ومن إمارات الصدق في المعاملة وجود الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق.
وفي الأحوال تصفيتها من غير مداخلة إعجاب.
وفي القول السلامة من المعاريض.
وفيما بينك وبين الناس التباعد من التلبيس والتدليس.
وفيما بينك وبين الله إدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج عن الوجود المجازي شوقاً إلى الوجود الحقيقي وأعد للكافرين على هذه المقامات المعرضين عن هذه الكرامات عذاباً أليماً من الحسرات والغرامات انتهى.
قال البقلي : إن الله تعالى أراد بذلك السؤال أن يعرّف الخلق شرف منازل الصادقين فرب قلب يذوب من الحسرة حيث ما عرفهم وما عرف قدرهم قال تعالى : {ذَالِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن : 9) وصدقهم استقامة أسرارهم مع الحق في مقام المحبة والإخلاص.
قال سهل : يقول الله لهم : لمن عملتم وماذا أردتم فيقولون : لك عملنا وإياك أردنا فيقول صدقتم فوعزته لقوله لهم في المشاهدة صدقتم ألذ عندهم من نعيم الجنة :
لذت شيرينىء كفتار جانان لذتيست
كز دماغ جان كى بيرون شود رحالتست
قال في "كشف الأسرار" : (مصطفى را عليه السلام رسيدند كه كمال دريست جواب داد كه كفتار بحق وكردار بصدق.
وكفته اند صدق را دو درجه است يكى ظاهر ويكى باطن أما ظاهرسه يزاست دردين صلابت ودرخدمت سنت ودرمعاملت خشيت.
وآنه باطنست سه يزاست إنه كويى كنى وبآنه نمايى دارى وآنه كه دارى دهى واشى).
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : اسوداد الوجوه من الحق المكروه كالغيبة والنميمة وإفشاء السر فهو مذموم وإن كان صدقاً فلذلك قال تعالى : {لِّيَسْـاَلَ الصَّـادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} أي : هل أذن لهم في إفشائه أولا فما كل صدق حق انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{لِّيَسْـاَلَ الصَّـادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
{الَّذِينَ ءَامَنُوا} .
ـ روي ـ أن النبي عليه السلام لما قدم المدينة صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكونوا عليه بل معه فنقض بنوا النضير وهم حي من يهود خيبر عهودهم وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية يقال لها زهرة فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحاجة ومعه الخلفاء فجلس إلى جانب جدار من بيوتهم فطمعوا فيه حتى صعد بعضهم على البيت ليلقي عليه صخرة فيقتله فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم فقام مسرعاً إلى المدينة ولما نقضوا العهد أرسل إليهم رسول الله محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن اخرجوا من بلدي يعني : المدينة لأن قريتهم كانت من أعمالها فامتنعوا من الخروج بسبب عناد سيدهم حيي بن أخطب وكان حيى في اليهود يشبه بأبي جهل في قريش فخرج عليه السلام مع أصحابه لمحاربتهم فحاصرهم ست ليال وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم فمنهم من سار إلى خيبر ومنهم من سار إلى أذرعات من بلاد الشام ولما وقع إجلاؤهم من أماكنهم سار سيدهم حيى وجمع من كبرائهم إلى قريش في مكة يحرّضونهم على حرب رسول الله ويقولون : إنا سنكون معكم جملة واحدة ونستأصله فوافقهم قريش لشدة عداوتهم لرسول الله ثم جاءوا
143
(7/108)
إلى غطفان وهو محركة حي من قيس وحرضوهم أيضاً على الحرب وأعلموهم أن قريشاً قد تابعوهم في ذلك فتجهزت قريش ومن اتبعهم من قبائل شتى وعقد اللواء في دار الندوة وكان مجموع الأحزاب من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد ويهود قريظة والنضير قدر اثني عشر ألفاً وقائد الكل أبو سفيان ولما تهيأت قريش للخروج أتى ركب من خزاعة في أربع ليال حتى أخبروا رسول الله فجمع عليه السلام الناس وشاورهم في أمر العدو هل يبرزون من المدينة أو يقيمون فيها؟ فقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : يا رسول الله إنا كنا إذا تخوفنا الخيل بأرض فارس خندقنا علينا وكان الخندق من مكايد الفرس وأول من فعله من ملوك الفرس ملك كان في زمن موسى عليه السلام فاستحسن عليه السلام رأي سلمان فركب فرساً ومعه المهاجرون والأنصار وهم ثلاثة آلاف وأمر الذراري والنساء فرفعوا في الأطام وسبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فصارت كالحصن وطلب موضعاً ينزله فجعل سلعاً وهو جبل فوق المدينة خلف ظهره يعني ضرب معسكره بالفارسية : (لشكركاه) في أسفل ذلك الجبل على أن يكون الجبل خلف ظهره والخندق بينه وبين العدو وأمرهم بالجد في عمل الخندق على أن يكون عرضه أربعين ذراعاً وعمقه عشراً ووعدهم النصر إن صبروا فعمل فيه بنفسه مع المسلمين وحمل التراب على ظهره الشريف وكان في زمن عسرة وعام مجاعة في شوال من السنة الخامسة من الهجرة ولما رأى رسول الله ما بأصحابه من التعب قال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فارحم الأنصار والمهاجرة (أنس رضي الله عنه كفت مهاجر وأنصار بدست خويش تير ميزدند وكار ميكردندكه مزدوران واكران نداشتند وسرما سخت بود وبخوش دلى آن رنج دشوارى ميكشيدنذ رسول خداكه ايشانرا نان ديد وكفت) :
لا هم إن العيش عيش الآخرة
فأكرم الأنصار والمهاجرة
(ايشان جواب دادند كه) :
نحن الذين بايعوا محمداً
على الجهاد ما بقينا أبداً
وإذ اشتد على الصحابة في حفر الخندق كدية أي : محل صعب شكوا ذلك إلى رسول الله فأخذ المعول وضرب فصار كثيباً مهيلاً قال سلمان وضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي وكان رجلاً قوياً يعمل عمل عشرة رجال حتى تنافس فيه المهاجرون والأنصار فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال عليه السلام : "سلمان منا أهل البيت" ولذلك يشير بعضهم بقوله :
لقد رقى سلمان بعد رقه
منزلة شامخة البنيان
وكيف لا والمصطفى قد عده
من أهل بيته العظيم الشان
قال سلمان فأخذ عليه السلام المعول من يدي وقال : "بسم الله" وضرب ضربة فكسر ثلث الحجارة وبرق منها برقة فخرج نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف الليل المظلم فكبر رسول الله وقال : "أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنها أنياب
144
(7/109)
الكلاب" ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر وبرق منها برقة فخرج نور من قبل الروم فكبر رسول الله وقال : "أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها" ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر وبرق منها برقة فخرج نور من قبل فارس فكبر رسول الله وقال : "أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب" وجعل يصف لسلمان أماكن فارس ويقول سلمان صدقت يا رسول الله هذه صفتها ثم قال رسول الله : "هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان" وعند ذلك قال جمع من المنافقين منهم معتب بن قشير : ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا أي : تجاوزوا الرحل وتخرجوا إلى الصحراء وتذهبوا إلى البراري ما هذا إلا وعد غرور ولما فرغ رسول الله من حفر الخندق على المدينة ، قال الكاشفي : (بعد ازشش روز كه مهم خندق سمت اتمام يافت) أقبلت قريش ومن معهم (خندق را ديدنكه كفتند اين عرب را نبودست) فنزلوا بمجمع الأسيال ونقض بنو قريظة العهد بينه عليه السلام وبينهم بإغواء حيى وأرادوا الإغارة على المدينة بمعاونة طائفة من قريش ولما جاء خبر النقض عظم البلاء وصار الخوف على الذراري أشد الخوف على أهل الخندق فبعث عليه السلام ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون النكير تخوفاً على الذراري من العدو أي : بني قريظة وكانوا من يهود المدينة ومكث عليه السلام في الخندق قريباً من شهر وهو أثبت الأقاويل وكان أكثر الحال بينهم وبين العدو الرمي بالنبال والحصى وأقبل نوفل بن عبد الله فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فنزل إليه علي رضي الله عنه فضربه بالسيف فقطعه نصفين وكذا أقبل طائفة من مشاهير الشجعان وأكرهوا خيولهم على اقتحام الخندق من مضيق به وفيهم عمرو بن ودّ وكان عمره إذ ذاك تسعين سنة فقال : من يبارز فقام إليه علي رضي الله عنه بعد الاستئذان من رسول الله فقال : يا ابن أخي لا أحب أن أقتلك فقال علي رضي الله عنه : أحب أن أقتلك فحمى عمرو عند ذلك أي : أخذته الحمية وكان غيوراً مشهوراً بالشجاعة ونزل عن فرسه وسل سيفه كأنه شعلة نار وأقبل على علي رضي الله عنه فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها ونفذ منها السيف وأصاب رأسه فشجه فضربه علي ضربة على موضع الرداء من العنق فسقط فكبر المسلمون فلما سمع رسول الله التكبير عرف أن علياً قتل عمراً لعنه الله وقال حينئذٍ "لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار" فلما قتل انهزم من معه.
قال في "كشف الأسرار" (سه تن از كافران كشته شدند واز صحابه رسول هي كس كشته نشد عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه هنوز در اسلام نيامده بود بيرون آمد وميارزت خواست ابو بكر فرايش آمد عبد الرحمن ون روى در ديد بركشت س يا ابو بكر كفتند اكر سرت حرب كردى باتوه خواستى كردن باوى ابو بكر كفت بآن خدايى كه يكانه ويكتاست كه بازنكشتمى تاويرا بكشتمى يا اومرا بكشتى) وفات منه عليه السلام ومن أصحابه في بعض أيام الخندق صلاة العصر ولذلك قال عليه السلام : "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً" وهذا
145
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/110)
دعاء عليهم بعذاب الدارين من خراب بيوتهم في الدنيا فتكون النار استعارة للفتنة ومن اشتعال النار في قبورهم وقام عليه السلام في الناس فقال : "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإن لقيتم العدو فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" أي : السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله ثم دعا عليه السلام على الأحزاب فقال : "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم وزلزلهم" ودعا أيضاً بقوله : "اللهم يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي" وقال له المسلمون : هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الخناجر قال : "نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" فاستجاب الله دعاءه يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فأتاه جبريل فبشره أن الله يرسل عليهم ريحاً وجنوداً وأعلم عليه السلام أصحابه بذلك وصار يرفع يديه قائلاً شكراً شكراً وذلك قوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا} {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ذكر النعمة شكرها أي : اشكروا أنعام الله عليكم بالنصرة {إِذْ} ظرف للنعمة.
والمعنى بالفارسية (آنكاه كه) {جَآءَتْكُمُ} (آمد بشما) {جُنُودُ} لشكرها والمراد الأحزاب المذكورة من قريش وغطفان ونحوهما يقال للعسكر الجند اعتباراً بالغلظ من الجند وهي الأرض الغليظة التي فيها حجارة ثم يقال لكل مجتمع جند نحو الأرواح جنود مجندة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} من جانب الاسم القهار ليلاً عطف على جاءتكم {رِيحًا} أي : ريح الصبا وهي تهب من جانب المشرق والدبور من قبل المغرب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما قالت الصبا للدبور أي : الريح الغربية اذهبي بنا ننصر رسول الله فقالت : إن الحرائر لا تهب بالليل فغضب الله عليها فجعلها عقيماً وفي الحديث : "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" {وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة وكانوا ألفاً.
ـ روي ـ أن الله تعالى بعث على المشركين ريحاً صبا باردة في ليلة ذات شتاء ولم تجاوز عسكرهم فأحصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمرت الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور ونفثت في روعهم الرعب وكبرت في جوانب معسكرهم حتى سمعوا التكبير وقعقعة السلاح واضطربت الخيول ونفرت فصار سيد كل حي يقول لقومه يا بني فلان هلموا إليّ فإذا اجتمعوا قال النجاء النجاء أي : الإسراع الإسراع وحملوا ما وقع على السحر فانهزموا من غير قتال وارتحلوا ليلاً وتركوا ما استثقلوه من متاعهم {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من حفر الخندق وترتيب الأسباب {بَصِيرًا} رائياً ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم وعصمتكم من شرهم فلا بدَّ لكم من الشكر على هذه النعمة الجليلة باللسان والجنان والأركان (شكر زبان آنست كه يوسته خدايرا يادميكند وزبان خود بذكرتر ميدارد وون نعمتى تازه شود الحمدميكويد.
شكردل آنست كه همه خلق را خير خواهد ودرنعمت هي كس حسد نبرد.
وشكرتن آنست كه اعضاى خود در ما خلق له استعمال كند وهمه اعضارا حق تعالى براى آخرت آفريد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
عطايست هر موى ازو برتنم
كونه بهرموى شكرى كنم
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى نعمه الظاهرة والباطنة :
أولها : نعمة الإيجاد من كتم العدم.
146
وثانيها : إذا أخرجكم من العدم جعلكم ارواحاً مطهرة إنسانية في أحسن تقويم لا حيواناً أو نباتاً أو جماداً.
وثالثها : يوم الميثاق شرفكم بخطاب ألست بربكم ثم وفقكم لاستماع خطابه ثم دلكم على إصابة جوابه.
ورابعها : أنعم عليكم بالنفخة الخاصة عند بعثكم إلى القالب الإنساني لئلا تتنزلوا بمنزل من المنازل السماوية والكوكبية والجنية والشيطانية والنارية والهوائية والمائية والأرضية والنباتية والحيوانية وغيرها إلى أن أنزلكم في مقام الإنسانية.
وخامسها : عجن طينة قالبكم بيده أربعين صباحاً ثم صوركم في الأرحاكم وسواكم ثم نفخ فيكم من روحه.
وسادسها : شرف روحكم بتشريف إضافته إلى نفسه بقوله "من روحي" وما أعطى هذا التشريف لروح من أرواح الملائكة المقربين.
وسابعها : أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً فبالهامات الربانية علمكم ما تحتاجون إليه من أسباب المعاش.
وثامنها : الهمكم فجوركم وتقواكم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد للرجوع إلى الميعاد.
وتاسعها : أرسل إليكم الأنبياء والرسل ليخرجوكم من الظلمات الخلقية إلى نور الخالقية.
(7/111)
وعاشرها : أنعم عليكم بالإيمان ثم بالإيقان ثم بالإحسان ثم بالعرفان ثم بالعيان ثم بالعين ثم آتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وذكر نعمته استعمالها في عبوديته أداء شكر نعمته وشكر النعمة رؤية النعمة ورؤية النعمة أن تكون ترى نعم توفيقه لأداء شكره إلى أن تجز عن أداء شكره فإن نعمته غير متناهية وشكرك متناه فرؤية العجز عن أداء الشكر حقيقة الشكر ومن الشكر أن تذكر ما سلف من الذي دفع عنك وأنت بصدده من أنواع البلاء والمحن والمصائب والمكائد فمن جملة ذلك قوله : {إِذْ جَآءَتْكُمْ} الخ يشير إلى جنود الشياطين وجنود صفات النفس وجنود الدنيا وزينتها فأرسلنا عليهم ريحاً من نكباء قهرنا وجنوداً لم تروها من حفظنا وعصمتنا وكان الله بما تعملون من الميل إلى الدنيا وشهواتها بصيراً بدفعها وعلاجها كم من بلاء صرفه عن العبد ولم يشعر وكم شغل كان بصدده فصده عنه ولم يعلم وكم أمر عوّقه والعبد يضج وهو يعلم أن في تيسيره هلاكه فيمنعه منه رحمة عليه والعبد يهتم ويضيق به صدره.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
هره آمد ز آسمان قضا
بقضا مى نكر بعين رضا
خوش دل شوز ما جر اي قلم
زانكه حق از توبحالت اعلم
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الابْصَـارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} .
{إِذْ} بدل من إذ جاءتكم {مِّن فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادي من جهة المشرق وهم بنو غطفان ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصين الفزاري وعامر بن الطفيل ومعهم اليهود {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي : من أسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش ومن تابعهم من الجماعات المتفرقة وقائدهم أبو سفيان والفوق إشارة إلى الآفات السماوية والأسفل إلى المتولدات البشرية والكل بلاء وقضاء {وَإِذْ زَاغَتِ الابْصَـارُ} عطف على ما قبله داخل في حكم التذكير.
والزيغ الميل عن الاستقامة.
قال الراغب : يصح أن يكون إشارة إلى ما تداخلهم من الخوف حتى أظلمت أبصارهم ويصح أن يكون إشارة إلى ما قال : {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} (آل عمران : 13) انتهى والبصر الجارحة الناظرة والمعنى وحين مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصاً لكثرة ما رأت من العدد والعدد فإنه كان مع قريش ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير ،
147
وبالفارسية : (وآنكه كه بكشت شمها در شم خانها ازبيم او خيره شد).
وقال بعضهم : المراد أبصار المنافقين لأنهم أشد خوفاً ولا حاجة إليه لأن من شأن ضعف الإنسانية التغير عند تراكم البلاء وترادف النكبات وهو لا ينافي قوة اليقين وكمال الاعتماد على الرب المعين كما دل عليه ما بعد الآية ألا ترى إلى قوله تعالى : {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (البقرة : 214) كما سبق في سورة البقرة {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ} جمع حنجرة وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب أي : بلغت رأس الغلصمة من خارج رعباً وغماً لأن الرئة بالفارسية (شش) تنتفخ من شدة الفزع والغم فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الخنجرة وهو مشاهد في مرض الخفقان من غلبة السوداء.
قال قتادة : شخصت عن أماكنها فلولا أنه ضاق الحلقوم بها عن أن تخرج لخرجت.
وقال بعضهم : كادت تبلغ فإن القلب إذا بلغ الحنجرة مات الإنسان فعلى هذا يكون الكلام تمثيلاً لاضطراب القلوب من شدة الخوف وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أنهم وقعوا في الخوف من وجهين : الأول خافوا على أنفسهم من الأحزاب لأن الأحزاب كانوا أضعافهم ، والثاني : خافوا على ذراريهم في المدينة بسبب أن نقض بنو قريظة العهد كما سبق وقد قاسوا شدائد البرد والجوع كما قال بعض الصحابة لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق زاداً وربط عليه السلام الحجر على بطنه من الجوع وهو لا ينافي قوله : "إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ربي ويسقيني" فإنه قد يحصل الابتلاء في بعض الأحيان تعظيماً للثواب.
وأول بعض العارفين حديث ربط الحجر بأن لم يكن من الجوع في الحقيقة بل من كمال لطافته لئلا يصعد إلى الملكوت ويستقر في عالم الإرشاد فمن كانت الدنيا رشحة من فيض ديمه وقطرة من زواخر بحار نعمه لا يحتاج إليها ولكن الصبر عند الحاجة مع الوجدان من خواص من عصم بعصمة الرحمن.
در بزم احتشام توسياره هفت جام
بر مطبخ نوال توا فلان نه طبق
(7/112)
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ} يا من يظهر الإيمان على الإطلاق {الظُّنُونَا} أنواع الظنون المختلفة حيث ظن المخلصون المثبتوا القلوب والأقدام أن الله تعالى ينجز وعده في إعلاء دينه أو يمتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال كما في وقعة أحد وظن الضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ما حكى عنهم مما لا خير فيه.
والجملة معطوفة على زاغت وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار.
وأثبت حفص في الظنونا والسبيلا والرسولا هذه الألفات اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه فإنها وجدت فيه كذلك فبقيت على حكمها اليوم فهي بغير الألف في الوصل وبالألف في الوقف.
وقرىء الظنون بحذف الألف على ترك الإشباع في الوصل والوقف وهو الأصل والقياس وجه الأول أن الألف مزيدة في أمثالها لمراعاة الفواصل تشبيهاً لها بالقوافي فإن البلغاء من الشعراء يزيدونها في القوافي إشباعاً للفتحة.
{هُنَالِكَ} هو في الأصل للمكان البعيد لكن العرب تكنى بالمكان عن الزمان وبالزمان عن المكان فهو إما ظرف زمان أو ظرف مكان لما بعده أي : في ذلك الزمان الهائل أو في ذلك المكان الدحض الذي تدحض فيه الأقدام {ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ} بالحصر والرعب أي : عوملوا
148
معاملة من يختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} الزلة في الأصل استرسال الرجل من غير قصد يقال زلت رجله تزل والمزلة المكان الزلق وقيل للذنب من غير قصد زلة تشبيهاً بزلة الرجل والتزلزل الاضطراب وكذا الزلزلة شدة الحركة وتكرير حروف لفظه تنبيه على تكرر معنى الزلل.
والمعنى حركوا تحريكاً شديداً وأزعجوا إزعاجاً قوياً وذلك أن الخائف يكون قلقاً مضطرباً لا يستقر على مكان.
قال في "كشف الأسرار" : (اين جايست كه عجم كويند فلان كس را از جاى ببردند از خشم يا ازبيم يا ازخجل.
قال الكاشفي يعني ازجاى برفتند بمثابة كه بددلان عزم سفر اين المفرّ نمودند وناشكيبان اوراق الفرار مما لا يطلق من سنن المرسلين تكرار مى فرمودند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
آرام زدل شد ودل از جاى
هوش از سررفت وقوت ازاى
وقد صح أن من في قلبه مرض فر إلى المدينة وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل اليقين من المؤمنين وهذا وإن كان بياناً للاضطرار في الابتداء لكن الله تعالى هون عليهم الشدائد في الانتهاء حتى تفرقت عن قلوبهم الغموم وتفجرت ينابيع السكينة وهذا عادة الله مع المخلصين (مصطفى عليه السلام كفت در فراديس اعلى بسى درجات ومنازلست كه بنده هركز بجهت خودبدان نتواند رسيد رب العزه بنده را بآن بلاهاكه دردنيا برسروى كما رد بدان رساند وكفته اندكه حق تعالى ذريت آدم را هزار قسم كردانيد وايشانرا بر بساط محبت اشراف داد همه را ازروى محبت خاست آنكه دنيارا بياراست وبريشان عرضه كرد ايشان ون زخارف وزهرات ديدند مست وشيفته دنيا كشتند وبا دنيا بماندند مكريك طائفه كه همنان بربساط محبت ايستاده وسر بكريبان دعوى فروبرده س اين طائفه را هزار قسم كردانيد وعقبى برايشان عرض كرد وون ايشان آن ناز ونعيم ابدى ديدند ظل ممدود وماء مسكوب وحور وقصور شيفته آن شدند وبآن بماندند مكريك طائفه كه همنان ايستاده بودند بربساط محبت طالب كنوز معرفت خطاب آمد از جانب جبروت ودركاه عزت كه شماه ميجوييد ودره مانده ايد ايشان كفتند "وانك تعلم ما نريد" خداوندا زبان بى زبانان تويى عالم الأسرار والخفيات تويى خود دانى كه مقصودما يست) :
مارا زجهانيان شمارى دكرست
در سربجز ازباداه خمارى دكرست
(رب العالمين ايشانرا بسركوى بلا آورد ومفاوز ومهالك بلا بايشان نمود آن قسم هزار قسم كشتند همه روى از قبله بلا بكردانيدند اين نه كار ماست ومارا طاقت اين بار بلا كشيدن نيست مكريك طائفه كه روى نكردانيدند كفتند مارا خود آن دولت س كه محمل اندوه توكشيم وغم وبلاى توخوريم) :
من كه باشم كه به تن رخت وفاى توكشم
ديده حمال كنم بار جفاى تو كشم
كرتوبر من به تن وجان ودلى حكم كنى
هرسه رارقص كنان يش هواى توكشم
قال الله تعالى في حقهم : "اولئك عبادي حقاً" (قدر درد اوكسى داندكه اورا شناسد اوكه ويرانشناسد قدر درد اوه داند) :
149
خاميا دل بغم ودردنه اندرره عشق
كه نشد مردره آنكس كه نه اين دردكشيد
(7/113)
ـ روي ـ أنه أرسل أبو سفيان بعد الفرار كتاباً لرسول الله فيه باسمك اللهم فإني أحلف باللات والعزى وأساف ونائلة وهبل لقد سرت إليك في جميع وأنا أريد أن لا أعود أبداً حتى أستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بالخندق وفي لفظ قد اسعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها وإنما تعرف ظل رماحها وسيوفها وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا ولك مني يوم كيوم أحد فأرسل له عليه السلام جواباً فيه "أما بعد" أي : بعد بسم الله الرحمن الرحيم "من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب فقد أتاني كتابك وقديماً غرّك بالله الغرور أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم أكثر فيه اللات والعزى وأساف ونائلة وهبل حتى أذكرك يا سفيه بني غالب" انتهى فاجتهدوا وقاسوا الشدائد في طريق الحق إلى أن فتح الله مكة واتسع الإسلام وبلاده وأهاليه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه إِلا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّآاـاِفَةٌ مِّنْهُمْ يا اأَهْلَ} .
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ} (وآنكه كه دورويان كفتندن) وهو عطف على إذ زاغت وصيغته للدلالة على استحضار القول واستحضار صورته {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ضعف اعتقاد.
فإن قلت ما الفرق بين المنافق والمريض؟ قلت : المنافق من كذب الشيء تكذيباً لا يعتريه فيه شك والمريض من قال الله تعالى في حقه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍا فَإِنْ أَصَابَه خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِه وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} (الحج : 11) كذا في "الأسئلة المقحمة".
قال الراغب : المرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وهو ضربان جسمي ونفسي كالجهل والجبن والنفاق ونحوها من الرذائل الخلقية وشبه النفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعة عن إدراك الفضائل كالمرض المانع عن التصرف الكامل وإما لكونها مانعة عن تحصيل الحياة الأخروية المذكورة في قوله : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت : 64) وإما لميل النفس بها إلى الاعتقادات الرديئة ميل بدن المريض إلى الأشياء المضرة {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الظفر وإعلاء الدين وهم لم يقولوا رسول الله وإنما قالوه باسمه ولكن الله ذكره بهذا اللفظ {إِلا غُرُورًا} أي : وعد غرور وهو بالضم (فريفتن) والقائل لذلك معتب بن قشير ومن تبعه وقد سبق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَإِذْ قَالَت طَّآاـاِفَةٌ مِّنْهُمْ} هم أوس بن قيظي ومن تبعه في رأيه ، وبالفارسية : (وانرا نيز ياد كنيدكه كفتند كروهى ازمنافقان) يا اأَهْلَ يَثْرِبَ} (اى مردان مدينه) هو اسم للمدينة المنورة لا ينصرف للتعريف وزنة الفعل وفيه التأنيث وقد نهى النبي عليه السلام أن تسمى المدينة بيثرب وقال هي طيبة أو طابة أو المدينة كأنه كره هذا اللفظ لأن يثرب يفعل من التثريب وهو اللوم الذي لا يستعمل إلا فيما يكره غالباً ولذلك نفاه يوسف الصديق عليه السلام حيث قال لإخوته : {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (يوسف : 92) وكأن المنافقين ذكروها بهذا الاسم مخالفة له عليه السلام فحكى الله عنهم كما قالوا.
وقال الإمام السهيلي : سميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عبيل بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاود بن ارم وعبيل هم الذين سكنوا الجحفة وهي ميقات الشامين فأجحفت بهم السيول فيها أي : ذهبت بهم فسميت الجحفة.
وقال بعضهم : هي من الثرب بالتحريك وهو الفساد
150
(7/114)
وكان في المدينة الفساد واللؤم بسبب عفونة الهواء وكثرة الحمى فلما هاجر رسول الله كره ذلك فسماها طيبة على وزن بصرة من الطيب وقد أفتى الإمام مالك رحمه الله فيمن قال تربة المدينة رديئة بضربه ثلاثين درة وبحبسه وقال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه تربة دفن فيها رسول الله يزعم أنها غير طيبة وفي الحديث : "من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله فليستغفر الله هي طيبة هي طيبة" وقوله عليه السلام حين أشار إلى دار الهجرة : "لا أراها إلا يثرب" ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه عليه السلام من تسميتها بذلك كان قبل النهي عن ذلك.
وإنما سميت طيبة لطيب رائحة من مكث بها وتزايد روائح الطيب بها ولا يدخلها طاعون ولا دجال ولا يكون بها مجذوم لأن ترابها يشفي الجذام وهو كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيآتها وربما انتهى إلى تأكل الأعضاء وسقوطها عن تقرّح {لا مُقَامَ لَكُمْ} لا موضع إقامة لكم ههنا لكثرة العدو وغلبة الأحزاب يريدون المعسكر بالفارسية (لشكركاه) فهو مصدر من أقام {فَارْجِعُوا} أي : إلى منازلكم بالمدينة ومرادهم الأمر بالفرار لكنهم عبروا عنه بالرجوع وترويجاً لمقالهم وإيذاناً بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم وقد ثبطوا الناس عن الجهاد والرباط لنفاقهم ومرضهم ولم يوافقهم إلا أمثالهم فإن المؤمن المخلص لا يختار إلا الله ورسوله.
وفي إشارة إلى حال أهل الفساد والإفساد في هذه الأمة إلى يوم القيامة نسأل الله تعالى أن يقيمنا على نهج الصواب ويجعلنا من أهل التواصي بالحق والصبر دون التزلزل والاضطراب
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَإِذْ قَالَت طَّآاـاِفَةٌ مِّنْهُمْ} (ودستورى رجوع ميطلبند از يغمبر كروهى از منافقان) يعني : بني حارثة وبني سلمة {يَقُولُونَ} بدل من يستأذن {إِنَّ بُيُوتَنَا} في المدينة {عَوْرَةٌ} بجزم الواو في الأصل أطلقت على المختل مبالغة يقال عور المكان عوراً إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق وفلان يحفظ عورته أي : خلله والعورة أيضاً سوءة الإنسان وذلك كناية وأصلها من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي : المذمة ولذلك سمى النساء عورة ومن ذلك العوراء للكلمة القبيحة.
والمعنى : أنها غير حصينة متخرّقة ممكنة لمن أرادها فأذن لنا حتى نحصنها ثم نرجع إلى العسكر وكان عليه السلام يأذن لهم {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} أي : والحال أنها ليست كذلك بل هي حصينة محرزة {إِن يُرِيدُونَ} ما يريدون بالاستئذان {إِلا فِرَارًا} من القتال.
{وَإِذْ قَالَت طَّآاـاِفَةٌ مِّنْهُمْ يا اأَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَـاْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍا إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُـاِلُوا الْفِتْنَةَ لاتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَآ إِلا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَا وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـاُولا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم} أسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقاً كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور {مِّنْ أَقْطَارِهَا} جمع قطر بالضم بمعنى الجانب أي : من جميع جوانبها لا من بعضها دون بعض فالمعنى لو كانت بيوتهم مختلة بالكلية ودخلها كل من أراد الخبث والفساد {ثُمَّ سُـاِلُوا} من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة {الْفِتْنَةِ} أي : الردة والرجعة إلى الكفر مكان ما سئلوا من الإيمان والطاعة {لاتَوْهَا} لأعطوها السائلين أي : أعطوهم مرادهم غير مبالين بما دهاهم من الداهية والغارة {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَآ} (التلبث ، درنك كردن كالتمكث يعني درنك نكند باجابت فتنة) {إِلا يَسِيرًا} قدر ما يسمع السؤال والجواب من الزمان
151(7/115)
فضلاً عن التعلل باختلال البيوت عند سلامتها كما فعلوا الآن وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وشدة بغضهم لأهله وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه.
قال الإمام الراغب : اليسير السهل ومنه قوله تعالى : {وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (النساء : 30) ويقال في الشيء القليل ومنه {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَآ إِلا يَسِيرًا} .
وفي الآية إشارة إلى مرض القلوب وصحة النفوس.
وخاصيتهما إذا وكلتا إلى حالتهما من فساد الاعتقاد وسوء الظن بالله ورسوله ونقض العهود والاغترار بتسويلات الشياطين والفرار من معادن الصدق والتمسك بالحيل والمكائد والكذب والتعلل بالأعذار الواهية وغلبات خوف البشرية والجبانة وقلة اليقين والصبر وكثرة الريب والجزع من احتمال خطر الأذية لو سئلوا الارتداد عن الإسلام والإشراك بعد الإقرار بالتوحيد لأجابوهم وجاءوا به وما تلبثوا بها يعني في الاحتراز عن الوقوع في الفتنة إلا يسيراً بل أسرعوا في إجابتها لاستيلاء أوصاف النفوس وغلباتها وتصدي القلوب وهجوم غفلاتها ومن عرف طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين.
واعلم أن الله تعالى ذم المنافقين في أقوالهم وأفعالهم فإن للإنسان اختياراً في كل طريق سلكه فمن وجد شراً فلا يذم إلا نفسه ولم تجب الهداية على النبي عليه السلام في حق الكفار والمنافقين فكيف على غيره من الورثة في حق العاصين كما قال عليه السلام : "إنما أنا رسول وليس إليّ من الهداية شيء ولو كانت الهداية إليّ لآمن كل من في الأرض وإنما إبليس مزين وليس إليه من الضلالة شيء ولو كانت الضلالة إليه لأضل كل من في الأرض ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء".
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
مؤمن وكافر درين دير فنا
صورتى دارد زنقش كبريا
نقش كره آمدازدست قضا
ليك ميدان نقش را از مقتضا
فافهم جداً.
{وَلَقَدْ كَانُوا} أي : الفريق الدين استأذنوك للرجوع إلى منازلهم في المدينة وهم بنو حارثة وبنو سلمة {عَـاهَدُوا اللَّهَ} العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهداً والمعاهدة المعاقدة كما في "تاج المصادر".
والمعنى بالفارسية (عهد كردند باخداى تعالى) {مِن قَبْلُ} أي : من قبل واقعة الخندق يعني يوم أحد حين هموا بالانهزام ثم تابوا لما نزل فيهم ما نزل كما سبق في آل عمران {لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ} جواب قسم لأن عاهدوا بمعنى حلفوا كما في "الكواشي" (والتوبة : بشت بركدانيدن) ودبر الشيء خلاف القبل وولاه دبره انهزم.
والمعنى لا يتركون العدو خلف ظهورهم ولا يفرون من القتال ولا ينهزمون ولا يعودون لمثل ما في يوم أحد ثم وقع منهم هذا الاستئذان نقضاً للعهد ، وبالفارسية : (شتها برنكردانند دركار زارها) {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـاُولا} مطلوباً مقتضى حتى يوفي يقال سألت فلاناً حقي أي : طالبته به أو مسؤولاً يوم القيامة يسأل عنه هل وفى المعهود به أو نقضه فيجازي عليه وهذا وعيد ، قال الحافظ.
وفا وعهد نكو باشد اربياموزى
وكرنه هركه توبينى ستمكرى داند
وقال في حق وفاء العشاق :
از دم صبحازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهدويك ميثاق بود
152
قل يا محمد لهم : {لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ} (سود نميدارد شمارا كريختن) {إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ} (از مرك) {أَوِ الْقَتْلِ} (يا ازكشتن) فإنه لا بد لكل شخص من الفناء والهلاك سواء كان بحتف أنف أو بقتل سيف في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم ولا يتغير جداً والقتل فعل يحصل به زهوق الروح.
قال الراغب أصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت لكن إذا اعتبر بفعل المتولى لذلك يقال قتل وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال موت انتهى.
والحتف الهلاك قال علي كرم الله وجهه ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسمعته يقول : "مات حتف أنفه" وما سمعتها من عربي قبله وهو أن يموت الإنسان على فراشه لأنه سقط لأنفه فمات وكانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه فإن جرح خرجت من جراحته.
{وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} (التمتيع : برخوردارى دادن) أي : وإن نفعكم الفرار مثلاً فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعاً أو زماناً قليلاً ، وبالفارسية : (وانكاه كه كريزد زنده نكذارند شمارا مكر زمانى اندك ه آخر شربت فنا نوشيد نيست وخرقه فوات وشيدنى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
كه مينهد قدم اندر سراى كون وفساد
كه بازروى براه عدم نمى آرد)
الموت كأس وكل الناس شاربه
والقبر باب وكل الناس داخله
وعمر الدنيا كله قليل فكيف مدة آجال أهلها وقد قال من عرف الحال : مقدار عمرك في جنب عيش الآخرة كنفس واحد.
وعن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال ذلك القليل أطلب.
(7/116)
{قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم} مذهب سيبويه على أن من الاستفهامية مبتدأ وذا خبره والذي صفة أو بدل منه ، والمعنى بالفارسية : (آن كيست كه نكاه دارد شمارا) وذهب بعض النحاة إلى كون من خبراً مقدماً فالمعنى : (كيست آنكه) والعصمة الإمساك والحفظ {مِنَ اللَّهِ} أي : من قضائه {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُواءًا} بالفارسية : (بدى) وهو كل ما يسوء الإنسان ويغمه والمراد هنا القتل والهزيمة ونحوهما {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} من عافية ونصرة وغيرهما مما هو من آثار الرحمة قرينة السوء من العصمة ولا عصمة إلا من السوء لأن معناه أو يصيبكم بسوء إن أراده بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله متقلداً سيفاً ورمحاً أي : ومعتقلاً رمحاً والاعتقال أخذ الرمح بين الركب والسرج.
وفي التاج : (الاعتقال : نيز بميان ساق وركاب برداشتن) {وَلا يَجِدُونَ لَهُم} أي : لأنفسهم {مِن دُونِ اللَّهِ} متجاوزين الله تعالى {وَلِيًّا} (دوستى كه نفع رساند) {وَلا نَصِيرًا} يدفع الضرر عنهم ، وبالفارسية : (ونه يارى كه ضرر باز دارد).
واعلم أن الآية دلت على أمور :
الأول أن الموت لا بد منه.
قال بعضهم : (عمر اكره دراز بود ون مرك روى نمود آزان درازى ه سود نوح عليه السلام هزار سال درجهان بسر برده است امروز ن هزار سالست كه مرده است) :
دريغاكه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دمى ندنيز
قال بعضهم : إذا بلغ الرجل أربعين سنة ناداه مناد من السماء دنا الرحيل فأعدّ زاداً.
قال الثوري : ينبغي
153
لمن كان له عقل إذا أتى عليه عمر النبي عليه السلام أن يهيىء كفنه.
قال حاتم الأصم : ما من صباح إلا ويقول الشيطان لي : ما تأكل وما تلبس وأين تسكن فأقول له : آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
والثاني : أن الفرار لا يزيد في الآجال ومن أسوأ حالاً ممن سعى لتبديل الأجال والأرزاق ورجا دفع ما قدر له أنه لاق وأنه لا يقيه منه واقٍ ، قال علي كرم الله وجهه : إن أكرم الموت القتل والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش فلو لم يكن في القتل الذي يفر منه الإنسان إلا الراحة من سكرات الموت لكان في ذلك ما يوهب الثبات وإن لم ينظر إلى ما بعده وهو الفوز العظيم وذلك أن شهيد البحر لا ألم له أصلاً وأما شهيد البر فلا يجد من ألم الموت إلا كمس قرصة.
قال بعضهم : الفار مسلم لنفسه والمقاتل مدافع عنها وإذا انقضت مدة الأجل فالمنية لا بد منها.
6
بروز أجل نيزه جوشن درد
زيراهنى ى اجل نكذرد
كرت زند كانى نبشتست دير
نه مارت كز آيدنه شمشير وتير
أما تخشى أيها الفار ، أن تدركك المنية فتكون من أصحاب النار؟ أما تخاف أن يأتيك سهم وأنت مول فيسكنك دار البوار؟ أما تخشى أن تؤسر فتفتن عن دينك أو ينوّع عذابك ولا شك عند كل ذي لب أن استقبال الموت إذا كان وقته خير من استدباره وقد اشتاق أهل الله إلى لقاء الله.
قال المولى العارف في "المثنوي" :
س رجال از نقل عالم شادمان
وزبقا اش شادمان اين كودكان
ونكه آب خوش نديد آن مرغ كور
يش او كوثر نمايد آب شور
والثالث : أن من اتخذ الله ولياً ونصيراً نال ما يتمناه قليلاً وكثيراً ونصر أميراً وفقيراً وطاب له وقته مطلقاً وأسيراً فثبت ثبات الجبال وعامل معاملة الرجال.
قال بعض العارفين في الآية إشارة إلى مدعي الطلب فإنهم يعاهدون الله من قبل الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند المحاربة مع الشيطان وعند الجهاد مع النفس فلما شرعوا في الحرب والجهاد مع أحزاب النفس والشيطان وقد حمل كل حزب منهم أسلحتهم وأخذوا خدعات الحرب ومكايدها وهم الشجعان الأقوياء والأبطال المجربون وعساكر الطلاب المرضى القلوب وهم بعد أغمار غير مجربي القتال والحروب وإن كان لهم الأسلحة ولكنهم بمعزل عن استعمالها لضعفهم وعدم العلم بكيفية الاستعمال فإذا قام الحرب ودام الضرب غلب الأقوياء على الضعفاء وانهزم المرضى على الأصحاء.
الش است وخمره خوردن نيست اين†
فلم يساعدهم الصدق ولم يعاونهم العشق ولم يذكروا حقيقة قوله : {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـاُولا} ولم يتفكروا في أن الفرار النافع إنما هو إلى الله لا من الله فمن فر من موت النفس وقتلها بالمجاهدة فلا يتمتع كالبهائم والأنعام في رياض الدنيا إلا قليلاً ، ولا يجد بركة عمره بل يكون الفرار سبب قصر العمر نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الفرار من نحو بابه والإقبال على الأدبار عن جنابه أنه الولي النصير ذو الفضل الكثير.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/117)
{قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُواءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةًا وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآاـاِلِينَ لاخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِا فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى} .
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} قد لتأكيد العلم بالتعويق
154
ومرجع العلم إلى توكيد الوعيد.
والتعويق التثبيط بالفارسية (باز داشتن) يقال عاقه وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده والعائق الصارف عما يراد منه خير ومنه عوائق الدهر والخطاب لمن أظهر الإيمان مطلقاً.
والمعنى قد علم الله المثبطين للناس عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصارفين عن طريق الخير وهم المنافقون أياً من كان منهم {وَالْقَآاـاِلِينَ لاخْوَانِهِمْ} من منافقي المدينة فالمراد الإخوة في الكفر والنفاق {هَلُمَّ إِلَيْنَا} هلم صوت سمي به فعل متعد نحو احضر أو اقرب ويستوي فيه الواحد والجمع على لغة أهل الحجاز وأما بنو تميم فيقولون هلم يا رجل وهلموا يا رجال وكلمة إلى صلة التقريب الذي تضمنه هلم.
والمعنى : قربوا أنفسكم إلينا وهذا يدل على أنهم عند هذا القول خارجون عن العسكر متوجهون نحو المدينة فراراً من العدو {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} أي : الحرب والقتال وهو في الأصل الشدة {إِلا} إتياناً {قَلِيلا} فإنهم يعتذرون ويتأخرون ما أمكن لهم أو يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم لا تراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه وهذا على تقدير عدم الفرار.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآاـاِلِينَ لاخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} حال من فاعل يأتون جمع شحيح وهو البخيل.
قال الراغب : الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة يقال رجل شحيح وقوم أشحة أي : حال كونهم بخلاء عليكم بالمعاونة أو الإنفاق في سبيل الله على فقراء المسلمين (يا نمى خواهدكه ظفر وغنيمت شمارا باشد) {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ} خوف العدو {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} في تلك الحالة {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في أحداقهم يميناً وشمالاً {كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي : دوراناً كائناً كدوران عين المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً والتجاء بك يقال غشي على فلان إذا نابه ما غشي فهمه أي : ستره {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} وجمعت الغنائم {سَلَقُوكُم} يقال سلقه بالكلام آذاه كما في "القاموس".
قال في "تاج المصادر" : (السلق : بزبان آزردن) ومنه سلقوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي : جهروا فيكم بالسوء من القول وآذوكم.
والحداد جمع حديد يقال لسان حديد نحو لسان صارم وماض وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد ، يعني : (برنجانند شمارا وسخنهاى سخت كويند بزبانهاى تيزيعنى تيز زبانى كنند) وقالوا وفروا قسمنا فإنا قد ساعدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم ربنا نصرتم عليه {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} نصب على الحال من فاعل سلقوكم ، يعني : (درحالتى كه سخت حريصند برغنيمت مشاحنه ومجادله ميكنند دروقت قسمت او بخيلند برمال اين جهان نمى خواهندكه رساند بشما كرم وفضل خدا) فهم عند الغنيمة أشح الناس وأجبنهم عند البأس.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفات السوء {لَمْ يُؤْمِنُوا} بالإخلاص حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا فصار أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله {اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ} أي : أظهر بطلانها إذ لم يثبت لهم أعمال فتبطل لأنهم منافقون وفي هذا دلالة على أن المعتبر عند الله هو العمل المبني على التصديق وإلا فهو كبناء على غير أساس {وَكَانَ ذَالِكَ} الإحباط {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} هيناً ، بالفارسية : (آسان) لتعلق الإرادة به وعدمها بمنعه عنه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى مدعيى الطلب إذا ارتدوا عن الطلب فإنهم لم يؤمنوا إيماناً حقيقياً في صدق الطلب وإلا لم يرتدوا عن الطلب
155
(7/118)
فإن المشايخ قد قالوا : إن مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة ولهذا قال تعالى : {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ} لأنها لم تكن بإيمان حقيقي بل كانت بالتقليد والرياء والسمعة وكان ذلك الرد والإبطال على الله يسيراً.
وقد قال بعض الكبار : إني لست بقطب الوجود ولكن مؤمن به فقيل له ونحن مؤمنون به أيضاً فقال بين إيمان وإيمان فرق فمن إيمان لا يزول كأصل الشجرة الراسخة ومن إيمان يزول كأصل النباتات الواهية وذلك لأن المحسن الموقن مأمون من الارتداد والريب بخلاف أهل الغفلة والمتعبد على حرف.
لا يزيل الماء نقشاً في الحجر
بل يزيل النقش في وجه الورق
باش بر عشق خدا ثابت قدم
رونمى كردان زوجه اك حق
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِا فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِا أولَئكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الاحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الاحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الاعْرَابِ يَسْـاَلُونَ عَنْ أَنابَآاـاِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَـاتَلُوا إِلا قَلِيلا * لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .
{يَحْسَبُونَ الاحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} أي : هؤلاء المنافقون لجبنهم المفرط يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ففروا إلى المدينة والأحزاب هم الذين تحزبوا على النبي عليه السلام يوم الخندق وهم قريش وغطفان وبنو قريظة والنضير من اليهود (والتحزب ، كروه كروه شدن) كما في "التاجي {وَإِن يَأْتِ الاحْزَابُ} كرة ثانية إلى المدينة ، وبالفارسية : (اكربيايند اين لشكرها نوبتى ديكر) {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الاعْرَابِ} تمنوا أنهم خارجون من المدينة إلى البدو وحاصلون بين الأعراب لئلا يقاتلوا.
والود محبة الشيء وتمنى كونه وبدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية وهي مكان يبدو ما يعن فيه أي : يعرض ويقال للمقيم بالبادية بادٍ فالبادون خلاف الحاضرين والبدو خلاف الحضر {يُسْـاَلُونَ} كل قادم من جانب المدينة {عَنْ أَنابَآاـاِكُمْ} عن أخباركم وعما جرى عليكم ، يعني : (از آنه كذشته باشد ميان شما ودشمنان) وهو داخل تحت الود اى يودون أنهم غائبون عنكم يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة {وَلَوْ كَانُوا فِيكُم} في الخندق هذه الكرة الثانية ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال ، وبالفارسية : (اكر باشند درميان يعنى در مدينه ومقاتله با اعدادست دهد) {مَّا قَـاتَلُوا إِلا قَلِيلا} رياء وخوفاً من التعيير من غير حسبة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها المؤمنون كما في "تفسير الجلالين" وهو الظاهر من قوله فيما بعد لمن كان يرجو الله الخ {فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
قال الراغب : الإسوة والأسوة كالقدوة والقدوة الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً أو قبيحاً وإن ساراً أو ضاراً ويقال : تأسيت به أي : اقتديت.
والمعنى : لقد كان لكم في محمد صلى الله عليه وسلّم خصلة حسنة وسنة صالحة حقها أن يؤتسى بها أي : يقتدى كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد فإنه قد شج فوق حاجبه وكسرت رباعيته وقتل عمه حمزة يوم أحد وأوذي بضروب الأذى فوقف ولم ينهزم وصبر فلم يجزع فاستسنوا بسنته وانصروه ولا تتخلفوا عنه.
وقال بعضهم : كلمة في تجريدية جرد من نفسه الزكية شيء وسمي قدوة وهي هو يعني أن رسول الله في نفسه إسوة وقدوة يحسن التأسي والاقتداء به كقولك في البيضة عشرون مناً حديداً أي : هي نفسها هذا القدر من الحديد {لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ} أي : يأمل ثواب الله ونعيم الآخرة أو يخاف الله واليوم الآخر.
فالرجاء يحتمل الأمل والخوف ولمن كان صلة الحسنة أو صفة لها لا بدل من لكم فإن الأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل
156
منه {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} أي : ذكراً كثيراً في جميع أوقاته وأحواله أي : وقرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله.
قال الحكيم الترمذي : الأسوة في الرسول الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول وفعل.
قال الشيخ سعدي :
درين بحر جز مرد ساعى نرفت
كم آن شد كه دنبال راعى نرفت
كساني كزين راه بركشته اند
بر فتند بسيار وسر كشته اند
خلاف يمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
محالست سعدى كه راه صفا
توان رفت جزبرى مصطفى(7/119)
فمتابعة الرسول تجب على كل مؤمن حتى يتحقق رجاؤه ويثمر عمله لكونه الواسطة والوسيلة وذكر الرجاء اللازم للإيمان بالغيب في مقام النفس وقرن به الذكر الكثير الذي هو عمل ذلك المقام ليعلم أن من كان في البداية يلزم متابعته في الأعمال والأخلاق والمجاهدات بالنفس والمال إذ لو لم يستحكم البداية لم يفلح بالنهاية ثم إذا تجرد وتزكى عن صفات نفسه فليتابعه في موارد قلبه كالصدق والإخلاص والتسليم ليحتظي ببركة المتابعة بالمواهب والأحوال وتجليات الصفات في مقام القلب كما احتظى بالمكاسب والمقامات وتجليات الأفعال في مقام النفس وهكذا في مقام الروح حتى الفناء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى ما سبقت به العناية لهذه الأمة في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلّم كما أخبر بلفظ {لَقَدْ كَانَ} أي : كان {لَكُمْ} مقدراً في الأزل أن يكون لكم عند الخروج من العدم إلى الوجود {فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي : اقتداء حسن وذلك فإن أول كل شيء تعلقت به القدرة للإيجاد كان روح رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقوله : "أول ما خلق الله روحي" فالأسوة الحسنة عبارة عن تعلق القدرة بأرواح هذه الأمة لإخراجهم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العدم إلى الوجود فمن أكرم بهذه الكرامة يكون له أثر في عالم الأرواح قبل تعلقه بعالم الأشباح وبعد تعلقه بعالم الأشخاص فأما أثره في عالم الأرواح فبتقدمه على الأرواح بالخروج إلى عالم الأرواح وبرتبته في الصف الأول بقرب روح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو في الصف الذي يليه وبتقدمه في قبول الفيض الإلهي وبتقدمه عند استخراج ذرات الذريات من صلب آدم في استخراج ذراته وبإحضارها في الحضرة وبتقدمه في استماع خطاب ألست بربكم وبتقدمه في إجابة الرب تعالى بقوله قالوا : بلى وبتقدمه في المعاهدة مع الله وبتأخره في الرجوع إلى صلب آدم وبتأخره في الخروج عن أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وفي الخروج عن الرحم وبتأخر تعلق روحه بجسمه فإنالذي هو المقدم والمؤخر في هذه التقدمات والتأخرات حكمة بالغة ولها تأثيرات عجيبة يطول شرحها وأما أثره في عالم الأشباح فاعلم أنه بحسب هذه المراتب في ظهور أثر الأسوة يظهر أثرها في عالم الأشباح عند تعلق نظر الروح بالنطفة في الرحم أولاً إلى أن تتربى النطفة بنظره في الأطوار المختلفة ويصير قالباً مسوياً مستعداً لقبول تعلق الروح به فمثل القالب المسوي مع الروح كمثل الشمعة مع نقش الخاتم إذا وضع عليها يقبل جميع نقوش القالب المسوي مع الروح كمثل الشمعة مع نقش الخاتم إذا وضع عليها يقبل جميع نقوش الخاتم فالروح المكرم إذا تعلق بالقالب المسويّ يودع فيه جميع خواصه التي استفادها من
157
تلك التقدمات والتأخرات الأسوتية فكل ما يجري على الإنسان من بداية ولادته إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال كلها من آثار خواص أودعها الله في الروح فبحسب قرب كل روح إلى روح الرسول صلى الله عليه وسلّم وبعده عنه له أعمال ونيات تناسب حاله في الأسوة فأما حال أهل القرب منهم فبأن يكون عملهم على وفق السنة خالصاً لوجه الله تعالى كما قال : {لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ} وأما من هو دونهم في القرب والإخلاص فبأن يكون عملهم لليوم الآخر أي : للفوز بنعيم الجنان كما قال تعالى : {وَالْيَوْمِ الاخِرِ} أي : لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ثم جعل نيل هذه المقامات مشروطاً بقوله تعالى : {وَذَكَرَ اللَّهَ} كثيراً لأن في الذكر وهو كلمة لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً وهماً قدمان للسائرينتعالى وجناحان للطائرين بالله بهما يخرجون من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي انتهى كلام "التأويلات".
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاحْزَابَ قَالُوا هَـاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه وَمَا زَادَهُمْ إِلا} .
(7/120)
{وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاحْزَابَ} أي : الجنود المجتعة لمحاربة النبي عليه السلام وأصحابه يوم الخندق.
والحزب جماعة فيها غلظ كما في "المفردات" {قَالُوا هَـاذَا} البلاء العظيم {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بقوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُما مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ} (البقرة : 214) الآية وقوله عليه السلام : "سيشتدّ الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم" وقوله عليه السلام : "إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر" {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي : ظهر صدق خبر الله ورسوله {وَمَا زَادَهُمْ} ما رأوه ، وبالفارسية : (ونيفزود ديدن احزاب مؤمنانرا) {إِلا إِيمَانًا} بالله ومواعيده {وَتَسْلِيمًا} لأوامره ومقاديره.
وقال الكاشفي : (وكردن نهادن احكام امر حضرت رسالت ناهى راكه سعادت دوسراى دران تسليم مندرجست) :
هركه دارد ون قلم سربر خط فرمان او
مى نويسد بخت طغراى شرف برنام او
{وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاحْزَابَ قَالُوا هَـاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَه وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُا وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا * لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّـادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} .
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالإخلاص {رِجَالٌ صَدَقُوا} اتوا الصدق في {مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} من الثبات مع الرسول والمقاتلة لإعلاء الدين أي : حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة ومعصب بن عمير وأنس بن النضر وغيرهم رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا لقوا حزباً مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا.
قال الحكيم : الترمذي رحمه الله خص الله الإنس من بين الحيوان ثم خص المؤمنين من بين الإنس ثم خص الرجال من المؤمنين فقال : {رِجَالٌ صَدَقُوا} فحقيقة الرجولية الصدق ومن لم يدخل في ميادين الصدق فقد خرج من حد الرجولة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أن النذر قربة مشروعة وقد جمعوا على لزومه إذا لم يكن المنذور معصية وأما قوله عليه السلام : "لا تنذروا فإن النذر لا يغنى من القدر شيئاً" فإنما يدل على أن النذر المنهي لا يقصد به تحصيل غرض أو دفع مكروه على ظن أن النذر يرد من القدر شيئاً فليس مطلق النذر منهياً إذ لو كان كذلك لما لزم الوفاء به وآخر الحديث : "وإنما يستخرج به من البخيل" وهو إشارة إلى لزومه لأن غير البخيل يعطي باختياره بلا واسطة النذر والبخيل إنما يعطي بواسطة النذر الموجب عليه وأما لو كان النذر وعدمه سواء عنده وإنما نذر لتحقيق عزيمته وتوكيدها فلا كلام
158
في حسن مثل هذا النذر وأكثر نذور الخواص ما خطر ببالهم وعقده جنانهم فإن العقد اللساني ليس إلا لتتميم العقد الجناني فكما يلزم الوفاء في المعاقدة اللسانية فكذا في المعاقدة الجنانية فليحافظ فإنه من باب التقوي المحافظ عليها من أهل الله تعالى.
طريق صدق بياموز از رب صافي دل
براستى طلب ازاد كى وسرو من
وفاكنيم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافريست رنجيدن
{فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين : والنحب النذر المحكوم بوجوبه وهو أن يلتزم الإنسان شيئاً من أعماله ويوجبه على نفسه وقضاؤه الفراغ منه والوفاء به يقال قضى فلان نحبه أي : وفى بنذره يعبر بذلك عمن مات كقولهم قضى أجله واستوفى أكله وقضى من الدنيا حاجته وذلك لأن الموت كنذر لازم في عنق كل حيوان ومحل الجار والمجرور الرفع على الابتداء أي : فبعضهم من خرج عن عهدة النذر بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر الخزرجي الأنصاري عم أنس بن مالك رضي الله عنه.
ـ روي ـ أن أنساً رضي الله عنه غاب عن بدر فشهد أحداً فلما نادى إبليس إلا أن محمداً قد قتل مر بعمر رضي الله عنه ومعه نفر فقال : ما يقعدكم؟ قالوا : قتل رسول الله قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم جال بسيفه فوجد قتيلاً وبه بضع وثمانون جراحة.
بى زخم تيغ عشق زعالم نمى روم
بيرون شدن زمعركه بى زم عارماست
{وَمِنْهُمُ} أي : وبعضهم {مَّن يَنتَظِرُ} قضاء نذره لكونه موقتاً كعثمان وطلحة وغيرهما فإنهم مستمرون على نذورهم وقد قضوا بعضها وهو الثبات مع رسول الله والقتال إلى حين نزول الآية الكريمة ومنتظرون قضاء بعضها الباقي وهو القتال إلى الموت شهيداً وفي وصفهم بالانتظار إشارة إلى كمال اشتياقيهم إلى الشهادة.
(7/121)
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
غافلان از مرك مهلت خواستند
عاشقان كفتند نى نى زود باد
وفي "المثنوي" :
دانه مردن مرا شيرين شدست
بل هم أحياء ى من آمدستصدق جان دادن بودهين سابقوا
ازنبى برخوان رجال صدقوا ى بسا نفس شهيد معتمد
مرده در دنيا وزنده مى رود
{وَمَا بَدَّلُوا} عطف على صدقوا وفاعله فاعله أي : وما بدلوا عهدهم وما غيروه {تَبْدِيلا} ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتوا راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون أما الذين قضوا فظاهر وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق الشهادة.
ـ روي ـ أن طلحة رضي الله عنه ثبت مع رسول الله يوم أحد يحميه حتى أصيبت يده وجرح أربعاً وعشرين جراحة فقال عليه السلام : "أوجب طلحة الجنة" "وسماه النبي عليه السلام يومئذٍ طلحة الخير ويوم حنين طلحة الجود ويوم غزوة ذات العشيرة طلحة الفياض" وقتل يوم الجمل.
وفي الآية تعريض بأرباب النفاق وأصحاب مرض القلب فإنهم ينقضون العهود ويبدّلون العقود.
فداى دوست نكرديم عمرو مال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
159
{لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّـادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي : وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الصدق والوفاء قولاً وفعلاً.
قال في "كشف الأسرار" : في الدنيا بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية وفي الآخرة بحبميل الثواب وجزيل المآب والخلود في النعيم المقيم والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم {وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ} بما صدر عنهم من الأقوال والأعمال المحكية {إِن شَآءَ} تعذيبهم أي : إن لم يتوبوا فإن الشرك لا يغفر البتة {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي : يقبل توبتهم إن تابوا {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} ستوراً على من تاب محاء لما صدر منه {رَّحِيمًا} منعماً عليه بالجنة والثواب.
قال بعضهم إمارة الرجولية الصدق في العهد وهو أن لا يعبد غيره تعالى من الدنيا والعقبى والدرجات العليا إلى أن يصل إلى حضرة العلي الأعلى.
فمن الصادقين من بلغ مقصده ونال مقصوده وهذا حال المنتهين.
ومنهم من ينتظر البلوغ والوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين وما بدلوا تبديلاً بالإعراض عن الطلب والإقبال على طلب غير الله ليجزي الله الصادقين بصدقهم في الطلب وبقدم الصدق ينزلون عند ربهم ويعذب المنافقين إن شاء وهم مدعوا الطلب بغير قدم صدق بل بقدم كذب وتلبيس ورياء فهم في زي أهل الرقة ولباس القوم وفي سيرة أهل الرياء والنفاق كما قال بعضهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائه
فلا بد من التوبة والصدق والثبات حتى تظهر الآثار من المغفرة والرحمة والهداية (اى جوانمرد عنايت ازلى كوهر صادقانرا رنكى دهدكه هركه در ايشان نكرد اكر بيكانه بود آشنا كردد ورعاصى بود عارف كردد ور درويش بود توانكر كردد.
إبراهيم أدهم قدس سره كفت وقتى كشش روم درباطن من سر برزد كفتم آياه حالتست اين وازكجا افتاد اين كشش درباطن من همى سر درنهادم ورتم تابدار الملك روم در سرايى شدم جمعى انبوه آنجا كرد آمده زنارهاى ايشان بديدم غيرت دين در من كار كرد يراهن از سرتا ى فرو دريدم ونعره ند كشيدم آن روميان فراز آمدند وهمى رسيدندكه تراه بود ودر توه صفرا افتاد كفتم من اين زنارهاى شما نميتوانم ديد كفتند همانا تو از محمد يانى كفتم آرى من از محمد يانم كفتند كارى سهل است بمانين رسيدكه سنك وخاك بنبوّت محمد كواهى ميداد واز روى جماديت اين زنارهاى ما حالت آن سنك وخاك دارد اكر باتو صدقى هست از خدا بواه تا اين زنارهاى بنبوت محمد كواهى دهند تاما در دائره اسلام آييم ابراهيم سربر سجده نهاد ودر الله زاريد وكفت خداوندابر من ببخشاى وحبيب خويش را نصرت كن ودين اسلام را قوى كن هنوز آن مناجات تمام ناكرده كه هر زنارى بزبان فصيح ميكفت لا اله الا الله محمد رسول الله).
{لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّـادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَا وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـاُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} .
(7/122)
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني الأحزاب وهو رجوع إلى حكاية بقية القصة أي : وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا حال كونهم ملتبسين {بِغَيْظِهِمْ} وحسرتهم يعني : (خشمناك برفتند) والغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} حال بعد حال
160
أي : حال كونهم لم يصيبوا ما أرادوا من الغلبة وسماها خيراً لأن ذلك كان عندهم خيراً فجاء على استعمالهم وزعمهم {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بما ذكر من إرسال الريح الشديدة والملائكة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
باد صبا ببست ميان نصرت ترا
ديدى راغ راكه كند باد ياورى
{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} على إحداث كل ما يريده {عَزِيزًا} غالباً على كل شيء ثم أخبر بالكفاية الأخرى فقال :
{وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـاهَرُوهُم} أي : عاونوا الأحزاب المردودة على رسول الله والمسلمين حين نقضوا العهد {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} وهم بنو قريظة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس وسيد الأوس حينئذٍ سعد بن معاذ رضي الله عنه {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم جمع صيصة بالكسر وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك وهي في مخلبته التي في ساقه لأنه يتحصن بها ويقاتل {وَقَذَفَ} رمى وألقى {فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي : الخوف والفزع بحيث سلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى : {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يعني : رجالهم {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} يعني نساءهم وصبيانهم من غير أن يكون من جهتهم حركة فضلاً عن المخالفة والأسر والشد بالقيد وسمي الأسير بذلك ثم قيل لكل مأخوذ مقيد وإن لم يكن مشدوداً ذلك.
{وَأَوْرَثَكُمْ} (وميراث داد شمارا) {أَرْضَهُمْ} مزارعهم وحدائقهم {وَدِيَـارَهُمْ} حصونهم وبيوتهم {وَأَمْوَالَهُم} نقودهم وأثاثهم ومواشيهم شبهت في بقائها على المسلمين بالميراث الباقي على الوارثين إذ ليسوا في الشيء منهم من قرابة ولا دين ولا ولاء فأهلكهم الله على أيديهم وجعل أملاكهم وأموالهم غنائم لهم باقية عليهم كالمال الباقي على الوارث {وَأَرْضًا} (وشمارا داد زمينى راكه) يعني في علمه وتقديره {لَّمْ تَطَـاُوهَا} بأقدامكم بعد كفارس والروم وما ستفتح إلى يوم القيامة من الأراضي والمماليك من وطىء يطأ وطئاً ، بالفارسية : (باى سردن).
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} فقد شاهدتم بعض مقدوراته من إيراث الأرض التي تسلمتموها فقيسوا عليها ما بعدها.
قال الكاشفي : (س قادر باشد برفتح بلاد وتسخير آن براى ملازمان سيد عباد :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
لشكر عزم ترا فتح وظفر همراهست
لا جرم هر نفس اقليم دكر مى كيرى)
ـ روي ـ أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الخندق وكان وقت الظهيرة وصلى الظهر ودخل بيت زينب وقد غسلت شق رأسه الشريف أتى جبريل عليه السلام على فرسه حيزوم معتجراً بعمامة سوداء فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال : نعم قال جبريل : ما وضعت ملائكة الله السلاح منذ نزل بك العدو إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم بمن معي من الملائكة فأمر عليه السلام بلالاً رضي الله عنه فأذن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة وقد لبس عليه السلام الدرع والمغفر وأخذ قناة بيده الشريفة وتقلد السيف وركب فرسه اللحيف بالضم والناس حوله قد لبسوا السلاح وهم ثلاثة
161
(7/123)
آلاف واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه ودفع اللواء إلى علي رضي الله عنه وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق وأرسله متقدماً مع بعض الأصحاب ومر عليه السلام بنفر من بني النجار قد لبسوا السلاح فقال : هل مرّ بكم أحد؟ قالوا : نعم دحية الكلبي رضي الله عنه وأمرنا بحمل السلاح وقال لنا رسول الله يطلع عليكم الآن فقال ذلك جبريل فلما دنا علي رضي الله عنه من الحصون وغرز اللواء عند أصل الحصون سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه عليه السلام وحق أزواجه فسكت المسلمون وقالوا : السيف بيننا وبينكم فلما رأى علي رضي الله عنه رسول الله مقبلاً أمر قتادة الأنصاري أن يلزم اللواء ورجع إليه عليه السلام فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال : لعلك سمعت منهم علي أذى قال : نعم قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير لأن اليهود مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير في زمن داود عليه السلام عند اعتدائهم يوم السبت بصيد السمك أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته أتشتمونني فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا يا أبا القاسم ما كنت فحاشاً ، يعني : (توفحاش نبودى وهركز ناسزا نكفتى ونست كه امروزمارا ميكويى) ثم إن جماعة من الصحابة شغلهم ما لم يكن منه بد عن المسير لبني قريظة ليصلوا بها العصر فأخروا صلاة العصر إلى أن جاءوا بعد العشاء الأخيرة فصلوها هناك امتثالاً لقوله عليه السلام : "لا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة" وقال بعضهم : نصلي ما يريد رسول الله منا أن ندع الصلاة ونخرجها عن وقتها وإما أراد الحث على الإسراع فصلوها في أماكنهم ثم ساروا فما عابهم الله في كتابه ولا عنفهم رسول الله لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر فكل من الفريقين متأول ومأجور بقصده وهو دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ومن هنا أخذ الصوفية ما ذكروا في آداب الطريقة إن الشيخ المرشد إذا أرسل المريد لحاجة فمر في الطريق بمسجد وقد حضرت الصلاة فإنه يقدم السعي للحاجة اهتماماً لا تهاوناً بالصلاة.
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني قريظة خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الخوف الشديد وكان حيى بن أخطب سيد بني النضير دخل مع بني قريظة حصنهم حين رجعت الأحزاب فلما أيقنوا أن رسول الله غير منصرف حتى يقاتلهم قال كبيرهم كعب بن أسد : يا معشر اليهود نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه النبي الذي تجدونه في كتابكم وأن المدينة دار هجرته وما منعني من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل ولقد كنت كارهاً لنقض العهد ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس يعني حيي بن أخطب فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره أي : القرآن فقال : إن أبيتم عليّ هذه الخصلة فهلموا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين السيوف حتى لا نترك وراءنا نسلاً يخشى عليه إن هلكنا فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم إن لم نهلك فقال : فإن أبيتم فإن الليلة ليلة السبت وإن محمداً وأصحابه قد آمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب منهم غفلة فقالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا
162
(7/124)
فقال لهم عمرو بن سعدي فإن أبيتم فأثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية فقالوا : نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه القتل خير من ذلك ثم قال لهم رسول الله : تنزلون على حكمي فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به وعاهدوا على أن لا يخرجوا من حكمه فأرسل عليه السلام في طلبه وكان جريحاً في وقعة الخندق فجاء راكب حمار وكان رجلاً جسيماً فقال عليه السلام : "قوموا إلى سيدكم" فقام الأنصار فأنزلوه وبه ثبت الاستقبال للقادم فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم فكبر النبي عليه السلام وقال : "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" أي : السموات السبع والمراد أن شأن هذا الحكم العلو ولرفعة ثم استنزلهم وأمر بأن يجمع ما وجد في حصونهم فوجدوا فيها ألفاً وخمسائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وأثاثاً وأواني كثيرة وجمالاً ومواشي وشياهاً وغيرها وخمس ذلك وجعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار لأنه كان لهم منازل فرضي الكل بما صنع الله ورسوله وأمر بالمتاع أن يحمل وترك المواشي هناك ترعى الشجر ثم غدا إلى المدينة فأمر بالأساري وكانوا ستمائة مقاتل أو أكثر أن يكونوا في دار أسامة بن زيد رضي الله عنه والنساء والذرية وكانت سبعمائة في دار ابنة الحارث النجارية لأن تلك الدار كانت معدودة لنزول الوفود من العرب ثم خرج إلى سوق المدينة فأمر بالخندق فحفروا فيه حفائر فضرب أعناق الرجال وألقوا في تلك الخنادق وردوا عليهم التراب وكان المتولي لقتلهم علياً والزبير ولم يقتل من نسائهم إلا بنانة كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد رضي الله عنه تحت الحصن فقتلته ولم يستشهد في هذه الغزوة إلا خلاد قال عليه السلام : "له أجر شهيدين" ثم بعث رسول الله سعد بن زيد الأنصاري بسبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بها خيلاً وسلاحاً قسمها رسول الله على المسلمين ونهى عليه السلام أن يفرق بين أم وولدها حتى يبلغ أي : تحيض الجارية ويحتلم الغلام وقال : "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" واصطفى عليه السلام لنفسه منهم ريحانة بنت شمعون وكانت جميلة وأسلمت فأعتقها رسول الله وتزوجها ولم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر فدفنها بالبقيع وكانت هذه الوقعة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
وفي الآية إشارة إلى أنه كما أن بني قريظة أعانوا المشركين على المسلمين فهلكوا فكذلك العلماء المداهنون أعانوا النفس والشيطان والدنيا على القلوب وأفتوا بالرخص لأرباب الطلب وفتروهم عن التجريد والمجاهدة وترك الدنيا والعزلة والانقطاع وقالوا : هذه رهبانية وليست من ديننا وتمسكوا بآيات وأخبار لها ظاهر وباطن فأخذوها بظاهرها وضيعوا باطنها فآمنوا ببعض هو على وفق طباعهم وكفروا ببعض هو على خلاف طباعهم أولئك أعوان النفوس والشياطين والدنيا فمن قاربهم هلك كما هلكوا في وادي المساعدات ونعوذ بالله من المخالفات وترك الرياضات والمجاهدات ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
اندرين ره مى تراش ومى خراش
تادمى آخر دمى فارغ مباش
فإن البطالة لا تثمر إلا الحرمان والجد يفتح أبواب المراد من أي : نوع كان يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} الرفيع الشان المخبر عن الله الرحمن.
قال الكاشفي : (ارباب سير برانندكه سال تاسع ازهجرت
163
سيد عالم عليه السلام از ازواج طاهرات عزلت نمود وسوكند خوردكه يك ماه با يشان مخالطت نكند وسبب آن بودكه ازان حضرت ثياب زينت وزيادت نفقه ميطلبيدند واورا رنجه داشتند بسبب غيرت نانكه عادت زنان ضرائر بود فخر عالم ملول وغمناك كشته بغرفه درمسجدكه خزانه وى بود تشريف فرمود بعد ازبيست ونه روزكه آن ماه بدان عدد تمام شده بود جبرائيل عليه السلام آيت تخيير فرود آوردكه).
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـاُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا * يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لازْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} .
(7/125)
{النَّبِىُّ} {قُلْ} أمر وجوب في تخييرهن وهو من خصائصه عليه السلام {لازْوَاجِكَ} نسائك وهن يومئذٍ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان وأم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية وسودة بنت زمعة العامرية وأربع من غير قريش زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيى بن أخطب الخيبرية الهارونية وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية وكانت هذه بعد وفاة خديجة رضي الله عنها {إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} أي : السعة والتنعم فيها {وَزِينَتَهَا} (وآرايش ون ثياب فاخره ويرايها بتكلف) {فَتَعَالَيْنَ} أصل تعالى أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المنخفض ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة ولم يرد حقيقة الإقبال والمجيىء بل أراد أجبن على ما أعرض عليكن واقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يكلمني وذهب يخاصمني وقام يهددني {أُمَتِّعْكُنَّ} بالجزم جواباً للأمر ، والتمتيع بالفارسية : (برخوردارى دادن) أي : أعطكن المتعة ، وبالفارسية : (س بياييدكه بدهم شمارا متعه طلاق نانه مطلقه را دهند) سوى المهر وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً قليلاً غير باق بل ينقضي عن قريب ويسمي التلذذ تمتعاً لذلك وهي درع وهو ما يستر البدن وملحفة وهي ما يستر المرأة عند خروجها من البيت وخمار وهو ما يستر الرأس وهي واجبة عند أبي حنيفة رضي الله عنه في المطلقة التي لم يدخل بها ولم يسم لها مهر عند العقد ومستحبة فيما عداها والحكمة في إيجاب المتعة جبر لما أوحشها الزوج بالطلاق فيعطيها لتنتفع بها مدة عدتها ويعتبر ذلك بحسب السعة والأقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فحينئذٍ يجب لها الأقل منه ولا ينقص عن خمسة دراهم لأن أقل المهر عشرة فلا ينقص عن نصفها
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَأُسَرِّحْكُنَّ} السرح شجر له ثمرة وأصله سرحت الإبل أن ترعيها السرح ثم جعل لكل إرسال في الرعي والتسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل كالطلاق في كونه مستعاراً من طلاق الإبل وصريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية هو لفظ الطلاق عند أبي حنيفة وأحمد والطلاق والفراق والسراح عند الشافعي ومالك والمعنى أطلقكن {سَرَاحًا جَمِيلا} طلاقاً من غير ضرار وبدعة.
واتفق الأئمة على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه ثم يدعها حتى تنقضي عدتها وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهر أصابها فيه وهي ممن تحبل فهو طلاق بدعة محرم ويقع بالاتفاق وجمع الثلاثة بدعة عند أبي حنيفة ومالك وقال أحمد هو محرم خلافاً للشافعي ويقع بلا خلاف بينهم.
واعلم أن الشارع إنما كره الطلاق ندباً إلى الإلفة وانتظام الشمل ولما علم الله أن الافتراق لا بد منه
164
لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس شرع الطلاق رحمة لعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم محمودين غير مذمومين إرغاماً للشيطان فإنهم في ذلك تحت إذن إلهي وإنما كان الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى لأنه رجوع إلى العدم إذ بائتلاف الطبائع ظهر وجود الترتيب وبعد الائتلاف كان العدم فمن أجل هذه الرائحة كرهت الفرقة بين الزوجين لعدم عين الاجتماع كذا في "الفتوحات".
وتقديم التمتيع على التسريح من باب الكرم وفيه قطع لمعاذيرهن من أول الأمر.
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لازْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَالدَّارَ الاخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يا نِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِا وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى} .
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي : تردن رسوله وصحبته ورضاه وذكر الله للإيذان بجلالته عليه السلام عنده تعالى.
{وَالدَّارُ الاخِرَةُ} أي : نعيمها الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها جميعاً {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـاتِ} (مرزنان نيكوكارانرا) {مِنكُنَّ} بمقابلة إحسانهن ومن للتبيين لأن كلهن محسنات أصلح نساء العالمين ولم يقل لكن إعلاماً بأن كل الإحسان في إيثار مرضاة الله ورسوله على مرضاة أنفسهن.
{أَجْرًا عَظِيمًا} لا يعرف كنهه وغايته وهو السر فيما ذكر من تقديم التمتيع على التسريح وفي وصف التسريح بالجميل ولما نزلت هذه الآية بدأ عليه السلام بعائشة رضي الله عنها وكانت أحب أزواجه إليه وقرأها عليه وخيرها فاختارت الله ورسوله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/126)
ـ وروي ـ أنه قال لعائشة رضي الله عنها : إني ذاكر لك أمراً أحب أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك أي : تشاوري لما علم أن أبويها لا يأمرانها بفراقه عليه السلام قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفي هذا استأمر أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" (رسول را اين سخن ازو عجب آمد وبدان شاد شد واثر شادى بربشره مبارك وى يدا آمد).
ثم اختارت الباقيات اختيارها فلما آثرنه عليه السلام والنعيم الباقي على الفاني شكر الله لهن ذلك وحرم على النبي التزوج بغيرهن فقال : {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنا بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} الآية كما سيأتي.
واختلف في أن هذا التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق باختيارهن أو كان تخييراً لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن عليه السلام كما ينبىء عنه قوله : {فَتَعَالَيْنَ} الخ فذهب البعض إلى الأول وقالوا : لو اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقاً ولذا اختلف في حكم التخيير فإنه إذا خير رجل امرأته فاختارت نفسها في ذلك المجلس قبل القيام والاشتغال بما يدل على الإعراض بأن تقول اخترت نفسي وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة ورجعية عند الشافعي وثلاث تطليقات عند مالك ولو اختارت زوجها لا يقع شيء أصلاً وكذا إذا قامت من مجلسها قبل أن تختار نفسها انقطع التخيير باتفاقهم.
واختلفوا فيما إذا قال أمرك بيدك فقال أبو حنيفة إذا قال أمرك بيدك في تطليقة فاختارت نفسها يقع طلقة رجعية وإن نوى الثلاث صح فلو قالت : اخترت واحدة فهي ثلاث وهو كالتخيير يتوقف على المجلس.
وفي الآية إشارتان :
الأولى : أن حب الدنيا وزينتها موجب للمفارقة عند صحبة النبي عليه السلام لأزواجه مع أنهن محال النطفة الإنسانية في عالم الصورة ليعلم أن حب الدنيا وزينتها آكد في إيجاب المفارقة عن صحبة النبي عليه السلام لأمته ؛ لأن أرحام قلوبهم محل النطفة الروحانية الربانية فينبغي أن يكون أطيب وأزكى لاستحقاق تلك النطفة الشريفة فإن الطيبات للطيبين :
165
خاطرت كى رقم فيض ذيرد هيهات
مكراين نقش را كنده ورق ساده كنى
والثانية : أن محبة الله ورسوله والدار الآخرة موجبة للاتصال بالنبي عليه السلام والوصلة إلى الله إن كانت خالصة لوجه الله فإن كانت مشوبة بنعيم الجنة فله نعيم الجنة بقدر شوب محبة الله محبة نعيم وله من الأجر العظيم بحسب محبة الله.
فإن قال قائل : قد تحقق أن محبة الله إذا كانت مشوبة بمحبة غير الله توجب النقص من الأجر العظيم بقدر شوب محبة غير الله فكذلك هل يوجب النقص شوب محبة النبي عليه السلام من الأجر العظيم.
قلنا لا توجب النقص من الأجر العظيم بل تزيد فيه لأن من أحب النبي عليه السلام فقد أحب الله كما أن من يطع الرسول فقد أطاع الله والفرق بين محبة النبي ومحبة الجنة أن محبته بالحق دون الحظ ومحبة الجنة بالحظ دون الحق فإن الجنة حظ النفس كما قال تعالى : {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} (فصلت : 31) ومحبة النبي ومتابعته مؤدية إلى محبة الله للعبد كقوله تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 31) ، قال المولى الجامي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
لي حبيب عربي مدني قرشي
كه بود در دوغمش مايه شادى وخوشى
فهم رازش نكنم او عربي من عجمي
لاف مهرش ه زنم او قرشي من حبشي
ذره وارم بهوا دارى اورقص كنان
تاشد او شهره آفاق بخورشيد وشى
كره صد مرحله دورست زيش نظرم
وجهه في نظرى كل غداة وعشى
{النَّبِىُّ} توجيه الخطاب إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالإضافة إليه عليه السلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ} بسيئة بليغة في القبح وهي الكبيرة ، وبالفارسية : (هركه بيايد ازشما بكارى نا سنديده) {مُّبَيِّنَةٍ} ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين قيل هذا كقوله تعالى : {لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) لا إن منهن من أتت بفاحشة أي : معصية ظاهرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني النشوز وسوء الخلق.
قال الراغب : الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال انتهى.
(7/127)
يقول الفقير : لعل وجه قول ابن عباس رضي الله عنهما أن الزلة منهن كسوء الخلق مما يعد فاحشة بالنسبة إليهن لشرفهن وعلو مقامهن خصوصاً إذا حصل بها أذية النبي صلى الله عليه وسلّم ولذا قال : {يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي : يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي : مثليه {وَكَانَ ذَالِكَ} أي : تضعيف العذاب {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي بل يدعوه إليه لمراعاة حقه.
قال في "الأسئلة المقحمة" : ما وجه تضعيف العذاب لزوجات النبي عليه السلام؟ الجواب لما كان فنون نعم الله عليهن أكثر وعيون فوائده لديهن أظهر من الاكتحال بميمون غرّة النبي عليه السلام وترداد الوحي إلى حجراتهن بإنزال الملائكة فلا جرم كانت عقوبتهن عند مخالفة الأمر من أعظم الأمور وأفخمها ولهذا قيل إن عقوبة من عصى الله تعالى عن العلم أكثر من عقوبة من يعصيه عن الجهل وعلى هذا أبداً.
وحد الحر أعظم من حد العبد وحد المحصن أعظم من حد غير المحصن لهذه الحقيقة انتهى.
وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به الأمم.
والحاصل أن الذنب يعظم بعظم جانيه وزيادة قبحه تابعة لزيادة شرف المذنب والنعمة فلما كانت الأزواج المطهرة أمهات
166
المؤمنين وأشراف نساء العالمين كان الذنب منهن أقبح على تقدير صدوره وعقوبة الأقبح أشد وأضعف.
وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
آنه عين لطف باشد برعوام
قهر شد برعشق كيشان كرام
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الثواب والعقاب بقدر نفاسة النفس وخستها يزيد وينقص وأن زيادة العقوبة على الجرم من إمارات الفضيلة كحد الحر والعبد وتقليل ذلك من إمارات النقص.
وذلك لأن أهل السعادة على صنفين : صنف منهم السعيد والآخر الأسعد فالسعيد من أهل الجنة والأسعد من أهل الله فإذا صدر من السعيد طاعة فأعطى بها أجراً واحداً من الجنة وإن صدر منه معصية فأعطى بها عذاباً واحداً من الجحيم وإذا صدر من الأسعد طاعة فأعطى أجره مرتين وذلك بأن يزيد له بها درجة في الجنة ومرتبة في القربة وإن صدر منه معصية يضاعف له العذاب ضعفين بنقص في درجة من الجنة ونقص في مرتبته من القربة أو عذاب من ألم مس النار وعذاب من ألم مس البعد وذل الحجاب ومن هنا دعاء السريّ السقطي قدس سره اللهم إن كنت تعذبني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب ، وكان ذلك على الله يسيراً أن يضاعف لهم العذاب ضعفين بخلاف الخلق لأن تضعيف العذاب في حقهم ليس بيسير لأنهم يتبعون به ويعسر عليهم ذلك انتهى عصمنا الله وإياكم من العذاب وشرفنا بجزيل الثواب.
ومن أسباب العذاب والتنزل عدم التوكل وترك القناعة بالواصل والسعي بلا حاصل.
قال عبد الواحد بن زيد : سألت الله تعالى ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة فقيل لي : يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء فقلت : وأين هي؟ فقيل لي : في بني فلان بالكوفة فخرجت فإذا هي قائمة تصلي وإذا بين يديها عكاز وعليها جبة صوف مكتوب عليها لا تباع ولا تشتري وإذا الغنم مع الذئاب ترعى فلا الذئاب تأكل الغنم ولا الغنم تخاف الذئاب فلما رأتني أوجزت في صلاتها ثم قالت : ارجع يا ابن زيد ليس الموعد ههنا إنما الموعد ثمة فقلت : رحمك الله من أعلمك أني ابن زيد فقالت : إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها اختلف فقلت لها : عظيني فقالت : واعجباً يوعظ لواعظ بلغني أنه ما من عبد أعطى من الدنيا شيئاً فابتغى إليه ثانياً إلا سلبه الله حب الخلوة معه وبدله بعد القرب بعداً وبعد الأنس وحشة ولهذا السر وعظ الله الأرواح المطهرة في القرآن وذلك من فضله ، قال الصائب :
تازخاك اى درويشى توانى سرمه كرد
خاك در شمت اكر درادشاهى بنكرى
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يعني أن جلاء البصر في الفقر والقناعة وترك زينة الدنيا لا في الدولة والسلطنة والنعيم الفاني فإن الدنيا كدر بما فيها.
فعلى العاقل تخفيف الأثقال والأوزار وتكميل التجرد إلى آخر جزء من عمره السيار :
167
(7/128)
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ} ومن تدم على الطاعة ، وبالفارسية : (وهركه مداومت كندبر طاعت از شماكه ازواج يغمبريد).
قال الراغب : القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع {وَرَسُولُهُ} (مرخدا ورسول اورا) {وَتَعْمَلْ صَـالِحًا} (وبكندكارى بسنديده) {نُّؤْتِهَآ أَجْرَهَا} (بدهيم اورا مزداو) {مَّرَّتَيْنِ} مرة على الطاعة والتقوى وأخرى على طلبها رضى رسول الله بالقناعة وحسن المعاشرة.
قال مقاتل : بحسنة عشرين {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} في الجنة زيادة على أجرها المضاعف.
والإعتاد التهيئة من العتاد وهو العدة.
قال الراغب : الإعتاد ادّخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد وقيل أصله أعددنا فأبدلت تاء {رِزْقًا كَرِيمًا} أي : حسناً مرضياً.
قال في "المفردات" : كل شيء يشرف في بابه فإنه كريم وفيه إشارة إلى أن الرزق الكريم في الحقيقة هو نعيم الجنة فمن أراده يترك التنعيم في الدنيا قال عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه : "إياك والتنعيم فإن عباد الله ليسوا بمتنعمين" يعني : أن عباد الله الخلص لا يرضون نعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة فإن نعيم الدنيا فانٍ.
شنيدم كه جمشيد فرخ شرشت
بسر شمه بربسنكى نبشت
برين شمه ون ما بسى دم زدند
برفتند ون شم برهم زدند
وفي الآية إشارة إلى أن الطاعة والعمل الخالص من غير شوب بطمع الجنة ونحوها يوجب أجراً بمزيد في القربة وبتبعيتها يوجب أجراً آخر في درجات الجنة والعمل بالنفس يزيد في وجودها وأما العمل وفق إشارة المرشد ودلالة الأنبياء والأولياء فيخلصها من الوجود وعلامة الخلاص من الوجود العمل بالحضور والتوجه التام لا بالانقلاب والاضطراب ألا ترى أن بعض المريدين دخل التنور اتباعاً لأمر شيخه أبي سليمان الداراني رحمه الله فلم يحترق منه شيء وكيف يحترق ولم يبق منه سوى الاسم من الوجود وهذا هو الشهود وهو الرزق الكريم فإن الكريم هو الله فيرزق المخلص من المشاهدات الربانية والمكاشفات والمكالمات مزيداً على القربة وهذا معنى قوله تعالى : {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 40) ألا ترى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يحترق في نار النمرود بل وجد الرزق الكريم من الله الودود لأن كل نعيم ظاهري لأهل الله فإنما ينعكس من نعيم باطني لهم وحقيقة الأجر إنما تعطي في النشأة الآخرة لأن هذه النشأة لا تسعها لضيقها نسأل الله القنوت والعمل ونستعيذ به من الفتور والكسل فإن الكسل يورث الغفلة والحجاب كما أن العمل يورث الشهود وارتفاع النقاب فإن التجليات الوجودية مظاهر التجليات الشهودية ومنه يعرف سر قوله عليه السلام : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فكما أن الطهارة الصورية تجلب بخاصيتها الرزق الصوري
168
فكذا الطهارة المعنوية تجذب بمقتضاها الرزق المعنوي فيحصل لكل من الجسم والروح غذاؤه ويظهر سر الحياة الباقية فإن أذواق الروح لا نهاية لها لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يعني أن جلاء البصر في الفقر والقناعة وترك زينة الدنيا لا في الدولة والسلطنة والنعيم الفاني فإن الدنيا كدر بما فيها.
فعلى العاقل تخفيف الأثقال والأوزار وتكميل التجرد إلى آخر جزء من عمره السيار :
167
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ} ومن تدم على الطاعة ، وبالفارسية : (وهركه مداومت كندبر طاعت از شماكه ازواج يغمبريد).
قال الراغب : القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع {وَرَسُولُهُ} (مرخدا ورسول اورا) {وَتَعْمَلْ صَـالِحًا} (وبكندكارى بسنديده) {نُّؤْتِهَآ أَجْرَهَا} (بدهيم اورا مزداو) {مَّرَّتَيْنِ} مرة على الطاعة والتقوى وأخرى على طلبها رضى رسول الله بالقناعة وحسن المعاشرة.
قال مقاتل : بحسنة عشرين {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} في الجنة زيادة على أجرها المضاعف.
والإعتاد التهيئة من العتاد وهو العدة.
قال الراغب : الإعتاد ادّخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد وقيل أصله أعددنا فأبدلت تاء {رِزْقًا كَرِيمًا} أي : حسناً مرضياً.
قال في "المفردات" : كل شيء يشرف في بابه فإنه كريم وفيه إشارة إلى أن الرزق الكريم في الحقيقة هو نعيم الجنة فمن أراده يترك التنعيم في الدنيا قال عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه : "إياك والتنعيم فإن عباد الله ليسوا بمتنعمين" يعني : أن عباد الله الخلص لا يرضون نعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة فإن نعيم الدنيا فانٍ.
شنيدم كه جمشيد فرخ شرشت
بسر شمه بربسنكى نبشت
برين شمه ون ما بسى دم زدند
برفتند ون شم برهم زدند
(7/129)
وفي الآية إشارة إلى أن الطاعة والعمل الخالص من غير شوب بطمع الجنة ونحوها يوجب أجراً بمزيد في القربة وبتبعيتها يوجب أجراً آخر في درجات الجنة والعمل بالنفس يزيد في وجودها وأما العمل وفق إشارة المرشد ودلالة الأنبياء والأولياء فيخلصها من الوجود وعلامة الخلاص من الوجود العمل بالحضور والتوجه التام لا بالانقلاب والاضطراب ألا ترى أن بعض المريدين دخل التنور اتباعاً لأمر شيخه أبي سليمان الداراني رحمه الله فلم يحترق منه شيء وكيف يحترق ولم يبق منه سوى الاسم من الوجود وهذا هو الشهود وهو الرزق الكريم فإن الكريم هو الله فيرزق المخلص من المشاهدات الربانية والمكاشفات والمكالمات مزيداً على القربة وهذا معنى قوله تعالى : {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 40) ألا ترى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يحترق في نار النمرود بل وجد الرزق الكريم من الله الودود لأن كل نعيم ظاهري لأهل الله فإنما ينعكس من نعيم باطني لهم وحقيقة الأجر إنما تعطي في النشأة الآخرة لأن هذه النشأة لا تسعها لضيقها نسأل الله القنوت والعمل ونستعيذ به من الفتور والكسل فإن الكسل يورث الغفلة والحجاب كما أن العمل يورث الشهود وارتفاع النقاب فإن التجليات الوجودية مظاهر التجليات الشهودية ومنه يعرف سر قوله عليه السلام : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فكما أن الطهارة الصورية تجلب بخاصيتها الرزق الصوري
168
فكذا الطهارة المعنوية تجذب بمقتضاها الرزق المعنوي فيحصل لكل من الجسم والروح غذاؤه ويظهر سر الحياة الباقية فإن أذواق الروح لا نهاية لها لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
اين زمين وسختيان ردست وبس
اصل روزى از خدا دان هرنفس
رزق ازوى جو مجو از زيد وعمرو
مستى ازوى جو مجو از بنك وخمر
منعمى زوخواه نى از كنج ومال
نصرت ازوى خواه نى ازعم وخال
اللهم اجعلنا من خلص العباد وثبت أقدامنا في طريق الرشاد بحق النون والصاد.
{النَّبِىُّ} (اى زنان يغمبر) {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ} (نيستيد شماون هي كس اززنان ديكر).
وأصل أحد وحد بمعنى الواحد قلبت واوه همزة على خلاف القياس ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير.
والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف بسبب صحبة النبي عليه السلام فإن المضاف إلى الشريف شريف {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} مخالفة حكم الله ورضى رسوله وهو استئناف والكلام تام على أحد من النساء ويحتمل أن يكون شرطاً لخيريتهن وبياناً أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى لا بالتصالهن بالنبي عليه السلام :
زهد وتقوى فضل را محراب شد†
{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} عند مخاطبة الناس أي : لا تجبن بقولكن خاضعاً ليناً مثل قول المطمعات ، وبالفارسية : (س نرمى وفروتنى مكنيد درسخن كفتن ونياز مكوييد بامردان بيكانه).
والخضوع التطامن والتواضع والسكون والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فإذا أتى الرجل باب إنسان وهو غائب فلا يجوز للمرأة أن تلين بالقول معه وترفق الكلام له فإنه يهيج الشهوة ويورث الطمع كما قال : {فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِه مَرَضٌ} أي : محبة فجور {وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا} بعيداً من التهمة والأطماع بجد وخشونة لا بتكسر وتغنج كما يفعله المخنث فالزنى من أسباب الهلاك المعنوي كالمرض من أسباب الهلاك الصوري وسببه الملاينة والمطاوعة.
هست نرمى آفت جان سمور
وزدرشتى ميبردجان خارشت
وفي الآية إشارة إلى أن أحوال أرباب القلوب الذين أسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية المشايخ ليست كأحوال غيرهم من الخلق فالمتقي بالله من غيره لا يخضع لشيء من الدارين فإن الخضوع بالقول يجذب إلى الخضوع بالقلب والعمل وكثير من الصادقين يخضعون بالقول لأرباب الدنيا والأعمال الدنيوية لصلاح الآخرة ومصالح الدين بزعمهم فبالتدريج يقعون في ورطة الهلاك ويرجعون القهقرى إلى الدنيا ويستغرقون في بحر الفضلات لضعف الخالات فلا بد من ترك المساعدات وترك الشروع في شيء من أحوال الدنيا وأعمالها إلا بالمعروف وإلا فيكون مغلوباً بالمنكرات فنعوذ بالله من المخالفات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يا نِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِا إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِه مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه ا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} .
(7/130)
{وَقَرْنَ} (وآرام كيريد) {فِى بُيُوتِكُنَّ} (درخانهاى خويش).
قرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف في المضارع من باب علم وأصله اقررن نقلت حركة الراء الأولى إلى القاف وحذفت لالتقاء الساكنين ثم حذفت
169
همزة الوصل استغناء عنها فصار قرن ووزنه الحالي فلن الأصل أفعلن والباقون بكسرها لما أنه أمر من وقر يقر وقاراً إذا ثبت وسكن واصله أو قرن فحذفت الواو تخفيفاً ثم الهمزة فاستغناء عنها فصار قرن ووزنه الحالي علن أو من قريقر بكسر القاف في المضارع فأصله اقررن نقلت كسرة الراء إلى القاف ثم حذفت فاستغنى عن همزة الوصل فصار قرن ووزنه الحالي فلن.
والمعنى : إلزمن يا نساء النبي بيوتكن واثبتن في مساكنكن.
والخطاب وإن كان لنساء النبي فقد دخل فيه غيرهن.
ـ روي ـ أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها من الأزواج المطهرة ما خطت باب حجرتها لصلاة ولا لحج ولا لعمرة حتى أخرجت جنازتها من بيتها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل لها لم لا تحجين ولا تعتمرين؟ فقالت : قيل لنا {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} زبيكانكان شم زن كور باد
و بيرون شد ازخانه در كورباد
وفي الخبر : "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" {وَلا تَبَرَّجْنَ} قال الراغب يقال ثوب متبرج صور عليه بروج واعتبر حسنه فقيل : تبرجت المرأة أي : تشبهت به في إظهار الزينة والمحاسن للرجال أي : مواضعها الحسنة فيكون المعنى (إظهار يرايها مكنيد) ويدل عليه قوله في "تهذيب المصادر" (التبرج : بزن خويشتن را بيارأستن) قال تعالى : {وَلا تَبَرَّجْنَ} وأصل التبرج صعود البرج وذلك أن من صعد البرج ظهر لمن نظر إليه قاله أبو علي انتهى.
وقيل : تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي : قصرها ويدل على ذلك قوله ولا تبرجن كما في "المفردات".
وقال بعضهم : ولا تتبخترن في مشيكن {تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى} أي : تبرجاً مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة وهي ما بين آدم ونوح وكان بين موت آدم وطوفان نوح ألف ومائتا سنة واثنتان وسبعون سنة كما في "التكملة".
والجاهلية الأخرى ما بين محمد وعيسى عليهما السلام.
قال ابن الملك الجاهلية الزمان الذي كان قبل بعثته عليه السلام قريباً منها سمي به لكثرة الجهالة انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ روي ـ أن بطنين من ولد آدم سكن أحدهما السهل والآخر الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي نسائهم دمامة والسهل بالعكس فجاء إبليس وآجر نفسه من رجل سهلي وكان يخدمه فاتخذ شيئاً مثل ما يزمر الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس بمثله فبلغ ذلك من في السهل فجاءوا يستمعون إليه واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فتبرج النساء للرجال وتزينوا لهن فهجم رجل من أهل الجبل عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهم فأخبر أصحابه فتحولوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله : {وَلا تَبَرَّجْنَ} إلخ وذلك بعد زمان ادريس.
قال الكاشفي : (اصح آنست كه جاهليت اولى درزمان حضرت ابراهيم عليه السلام بوكه زنان لباسها بمرواريد بافته وشيده خودرا درميان طريق بمردان عرض كردندى).
وقيل : الجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان.
وفي الحديث : "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد" يعني في عصره عليه السلام لطهارة ذلك العصر بل حدثا بعده "قوم معهم سياط" يعني أحدهما قوم في أيديهم سياط "كأذناب البقر يضربون بها الناس" جمع سوط تسمى تلك السياط في ديار العرب بالمقارع جمع مقرعة وهي جلد طرفها مشدود عرضه كعرض الأصبع الوسطى يضربون بها السارقين عراة وقيل هم الطوافون على أبواب الظلمة كالكلاب
170
يطردون الناس عنها بالضرب والسباب "ونساء" يعني ثانيهما نساء "كاسيات" يعني : في الحقيقة "عاريات" يعني في المعنى لأنهن يلبسن ثياباً رقاقاً تصف ما تحتها أو معناه عاريات من لباس التقوى وهن اللاتي يلقين ملاحفهن من ورائهن فتنكشف صدورهن كنساء زماننا.
أو معناه كاسيات بنعم الله عاريات عن الشكر يعني نعيم الدنيا لا ينفع في الآخرة إذا خلا عن العمل الصالح وهذا المعنى غير مختص بالنساء "مميلات" أي : قلوب الرجال إلى الفساد بهن أو مميلات أكنافهن وأكفالهن كما تفعل الرقاصات أو مميلات مقانعهن من رؤوسهن لتظهر وجوههن "مائلات" أي : إلى الرجال أو معناه متبختران في مشيهن "رؤوسهن كأسنمة البخت" يعني يعظمن رؤوسهن بالخمر والقلنسوة حتى تشبه أسنمة البخت أو معناه ينظرن إلى الرجال برفع رؤوسهن "المائلة" لأن أعلى السنام يميل لكثرة شحمه "لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وأن ريحها ليوجد مسيرة أربعين عاماً" {وَأَقِمْنَ الصَّلَواةَ} التي هي أصل الطاعات البدنية {وَءَاتِينَ الزَّكَواةَ}
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/131)
التي هي أشرف العبادات المالية أي : إن كان لكن مال كما في "تفسير أبي الليث" {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه} في سائر الأوامر والنواهي.
وقال بعضهن : أطعن الله في الفرائض ورسوله في السنن {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} الرجس الشيء القذر أي : الذنب المدنس لعرضكم وعرض الرجل جانبه الذي يصونه وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عم الحكم بتعميم الخطاب لغيرهن وصرح بالمقصود حيث قيل : {أَهْلَ الْبَيْتِ} أي : يا أهل البيت والمراد به من حواه بيت النبوة رجالاً ونساء قال الراغب : أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد وضيعة فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد ثم تجوّز به فقيل : أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب وتعورف في أسرة النبي عليه السلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت يعني أهل البيت متعارف في آل النبي عليه السلام من بني هاشم ونبه عليه السلام بقوله : "سلمان منا أهل البيت" على أن مولى القوم يصح نسبته إليهم.
والبيت في الأصل مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر وصوف ووبر وبه شبه بيت الشعر وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته الكل في"المفردات".
{وَيُطَهِّرَكُمْ} من أدناس المعاصي {تَطْهِيرًا} بليغاً واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير لمزيد التنفير عنها وهذه كما ترى آية بينة وحجة نيرة على كون نساء النبي عليه السلام من أهل بيته قاضية ببطلان مذهب الشيعة في تخصيصهم أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيه أي : الحسن والحسين رضي الله عنهم وأما ما تمسكوا به من أن النبي عليه السلام خرج ذات يوم غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، يعني : (بروى ميزر معلم بود از موى سياه) فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فإنه يدل على كونهم من أهل البيت لا أن من عداهم ليسوا كذلك ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها لكونها في مقابلة النص.
قال الكاشفي : (وازين جهت است كه آل عبا برنج تن اطلاق ميكنند) :
آل العباء رسول الله وابنته
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
والمرتضى ثم سبطاه إذا اجتمعوا
171
قال في "كشف الأسرار" : (رجس در افعال خبيثه است واخلاق دنيه افعال خبيثه فواحش است ما ظهر منها وما بطن وأخلاق دنيه هوا وبدعت وبخل وحرص وقطع رحم وامتثال آن رب العالمين ايشانرا بجاى بدعت سنت نهاد وبجاى بخل سخاوت وبجاى حرص قناعت وبجاى قطع رحم وصلت وشفقت آنكه كفت {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وشمارا اك ميدارد ازآنكه بخود معجب باشيد يا خودرا بر الله دلالى دانيد يا بطاعات واعمل اخود نظري كنيد.
ير طريقت كفت نظر دواست نظر انساني ونظر وحماني.
نظر انساني آنست كه توبخودنكرى.
ونظر رحماني آنست كه حق بتونكرد وتا نظر انسانى ازنهاد تورخت برنيارد نظر رحمانى بدلت نزول نكند اى مسكين ه نكرى توباين طاعت آلوده خويش وآنرا بدركاه بى نيازى ه وزن نهى خبر ندارى كه اعمال همه صديقان زمين وطاعات همه قدوسيان آسمان جمع كنى درميزان جلال ذي الجلال ريشه نسنجند ليكن او جل جلاله بابى نيازى خود بنده را به بندكى مى سند دوراه بندكى بوى مى نمايد) قال المولى الجامي :
كاهى كه تكيه بر عمل خود كنند خلق
اورا مباد جز كرمت هي تكيه كاه
با او بفضل كاركن اى مفضل كريم
كز عدل تو بفضل تو مى آورد ناه
(7/132)
وفي "التأويلات" {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} يخاطب به القلوب أن يقروا في وكناتهم من عالم الملكوت والأرواح متوجهين إلى الحضرة {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى} لا تخرجوا إلى عالم الحواس راغبين في زينة الدنيا وشهواتها كما هو من عادات الجهلة {وَأَقِمْنَ الصَّلَواةَ} بدوام الحضور والمراقبة والعروج إلى الله بالسير فإن الصلاة معراج المؤمن بأن يرفع يديه من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه ويرجع عن مقام التكبر الإنساني إلى خضوع الركوع الحيواني ومنه إلى خشوع السجود النباتي ثم إلى القعود الجمادي فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحانية ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها ويسلم عن شماله على الدنيا وما فيها مستغرق في بحر الألوهية بإقامة الصلاة وإدامتها {وَءَاتِينَ الزَّكَواةَ} فالزكاة هي ما زاد على الوجود الحقيقي من الوجود المجازي فإيتاؤها صرفها وإفناؤها في الوجود الحقيقي بطريق {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه ا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} وهو لوث الحدوث {أَهْلَ الْبَيْتِ} بيت الوصول ومجلس الوحدة ويطهركم عن لوث الحدوث بشراب طهور تجلي صفات جماله وجلاله تطهيراً لا يكون بعده تلوث انتهى كما قالوا الفاني لا يرد إلى أوصافه (س اولياء كمل را خوف ظهور طبيعت نيست) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
تابنده زخود فانىء مطلق نشود
توحيد بنزد او محقق نشود
توحيد حلول نيست نابودن تست
ورنه بكذاف آدمى حق نشود
حققنا الله وإياكم بحقائق التوحيد وأيدنا من عنده بأشد التأييد ومحا عنا نقوش وجوداتنا وظهرنا من أدناس أنانياتنا إنه الكريم الجواد الرؤوف بكل عبد من العباد.
{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه ا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِا إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} .
{وَاذْكُرْنَ} (وياد كنيد اى زنان يغمبر) أي : للناس بطريق العظة والتذكير
172
{مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي : من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله البينة الدالة على صدق النبوة بنظمه المعجز وكونه حكمة منطوية على فنون العلم والشرائع وقد سبق معنى الحكمة في سورة لقمان.
وحمل قتادة الآيات على آيات القرآن والحكمة على الحديث الذي هو محض حكمة وهذا تذكير بما أنعم عليهن من كونهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفن به والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنه الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها جميع الآيات ووقوعها في كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول وعدم تعيين التالي ليعم تلاوة جبريل وتلاوة النبي وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعلماً وتعليماً.
قال في "الوسيط" : وهذا حث لهن على حفظ القرآن والأخبار ومذاكرتهن بها للإحاطة بحدود الشريعة والخطاب وإن اختص بهن فغيرهن داخل فيه لأن مبني الشريعة على هذين القرآن والسنة وبهما يوقف على حدود الله ومفترضاته انتهى.
ومن سنة القارىء أن يقرأ القرآن كل يوم وليلة كيلا ينساه ولا يخرج عن صدره فإن النسيان وهو أن لا يمكنه القراءة من المصحف من الكبائر.
ومن السنة أن يجعل المؤمن لبيته حظاً من القرآن فيقرأ فيه منه ما تيسر له من حزبه ففي الحديث : "إن في بيوتات المسلمين لمصابيح إلى العرش يعرفها مقربوا ملائكة السموات السبع والأرضين السبع يقولون هذا النور من بيوتات المؤمنين التي يتلى فيها القرآن" ومن السنة أن يستمع القرآن أحياناً من الغير.
وكان عليه السلام يستمع قراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما.
وكان عمر رضي الله عنه يستمع قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وكان حسن الصوت واستماع القرآن في الصلاة فرض وفي خارجها مستحب عند الجمهور فعليك بالتذكير والتحفظ والاستماع.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
و باطلان زكلام حقت ملولى يست
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا} بليغ اللطف والبر بخلقه كلهم {خَبِيرًا} بليغ العلم بالأشياء كلها فيعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهى أو يعلم من يصلح لنبوته ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته.
(7/133)
ـ روي ـ أنه تكلم رجل في زين العابدين رضي الله عنه وافترى عليه فقال زين العابدين : إن كنت كما قلت فاستغفر الله وإن لم أكن نستغفر الله لك فقام إليه الرجل وقبل رأسه وقال : جعلت فداءك لست كما قلت فاستغفر لي قال : غفر الله لك فقال الرجل : الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وخرج يوماً من المسجد فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم زين العابدين : مهلاً على الرجل ثم أقبل عليه وقال : بالله إلا ما سترت من أمرنا ألك حاجة نعينك عليها فاستحيى الرجل فألقى عليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول.
قال بعض الكبار : القرابة طينية وهي ما كان من النسب ودينية وهي ما كان من مجانسة الأرواح في مقام المعرفة ومشابهة الأخلاق في مقام الطريقة ومناسبة الأعمال الصالحة في مقام الشريعة كما قال عليه السلام : "آل محمد كل تقي نقي" فأهل التقوى الحقيقية وهم العلماء بالله التابعون له عليه السلام في طريق الهدى من جملة أهل البيت وذوي القربى وأفضل الخلق عند الله وكذا السادات الصالحون لهم
173
كرامة عظمى فرعايتهم راجعة إلى النبي عليه السلام.
ـ روي ـ أن علوية فقيرة مع بناتها نزلت مسجداً بسمرقند فخرجت لطلب القوت لبناتها فمرت على أمير البلد وذكرت أنها علوية وطلبت منه قوت الليلة فقال : ألك بينة على أنك علوية؟ فقالت : ما في البلد من يعرفني فأعرض عنها فمضت إلى مجوسي هو ضامن البلد فعرضت له حالها فأرسل المجوسي إلى بناتها وأكرم مثواهن فرأى أمير البلد في المنام كأن القيامة قد قامت وعند النبي عليه السلام لواء وإذا قصر من زمرد أخضر فقال : لمن هذا القصر يا رسول الله فقال عليه السلام : "لمؤمن موحد" فقال : أنا مسلم موحد قال عليه السلام : "ألك بينة على أنك مسلم موحد" فانتبه يبكي ويلطم وجهه وسأل عن العلوية وعرفها عند المجوسي وطلبها منه فأبى المجوسي فقال : خذ مني ألف دينار وسلمهن إليّ قال : لا يكون ذلك وقد أسلمنا على يد العلوية وقد أخبرنا النبي عليه السلام بأن القصر لنا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ روي ـ أنه كان ببغداد تاجر له بضاعة يسيرة فاتفق أنه صلى صلاة في جماعة فلما سلموا قام علوي وقال : إن لي بنية أريد تزويجها بحق جدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعطوني ما أصلح به لها جهازها فأعطاه التاجر رأس ماله وكان خمسمائة درهم فلما كان الليل رأى التاجر رسول الله في المنام فقال له : يا فتى قد وصل إليّ ما أتحفتني فاقصد إلى مدينة بلخ فإن عبد الله بن طاهر بها فقل له إن محمداً يقرئك السلام ويقول : قد بعثت إليك ولياً له عندي يد فادفع إليه خمسمائة دينار فانتبه التاجر وأخبر بذلك امرأته فقالت : ومن يقوم بنفقتنا إلى أن ترجع من بلخ فقصد إلى خباز من جيرانه وقال : إن أعطيت أهلي كفايتهم مدة غيبتي أعطيتك إذا رجعت بدل كل درهم ديناراً فقال الخباز : إن الذي أمرك بالخروج إلى بلخ أوصاني بنفقة أهلك إلى رجوعك ففرح التاجر وخرج نحو بلخ فلما قرب استقبله عبد الله بن طاهر وقال : مرحباً برسول رسول الله إن الذي أرسلك إلي أوصاني بالإحسان إليك فأحسن ضيافته ثلاثة أيام ثم أعطاه خمسمائة دينار وفق أمره عليه السلام وأعطاه خمسمائة دينار لكونه رسول رسول الله وبعث معه جماعة أوصلوه إلى منزله ، قال الشيخ سعدي :
زرونعمت اكنون بده كان تست
كه بعد از توبيرون زفرمان تست
فروماندكانرا درون شاد كن
زروز فروماندكى ياد كن
نه خواهنده بردر ديكران
بشكرانه خواهنده از درمران
جوانمردا كرراست خواهى وليست
كرم يشه شاه مردان عليست
باحسانى آسوده كردن دلى
به ازالف ركعت بهر منزلى
بقنطار زر بخش كردن زكنج
نباشد وقيراطى از دست رنج
برد هركسى بار درخورد زور
كرانست اى ملخ يش مور
فإذا سمعت إلى هذا المقال فابسط يدك بالنوال إن كان لك مال وإلا فالعاقل الغيور يطير ويجوز بهمته.
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِا إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ وَالْقَـانِتِينَ وَالْقَـانِتَـاتِ وَالصَّـادِقِينَ وَالصَّـادِقَـاتِ وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ وَالْخَـاشِعِينَ وَالْخَـاشِعَـاتِ} .
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ} .
ـ روي ـ أنه لما نزل في نساء النبي عليه السلام الآيات المذكورة قالت نساء المؤمنين : فما نزل فينا ولو كان فينا خير لذكرنا فنزلت والمعنى : إن الداخلين في السلم بعد الحرب المنقادين لحكم الله من الذكور والإناث.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات
174
(7/134)
النجمية" : المسلم هو المستسلم للأحكام الأزلية بالطوع والرغبة مسلماً نفسه إلى المجاهدة والمكابدة ومخالفة الهوى وقد سلم المسلمون من لسانه ويده {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين.
وفي "التأويلات" : المؤمن من أمنه الناس وقد أحيى الله قلبه أولاً بالعقل ثم بالعلم ثم بالفهم عن الله تعالى ثم بنور الله تعالى ثم بالتوحيد ثم بالمعرفة ثم أحياه الله.
قال في "بحر العلوم" : ومراد أصحابنا باتحاد الإيمان والإسلام أن الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول ما جاء به من عند الله والإذعان له وذلك حقيقة التصديق ولذلك لم يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مسلم وليس بمؤمن أو مؤمن وليس بمسلم فلا يمتاز أحدهما عن الآخر ولم يريدوا الاتحاد بحسب المفهوم لأن الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه ومواعيده والإسلام هو الخضوع والانقياد لألوهيته وهذا لا يحصل إلا بقبول الأمر والنهي والوعد والوعيد والإذعان لذلك فمن لم يقبل شيئاً من هذه الأربعة فقد كفر وليس بمسلم انتهى {وَالْقَـانِتِينَ وَالْقَـانِتَـاتِ} أي : المداومين على الطاعات القائمين بها.
وفي "التأويلات" : القنوت استغراق الوجود في الطاعة والعبودية {وَالصَّـادِقِينَ وَالصَّـادِقَـاتِ} في القول والعمل والنية.
وفي "التأويلات" : في عقودهم وعهودهم ورعاية حدودهم والصدق نور أهدى لقلوب الصديقين بحسب قربهم من ربهم {وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ} على الطاعات وعن المعاصي.
وفي "التأويلات" : على الخصال الحميدة وعن الصفات الذميمة وعند جريان القضاء ونزول البلاء {وَالْخَـاشِعِينَ وَالْخَـاشِعَـاتِ} المتواضعينبقلوبهم وجوارحهم.
وفي "التأويلات" : الخشوع إطراق السريرة عند توارد الحقيقة انتهى.
قال بعضهم الخشوع انقياد الباطن للحق والخضوع انقياد الظاهر له.
وفي "القاموس" الخشوع الخضوع أو هو في البدن والخشوع في الصوت {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ} بما وجب في مالهم والمعطين للصدقات فرضاً أو نفلاً يقال تصدق على الفقراء إذا أعطاهم الصدقة وهي العطية التي بها تبتغي المثوبة من الله تعالى.
وفي "المفردات" الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به والزكاة للواجب وقيل يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات" : والمتصدقين والمتصدقات بأموالهم وأعراضهم حتى لا يكون لهم مع أحد خصميه فيما ينال منهم ، يعني : (بخشندكانند هم بمال وهم بنفس حق هي كس برخود نكذاشته وازراه خصومت باخلق برخاسته) وحقيقة الصدقة ما يكون بالأحوال على أرباب الطلب ، قال الحافظ :
اى صاحب كرامت شكرانه سلامت
روزى تفقدى كن درويش بى نوارا
{وَالصَّـائِمِينَ وَالصَّـائِمَـاتِ} الصوم المفروض أو مطلق الصوم فرضاً أو نفلاً.
وفي "التأويلات" الممسكين عما لا يجوز في الشريعة والطريقة بالقلب والقالب فيصوم القالب بالإمساك عن الشهوات ويصوم القلب بالإمساك عن رؤية الدرجات والقربات.
وفي "المفردات" الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً وفي الشرع إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين والاستمناء والاستقاءة {وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـافِظَـاتِ} في الظاهر عن الحرام وفي الحقيقة عن تصرفات المكونات أي : والحافظاتها فحذف
175
المفعول لدلالة المذكور عليه.
وفي "المفردات" الفرج والفرجة الشق بين الشيئين كفرجة الحائط والفرج ما بين الرجلين وكنى به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح فيه {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ} ذكراً {كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} أي : والذاكراته فترك المفعول كما في الحافظات أي : بقلوبهم وألسنتهم.
وفي "التأويلات النجمية" : بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية بل بجميع ذرات المكونات بل بالله وجميع صفاته.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله انتهى.
والاشتغال بالعلم النافع وتلاوة القرآن والدعاء من الذكر وفي الحديث : "من استيقظ من منامه وأيقظ امرأته فصليا جميعاً ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات".
وعن مجاهد لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} بسبب ما عملوا من الطاعات العشر المذكورة وجمعوا بينها وهو خبر إن والعطف بالواو بين الذكور والإناث كالمسلمين والمسلمات كالعطف بين الضدين لاختلاف الجنسين.
وأما عطف الزوجين على الزوجين كعطف المؤمنين والمؤمنات على المسلمين والمسلمات فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع أي : عطفهما لتغاير الوصفين {مَغْفِرَةٍ} لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بما عملوا من الأعمال الصالحات.
(7/135)
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات" : هي نور من أنوار جماله جعل مغفر الرأس روحهم يعصمهم مما يقطعهم عن الله {وَأَجْرًا عَظِيمًا} على ما صدر عنهم من الطاعات وهو الجنة واليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة وغداً تحقيق المسؤول ونيل ما فوق المأمول.
وفي "التأويلات العظيم هو الله يعني أجراً من واهب ألطافه بتجلي ذاته وصفاته.
وعن عطاء بن أبي رباح : من فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ} ومن أقرّ بأن الله ربه ومحمداً عليه السلام رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله : {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} ومن أطاع الله في الفرائض والرسول في السنة فهو داخل في قوله : {وَالْقَـانِتِينَ وَالْقَـانِتَـاتِ} ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : {وَالصَّـادِقِينَ وَالصَّـادِقَـاتِ} ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله : {وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ} ومن صلى فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله فهو داخل في قوله : {وَالْخَـاشِعِينَ وَالْخَـاشِعَـاتِ} .
قال في "بحر العلوم" : بنى الأمر في هذا على الأشد وليس هذا بمرضي عنه انتهى.
يقول الفقير : بل بنى على الأسهل فإنه أراد ترك الالتفات يميناً وشمالاً وهو أسهل بالنسبة إلى الاستغراق في الشهود.
ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ} ومن صام من كل شهر أيام البيض فهو داخل في قوله : {وَالصَّـائِمِينَ وَالصَّـائِمَـاتِ} ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله : {وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـافِظَـاتِ} ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي : العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال : "الذاكرون الله كثيراً والذكرات" قالوا : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال : "لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى تكسر أو تخضب دماً لكان ذاكر الله كثيراً أفضل
176
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
منه درجة" وعن أبي هريرة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان كعثمان فقال : "سيروا هذا جمدان سبق المفرّدون" قالوا : ومن مفردون يا رسول الله؟ قال : "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" أي : كثيراً والمفردون نقله البعض بكسر الراء وتشديدها والبعض الآخر بتخفيفها وإنما لم يقولوا من المفردون لأن مقصودهم من النبي عليه السلام كان أن يبين لهم ما المراد من الأفراد والتفريد لا بيان من يقوم به الفعل فبينه عليه السلام بقوله : "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" يعني المراد من الأفراد هنا أن يجعل الرجل بأن لا يذكر معه غيره والمراد من كثرة ذكره أن لا ينساه على كل حال لا الذكر بكثرة اللغات.
قال ابن ملك : وفي ذكره عليه السلام هذا الكلام عقيب قوله : "هذا جمدان" لطيفة وهي أن جمدان كان منفرداً ولم يكن مثله فكذا هؤلاء السادات منفردون ثابتون على السعادات.
يقول الفقير : أشار عليه السلام بجمدان إلى جبل الوجود والسير فيه وقطع طريقه بتفريد التوحيد وهو تقطيع الموحد عن الأنفس كما أن تجريد التوحيد تقطيعه عن الآفاق جعلنا الله وإياكم من السائرين الطائرين لا من الواقفين الحائرين.
سالكاً بي كشش دوست بجايى نرسند
سالها كره درين راه تك ووى كنند
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ وَالْقَـانِتِينَ وَالْقَـانِتَـاتِ وَالصَّـادِقِينَ وَالصَّـادِقَـاتِ وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ وَالْخَـاشِعِينَ وَالْخَـاشِعَـاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ وَالصَّـائِمِينَ وَالصَّـائِمَـاتِ وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـافِظَـاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُه أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـالا مُّبِينًا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/136)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطب زينب بنت جحش بن رباب الأسدي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب لمولاه زيد بن حارثة وكانت زينب بيضاء جميلة وزيد أسود أفطس فأبت وقالت : أنا بنت عمتك يا رسول الله وأرفع قريش فلا أرضاه لنفسي وكذلك أبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت.
والمعنى ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين فدخل فيه عبد الله وأخته زينب {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُه أَمْرًا} مثل نكاح زينب أي : قضى رسول الله وحكم وذكر الله لتعظيم أمره والإشعار بأن قضاءه عليه السلام قضاء الله كما أن طاعة الله تعالى.
{أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الخيرة بالكسر اسم من الاختيار أي : أن يختاروا {مِنْ أَمْرِهِمْ} ما شاؤوا بل يجب عليهم أن يجعلوا أراءهم واختيارهم تبعاً لرأيه عليه السلام واختياره وجمع الضميرين لعموم مؤمن ومؤمنة لوقوعهما في سياق النفي.
وقال بعضهم : الضمير الثاني للرسول أي : من أمره والجمع للتعظيم {وَمِنْ} (وهركه) {يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أمر من الأمور ويعمل برأيه.
وفي "كشف الأسرار" ومن يعص الله فخالف الكتاب ورسوله فخالف السنة {فَقَدْ ضَلَّ} طريق الحق وعدل عن الصراط المستقيم {ضَلَـالا مُّبِينًا} أي : بين الانحراف عن سنن الصواب.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن العبد ينبغي أن لا يكون له اختيار بغير ما اختاره الله بل تكون خيرته فيما اختاره الله له ولا يعترض على أحكامه الأزلية عند ظهورها له بل له الاحتراز عن شرّ ما قضى الله قبل وقوعه فإذا وقع الأمر فلا يخلو إما أن يكون موافقاً للشرع أو يكون مخالفاً للشرع فإن يكن موافقاً للشرع فلا يخلو إما أن يكون موافقاً لطبعه أو مخالفاً لطبعه فإن يكن موافقاً لطبعه فهو نعمة من الله يجب عليه شكرها وإن يكن مخالفاً لطبعه فيستقبله بالصبر والتسليم والرضى وإن يكن مخالفاً للشرع يجب عليه التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى
177
من غير اعتراض على الله فيما قدّر وقضى وحكم به فإنه حكيم يفعل ما يشاء بحكمته ويحكم ما يريد بعزته انتهى.
يقول الفقير : هذه الآية أصل في باب التسليم وترك الاختيار والاعتراض فإن الخير فيما اختاره الله واختاره رسوله واختاره ورثته الكمل والرسول حق في مرتبة الفرق كما أن الوارث رسول للخلافة الكاملة فكل من الرسول والوارث لا ينطق عن الهوى لفنائه عن إرادته بل هو وحي يوحى وإلهام يلهم فيجب على المريد أن يستسلم لأمر الشيخ المرشد محبوباً أو مكروهاً ولا يتبع هوى نفسه ومقتضى طبيعته وقد قال تعالى : {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة : 216) فيمكن وجدان ماء الحياة في الظلمات {وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة : 216) فقد يجعل في السكر السم ومن عرف أن فعل الحبيب حبيب وأن المبلي ليس لبلائه سواه طبيب لم يتحرك يميناً وشمالاً ورضى جمالاً وجلالاً ، قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
عاشقانرا كردرآتش مى نشاند قهر دوست
تنك شمم كرنظر درشمه كوثر كنم
واعلم أن الفناء عن الإرادة أمر صعب وقد قيل المريد من لا إرادة له يعني لا إرادة له من جهة نفسه فله إرادة من جهة ربه فهو لا يريد إلا ما يريد الله ولصعوبة إفناء الإرادة في إرادة الله وإرادة رسوله وإرادة وارث رسوله بقي أكثر السلاك في حجاب الوجود وغابوا عن الشهود وحرموا من بركة المتابعة ونماء المشايعة.
قال بعض الكبار : القهر عذاب ومن أراد أن يزول عنه حكم هذا القهر فليصحب الحق تعالى بلا غرض ولا شوق بل ينظر في كل ما وقع في العالم وفي نفسه فيجعله كالمراد له فيلتذ به ويتلقاه بالقبول والبشر والرضى فلا يزال من هذه حالته مقيماً في النعيم الدائم لا يتصف بالقهر ولا بالذلة وصاحب هذا المقام يحصل له اللذة بكل واقع منه أو فيه أو من غيره أو في غيره نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل التسليم وأرباب القلب السليم ويحفظنا من الوقوع في الاعتراض والعناد لما حكم وقضى وأراد.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُه أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـالا مُّبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ} .
(7/137)
{وَإِذْ تَقُولُ} .
ـ روي ـ إنه لما نزلت الآية المتقدمة قالت زينب وأخوها عبد الله رضينا يا رسول الله أي : بنكاح زيد فأنكحها عليه السلام إياه وساق إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر وبقيت بالنكاح معه مدة فجاء النبي عليه السلام يوماً إلى بيت زيد لحاجة فأبصر زينب فأعجبه حسنها فوقع في قلبه محبتها بلا اختيار منه والعبد غير ملوم على مثله ما لم يقصد المأثم ونظرة المفاجأة التي هي النظرة الأولى مباحة فقال عليه السلام عند ذلك : "سبحان الله يا مقلب القلوب ثبت قلبي" وانصرف وذلك أن نفسه كانت تمتنع عنها قبل ذلك لا يريدها ولو أرادها لخطبها وسمعت زينب التسبيحة فذكرتها لزيد بعد مجيئه وكان غائباً ففطن ، يعني : (بدانست كه يزى دردل رسول افتاد وبآنكه درحكم ازلى زينب زن رسول باشد الله تعالى محبت زينب دردل رسول افكند ونفرت وكراهت دردل زيد) فأتى رسول الله تلك الساعة فقال : يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي فقال : "ما لك أرأيت منها شيئاً" قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني بلسانها فمنعه عليه السلام من الفرقة وذلك قوله تعالى : {وَإِذْ تَقُولُ} أي : واذكر وقت قولك يا محمد {لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالتوفيق للإسلام الذي هو أجل النعم وللخدمة والصحبة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : بأن أوقعه في معرض هذه
178
الفتنة العظيمة والبلية الجسيمة وقواه على احتمالها وأعانه على التسليم والرضى فيما يجري الله عليه وفيما يحكم به عليه من مفارقة الزوجة وتسليمها إلى رسول الله وبأن ذكر اسمه في القرآن من بين الصحابة وأفرد به {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بحسن التربية والاعتقاق والتبني.
وفي "التأويلات" : بقبول زينب بعد أن أنعمت عليه بإيثارها عليه بقولك : أمسك الخ وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه مولاه عليه السلام وهو أول من أسلم من الموالي وكان عليه السلام يحبه ويحب ابنه أسامة شهد بدراً والخندق والحديبية واستخلفه النبي عليه السلام على المدينة حين خرج إلى بني المصطلق وخرج أميراً في سبع سرايا وقتل يوم مؤتة بضم الميم وبالهمزة ساكنة موضع معروف عند الكرك وقد سبق في ترجمته عند قوله تعالى : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ} في أوائل هذه السورة.
قال في "الإرشاد" : وإيراده بالعنوان المذكور لبيان منافاة حاله لما صدر منه عليه السلام على زيد لا ينافي استحياءه منه في بعض الأمور خصوصاً إذا قارن تعبير الناس ونحوه كما سيجيىء {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (نكاه دار براى خود زن خودرا يعنى زينب) وإمساك الشيء التعلق به وحفظه {وَاتَّقِ اللَّهَ} في أمرها ولا تطلقها ضراراً ، يعني : (ازوى ضرر طلاقش مده) او تعللاً بتكبرها {وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الموصول مفعول تخفي والإبداء الإظهار.
يعنيك (ونكاه داشتى يزى دردل كه الله آثرا يدا خواست كر) وهو علم بأن زيداً سيطلقها وسينكحها يعني إنك تعلم بما أعلمتك أنها ستكون زوجتك وأنت تخفي في نفسك هذا المعنى والله يريد أن ينجز لك وعده ويبدي أنها زوجتك بقوله : {زَوَّجْنَـاكَهَا} وكان من علامات أنها زوجته إلقاء محبتها في قلبه وذلك بتحبيب الله تعالى لا بمحبته بطبعه وذلك ممدوح جداً ومنه قوله عليه السلام : "حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" وإنه لم يقل أحببت ودواعي الأنبياء والأولياء من قبيل الاذن الإلهي إذ ليس للشيطان عليهم سبيل.
قال في "الأسئلة المقحمة" : قد أوحى إليه أن زيداً يطلقها وأنت تزوج بها فأخفى عن زيد سر ما أوحى إليه لأن ذلك السر يتعلق بالمشيئة والإرادة ولا يجب على الرسل الاخبار عن المشيئة والإرادة وإنما يجب عليهم الاخبار والإعلام عن الأوامر والنواهي لا عن المشيئة كما أنه كان يقول لأبي لهب آمن بالله وقد علم أن الله أراد أن لا يؤمن أبو لهب كما قال تعالى : {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (المسد : 3) لأن ذلك الذي يتعلق بعذاب أبي لهب إنما هو من المشيئة والإرادة فلا يجب على النبي إظهاره ولا الإخبار عنه {وَتَخْشَى النَّاسَ} تخاف لومهم وتعبيرهم إياك به ، يعني : (مى ترسى از سرزنش مردم كه كويند زن سررا بخواست).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/138)
وفي "التأويلات النجمية" : أي : تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة بأن يخطر ببالهم نوع إنكار أو اعتراض عليه أو شك في نبوته بأن النبي من تنزه عن مثل هذا الميل وتتبع الهوى فيخرجهم من الإيمان إلى الكفر فكانت تلك الخشية إشفاقاً منه عليهم ورحمة بهم أنهم لا يطيقون سماع هذه الحالة ولا يقدرون على تحملها {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن} وإن كان فيه ما يخشى.
قال الكاشفي : (مقرراست كه حضرت وسالت عليه السلام ترسكار ترين خلق بوده زيرا كه خوف وخشيت نتيجه علمست {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} (فاطر : 28) س بحكم "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم" زهمه عالميان أخشى بود ودر حديث آمده "الخوف رفيقي") :
179
خوف وخشيت نتيجه علمست
هركرا علم بيش خشيت بيش
هركرا خوف شد رفيق رهش
باشد از حمله رهروان دريش
وفي "كشف الأسرار" : إنما عوتب عليه السلام على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له قالت عائشة رضي الله عنها : لو كتم النبي عليه السلام شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية إذ تقول الخ وما نزل على رسول الله آية هي أشد عليه من هذه الآية.
وفي "التأويلات" يشير إلى أن رعاية جانب الحق أحق من رعاية جانب الخلق لأنتعالى في إبداء هذا الأمر وإجراء هذا القضاء حكماً كثيرة فأقصى ما يكون في رعاية جانب الخلق أن لا يضل به بعض الضعفاء فلعل الحكمة في إجراء هذه الحكم فتنة لبعض الناس المستحقين الضلالة والإنكار ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة وهذا كما قال : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء : 60) فالواجب على النبيّ إذا عرض له أمران في أحدهما رعاية جانب الحق وفي الآخر رعاية جانب الخلق أن يختار رعاية جانب الحق على الخلق فإن للحق تعالى في إجراء حكم من أحكامه وأصفاء أمر من أوامره حكماً كثيرة كما قال تعالى في إجراء تزويج النبي عليه السلام بزينب قوله : {لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب : 37) {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا} أي : من زوجه وهي زينب {وَطَرًا} .
قال في "القاموس" : الوطر محركة الحاجة أو حاجة لك فيها همّ وعناية فإذا بلغتها فقد قضيت وطرك.
وفي "الوسيط" معنى قضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء يقال قضى منها وطراً وإذا بلغ ما أراد من حاجة فيها ثم صار عبارة عن الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة والمعنى فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وتقاصرت عنها همته وطلقها وانقضت عدتها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات" أما وطر زيد منها في الصورة استيفاء حظه منها بالنكاح ومطره منها في المعنى شهرته بين الخلق إلى قيام الساعة بأن الله تعالى ذكره في القرآن باسمه دون جميع الصحابة وبأنه آثر النبي عليه السلام على نفسه بإيثار زينب.
وفي "الأسئلة المقحمة" : كيف طلق زيد زوجته بعد أن أمر الله ورسوله بإمساكه إياها والجواب ما هذا للوجوب واللزوم وإنما هو أمر للاستحباب.
{زَوَّجْنَـاكَهَا} هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح وهي بنت خمس وثلاثين سنة والمراد الأمر بتزوجها أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد ويؤيده ما روى أنس رضي الله عنه أنها كانت تفخر على سائر أزواج النبي عليه السلام وتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات ، يعني : (سيد عالم از نزول آيت بخانه زينب آمد بى دستورى وزينب كفت يا رسول الله بى خطبه وبى كواه حضرت فرموده كه) "الله المزوج وجبريل الشاهد" وهو من خصائصه عليه السلام وأجاز الإمام محمد انعقاد النكاح بغير شهود خلافاً لهما قاس الإمام محمد ذلك بالبيع فإن النكاح بيع البضع والثمن المهر فكما أن نفس العقد في البيع لا يحتاج إلى الشهود فكذا في باب النكاح ونظر الإمامان إلى المآل فإنه إذا لم يكن عند الشهود بدون الإعلان فقد يحمل عى الزنى فالنبي عليه السلام شرط ذلك حفظاً عن الفسخ وصوناً للمؤمنين عن شبهة الزنى.
وروي أنها لما اعتدت قال رسول الله لزيد : "ما أجد أحداً أوثق من نفسي منك اخطب لي زينب".
قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فقلت : يا زينب أبشري فإن رسول الله
180
يخطبك ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن زوجناكها فزوجها رسول الله ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار وجعل زيد سفيراً في خطبتها ابتلاء عظيم له وشاهد بين على قوة إيمانه ورسوخه فيه.
اعتقاد من وبيخ سرو دارد محكمى
بيش باشد ازهواى عشق وسودانه كمى
(7/139)
{لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} أي : ضيق ومشقة.
قال في "المفردات" : أصل الحرج مجتمع الشجر وتصور منه ضيق بينها فقيل للضيق حرج وللإثم حرج واللام في لكي هي لام كي دخلت على كي للتوكيد.
وقال بعضهم : اللام جارة لتعليل التزويج وكي حرف مصدري كأن {فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآاـاِهِمْ} في حق تزوج زوجات الذين دعوهم أبناء والأدعياء : جمع دعيّ وهو الذي يدعى ابناً من غير ولادة.
{إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أي : إذا لم يبق لهم فيهن حاجة وطلقوهن وانقضت عدتهن فإن لهم في رسول الله إسوة حسنة.
وفيه دليل على أن حكمه عليه السلام وحكم الأمة سواء إلا ما خصه الدليل.
قال الحسن : كانت العرب تظن أن حرمة المتبني كحرمة الابن فبين الله أن حلائل الادعياء غير محرمة على المتبني وإن أصابوهن أي : وطئوهن بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم بنفس العقد {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} أي : ما يريد تكوينه من الأمور {مَفْعُولا} مكوّناً لا محالة لا يمكن دفعه ولو كان نبياً كما كان تزويج زينب وكانت كالعارية عند زيد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ولذا قال حضرة الشيخ افتاده افندي قدس سره : في اعتقادنا أن زينب بكر كعائشة رضي الله عنها لأن زيداً كان يعرف أنها حق النبي عليه السلام فلم يمسها وذلك مثل آسية وزليخا ولكن عرفان عائشة لا يوصف ويكفينا أن ميله عليه السلام إليها كان أكثر من غيرها ولم تلد أيضاً لأنها فوق جميع التعينات وكان عائشة رضي الله عنها تقول في حق زينب : هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله ما رأيت امرأة قط خيراً في الدين وأتقىوأصدق في حديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة من زينب (وازس درويش نواز ومهماندار وبخشنده بود اورا ام المساكين ميكفتند واول زنى كه بعد ازرسول خدا ازدنيا بيرون شد زينب بود) ماتت بالمدينة سنة عشرين وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودفنت بالبقيع ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة وأبدل الله منها لزيد جارية في الجنة كما قال عليه السلام : "استقبلتني جارية لعساء وقد أعجبتني فقلت لها يا جارية أنت لمن؟ قالت : لزيد بن حارثة" قوله : استقبلتني أي : خرجت من الجنة واستقبلته عليه السلام بعد مجاوزة السماء السابعة ليلة المعراج.
واللعس لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلاً وذلك مستملح قاله في "الصحاح".
وأبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن وهي أنه لما نزل قوله تعالى : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ} وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد ونزع عنه هذا التشريف وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة فصار اسمه يتلى في المحاريب ، وزاد في الآية أن قال : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه أي : بالإيمان فدل على أنه من أهل الجنة علم بذلك قبل أن يموت وهذه فضيلة أخرى.
ثم إن هذا الإيثار الذي نقل عن زيد إنما يتحقق به
181
السالك القوي الاعتقاد الثابت في طريق الرشاد فانظر إلى حال الأصحاب يفتح الله لك الحجاب.
ـ روي ـ أنه عليه السلام آخى بعد الهجرة بين عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين وبين سعد بن الربيع من الأنصار وعند ذلك قال سعد لعبد الرحمن : يا عبد الرحمن إني من أكثر الأنصار مالاً فأنا مقاسمك وعندي امرأتان فأنا مطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال له : بارك الله لك في أهلك ومالك كما في "إنسان العيون" ثم دار الزمان فصار كل أمر معكوساً فرحم الله امرأ نصب نفسه لرفع البدع والهوى وجانب جر الذيل إلى جانب الردى.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآاـاِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا * مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَه سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَا وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/140)
{مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ} أي : ما صح وما استقام في الحكمة أن يكون عليه ضيق فمن زائدة بعد النفي وحرج اسم كان الناقصة {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي : قسم الله له وقدر كتزوج زينب من قولهم فرض له في الديوان كذا ومنه فروض العساكر لأرزاقهم.
{سُنَّةَ اللَّهِ} اسم موضوع موضع المصدر مؤكد لما قبله من نفي الحجر أي : سن الله نفي الحرج سنة أي : جعله طريقة مسلوكة {فِى الَّذِينَ خَلَوْا} مضوا.
قال في "المفردات" : الخلو يستعمل في الزمان والمكان لكن لما تصور في الزمان المضي فسر أهل اللغة قولهم خلا الزمان بقولهم مضى وذهب انتهى.
يقول الفقير : الخلو في الحقيقة حال الزمان والمكان لأن المراد خلوهما عما فيهما بموت ما فيهما فافهم {مِن قَبْلُ} من الأنبياء حيث وسع عليهم في باب النكاح وغيره ولقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولابنه سليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فلك التوسعة في أمر النكاح مثل الأنبياء الماضين {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} (وهست كار خدا) {قَدَرًا مَّقْدُورًا} قضاء مقضياً وحكماً مبتوتاً.
قال في "المفردات" : القدر إشارة إلى ما بين به القضاء والكتابة في اللوح المحفوظ وهو المشار إليه بقوله : "فرع ربك من الخلق" والخلق والأجل والرزق والمقدور إشارة إلى ما يحدث حالاً فحالاً وهو المشار إليه بقوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا قضى أمر نبي أو ولي لم يجعل عليه في ذلك من حرج ولا سبب نقصان وإن كان في الظاهر سبب نقصان ما عند الخلق والذي يجري على الأنبياء والأولياء قضاء مبرم مبني على حكم كثيرة ليس فيه خطأ ولا غلظ ولا عبث.
ير ما كفت خطا برقلم صنع ترفت
آفرين برنظر اك خطا وشش باد
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ} مجرور المحل على أنه صفة للذين خلوا.
ومعناه بالفارسية (آنانكه ميرسانيدند يغامهاى خدارا بامتان خود) والمراد ما يتعلق بالرسالة وهي سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب من خلقه أي : إيصال الخبر من الله إلى العبد {وَيَخْشَوْنَهُ} في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في أمر تبليغ الرسالة حيث لا يقطعون منها حرفاً ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} وفي وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعريض بما صدر عنه عليه السلام من الاحتراز عن لائمة الخلق بعد التصريح في قوله : {وَتَخْشَى النَّاسَ} الآية.
قال بعض الكبار : خشية الأنبياء من العقاب وخشية الأولياء من الحجاب وخشية عموم الخلق من العذاب.
وفي "الأسئلة المقحمة" كيف قال ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله ومعلوم أنهم خافوا غير الله وقد خاف موسى عليه السلام حين قال له :
182
{لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى} (طه : 68) وكذلك قال يعقوب عليه السلام : {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} (يوسف : 13) وكذلك خاف نبينا عليه السلام حين قيل له : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة : 67) وكذلك أخبر الكتاب عن جماعة من الأنبياء أنهم خافوا أشياء غير الله والجواب أن معنى الآية لا يعتقدون أن شيئاً من المخلوقات يستقل بإضرارهم ويستبد بإيذائهم دون إرادة الله ومشيئته لما يعلمون أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره فأراد بالخوف خوف العقيدة والعلم واليقين لا خوف البشرية الذي هو من الطباع الخلقية وخواص البشرية ونتائج الحيوانية {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} محاسباً لعباده على أعمالهم فينبغي أن يحاسب العبد نفسه قبل محاسبة الله إياه ولا يخاف غير الله لا في أمر النكاح ولا في غيره إذا علم أن رضى الله وحكمه فيه.
واعلم أن السواك والتعطر والنكاح ونحوها من سنن الأنبياء عليهم السلام وليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تستمر تلك العبادة في الجنة إلا الإيمان والنكاح.
قال بعض الكبار : من كان أتقى كانت شهوته أشد وذلك أن حرارة الشهوة الحقيقية إنما هي بعد نار العشق التي بعد نور المحبة فانظر كم من فرق بين شهوة أهل الحجاب وشهوة أهل الشهود فعروق أهل الغفلة ممتلئة بالدم وعروق أهل اليقضة ممتلئة بالنور ولا شك أن قوّة النور فوق قوة الدم فنسأل الله الهدي لا الحركة بالهوى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ حكي ـ عن بعض الكبار أنه قال : كنت في مجلس بعض العارفين فتكلم إلى أن قال : لا مخلص لأحد من الهوى ولو كان فلاناً عني به النبي عليه السلام حيث قال : "حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" فقلت له : أما تستحي من الله تعالى فإنه عليه السلام ما قال أحببت بل قال حبب فكيف يلام العبد على ما كان من عند الله بلا اختيار منه قال ثم حصل لي غم وهمّ فرأيت النبي عليه السلام في المنام فقال : لا تغتم فقد كفينا أمره ثم سمعت أنه قتل في طريق ضيعة له.
قال بعض الكبار :
(7/141)
من أراد فهم المعاني الغامضة في الشريعة فليتعمل في تكثير النوافل في الفرائض وإن أمكنه أن يكثر من نوافل النكاح فهو أولى إذ هو أعظم نوافل الخيرات فائدة لما فيه من الازدواج والإنتاج فيجمع بين المعقول والمحسوس فلا يفوته شيء من العلم بالعالم الصادر عن الاسم الظاهر والباطن فيكون اشتغاله بمثل هذه النافلة أتم وأقرب لتحصيل ما يرونه فإنه إذا فعل ذلك أحبه الحق وإذا أحبه صار من أهل الله كأهل القرآن وإذا صار من أهل القرآن كان محلاً للقائه وعرشاً لاستوائه وسماء لنزوله وكرسياً لأمره ونهيه فيظهر له منه ما لم يره فيه مع كونه كان فيه وقال : كنت من أبغض خلق الله للنساء وللجماع في أول دخولي في الطريق وبقيت على نحو ثماني عشرة سنة حتى خفت على نفسي المقت لمخالفة ما حبب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما أفهمني الله معنى حبب علمت أن المراد أن لا يحبهن طبعاً وإنما يحبهن بتحبيب الله فزالت تلك الكراهة عني وأنا الآن من أعظم خلق الله شفقة على النساء لأني في ذلك على بصيرة لا عن حب طبيعي انتهى.
ـ وروي ـ أن جماعة أتوا منزل زكريا عليه السلام فإذا فتاة جميلة قد أشرق لها البيت حسناً قالوا : من أنت؟ قالت : أنا امرأة زكريا فقالوا لزكريا : كنا نرى نبي الله لا يريد الدنيا وقد اتخذت امرأة جميلة فقال : إنما تزوجت امرأة جميلة لأكف بها بصري وأحفظ بها فرجي فالمرأة الصالحة المعينة ليست من الدنيا في الحقيقة ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
183
زن خوب وفرمان بروارسا
كند مرد درويش را ادشا
كراخانه آبادوهمخوابه دوست
خدارابرحمت نظر سوى اوست
و مستور باشد زن خوبروى
بديدار او در بهشتست شوى
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَا وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ} ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
والمختار أنه لا يشترط في الإسلام معرفة أب النبي عليه السلام واسم جده بل يكفي فيه معرفة اسمه الشريف كما في هداية المريدين للمولى أخي لبي يقال فلان محمود إذا حمد ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة كما في "المفردات".
قال الشيخ زكريا في "شرح المقدمة الجزرية" : هو البليغ في كونه محموداً وهو الذي حمدت عقائده وأفعاله وأقواله وأخلاقه سماه به جده عبد المطلب بإلهام من الله في سابع ولادته فقيل له : لِمَ سميت محمداً وليس من أسماء آبائك ولا قومك فقال : رجوت أن يحمد في السماء والأرض وقد حقق الله وجاءه وتفاؤله فكان عليه السلام بخصاله المحبوبة وشمائله المرغوبة محموداً عند الله وعند الملائكة المقربين وعند الأنبياء والمرسلين وعند أهل الأرض أجمعين وإن كفر به بعضهم فإن ما فيه من صفات الكمال محمود عند كل عاقل.
وله ألف اسم كما أنتعالى ألف اسم وجميع أسمائه مشتقة من صفات قامت به توجب له المدح والكمال فله من كل وصف اسم ألا ترى أنه الماحي لأن الله محابه الكفر أي : سورته التي كانت قبل بعثه.
والحاشر لأنه الذي يحشر الناس على قدمه أي : على أثره وبعده.
والعاقب وهو الآتي عقيب الأنبياء.
وأشار بالميم إلى أنه الختام لأن مخرجها ختام المخارج وكذا إلى بعثته عند الأربعين.
قال الإمام النيسابوري كان من الاسم الشريف أربعة أحرف ليوافق اسم الله تعالى كما أن محمد رسول الله اثنا عشر حرفاً مثل لا إله إلا الله وهو من أسرار المناسبة وكذا لفظ أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب لكمال مناسبتهم في أخلاقهم لتلك الحضرة المحمدية ولهذه المناسبة يلتقي نسبهم بنسبه.
فعليّ يلتقي نسبه في الأب الثاني.
وعثمان في الخامس.
وأبو بكر في السابع.
وعمر في التاسع.
ومحمد باعتبار البسط لا بحساب أبجد ثلاثمائة وثلاثة عشر مثل عدد المرسلين فإنك إذا أخذت في بسط الميمين والميم المدغم "م ى م ، حا ، دال يظهر لك العدد المذكور ، قال المولى الجامي :
محمدت ون بلا نهايه زحق
يافت شد نام او ازان مشتق
مى نمايد بشم عقل سليم
حرف حايش عيان ميان دوميم
ون رخ حوركز كناره او
كشته يدا دو كوشواره او
ياد وحلقه ز عنبرين مويش
آشكار از جانب رويش
دال آن كز همه فرودنشت
دل بنازش كرفته برسر دست
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي الحديث : "من ولد له مولود فسماه محمداً حباً لي وتبركاً باسمي كان هو ومولوده في الجنة" "ومن كان له ذو بطن فأجمع أن يسميه محمداً رزقه الله غلاماً".
ومن كان لا يعيش له ولد فجعلعليه أن يسمي الولد المرزوق محمداً عاش" ومن خصائصه البركة في الطعام الذي عليه مسمى باسم محمد وكذا المشاورة ونحوها وينبغي أن يعظم هذا الاسم وصاحبه.
(در مجمع اللطائف
184
(7/142)
آورده كه اياز خاص سرى داشت محمد نام واورا ملازم سلطان محمود ساخته بود روزى سلطان متوجّه طهارت خانه شده فرمودكه سر ايازرا بكوييد تا آب طهارت بيارد اياز اين سخن شنوده در تأمل افتادكه ايا سر من ه كناه كرده كه سلطان نام او برزبان نمى راند سلطان وضو ساته بيرون آمد ودر اياز نكريست اورا انديشه مند ديد رسيدكه سبب اثر ملال كه برجبين تومى بينم يست اياز از روى نياز بموقف عر ض رسانيدكه بنده زاده را بنام نخواند برترسيدم كه مبادا ترك ادبى از صادر شده باشد وموجب انحراف مزاج همايون كشته سلطان تبسمى فرمود وكفت اى اياز دل جمع داركه از وصورتى كه مكروه طبع من باشد صدور نيافته بلكه وضو نداشتم واو محمد نام داشت مراشرم آمد لفظ محمد برزبان من كذرد وقتى كه بى وضو باشم ه اين لفظ نشانه حضرت سيد انام است :
هزار بار بشويم دهن بمشك وكلاب
هنوز نام توبردن ادب نمى دانمخ)
وكان رجل في بني إسرائيل عصى الله مائة سنة ثم مات فأخذوه فألقوه في مزبلة فأوحى الله تعالى إلى موسى أن أخرجه وصل عليه قال : يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه عصاك مائة سنة فأوحى الله إليه أنه هكذا إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد قبله ووضعه على عينيه فشكرت له ذلك وغفرت له وزوجته سبعين حوراء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال أهل التفسير لما نكح النبي عليه السلام زينب بعد انقضاء عدتها استطال لسان المنافقين وقالوا : كيف نكح زوجة ابنه لنفسه وكان من حكم العرب أن من تبنى ولداً كان ولده من صلبه في التوريث وحرمة نكاح امرأته على الأب المتبني وأراد الله أن يغير هذا الحكم فأنزل {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ} {أَبَآ أَحَدٍ} (درهي كس){مِّن رِّجَالِكُمْ} (از مردان شما) على الحقيقة يعني بالنسب والولادة حتى يثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ولا ينتقض عمومه بكونه أباً للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا الرجال لأن الرجل هو الذكر البالغ ، يعني : (ايشان بمبلغ رجال نرسيدند اورا في الحقيقة بسر صلبى نيست كه ميان وى وآن سر حرمت مصاهرت باشد) ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين رضي الله عنهما لأنهما ابنا النبي عليه السلام بشهادة لفظه عليه السلام على أنهما أيضاً لم يكونا رجلين حينئذٍ بل طفلين أو المقصود ولده خاصة لا ولد ولده.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كان الله عالماً في الأزل بأن لا يكون لذكور أولاد رسوله نسل ولا عقب وإنما يكون نسبه لإناث أولاده دون ذكرانهم فقال : {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ} فعلى هذا كان الخبر من قبيل معجزاته على صدقه فإن المخبر عنه قد حصل كما أخبر وقد صدق الخبر انتهى وأبناء النبي عليه السلام على الصحيح ثلاثة : القاسم وبه يكنى إذ هو أول أولاده عاش سنتين ومات قبل البعثة بمكة ، وعبد الله وهو الطيب الطاهر مات في الرضاع بعد البعثة ودفن بمكة وهما من خديجة رضي الله عنها ، وإبراهيم من مارية القبطية ولد في ذي الحجة في ثمان من الهجرة عق عنه عليه السلام بكبشين يوم سابع ولاده وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين وأمر بشعره فدفن في الأرض ومات في الرضاع وهو ابن ثمانية عشرة شهراً ودفن بالبقيع وجلس عليه السلام على شفير
185
القبر ورش على قبره ماء وعلم على قبره بعلامة ولقنه وقال : "يا بني قل الله ربي ورسول الله أبي والإسلام ديني" ومن ههنا ذهب بعضهم إلى أن الأطفال يسألون في القبر وأن العقل يكمل لهم فيسن تلقينهم وذهب جمع إلى أنهم لا يسألون وإن السؤال خاص بالمكلف.
قال السيوطي : لم يثبت في التلقين حديث صحيح ولا حسن بل حديثه ضعيف بإتفاق جمهور المحدثين ولهذا ذهب جمهور الأمة إلا أن التلقين بدعة حسنة وآخر من أفتى بذلك عز الدين بن عبد السلام وإنما استحبه ابن الصلاح وتبعه النووي نظراً إلى أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال وحينئذٍ فقول الإمام السبكي حديث التلقين أي : تلقين النبي عليه السلام لابنه ليس له أصل أي : أصل صحيح أو حسن كذا في "إنسان العيون" وبقية الكلام في السؤال والتلقين سبق في سورة ابراهيم عليه السلام عند قوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} (إبراهيم : 27) الآية {وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ} الرسول والمرسل بمعنى واحد من أرسلت فلاناً في رسالة فهو مرسل ورسول.
قال القهستاني الرسول فعول مبالغة مفعل بضم الميم وفتح العين بمعنى ذي رسالة اسم من الإرسال وفعول هذا لم يأت إلا نادراً وعرفاً هو من بعث لتبليغ الأحكام ملكاً كان أو إنساناً بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان وهذا الفرق هو المعول عليه انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/143)
والمعنى ولكن كان رسول الله وكل رسول الله أبو أمته لكن لا حقيقة بل بمعنى أنه شفيق ناصح لهم وسبب لحياتهم الأبدية واجب التوقير والطاعة له ولذا حرمت أزواجه عليه السلام على أمته حرمة أمهاتهم فإنه من باب التعظيم وما زيد بن حارثة إلا واحد من رجالكم الذين لا ولادة بينهم وبينه عليه السلام فحكمه حكمهم وليس للتبني والادعاء حكم سوى التقريب والاختصاص.
قال بعضهم : لم يسمه لنا أباً لأنه لو سماه أبا لكان يحرم نكاح أولاده كما حرمت على الأمة نساؤه لكونهن أمهاتها أو لأنه لو سماه أباً لكان يحرم عليه أن يتزوج من نساء أمته كما يحرم على الأب أن يتزوج بابنته وتزوج بنات أمته ليس بحرام.
قال في "كشف الأسرار" : (هر ند اسم درى ازوبيفكند اما از همه دران مشفق ومهر بانتربود قال عليه السلام : "أنا لكم مثل الوالد لولده" كفته اند شفقت او برامت از شفقت دران افزون بود اما اورا درامت نخوانند ازبهر آنكه درحكم ازلى رفته كه روز قيامت دران عرصه كبرى كه سرا رده قهارى بزنند وبساط عظمت بكسترانند وترازوى عدل بياويزند وزندان عذاب از حجاب بيرون آرند جانها بكلو رسد زبانها فصيح كردد وعذرها همه باطل شود نسبها بريده كردد دران همه از فرزندان بكريزند نانكه رب العزت كفت {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّه وَأَبِيهِ * وَصَـاحِبَتِه وَبَنِيهِ} (عبس : 34 ـ 36) آدم كه در همكنانست فرايش آيد بارخدايا آدم را بكذارد بافر زندان تودان كه ه كنى نوح هم آن كويد ابراهيم هم آن كويد وموسى وعيسى وديكر يغمبران هم آن كويند از سياست قيامت وفزع اوهمه بكريزند وبخود درماند ندوبافر زندان نبردازند وكويند "نفسي نفسي" خداوندا مارا برهان وباقر زندان هره خواهى كن ومصطفى عربي عليه السلام رحمت وشفقت بكشاده كه بارخشايا امت من مشتى ضعيفان وبياركانند طاقت عذاب وعقاب توندارندبرايشان ببخشاى ورحمت كن وبامحمد هره خواهى ميكن بحكم آنكه رازل رفته كه دران ازفرزندان
186
بكريزند آن روز اورا در نخوانند تا ازيشان نكريزد وازبهر ايشان شفاعت كند وديكر اورا در نخوانندكه اكر در بودى كواهى در مرسر قبول نكند در شرع واوصلوات الله عليه درقيامت بعدالت امت كواهى خواهدداد) وذلك قوله تعالى : {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة : 143)
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} قرى عاصم بفتح التاء وهو آلة الختم بعمنى ما يختم به كالطابع بمعنى ما يطبع به.
والمعنى وكان آخرهم الذي ختموا به ، وبالفارسية : (مهر يغمبران يعنى بدو مهر كرده شد درنبوت ويغمبرانرا بدو ختم كرده اند) وقرأ الباقون بكسر التاء أي : كان خاتمهم أي : فاعل الختم بالفارسية (مهر كننده يغمبرانست) وهو بالمعنى الأول أيضاً.
وفي "المفردات" : لأنه ختم النبوة أي : تممت بمجيئه وأياً ما كان فلو كان له ابن بالغ لكان نبياً ولم يكن هو عليه السلام خاتم النبيين كما يروى أنه في ابنه ابراهيم "لو عاش لكان نبياً" وذلك لأن أولاد الرسل كانوا يرثون النبوة قبله من آباهم وكان ذلك من امتنان الله عليهم فكانت علماء أمته ورثته عليه السلام من جهة الولاية وانقطع إرث النبوة بختميته ولا يقدح في كونه خاتم النبيين نزول عيسى بعده لأن معنى كونه خاتم النبيين أنه لا ينبأ أحد بعده كما قال لعلي رضي الله عنه : "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" وعيسى ممن تنبأ قبله وحين ينزل إنما ينزل على شريعة محمد عليه السلام مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته فلا يكون إليه وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة رسول الله.
فإن قلت : قد روى أنه عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويزيد في الحلال ويرفع الجزية عن الكفرة فلا يقبل إلا الإسلام.
قلت : هذه من أحكام الشريعة المحمدية لكن ظهورها موقت بزمان عيسى وبالجملة قوله : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم لأن النبي الذي بعده نبي يجوز أن يترك شيئاً من النصيحة والبيان لأنها مستدركة من بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى بهم من كل الوجوه.
شمسه نه مسند وهفت اختران
ختم رسل خواجه يغمبران
(نظم)†
احمد مرسل كه نوشته قلم
حمد بنام وى وحم هم
و شده او مظهر الله هاد
درره ارشاد وجودش نهاد
جمله اسباب هدى از خدا
كرد بتقرير بديعش ادا
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/144)
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي لشأنه ولا يعلم أحد سواه ذلك.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : هي نص على أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله فمن رحمة الله بالعباد إرسال محمد إليهم ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له وقد أخبر الله في كتابه ورسوله في السنة المتواترة عن أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده كذاب أفاك دجال ضال مضل ولو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم
187
والنيرنجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى سبحانه على يدي الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله تعالى وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب ما جاء بها انتهى.
ولما نزل قوله تعالى : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} استغرب الكفار كون باب النبوة مسدوداً فضرب النبي عليه السلام لهذا مثلاً ليتقرر في نفوسهم وقال : "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".
قال في "بحر الكلام" : وصنف من الروافض قالوا : بأن الأرض لا تخلو عن النبي والنبوة صارت ميراثاً لعلي وأولاده ويفرض على المسلمين طاعة علي وعلى كل من لا يرى إطاعته يكفر.
وقال أهل السنة والجماعة : لا نبي بعد نبينا لقوله تعالى : {وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} وقوله عليه السلام : "لا نبي بعدي" ومن قال بعد نبينا نبي يكفر لأنه أنكر النص وكذلك لو شك فيه لأن الحجة تبين الحق من الباطل.
ومن ادعى النبوة بعد موت محمد لا يكون دعواه إلا باطلاً انتهى.
وتنبأ رجل في زمن أبي حنيفة وقال : امهلوني حتى أجيء بالعلامات فقال أبو حنيفة : من طلب منه علامة فقد كفر لقوله عليه السلام : "لا نبي بعدي" كذا في مناقب الإمام.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "الفتوحات المكية" : وإنما لم يعطف المصلي السلام الذي سلم به على نفسه بالواو على السلام الذي سلم به على نبيه أي : لم يقل والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين بعد قوله السلام عليك أيها النبي لأنه لو عطفه عليه وقال والسلام علينا على نفسه من جهة النبوة وهو باب قد سده الله كما سد باب الرسالة عن كل مخلوق بمحمد إلى يوم القيامة وتعين بهذا أنه لا مناسبة بيننا وبين رسول الله فإنه في المرتبة التي لا ينبغي لنا فابتدأنا بالسلام علينا في طورنا من غير عطف والمقام المحمدي ممنوع دخوله لنا وغاية معرفتنا بالنظر إليه كما تنظر الكواكب في السماء وكما ينظر أهل الجنة السفلى إلى من هو في عليين.
وقد وقع للشيخ أبي يزيد البسطامي في مقام النبي قدر خرم إبرة تجلياً لا دخولاً فاحترق.
وفي "الفصوص" وشرحه للجامي لا نبي بعده مشرعاً أو مشرعاً له والأول هو الآتي بالأحكام الشرعية من غير متابعة لنبي آخر قبله كموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام والثاني هو المتبع لما شرعه له النبي المقدم كأنبياء بني إسرائيل إذ كلهم كانوا داعين إلى شريعة موسى فالنبوة والرسالة منقطعتان عن هذا الموطن بانقطاع الرسول الخاتم فلم يبق إلا النبوة اللغوية التي هي الأنباء عن الحق وأسمائه وصفاته وأسرار الملكوت والجبروت وعجائب الغيب ويقال لها الولاية وهي الجهة التي تلي الحق كما أن النبوة هي الجهة التي تلي الحق فالولاية باقية دائمة إلى قيام الساعة.
يقول الفقير : كان له عليه السلام نوران : نور النبوة ، ونور الولاية ، فلما انتقل من هذا الموطن بقي نور النبوة في الشريعة المطهرة وهي باقية فكأن صاحب الشريعة حي بيننا لم يمت وانتقل نور الولاية إلى باطن قطب الأقطاب يعني ظهر فيه ظهوراً تاماً فكان له مرآة وهو واحد في كل عصر ويقال له قطب الوجود وهو مظهر التجلي
188
الحقي.
وأما قطب "الإرشاد" فكثير وهم مظاهر التجلي العيني.
قال في "هدية المهديين" : أما الإيمان بسيدنا محمد عليه السلام فإنه يجب بأنه رسولنا في الحال وخاتم الأنبياء والرسل فإذا آمن بأنه رسول ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/145)
وقال في "الأشباه" في كتاب السر : إذا لم يعرف أن محمداً عليه السلام آخر الأنبياء فليس بمسلم لأنه من الضروريات.
وفي الآية إشارة إلى قطع نسبه عن الخلق لأنه نفي الأبوة لرجال الناس وإلى إثبات نسبه لأولاده وآله ففي قوله : {مِّن رِّجَالِكُمْ} تشريف لهم وإنهم ليسوا كرجالهم بل هم المخصوصون بزيادة الأنعام لا ينقطع حسبهم ونسبه كما قال عليه السلام : "كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي" أي : فإنه يختم باب التناسل برجل من أهل البيت من صلب المهدي خاتم الخلافة العامة وخاتم الولاية الخاصة ولا يلزم من ذلك أن يكون منهم أنبياء ولو جاء بعده نبي لجاء علي رضي الله عنه لأنه كان منه عليه السلام بمنزلة هارون من موسى فإذا لم يكن هو نبياً لم يكن الحسنان أيضاً نبيين لأنهما لم يكونا أفضل من أبيهما.
قال بعض الكبار : الحسب في الحقيقة الفقر والنسب التقوى فمن أراد أن يرتبط برسول الله وأن يكون من آله المقبولين فليرتبط بهذين ، (درعيون الاجوبه آورده كه صحت هر كتابى بمهراوست حق تعالى يغمبررا مهر كفت تا دانند كه تصحيح دعوت محبت الهي جز بمتابعت حضرت رسالتناهى نتوان كرد {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى} (آل عمران : 31) وشرف بزركوارى كتاب بمهر اوست شرف جمله أنبياء نيز بدان حضر تست وشاهد هر كتاب مهر اوست س شاهد همه در محكمه قيامت او خواهد بود {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـاؤُلاءِ} (النحل : 89) وون كتاب را مهر كردند كتاب درجهان باقى شد ون نبوت بدان حضرت سمت اختتام يافت درنبوت بسته كشت وديكر ون ازهمه انبيا بمهر مخصوص بختميت ايشان نيز اختصاص يافت) ، وفي "المثنوي" :
بهر اين خاتم شده است اوكه بجود
مثل او نى بود ونى خواهند بود
ونكه درصنعت بود استاد دست
نى تو كويى ختم صنعت برتو است
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال في "حل الرموز" : الختم إذا كان على الكتاب لا يقدر أحد على فكه كذلك لا يقدر أحد أن يحيط بحقيقة علوم القرآن دون الخاتم وما دام خاتم الملك على الخزانة لا يجسر أحد على فتحها ولا شك أن القرآن خزانة جميع الكتب الإلهية المنزلة من عند الله ومجمع جواهر العلوم الإلهية والحقائق اللدنية فلذلك خص به خاتم النبيين محمد عليه السلام ولهذا السر كان خاتم النبوة على ظهره بين كتفيه لأن خزانة الملك تختم من خارج الباب لعصمة الباطن وما في داخل الخزانة.
وفي الخبر القدسي : "كنت كنزاً مخفياً" فلا بد للكنز من المفتاح والخاتم فسمي عليه السلام بالخاتم لأنه خاتمه على خزانة كنز الوجود وسمي بالفاتح لأنه مفتاح الكنز الأزلي به فتح وبه ختم ولا يعرف ما في الكنز إلا بالخاتم الذي هو المفتاح قال تعالى : "فأحببت أن أعرف" فحصل العرفان بالفيض الحبي على لسان الحبيب ولذلك سمي الخاتم حبيب الله لأن أثر الختم على كنز الملك صورة الحب لما في الكنز (كفته اند معنى خاتم النبيين آنست كه رب العزة نبوة همه انبيا جمع كرد ودل مصطفى عليه السلام را معدن آن كرد ومهرنبوت
189
(7/146)
بران نهاد تا هي دشمن بموضع نبوت راه نيافت نه هواى نفس نه وسوسه شيطان ونه خطرات مذمومه وديكر يغمبرانرا اين مهر نبوت نبود لا جرم از خطرات وهواجس امين نبودند س رب العالمين كمال شرف مصطفارا آن مهركه در دل وى نهاد نكذاشت تا درميان دو كتف وى آشكارا كرد تاهركسى كه نكرستى آنرا ديدى همو خانه كبوترى).
وفي صفاته عليه السلام : بين كتفيه خاتم النبوة ووجه كونه بين كتفيه يعرف مما نقله الإمام الدميري في "حياة الحيوان" أن بعض الأولياء سأل الله تعالى أن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه الحق تعالى هيكل الإنسان في صورة بللور وبين كتفيه شامة سوداء كالعش والوكر فجاء الخناس يتجسس من جميع جوانبه وهو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل فجاء من بين الكتفين فأدخل خرطومه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر الله فخنس وراءه ولذلك سمي بالخناس لأنه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب وكان خاتمه مثل زرّ الحجلة وهو طائر على قدر الحمامة أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر.
قال الترمذي وزرّها بيضها.
قال الدميري والصواب حجلة السرير واحدة الحجال وزرّها الذي يدخل في عروتها وكان حول ذلك الخاتم شعرات مائلة إلى الخضرة مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله أو محمد نبي أمين أو غير ذلك كما قال في "السبعيات" : كان خاتم النبوة "بتخيخ هيصور توجه حيث شئت فإنك منصور" والتوفيق بين الروايات بتعدد الخطوط وتنوعها بحسب الحالات والتجليات أو بالنسبة إلى أنظار الناظرين ولكون ما بين الكتفين مدخل الشيطان كان عليه السلام يحتجم بين كتفيه ويأمر بذلك ووصاه جبريل بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري وسوسته مجرى الدم وعصم عليه السلام من وسوسته لقوله : "أعانني الله عليه فأسلم" أي : بالختم الإلهيّ وما أسلم قرين آدم فوسوس إليه لذلك.
وفي "سفر السعادة" : أن النبي عليه السلام لما سحره اليهوديّ ووصل المرض إلى الذات المقدسة النبوية أمر بالحجامة على قبة رأسه المباركة واستعمال الحجامة في كل متضرر في السحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة ومن لا حظ له في الدين والإيمان يشكل هذا العلاج وفي الحديث : "الحجامة في الرأس شفاء من سبع" من الجنون ، والصداع ، والجذام ، والبرص ، والنعاس ، ووجع الضرس ، وظلمة يجدها في عينيه" والحجامة في وسط الرأس وكذا بين الكتفين نافعة.
وتكره في نقرة القفاء فإنها تورث النسيان.
قال بعضهم : الحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد وروي أنه عليه السلام ما شكا إليه رجل وجعاً في رأسه إلا قال : "احتجم" ولا وجعاً في رجليه إلا قال : "أخضبه" وخير أيام الحجامة يوم الأحد والإثنين.
وجاء في بعض الروايات النهي عن يوم الأحد واختار بعضهم يوم الثلاثاء وكرهه بعضهم وتكره يوم السبت والأربعاء إلا أن يكون قد غلب عليه الدم وخير أزمانها الربيع بعد نصف الشهر في السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين فالأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم وتكره في المحاق وهو ثلاثة أيام من آخر الشهر ولا يستحب أن يحتجم في أيام الصيف في شدة الحر ولا في شدة البرد في أيام الشتاء وخير أوقاتها من لدن طلوع الشمس إلى وقت الضحى وتستحب الحجامة على الريق فإنها شفاء
190
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وبركة وزيادة في العقل والحفظ وعلى الشبع داء إلا إذا كان به ضرر فليذق أولاً شيئاً قليلاً ثم ليحتجم وإذا أراد الحجامة يستحب أن لا يقرب النساء قبل ذلك بيوم وليلة وبعده مثل ذلك ولا يدخل في يومه الحمام وإذا احتجم أو افتصد لا ينبغي أن يأكل على أثره مالحاً فإنه يخاف منه القروح أو الجرب ولا يأكل رأساً ولا لبناً ولا شيئاً مما يتخذ من اللبن ويستحب على أثره الخل ليسكن ما به ثم يحسو شيئاً من المرقة ويتناول شيئاً من الحلاوة إن قدر عليه كما في "بستان العارفين" والله الشافي وهو الكافي.
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا * يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} .
(7/147)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} بما هو أهله من التهليل والتحميد والتكبير ونحوها.
والذكر إحضار الشيء في القلب أو في القول وهو ذكر عن نسيان وهو حال العامة أو إذامة الحضور والحفظ وهو حال الخاصة إذ ليس لهم نسيان أصلاً وهم عند مذكورهم مطلقاً {ذِكْرًا كَثِيرًا} في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء وفي عموم الأمكنة براً وبحراً سهلاً وجبلاً وفي كل الأحوال حضراً وسفراً صحة وسقماً سراً وعلانية قياماً وقعوداً وعلى الجنوب وفي الطاعة بالإخلاص وسؤال القبول والتوفيق وفي المعصية بالامتناع منها وبالتوبة والاستغفار وفي النعمة بالشكر وفي الشدة بالصبر فإنه ليس للذكر حد معلوم كسائر الفرائض ولا لتركه عذر مقبول إلا أن يكون المرء مغلوباً على عقله.
وأحوال الذاكرين متفاوتة بتفاوت أذكارهم.
فذكر بعضهم بمجرد اللسان بدون فكر مذكوره ومطالعه آثاره بعقله وبدون حضور مذكوره ومكاشفة أطواره بقلبه وبدون أنس مذكوره ومشاهدة أنواره بروحه وبدون فنائه في مذكوره ومعاينة أسراره بسره.
وهذا مردود مطلقاً.
وذكر بعضهم باللسان والعقل فقد يذكر بلسانه ويتفكر مذكوره ويطالع آثاره بعقله لكن ليس له الحضور والإنس والفناء المذكور وهو ذكر الأبرار مقبول بالنسبة إلى الأول.
وذكر بعضهم باللسان والعقل والقلب فقط بدون الإنس والفناء المذكور وهو ذكر أهل البداية من المقربين مقبول بالنسبة إلى ذكر الأبرار وما تحته.
وذكر بعضهم باللسان والعقل والقلب والروح والسر جميعاً وهو ذكر أرباب النهاية من المقربين من الأنبياء والمرسلين والأولياء الأكملين وهو مقبول مطلقاً وللإرشاد إلى هذه الترقيات قال عليه السلام : "إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد" قيل : يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال : "تلاوة كتاب الله وكثرة ذكره" فبكثرة الذكر يترقى السالك من مرتبة اللسان إلى ما فوقها من المراتب العالية ويصقل مرآة القلب من ظلماتها وأكدارها.
ثم إن ذكر الله وإن كان يشتمل الصلاة والتلاوة والدراسة ونحوها إلا أن أفضل الأذكار لا إله إلا الله فالاشتغال به منفرداً مع الجماعة محافظاً على الآداب الظاهرة والباطنة ليس كالاشتغال بغيره.
(سلمى كويد مراد از ذكر كثير ذكر دلست ه دوام ذكر بزبان ممكن نيست).
وقال بعضهم : الأمر بالذكر الكثير إشارة إلى محبة الله تعالى يعني أحبوا الله لأن النبي عليه السلام قال : من أحب شيئاً أكثر من ذكره (نشان دوستى آنست كه نكذاردكه زبان از ذكر دوست يا دل ازفكر او خالى ماند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
درهي مكان نيم زفكرت خالى
درهي زمان نيم زذكرت عافل
فأوجب الله محبته بالإشارة في الذكر الكثير وإنما أوجبها بالإشارة دون العبارة الصريحة
191
لأن أهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحر تكفيه الإشارة وإنما لم يصرح بوجوب المحبة لأنها مخصوصة بقوم دون سائر الخلق كما قال : {فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) فعلى هذا بقوله : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) يشير إلى أحبوني أحببكم :
بدرياى محبت آشنا باش
صدف سان معدن در صفاباش
(7/148)
{وَسَبِّحُوهُ} ونزهوه تعالى عما لا يليق به.
قال في "المفردات" : السبح المر السريع في الماء أو في الهواء والتسبيح تنزيه الله وأصله المر السريع في عبادة الله وجعل عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أي : أول النهار وآخره وقد يذكر الطرفان ويفهم منهما الوسط فيكون المراد سبحوه في جميع الأوقات خصوصاً في الوقتين المذكورين المفضلين على سائر الأوقات لكونهما مشهودين على ما دل عليه قوله عليه السلام : "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" وإفراد التسبيح من بين الأذكار لكونه العمدة فيها من حيث أنه من باب التحلية وفي الحديث : "أربع لا يمسك عنهن جنب سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر" فإذا قالها الجنب فالمحدث أولى فلا منع من التسبيح على جميع الأحوال إلا أن الذكر على الوضوء والطهارة من آداب الرجال.
وفي "كشف الأسرار" : (وسبحوه أي : صلوا به بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة العصر) أين تفسير موافق آن خبرست كه مصطفى عليه السلام كفت "من استطاع منكم أن لا يغلب على صلاة قبل طلوع الشمس ولا غروبها فليفعل" ميكويد هركه تواند ازشماكه مغلوب كارهاً وشغل دنيوي نكردد برنماز بامداديش از برآمدن آفتاب ونماز ديكر يش ازفروشدن آفتاب بانين كند اين هردو نماز بذكر مخصوص كردد ازبهر آنكه بسيار افتد مردم را اين دو وقت تقصير كردن درنماز وغافل بودن ازان اما نماز بامداد بسبب خواب ونماز ديكر بسبب امور دنيا ونيز شرف اين دونماز درميان نمازها يداست نماز بامداد شهود فرشتكانست لقوله تعالى : {إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء : 78) يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار (ونماز ديكر نماز وسطى است كه رب العزة كفت) {حَـافِظُوا عَلَى} وفي الحديث "ما عجت الأرض إلى ربها من شيء كعجيجها من دم حرام أو غسل من زنى أو نوم عليها قبل طلوع الشمس" والله تعالى يقسم الأرزاق وينزل البركات ويستجيب الدعوات فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس فلا بد من ترك الغفلة في تلك الساعة الشريفة وفي الحديث : "من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" ومن هنا لم يزل الصوفية المتأدبون يجتمعون على الذكر بعد صلاة الصبح إلى وقت صلاة الإشراق فللذكر في هذا الوقت أثر عظيم في النفوس وهو أولى من القراءة كما دل عليه قوله عليه السلام : "ثم قعد يذكر الله" على ما في "شرح المصابيح" ويؤيده ما ذكر في "القنية" من أن الصلاة على النبي عليه السلام والدعاء والتسبيح أفضل من قراءة القرآن في الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وذكر في "المحيط" أنه يكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى صلاته وقيل بعد صلاة الفجر أيضاً إلى طلوع الشمس وقيل إلى ارتفاعها وهو كمال العزيمة.
قال بعض الكبار : إذا قارب
192
طلوع الشمس يبتدىء بقراءة المسبعات وهي من تعليم الخضر عليه السلام علمها ابراهيم التيمي وذكر أنه تعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينال بالمداومة عليها جميع المتفرق في الأذكار والدعوات وهي عشرة أشياء : سبعة سبعة الفاتحة والمعوذتان وقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وآية الكرسي وسبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر والصلاة على النبي عليه السلام وآله بأن يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم والاستغفار بأن يقول اللهم اغفر لي ولوالديّ ولجميع المؤمنين والمؤمنات وقوله سبعاً اللهم افعل بنا وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا وبهم يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رؤوف رحيم.
روي أن إبراهيم التيمي لما قرأ هذه بعد أن تعلمها من الخضر رأى في المنام أنه دخل الجنة ورأى الملائكة والأنبياء وأكل من طعام الجنة ومكث أربعة أشهر لم يطعم لكونه أكل من طعام الجنة ويلازم الذاكر موضعه الذي صلى فيه مستقبل القبلة إلا أن يرى انتقاله إلى زاوية فإنه أسلم لدينه كيلا يحتاج إلى حديث أو نحوه مما يكره في ذلك الوقت فإن حديث الدنيا ونحوه يبطل ثواب العمل وشرف الوقت فلا بد من محافظة اللسان عن غير ذكر الله ومحافظة القلب عن غير فكره فإن اللسان والقلب إذا لم يتوافقاً كان مجرد ولولة الواقف على الباب وصوت الحارص على السطح ، وفي "المثنوي" :
ذكر آرد فكررا دراهتزاز
ذكررا خورشيد اين افسرده ساز
اصل خود جذبه است ليك اى خواجه تاش
كار كن موقوف آن جذبه مباش
زانكه ترك كار ون نازى بود
نازكى درخورو جانبازى بود
نى قبول انديش ونى رد اي غلام
امرراو نهى را مى بين مدام
مرغ جذبه ناكهان رد زعش
ون بديدى صبح شمع آنكه بكش
شمها ون شد كذاره نوراوست
مغزها مى بيند اودر عين وست
بيند اندر ذره خورشيد بقا
بيند اندر قطره كل بحررا
نسأل الله الحركات التي تورث البركات إنه قاضي الحاجات.
(7/149)
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائكَتُه لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِا وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{هُوَ الَّذِى} (اوست آن خداونديكه) {يُصَلِّى عَلَيْكُمْ} يعتني بكم بالرحمة والمغفرة والتزكية (والاعتناء : عنايت ورعايت داشتن) {وَمَلَائكَتُهُ} عطف على المستكن في يصلي لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل أي : ويعتني ملائكته بالدعاء والاستغفار فالمراد بالصلاة المعني المجازي الشامل للرحمة والاستغفار وهو الاعتناء بما فيه خيرهم وصلاح أمرهم.
وعن السدي قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : أيصلي ربنا فكبر هذا الكلام عليه فأوحى الله إليه أن قل لهم إني أصلي وإن صلاتي رحمتي التي تطفىء غضبي وقيل له عليه السلام ليلة المعراج : "قف يا محمد فإن ربك يصلي" فقال عليه السلام : إن ربي لغني عن أن يصلي فقال تعالى : "أنا الغني عن أن أصلي لأحد وإنما أقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي اقرأ يا محمد هو الذي يصلي عليكم وملائكته الآية فصلاتي رحمة لك ولأمتك" فكانت هذه الآية إلى قوله : رحيماً مما نزلت بقاب قوسين بلا وساطة جبريل عليه السلام.
وفي رواية لما وصلت إلى السماء السابعة قال لي جبريل : رويداً أي : قف
193
قليلاً فإن ربك يصلي قلت : أهو يصلي؟ قال : نعم قلت : وما يقول؟ قال : "سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي".
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنكم إن تذكروني بذكر محدث فإني قد صليت عليكم بصلاة قديمة لا أول لها ولا آخر وإنكم لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أن محبتي لو لم تكن سابقة على محبتكم لما هديتم إلى محبتي وأما صلاة الملائكة فإنما هي دعاء لكم على أنهم وجدوا رتبة الموافقة مع الله في الصلاة عليكم ببركتكم ولولا استحقاقكم لصلاة الله عليكم لما وجدوا هذه الرتبة الشريفة.
وفي "عرائس البقلى" صلوات الله اختياره للعبد في الأزل بمعرفته ومحبته فإذا خص وجعل زلاته مغفورة وجعل خواص ملائكته مستغفرين له لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه لاشتغاله بالله وبمحبته.
قال أبو بكر بن طاهر : صلوات الله على عبده أن يزينه بأنوار الإيمان ويحليه بحلية التوفيق ويتوجه بتاج الصدق ويسقط عن نفسه الأهواء المضلة والإرادات الباطلة ويجعل له الرضى بالمقدور ، قال الحافظ :
رضا بداده بده وزجبين كره بكشاى
كه برمن وتو در اختيار نكشا دست
{لِيُخْرِجَكُم} الله تعالى بتلك الصلاة والعناية وإنما لم يقل ليخرجاكم لئلا يكون للملائكة منة عليهم بالإخراج ولأنهم لا يقدرون على ذلك لأن الله هو الهادي في الحقيقة لا غير {مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} الظلمة عدم النور ويعبر بها عن الجهل والشرك والفسق ونحوها كما يعبر بالنور عن أضدادها أي : من ظلمات الجهل والشرك والمعصية والشك والضلالة والبشرية وصفاتها والخلقية الروحانية إلى نور العلم والتوحيد والطاعة واليقين والهدي والروحانية وصفاتها والربوبية بجذبات تجلي ذاته وصفاته.
والمعنى برحمة الله وبسبب دعاء الملائكة فزتم بالمقصود ونلتم الشهود ونورتم بنور الشريعة وتحققتم بسر الحقيقة.
وقال الكاشفي : (مراد از اخراج ادامت واستقامت است بر خروج ه دروقت صلاة خدا وملائكه بر ايشان در ظلمات نبوده اند) {وَكَانَ} في الأزل قبل إيجاد الملائكة المقربين {بِالْمُؤْمِنِينَ} بكافتهم قبل وجوداتهم العينية {رَّحِيمًا} ولذلك فعل بهم ما فعل من الاعتناء بصلاحهم بالذات وبواسطة الملائكة فلا تتغير رحمته يتغير أحوال من سعد في الأزل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
كرد عصيان رحمت حق را نمى آردبشور
مشروب دريا نكردد تيره ازسيلابها
ولما بين عنايته في الأولى وهي هدايته إلى الطاعة ونحوها بين عنايته في الآخرة فقال :
{تَحِيَّتُهُمْ} من إضافة المصدر إلى المفعول أي : ما يحيون به.
والتحية الدعاء بالتعمير بأن يقال : حياك الله أي : جعل لك حياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة إما لدنيا وإما لآخرة {يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} يوم لقائه تعالى عند الموت أو عند البعث من القبور أو عند دخول الجنة {سَلَـامٌ} تسليم عليهم من الله تعظيماً لهم :
خوشست ازتوسلامى بما در آخر عمر
ونامه رفت باتمام والسلام خوشست
أومن الملائكة بشارة لهم بالجنة أو تكرمة لهم كما في قوله تعالى : {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23 ـ 24) أو إخبار بالسلامة من كل مكروه وآفة وشدة.
وعن أنس رضي الله عنه
194(7/150)
عن النبي عليه السلام : "إذا جاء ملك الموت إلى وليّ الله سلم عليه وسلامه عليه أن يقول : السلام عليك يا ولي الله قم فاخرج من دارك التي خربتها إلى دارك التي عمرتها فإذا لم يكن ولياًقال له : قم فأخرج من دارك التي عمرتها إلى دارك التي خربتها".
يقول الفقير : عمارة الدنيا بزرع الحبوب وتكثير القوت وكري الأنهار وغرس الأشجار ورفع أبنية الدور وتزيين القصور وعمارة الآخرة بالاذكار والأعمال والأخلاق والأحوال كما قال المولى الجامي :
يادكن آنكه درشب اسرى
يا حبيب خدا خليل خدا
كفت كوى ازمن اى رسول كرام
امت خويش را ز بعد سلام
كه بود اك وخوش زمين بهشت
ليك آنجا كسى درخت نكشت
خاك اواك وطيب افتاده
ليك هست از درختها ساده
غرس اشجار آن بسعى جميل
بسمله حمد له است س تهليل
هست تكبير نيزاز ان اشجار
خوش كسى كش جزاين نباشد كار
باغ جنات تحتها الانهار
سبز وخرم شود ازان اشجار
وفي الآية إشارة إلى أن التحية إذا قرنت بالرؤية واللقاء إذا قرن بالتحية لا يكونان إلا بمعنى رؤية البصر والتحية خطاب يفاتح به الملوك فبهذا أخبر عن علو شأنهم ورفعة درجتهم وأنهم قد سلموا من آفات القطيعة بدوام الوصلة.
قال ابن عطاء : أعظم عطية المؤمنين في الجنة سلام الله عليهم من غير واسطة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
سلامت من دلخسته درسلام توباشد
زهى سعادت اكردولت سلام تويابم
{وَأَعَدَّ لَهُمْ} (وآماده كردخداى تعالى براى مؤمنان باوجود تحيت برايشان) {أَجْرًا كَرِيمًا} ثواباً حسناً دائماً وهو نعيم الجنة وهو بيان لآثار رحمته الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك وإيثار الجملة الفعلية دون وأجرهم أجر كريم ونحوه لمراعاة الفواصل.
وفيه إشارة إلى سبق العناية الأزلية في حقهم لأن في الإعداد تعريفاً بالإحسان السابق والأجر الكريم ما يكون سابقاً على العمل بل يكون العمل من نتائج الكرم :
قرب تو باسباب وعلل نتوان يافت
بى سابقه فضل ازل نتوان يافت
برهره توان كرفتن اورا بدلى
توبى بدلى ترا بدل نتوان يافت
ثم هذه الآية من أكبر نعم الله على هذه الأمة ومن أدل دليل على أفضليتها على سائر الأمم ومن جملة ما أوحي إليه عليه السلام ليلة المعراج "أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك" فإذا كانوا أقدم في الدخول للتعظيم كانوا أفضل وأكثر في الأجر الكريم ثم إن فقراء هذه الأمة أكبر شأناً من أغنيائهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بعث الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رسولاً فقال : يا رسول الله إني رسول الفقراء إليك فقال : "مرحباً بك وبمن جئت من عندهم جئت من عند قوم أحبهم" فقال : يا رسول الله إن الفقراء يقولون لك : إن الأغنياء ذهبوا بالخير كله هم يحجون ولا نقدر عليه
195
ويتصدقون ولا نقدر عليه ويعتقون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخراً لهم فقال عليه السلام : "بلغ الفقراء عني أن لمن صبر واحتسب منهم ثلاث خصال ليس للأغنياء منها شيء أما الخصلة الأولى فإن في الجنة غرفاً من ياقوت أحمر ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الدنيا إلى النجوم لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير والخصلة الثانية : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام والخصلة الثالثة : إذا قال الفقير سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر مخلصاً وقال الغني مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير في فضله وتضاعف الثواب وإن أنفق الغني معها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها" فرجع الرسول إليهم وأخبرهم بذلك فقالوا : رضينا" يا رب رضينا ذكره اليافعي في "روض الرياحين".
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
صائب فريب نعمت ألوان نمى خوريم
روزى خود زخوان كرم مى خوريم ما
وقال :
افتد هماى دولت اكردر كمندما
ازهمت بلند رها مى كنيم ما
وقال الحافظ :
ازكران تابكران لشكر ظلمت ولى
از ازل تابابد فرصت درويشانست
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌا وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا * يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} .
(7/151)
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} نداء كرامة وتعظيم لأن الشريف ينادي باللقب الشريف لا نداء علامة مثل يا آدم ونحوه {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} الشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة وهو حال مقدرة من كاف أرسلناك فإنه عليه السلام إنما يكون شاهداً وقت الأداء وذلك متأخر عن زمان الإرسال نحو مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي : مقدراً به الصيد غداً.
والمعنى إنا أرسلناك بعظمتنا مقدر شهادتك على أمتك بتصديقهم وتكذيبهم تؤديها يوم القيامة أداء مقبولاً قبول قول الشاهد العدل في الحكم {وَمُبَشِّرَا} لأهل الإيمان والطاعة بالجنة ولأهل المحبة بالرؤية {وَنَذِيرًا} ومنذراً لأهل الكفر والعصيان بالنار ولأهل الغفلة بالحجاب {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} أي : إلى الإقرار به وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله.
وفيه إشارة إلى أن نبينا عليه السلام اختص برتبة دعوة الخلق إلى الله من بين سائر الأنبياء والمرسلين فإنهم كانوا مأمورين بدعوة الخلق إلى الجنة وأيضاً دعا إلى الله لا إلى نفسه فإنه افتخر بالعبودية ولم يفتخر بالربوبية ليصح له بذلك الدعاء إلى سيده فمن أجاب دعوته صارت الدعوة له سراجاً منيراً يدله على سبيل الرشد ويبصره عيوب النفس وغيها.
{بِإِذْنِهِ} أي : بتيسيره وتسهيله فأطلق الإذن وأريد به التيسير مجازاً بعلاقة السببية فإن التصرف في ملك الغير متعسر فإذا أذن تسهل وتيسر وإنما لم يحمل على حقيقته وهو الإعلام بإجازة الشيء والرخصة فيه لانفهامه من قوله : {أَرْسَلْنَـاكَ} {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} وقيد به الدعوة إيذاناً بأنها أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة وإمداد من جانب قدسه كيف لا وهي صرف الوجوه عن سمت الخلق إلى الخلاق وإدخال قلادة غير معهودة في الأعناق.
قال بعض الكبار : بإذنه أي : بأمره لا بطبعك ورأيك وذلك فإن حكم
196
الطبع مرفوع عن الكمل فلا يدعون قولاً ولا عملاً إلا بالفناء في ذات الله عز وجل.
{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} السراج الزاهر بفتيلة ، يعني : (آتش اره كه در فتيله شمعست) والسراج المنير بالفارسية (راغ روشن ودرخشان).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
اعلم أن الله تعالى شبه نبينا عليه السلام بالسراج لوجوه :
الأول : أنه يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية كما يهتدي بالسراج المنير في الظلام إلى سمت المرام كما قال بعضهم : (حق تعالى يغمبر مارا راغ خواند زيرا كه ضوء راغ ظلمت را محو كند ووجود آن حضرت نيز ظلمت كفررا از عرصه جهان نابود ساخت) :
راغ روشن از نور خدايى
جها نرا داده از ظلمت رهايى
والثاني : (هره درخانه كم شود بنور راغ باز توان يافت حقا يقي كه ازمر دم وشيده بود بنور اين راغ بر مقتبسان انوار معرفت روشن كشت) :
ازو جانرا بدانش آشناييست
وزو شم جهانرا روشنا ييست
در كنج معانى بر كشاده
وزان صاحب دلانرا مايه داده
والثالث : (راغ اهل خانه سبب امن وراحتست ودزدرا واسطه خجلت وعقوبت آن حضرت دوستانرا وسيله سلامتست ومنكرانرا حسرت وندامت).
والرابع : أن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج ولا ينقص من نوره شيء وقد اتفق أهل الظاهر والشهود على أن الله تعالى خلق جميع الأشياء من نور محمد ولم ينقص من نوره شيء وهذا كما روي أن موسى عليه السلام قال : يا رب أريد أن أعرف خزائنك فقال له : اجعل على باب خيمتك ناراً يأخذ كل إنسان سراجاً من نارك ففعل فقال : هل نقص من نارك قال : لا يا رب قال : فكذلك خزائني.
وأيضاً علوم الشريعة وفوائد الطريقة وأنوار المعرفة وأسرار الحقيقة قد ظهرت في علماء أمته وهي بحالها في نفسه عليه السلام ألا ترى أن نور القمر مستفاد من الشمس ونور الشمس بحاله وفي "القصيدة البردية" :
فإنه شمس فضل هم كواكبها
يظهرن أنوارها للناس في الظلم
تو مهر منيرى همه اخترند
تو سلطان ملكى همه لشكرند
أي أن سيدنا محمداً عليه السلام شمس من فضل الله طلعت على العالمين والأنبياء أقمارها يظهرن الأنوار المستفادة منها وهي العلوم والحكم في عالم الشهادة عند غيبتها ويختفين عند ظهور سلطان الشمس فينسخ دينه سائر الأديان.
وفيه إشارة إلى أن المقتبس من نور القمر كالمقتبس من نور الشمس ، وفي "المثنوي" :
كفت طوبى من رآني مصطفى
والذي يبصر لمن وجهي رأى
ون راغ نور شمعى را كشيد
هركه ديد آنرا يقين آن شمع ديد
همنين تا صد راغ ار نقل شد
ديدن آخر لقاى اصل شد
خواه ازنور سين بستان توآن
هي فرقى نيست خواه ازشمعدان
والخامس أنه عليه السلام يضيىء من جميع الجهات الكونية إلى جميع العوالم كما أن السراج
197
يضيىء من كل جانب وأيضاً يضيىء لأمته كلهم كالسراج لجميع الجهات إلا من عمي مثل أبي جهل ومن تبعه على صفته فإنه لا يستضيىء بنوره ولا يراه حقيقة كما قال تعالى : {وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف : 198).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/152)
ـ حكي ـ أن السلطان محمود الغزنوي دخل على الشيخ أبي الحسن الخرقاني قدس سره وجلس ساعة ثم قال : يا شيخ ما تقول في حق أبي يزيد البسطامي فقال الشيخ هو رجل من رآه اهتدى فقال السلطان وكيف ذلك وأبا جهل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يخلص من الضلالة قال الشيخ في جوابه إنه ما رأى رسول الله وإنما رأى محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب حتى لو كان رأى رسول الله لدخل في السعادة أي : لو رآه عليه السلام من حيث أنه رسول معلم هاد لا من حيث أنه بشر يتيم.
والسادس : أنه عليه السلام عرج به من العالم السفلي إلى العالم العلوي ومن الملك إلى الملكوت ومن الملكوت إلى الجبروت والعظموت بجذبة "ادن مني" إلى مقام {قَابَ قَوْسَيْنِ} وقرب.
{أَوْ أَدْنَى} إلى أن نوّر سراج قلبه بنور الله بلا واسطة ملك أو نبي ومن هنا قال : "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" لأنه كان في مقام الوحدة فلا يصل إليه أحد إلا على قدمي الفناء عن نفسه والبقاء بربه فناء بالكلية وبقاء بالكلية بحيث لا تبقى نار نور الإلهية من حطب وجوده قدر ما يصعد منه دخان نفسي نفسي وما بلغ كمال هذه الرتبة إلا نبينا عليه السلام فإنه من بين سائر الأنبياء يقول أمتي أمتي وحسبك في هذا حديث المعراج حيث أنه عليه السلام وجد في كل سماء نفراً من الأنبياء إلى أن بلغ السماء السابعة ووجد هناك إبراهيم عليه السلام مستنداً إلى سدرة المنتهى فعبر عنه مع جبرائيل إلى أقصى السدرة وبقي جبرائيل في السدرة فأدلي إليه الرفرف فركب عليه فأداه إلى قاب قوسين أو أدنى فهو الذي جعل الله له نوراً فأرسله إلى الخلق وقال : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} (المائدة : 15) فأذن له أن يدعو الخلق إلى الله بطريق متابعته فإنه من يطع الرسول حق إطاعته فقد أطاع الله والذين يبايعونه إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فإنه يده فانية في يد الله باقية بها وكذلك جميع صفاته تفهم إن شاء الله وتنتفع بها ووصفه تعالى بالإنارة حيث قال : {مُّنِيرًا} لزيادة نوره وكماله فيه فإن بعض السرج له فتور لا ينير.
قال الكاشفي : {مُّنِيرًا} (تأكيداست يعنى توراغى نه ون راغهاى ديكركه آن راغها كاهى مرده باشد وكاهى افروخته وازتو ازاول تا آخر وروشنى راغها ببادى مقهور شود وهي كس نور ترا مغلوب نتواند ساخت) كما قال تعالى : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِه وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} (الصف : 8) ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
هركه برشمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وز او
كى شود دريا زوز سك نجس
كى شود خورشيد ازف منطمس
(ديكر راغها بشب نور دهند نه بروز وتوشب ظلمت دنيارا بنور دعوت روشن ساخته وروز قيامت را نيز به رتو شفاعت روشن خواهى ساخت) :
شد بدنيا رخش راغ افروز
شب ما كشت ز التفاتش روز
باز فردا راغ افروزد
كه ازان جرم عاصيان سوزد
198
(دركشف الأسرار فرموده كه حق سبحانه آفتاب را راغ خواندكه {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} .
ويغمبر مارا نيز راغ كفت.
آن راغ آسمانست.
واين راغ زمين.
آن راغ دنياست.
واين راغ دين.
آن راغ منازل فلكست.
واين راد محافل ملك.
آن راغ آب وكلست.
واين راغ جان ودل بطلوع.
آن راغ ازخواب بيدارشوند.
وبظهور اين راغ از خواب عدم برخاسته بعرصه كاه وجود آمده اند) :
ازظلمات عدم راه كه بروى برد
كرنشدى نورتو شمع روان همه
(وإشارات بهمين معنى فرموده ازاقليم عدم مى آمدى ويش رو آدم راغى بود بردستش همه ازنور تخستينست).
وقال بعضهم : المراد بالسراج الشمس وبالمنير القمر جمع له الوصف بين الشمس والقمر دل على ذلك قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} (الفرقان : 61) وإنما حمل على ذلك لأن نور الشمس والقمر أتم من نور السراج ويقال سماه سراجاً ولم يسمه شمساً ولا قمراً ولا كوكباً لأنه لا يوجد يوم القيامة شمس ولا قمر ولا كوكب ولأن الشمس والقمر لا ينقلان من موضع إلى موضع بخلاف السراج ألا ترى أن الله تعالى نقله عليه السلام من مكة إلى المدينة.
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا * وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ وَدَعْ} .
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على المقدر أي : فراقب أحوال أمتك وبشر المؤمنين {بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} أي : على مؤمني سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان.
(7/153)
ـ وروي ـ أن الحسنة الواحدة في الأمم السالفة كانت بواحدة وفي هذه الأمة بعشر أمثالها إلى ما لا نهاية له.
وقال بعضهم : {فَضْلا كَبِيرًا} يعني : (بخششى بزرك زياده ازمردكار ايشان يعنى دولت لقاكه بزركتر عطايى وشر يفتر جزاييست).
وفي "كشف الأسرار" : (داعي را اجابت وسائر را عطيت ومجتهدرا معونت وشاكررا زيادت ومطيع را مثوبت وعاصى را اقالت ونادم را رحمت ومحب را كرامت ومشتاق را لقاء ورؤيت).
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله عليه السلام علياً ومعاذاً فبعثهما إلى اليمن وقال : "اذهبا فبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ" وقرأ الآية كما في "فتح الرحمن".
ودل الآية والحديث وكذا قوله تعالى : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات : 55) على أنه لا بأس بالجلوس للوعظ إذا أراد به وجه الله تعالى وكان ابن مسعود رضي الله عنه يذكر عشية كل خميس وكان يدعو بدعوات ويتكلم بالخوف والرجاء وكان لا يجعل كله خوفاً ولا كله رجاء ومن لم يذكر لعذر وقدر على الاستخلاف فله ذلك ومنه إرسال الخلفاء إلى أطراف البلاد فإن فيه نفع العباد كما لا يخفى على ذوي الرشاد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ} من أهل مكة {وَالْمُنَـافِقِينَ} من أهل المدينة ومعناه الدوام أي : دم وأثبت على ما أنت عليه من مخالفتهم وترك إطاعتهم واتباعهم.
وفي "الإرشاد" نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة واستعمال لين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذار كنى عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في الزجر والتنفير عن النهي عنه بنظمه في سلكها وتصويره بصورتها {وَدَعْ أَذَاـاهُمْ} أي : لا تبال بإيذائهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قسم رسول الله قسمة فقال رجل من الأنصار : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر
199
بذلك فاحمر وجهه فقال : "رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همو صبر آدم نديد
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلا تُطِعِ} الخ أي : لا تتخلق بخلق من أخلاقهم ولا توافق من أعرضنا عنه وأغفلنا قلبه عن ذكرنا وأضللناه من أهل الكفر والنفاق وأهل البدع والشقاق وفيه إشارة إلى أرباب الطلب بالصدق أن لا يطيعوا المنكرين الغافلين عن هذا الحديث فيما يدعونهم إلى ما يلائم هوى نفوسهم ويقطعون به الطريق عليهم ويزعمون أنهم ناصحوهم ومشفقون عليهم وهم يحسنون صنعاً {وَدَعْ أَذَاـاهُمْ} بالبحث والمناظرة على إبطالهم فإنهم عن سمع كلمات الحق لمعزولون فتضيع أوقاتك ويزيد إنكارهم.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في كل الأمور خصوصاً في هذا الشأن فإنه تعالى يكفيكهم والعاقبة لك.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} موكولاً إليه الأمور في كل الأحوال فهو فعيل بمعنى المفعول تمييز من فاعل كفى وهو الله إذ الباء صلة والتقدير وكفى الله من جهة الوكالة فإن أهل الدارين لا يكفي كفاية الله فيما يحتاج إليه فمن عرف أنه تعالى هو المتكفل بمصالح عباده والكافي لهم في كل أمر اكتفى به في كل أمره فلم يدبر معه ولم يعتمد إلا عليه.
ـ روي ـ أن الحجاج بن يوسف سمع ملبياً يلبي حول البيت رافعاً صوته بالتلبية وكان إذ ذاك بمكة فقال : عليّ بالرجل فأتى به إليه فقال : ممن الرجل؟ قال : من المسلمين فقال : ليس عن الإسلام سألتك قال : فعمّ سألت؟ قال : سألتك عن البلد قال : من أهل اليمن قال : كيف تركت محمد بن يوسف يعني أخاه قال : تركته عظيماً جسيماً لباساً ركاباً خراجاً ولاجاً قال : ليس عن هذا سألتك قال : فعمّ سألت؟ قال : سألتك عن سيرته قال : تركته ظلوماً غشوماً مطيعاً للمخلوق عاصياً للخالق فقال له الحجاج : ما حملك على هذا الكلام وأنت تعلم مكانه مني؟ قال : أترى مكانه منك أعز مني بمكاني من الله وأنا وافد بيته مصدق نبيه فسكت الحجاج ولم يحسن جواباً وانصرف الرجل من غير إذن فتعلق بأستار الكعبة وقال : اللهم بك أعوذ وبك ألوذ اللهم فرجك القريب ومعروفك القديم وعادتك الحسنة فخلص من يد الحجاج بسبب توكله على الله في قوله الخشن وبعدم إطاعته وانقياده للمخلوق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ وَدَعْ أَذَاـاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا * يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن} .
(7/154)
{الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ} .
قال في "بحر العلوم" : أصل النكاح الوطىء ثم قيل للعقد نكاح مجازاً تسمية للسبب باسم المسبب فإن العقد سبب الوطىء المباح وعليه قوله تعالى : {الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً} (النور : 3) أي : لا يتزوج ونظيره تسمية النبات غيثاً في قوله رعينا الغيث لأنه سبب للنبات والخمر إثماً لأنها سبب لاكتساب الإثم.
وقال الإمام الراغب في "المفردات" أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات الاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستقظعونه لما يستحسنونه انتهى.
وفي "القاموس" النكاح الوطىء والعقد والمعنى إذا تزوجتم {الْمُؤْمِنَـاتِ} وعقدتم عليهن وخص المؤمنات مع أن هذا الحكم الذي في الآية يستوي فيه المؤمنات والكتابيات تنبيهاً على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً لنطفته ويجتنب عن مجانبة الفواسق فما بال الكوافر فالتي في سورة المائدة تعليم ما هو جائز غير محرم من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب وهذه فيها تعليم ما هو أولى بالمؤمنين
200
من نكاح المؤمنات وقد قيل : الجنس يميل إلى الجنس ، وفي "المثنوي" :
جنس سوى جنس صدره برد
بر خيالش بندهارا بر دردآن يكى را صحبت اخيار خار
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
لا جرم شد هلوى فجار جار {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} أصل الطلاق التخلية من وثاق يقال أطلقت الناقة من عقالها وطلقها وهي طالق وطلق بلا قيد ومنه استعير طلقت المرأة نحو خليتها فهي طالق أي : مخلاة عن حبالة النكاح {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي : تجامعوهن فإن المس أي : اللمس كناية عن الوطىء وفائدة ثم إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة يؤثر في العدة كما يؤثر في النسب فلا تفاوت في الحكم بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح وبين أن يطلقها وهي بعيدة منه.
قالوا فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح كما قال بعضهم : إنما النكاح عقدة والطلاق يحلها فكيف تحل عقدة لم تعقد فلو قال متى تزوجت فلانة أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يقع عليه طلاق إذا تزوج عند الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة يقع مطلقاً لأنه تطليق عند وجود الشرط إلا إذا زوجها فضولي فإنها لم تطلق كما في "المحيط" وقال مالك : إن عين امرأة بعينها أو من قبيلة أو من بلد فتزوجها وقع الطلاق وإن عمم فقال : كل امرأة أتزوجها من الناس كلهم لم يلزمه شيء ثم إن حكم الخلوة التي يمكن معها المساس في حكم المساس عند أبي حنيفة وأصحابه والخلوة الصحيحة غلق الرجل الباب على منكوحته بلا مانع وطىء من الطرفين وهو ثلاثة : حسي كمرض يمنع الوطأ ورتق وهو انسداد موضع الجماع بحيث لا يستطاع ، وشرعي كصوم رمضان دون صوم التطوع والقضاء والنذور والكفارة في الصحيح لعدم وجوب الكفارة بالإفساد وكإحرام فرض أو نفل فإن الجماع مع الإحرام يفسد النسك ويوجب دماً مع القضاء ، وطبعي كالحيض والنفاس إذ الطباع السليمة تنفر منها فإذا خلا بها في محل خال عن غيرهما حتى عن الأعمى والنائم بحيث أمنا من اطلاع غيرهما عليهما بلا إذنهما لزمه تمام المهر لأنه في حكم الوطيء ولو كان خصياً أو هو مقطوع الأنثيين أو عنيناً وهو الذي لا يقدر على الجماع وكذا لو كان مجبوباً وهو مقطوع الذكر خلافاً لهما وفرض الصلاة مانع كفرض الصوم للوعيد على تركها والعدة تجب بالخلوة ولو مع المانع احتياطاً لتوهم شغل الماء ولأنها حق الشرع والولد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أن الحيض والنفاس والرتق من الأعذار المخصوصة بالمرأة وأما المرض والإحرام والصوم فتعتبر في كل من الرجل والمرأة وتعد مانعاً بالنسبة إلى كليهما كما في "تفسير أبي الليث".
ومعنى الآية بالفارسية : (س ون طلاق دهيد زنانرا قبل از دخول يايش از خلوت صحيحه) {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ} (س نيست شمارا برين مطلقات) {مِنْ عِدَّةٍ} أيام ينتظرن فيها وعدة المرأة هي الأيام التي بانقضائها تحل للزوج {تَعْتَدُّونَهَا} محله الجر على أنه صفة عدة أي : تستوفون عددها أو تعدونها وتحصونها بالاقراء إن كانت من ذوات الحيض أو بالأشهر إن كانت آية.
وفي الإسناد إلى الرجال دلالة على أن العدة حقهم كما أشعر به فما لكم.
فدلت الآية على أنه لا عدة على غير المدخول بها لبراءة رحمها من نطفة الغير فإن شاءت تزوجت من يومها وكذا إذا تيقن بفراغ رحم الأمة من ماء البائع لم يستبرىء عند
201
(7/155)
أبي يوسف وقالا : إذا ملك جارية ولو كانت بكراً أو مشرية ممن لا يطأ أصلاً مثل المرأة والصبي والعنين والمجبوب أو شرعاً كالمحرم رضاعاً أو مصاهرة أو نحو ذلك حرم عليه وطؤها ودواعيه كالقبلة والمعانقة والنظر إلى فرجها بشهوة أو غيرها حتى يستبرىء بحيضة أو يطلب براءة رحمها من الحمل كذا في "شرح القهستاني" {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي : فأعطوهن المتعة وهي : درع وخمار وملحفة كما سبقت في هذه السورة وهو محمول على إيجاب المتعة إن لم بسم لها مهر عند العقد وعلى استحبابها إن سمي ذلك فإنه إن سمى المهر عنده وطلق قبل الدخول فالواجب نصفه دون المتعة كما قال تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة : 237) أي : فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهن من المهر {وَسَرِّحُوهُنَّ} قد سبق معنى التسريح في هذه السورة والمراد هنا اخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن من عدة {سَرَاحًا جَمِيلا} أي : من غير ضرار ولا منع حق.
وفي "كشف الأسرار" : معنى الجميل أن لا يكون الطلاق جور الغضب أو طاعة لغيره وأن لا يكون ثلاثاً بتاً أو لمنع صداق انتهى.
ولا يجوز تفسير التسريح بالطلاق السني لأنه إنما يتسنى في المدخول بها والضمير لغير المدخول بها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : وفي الآية إشارة إلى كرم الأخلاق يعني إذا نكحتم المؤمنات ومالت قلوبهن إليكم ثم آثرتم الفراق قبل الوصال فكسرتم قلوبهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن ليكون لهن عليكم تذكرة في أيام الفرقة وأوائلها إلى أن تتوطن نفوسهن على الفرقة وسرحوهن سراحاً جميلاً بأن لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير ولا تستردوا منهن شيئاً تفضلتم به معهن فلا تجمعوا عليها الفراق بالحال والإضرار من جهة المال انتهى.
وينبغي للمؤمن أن لا يؤذي أحداً بغير حق ولو كلباً أو خنزيراً ولا يظلم ولو بشق تمرة ولو وقع شيء من الأذى والجور يجب الاستحلال والإرضاء ورأينا كثيراً من الناس في هذا الزمان يطلقوهن ضراراً ويقعون في الإثم مراراً يخالعون على المال بعد الخصومات كأنهم غافلون عما بعد الممات ، قال المولى الجامي :
هزار كونه خصومت كنى بخلق جهان
زيكه درهوس سيم وآرزوى زرى
تراست دوست زروسيم وخصم صاحب اوست
كه كيرى از كفش آنرا بظلم وحيله كرى
نه مقتضاى خرد باشد ونتيجه عقل
كه دوست را بكذارى وخصم را بيرى
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّـاتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـاتِكَ وَبَنَاتِ} .
{النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ} (الإحلال : حلال كردن) وأصل الحل حل العقدة ومنه استعير قولهم حل الشيء حلالاً كما في "المفردات" ، والمعنى بالفارسية : (بدرستى كه ما حلال كرده مايم براى تو) {أَزْوَاجَكَ} نساءك يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ} الأجر يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد وهو ما يعود من ثواب العمل دنيوياً كان أو أخروياً وهو ههنا كناية عن المهر أي : مهورهن لأن المهر أجر على البضع أي : المباشرة وإيتاؤها أما إعطاؤها معجلة أو تسميتها في العقد وأياً ما كان فتقييد الإحلال له عليه السلام بالإيتاء ليس لتوقف الحل عليه ضرورة أنه يصح العقد بلا تسمية ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه بل لإيتاء الأفضل له {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (وحلال ساخته ايم برتو آنه مالك شده است دست راست تو يعنى مملوكات ترا) {مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (الإفاءة : مال كسى
202
غنيمت دادن) وقيل للغنيمة التي لا يلحق فيها مشقة فيىء تشبيهاً بالفيىء الذي هو الظل تنبيهاً على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال الفقهاء : كل ما يحل أخذه من أموال الكفار فهو فيىء فالفيىء اسم لكل فائدة تفيىء إلى الأمير أي : تعود وترجع من أهل الحرب والشرك فالغنيمة هي ما نيل من أهل الشرك عنوة والحرب قائمة فيىء والجزية فيىء ومال أهل الصلح فيىء والخراج فيىء لأن ذلك كله مما أفاء الله على المسلمين من المشركين وحقيقة {أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} فيئاً لك أي : غنيمة وتقييد حلال المملوكة بكونها مسبية لاختيار الأولى له عليه السلام فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها هكذا قالوا وهو لا يتناول مثل مارية القبطية ونحوها فإن مارية ليست سبية بل أهداها له عليه السلام سلطان مصر الملقب بالمقوقس.
(7/156)
وقد قال في "إنسان العيون" : إن سرارية عليه السلام أربع : مارية القبطية أم سيدنا إبراهيم رضي الله عنه وريحانة ، وجارية وهبتها له عليه السلام زينب بنت جحش ، وأخرى واسمها زليخا القرظية انتهى.
وكون ريحانة بنت يزيد من بني النضير سرية أضبط على ما قاله العراقي وزوجة أثبت عند أهل العلم على ما قاله الحافظ الدمياطي.
وأما صفية بنت حيى الهارونية من غنائم خيبر.
وجويرية بنت الحارث ابن أبي صوار الخزاعية المصطلقية وإن كانتا من المسبيات لكنه عليه السلام أعتقهما فتزوجهما فهما من الأزواج لا من السرايا على ما بين في كتب السير فالوجه أن المعنى مما أفاء الله أي : أعاده عليك بمعنى صيره لك ورده لك بأي جهة كانت هدية أو سبية.
واستفتى من المولى أبي السعود صاحب التفسير هل في تصرف الجواري المشتراة من الغزاة بلا نكاح نوع كراهية إذ في القسمة الشرعية بينهم شبهة فأفتى بأنه ليس في هذا الزمان قسمة شرعية وقع التنفيل الكلي في سنة تسعمائة وثمان وأربعين فإذا أعطى ما يقال له بالفارسية (نج يك) لا يبقى شبهة والنفل ما ينفله الغازي أي : يعطاه زائداً على سهمه وهو أن يقول الإمام أو الأمير من قتل قتيلاً فله سلبه أو قال للسرية ما أصبتم فهو لكم أو ربعه أو خمسه وعلى الإمام الوفاء به.
{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـاتِكَ} البنت والابنة مؤنث ابن والعم أخ الأب والعمة أخته.
والمعنى وأحللنا لك نساء قريش من أولاد عبد المطلب.
وأعمامه عليه السلام اثنا عشر وهم : الحارث ، وأبو طالب ، والزبير ، وعبد الكعبة ، وحمزة ، والمقوم بفتح الواو وكسرها مشددة ، وجحل بتقديم الجيم على الحاء واسمه المغيرة والجحل السقاء الضخم وقيل بتقديم الحاء المفتوحة على الجيم وهو في الأصل الخلخال ، والعباس ، وضرار ، وأبو لهب ، وقثم ، والغيداق واسمه مصعب أو نوفل وسمي بالغيداق لكثرة جوده ولم يسلم من أعمامه الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وبنات أعمامه عليه السلام : ضباغة بنت الزبير بن عبد المطلب وكانت تحت المقداد ، وأم الحكم بنت الزبير وكانت تحت النضر بن الحارث ، وأم هانىء بنت أبي طالب واسمها فاختة ، وجماعة بنت أبي طالب ، وأم حبيبة ، وآمنة ، وصفية بنات العباس بن عبد المطلب ، وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب.
وعماته عليه السلام ست وهن : أم حكيم واسمها البيضاء ، وعاتكة ، وبرة ، وأروى ، وأميمة ، وصفية ولم تسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أم الزبير بن العوام أسلمت وهاجرت
203
وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه.
واختلف في إسلام عاتكة وأروى ولم يتزوج رسول الله من بنات أعمامه دينا وأما بنات عماته دينا فكانت عنده منهن زينب بنت جحش بن رباب لأن أمها أميمة بنت عبد المطلب كما في "التكميلة".
{وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـالَـاـتِكَ} الخال أخ الأم والخالة أختها والمراد نساء بني زهرة يعني أولاد عبد مناف بن زهرة لا إخوة أمه ولا أخواتها لأن آمنة بنت وهب أم رسول الله لم يكن لها أخ فإذا لم يكن له عليه السلام خال ولا خالة فالمراد بذلك الخال والخالة عشيرة أمه لأن بني زهرة يقولون : نحن أخوال النبي عليه السلام لأن أمه منهم ولهذا قال عليه السلام لسعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه : "هذا خالي" وإنما أفرد العم والخال وجمع العمات والخالات في الآية وإن كان معنى الكل الجمع لأن لفظ العم والخالة وإن كان يعطي المفرد معنى الجنس استغني فيه عن لفظ الجمع تخفيفاً للفظ ، ولفظ العمة والخالة وإن كان يعطي معنى الجنس.
.
.
إلخ ففيه الهاء وهي تؤذن بالتحديد والافراد فوجب الجمع لذلك ألا ترى أن المصدر إذا كان بغيرهاء لم يجمع وإذا حدد بالهاء جمع هكذا ذكره الشيخ أبو علي رضي الله عنه كذا في التكملة يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ} صفة للبنات والمهاجرة في الأصل مفارقة الغير ومتاركته استعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان والمعنى خرجن معك من مكة إلى المدينة وفارقن أوطانهن والمراد بالمعية المتابعة له عليه السلام في المهاجرة سواء وقعت قبله أو بعده أو معه وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه للتنبيه على الأليق له عليه السلام فالهجرة وصفهن لا بطريق التعليل كقوله تعالى : {وَرَبَائبُكُمُ الَّـاتِى فِى حُجُورِكُم} ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه عليه السلام خاصة وأن من هاجر معه منهن يحل له نكاحها ومن لم تهاجر لم تحل ويعضده قول أم هانىء بنت أبي طالب خطبني رسول الله فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء وهم الذين أسلموا بعد الفتح أطلقهم رسول الله حين أخذهم ولفائدة التقييد بالهجرة أعاد هنا ذكر بنات العم والعمات والخال والخالات وإن كن داخلات تحت عموم قوله تعالى عند ذكر المحرمات من النساء
جزء : 7 رقم الصفحة : 131(7/157)
{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} (النساء : 24) وأول بعضهم الهجرة في هذه الآية على الإسلام أي : أسلمن معك فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} بالنصب عطف على مفعول أحللنا إذ ليس معناه إنشاء الإحلال الناجز بل إعلام مطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق.
والمعنى : وأحللنا لك أيضاً أي : أعلمناك حل امرأة مؤمنة أية امرأة كانت من النساء المؤمنات فإنه لا تحل له المشركة وإن وهبت نفسها.
قال في "كشف الأسرار" : اختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي عليه السلام نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله : {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} {إِن وَهَبَتْ} تلك المرأة المؤمنة {نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ} أي : لك والالتفات للإيذان بأن هذا الحكم مخصوص به لشرف نبوته.
والهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض والحرة لا تقبل الهبة ولا البيع ولا الشراء إذ ليست بمملوكة فمعناه إن ملكته بعضها بلا مهر بأي عبارة كانت من الهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء والنكاح والتزويج ومعنى الشرط إن اتفق ذلك أي : وجد اتفاقاً
204
{إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها فإنها جارية مجرى القبول والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه والمعنى أراد النبي أن يتملك بعضها كذلك أي : بلا مهر ابتداء وانتهاء {خَالِصَةً لَّكَ} مصدر كالكاذبة أي : خلص لك إحلال المرأة المؤمنة خالصة أي : خلوصاً أو حال من ضمير وهبت أي : حال كون تلك الواهبة خالصة لك {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن الإحلال للمؤمنين إنما يتحقق بالمهر أو بمهر المثل إن لم يسم عند العقد ولا يتحقق بلا مهر أصلاً {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي : أوجبنا على المؤمنين {فِى أَزْوَاجِهِمْ} في حقهن في حق {مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} من الأحكام {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
متعلق بخالصة ولام كي دخلت على كي للتوكيد أي : لئلا يكون عليك ضيق في أمر النكاح فقوله قد علمنا الخ اعتراض بين قوله لكيلا يكون عليك حرج وبين متعلقه وهو خالصة لك من دون المؤمنين مقرر لما قبله من خلوص الإحلال المذكور لرسول الله وعدم تجاوزه للمؤمنين ببيان أنه قد فرض عليهم من شرائط العقد وحقوقه ما لم يفرض عليه صلى الله عليه وسلّم تكرمة له وتوسعة عليه أي : قد علمنا ما ينبغي أن يفرض عليهم في حق أزواجهم ومملوكاتهم وعلى أي : حد وعلى أي : صفة يحق أن يفرض عليهم فلرضنا ما ففرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعض الخصائص كالنكاح بلا مهر وولي وشهود ونحوها وفسروا المفروض في حق الأزواج بالمهر والولي والشهود والنفقة ووجوب القسم والاقتصار على الحرائر الأربع وفي حق المملوكات بكونهن ملكاً طيباً بأن تكون من أهل الحرب لا ملكاً خبيثاً بأن تكون من أهل العهد وفي الحديث : "الصلاة وما ملكت أيمانكم" أي : احفظوا الصلوات الخمس والمماليك بحسن القيام بما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وغيرها وبغير تكليف ما لا يطيقون من العمل وترك التعذيب قرنه عليه السلام بأمر الصلاة إشارة إلى أن حقوق المماليك واجبة على السادات وجوب الصلوات.
جوانمرد وخوشخوى وبخشنده باش
و حق برتو اشد تو بر خلق اش
حق بنده هركز فرامش مكن
بدستت اكر نوشد وكركهن
و خشم آيدت بركناه كسى
تأمل كنش در عقوبت بسى
كه سهلست لعل بدخشان شكست
شكسته نشايد دكرباره بست
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} أي : فيما يعسر التحرز عنه {رَّحِيمًا} منعماً على عباده بالتوسعة في مظانّ الحرج ونحوه.
واختلف في أنه هل كان عنده عليه السلام امرأة وهبت نفسها منه أولاً.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما كانت عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وقال آخرون بل كان عنده موهوبة نفسها.
واختلفوا فيها فقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث الهلالية خالة عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين خطبها النبي عليه السلام فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت البعير : وما عليه لرسول الله وقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الأنصارية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يقول الفقير : ذهب الأكثر إلى تلقيبها بأم المساكين والملقبة به ليست زينب هذه في المشهور وإن كانت تدعى به
205
(7/158)
في الجاهلية بل زينب بنت جحش التي كانت تعمل بيدها وتتصدق على الفقراء والمساكين فسميت به لسخاوتها ويدل عليه قوله عليه السلام خطاباً لأزواجه "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً" أي : أول من يموت منكن بعد موتي من كانت أسخى وهي زينب بنت جحش بالاتفاق ماتت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كما سبق.
وأما زينب بنت خزيمة فإنها ماتت في حياته عليه السلام كما قال الكاشفي : (اكر واهبه زينب بوده باشدكه اشهرست وواقع است در رمضان المبارك سال سوم ازهجرت وهشت ماه درحرم محترم آن حضرت بود ودر ربيع الآخر درسال هارم وفات كرد).
وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل هي أم شريك كزبير بنت جابر من بني أسد واسمها غزية فالأكثرون على أنه لم يقبلها وقيل بل قبلها ثم طلقها قبل أن يدخل بها.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن للإسلام وترغبهن فيه حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها وقالوا : لولا قومك لفعلنا بك ما فعلنا ولكنا نسيرك إليهم قالت : فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني ولا يسقونني وكانوا إذا نزلوا منزلاً أوقفوني في الشمس واستظلوا فبينما هم قد نزلوا منزلاً وأوقفوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته فإذا هو دلو من ماء فشربت منه قليلاً ثم نزع مني ورفع ثم عاد فتناولته فشربت منه ثم رفع ثم عاد مراراً ثم رفع مراراً فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على ثيابي فقالوا : انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه فقلت : لا والله ولكنه كان من الأمر كذا وكذا فقالوا : إن كنت صادقة لدينك خير من ديننا فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموا عند ذلك وأقبلت إلى النبي عليه السلام فوهبت نفسها له بغير مهر فقبلها ودخل عليها.
وفي ذلك أن من صدق في حسن الاعتماد على الله وقطع طمعه عما سواه جاءته الفتوحات من الغيب.
هركه باشد اعتمادش بر خدا
آمد از غيب خدايش صد غذا
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وقال عروة بن الزبير : هي أي : الواهبة نفسها خولة بنت حكيم من بني سليم وكانت من المهاجرات الأول فأرجأها فتزوجها عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت عائشة رضي الله عنها : كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله فدل أنهن كن غير واحدة.
وجملة من خطبه عليه السلام من النساء ثلاثون امرأة منهن من لم يعقد عليه وهذا القسم منه من دخل به ومنه من لم يدخل به ومنهن من عقد عليه وهذا القسم أيضاً منه من دخل به ومنه من لم يدخل به.
وفي لفظ جملة من دخل عليه ثلاث وعشرون امرأة والذي دخل به منهن اثنتا عشرة.
وقال أبو الليث في "البستان" جميع ما تزوج من النساء أربع عشرة نسوة : خديجة ثم سودة
206
ثم عائشة ثم حفصة ثم أم سلمة ثم أم حبيبة ثم جويرية ثم صفية ثم زينب ثم ميمونة ثم زينب ثم بنت خزيمة ثم امرأة من بني هلال وهي التي وهبت نفسها للنبي عليه السلام ثم امرأة من كندة وهي التي استعاذت منه فطلقها ثم امرأة من بني كليب.
قال في "إنسان العيون" : لا يخفى أن أزواجه عليه السلام المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة : خديجة ثم سودة ثم عائشة ثم حفصة ثم زينب بنت خزيمة ثم أم سلمة ثم زينب بنت جحش ثم جويرية ثم ريحانة ثم أم حبيبة ثم صفية ثم ميمونة على هذا الترتيب في التزوج.
ومن جملة التي لم يدخل بهن عليه السلام التي ماتت من الفرح لما علمت أنه عليه السلام تزوج بها غراء أخت دحية الكلبي.
ومن جملتهن سودة القريشية التي خطبها عليه السلام فاعتذرت ببنيها وكانوا خمسة أو ستة فقال لها خيراً.
ومن جملتهن التي تعوذت منه عليه السلام وهي أسماء بنت معاذ الكندية قلن لها : إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه فلما دخل عليها رسول الله قالت : أعوذ بالله منك ظنت أن هذا القول كان من الأدب فقال عليه السلام : "عذت بمعاذ عظيم إلحقي بأهلك" ومتعها ثلاثة أثواب.
ومن جملتهن التي اختارت الدنيا حين نزلت آية التخيير وهي فاطمة بنت الضحك وكانت تقول : أنا الشقية اخترت الدنيا.
ومن جملتهن قتيلة على صيغة التصغير زوجه إياها أخوها وهي بحضرموت ومات عليه السلام قبل قدونها عليه وأوصى بأن تخير فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت فاختارت الفراق فتزوجها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت.
وفي الحديث : "ما تزوجت شيئاً من نسائي ولا زوجت شيئاً من بناتي إلا بوحي" جاءني جبريل عليه السلام من ربي عز وجل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/159)
{تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} " قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ترجى بياء ساكنة والباقون ترجىء بهمزة مضمونة.
والمعنى واحد إذ الياء بدل من الهمزة وذكر في "القاموس" في الهمزة أرجأ الأمر أخره وترك الهمزة لغة وفي الناقص الإرجاء التأخير وهو بالفارسية : (واس افكندن).
قال في "كشف الأسرار" : الإرجاء تأخير المرأة من غير طلاق والمعنى تؤخر يا محمد من تشاء من أزواجك وتترك مضاجعتها من غير نظر إلى نوبة وقسم وعدل {تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} يقال أوى إلى كذا أي : انضم وآواه غيره إيواء أي : وتضمها إليك وتضاجعها من غير التفات إلى نوبة وقسمة أيضاً فالاختيار بيديك في الصحبة بمن شئت ولو أياماً زائدة على النوبة وكذا في تركها أو تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك وتتزوج من شئت كما في "بحر العلوم" {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} أي : وتؤوي إليك أيضاً من ابتغيتها وطلبتها {مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي : طلقتها بالرجعة.
والعزل الترك والتبعيد {فَلا جُنَاحَ} لا إثم ولا لوم ولا عتاب ولا ضيق.
{عَلَيْكَ} في شيء مما ذكر من الأمور الثلاثة كما في "كشف الأسرار" (درين هرسه برتوتنكى نيست).
وقال في "الكواشي" : من مبتدأ بمعنى الذي أو شرط نصب بقوله ابتغيت وخبر المبتدأ وجواب الشرط على التقديرين فلا جناح عليك وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض وهو إما أن يطلق وإما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق فإما أن لا يبتغي المعزولة أو يبتغيها.
والجمهور على أن الآية نزلت في القسم بينهن فإن التسوية في القسم كانت واجبة عليه فلما نزلت سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن وكان ذلك من خصائصه عليه السلام.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ ويروى ـ أن أزواجه عليه السلام لما طلبن زيادة النفقة ولباس الزينة هجرهن شهراً حتى نزلت آية التخيير فأشفقن أن يطلقهن وقلن يا نبي الله افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت ودعنا على حالنا فأرجأ خمساً : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ،
207
وصفية ، وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء وآوى إليه أربع : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء.
ويروى أنه عليه السلام لم يخرج أحداً منهن عن القسم بل كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ووهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك {ذَالِكَ} أي : ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك {أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} (نزديكتراست بآنكه روشن شود شمهاى ايشان) فأصله من القر بالضم وهو البرد وللسرور دمعة قارة أي : باردة وللحزن دمعة حارة أو من القرار أي : تسكن أعينهن ولا تطمح إلى ما عاملتهن به.
قال في "القاموس" : قرت عينه تقر بالكسر والفتح قرة وتضم وقروراً بردت وانقطع بكاؤها أو رأيت ما كانت متشوفة إليه وقر بالمكان يقر بالكسر والفتح قراراً ثبت وسكن كاستقر {وَلا يَحْزَنَّ} (واندو هناك نشوند) {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} (وخوشنود باشند بآنه دهى ايشانرا يعنى ون همه دانستندكه آنه توميكنى از ارجاء وايواء وتقريب وتبعيد بفرمان خداست ملول نميشوند) قوله كلهن بالرفع تأكيد لفاعل يرضين وهو النون أي : أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضيلاً منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن ويذهب التنافس والتغاير فرضين بذلك فاخترنه على الشرط ولذا قصره الله عليهن وحرم عليه طلاقهن والتزوج بسواهن وجعلهن أمهات المؤمنين كما في "تفسير الجلالين" {وَاللَّهُ} وحده {يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من الضمائر والخواطر فاجتهدوا في إحسانها {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} مبالغاً في العلم فيعلم ما تبدونه وما تخفونه {حَلِيمًا} لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها فإنه إمهال لا إهمال.
نه كردن كشانرا بكيرد بفور
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
نه عذر آورانرا براند بجور
وكر خشم كيرد بكردار زشت
و باز آمدى ما جرا در نوشت
مكن يك نفس كار بد اى سر
ه دانى ه آيد بآخر يسر
(7/160)
وفي "التأويلات النجمية" : لما انسلخت نفسه عليه السلام عن صفاتها بالكلية لم يبق له أن يقول يوم القيامة نفسي نفسي ومن هنا قال : "أسلم شيطاني على يدي" فلما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى حتى لا ينطق بالهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة لأنه نزع من صدره في الدنيا غل ينزع من صدره غيره في الآخرة كما قال : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} وقال في حقه : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني نزع الغل منه فقال الله تعالى له في الدنيا {تُرْجِى مَن تَشَآءُ} الخ أي : على من تتعلق به إرادتك ويقع عليه اختيارك فلا حرج عليك ولا جناح كما يقول لأهل الجنة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} (الزخرف : 71) {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} في الأزل بتأسيس بنيان وجودك على قاعدة محبوبيتك ومحبيتك {حَلِيمًا} فيما صدر منك فيحلم عنك ما لم يحلم عن غيرك انتهى.
قيل إنما لم يقع ظله عليه السلام على الأرض لأنه نور محض وليس للنور ظل.
وفيه إشارة إلى أنه أفنى الوجود الكونيّ الظليّ وهو متجسد في صورة البشر ليس له ظلمة المعصية وهو مغفور عن أصل.
قال بعض الكبار : ليس في مقدور البشر
208
مراقبة الله في السر والظن مع الأنفاس فإن ذلك من خصائص الملأ الأعلى.
وأما رسول الله عليه السلام فكان له هذه المرتبة فلم يوجد إلا في واجب أو مندوب أو مباح فهو ذاكر الله على أحيانه.
وما نقل من سهوه عليه السلام في بعض الأمور فهو ليس كسهو سائر الخلق الناشىء عن رعونة الطبع وغفلته وحاشاه عن ذلك بل سهوه تشريع لأمته ليقتدوا به فيه كالسهو في عدد الركعات حيث أنه عليه السلام "صلى الظهر ركعتين ثم سلم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : صليت ركعتين فقام وأضاف إليهما ركعتين" وبعض سهوه عليه السلام ناشىء عن الاستغراق والانجذاب ولذلك كأن يقول : "كلميني يا حميرا".
والحاصل أن حاله عليه السلام ليس كأحوال أفراد أمته ولذا عامل الله تعالى به ما لم يعامل بغيره إذ هو يعلم ما في القلوب والصدور ويحيط بأطراف الأمور نسأل منه التوفيق لرضاه والوسيلة لعطاه وهو المفيض على كل نبي وولي والمرشد في كل أمر خفي وجلي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـاْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُا وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَا ذَالِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّا وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا * لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنا بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا} .
(7/161)
{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ} بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي ولوجود الفصل وإذا جاز التذكير بغيره في قوله وقال نسوة ، كان معه أجوز.
والنساء والنسوان والنسوة بالكسر جموع المرأة من غير لفظها أي : لا تحل واحدة من النساء مسلمة أو كتابية لما تقرر أن حرف التعريف إذا دخل على الجمع يبطل الجمعية ويراد الجنس وهو كالنكرة يخص في الإثبات ويعم في النفي كما إذا حلف لا يتزوج النساء ولا يكلم الناس أو لا يشتري العبيد فإنه يحنث بالواحد لأن اسم الجنس حقيقة فيه {مِنا بَعْدِ} أي : من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن بين الدنيا والآخرة فاخترنك لأنه نصابك من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمتك منهن أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى.
وإنما حرّم على أمته الزيادة على الأربع بخلافه فإنه عليه السلام في بذرقة النبوة وعصمة الرسالة قد يقدر على أشياء لا يقدر عليها غيره وقد افترض الله عليه أشياء لم يفترضها على أمته لهذا المعنى وهي قيام الليل وإنه إذا عمل نافلة يجب المواظبة عليها وغير ذلك.
وسرّ الاقتصار على الأربع أن المراتب أربع : مرتبة المعنى ، ومرتبة الروح ، ومرتبة المثال ، ومرتبة الحس ولما كان الوجود الحاصل للإنسان إنما حصل له بالاجتماع الحاصل من مجموع الأسماء الغيبية والحقائق العلمية والأرواح النورية والصور المثالية والصور العلوية والسفلية والتوليدية شرع له نكاح الأربع وتمامه في كتب التصوف {وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} تبدل بحذف أحد التاءين والأصل تتبدل وبدل الشيء الخلف منه وتبدله به وأبدله منه وبدله اتخذه بدلاً كما في "القاموس".
قال الراغب : التبدل والإبدال والتبديل والاستبدال جعل الشيء مكان آخر وهو أعم من العوض فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول والتبديل يقال للتغيير وإن لم تأت ببدله انتهى.
وقوله : {مِنْ أَزْوَاجٍ} مفعول تبدل ومن مزيدة لتأكيد النفي تفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم.
والمعنى لا يحل لك أن تتبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن بأن تطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى ، وبالفارسية : (وحلال نيست ترا آنكه بدل كنى بديشان اززنان ديكر يعني يكى را ازايشان طلاق دهى وبجاى او ديكرى رانكاح كنى) أراد الله لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن رسول الله والدار الآخرة لا الدنيا وزينتها ورضين بمراده فقصر رسوله عليهن ونهاه عن تطليقهن والاستبدال بهن
209
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} الواو عاطفة لمدخولها على حال محذوفة قبلها ولو في أمثال هذا الموقع لا يلاحظ لها جواب ، والإعجاب (شكفتى نمودن وخوش آمدن).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال الراغب : العجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء وقد يستعار للروق فيقال : أعجبني كذا أي : راقني والحسن كون الشيء ملائماً للطبع وأكثر ما يقال الحسن بفتحتين في تعارف العامة في المستحسن بالبصر.
والمعنى ولا يحل لك أن تستبدل بهن حال كونك لو لم يعجبك حسن الأزواج المستبدلة وجمالهن ولو أعجبك حسنهن أي : حال عدم إعجاب حسنهن إياك وحال إعجابه أي : على كل حال ولو في هذه الحالة فإن المراد استقصاء الأحوال ، وبالفارسية : (بشكفت آردترا خوبى ايشان).
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر ابن أبي طالب لما استشهد أراد رسول الله أن يخطبها فنهاه الله عن ذلك فتركها فتزوجها أبو بكر بإذن رسول الله فهي ممن أعجبه حسنهن.
وفي "التكملة" قيل : يريد حبابة أخت الأشعث بن قيس انتهى وفي الحديث "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من تكون معي في الجنة" فأسماء أو حبابة لم تكن أهلاً لرسول الله في الدنيا ولم تستأهل أن تكون معه في مقامه في الجنة فلذا صرفها الله عنه فإنه تعالى لا ينظر إلى الصورة بل إلى المعنى.
ون ترا دل اسير معنى بود
عشق معنى ز صورت اولى بود
حسن معنى نمى شود سرى
عشق آن باشد از زوال برى
اهل عالم همه درين كارند
بحجاب صور كرفتارند
(7/162)
وفي الحديث : "من نكح امرأة لمالها وجمالها حرم مالها وجمالها ومن نكحها لدينها رزقه الله مالها وجمالها" {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء ، يعنى : (حلال نيست بر تو زنان س ازين نه تن كه دارى مكر آنه مالك آن شود دست تو يعني بتصرف تودرآيد وملك توكردد) فإنه حل له أن يتسرى بهن.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ملك من هؤلاء التسع مارية القبطية أم سيدنا ابراهيم رضي الله تعالى عنه.
وقال مجاهد : معنى الآية لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات من بعد المسلمات ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك أحل الله له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا} يقال رقبته حفظته والرقيب الحافظ وذلك إما لمراعاة رقبة المحفوظ وإما لرفعه رقبته.
والرقيب هو الذي لا يغفل ولا يذهل ولا يجوز عليه ذلك فلا يحتاج إلى مذكر ولا منبه كما في "شرح الأسماء" للزورقي أي : حافظاً مهيمناً فتحفظوا ما أمركم به ولا تتخطوا ما حد لكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي الآية الكريمة أمور :
منها : أن الجمهور على أنها محكمة وأن رسول الله عليه السلام مات على التحريم.
ومنها : أن الله لما وسع عليه الأمر في باب النكاح حظيت نفسه بشرب من مشاربها موجب لانحراف مزاجها كمن أكل طعاماً حلواً حاراً صفراوياً فيحتاج إلى غذاء حامض بارد دافع للصفراء حفظاً للصحة فالله تعالى من كمال عنايته في حق حبيبه غذاه بحامض {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ} الآية لاعتدال المزاج القلبي والنفسي فهو من باب تربية نفس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومنها : أنه تعالى لما ضيق الأمر
210
على الأزواج المطهرة في باب الصبر بما أحل للنبي عليه السلام ووسع أمر النكاح عليه وخيره في الأرجاء والإيواء إليه كان أحمض شيء في مذاقهن وأبرد شيء لمزاج قلوبهن فغذاهن بحلاوة {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ} وسكن بها برودة مزاجهن حفظاً لسلامة قلوبهن وجبراً لانكسارها فهو من باب تربية نفوسهن.
ومنها : أن فيها ما يتعلق بمواعظ نفوس رجال الأمة ونسائها ليتعظوا بأحوال النبي عليه السلام وأحوال نسائه ويعتبروا بها {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من أحوال النبي عليه السلام وأحوال أزواجه وأحوال أمته {رَقِيبًا} يراقب مصالحهم.
ومنها : أن المراد بهؤلاء التسع عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة وصفية وميمونة وزينب وجويرية.
أما عائشة رضي الله عنها فهي بنت أبي بكر رضي الله عنه تزوجها عليه السلام بمكة في شوال وهي بنت سبع وبنى بها في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة وهي بنت تسع وقبض عليه السلام عنها وهي بنت ثماني عشرة ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وماتت وقد فارقت سبعاً وستين سنة في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وصلى عليها أبو هريرة بالبقيع ودفنت به ليلاً وذلك في زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة من خلافة معاوية وكان مروان استخلف على المدينة أبا هريرة رضي الله عنه لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.
وأما حفصة رضي الله عنها فهي بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمها زينب أخت عثمان بن مظعون أخوه عليه السلام من الرضاعة تزوجها عليه السلام في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة قبل أحد بشهرين وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبني البيت وبلغت ثلاثاً وستين وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين وصلى عليها مروان بن الحكم وهو أمير المدينة يومئذٍ وحمل سريها وحمله أيضاً أبو هريرة رضي الله عنه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وأما أم حبيبة رضي الله عنها واسمها رملة فهي بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية وتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الإسلام وبعث رسول عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة فزوجه عليه السلام إياها وأصدقها النجاشي عن رسول الله أربعمائة دينار وجهزها من عنده وأرسلها في سنة سبع.
وأما سودة رضي الله عنها فهي بنت زمعة العامرية وأمها من بني النجار لأنها بنت أخي سلمى بن عبد المطلب.
وأما أم سلمة واسمها هند فهي بنت أبي أمية المخزومية تزوجها عليه السلام ومعها أربع بنات ماتت في ولاية يزيد بن معاوية وكان عمرها أربعاً وثمانين سنة ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه.
وأما صفية رضي الله عنها فهي بنت حيى سيد بني النضير من أولاد هارون عليه السلام قتل حيى مع بني قريظة واصطفاها عليه السلام لنفسه فأعتقها فتزوجها وجعل عتقها صداقها وكانت رأت في المنام أن القمر وقع في حجرها فتزوجها عليه السلام وكان عمرها لم يبلغ سبع عشرة ماتت في رمضان سنة خمس وخمسين ودفنت بالبقيع.
(7/163)
وأما ميمونة رضي الله عنها فهي بنت الحارث الهلالية تزوجها عليه السلام وهو محرم في عمرة القضاء سنة سبع وبعد الإحلال بنى بها بسرف ماتت سنة إحدى وخمسين وبلغت ثمانين سنة ودفنت بسرف الذي هو محل الدخول بها وهو ككتف موضع قرب التنعيم.
وأما زينب رضي الله عنها فهي بنت جحش بن رباب
211
الأسدية وقد سبقت قصتها في هذه السورة.
وأما جويرية فهي بنت الحارث الخزاعية سبيت في غزوة المصطلق وكانت بنت عشرين سنة ووقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها على تسع آواق فأدى عليه السلام عنها ذلك وتزوجها وقيل إنها كانت بملك اليمين فأعتقها عليه السلام وتزوجها توفيت بالمدينة سنة ست وخمسين وقد بلغت سبعين سنة وصلى عليها مروان بن الحكم وهو والي المدينة يومئذٍ.
وهؤلاء التسع مات عنهن صلى الله عليه وسلّم وقد نظمهن بعضهم فقال :
توفي رسول الله عن تسع نسوة
إليهن تعزي المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية
وحفصة تتلوهن هند وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة
ثلاث وست ذكرهن ليعذب
ومنها : أن الآية دلت على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء وعن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي عليه السلام : "أنظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئاً" قال الحميدي : يعني الصغر وذلك أن النظر إلى المخطوبة قبل النكاح داعٍ للإلفة والإنس وأمر النبي عليه السلام أم سلمة خالته من الرضاعة حين خطب امرأة أن تشم هي عوارضها أي : أطراف عارضي تلك المرأة لتعرف أن رائحتها طيبة أو كريهة وعارضاً الإنسان صفحتا خدّيه.
وبالأعذار يجوز النظر إلى جميع الأعضاء حتى العورة الغليظة وهي تسعة :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
الأول : تحمل الشهادة كما في الزنى يعني أن الرجل إذا زنى بامرأة يجوز النظر إلى فرجهما ليشهد بأنه رآه كالميل في المكحلة.
والثاني : أداء الشهادة فإن أداء الشهادة بدون رؤية الوجه لا يصح.
والثالث : حكم القاضي.
والرابع : الولادة للقابلة.
والخامس : البكارة في العنة والرد بالعيب.
والسادس ، والسابع : الختان والخفض فالختان للولد سنة مؤكدة والخفض للنساء وهو مستحب وذلك أن فوق ثقبة البول شيئاً هو موضع ختانها فإن هناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها وفي الحديث : "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ويزيد لذتها ويجف رطوبتها".
والثامن : إرادة الشراء.
والتاسع : إرادة النكاح ففي هذه الأعذار يجوز النظر وإن كان بالشهوة لكن ينبغي أن لا يقصدها فإن خطب الرجل امرأة أبيح له النظر إليها بالاتفاق فعند أحمد ينظر إلى ما يظهر غالباً كوجه ورقبة ويد وقدم وعند الثلاثة لا ينظر غير الوجه والكفين كما في "فتح الرحمن".
ومنها أن من علم أنه تعالى هو الرقيب على كل شيء راقبه في كل شيء ولم يلتفت إلى غيره.
قال الكاشفي : (وكسى كه ازسر رقيبى حق آكاه كردد اورا ازمراقبه اره نيست) :
و دانستي كه حق دانا وبيناست
نهان واشكار خويش كن راست
والتقرب بهذا الاسم تعلقاً من جهة مراقبته تعالى والاكتفاء بعلمه بأن يعلم أن الله رقيبه وشاهده في كل حال ويعلم أن نفسه عدو له وأن الشيطان عدو له وأنهما ينتهزان الفرص حتى يحملانه على الغفلة والمخالفة فيأخذ منها حذره بأن يلاحظ مكانها وتلبيسها ومواضع انبعاثها حتى يسد عليها المنافذ والمجاري ومن جهة التخلق أن يكون رقيباً على نفسه كما
212
ذكر وعلى من أمره الله بمراقبته من أهل وغيره.
وخاصية هذا الاسم جمع الضوال والحفظ في الأهل والمال فصاحب الضالة يكثر من قراءته فتنجمع عليه ويقرأه من خاف على الجنين في بطن أمه سبع مرات وكذلك لو أراد سفراً يضع يده على رقبة من يخاف عليه المنكر من أهل وولد يقوله سبعاً فإنه يأمن عليه إن شاء الله ذكره أبو العباس الفاسي في "شرح الأسماء الحسنى" نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا في الليل والنهار والسر والجهار ويجعلنا من أهل المراقبة إلى أن تخلو منا هذه الدار.
{تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـاْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُا وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَا ذَالِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّا وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا * لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنا بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/164)
{الَّذِينَ ءَامَنُوا} (آلأرده اندكه ون حضرت يغمبر عليه السلام زينب را رضي الله عنها بحكم رباني قبول فرموده وليمه ترتيب نمود ومردم را طلبيده دعوتي مستوفى داد وون طعام خورده شد بسخن مشغول كشتند وزينب دركوشه خانه روى بديوار نشته بود حضرت عليه السلام ميخواست كه مردمان بروند آخر خود از مجلس برخاست وبرفت صحابه نيز برفتند وسه كس مانده همنان سخن ميكفتند حضرت بدرخانه آمد وشرم ميداشت كه ايشانرا عذر خواهد وبعد ازانتظار بسياركه خلوت شدآيت حجاب نازل شد).
ـ وروي ـ أن ناساً من المؤمنين كانوا ينتظرون وقت طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون إلى حين إدراكه ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله يتأذى من ذلك فقال تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا} {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} حجراته في حال من الأحوال {إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلا حال كونكم مأذوناً لكم ومدعواً {إِلَى طَعَامٍ} (س آن هنكام در آييد) وهو متعلق بيؤذن لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن به كما أشعر به قوله : {غَيْرَ نَـاظِرِينَ} حال من فاعل لا تدخلوا على أن الاستتثناء وقع على الظرف والحال كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا حال الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه أي : غير منتظرين وقت الطعام أو إدراكه وهو بالقصر والكسر مصدر أنى الطعام إذا أدرك.
قال في "المفردات" : الأنا إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد وأنى الشيء يأنى قرب أناه ومثله آن يئين أي : حان يحين.
وفيه إشارة إلى حفظ الأدب في الاستئذان ومراعاة الوقت وإيجاب الاحترام {وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} استدراك من النهي عن الدخول بغير إذن وفيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه أي : إذا أذن لكم في الدخول ودعيتم إلى الطعام فادخلوا بيوته على وجوب الأدب وحفظ أحكام تلك الحضرة {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} الطعام وتناولتم فإن الطعم تناول الغذاء ، وبالفارسية (س ون طعام خورديد) {فَانتَشِرُوا} فتفرقوا ولا تمكثوا ، وبالفارسية : (س را كنده شويد از خانهاى او) هذه الآية مخصوصة بالداخلين لأجل الطعام بلا إذن وأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لأمر مهم
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ} (الاستئناس : أنس كرفتن) وهو ضد الوحشة والنفور {لِحَدِيثٍ} الحديث يستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئاً فشيئاً وهو عطف على ناظرين أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا طالبين الأنس لحديث بعضهم أو لحديث أهل البيت بالتسمع ، وبالفارسية : (ومنشينيد آرام كرفتكان براى سخن بيكديكر).
213
وفي "التأويلات النجمية" : إذا انتهت حوائجكم فأخرجوا ولا تتغافلوا ولا يمنعكم حسن خلقه من حسن الأدب ولا يحملنكم فرط احتشامه على الإبرام عليه وكأن حسن خلقه جسرهم على المباسطة معه حتى أنزل الله هذه الآية.
{إِنَّ ذَالِكُمْ} أي : الاستئناس بعد الأكل الدال على اللبث {كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ} (مى رنجاند وآزرده كند يغمبررا) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله فيما لا يعنيه.
والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر إما في نفسه أو في جسمه أو فتياته دنيوياً كان أو أخروياً {فَيَسْتَحْى مِنكُمْ} محمول على حذف المضاف أي : من إخراجكم بدليل قوله : {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْى مِنَ الْحَقِّ} فإنه يستدعي أن يكون المستحيى منه أمراً حقاً متعلقاً بهم لأنفسهم وما ذلك إلا إخراجهم.
يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء ولذلك لم يتركه الله ترك الحي وأمركم بالخروج والتعبير عن عدم الترك بعدم الاستحياء للمشاكلة وكان عليه السلام أشد الناس حياء وأكثرهم عن العورات إغضاء وهو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته.
والحياء رقة تعتري وجه الإنسان عند فعل ما يتوقع كراهته أو ما يكون تركه خيراً من فعله.
قال الراغب : الحياء انقباض النفس عن القبائح وتركه لذلك.
ـ روي ـ أن الله تعالى يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه فليس يراد به انقباض النفس إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك وإنما المراد به ترك تعذيبه وعلى هذا ما روي أن الله تعالى حيي أي : تارك للمقابح فاعل للمحاسن.
ثم في الآية تأديب للثقلاء.
قال الأحنف : نزل قوله تعالى : {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} في حق الثقلاء فينبغي للضيف أن لا يجعل نفسه ثقيلاً بل يخفف الجلوس وكذا حال العائد فإن عيادة المرضى لحظة قيل للأعمش ما الذي أعمش عينيك قال : النظر إلى الثقلاء قيل :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
إذا دخل الثقيل بأرض قوم
فما للساكنين سوى الرحيل
(7/165)
وقيل : مجالسة الثقيل حمى الروح.
وقيل لأنوشروان : ما بال الرجل يحمل الحمل الثقيل ولا يحمل مجالسة الثقيل قال : يحمل الحمل بجميع الأعضاء والثقيل تنفرد به الروح.
قيل : من حق العاقل الداخل على الكرام قلة الكلام وسرعة القيام.
ومن علامة الأحمق الجلوس فوق القدر والمجيىء في غير الوقت.
وقد قالوا : إذا أتى باب أخيه المسلم يستأذن ثلاثاً ويقول في كل مرة السلام عليكم يا أهل البيت ثم يقول : أيدخل فلان ويمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله ومقدار ما يفرغ المتوضىء من وضوئه والمصلي بأربع ركعات من صلاته فإن أذن دخل وخفف وإلا رجع سالماً عن الحقد والعداوة.
ولا يجب الاستئذان على من أرسل إليه صاحب البيت رسولاً فأتى بدعوته.
قال في "كشف الأسرار" (أدب نهايت قال است وبدايت حال حق جل جلاله أول مصطفى را عليه السلام بأدب بيارست س بخلق فرستاد ، كما قال : "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
عام را هرعضوى از اعضاى ظاهر أدبي بايد والا هالكند.
وخاص را هر عضوى از اعضاى باطن أدبي بايد والا هالكند.
وخاص الخاص درهمه اوقات ادب بايد قال المولى الجامي) :
أدبوا النفس أيها الأحباب
طرق العشق كلها آداب
214
مايه دولت ابد ادبست
بايه رفعت خرد ادبست
يست آن داد بندكى دادن
بر حدود خداى ايستادن
قول وفعل از شنيدن وديدن
بمسوازين شرح سنجيدن
باحق وخلق وشيخ ويار ورفيق
ره سردن بمقتضاى طريق
حركات جوارح واعضا
راست كردن بحكم دين هدا
خطرات وخواطر واوهام
اك كردن ز شوب نفس تمام
دين وإسلام در ادب طلبيست
كفر وطغيان زشوم بى ادبيست
ومن الله التوفيق للآداب الحسنة والأفعال المستحسنة {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـاعًا} الماعون وغيره {فَسْـاَلُوهُنَّ} أي : المتاع {مِن وَرَآىاِ حِجَابٍ} من خلف ستر ، وبالفارسية : (ازس رده) ويقال خارج الباب {ذالِكُمْ} أي : سؤاله المتاع من وراء الحجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي : أكثر تطهيراً من الخواطر النفسانية والخيالات الشيطانية فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قلبه شيء.
قال في "كشف الأسرار" : نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة وبين أن البشر بشر وإن كانوا من الصحابة وأزواج النبي عليه السلام فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية كما قال عليه السلام : "لا يخلوّن رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان".
وكان عمر رضي الله عنه يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يذكره كثيراً ويود أن ينزل فيه وكان يقول : لو أطاع فيكن ما رأتكن عين وقال يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ وروي ـ أنه مرَّ عليهن وهن مع النساء في المسجد فقال : احتجبن فإن لَكُنَّ على النساء فضلاً كما أن لزوجكن على الرجال الفضل فقالت زينب : إنك يا ابن الخطاب لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، يعني : (اكر مراد الله بود خود فرمايد وحاجت بغيرت تو نباشد تادرين حديث بودند بروفق قول عمر رضي الله عنه آيت حجاب فرود آمد {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} ) الخ.
وعن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي عليه السلام كن يخرجن الليل لحاجتهن وكان عمر يقول للنبي : احجب نساءك فلم يكن يفعل فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشياً وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن تنزل آية الحجاب فأنزلها الله تعالى وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال (وبعد از نزولش حكم شد تاهمه زنان رده فرو كذا شتند) ولم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله متنقبة كانت أو غير متنقبة ، يعني : (بعد از نزول آيت حجاب هي كس را روا نبود كه درزنى از زنان رسول نكر ستندا كر در نقاب بودى يابى نقاب) واستدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي عليه السلام من وراء الحجاب على جواز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت وهو مذهب مالك وأحمد ولم يجزها أبو حنيفة سواء كانت فيما يسمع أو لا خلافاً لأبي يوسف فيما إذا تحملها بصيراً فإن العلم حصل له بالنظر وقت التحمل وهو العيان فأداؤه صحيح إذ لا خلل
215
(7/166)
في لسانه وتعريف المشهود عليه يحصل بذكر نسبه ولأبي حنيفة أنه يحتاج في أدائها إلى التمييز بين الخصمين وهو لا يفرق بينهما إلا بالنغمة وهي لا تعتبر لأنها تشبه نغمة أخرى ويخاف عليه التلقين من الخصم والمعرفة بذكر النسب لا تكفي لأنه ربما يشاركه غيره في الاسم والنسب وهذا الخلاف في الدَّين والعقار لا في المنقول لأن شهادته لا تقبل فيه اتفاقاً لأنه يحتاج إلى الإشارة والدين يعرف ببيان الجنس والوصف والعقار بالتحديد وكذا قال الشافعي : تجوز شهادة الأعمى فيما رآه قبل ذهاب بصره أو يقر في إذنه فيتعلق به حتى يشهد عند قاضٍ به {وَمَا كَانَ لَكُمْ} أي : وما صح وما استقام لكم {أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أي : أن تفعلوا في حياته فعلاً يكرهه ويتأذى به {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ} (زنان اوراكه مدخول بها باشد) {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد وفاته أو فراقه {أَبَدًا} فإن فيه تركاً لمراعاة حرمته فإنه أب وأزواجه أمهات ويقال لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة كما قال عليه السلام : "شارطت ربي أن لا أتزوج إلا من تكون معي في الجنة" ولو تزوجن لم يكنّ معه في الجنة لأن المرأة لآخر أزواجها لما روى أن أم الدرداء رضي الله عنها قالت لأبي الدرداء رضي الله عنه عند موته : إنك خطبتني من أبويّ في الدنيا فأنكحاك فإني أخطبك إلى نفسي في الآخرة فقال لها : لا تنكحي بعدي فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان وأبت أن تتزوجه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ وروي ـ عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال لامرأته : إن أردت أن تكوني زوجي في الجنة فلا تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها.
ـ وروي ـ في خبر آخر بخلاف هذا وهو أن أم حبيبة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن المرأة منا إذا كان لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة؟ فقال : "إنها تخير فتختار أحسنهما خلقاً منها" ثم "قال يا أم حبيبة إن حسن الخلق ذهب بالدنيا والآخرة" والحاصل : أنه يجب على الأمة أن يعظموه عليه السلام ويوقروه في جميع الأحوال في حال حياته وبعد وفاته فإنه بقدر ازدياد تعظيمه وتوقيره في القلوب يزداد نور الإيمان فيها وللمريدين مع الشيوخ في رعاية أمثال هذا الأدب إسوة حسنة لأن الشيخ في قومه كالنبي في أمته كما سبق بيانه عند قوله : {وَأَزْوَاجُه أُمَّهَـاتُهُمْ} .
وفي الآية إشارة إلى أن قوى النفس المحمدية من جهة الراضية والمرضية والمطمئنة بطبقاتها بكلياتها متفردة بالكمالات الخاصة للحضرة الأحمدية دنيا وآخرة فافهم سر الاختصاص والتشريف.
ثم إن اللاتي طلقهن النبي عليه السلام اختلف فيهن ومن قال بحلهن فلأنه عليه السلام قطع العصمة حيث قال : "أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة" فلم يدخلن تحت الآية والصحيح أن من دخل بها النبي عليه السلام ثبتت حرمتها قطعاً فخص من الآية التي لم يدخل بها لما روى أن الأشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام خلافة عمر رضي الله عنه فهمّ برجمهما فأخبر بأنه عليه السلام فارقها قبل أن يمسسها فترك من غير نكير.
وسبب نزول الآية أن طلحة بن عبيد الله التيمي قال : لئن مات محمد لأتزوجن عائشة وفي لفظ تزوج محمد بنات عمنا ويحجبهن عنا يعني يمنعنا من الدخول على بنات عمنا لأنه وعائشة كانا من بني تيم بن مرة فقال : لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده فنزل فيه قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لَكُمْ} الآية.
قال الحافظ السيوطي وقد كنت في وقفة شديدة
216
من صحة هذا الخبر لأن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة أجل مقاماً من أن يصدر منه ذلك حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبته كما في "إنسان العيون" {إِنَّ ذَالِكُمْ} يعني إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده {كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} أي : ذنباً عظيماً وأمراً هائلاً (زيرا كه حرمت آن حضرت لازمست درحيات او وبعد از وفات او بلكه حيات وممات او دراداى حقوق تعظيم يكسانست ه خلعت خلافت ولباس شفاعت كبرى س از وفات بر بالاى اعتدال او دوخته اند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قباى سلطنت هر دو كون تشريفست
كه جز بقامت زيباى او نيامد راست
ثم بالغ في الوعيد فقال :
(7/167)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَـاـاهُ وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ لِحَدِيثٍا إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْى مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْى مِنَ الْحَقِّا وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـاعًا فَسْـاَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍا ذَالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّا وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَه مِنا بَعْدِه أَبَدًا إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِن تُبْدُوا شَيْـاًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا * لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآاـاِهِنَّ وَلا أَبْنَآاـاِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَآاـاِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّا وَاتَّقِينَ اللَّهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا} .
{إِن تُبْدُوا} على ألسنتكم (يعني آشكارا كنيد) {شَيْـاًا} مما لا خير فيه كنكاحهن.
وفي "التأويلات النجمية" : من ترك الأدب وحفظ الحرمة وتعظيم شأنه صلى الله عليه وسلّم {أَوْ تُخْفُوهُ} في صدوركم ، يعني : (بز بان نياريد زيرا كه نكاح عائشة رضي الله عنها در دل بعض كذشته بود وبز بان نياورده) كذا قال الكاشفي : {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} بليغ العلم بظاهر كل شيء وباطنه فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة وعمم ذلك ليدخل فيه نكاحهن وغيره.
قال في "كشف الأسرار" : (ون ميدانى كه حق تعالى بر اعمال واحوال تو مطلع است ونهان وآشكاراى توميداند ومى بيند يوسته بردركاه او باش افعال خودرا مهذب داشته باتباع علم وغذاى حلال ودوام ورد وأقوال خودرا رياضت داده بقراءت قرآن ومداومت عذر ونصيحت خلق واخلاق خود اك داشته از هره غبار راه دين است وسد منهج طريقت ون بخل وريا وطمع است وآرايش سخا وتوكل وقناعت وكلمه "لا إله إلا الله" برهر دو حالت مشتمل است "لا إله" نفى آلايش است و"إلا الله" اثبات وآرايش ون بنده كويد "لا إله" هره آلايش است وحجاب راه ازبيخ بكند آنكه جمال "إلا الله" روى نمايد وبنده را بصفات آرايش بيارايد واورا آراسته ويراسته فرا مصطفى بردتا ويرا بامتى قبول كند واكراثر "لا إله" بروى ظاهر نبود وجمال خلعت "إلا الله" بروى نبينذ اورا بامتى فرا نذيرد وكويد سحق سحقا) ، قال المولى الجامي :
"
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
لا" نهنكيست كائنات آشام
عرش تا فرش او كشيده بكام
هر كجا كرده آن نهنك آهنك
ازمن وما نه بوى مانده نه رنك
كره "لا" داشت تيركى عدم
دارد "الا" فروغ نور قدم
ون كند "لا" بساط كثرت طى
دهد "إلا" زجام وحدت مى
تا نسازى حجاب كثرت دور
ندهد آفتاب وحدت نور
كرزمانى زخود خلاص شوى
مهبط فيض نور خاص شوى
جذب آن فيض يابد استيلا
هم ز "لا" وار هى هم از "الا"
هركه حق داد نور معرفتش
كائن بائن بود صفتش
جان بحق تن بغير حق كائن
تن زحق جان زغير حق بائن
{لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآاـاِهِنَّ} استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم.
ـ روي ـ أنه لما نزلت
217
(7/168)
آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب يا رسول الله أونكلمهن أيضاً أي : كالأباعد من وراء حجاب فنزلت ورخص الدخول على نساء ذوات محارم بغير حجاب ، يعني : (هي كناهى نيست برزنان درنمودن روى بدران خويش) {وَلا أَبْنَآاـاِهِنَّ} (ونه بسران خويش) {وَلا إِخْوَانِهِنَّ} (ونه ببرادران ايشان) {وَلا أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ} (ونه بسران برادران ايشان) {وَلا أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ} (ونه بسران خواهران ايشان) فهؤلاء ينظرون عند أبي حنيفة إلى الوجه والرأس والساقين والعضدين ولا ينظرون إلى ظهرها وبطنها وفخذها وأبيح النظر لهؤلاء لكثرة مداخلتهن عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهن وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمي العم أباً في قوله : {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ} أو لأنه كره ترك الاحتجاب منهما مخافة أن يصفاهن لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم لجواز النكاح بينهم وكره وضع الخمار عندهما وقد نهى عن وصف المرأة لزوجها بشرة امرأة أخرى ومحاسنها بحيث يكون كأنه ينظر إليها فإنه يتعلق قلبه بها فيقع بذلك فتنة {وَلا نِسَآاـاِهِنَّ} يعني المؤمنات فتنظر المسلمة إلى المسلمة سوى ما بين السرة والركبة وأبو حنيفة يوجب ستر الركبة فالمراد بالنساء نساء أهل دينهن من الحرائر فلا يجوز للكتابيات الدخول عليهن والتكشف عندهن أو المراد المسلمات والكتابيات وإنما قال ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن فيحل دخول الكتابيات عليهن وقد كانت النساء الكوافر من اليهوديات وغيرهن يدخلن على نساء النبي عليه السلام فلم يكن يحتجبن ولا أمرن بالحجاب وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومالك {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ} من العبيد والإماء فيكون عبد المرأة محرماً لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً وأن ينظر إليها كالمحارم وقد أباحت عائشة النظر لعبدها وقالت لذكوان : إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر وقيل من الإماء خاصة فيكون العبد حكمه حكم الأجنبي معها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال في "بحر العلوم" وهو أقرب إلى التقوى لأن عبد المرأة كالأجنبي خصياً كان أو فحلاً وأين مثل عائشة وأين مثل عبدها في العبيد لا سيما في زماننا هذا وهو قول أبي حنيفة وعليه الجمهور فلا يجوز لها الحج ولا السفر معه وقد أجاز رؤيته إلى وجهها وكفيها إذا وجد الأمن من الشهوة ولكن جواز النظر لا يوجب المحرمية وقد سبق بعض ما يتعلق بالمقام في سورة النور فراجع لعلك تجد السرور {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فيما أمرتن من الاحتجاب واخشين حتى لا يراكن غير هؤلاء ممن ذكر وعليكن بالاحتياط ما قدرتن ، قال الكاشفي : (س عدول كرد از غيبت بخطاب بجهت تشديد وامر فرمودكه اى زنان در س حجاب قرار كيريد وبترسيد ازخداى ورده شرم ازيش برنداريد) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا} لا يخفى عليه خافية من الأقوال والأفعال ولا يتفاوت في علمه والأوقات والأحوال.
ونكه خدا شد بخفايا كواه
كرد شمارا همه لحظه نكاه
ديده بوشيد زنا محرمان
دور شويد ازره وهم وكمان
درس زانوى حيا ووقار
خوش بنشينيد بصبر وقرار
218
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالآية إلى تسكين قلوبهن بعد فطامهن عن مألوفات العادة ونقلهن إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة فمنّ عليهن وعلى أقربائهن بإنزاله هذه الرخصة لأنه ما أخرجهن وما خلى سبيل الاحتياط لهن مع ذلك فقال : {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فيهن وفي غيرهن بحفظ الخواطر وميل النفوس وهمها {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من أعمال النفوس وأحوال القلوب {شَهِيدًا} حاضراً وناظراً إليها.
قال أبو العباس الفاسي : الشهيد هو الحاضر الذي لا يغيب عنه معلوم ولا مرئى ولا مسموع ومن عرف أنه الشهيد عبده على المراقبة فلم يره حيث نهاه ولم يفقده حيث أمره واكتفى بعلمه ومشاهدته عن غيره فالله تعالى لا يغيب عنه شيء في الدنيا والآخرة وهو يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم.
ذره نيست درمكين ومكان
كه نه علمش بود محيط برآن
عدد ريك دربيانانها
عدد بركها ببستانها
همه نزديك اوبود ظاهر
همه در علم اوبود حاضر
وخاصية هذا الاسم الرجوع عن الباطل إلى الحق حتى أنه إذا أخذ من الولد العاق من جبهته شعر وقرىء عليه أو على الزوجة كذلك الفا فإنه يصلح حالها كما في شرح الأسماء للفاسي نسأل الله سبحانه أن يصلح أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا ويوجه إلى جنابه الكريم آمالنا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَهُ} .
اعلم أن الملائكة عند أهل الكشف من أكابر أهل الله على قسمين :
قسم تنزلوا من مرتبة الأرواح إلى مرتبة الأجسام فلهم أجسام لطيفة كما أن للبشر أجساماً كثيفة وهم المأمورون بسجود آدم عليه السلام ويدخل فيهم جميع الملائكة الأرضية والسماوية أصاغرهم وأكابرهم كجبريل وغيره بحيث لا يشذ منهم فرد أصلاً.(7/169)
وقسم بقوا في عالم الأرواح وتجردوا عن ملابس الجسمانية لطيفة كانت أو كثيفة وهم المهيمون الذين أشير إليهم بقوله تعالى : {أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} وهم غير مأمورين بالسجود إذ ليس لهم شعور أصلاً لا بأنفسهم ولا بغيرهم من الموجودات مطلقاً لاستغراقهم في بحر شهود الحق.
والإنسان أفضل من هذين القسمين في شرف الحال ورتبة الكمال لأنه مخلوق بقبضتي الجمال والجلال بخلاف الملائكة فإنهم مخلوقون بيد الجمال فقط كما أشير إليه بقوله :
ملائك را ه سود ازحسن طاعت
و فيض عشق بر آدم فرو ريخت
وذلك لأن العشق يقتضي المحنة وموطنها الدنيا ولذا أهبط آدم من الجنة والمحنة من باب التربية وهي من آثار الجلال والمراد بالملائكة ههنا هو القسم الأول لأنهم يشاركون مؤمني البشر في الجمال والوجود الجسماني فكما أن مؤمني البشر كلهم يصلون على النبي فكذا هذا القسم من الملائكة مع أن مقام التعظيم يقتضي التعميم كما لا يخفى على ذي القلب السليم فاعرف واضبط أيها اللبيب الفهيم {يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ} أي : يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه وذلك من الله تعالى بالرحمة ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
فقوله يصلون محمول على عموم المجاز إذ لا يجوز إرادة معنيي المشترك معاً فإنه لا عموم للمشترك مطلقاً أي : سواء كان بين المعاني تنافٍ أم لا.
قال القهستاني : الصلاة من الله
219
الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن الإنس والجن القيام والركوع والسجود والدعاء ونحوها ومن الطير والهوام التسبيح اسم من التصلية وكلاهما مستعمل بخلاف الصلاة بمعنى أداء الأركان فإن مصدرها لم يستعمل فلا يقال صليت تصلية بل صلاة ، وقال بعضهم : الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة لغير النبي عليه السلام وبمعنى التشريف بمزيد الكرامة للنبي والرحمة عامة والصلاة خاصة كما دل العطف على التغاير في قوله تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{أُوالَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة : 157) ، وقال بعضهم : صلوات الله على غير النبي رحمة وعلى النبي ثناء ومدحة قولاً وتوفيق وتأييد فعلاً وصلاة الملائكة على غير النبي استغفار وعلى النبي إظهار للفضيلة والمدح قولاً والنصرة والمعاونة فعلاً وصلاة المؤمنين على غير النبي دعاء وعلى النبي طلب الشفاعة قولاً واتباع السنة فعلاً.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} اعتنوا أنتم أيضاً بذلك فإنكم أولى به {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} بأن تقولوا اللهم صل على محمد وسلم أو صلى الله عليه وسلم بأن يقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم لقوله عليه السلام : "إذا صليتم عليّ فعمموا" وإلا فقد نقصت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم كما في شرح القهستاني.
وقال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة لم أقف عليه أي : على هذا الحديث بهذا اللفظ ويمكن أن يكون بمعنى صلوا عليّ وعلى أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني انتهى.
وخص اللهم ولم يقل يا رب ويا رحمن صلِ لأنه اسم جامع دال على الألوهية وعلامة الإسلام في قوله لا إله إلا الله فناسب ذكره وقت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم لأنه عليه السلام جامع لنعوت الكمال مشتمل على أسرار الجمال والجلال.
وخص اسم محمد لأن معناه المحمود مرة بعد أخرى فناسب مقام المدح والثناء.
والمراد بآله الأتقياء من أمته فدخل فيه بنو هاشم والأزواج المطهرة وغيرهم جميعاً.
قال في شرح "الكشاف" وغيره معنى قوله : اللهم صل على محمد اللهم عظمه في الدنيا بإعلاء دينه وإعظام ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته وإظهار فضله عن الأولين والآخرين وتقديمه على كافة الأنبياء والمرسلين ولما لم يكن حقيقة الثناء في وسعنا أمرنا أن نكل ذلك إليه تعالى فالله يصلي عليه بسؤالنا.
سلام من الرحمن نحو جنابه
لأن سلامي لا يليق ببابه
فإن قلت فما الفائدة في الأمر بالصلاة؟ قلت : إظهار المحبة للصلاة كما استحمد فقال : قل الحمدإظهاراً لمحبة الحمد مع أنه هو الحامد لنفسه في الحقيقة ومعنى سلم اجعله يا رب سالماً من كل مكروه كما قال القهستاني.
وقال بعضهم : (التسليم هنا بمعنى : آفرين كردن) ويجيىء بمعنى (اك ساختن ، وسردن وفروتنى كردن وسلامت دادن).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "الفتوحات المكية" أن السلام إنما شرع من المؤمنين لأن مقام الأنبياء يعطي الاعتراض عليهم لأمرهم الناس بما يخالف أهواءهم فكأن المؤمن يقول : يا رسول الله أنت في أمان من اعتراضي عليك في نفسي وكذلك السلام على عباد الله الصالحين ، فإنهم كذلك يأمرون الناس بما يخالف أهواءهم بحكم الإرث للأنبياء وأما تسليمنا على أنفسنا فإن فينا ما يقتضي الاعتراض واللوم منا علينا فنلزم نفوسنا التسليم
220
(7/170)
فيه لنا ولا نعترض كما يقول الإنسان قلت لنفسي كذا فقالت : لا ولم نقف على رواية عن النبي عليه السلام في تشهده الذي كان يقوله في الصلاة هل كان يقول مثلنا السلام عليك أيها النبي أو كان يقول السلام عليّ أو كان لا يقول شيئاً من ذلك ويكتفي بقوله : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
فإن كان يقول مثل ما أمرنا نقول في ذلك وجهان : أحدهما أن يكون المسلم عليه هو الحق وهو مترجم عنه كما جاء في سمع الله لمن حمده.
والوجه الثاني أنه كان يقام في صلاته في مقام الملائكة مثلاً ثم يخاطب نفسه من حيث المقام الذي أقيم فيه أيضاً من كونه نبياً فيقول : السلام عليك أيها النبي فعل الأجنبي فكأنه جرد من نفسه شخصاً آخر انتهى كلام الفتوحات.
قالوا : السلام مخصوص بالحي والنبي عليه السلام ميت.
وأجيب بأن المؤمن لا يموت حقيقة وإن فارق روحه جسده فالنبي عليه السلام مصون بدنه الشريف من التفسخ والانحلال حي بالحياة البرزخية ويدل عليه قوله : "إنملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام" ، وفي الحديث : "ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام" ويؤخذ من هذا الحديث أنه حي على الدوام في البرزخ الدنيوي لأنه محال عادة أن يخلو الوجود كله من واحد يسلم على النبي في ليل أو نهار.
فقوله رد الله عليّ روحي أي : أبقى الحق فيّ شعور خيالي الحسي في البرزخ وإدراك حواسي من السمع والنطق فلا ينفك الحس والشعور الكلي عن الروح المحمدي وليس له غيبة عن الحواس والأكوان لأنه روح العالم وسره الساري.
قال الإمام السيوطي : وللروح بالبدن اتصال بحيث يسمع ويشعر ويرد السلام فيكون عليه السلام في الرفيق الأعلى وهي متصلة بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على صاحبها رد عليه السلام وهي في مكانها هناك وإنما يأتي الغلط هنا من قياس الغائب على الشاهد فيعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يكن أن تكون في غيره وهذا غلط محض وقد رأى النبي موسى عليهما السلام ليلة المعراج قائماً يصلي عليه وهو في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان ولولا لطافة الروح ونورانيتها ما صح اختراق بعض الأولياء الجدران ولا كان قيام الميت في قبره والتراب عليه أو التابوت فإنه لا يمنعه شيء من ذلك عن قعوده وقد صح أن الإنسان يمكن أن يدخل من الأبواب الثمانية للجنة في آن واحد لغلبة الروحانية مع تعذره في هذه النشأة الدنيوية.
وقد مثل بعضهم بالشمس فإنها في السماء كالأرواح وشعاعها في الأرض وفي الحديث : "ما من عبد يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام" ولعل المراد أن يرد السلام بلسان الحال لا بلسان المقال لأنهم يتأسفون على انقطاع الأعمال عنهم حتى يتحسرون على رد السلام وثوابه.
قال الشيخ المظهر التسليم على الأموات كالتسليم على الأحياء وأما قوله عليه السلام : "عليكم السلام تحية الموتى" أي : بتقديم عليكم فمبني على عادة العرب وعرفهم فإنهم كانوا إذا سلموا على قبر يقدمون لفظ عليكم فتكلم عليه السلام على عادتهم.
وينبغي أن يقول المصلى اللهم صل على محمد وعلى آل محمد بإعادة كلمة على فإن أهل السنة التزموا إدخال على على الآل رداً على الشيعة فإنهم منعوا ذكر على بين النبي وآله وينقلون في ذلك حديثاً وهو "من فصل بيني وبين آلي بعلي لم ينله شفاعتي" قاله القهستاني والعصام وغيرهما.
وقال
221
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/171)
محمد الكردي : هذا غير ثابت وعلى تقدير الثبوت فالمراد به علي بن أبي طالب بأن يجعل علياً من آله دون غيرهم فيكون فيه تعريض للشيعة فإنهم الذين يفصلون بينه وبين آله به لفرط محبتهم له ولذا قال عليه السلام لعلي : "هلك فيك اثنان محب مفرط ومبغض مفرط" فالمحب المفرط الروافض والمبغض الخوارج ونحن فيما بين ذلك انتهى كلامه.
ولا يقول في الصلاة وارحم محمداً فإنه يوهم التقصير إذ الرحمة تكون بإتيان ما يلام عليه وهو الأصح كما ذكره شرف الدين الطيبي في "شرح المشكاة".
وقال في "الدر" الصحيح إنه يكره.
قال الشيخ علي في "أسئلة الحكم" : حرمت الصدقة على رسول الله وعلى آله لأن الصدقة تنشأ عن رحمة الدافع لمن يتصدق عليه فلم يرد الله أن يكون مرحوم غيره ولهذا نهى بعض الفقهاء عن الترحم في الصلاة عليه تأدباً لتلك الحضرة وإن كانت الرواية وردت به كما ذكره صدر الشريعة.
ويتصل به قراءة الفاتحة لروحه المطهرة فالشافعي وأصحابه منعوا ذلك لروحه ولأرواح سائر الأنبياء عليهم السلام لأن العادة جرت بقراءة الفاتحة لأرواح العصاة فيلزم التسوية بأرواحهم مع أن في الدعاء بالترحم التحقير وجوزه أبو حنيفة وأصحابه لأنه عليه السلام دعا لبعض الأنبياء بالرحمة كما قال : "رحم الله أخي موسى" "ورحم الله أخي لوطاً" وقال بين السجدتين : "اللهم اغفر لي وارحمني" وقال في تعليم السلام : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فليس أحد مستغنياً عن الرحمة.
وأيضاً فائدة القراءة ونحوها عائدة إلينا كما قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : الصلاة على النبي في الصلاة وغيرها دعاء من العبد المصلي لمحمد صلى الله عليه وسلّم بظهر الغيب وقد ورد في الحديث الصحيح : "إن من دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك ولك بمثله" وفي رواية "ولك بمثليه" فشرع ذلك رسول الله وأمر الله به في قوله : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} ليعود هذا الخير من الملك إلى المصلي انتهى.
وفي الدعاء أيضاً حكمة جليلة.
قال بعض الكبار : أما الوسلية فهي أعلى درجة في الجنة أي : جنة عدن وهي لرسول الله حصلت له بدعاء أمته فعلى ذلك الحق سبحانه حكمة أخفاها فإنا بسببه نلنا السعادة من الله وبه كنا خير أمة أخرجت للناس وبه ختم الله لنا كما ختم به النبيين وهو عليه السلام بشر كما أمر أن يقول ولنا وجه خاص إلى الله نناجيه منه ويناجينا وكذلك كل مخلوق له وجه خاص إلى الله فأمرنا عن أمر الله أن ندعو له بالوسيلة حتى ينزل فيها بدعاء أمته وهذا من باب الغيرة الإلهية إن فهمت.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال في "التأويلات النجمية" : يشير بهذا الاختصاص إلى كمال العناية في حق النبي وفي حق أمته.
أما في حق النبي فإنه يصلي عليه صلاة تليق بتلك الحضرة المقدسة عن الشبه والمثال مناسبة لحضرة نبوته بحيث لا يفهم معناها سواها.
وأما في حق أمته فهو إنه تعالى أوجب على أمته الصلاة عليه ثم جازاهم بكل صلاة عليه عشر صلوات من صلاته وبكل سلام عشراً لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذه عناية مختصة بالنبي وأمته.
ولصلاة الله على عباده مراتب بحسب مراتب العباد ولها معان كالرحمة والمغفرة والوارد والشواهد والكشوف والمشاهدة والجذبة والقرب والشرب والري والسكر والتجلي والفناء في الله والبقاء بالله فكل هذا من قبيل الصلاة على العبد.
وقال بعضهم : صلوات الله على النبي تبليغه إلى المقام المحمود وهو مقام الشفاعة لأمته وصلوات الملائكة دعاؤهم له بزيادة
222
مرتبته واستغفارهم لأمته وصلوات الأمة متابعتهم له ومحبتهم إياه والثناء عليه بالذكر الجميل وهذا التشريف الذي شرف الله به نبينا عليه السلام أتم من تشريف آدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له لأنه لا يجوز أن يكون الله تعالى مع الملائكة في هذا التشريف وقد أخبر تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي ثم عن الملائكة.
عقل دور انديش ميداندكه تشريفي نين
هي دين رورنديد وهي يغمبر نيافت
يصلى علي عليه الله جل جلاله
بهذا بدا للعالمين كماله
بجامه خانه دين خلعت درود وسلام
وكشت دوخته برقامت تو آمدراست
نشان حرمت صلوا عليه بر نامت
نوشته اندونين منصبي شريف تراست
(بعد از نزول آيت صلوات هردو رخسار مبارك آن حضرت از غايت مسرت برافروخته كشت وفرمودكه تهنيت كوييد مراكه آيت بر من فرود آمدكه دوستراست نزديك من از دنيا وهره دراوست) :
نورى از روزن اقبال در آفتاد مرا
كه ازان خانه دل شد طرب آباد مرا
(7/172)
عن الأصمعي قال : سمعت المهدي على منبر البصرة يقول : إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال : {إِنَّ اللَّهَ} الخ آثره صلى الله عليه وسلّم من بين الرسل واختصكم بها من بين الأمم فقابلوا نعمة الله بالشكر وإما بدأ تعالى بالصلاة عليه بنفسه إظهاراً لشرفه ومنزلته وترغيباً للأمة فإنه تعالى مع استغنائه إذا كان مصلياً عليه كان الأمة أولى به لاحتياجهم إلى شفاعته وتقوية لصلوات الملائكة والمؤمنين فإن صلاة الحق حق وصلاة غيره رسم والرسم يتقوى بمقارنة الحق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ازكنه وصف توكه تواندكه دم زند
وصفى سزاى تونكند خداى تو
وإشارة إلى أنه عليه السلام مجلى تام لأنوار الجمال والجلال ومظهر جامع لنعوت الكمال به فاض الجود وظهر الوجود.
ثم ثنى بملائكة قدسه فإنهم مقدمون في الخلقة وأهل عليين في الصورة خائفون كبني آدم من نوازل القضاء ومستعيذون بالله من مثل واقعة إبليس وهاروت وماروت فاحتاجوا إلى الصلاة على النبي عليه السلام ليحصل لهم جمعية الخاطر والحفظ من المحن والبليات ببركة الصلوات.
وأيضاً ليظهر لصلوات المؤمنين رواج بسبب موافقة صلواتهم كما ورد في آمين.
وأيضاً لما خلق آدم رأوا أنوار محمد عليه السلام على جبينه فصلوا عليه وقتئذٍ فلما تشرف بخلقة الوجود قيل لهم : هذا هو الذي كنتم تصلون عليه وهو نور في جبين آدم فصلوا عليه وهو موجود بالفعل في العالم.
ثم ثلث بالمؤمنين من برية جنه وإنسه في المؤمنين محتاجون إلى الصلاة عليه أداء لبعض حقوق الدعوة والأبوة فإنه عليه السلام بمنزلة الأب للأمة وقد أراد في التعليم والتربية و"الإرشاد" وبالغ في لوازم الشفقة على العباد وثناء المعلم واجب على المتعلم وشكر الأب لازم على الابن.
ميان باغ جهان از زلال فيض حبيب
نهال جان مرا صد هزار نشو ونماست
وأيضاً في الصلوات شكر على كونه أفضل الرسل وكونهم خير الأمم.
وأيضاً فيها إيجاب حق
223
الشفاعة على ذمة ذلك الجناب فإن الصلوات ثمن الشفاعة فإذا أدوا الثمن هذا اليوم يرجى أن يحرزوا المثمن يوم القيامة :
بضاعت بندانكه آرى برى
اكر مفلسى شر مسارى برى
ألا أيها الإخوان صلوا وسلموا
على المصطفى في كل وقت وساعة
فإن صلاة الهاشمي محمد
تنجى من الأهوال يوم القيامة
وبقدر صلواتهم عليه تحصل المعارفة بينهم وبينه.
وعلامة المصلي يوم القيامة أن يكون لسانه أبيض.
وعلامة التارك أن يكون لسانه أسود وبهما تعرف الأمة يومئذٍ.
وأيضاً فيها مزيد القربات وذلك لأن بالصلوات تزيد مرتبة النبي فتزيد مرتبة الأمة لأن مرتبة التابع تابعة لمرتبة المتبوع كما أشار إليه حضرة المولى جلال الدين الرومي في المعراجية بقوله :
صلوات برتو آردم كه فزوده باد قربت
ه بقرب كل بكردد همه جزؤها مقرب
وأيضاً فيها إثبات المحبة ومن أحب شيئاً أكثر ذكره.
قال بعضهم : صيغة المضارع يعني : {يَصِلُونَ} (دلالت بر آن ميكندكه ملائكه يوسته دركفتن صلواتند س درود دهنده متشبه باشد بديشان وبحكم "من تشبه بقوم فهو منهم" از طهارت وعصمت كه لوازم ذات ملائكه است محتظى كردد وبا عالم روحانى آشنايى يابد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يا سيد انام درود وصلاة تو
ورد زبان ماست مه وسال وصبح وشام
نزديك تو ه تحفه فرستيم ما زدور
دردست ما همين صلاتست والسلام
قال سهل بن عبد الله التستري قدس سره : الصلاة على محمد أفضل العبادات لأن الله تولاها هو وملائكته ثم أمر بها المؤمنين وسائر العبادات ليس كذلك يعني أن الله تعالى أمر بسائر العبادات ولم يفعله بنفسه.
قال الصديق الأكبر رضي الله عنه : الصلاة عليه أمحق للذنوب من الماء البارد للنار وهي أفضل من عتق الرقاب لأن عتق الرقاب في مقابلة العتق من النار ودخول الجنة والسلام على النبي عليه السلام في مقابلة سلام الله وسلام الله أفضل من ألف حسنة.
قال الواسطي صل عليه بالأوقار ولا تجعل له في قلبك مقدار أي : لا تجعل لصلواتك عليه مقدراً تظن أنك تقضي به من حقه شيئاً بصلواتك عليه استجلاب رحمة على نفسك به وفي الحديث : "إنملكاً أعطاه سمع الخلائق وهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فليس أحد من أمتي يصلي عليّ صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه قال : يا محمد صلى عليك فلان كذا وكذا ويصلي الرب على ذلك الرجل بكل واحدة عشراً" وفي الحديث : "إذا صليتم عليّ فأحسنوا عليّ الصلاة فإنكم تعرضون عليّ بأسمائكم وأسماء آبائكم وعشائركم وأعمامكم" ومن إحسان الصلوات حضور القلب وجمع الخاطر.
وقد قال بعضهم : إنما تكون الصلوات على النبي طاعة وقربة ووسيلة واستجابة إذا قصد بها التحية والتوسل والتقرب إلى حضرة النبوة الأحمدية فإنه بهذه المناسبة يحصل له التقرب إلى الحضرة الأحدية ألا ترى أن التقرب إلى القمر كالتقرب إلى الشمس فإنه مرآتها ومطرح أنوارها وفي الحديث "من صلى واحدة أمر الله حافظه أن لا يكتب عليه ثلاثة أيام".
ورأت امرأة ولدها بعد موته يعذب فحزنت لذلك
(7/173)
224
ثم رأته بعد ذلك في النور والرحمة فسألته عن ذلك فقال : مر رجل بالمقبرة فصلى على النبي عليه السلام وأهدى ثوابها للأموات فجعل نصيبي من ذلك المغفرة فغفر لي.
ـ وحكي ـ عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال : بينا أنا أطوف بالبيت إذ رأيت رجلاً لا يرفع قدماً آلا وهو يصلي على النبي عليه السلام فقلت : يا هذا إنك تركت التسبيح والتهليل وأقبلت بالصلاة على النبي عليه السلام فهل عندك في هذا شيء؟ فقال : من أنت عافاك الله فقلت : أنا سفيان الثوري فقال : لولا أنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي ولا أطلعتك على سري ثم قال : خرجت أنا وأبي حاجين إلى بيت الله الحرام حتى إذا كنا في بعض المنازل مرض أبي ومات واسود وجهه وازرقت عيناه وانتفخ بطنه فبكيت وقلت : إناوإنا إليه راجعون مات أبي في أرض غربة هذه الموتة فجذبت الإزار على وجهه فغلبتني عيناي فنمت فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه وجهاً ولا أنظف ثوباً ولا أطيب ريحاً فدنا من أبي فكشف الإزار عن وجهه ومسح على وجهه فصار أشد بياضاً من اللبن ثم مسح على بطنه فعاد كما كان ثم أراد أن ينصرف فقمت إليه فأمسكت بردائه وقلت : يا سيدي بالذي أرسلك إلى أبي رحمة في أرض غربة من أنت؟ فقال : أو ما تعرفني؟ أنا محمد رسول الله كان أبوك هذا كثير المعاصي غير أنه كان يكثر الصلاة عليّ فلما نزل به ما نزل استغاث بي فأغثته وأنا غياث لمن يكثر الصلاة عليّ في دار الدنيا فانتبهت فإذا وجه أبي قد ابيض وانتفاخ بطنه قد زال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
شفع نبيك في ذلي ومسكنتي
واستر فإنك ذو فضل وذو كرم
قال كعب بن عجرة رضي الله عنه : لما نزل قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قمنا إليه فقلنا أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك يا رسول الله قال : "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" كما في "تفسير التيسير" وهي الصلاة التي تقرأ في التشهد الأخير على ما هو الأصح ذكرها الزاهدي رواية عن محمد.
والمعنى اللهم صل على محمد صلاة كاملة كما دل عليه الإطلاق.
وقوله وعلى آل محمد من عطف الجملة أي : وصل على آله مثل الصلاة على إبراهيم وآله فلا يشكل بوجوب كون المشبه به أقوى كما هو المشهور ذكره القهستاني.
وقال في "الضياء المعنوي" : هذا تشبيه من حيث أصل الصلاة لا من حيث المصلى عليه لأن نبينا أفضل من إبراهيم فمعناه اللهم صل على محمد بمقدار فضله وشرفه عندك كما صليت على إبراهيم بقدر فضله وشرفه وهذا كقوله تعالى : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} (البقرة : 200) يعني : اذكروا الله بقدر نعمه وآلائه عليكم كما تذكرون آباءكم بقدر نعمهم عليكم وتشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد وإن كان لا يشبهه من كل وجه كما قال تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ} (آل عمران : 59) من وجه واحد وهو تخليقه عيسى من غير أب انتهى (ودر شرح مشكاة مذكوراست كه تشبيهي كه در كما صليت واقع شده نه ازقبيل الحاق ناقص است بكامل بلكه ازباب بيان حال ما لا يعرف است بما يعرف يعنى بسبب نزول
225
آيت {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَـاتُه عَلَيْكُمْ} (هود : 73) درود إبراهيم وآل أوميان أهل ايمان اشتهار تام داشت وهمه دانسته بودندكه خداى بر ابراهيم درود وبركت فرستاده س حضرت يغمبر فرمودكه ازخداى درخواهيدكه فرستد بر من صلواتي مشهور ومعروف مانند صلوات ابراهيم وكويند كاف در "كما" براى تأكيد وجود آيدنه براى قرآن دروقوع نانكه {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا}
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/174)
زيرا كه تر بيت واقعست از والدين ورحمت مطلوب الوقوع براى ايشان س فائده كاف تأكيداست دروجود رحمت يعنى ايجاد كن رحمت ايشانرا ايجادى محقق ومقرراست س ميكويد ارسال كن صلوات را بر حبيب خود ووجود ده آنرا همنانه قبل ازين وجود داده بودى براى خليل خود) وهذا المعنى قريب مما في الضياء المعنوي كما سبق (وكفته اند حضرت يغمبر درضمن اين تشبيه مر امت خودرا طريق تواضع تعليم فرموده وبتكريم آباء اشارتى نموده يعنى با آنكه صلوات من اكمل واشرفست از درود ابراهيم آنرا دررتبه أقوى وأرفع ميدارم وحرمت ابويت ويرا فرو نمى كذا رم ومانند اين در كسر نفس ونفى غائله تكبر بسيار ازان حضرت مروى ومذكرو است نانه) "أنا أول من ينشق عنه الأرض ولا فخر وأنا حبيب ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ولا تفضلوني على موسى.
ولا تخيروني على إبراهيم.
ولا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس" وإنما صلينا على إبراهيم وعلى آل إبراهيم لأنه حين تم بناء البيت دعوا للحجاج بالرحمة فكافأناهم بذلك.
وقال الإمام النيسابوري : لأنه سأل الله أن يبعث نبياً من ذرية إسماعيل فقال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} (البقرة : 129) ولذا قال عليه السلام : "انا دعوة أبي إبراهيم" فكافأه وشكره وأثنى عليه مع نفسه بالصلاة التي صلى الله وملائكته عليه وهذه الصلاة من الحق عليه هي قرة عين لأنه أكمل مظاهر الحق ومشاهد تجلياته ومجامع أسراره.
وفي الخبر أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام جنة عريضة مكتوب على أشجارها لا إله إلا الله محمد رسول الله فسأل جبريل عنها فأخبره بقصتها فقال : يا رب أجر على لسان أمة محمد ذكري فاستجاب الله دعاءه وضم في الصلاة مع محمد عليهما السلام.
وأيضاً أمرنا بالصلاة على إبراهيم لأن قبلتنا قبلته ومناسكنا مناسكه والكعبة بناؤه وملته متبوعة الأمم فأوجب الله على أمة محمد ثناءه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يقول الفقير : كان إبراهيم عليه السلام قطب التوحيد الذاتي وصلوات الله عليه أتم من صلواته على سائر أصفيائه.
وكان أمته أكثر استعداداً من الأمم السالفة حتى بعث الله غيره إلى جميع المراتب من الأفعال والصفات والذات وإن لم يظهر حكمها تفصيلاً كما في هذه الأمة المرحومة ولذا اختص ببناء الكعبة إشارة إلى سر الذات ولذا لم يتكرر الحج تكرر سائر العبادات وأمر نبينا باتباع ملته أي : باعتبار الجمع دون التفصيل إذ لا متمم لتفاصيل الصفات إلا هو ولذلك لم يكن غيره خاتماً فلهذه المعاني خص إبراهيم بالذكر في الصلاة وشبه صلوات نبينا بصلاته دون صلوات غيره فاعرف.
ثم إن الآية الكريمة دلت على وجوب الصلاة والسلام على نبينا عليه السلام وذلك لأن النفس الإنسانية منغمسة غالباً في العلائق البدنية والعوائق الطبيعية كالأكل والشرب ونحوها وكالأوصاف الذميمة والأخلاق
226
(7/175)
الرديئة والمفيض تعالى وتقدس في غاية التنزه والتقدس فليس بينهما مناسبة والاستفاضة منه إنما تحصل بواسطة ذي جهتين أي : جهة التجرد وجهة التعلق كالحطب اليابس بين النار والحطب الرطب وكالغضروف بين اللحم والعظم وتلك الواسطة حضرة صاحب الرسالة عليه السلام حيث يستفيض من جهة تجرده ويفيض من جهة تعلقه فالصلاة عليه واجبة عقلاً كما أنها واجبة شرعاً أي : بهذه الآية لكن مطلقاً أي : في الجملة إذ ليس فيها تعرض للتكرار كما في قوله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41).
وقال الطحاوي : تجب الصلاة عليه كلما جرى ذكره على لسانه أو سمعه من غيره.
قال في "بحر العلوم" وهو الأصح لأن الأمر وإن كان لا يقتضي التكرار إلا أن تكرار سبب الشيء يقتضي تكراره كوقت الصلاة لقوله عليه السلام : "من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله" أي : من رحمته وفي الحديث : "لا يرى وجهي ثلاثة أقوام أحدها العاق لوالديه والثاني تارك سنتي والثالث من ذكرت عنده فلم يصل عليّ" وفي الحديث : "أربع من الجفاء أن يبول الرجل وهو قائم وأن يمسح جبهته قبل أن يفرغ وأن يسمع النداء فلا يشهد مثل ما يشهد المؤذن وأن أذكر عنده فلا يصلي عليّ".
فإن قلت : الصلاة على النبي لم تخلُ عن ذكره ولو وجبت كلما ذكر لم نجد فراغاً من الصلاة عليه مدة عمرنا.
قلت : المراد من ذكر النبي الموجب للصلاة عليه الذكر المسموع في غير ضمن الصلاة عليه.
وقيل : تجب الصلاة في كل مجلس مرة في الصحيح وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس وإن كان السنة أن يشمت لكل مرة إلى أن يبلغ إلى ثلاث ثم هو مخير إن شاء شمته وإن شاء تركه.
وكذلك تجب الصلاة في كل دعاء في أوله وآخره وقيل : تجب في العمر مرة كما في إظهار الشهادتين والزيادة عليها مندوبة والذي يقتضيه الاحتياط وتستدعيه معرفة علو شأنه أن يصلي عليه كلما جرى ذكره الرفيع كما قال في "فتح الرحمن" : المختار في مذهب أبي حنيفة أنها مستحبة كلما ذكر وعليه الفتوى.
وفي تفسير الكاشفي (وفتوى بر آنست كه نام آن حضرت هرند تكرار يابد يك نوبت درود واجبست وباقي سنت) أي : يستحب تكرارها كلما ذكر بخلاف سجود التلاوة فإنه لا يندب تكراره بتكرير التلاوة في مجلس واحد.
والفرق أن الله تعالى غني غير محتاج بخلاف النبي عليه السلام كما في "حواشي الهداية" للإمام الخبازي ولو تكرر اسم الله في مجلس واحد أو في مجالس يجب لكل مجلس ثناء على حدة بأن يقول : سبحان الله أو تبارك الله أو جل جلاله أو نحو ذلك فإن تعظيم الله لازم في كل زمان ومكان ولو تركه لا يقضي بخلاف الصلاة على النبي عليه السلام لأنه لا يخلو عن تجدد نعم الله الموجبة للثناء فلا يخلص للقضاء وقت بخلاف الصلاة على النبي فتبقى ديناً في الذمة فتقضي لأن كل وقت محل للأداء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي قاضي خان رجل يقرأ القرآن ويسمع اسم النبي لا تجب عليه الصلاة والتسليم لأن قراءة القرآن على النظم والتأليف أفضل من الصلاة على النبي فإذا فرغ من القرآن إن صلى عليه كان حسناً وإن لم يصل لا شيء عليه.
أما الصلاة عليه في التشهد الأخير كما سبق فسنة عند أبي حنيفة ومالك وشرط لجواز الصلاة عند الشافعي وركن عند أحمد فتبطل الصلاة عندهما بتركها عمداً كان أو سهواً لقوله عليه
227
(7/176)
السلام : "لا صلاة لمن لم يصل عليّ في صلاته" قلنا ذلك محمول على نفي الكمال ولو كانت فريضة لعلمها النبي عليه السلام الأعرابي حين علمه أركان الصلاة.
وأما الصلاة على غير الأنبياء فتجوز تبعاً بأن يقول اللهم صل على محمد وعلى آله.
ويكره استقلالاً وابتداء كراهة تنزيه كما هو الصحيح الذي عليه الأكثرون فلا يقال اللهم صل على أبي بكر لأنه في العرف شعار ذكر الرسل.
ومن هنا كره أن يقال محمد عز وجل مع كونه عزيزاً جليلاً ولتأديته إلى الاتهام بالرفض لأنه شعار أهل البدع وقد نهينا عن شعارهم وفي الحديث : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم".
وأما السلام : فهو في معنى الصلاة فلا يستعمل الغائب فلا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال عليّ عليه السلام كما تقول الروافض وتكتبه وسواء في هذا الأحياء والأموات.
وأما الحاضر فيخاطب به فيقال : السلام عليك أو عليكم وسلام عليك أو عليكم وهذا مجمع عليه.
والسلام على الأموات عند الحضور في القبور من قبيل السلام على الحاضر وقد سبق.
وأما إفراد الصلاة عن ذكر السلام وعكسه فقد اختلفت الروايات فيه منهم من ذهب إلى عدم كراهته فإن الواو في وسلموا لمطلق الجمع من غير دلالة على المعية وعن إبراهيم النخعي أن السلام أي : قول الرجل عليه السلام يجزي عن الصلاة على النبي عليه السلام لقوله تعالى : {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا} ولكن لا يقتصر على الصلاة فإذا صلى أو كتب اتبعها التسليم.
ويستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار فيقال أبو بكر وأبو حنيفة رضي الله عنه أو رحمه الله أو نحو ذلك فليس رضي الله عنه مخصوصاً بالصحابة بل يقال فيهم رحمه الله أيضاً.
والأرجح في مثل لقمان ومريم والخضر والاسكندر المختلف في نبوته أن يقال رضي الله عنه أو عنها ولو قال عليه السلام أو عليها السلام لا بأس به.
وقال الإمام اليافعي في "تاريخه" : والذي أراه أن يفرق بين الصلاة والسلام والترضي والترحم والعفو.
فالصلاة مخصوصة على المذهب الصحيح بالأنبياء والملائكة.
والترضي مخصوص بالصحابة والأولياء والعلماء.
والترحم لمن دونهم.
والعفو للمذنبين.
والسلام مرتبة بين مرتبة الصلاة والترضي فيحسن أن يكون لمن منزلته بين منزلتين أعني يقال لمن اختلف في نبوتهم كلقمان والخضر وذي القرنين لا لمن دونهم.
ويكره أن يرمز للصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام في الخط بأن يقتصر من ذلك على الحرفين هكذا "عم" أو نحو ذلك كمن يكتب "صلعم" يشير به إلى صلى الله عليه وسلّم ويكره حذف واحد من الصلاة والتسليم والاقتصار على أحدهما وفي الحديث : "من صلى عليّ في كتاب لم تزل صلاته جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب" كما في "أنوار المشارق" لمفتي حلب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ثم إن للصلوات والتسليمات مواطن : فمنها : أن يصلي عند سماع اسمه الشريف في الأذان ، قال القهستاني في شرحه الكبير نقلاً عن "كنز العباد" : اعلم أنه يستحب أن يقال عند سماع الأولى من الشهادة الثانية "صلى الله عليك يا رسول الله" وعند سماع الثانية "قرة عيني بك يا رسول الله" ثم يقال : "اللهم متعني بالسمع والبصر" بعد وضع ظفر الإبهامين على العينين فإنه صلى الله عليه وسلّم يكون قائداً له إلى الجنة انتهى.
قال بعضهم : (شت ابهامين برشم
228
(7/177)
ماليده اين دعا بخواند "اللهم متعني" الخ.
ودر صلوات نجمي فرموده كه ناخن هردو ابهام را برشم نهد بطريق وضع نه بطريق مد.
ودر محيط آورده كه يغمبر صلى الله عليه وسلّم بمسجد در آمد ونزديك ستون بنشست وصديق رضي الله عنه در برابر آن حضرت نشسته بود بلال رضي الله عنه برخاست وباذان اشتغال فرمود ون كفت اشهد أن محمداً رسول الله أبو بكر رضي الله عنه هردوناخن ابهامين خودرا برهردوشم خود نهاده كفت "قرة عيني بك يا رسول الله" ون بلال رضي الله عنه فارغ شد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرموده كه يا ابا بكر هركه بكند نين كه توكردى خداى بيامرزد كناهان جديد وقديم اورا اكر بعمد بوده شاد اكر بخطا.
وحضرت شيخ إمام أبو طالب محمد بن علي المكي رفع الله درجته در قوت القلوب روايت كرده ازابن عيينه رحمه الله كه حضرت يغمبر عليه الصلاة والسلام بمجسد در آمد دردهه محرم وبعد ازآنكه نماز جمعه ادا فرموده بود نزديك اسطوانه قرار كرفت وابو بكر رضي الله عنه بظهر ابهامين شم خودرا مسح كرد وكفت قرة عيني بك يا رسول الله وون بلال رضي الله عنه ازاذان فراغتى روى نمود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرمودكه اى ابا بكر هركه بكويد آنه توكفتى ازروى شوق بلقاى من وبكند آنه توكردى خداى در كذارد كناهان ويرا انه باشد نووكهنه خطا وعمد ونهان واشكارا ومن درخواستكيم جرايم ويرا ودرمضمرات برين وجه نقل كرده).
وفي قصص الأنبياء وغيرها أن آدم عليه السلام اشتاق إلى لقاء محمد صلى الله عليه وسلّم حين كان في الجنة فأوحى الله تعالى إليه هو من صلبك ويظهر في آخر الزمان فسأل لقاء محمد صلى الله عليه وسلّم حين كان في الجنة فأوحى الله تعالى إليه فجعل الله النور المحمدي في إصبعه المسبحة من يده اليمنى فسبح ذلك النور فلذلك سميت تلك الأصبع مسبحة كما في "الروض الفائق" أو أظهر الله تعالى جمال حبيبه في صفاء ظفري ابهاميه مثل المرآة فقبل آدم ظفري ابهاميه ومسح على عينيه فصار أصلاً لذريته فلما أخبر جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلّم بهذه القصة قال عليه السلام : "من سمع اسمي في الأذان فقبل ظفري إبهاميه ومسح على عينيه لم يعم أبداً".
قال الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" : إن هذا الحديث لم يصح في المرفوع والمرفوع من الحديث هو ما أخبر الصحابي عن قول رسول الله عليه السلام.
وفي "شرح اليماني" ويكره تقبيل الظفرين ووضعهما على العينين لأنه لم يرد فيه حديث والذي فيه ليس بصحيح انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يقول الفقير : قد صح عن العلماء تجويز الأخذ بالحديث الضعيف في العمليات فكون الحديث المذكور غير مرفوع لا يستلزم ترك العمل بمضمونه وقد أصاب القهستاني في القول باستحبابه وكفانا كلام الإمام المكي في كتابه فإنه قد شهد الشيخ السهروردي في "عوارف المعارف" بوفور علمه وكثرة حفظه وقوة حاله وقبل جميع ما أورده في كتابه "قوت القلوب" ولله در أرباب الحال في بيان الحق وترك الجدال.
ومنها أن يصلي بعد سماع الأذان بأن يقول : "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته" فإنه عليه السلام وعد لقائله الشفاعة العظمى.
229
ومنها أن يصلي عند ابتداء الوضوء ثم يقول : "بسم الله" وبعد الفراغ منه فإنه يفتح له أبواب الرحمة وفي المرفوع : "لا وضوء لمن لم يصل على النبي عليه السلام".
ومنها : أن يصلي عند دخول المسجد ثم يقول : "اللهم افتح لي أبواب رحمتك" وعند الخروج أيضاً ثم يقول : "اللهم افتح لي أبواب فضلك واعصمني من الشيطان" وكذا عند المرور بالمساجد ووقوع نظره عليها ويصلي في التشهد الأخير كما سبق وقبل الدعاء وبعده فإن الصلوات مقبولة لا محالة فيرجى أن يقبل الدعاء بين الصلاتين أيضاً.
وفي "المصابيح" عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : دخل رجل مسجد الرسول فصلى فقال : اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "عجلت أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصلِ عليّ ثم ادعه" قال : ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله تعالى وصلى على النبي عليه السلام فقال له النبي عليه السلام : "أيها المصلي ادع تجب" وفي الحديث "ما من دعاء إلا بينه وبين الله حجاب حتى يصلي على محمد وعلى آل محمد فإذا فعل ذلك انخرق الحجاب ودخل الدعاء وإذا لم يفعل ذلك رجع الدعاء" ذكره في "الروضة" وسره ما سبق من أن نبينا عليه السلام هو الواسطة بيننا وبينه تعالى والوسيلة ولا بد من تقديم الوسيلة قبل الطلب وقد قال الله تعالى : {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة : 35) :
بى بدرقه درود او هي دعا
البته بمنزل اجابت نرسد
(7/178)
وقد توسل آدم عليه السلام إلى الله تعالى بسيد الكونين في استجابة دعوته وقبول توبته كما جاء في الحديث : "لما اعترف آدم بالخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لي فقال الله تعالى : يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال : لأنك إذ خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا اسم أحب الخلق إليك فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليّ فغفرت لك ولولا محمد لما خلقتك" رواه البيهقي في "دلائله" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
از نسل آدمي تو ولى به ز آدمي
شك نيست اندراين كه بود در به از صدف
سلطان انبياكه بدركاه كبريا
ون اونيافت هي كسى عزت وشرف
ويصلي بعد التكبير الثاني في صلاة الجنازة على الاستحباب عند أبي حنيفة ومالك وعلى الوجوب عند الشافعي وأحمد وكذا في خطبة الجمعة على هذا الاختلاف بين الأئمة وكذا في خطبة العيدين والاستسقاء على مذهب الشافعي والإمامين فإنه ليس في الاستسقاء خطبة ولا أذان وإقامة عند الإمام بل ولا صلاة بجماعة وإنما فيه دعاء واستغفار.
ويصلي في الصباح والمساء عشراً ومن صلى بعد صلاة الصبح والمغرب مائة فإن الله يقضي له مائة حاجة ثلاثين في الدنيا وسبعين في الآخرة.
وبعد ختم القرآن وهو من مواطن استحابة الدعاء ويصلي قبل الاشتغال بالذكر منفرداً أو مجتمعاً فإن الملائكة يحضرون مجالس الذكر ويوافقون أهله في الذكر والدعاء والصلوات.
وعند ابتداء كل أمر ذي بال.
وفي أيام شعبان ولياليها فإنه عليه السلام أضاف شعبان إلى نفسه ليكثر فيه أمته الصلوات عليه (ودر آثار آمده كه در آسمان درياييست كه انرا درياى بركات كويند وبرلب آن دريا درختيست كه آنرا درخت تحيات خوانند وبران
230
درخت مرغيست كه ممسى بمرغ صلوات اورا رسيارست ون بنده مؤمن درماه شعبان برسيد آخر الزمان صلوات فرستد آن مرغ بدان دريا فروشود وغوطه زده بيرون آيد وبران درخت نشيند ورهاى خودرا بيفشاند حق تعالى ازهر قطره آب كه از روى بكند فرشته بيافريند وآن همه بحمد وثناى حق تعالى مشغول كردند وثواب ايشان در ديوان عمل درود دهنده رقم ثبت يابد ودر خبر آمده كه يك درود در ماه شعبان برابرست باده درود در غير آن).
شعبان شهر رسول الله فاغتنموا
صيام أيامه الغر الميامين
صلوا على المصطفى في شهره وارجوا
منه الشفاعة يوم الحشر والدين
ويصلي يوم الجمعة وليلته فإن الجمعة سيد الأيام ومخصوص بسيد الأنام فللصلوات فيه مزية وزيادة مثوبة وقربة ودرجة وفي الحديث : "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة خلق فيه آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ" قيل : يا رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا وقد رممت أي : بليت قال : "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" وفي الحديث "من صلى عليّ يوم الجمعة ثمانين مرة غفرت له ذنوب ثمانين سنة ومن صل عليّ كل يوم خمسمائة مرة لم يفتقر أبداً" (ودر ازهار الأحاديث آيدكه حق تعالى بعضي از ملائكه مقربين روز نجشنبه از دائره رخ برين بمركز زمين فرستد باصحيفها از نقره وقلمها اززر تا بنويسند صلواتي راكه مؤمنان درشب وروز جمعه بر سيد عالم مى فرستد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
بروز جمعه درود محمد عربي
ز روى قدر زايام ديكر افزونست
(7/179)
وعن بعض الكبار أن من صلى على النبي عليه السلام ليلة الجمعة ثلاثة آلاف رأى في منامه ذلك الجناب العالي ذكره على الصفي في "الرشحات" ويصلي عند الركوب يعني : (درهمه سفرها دروقت نشستن بر مركب بايدكفت كه) بسم الله والله أكبر وصل على محمد خير البشر ثم يتلو قوله تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} .
ويصلي في طريق مكة ، يعني : (درراه حرم كعبه ون كسى خواهد كه بر بلندى رود تكبير بايد كفت وون روى بنشيب آرد صلوات بايد فرستاد).
وعند استلام الحجر يقول : "اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك وسنة نبيك" ثم يصلي على النبي عليه السلام.
ويصلي على جبل الصفا والمروة وبعد الفراغ من التلبية ووقت الوقوف عند المشعر الحرام.
وفي طريق المدينة وعند وقوع النظر عليها وعند طواف الروضة المقدسة وحين التوجه إلى القبر المقدس (هركه نزديك قبر آن حضرت ايستاده آيت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَهُ} ) تا آخر بخواند وهفتاد باربكويد صلى الله عليك يا محمد (فرشته ندا كندكه) صلى الله عليك يا فلان (بخواه حاجتى كه دارى كه هي حاجت تورد نمى شود).
ويصلي بين القبر والمنبر ويكبر ويدعو.
ويصلي وقت استماع ذكره عليه السلام كما سبق.
وكذا وقت ذكر اسمه الشريف وكتابته ، يعني : (كاتب را صلوات بايد فرستاد بزبان وبدست نيز بايد نوشت).
ويصلي عند ابتداء درس الحديث وتبليغ السنن فيقول : "الحمدرب العالمين أكمل الحمد على كل حال والصلاة والسلام الإتمان
231
والأكملان على سيد المرسلين كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون اللهم صل عليه وعلى آله وسائر النبيين وآل كل وسائر الصالحين نهاية ما ينبغي أن يسلكه السالكون".
ويصلي عند ابتداء التذكير والعظة أي : بعد الحمد والثناء لأنه موطن تبليغ العلم المروي عنه عليه السلام.
ووقت كفاية المهم ورفع الهم.
ووقت طلب المغفرة والكفارة فإن الصلاة عليه محاء الذنوب.
ووقت المنام والقيام منه.
وحين دخول السوق لتربح تجارة آخرته.
وحين المصافحة لأهل الإسلام.
وحين افتتاح الطعام فيقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وطيب أرزاقنا وحسن أخلاقنا.
وفي "الشرعة" والسنة في أكل الفجل بضم الفاء وسكون الجيم بالفارسية : (ترب) أن يذكر النبي عليه السلام في أول قضمة ، يعني : (دراول دندان برو زدن) لئلا يوجد ريحه ، يعني : (تادريافته نشود رايحه آن) قال بعضهم : المقصود الأصلي من الفجل ورقه كما قالوا المطلوب من الحمام العرق ومن الفجل الورق.
ويصلي عند اختتام الطعام فيقول : "الحمدالذي أطعمنا هذا ورزقناه من غير حول منا وقوة الحمدالذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم.
ويصلي عند قيامه من المجلس فيقول : صلى الله وملائكته على محمد وعلى أنبيائه" فإنه كفارة اللهو واللغو الواقعين فيه.
ويصلي عند العطسة عند البعض وكرهه الأكثرون كما قال في "الشرعة" وشرحها.
ولا يذكر اسم النبي عند العطاس بل يقول الحمد .
ولا وقت الذبح حتى لو قال بسم الله واسم محمد لا يحل لأنه لا يقع الذبح خالصاًولو قال بسم الله وصلى الله على محمد يكره.
ولا وقت التعجب فإن الذكر عند التعجب أن يقول سبحان الله.
ويصلي عند طنين الأذن ثم يقول : "ذكر الله من ذكرني".
وفي خطبة النكاح فيقول : "الحمدالذي أحل النكاح وحرم السفاح والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى الله القادر الفتاح وعلى آله وأصحابه ذوي الفلاح والنجاح".
وعند شم الورد وفي "مسند الفردوس" "الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج.
والورد الأحمر خلق من عرق جبريل.
والورد الأصفر خلق من عرق البراق" وعن أنس رضي الله عنه رفعه "لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت الأصفر من نباتها فلما أن رجعت قطر عرقي على الأرض فنبت ورد أحمر ألا من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر".
قال أبو الفرج النهرواني هذا الخبر يسير من كثير مما أكرم الله به نبيه عليه السلام ودل على فضله ورفيع منزلته كما في "المقاصد الحسنة".
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
زكيسوى او نافه بو يافته
كل از روى او آب رو يافته
(در خبر آمده كه هركل بوى كند وبر من صلوات نفرستد جفا كرده باشد بامن).
ويصلي عند خطور ذلك الجناب بباله.
وعند إرادة أن يتذكر ما غاب عن الخاطر فإن بركة الصلوات تخطر على القلب.
ومن آداب المصلي أن يصلي على الطهارة وقد سبق حكاية السلطان محمود عند قوله تعالى : {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ} إلخ الآية.
وأن يرفع صوته عند أداء الحديث (ودر آثار آمده كه برداريد آواز خودرا دراداى صلوات كه رفع الصوت بوقت اداى درود صيقليست كه غبار شقاق ونكار نفاق را ازمراياء قلوب مى زدايد) :
232
نام تو صيقليست كه دلهاى تيره را
روشن كند و آينهاء سكندرى(7/180)
وأن يكون على المراقبة وهو حضور القلب وطرد الغفلة وأن يصحح نيته وهو أن تكون صلواته امتثالاً لأمر الله وطلباً لرضاه وجلباً لشفاعة رسوله وأن يستوي ظاهره وباطنه فإن الذكر اللساني ترجمان الفكر الجناني فلا بد من تطبيق أحدهما بالآخر وإلا فمجرد الذكر اللساني من غير حضور القلب غير مفيد.
وأن يصلي ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مشهود لديه كما يقتضيه الخطاب في قوله : السلام عليك فإن لم يكن يراه حاضراً وسامعاً لصلاته فأقل الأمر أن يعلم أنه عليه السلام يرى صلاته معروضة عليه وإلا فهي مجرد حركة لسان ورفع صوت.
واعلم أن الصلوات متنوعة إلى أربعة آلاف وفي رواية إلى اثني عشر ألفاً على ما نقل عن الشيخ سعد الدين محمد الحموي قدس سره كلٌّ منها مختار جماعة من أهل الشرق والغرب بحسب ما وجدوه رابطة المناسبة بينهم وبينه عليه السلام وفهموا فيه الخواص والمنافع منها ما سبق في أوائل الآية وهو قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم (دررياض الأحاديث آورده كه يغمبر عليه السلام فرمودكه دربهشت در ختيست كه آنرا محبوبه كويند ميوه اوخرد ترست ازانار وبزركترست ازسيب وآن ميوه ايست سفيدتر ازشير وشيرين تر ازعسل ونرم تر ازمسكه نخورد ازآن ميوه الاكسى كه هرروز مداومت كند بركفتن) اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم.
ومنها قوله : "اللهم صل على محمد النبي كما أمرتنا أن نصلي عليه وصل على محمد النبي كما ينبغي أن يصلي عليه وصل على محمد بعدد من صلى عليه وصل على محمد النبي بعدد من لم يصل عليه وصل على محمد النبي كما تحب أن يصلي عليه" من صلى هذه الصلوات صعد له من العمل المقبول ما لم يصعد لفرد من أفراد الأمة وأمن من المخاوف مطلقاً خصوصاً إذا كان على طريق يخاف فيه من قطاع الطريق وأهل البغي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
هست از آفات دوران ومخافات زمان
نام او حصن حصين وذكر او دار الامان
ومنها قوله : "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وعلى المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات" من صلى هذه الصلوات كثر ماله يوماً فيوماً.
ومنها قوله : "اللهم صل على محمد وآله عدد ما خلقت اللهم صل على محمد وآله ملىء ما خلقت اللهم صل على محمد وآله عدد كل شيء اللهم صل على محمد وآله ملىء كل شيء اللهم صل على محمد وآله عدد ما أحصاه كتابك اللهم صل على محمد وآله ملىء ما أحصاه كتابك اللهم صل على محمد وآله عدد ما أحاط به علمك اللهم صل على محمد وآله ملىء ما أحاط به علمك".
قال الكاشفي : (اين صلوات ثمانيه منسوبست بنجبا وايشان هشت تن اند درهر زمانى زياده وكم نشوند حضرت شيخ قدس سره در فتوحات فرمودكه ايشان اهل علم اندبصفات ثمانيه ومقام ايشان كرسى است يعني كشف ايشان ازان تجاوز نتواند نمود ودر علم تيسير كواكب از جهت كشف اواطلاع نه بروجه اصطلاح قدمى راسخ دارند وسلطان ابراهيم بن أدهم قدس سره ايشانرا درقبة الملائكة ديده در حرم مسجد اقصى وهريك يك كلمه ازين صلوات بوى آموخته اند فرموده كه مارا ببركات اين كلمات تصرفات كلي هست واحوال ومواجيد بجهت اين ورد برماغلب مى كند وفوائد
233
اين بسيارست نقلست كه حضرت ابراهيم ادهم بقيه عمر براداى اين صلوات مواطبت مى نموده).
ومنها قوله : "اللهم صل على سيدنا محمد مفرّق فرق الكفر والطغيان ومشتت بغاة جيوش القرين والشيطان وعلى آل محمد وسلم" (ازحضرت شيخ المشايخ سعد الدين الحموي قدس سره روايت كرده اندكه اكركسى از وسوسه شيطان ودغدغه نفس وهوى متضرر باشد بايدكه يوست بدين نوع صلوات فرستد تا ازشر شياطين وهمزات ايشان مأمون ومحفوظ باشد).
ومنها قوله : "اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم بعدد ما في جميع القرآن حرفاً حرفاً وبعدد كل حرف ألفاً ألفاً" من قاله من الحفاظ بعد تلاوة حزب من القرآن استظهر بميامنه في الدنيا والآخرة واستفاد من فائدته صورة ومعنى.
ومنها قوله : "اللهم صل على سيدنا محمد ما اختلف الملوان وتعاقب العصران وكرّ الجديدان واستقل الفرقدان وبلغ روحه وأرواح أهل بيته منا التحية والسلام وبارك وسلم عليه كثيراً.
(آورده اندكه كسى نزد سلطان غازى محمود غزنوى آمد وكفت مدتى بودكه حضرت يغمبر را عليه السلام ميخواستم كه درخواب ببينم وغمى كه دردل دارم بآن دلدار غمخوار بازكويم) :
همه شب ديدهن بعمدا نكشايم ازخواب
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
بوكه در خواب بدان دولت بيدار رسم
(7/181)
(قصارا سعادت مساعده نموده شب دوش بدان دولت بيدار رسيدم ورخسار جانفزاى جهان آرايش "كالقمر ليلة البدر وكالروح ليلة القدر" ديدم ون آن حضرت را منبسط يافتم كفتم يا رسول الله هزار درم قرض دارم اداى ويرا قادر نيستم ومى ترسم كه اجل در رسد ووام دركردن من بماند حضرت يغمبر عليه السلام فرمودكه نزد محمود سبكتكين رو واين مبلغ از وبستان كفتم ياسيد البشر شايد ازمن باورنكند ونشانى طلبد كفت بكو بدان نشانى كه دراول شب كه تكيه ميكنى سى هزار بار برمن درود مى دهى وباخرشب كه بيدار ميشوى سى هزار نوبت ديكر صلوات مى فرستى وام مرا اداكن سلطان محمود بكريه در آمد واورا تصديق كرده قرضش اداكرد وهزار درم ديكرش بداد اركان دولت متعجب شده كفتند اى سلطان اين مردرا درين سخن محال كه كفت تصديق كردى وحال آنكه ما دراول شب وآخر باتوييم ونمى بينيم كه بصلوات اشتغال ميكنى واكركسى بفرستادن درود مشغول كردد وبجدى وجهدي كه زياده ازان درحيز تصور نيايد درتمام اوقات وساعات شبانه روز شصت هزار بارصلوات نميتواند فرستاد باندك فرصتى دراول وآخر شب كونه اين صورت تيسيير ذير باشد سلطان محمود فرمودكه من ازعلما شنوده بودم كه هركه يكبار بدين نوع صلوات فرستدكه "اللهم صل على سيدنا محمد ما اختلف الملوان الخ" نان باشدكه ده هزار بارصلوات فرستاده باشد ومن در اول شب سه نوبت ودر آخرشب سه كرت اين را مى خوانم ونان ميدانم كه شصت هزار صلوات فرستاده ام س اين درويش كه يغام سيد انام عليه الصلاة والسلام آورده است كفت آن كريه كه كردم ازشادى بودكه سخن علما راست بوده وحضرت رسول عليه الصلاة والسلام بران كواهى داده).
ومنها قوله : "اللهم صل على محمد وآل محمد بعدد كل داء ودواء"
234
(مولانا شمس الدين كيشى وقتى كه در ولايت وى وباى عام بوده حضرت رسالت را عليه السلام در واقعه ديده وكفته يا رسول الله مرا دعايى تعليم ده كه ببركت آن ازبليه طاعون ايمن شوم آن حضرت فرموده كه هركه بدين نوع برمن صلوات دهد ازطاعون امان يابد) :
اكرزآفت دوران شكسته حال شوى
امان طلب زجناب مقدس نبوى
وكرسهام حوادث ترا نشانه كند
ناه بربحصار درود مصطفوى
ومنها قوله : "اللهم صل على محمد بعدد ورق هذه الأشجار.
وصل على محمد بعدد الورد والأنوار.
وصل على محمد بعدد قطر الأمطار.
وصل على محمد بعدد رمل القفار.
وصل على محمد بعدد دواب البراري والبحار".
(در ذخيرة المذكرين آورده كه يكى از صلحاى امت درايام بهار بصحرا بيرون شد وسر سبز اشجار وظهور انوار وازهار مشاهده نمود كفت "يا رب صل على محمد بعدد ورق الخ" هاتفي آوازدادكه اى درود دهنده دررنج انداختى كرام الكاتبين بجهت نوشتن ثواب اين كلمات ومستوجب درجها بنوشتيدى كار ازسر كيركه هره ازبدى كرده بودى درين وقت بيامرزند).
ومنها قوله : "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم صلاة تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وتقضي لنا بها جميع الحاجات.
وتطهرنا بها من جميع السيآت.
وترفعنا بها عندك أعلى الدرجات.
وتبلغنا بها أقصى الغايات.
من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات".
(درشفاء السقم آورده كه فاكهاني دركتاب فجر منير ازشيخ ابو موسى ضرير رحمه الله نقل ميكند باجمعى مردم دركشتى نشسته بوديم ناكاه بادى كه اوراريح اقلابيه كويند وزيدن آغازكرد وملاحان مضطرب شدند ه اركشتى ازان بادسالم راندى ازنوادر شمردندى اهل كشتى ازين حال واقف كشت غريو وزارى دركرفتند ودل برمرك نهاده يكديكررا وصيت ميكردند ناكاه شم من در خواب شد وحضرت رسالت را صلى الله عليه وسلّم ديدم كه بكشتى درآد وكفت يا ابا موسى اهل كشتى را بكو تاهزار بار صلوات فرستند بدين نوع كه "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد الخ" بيدار شدم وقصه باياران كفتم وآن كلمات برزبان من جارى بود باتفاق مى خوانديم نزديك به سيصد عدد كه خوانده شد آن باد بياراميد وكشتى بسلامت بكذشت) :
على المصطفى صلوا فإن صلاته
امان من الآفات والخطرات
تحيته اصل الميامن فاطلبوا
بها جملة الخيرات والبركات
ومنها قوله : "الصلاة والسلام عليك يا رسول الله.
الصلاة والسلام عليك يا حبيب الله.
الصلاة والسلام عليك يا خليل الله.
الصلاة والسلام عليك يا صفي الله.
الصلاة والسلام عليك يا نجي الله.
الصلاة والسلام عليك يا خير خلق الله.
الصلاة والسلام عليك يا من اختاره الله.
الصلاة والسلام عليك يا من زينه الله.
الصلاة والسلام عليك يا من أرسله الله.
الصلاة والسلام عليك يا من شرفه الله.
الصلاة والسلام عليك يا من عظمه الله.
الصلاة والسلام عليك يا من كرمه الله.
الصلاة والسلام عليك يا سيد المرسلين.
الصلاة والسلام عليك يا إمام المتقين.
الصلاة والسلام عليك يا خاتم النبيين.
الصلاة والسلام عليك يا شفيع المذنبين.
الصلاة والسلام عليك يا رسول
235
(7/182)
الله رب العالمين.
الصلاة والسلام عليك يا سيد الأولين.
الصلاة والسلام عليك يا سيد الآخرين.
الصلاة والسلام عليك يا قائد المرسلين.
الصلاة والسلام عليك يا شفيع الأمة.
الصلاة والسلام عليك يا عظيم الهمة.
الصلاة والسلام عليك يا حامل لواء الحمد.
الصلاة والسلام عليك يا صاحب المقام المحمود.
الصلاة والسلام عليك يا ساقي الحوض المورود.
الصلاة والسلام عليك يا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة.
الصلاة والسلام عليك يا سيد ولد آدم.
الصلاة والسلام عليك يا أكرم الأولين والآخرين.
الصلاة والسلام عليك يا بشير.
الصلاة والسلام عليك يا نذير.
الصلاة والسلام عليك يا داعيبإذنه والسراج المنير.
الصلاة والسلام عليك يا نبي التوبة.
الصلاة والسلام عليك يا نبي الرحمة.
الصلاة والسلام عليك يا مقفي.
الصلاة والسلام عليك يا عاقب.
الصلاة والسلام عليك يا حاشر.
الصلاة والسلام عليك يا مختار.
الصلاة والسلام عليك يا ماحي.
الصلاة والسلام عليك يا أحمد.
الصلاة والسلام عليك يا محمد صلوات الله وملائكته ورسله وحملة عرشه وجميع خلقه عليك وعلى آلك وأصحابك ورحمة الله وبركاته" (اين صلوات را صلوات فتح كويند هل كلمه است صلواتي مباركست ونزد علماً معروف ومشهور وبهر مرادي كه بخوانند حاصل كردد هركه هل بامداد بعدازاداى فرض بكويد كافروبسته او بكشايد وبردشمن ظفر يابد واكر درحبس بود حق سبحانه وتعالى اورا رهايى بخشد وخواص او بسيارست.
وحضرت عارف صمداني اميرسيد على همداني قدس سره بعضي ازين صلوات در آخر اوراد فتحيه ايراد فرموده اند وشرط خواندن اين صلوات آنست كه حضرت يغمبررا صلى الله تعالى عليه وسلم حاضر بيند ومشافهه با يشان خطاب كند.
ومنها قوله : "السلام عليك يا إمام الحرمين.
السلام عليك يا إمام الخافقين.
السلام عليك يا رسول الثقلين.
السلام عليك يا سيد من في الكونين وشفيع من في الدارين.
السلام عليك يا صاحب القبلتين.
السلام عليك يا نور المشرقين وضياء المغربين.
السلام عليك يا جد السبطين الحسن والحسين عليك وعلى عترتك وأسرتك وأولادك وأحفادك وأزواجك وأفواجك وخلفائك ونقبائك ونجبائك وأصحابك وأحزابك وأتباعك وأشياعك سلام الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم الدين والحمدرب العالمين" (اين را تسليمات سبعه كويندكه هفت سلامست هركه بكارى درماند ومهمات اوفروبسته باشد هفت روزى بعدازنمازى يازده بارصلوات فرستد س اين را تسليمات هفت بار بخواند مهم كفايت شود وحاجت روا كردد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يا نبي الله السلام عليك
انما الفوز والفلاح لديك
بسلام آمدم جوابم ده
مرهمى بر دل خرابم نه
س بود جاه واحترام مرا
يك عليك ازتوصد سلام مرا
زارىء من شنو تكلم كن
كريه من نكر تبسم كن
لب بجنبان ى شفاعت من
منكر دركناه وطاعت من
قال الكاشفي : (في تفسيره وفي تحفة الصلوات أيضاً دركيفيت صلاة أحاديث متنوعه وارد شده وامام نووى فرموده كه افضل آنست كه جمع نمايند ميان احاديث طرق مذكوره
236
ه اكثر بصحت سوسته والفاظ وارده را بتمام بيارند برين وجه كه) "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد".
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّا يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131(7/183)
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} يقال : أذى يؤذي أذى وأذية وإذاية ولا يقال إيذاء كما في "القاموس" شاع بين أِل التصنيف استعماله كما في "التنبيه" لابن كمال.
ثم إن حقيقة التأذي وهو بالفارسية : (آزرده شدن) في حقه تعالى محال فالمعنى يفعلون ما يكرهه ويرتكبون ما لا يرضاه بترك الإيمان به ومخالفة أمره ومتابعة هواهم ونسبة الولد والشريك إليه والإلحاد في أسمائه وصفاته ونفي قدرته على الإعادة وسب الدهر ونحت التصاوير تشبيهاً بخلق الله تعالى ونحو ذلك {وَرَسُولُهُ} بقولهم : شاعر ساحر كاهن مجنون وطعنهم في نكاح صفية الهارونية وهو الأذى القولي وكسر رباعيته وشج وجهه الكريم يوم أحد ورمي التراب عليه ووضع القاذورات على مهر النبوة.
عبد الله بن مسعود (كفت ديدم رسول خدايرا عليه السلام در مسجد حرام درنماز بود سر بر سجود نهاده كه آن كافر بيامد وشكنبه شتر ميان دوكتف وى فروكذاشت رسول همنان درسجود بخدمت الله ايستاده وسراززمين برنداشت تا آنكه كه فاطمه زهرا رضي الله عنها بيامد وآن از كتف مبارك وى بينداخت وروى نهاد درجمع قريش وآنه سراى ايشان بود كفت) ونحو ذلك من الأذى الفعلي ويجوز أن يكون المراد بإيذاء الله ورسوله ايذاء رسول الله خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله لتعظيمه والإيذان بجلالة مقداره عنده وأن إيذاءه عليه السلام إيذاء له تعالى لأنه لما قال : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء : 80) فمن آذى رسوله فقد آذى الله.
قال الإمام السهيلي رحمه الله ليس لنا أن نقول أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلّم في النار لقوله عليه السلام : "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات" والله تعالى يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية يعني يدخل التعامل المذكور في اللعنة الآتية ولا يجوز القول في الأنبياء عليهم السلام بشيء يؤدي إلى العيب والنقصان ولا فيما يتعلق بهم.
وعن أبي سهلة بن جلاد رضي الله عنه أن رجلاً أم قوماً فبصق في القبلة ورسول الله ينظر إليه فقال عليه السلام حين فرغ : "لا يصل لكم هذا" فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله فذكر ذلك لرسول الله فقال : "نعم" وحسبت أنه قال : إنك آذيت الله ورسوله كما في "الترغيب" للإمام المنذري.
قال العلماء : إذا كان الإمام يرتكب المكروهات في الصلاة كره الاقتداء به لحديث أبي سهلة هذا وينبغي للناظر وولي الأمر عزله لأنه عليه السلام عزله بسبب بصاقه في قبلة المسجد وكذلك تكره الصلاة بالموسوس لأنه يشك في أفعال نفسه كما في "فتح القريب".
وإنما يكره للإمام أن يؤم قوماً وهم له كارهون بسبب خصلة توجب الكراهة أو لأن فيهم من هو أولى منه وأما إن كانت كراهتهم بغير سبب يقتضيها فلا تكره إمامته لأنها كراهة غير مشروعة فلا تعتبر.
ومن الأذية أن لا يذكر اسمه الشريف بالتعظيم والصلاة والتسليم ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
آن دهان ك كرد وازتسخر بخواند
مر محمد را دهانش ك بماند
237
باز آمد كاى محمد عفو كن
اى ترا الطاف علم من لدن
من ترا افسوس مى كردم ز جهل
من بدم افسوس را منسوب واهل
ون خدا خواهدكه رده كس درد
ميلش اندر طعنه اكان برد
ورخدا خواهد كه وشد عيب كس
كم زند در عيب معيوبان نفس
{لَّعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم وأبعدهم من رحمته {فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ} بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئاً منهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مع ذلك {عَذَابًا مُّهِينًا} يصيبهم في الآخرة خاصة أي : نوعاً من العذاب يهانون فيه فيذهب بعزهم وكبرهم.
(7/184)
قال في "التأويلات" لما استحق المؤمنون بطاعة الرسول والصلاة عليه صلاة الله فكذلك الكافرون استحقوا بمخالفة الرسول وإيذائه لعنة الله فلعنة الدنيا هي الطرد عن الحضرة والحرمان من الإيمان ولعنة الآخرة الخلود في النيران والحرمان من الجنان وهذا حقيقة قوله : {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} .
قال في "فتح الرحمن" : يحرم أذى النبي عليه السلام بالقول والفعل بالاتفاق.
واختلفوا في حكم من سبه والعياذ بالله من المسلمين.
فقال أبو حنيفة والشافعي هو كفر كالردة يقتل ما لم يتب وقال مالك وأحمد يقتل ولا تقبل توبته لأن قتله من جهة الحد لا من جهة الكفر.
وأما الكافر إذا سبه صريحاً بغير ما كفر به من تكذيبه ونحوه.
فقال أبو حنيفة : لا يقتل لأن ما هو عليه من الشرك أعظم ولكن يؤدب ويعزر.
وقال الشافعي : ينتقض عهده فيخير فيه الإمام بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء ولا يرد مأمنه لأنه كافر لا أمان له ولو لم يشترط عليه الكف عن ذلك بخلاف ما إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به كتكذيب ونحوه فإنه لا ينتقض عهده بذلك إلا باشتراط.
وقال مالك وأحمد : يقتل ما لم يسلم واختار جماعة من أئمة مذهب أحمد أن سابه عليه السلام يقتل بكل حال منهم الشيخ تقي الدين بن تيمية وقال : هو الصحيح من المذهب وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته حكم من سب نبينا عليه السلام.
وأما من سب الله تعالى والعياذ بالله من المسلمين بغير الارتداد عن الإسلام ومن الكفار بغير ما كفروا به من معتقدهم في عزير والمسيح ونحو ذلك فحكمه حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلّم نسأل الله العصمة والهداية ونعوذ به من السهو والزلل والغواية إنه الحافظ الرقيب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي : بغير جناية يستحقون بها الأذية وتقييد أذاهم به بعد إطلاقه في الآية السابقة للإيذان بأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق وأما أذى هؤلاء فقد يكون حقاً وقد يكون غير حق.
والآية عامة لكل أذى بغير حق في كل مؤمن ومؤمنة.
فتشمل ما روى أن عمر رضي الله عنه خرج يوماً فرأى جارية مزينة مائلة إلى الفجور فضربها فخرج أهلها فآذوا عمر باللسان.
وما روي أن المنافقين كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمعونه ما لا خير فيه.
وما سبق من قصة الأفك حيث اتهموا عائشة بصفوان السهمي رضي الله عنهما.
وما روي أن الزناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لطلب الماء أو لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما كان يقع منهم التعرض للحرائر أيضاً جهلاً أو تجاهلاً لاتحاد الكل في الزي واللباس حيث كانت تخرج الحرة والأمة في درع
238
وخمار وما سيأتي من أراجيف المرجفين وغير ذلك مما يثقل على المؤمن {فَقَدِ احْتَمَلُوا} الاحتمال مثل الاكتساب بناء ومعنى كما في "بحر العلوم".
وقال بعضهم : تحملوا لأن الاحتمال بالفارسية : (برداشتن) {بُهْتَـانًا} افتراء وكذباً عليهم من بهته فلان بهتاناً إذا قال عليه ما لم يفعله ، وبالفارسية : (دروغى بزرك) {وَإِثْمًا مُّبِينًا} أي : ذنباً ظاهراً.
وقال الكاشفي ، يعني : (سزاوار عقوبت بهتان ومستحق عذاب كناه ظاهر ميشوند).
واعلم أن أذى المؤمنين قرن بأذى الرسول عليه السلام كما أن أذى الرسول قرن بأذى الله ففيه إشارة إلى أن من آذى المؤمنين كان كمن آذى الرسول ومن آذى الرسول كان كمن آذى الله تعالى فكما أن المؤذيوللرسول مستحق الطرد واللعن في الدنيا والآخرة فكذا المؤذي للمؤمن.
ـ روي ـ أن رجلاً شتم علقمة رضي الله عنه فقرأ هذه الآية.
وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : خرج النبي عليه السلام على أصحابه فقال : "رأيت الليلة عجباً رأيت رجالاً يعلقون بألسنتهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل فقال : هؤلاء الذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا" وفي الحديث القدسي : "من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" ، يعني : (هركه دوستى را ازدوستان من بيازا رد آن آزارنده جنك مراساخته وازآزا رآن دوست جفاى من خواسته وهركه جنك مراسازد ويرا بلشكر انتقام مقهور كنم واورا بخوارى اندر جهان مشهور سازم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ـ روي ـ ) أن ابن عمر رضي الله عنهما نظر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
وأوحى الله إلى موسى عليه السلام لو يعلم الخلق إكرامي الفقراء في مجلى قدسي وداركرامتى للحسوا أقدامهم وصاروا تراباً يمشون عليهم فوعزتي ومجدي وعلوي وارتفاع مكاني لأسفرنّ لهم عن وجهي الكريم واعتذر إليهم بنفسي وأجعل شفاعتهم لمن برهم فيّ أو آواهم فيّ ولو كان عشاراً وعزتي ولا أعز مني وجلالي ولا أجل مني إني أطلب ثارهم ممن عاداهم حتى أهلكه في الهالكين ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
نكو كار مردم نباشد بدش
نورزد كسى بدكه نيك آيدش
(7/185)
نه هر آدمى زاده ازدد بهست
كه دد زادمى زاده بدبهست
بهست ازدد انسان صاحب خرد
نه انسان كه درمردم افتدودد
يعني : خاصمه وافترسه كالأسد مثلاً.
قال فضيل رحمه الله : والله لا يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير ذنب فكيف أن تؤذي مسلماً وفي الحديث : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" بأن لا يتعرض لهم بما حرم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم قدم اللسان في الذكر لأن التعرض به أسرع وقوعاً وأكثر وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال يكون بها.
واعلم أن المؤمن إذا أوذي يلزم عليه أن لا يتأذى بل يصبر فإن له فيه الأجر فالمؤذي لا يسعى في الحقيقة إلا في إيصال الأجر إلى من آذاه ولذا ورد "وأحسن إلى من أساء إليك" وذلك لأن المسيء وإن كان مسيئاً في الشريعة لكنه محسن في الحقيقة :
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن إلى من أساء
239
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَـاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـابِيبِهِنَّ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{النَّبِىُّ قُل لازْوَاجِكَ} أي نسائك وكانت تسعاً حين توفي عليه السلام وهن : عائشة وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وسودة وزينب وميمونة وصفية وجويرية وقد سبق تفاصيلهن نسباً وأوصافاً وأحوالاً {وَبَنَـاتِكَ} وكانت ثماني : أربعاً ولدتها خديجة وهي زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن متن في حياته عليه السلام إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر.
وأربعاً ربائب ولدتها أم سلمة وهي برة وسلمة وعمرة ودرة رضي الله عنهن {وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ} في المدينة {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـابِيبِهِنَّ} مقول القول : (والادناء : نزديك كردن) من الدنو وهو القرب.
والجلباب ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله إلى صدرها بالفارسية : (ار) ومن للتبعيض لأن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض (والتلفع : جامه تا ى دركرفتن) والمعنى : يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة ولا يخرجن مكشوفات الوجوه والأبدان كالإماء حتى لا يتعرض لهن السفهاء ظناً بأنهن إماء.
وعن السدي تغطي إحدى عينيها وشق وجهها والشق الآخر إلا العين {ذَالِكَ} أي : ما ذكر من التغطي {أَدْنَى} أقرب {أَن يُعْرَفْنَ} ويميزن من الإماء والقينات اللاتي هن مواقع تعرض الزناة وأذاهم كما ذكر في الآية السابقة {فَلا يُؤْذَيْنَ} من جهة أهل الفجور بالتعرض لهن.
قال أنس رضي الله عنه : مرت لعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال : يا لكاع تتشبهين بالحرائر ألقي القناع {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما سلف من التفريط وترك الستر {رَّحِيمًا} بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.
وفي الآية تنبيه لهن على حفظ أنفسهن ورعاية حقوقهن بالتصاون والتعفف.
وفيه إثبات زينتهن وعزة قدرهن {ذَالِكَ} التنبيه {أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} أن لهن قدراً ومنزلة وعزة في الحضرة {فَلا يُؤْذَيْنَ} بالأطماع الفاسدة والأقوال الكاذبة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لهن بامتثال الأوامر {رَّحِيمًا} بهن بإعلاء درجاتهن كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أنه فهم من الآية شيئان : الأول أن نساء ذلك الزمان كن لا يخرجن لقضاء حوائجهن إلا ليلاً تستراً وتعففاً وإذا خرجن نهاراً لضرورة يبالغن في التغطي ورعاية الأدب والوقار وغض البصر عن الرجال الأخيار والأشرار ولا يخرجن إلا في ثياب دنيئة فمن خرجت من بيتها متعطرة متبرجة أي : مظهرة زينتها ومحاسنها للرجال فإن عليها ما على الزانية من الوزر.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
وزن راه بازار كيرد بزن
وكرنه تودر خانه بنشين وزن
زبيكانكان شم زن كورباد
و بيرون شداز خانه دركورباد
وعلامة المرأة الصالحة عند أهل الحقيقة أن يكون حسنها مخافة الله وغناها القناعة وحليها العفة أي : التكفف عن الشرور والمفاسد والاجتناب عن مواقع التهم.
يقال إن المرأة مثل الحمامة إذا نبت لها جناح طارت كذلك الرجل إذا زين امرأته بالثياب الفاخرة فلا تجلس في البيت.
و بيني كه زن اى برجاى نيست
ثبات از خردمندى وراى نيست
240
كريزاز كفش در دهان نهنك
كه مردن به از زند كانى به ننك
قال الجامي :
و مرداز زن بخوش خويى كشدبار
زخوش خويى ببدبويى كشد كار
مكن بركار زن ند ان صبوري
كه افتد رخنه در رسد غيورى
(7/186)
قيل : لا خير في بنات الكفرة وقد يؤذي عليهن في الأسواق وتمر عليهن أيدي الفساق يعني أنها في الابتذال بحيث لا يميل إليها أكثر الرجال والغالب عليها النظر إلى الأجانب والميل إلى كل جانب فأين نساء الزمان من رابعة العدوية رحمها الله فإنها مرضت مرة مرضاً شديداً فسئلت عن سببه فقالت : نظرت إلى الجنة فأدبني ربي وعاتبني فأخذني المرض من ذلك العتاب فإذا كان الناظر إلى الجنة في معرض الخطاب والعتاب لكونها ما دون الله تعالى مع كونها دار كرامته وتجليه فما ظنك بالناظر إلى الدنيا وحطامها ورجالها ونسائها.
والثاني : أن الدنيا لم تخل عن الفسق والفجور حتى في الصدر الأول فرحم الله امرأ غض بصره عن أجنبية فإن النظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة.
قال ابن سيرين رحمه الله : إني لأرى المرأة في منامي فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري فيجب أن لا يقرب امرأة ذات عطر وطيب ولا يمس يدها ولا يكلمها ولا يمازحها ولا يلاطفها ولا يخلو بها فإن الشيطان يهيج شهوته ويوقعه في الفاحشة وفي الحديث "من فاكه امرأة لم تحل له ولا يملكها حبس بكل كلمة ألف عام في النار ومن التزم امرأة حراماً" أي : اعتنقها "قرن مع الشيطان في سلسلة ثم يؤمر به في النار" والعياذ بالله من دار البوار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَـاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـابِيبِهِنَّا ذَالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَا وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * لَّـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَـافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلا قَلِيلا * مَّلْعُونِينَا أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} .
{لَّـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَـافِقُونَ} لام قسم والانتهاء والانزجار عما نهى عنه ، وبالفارسية : (بازايستيدن) والمعنى والله لئن لم يمتنع المنافقون عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ضعف إيمان وقلة ثبات عليه أو فجور من تزلزلهم في الدين وما يستتبعه مما لا خير فيه أو من فجورهم وميلهم إلى الزنى والفواحش {وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ} الرجف الاضطراب الشديد يقال رجف الأرض والبحر وبحر رجاف والرجفة الزلزلة والإرجاف إيقاع الرجفة والاضطراب إما بالفعل أو بالقول وصف بالإرجاف الأخبار الكاذب لكونه متزلزلاً غير ثابت.
وفي "التاج" (الارجاف : خبر دروغ افكندن) والمعنى لئن لم ينته المخبرون بالاخبار الكاذبة في الفريقين عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين بأن يقولوا انهزموا وقتلوا وأخذوا وجرى عليهم كيت كيت وآتاكم العدو وغير ذلك من الأراجيف المؤذية الموقعة لقلوب المسلمين في الاضطراب والكسر والرعب {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} جواب القسم المضمر (الاغراء : برانكيختن بريز) يقال غرى بكذا أي : لهج به ولصق وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلاناً بكذا إغراء ألهجته به والضمير في بهم لأهل النفاق والمرض والإرجاف أي : لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم أو بما يضطرهم إلى الجلاء ولنحرّضنك على ذلك ، وبالفارسية : (هرآينه ترا بركماريم بريشان ومسلط سازيم وامر كنيم بقتل ايشان) {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ} عطف على جواب القسم وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقه
241
جوار الرسول أعظم ما يصيبهم أي : لا يساكنونك ، وبالفارسية : (س هما يكى نكند باتو در مدينه) فإن الجار من يقرب مسكنه (والمجاورة : باكسى همسايكى كردن) {إِلا قَلِيلا} زماناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه.
وفي "بحر العلوم" ريثما يرتحلون بأنفسهم وعيالهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
{مَّلْعُونِينَ} مطرودين عن الرحمة والمدينة وهو نصب على الشتم والذم أي : اشتم واذم أو على الحال على أن حرف الاستثناء داخل على الظرف والحال معاً أي : لا يجاورونك إلا حال كونهم ملعونين {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} في أي : مكان وجدوا وأدركوا ، وبالفارسية (هركجا يافته شوند).
قال الراغب الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله يقال ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثم قد تجوز به فاستعمل في الإدراك وإن لم يكن معه ثقافة {أُخِذُوا} (كرفته شوند يعني بايدكه بكيرند ايشانرا) {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} (وكشته كردند يعني بكشند كشتنى را بخوارى وزارى) يعني الحكم فيهم الأخذ والقتل على جهة الأمر فما انتهوا عن ذلك كما في "تفسير أبي الليث".
وقال محمد بن سيرين : فلم ينتهوا ولم يغر الله بهم والعفو عن الوعيد جائز لا يدخل في الخلف كما في "كشف الأسرار".
(7/187)
{سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} مصدر مؤكد أي : سن الله ذلك في الأمم الماضية سنة وجعله طريقة مسلوكة من جهة الحكمة وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} تغييراً أصلاً أي : لا يبدلها لابتنائها على أساس الحكمة التي عليها يدور فلك التشريع أو لا يقدر أحد على أن يبدلها لأنّ ذلك مفعول له لا محالة.
وفي الآية تهديد للمنافقين عبارة ومن بصددهم من منافقي أهل الطلب من المتصوفة والمتعرفة الذين يلبسون في الظاهر ثيابهم ويتلبسون في الباطن بما يخالف سيرتهم وسرائرهم وأنهم لو لم يمتنعوا عن أفعالهم ولم يتغيروا عن أحوالهم لأجرى معهم سنته في التبديل والتغيير على من سلف من نظائرهم ولكل قوم عقوبة بحسب جنايتهم.
مالك بن دينار رضي الله عنه (كفت كه ازحسن بصرى رسيدم كه عقوبت عالم ه باشد كفت مردن دل كفتم مردن دل ازه باشد كفت ازجستن دنيا "فلا بد من إحياء القلب وإصلاح الباطن") نقلست كه جنيد بغدادي قدس سره جامه بر سم علماى دانشمندان وشيدى اورا كفتند اى ير طريقت ه بود اكر براى اصحاب مرقع در وشى كفت اكرد انشمندى بمرقع كار مى شود از آتش وآهن لباس ساختمى ودر وشيدمى ولكن هر ساعت در باطن من ندايى ميكنندكه "ليس الاعتبار بالخرقة إنما لاعتبار بالحرفة" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
اى درونت برهنه از تقوى
وز برون جامه ريا دارى
رده هفت رنك در مكذار
تو كه در خانه بوريا دارى
نقلست كه وقتى نماز شام حسن بصري بدر صومعه حبيب اعجمي كذشت وى اقامت نماز شام كفته بودى وبنماز ايستاد حسن در آمد وشنيدكه "الحمد" را "الهمد" ميخواند كفت نماز اودرست نبود بدو اقتدا نكرد وخود نماز بكذارد ون شب بخفت حق را تبارك وتعالى بخواب ديد اى بارخدا رضاى تو دره يزاست كفت يا حسن رضاى من درتو
242
يافته بودى واين نماز مهر نمازهاى توخواسته بود اما ترا سقم عبادت ازصحت نيت بازداشت بسى تفاوتست اززبان راست كردن تادل) فعلى العاقل أن لا يميل إلى الشقاوة والنفاق بل إلى الإخلاص والوفاق.
ويقال : هاتان الآيتان في الزنادقة تستثقلهم أهل كل ملة في الدنيا كما في كشف الأسرار.
والزنديق هو الملحد المبطن للكفر.
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : اقتلوا الزنديق وإن قال تبت.
قال بعضهم الزنديق من يقول ببقاء الده أي : لا يعتقد إلهاً ولا بعثاً ولا حرمة شيء من المحرمات ويقول : إن الأموال مشتركة.
وفي قبول توبته روايتان والذي يرجح عدم قبولها قاتله الله ومن يليه من الملاحدة ولعنهم على حدة وحفظ الأرض من ظهورهم وشرورهم.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا * يَسْـاَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّه وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا * إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَـافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/188)
{يَسْـاَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} (مى رسند ترا مردمان) عن وقت قيامها والساعة جزء من أجزاء الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيهاً بذلك لسرعة حسابها كما قال : {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ} (الأنعام : 62) كان المشركون يسألونه عليه السلام عن ذلك استعجالاً بطريق الاستهزاء والتعنت والإنكار واليهود امتحاناً لما أن الله تعالى عمى أي : أخفى وقتها في التوراة وسائر الكتب {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} لا يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً (كويند ازخلفاى يكى بخواب ديد ملك الموت را ازو رسيدكه عمر من ند مانده است او نج انكشت اشارت كرد تعبير خواب از بسياركس رسيدند معلوم نشد إمام أعظم أبو حنيفة را رضي الله عنه خواندند كفت اشارت بنج علمست كه كس نداند وآن نج علم درين آيتست كه الله تعالى كفت {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34)) الآية خلعت نيكو دادش اما نوشيد {وَمَا يُدْرِيكَ} أي : شيء يجعلك داريا وعالماً بوقت قيامها أي : لا يعلمك به شيء أصلاً فأنت لا تعرفه وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله تعالى ، وبالفارسية : (وه يز ترا دانا كرد بآن).
{لَعَلَّ السَّاعَةَ} (شايد كه قيامت) {تَكُونُ} شيئاً {قَرِيبًا} أو تكون الساعة في وقت قريب فتكون تامة وانتصاب قريباً على الظرفية.
وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.
قالوا : من أشراط الساعة أن يقول الرجل افعل غداً فإذا جاء غد خالف قوله فعله وإن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار ويرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنى والفجور ورقص القينات وشرب الخمور ونحو ذلك من موت الفجأة وعلوّ أصوات الفساق في المساجد والمطر بلا نبات.
وفي الحديث "لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفحش وحتى يعبد الدرهم والدينار" إلى غير ذلك وذكر أموراً لم تحدث في زمانه ولا بعده وكانت إذا هبت ريح شديدة تغير لونه عليه السلام وقال : "تخوفت الساعة" وقال : "ما أمدّ طرفي ولا أغضه إلا وأظن الساعة قد قامت" يعني موته فإن الموت الساعة الصغرى أي : موت كل إنسان كما أن موت أهل القرن الواحد هي الساعة الوسطى نسأل الله التدارك.
قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
كار امروز را مباش اسير
بهر فردا زخيره بر كير
روز عمرت بوقت عصر رسيد
عصر تو تا نماز شام كشيد
خفتن خواب مرك نزديكست
243
موج كرداب مرك نزديكست
فانتبه قد أقيمت الساعة
أن عمر الخلائق ساعة
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَـافِرِينَ} على الإطلاق لا منكري الحشر ولا معاندي الرسول فقط أي : طردهم وأبعدهم من رحمته العاجلة والآجلة ولذلك يستهزئون بالحق الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه والاهتمام بالاستعداد له {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مع ذلك {سَعِيرًا} ناراً مسعورة شديدة الاتقاد يقاسونها في الآخرة ، وبالفارسية : (آماده كرد براى عذاب ايشان آتشى افروخته) يقال سعر النار وأسعرها وسعرها أوقدها.
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَـافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} .
{خَـالِدِينَ فِيهَآ} مقدّراً خلودهم في السعير {أَبَدًا} دائماً ، بالفارسية : (درحالتى كه جاويد باشند دران يعني هميشه در آتش معذب مانند) اكد الخلود بالتأبيد والدوام مبالغة في ذلك {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يحفظهم {وَلا نَصِيرًا} يدفع العذاب عنهم ويخلصهم منه.
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} ظرف لعدم الوجدان أي : يوم تصرف وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم ليشوي في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة ومن حال إلى حال أو يطرحون فيها مقلوبين منكوسين وتخصيص الوجوه بالذكر للتعبير عن الكل وهي الجملة بأشرف الأجزاء وأكرمها ويقال تحول وجوههم من الحسن إلى القبح ومن حال البياض إلى حال السواد {يَقُولُونَ} استئناف بياني كأنه قيل فماذا يصنعون عند ذلك فقيل : يقولون متحسرين على ما فاتهم يا لَيْتَنَآ} يا هؤلاء فالمنادي محذوف ويجوز أن يكون يا لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه ، وبالفارسية : (كاشكى ما) {أَطَعْنَا اللَّهَ} في دار الدنيا فيما أمرنا ونهانا {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} فيما دعانا إلى الحق فلن نبتلي بهذا العذاب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/189)
{وَقَالُوا} أي : الاتباع عطف على يقولون والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مسبباً لقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضرباً من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم منها {رَبَّنَآ} (اى روردكارما) {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} يعنون قادتهم ورؤساءهم الذين لقنوهم الكفر والتعبير عنهم بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.
والسادة جمع سيد وجمع الجمع سادات وقد قرىء بها للدلالة على الكثرة.
قال في "الوسيط" وسادة أحسن لأن العرب لا تكاد تقول سادات.
والكبراء جمع كبير وهو مقابل الصغير والمراد الكبير رتبة وحالاً {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} أي : صرفونا عن طريق الإسلام والتوحيد بما زينوا لنا الكفر والشرك يقال أضله الطريق وأضله عن الطريق بمعنى واحد أي : أخطأ به عنه ، وبالفارسية : (س كم كردند راه مارا يعنى مارا ازراه ببردند وبافسون وافسانه فريب دادند) والألف الزائدة في الرسولا والسبيلا لإطلاق الصوت لأن أواخر آيات السورة الألف والعرب تحفظ هذا في خطبها وإشعارها.
قال في "بحر العلوم" : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص والكسائي {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} بغير ألف في الوصل.
وحمزة وأبو عمرو ويعقوب في الوقف أيضاً والباقون بالألف في الحالين تشبيهاً للفواصل بالقوافي فإن زيادة الألف لإطلاق الصوت وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف وأما حذفها
244
فهو القياس أي : في الوصف والوقف.
{وَقَالُوا رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا * يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا} .
{رَبَّنَآ} تصدير الدعاء بالنداء المكرر للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة {ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ} أي : مثلي العذاب الذي أوتيناه لأنهم ضلوا وأضلوا فضعف لضلالهم في أنفسهم عن طريق الهداية وضعف لإضلالهم غيرهم عنها {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} أي : شديداً عظيماً وأصل الكبير والعظيم أن يستعملا في الأعيان ثم استعيرا للمعاني ، وبالفارسية : (وبرايشان راندن بزرك كه بآن خواندن نباشد ومقرراست كه هركرا حق تعالى براند ديكرى نواندكه بخواند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
هركه را قهر تو راند كه تواند خواندن
وانكه لطف توخواند نتوانش راندن
وقرىء كثيراً أي : كثير العدد أي : اللعن على أثر اللعن أي : مرة بعد مرة ويشهد للكثرة قوله تعالى : {أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة : 161).
قال في "كشف الأسرار" : (محمد ابن أبي السري مردى بود از جمله نيك مردان روزكار كفتا بخواب نمودند مراكه درمسجد عسقلان كسى قرآن مى خواند باينجا رسيدكه.
{وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} ) من كفتم كثيراً وى كفت كبيراً بازنكرستم رسول خدايرا ديدم درميان مسجد كه قصد مناره داشت فرايش وى رفتم كفتم "السلام عليك يا رسول الله استغفر لي" رسول ازمن بركشت ديكر بار ازسوى راست وى در آمدم كفتم "يا رسول الله استغفر لي" رسول اعراض كرد برابروى بايستادم كفتم يا رسول الله سفيان بن عيينه مرا خبر كرد از محمد بن المنكدر ازجابر بن عبد الله كه هركز ازتو نخواستندكه كفتى "لا" ونست كه سؤال من رد ميكنى ومرادم نميدهى رسول خدا تبسمى كرد آنكه كفت "اللهم اغفر له" س كفتم يا رسول الله ميان من واين مرد خلافست اوميكويد {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} ومن ميكويم {كَثِيرًا} رسول همنان برمناره ميشدوميكفت {كَثِيرًا} .
ثم أن الله تعالى أخبر بهذه الآية عن صعوبة العقوبة التي علم أنه يعذبهم بها وما يقع لهم من الندامة على ما فرطوا حين لا تنفعهم الندامة ولا يكون سوى الغرامة والملامة :
حسرت ازجان اوبر آرد دود
وان زمان حسرتش ندارد سود
بسكه ريزد زديده اشك ندم
غرق كردد زفرق تابقدم
آب شمش شود دران شيون
آتشش را بخاصيت روغن
كاش اين كريه يش ازين كردى
غم اين كار بيش ازين كردى
اى بمهد بدن و طفل صغير
مانده دردست خواب غفلت اسير
يش ازان كت اجل كند بيدار
كر بمردى زخواب سر بردار
اللهم أيقظنا من الغفلة وادفع عنا الكسل واستخدمنا فيما يرضيك من حسن العمل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131(7/190)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا} في أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل : نزلت في شأن زينب وما سمع فيه من مقالة الناس كما سبق.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قسم النبي عليه السلام قسماً فقال رجل : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي عليه السلام فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال : "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا".
{كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى} كقارون وأشياعه وغيرهم من سفهاء بني إسرائيل كما سيأتي
245
{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أصل البراءة التفصي مما تكره مجاورته أي : فاظهر براءة موسى عليه السلام مما قالوا في حقه أي : من مضمونه ومؤداه الذي هو الأمر المعيب فإن البراءة تكون من العيب لا من القول وإنما الكائن من القول التخلص {وَكَانَ} موسى {عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} في "الوسيط" وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر.
قال في "تاج المصادر" : (الوجاهة : خداوند قدروجاه شدن) والمعنى ذا جاه ومنزلة وقربة فكيف يوصف بعيب ونقيصة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وجيهاً أي : حظياً لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه.
وفيه إشارة إلى أن موسى عليه السلام كان في الأزل عند الله مقضياً له بالوجاهة فلا يكون غير وجهيه بتعيير بني إسرائيل إياه كما قيل :
إن كنت عندك يا مولاي مطرحاً
فعند غيرك محمول على الحذف
وفي "المثنوي" :
كي شود دريا زوزسك نجس
كى شود خورشيد ازف منطمس
وفي "البستان" :
امين وبدانديش طشتند ومور
نشايد درو رخنه كردن بزور
واختلفوا في وجه أذى موسى عليه السلام فقال بعضهم : إن قارون دفع إلى زانية مالاً عظيماً على أن تقول على رأس الملأ من بني إسرائيل إني حامل من موسى على الزنى فأظهر الله نزاهته عن ذلك بأن أقرت الزانية بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل بقارون ما فعل من الخسف كما فصل في سورة القصص.
كند ازبهر كليم الله اه
دره افتاد وبشد حالش تباه
ون قضا آيدشودتنك اين جهان
از قضا حلوا شود رنج دهان
اين جهان ون قحبه مكاره بين
كس زمكر قحبه ون باشدامين
او بمكرش كرد قارون درزمين
شد زرسوايى شهير عالمين
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وقال بعضهم : قذفوه بعيب في بدنه من برص وهو محركة بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاج أو من ادرة وهي مرض الانثيين ونفختهما بالفارسية : (مادخايه) وذلك لفرط تستره حياء فاطلعهم الله على براءته وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوءة بعضهم أي : فرجه وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده.
قال ابن ملك وهذا مشعر بوجوب التستر في شرعه.
فقال بعضهم : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر على وزن افعل وهو من له أدرة فذهب مرة موسى يغتسل فوضع ثوبه على حجر قيل هو الحجر الذي يتفجر منه الماء ففر الحجر بثوبه أي : بعد أن اغتسل وأراد أن يلبس ثوبه فأسرع موسى خلف الحجر وهو عريان وهو يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر أي : دع ثوبي يا حجر فوقف الحجر عند بني إسرائيل ينظرون إليه فقالوا : والله ما بموسى من بأس وعلموا أنه ليس كما قالوا في حقه فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً فضربه خمساً أو ستاً أو سبعاً أو اثنتي عشرة ضربة بقي أثر الضربات فيه.
قال في "إنسان العيون" : كان موسى عليه السلام إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته وربما اشتعلت قلنسوته ناراً لشدة غضبه ولشدة غضبه لما فرّ الحجر بثوبه ضربه مع أنه لا إدراك له
246
ووجه بأنه لما فر صار كالدابة والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب انتهى.
يقول الفقير للجمادات : حياة حقانية عند أهل الله تعالى فهم يعاملونها بها معاملة الأحياء ، قال في "المثنوي" :
بادرا بى شم اكر بينش نداد
فرق ون ميكرد اندر قوم عاد
كر نبودى نيل را آن نور ديد
ازه قبطى را زسبطى ميكزيد
كرنه كوه وسنك باديدار شد
س را داودرا آن يار شد
اين زمين را كرنبودى شم جان
ازه قارو نرافرو خورد آننان
(7/191)
وفي القصة : إشارة إلى أن الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن يكونوا متبرئين من النقص في أصل الخلقة وقد يكون تبريهم بطريق خارق للعادة كما وقع لموسى من طريق فرار الحجر كما شاهدوه ونظروا إلى سوأته.
وفي "الخصائص الصغرى" أن من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم أنه لم تر عورته قط ولو رآها أحد طمست عيناه.
وقال بعضهم في وجه الأذى أن موسى خرج مع هارون إلى بعض الكهوف فرأى سريراً هناك فنام عليه هارون فمات ثم إن موسى لما عاد وليس معه هارون قال بنو إسرائيل قتل موسى هارون حسداً له على محبة بني إسرائيل إياه فقال لهم موسى : ويحكم كان أخي ووزيري أترونني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذي نام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وأن هارون مات فيه فدفنه موسى فقيل في حقه ما قيل كما ذكر حتى انطلق موسى إلى قبره ودعا الله أن يحييه فأحياه الله تعالى وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى عليه السلام وقد سبقت قصة وفاة موسى وهارون في سورة المائدة فارجع إليها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى هذه الأمة بكلام قديم أزلي أن لا يكونوا كأمة موسى في الإيذاء فإنه من صفات السبع بل يكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلّم "لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه" وقال : "المؤمن من أمنه الناس" وقوله : {لا تَكُونُوا} نهى عن كونهم بنفي هذه الصفة عنهم أي : كونوا ولا تكونوا بهذه الصفة لتكونوا خير أمة أخرجت للناس فكانوا ولم يكونوا بهذه الصفة.
وفيه إشارة إلى أن كل موجود عند إيجاده بأمركن مأمور بصفة مخصوصة به ومنهي عن صفة غير مخصوصة به فكان كل موجود كما أمر بأمر التكوين ولم يكن كما نهى بنهي التكوين كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلّم {فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} (هود : 112) بالاستقامة بأمر التكوين عند الإيجاد فكان كما أمر وقال تعالى ناهياً له نهي التكوين {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} فلم يكن من الجاهلين كما نهى عن الجهل.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا * يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} في رعاية حقوقه وحقوق عباده فمن الأول الامتثال لأمره ومن الثاني ترك الأذى لا سيما في حق رسوله.
قال الواسطي : التقوى على أربعة أوجه : للعامة تقوى الشرك.
وللخاصة تقوى المعاصي.
وللخاص من الأولياء تقوى التوصل بالأفعال.
وللأنبياء تقواهم منه إليه.
{وَقُولُوا} في أي : شأن من الشؤون {قَوْلا سَدِيدًا} مستقيماً مائلاً إلى الحق من سد يسد سداداً صار صواباً ومستقيماً فإن السداد الاستقامة يقال سدد السهم نحو الرمية إذا لم يعدل به عن سمتها وخص القول الصدق بالذكر وهو ما أريد به وجه الله ليس فيه شائبة غير وكذب أصلاً لأن التقوى
247
صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك فلا يدخل فيها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وقال بعضهم القول السديد داخل في التقوى وتخصيصه لكونه أعظم أركانها.
قال الكاشفي : (قول جامع درين باب آنست كه قول سديد سخنست كه صدق باشد نه كذب وصواب بودنه خطا وجد بودنه هزل نين سخن كوييد) والمراد نهيهم عن ضده أي : عما خاضوا فيه من حديث زينب الجائر عن العدل والقصد ، يعني : (دروغ مكوييد وناراستى مكنيد درسخن ون حديث افك) وقصة زينب وبعثهم على أن يسددوا قولهم في كل باب لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله.
ـ حكي ـ أن يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت من أكابر علماء العربية جلس يوماً مع المتوكل فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل فقال : أيما أحب إليك إبناي أم الحسن والحسين قال : والله إن قنبرا خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك فقال : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات في تلك الليلة ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد وكان يعلمهما فقال :
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه
وعثرته في الرجل تبرا على مهل(7/192)
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ} يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والفعل.
وفيه إشارة إلى أن من وفقه الله لصالح الأعمال فذلك دليل على أنه مغفور له ذنوبه {وَمِنْ} (وهركه){يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التكليفات والطاعة موافقة الأمر والمعصية مخالفته {فَقَدْ فَازَ} في الدارين والفوز الظفر مع حصول السلامة {فَوْزًا عَظِيمًا} عاش في الدنيا محموداً وفي الآخرة مسعوداً أو نجا من كل ما يخاف ووصل إلى كل ما يرجو.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بالتقوى وهو التوحيد عقداً وحفظ الحدود جهداً ولا يحصل سداد أعمال التقوى إلا بالقول السديد وهي كلمة لا إله إلا الله فبالمداومة على قول هذه الكلمة بشرائطها يصلح لكم أعمال التقوى فسداد أقوالكم سبب لسداد أعمالكم وبسداد الأقوال وسداد الأعمال يحصل سداد الأحوال وهو قوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وهو عبارة عن رفع الحجب الظلمانية بنور المغفرة الربانية ومن يطع الله فيما أمره ونهاه ويطع الرسول فيما أرشده إلى صراط مستقيم متابعته فقد فاز فوزاً عظيماً بالخروج عن الحجب الوجودية بالفناء في وجود الهوية والبقاء ببقاء الربوبية انتهى.
وقال بعضهم من يطع الله ورسوله في التزكية ومحو الصفات فقد فاز بالتحلية والاتصاف بالصفات الإلهية وهو الفوز العظيم.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهُدى هُدى محمد" أي : خير الإرشاد إرشاده صلى الله عليه وسلّم
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
واعلم أن إطاعة الله تعالى في تحصيل مراتب التوحيد من الأفعال والصفات والذات وإطاعة الرسول بالاستمساك بحبل الشريعة فإن النجاة من بحر الجحود وظلمة الشرك أما بنور الكشف أو بسفينة الشريعة أما الأول : فهو أن يعتصم الطالب في طلبه بالله حتى يهتدي إليه بنوره ويؤتيه الله العلم من لدنه وأما الثاني : فهو أن
248
يكتفي بالإقرار بالوحدانية والإيمان التقليدي والعمل بظواهر الشرع.
ـ روي ـ أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لما راعى الشريعة بين جماعة كشفوا العورة في الحمام قيل له في المنام إن الله جعلك للناس إماماً برعايتك الشريعة (نقلست كه در بغداد ون معتزله غلبه كردند كفنند ويرا تكليف بايد كردن تاقر آنرا مخلوق كويد س عزم كردند واورا بسراى خليفه بردند سرهنكى بود بردرسراى كفت أي : امام مردانه باش كه وقتى من دزدى كردم وهزار وبم زدند ومن مقر نكشتم تا عاقبت رهابى يافتم من كه درباطل نين صبر كردم توكه برحقى او ليتر باشى بصبر كردن احمد كفت آن سخن او مرا عظيم يارى داد وتأثير كرد س اورا مى بردند واوير وضعيف بود دودستش ازس برون كشيدند وهزار تازيانه بزدندش كه قر آنرا مخلوق كوى نكفت ودران ودران ميان بند ازارش كشاده شد ودستش بسته بود درحال دودست ازغيب بديد آمد وبه بست وآن ازان بودكه بارى تنها درحمام بود خواست كه ازار بكشايد وبشويد آنرا ترك كرد ونكشود كفت اكر خلق حاضر نيست خداى تعالى حاضراست ون اين برهان ديدند بكذاشتند) :
درره حق كشيده اند بلا
اين بلا شد سبب بقرب وولا
صبر وتقوى وطاعت مولى
نزد عارف زهر شرف اولى
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الانسَـانُا إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا * لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِا وَكَانَ اللَّهُ} .
{أَنَا} هذه النون نون العظمة والكبرياء عند العلماء فإن الملوك والعظماء يعبرون عن أنفسهم بصيغة الجمع ونون الأسماء والصفات عند العرفاء فإنها متعددة ومتكثرة {عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ} يقال : عرض لي أمر كذا أي : ظهر وعرضت له الشيء أي : أظهرته له وأبرزته إليه وعرضت الشيء على البيع وعرض الجند إذا أمرّهم عليه ونظر ما حالهم والأمانة ضد الخيانة.
والمراد هنا ما ائتمن عليها وهي على ثلاث مراتب :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/193)
المرتبة الأولى : أنها التكاليف الشرعية والأمور الدينية المرعية ولذا سميت أمانة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء.
وفي "الإرشاد" : عبر عن التكاليف الشرعية بالأمانة لأنها حقوق مرعية أودعها الله المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها انتهى وتلك الأمانة هي العقل أوّلاً فإن به يحصل تعلم كل ما في طوق البشر تعلمه وفعل ما في طوقهم فعله من الجميل وبه فضل الإنسان على كثير من الخلائق ثم التوحيد والإيمان باليوم الآخر والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وصدق الحديث وحفظ اللسان من الفضول.
وحفظ الودائع وأشدها كتم الأسرار وقضاء الدين والعدالة في المكيال والميزان والغسل من الجنابة والنية في الأعمال والطهارة في الصلاة وتحسين الصلاة في الخلوة والصبر على البلاء والشكر لدى النعماء والوفاء بالعهود والقيام بالحدود وحفظ الفرج الذي هو أول ما خلق الله من الإنسان وقال له : هذه أمانة استودعتكها والإذن والعين واليد والرجل وحروف التهجي كما نقله الراغب في "المفردات"وترك الخيانة في قليل وكثير لمؤمن ومعاهد وغير ذلك مما أمر به الشرع وأوجبه وهي بعينها المواثيق والعهود التي أخذت من الأرواح في عالمها ووضعت أمانة في
249
الجوهر الجمادي صورة المسمى بالحجر الأسود لسيادته بين الجواهر وألقمه الحق تلك المواثيق وهو أمين الله لتلك الأمانة.
والمرتبة الثانية : أنها المحبة والعشق والانجذاب الإلهي التي هي ثمرة الأمانة الأولى ونتيجتها وبها فضل الإنسان على الملائكة إذ الملائكة وإن حصل لهم المحبة في الجملة لكن محبتهم ليست بمبنية على المحن والبلايا والتكاليف الشاقة التي تعطي الترقي إذ الترقي ليس إلا للإنسان فليس المحنة والبلوى الا له ألا ترى إلى قول الحافظ :
شب تاريك وبيم موج وكردابى نين هائل
كجا دانند حال ماسبكباران ساحلها
أراد بقوله : "شب تاريك" جلال الذات وبقوله : "بيم موج" خوف صفات القهر وبقوله : "كرداب" در دربحر العشق وهي الامتحانات الهائلة والبرازخ المخوفة وبقوله : "سبكباران ساحل" الزهاد والملائكة الذين بقوا في ساحل بحر العشق وهو بر الزهد والطاعة المجردة وهم أهل الأمانة الأولى ومن هذا القبيل أيضاً قوله :
فرشته عشق نداندكه يست قصه مخوان
بخواه جام كلابى بخاك آدم ريز
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
وقول المولى الجامي :
ملائك را ه سود ازحسن طاعت
و فيض عشق برآدم فرو ريخت
(در لوامع آورده كه آن بو العجى كه عشق را درعالم بشريتست درمملكت ملكيت نيست كه ايشان سايه رورد لطف وعصمت اند ومحبت بى دردرا قدر وقيمتى نيست عشق را طائفة در خورندكه صفت {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} (البقرة : 30) سرماية بازار ايشان وسمت {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} يرايه روزكار ايشانست ملكى را بينى كه اكرجناحى را بسط كند خافقين را در زير جناح خود آرد اما طاقت حمل اين معنى ندارد وآن بياره آدمى زادى را بينى بوستى در استخوانى كشيده بيباك واز شراب بلا درقدح ولا شيده ودروى تغير نيامده آن راست زيراكه آن صاحب دلست) والقلب يحمل ما لا يحمل البدن.
والمرتبة الثالثة أنها الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سماه بالأمانة لأنه من صفات الحق تعالى فلا يتملكه أحد وهذا الفيض إنما يحصل بالخروج عن الحجب الوجودية المشار إليها بالظلومية والجهولية وذلك بالفناء في وجود الهوية والبقاء ببقاء الربوبية وهذه المرتبة نتيجة المرتبة الثانية وغايتها فإن العشق من مقام المحبة الصفاتية وهذا الفيض والفناء من مقام المحبوبية الذاتية وفي هذا المقام يتولد من القلب طفل خليفة الله في الأرض وهو الحامل للأمانة فالمرتبة الأولى للعوام والثانية للخواص والثالثة لأخص الخواص والأولى طريق الثانية وهي طريق الثالثة ولم يجد سر هذه الأمانة إلا من أتى البيت من الباب وكل وجه ذكره المفسرون في معنى الأمانة حق لكن لما كان في المرتبة الأولى كان ظرفاً ووعاء للأمانة ولبه ما في المرتبة الثانية ولب اللب ما في المرتبة الثالثة ومن الله الهداية إلى هذه المراتب والعناية في الوصول إلى جميع المطالب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
ثم المراد بالسموات والأرض والجبال هي أنفسها أعيانها وأهاليها وذلك لأن تخصص الإنسان بحمل الأمانة يقتضي أن يكون المعروض عليه ما عداه من جميع الموجودات أياً ما كان حيواناً أو غيره وإنما خص في مقام الحمل ، ذلك لأنه أصلب الأجسام وأثبتها وأقواها كما خص الأفلاك في
250
(7/194)
قوله : "لولاك لما خلقت الأفلاك" لكونها أعظم الأجسام ولهذا السر لم يقل فأبوا أن يحملوها بواو العقلاء.
فإن قلت ما ذكر من السموات وغيرها جمادات والجمادات لا إدراك لها فما معنى عرض الأمانة عليها.
قلت للعلماء فيه قولان : الأول أنه على الحقيقة وهو الأنسب بمذهب أهل السنة لأنهم لا يؤولون أمثال هذا بل يحملونها على حقيقتها خلافاً للمعتزلة.
وعلى تقدير الحقيقة فيه وجهان : أحدهما أدق من الآخر.
الأول أن للجمادات حياة حقانية دل عليها كثير من الآيات نحو قوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ} (الحج : 18) وقوله : {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11) وقوله : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة : 74) وقوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} (الإسراء : 44) وقوله : {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَهُ} .
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أكثر العقلاء بل كلهم يقولون أن الجمادات لا تعقل فوقفوا عند بصرهم والأمر عندنا ليس كذلك فإذا جاءهم عن نبي أو ولي أن حجراً كلمه مثلاً يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم وقد ورد "إن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له" ولا يشهد إلا من علم وقد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك لكون الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها وأسمعنا تسبيحها ونطقها وكذلك اندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله ولولا ما عنده من معرفة العظمة لما تدكدك انتهى.
ومثله ما روينا أن حضرة شيخنا وسندنا روح الله روحه ووالى في البرزخ فتوحه دعا مرة من عنده للافطار فجلسنا له وبين يديه ماء وكعك مبلول وكان لا يأكل في أواخر عمره إلا الكعك المجرد فقال أثناء الإفطار أن لهذا الخبر روحاً حقانياً فظاهره يرجع إلى الجسد وروحه يرجع إلى الروح فيتقوى به الجسم والروح جميعاً ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
علم وحكمت زايد از لقمه حلال
عشق ورقت آيد ازلقمه حلال
ثم قال ولكل موجود روح إما حيواني أو حقاني فجسد الميت له روح حقاني غير روحه الحيواني الذي فارقه ألا ترى أن الله تعالى لو أنطقه لنطق فنطقه إنما هو لروحه وقد جاء أن كل شيء يسبح بحمده حجراً أو شجراً أو غير ذلك وما هو إلا لسريان الحياة فيه حقيقة ولذا سبح الجبال مع داود وحمل الريح سليمان عليه السلام وجذبت الأرض قارون وحن الجذع في المسجد النبوي وسلم الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحو ذلك مما لا يحصى ، وفي "المثنوي" :
ون شما سوى جمادى مى رويد
محرم جان جمادان ون شويداز جمادى عالم جانها رويد
غلغل اجزاى عالم بشنويد
ون ندارد جان توقنديلها
بهر بينش كرده تأويلها
والوجه الثاني أن الله تعالى ركب العقل والفهم في الجمادات المذكورة عند عرض الأمانة
251
كما ركب العقل وقبول الخطاب في النملة السليمانية والهدهد وغيرهما من الطيور والوحوش والسباع بل وفي الحجر والشجر والتراب فهن بهذا العقل والإدراك سمعن الخطاب وانطقهن الله بالجواب حيث قال لهن أتحملن هذه الأمانة على أن يكون لكنّ الثواب والنعيم في الحفظ والأداء والعقاب والجحيم في الغدر والخيانة {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} الأباء شدة الامتناع فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} قال في "المفردات" : الأشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدى بعلى فمعنى العناية فيه أظهر كما قال في "تاج المصادر" (الاشفاق : ترسيدن ومهربانى كردن) يعدى بعلى وأصلهما واحد.
والمعنى وخفن من الأمانة وحملها وقلن يا رب نحن مسخرات بأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً ولم يكن هذا القول منهن من جهة المعصية والمخالفة بل من جهة الخوف والخشية من أن لا يؤدين حقوقها ويقعن في العذاب ولو كان لهن استعداد ومعرفة بسعة الرحمة واعتماد على الله لما أبين وكان العرض عرض تخيير لا عرض إلزام وإيجاب لأن المخالفة والإباء عن التكليف الواجب يوجب المقت والسقوط عن درجة الكمال ولم يذكر تعالى توبيخاً على الإباء ولا عقوبة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
(7/195)
والقول الثاني : أنه محمول على الفرض والتمثيل فعبر عن اعتبار الأمانة بالنسبة إلى استعدادهن بالعرض عليهن لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها وعن عدم استعدادهن لقبولها بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها ومزيد فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية التي هي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة فالمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كفلت هاتيك الإجرام العظام التي هي مثل في الشدة والقوة مراعاتها وكانت ذات شهود وإدراك لأبين قبولها وأشفقن منها ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق روماً لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه {وَحَمَلَهَا الانسَـانُ} عند عرضها عليه كما قال الإمام القشيري (أمانتها برانها عرض نمود وبرانسان فرض نمود آنجاكه عرض بود سرباز زدند واينجا كه فرض بود در معرض حمل رمدند) والمراد بالإنسان الجنس بدليل قوله : {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} أي : تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة لأن الحمل إنما يكون بالهمة لا بالقوة.
قال في "الإرشاد" : وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن اعترافه يوم الميثاق بقوله بلى ولما حملها قال الله تعالى : {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70) {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} (الرحمن : 60) (واين را در ظاهر مثالي هست درختانى كه اصل ايشان محكم ترست وشاخ ايشان بيشتربار ايشان خردتر وسبكترباز در ختانى كه ضعيف ترند وسست تر بارايشان شكرف تراست وبزركترون خربزه وكدو ومانند آن ليكن اينجا لطيفه ايست آن درخت كه باراوشكرف تراست وبزركتر طاقت كشيدن آن ندارد اورا كفتند باركران از كردن خويش برفرق زمين نه تا عالميان بدانندكه هركجا ضعيفي است مربى او لطف حضرت عزت است اينست سر) {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70) فالإنسان اختص بالعشق وقبول الفيض بلا واسطة وحمله
252
من سائر المخلوقات لاختصاصه بإصابة رشاش النور الإلهي وكل روح أصابه رشاش نور الله صار مستعداً لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة وكان عرض العشق الفيض عاماً على المخلوقات وحمله خاصاً بالإنسان لأن نسبة الإنسان مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن عرض الروح عام على الشخص الإنساني وقبوله وحمله مخصوص بالقلب بلا واسطة ثم من القلب بواسطة العروق الممتدة يصل عكس الروح إلى جميع الأعضاء فيكون متحركاً به كذلك عرض العشق والفيض الإلهي عام لاحتياج الموجودات إلى الفيض وقبوله وحمله خاص بالإنسان ومنه يصل عكسه إلى سائر المخلوقات ملكها وملكوتها فأما إلى ملكها وهو ظاهر الكون أعني الدنيا فيصل الفيض إليه بواسطة صورة الإنسان وهو بأمركن باطن الكون أعني الآخرة فيصل الفيض إليها بواسطة روح الإنسان وهو أول شيء تعلقت به القدرة فيتعلق الفيض الإلهي من أمركن أولاً بالروح الإنساني ثم يفيض منه إلى عالم الملكوت فظاهر العالم وباطنه معمور بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة المخصوصة بالإنسان.
وقال بعضهم : المراد بالإنسان آدم.
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها وقالوا : لا نطيق حملها وجاء آدم من غير أن دعي وحرك الصخرة وقال : لو أمرت بحملها لحملتها فقلن له احمل فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال : لو أردت أن أزداد لزدت فقلن له : احمل فحملها إلى حقوه ثم وضعها وقال : لو أردت أن أزداد لزدت فقلن له : احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال الله مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
آسمان بارامانت نتوانست كشيد
قرعه فال بنام من ديوانه زدند
(7/196)
وفي "كشف الأسرار" : (ون آسمان وزمين وكوهها وبترسيدند ازذير فتن امانت وبازنشستند ازبرداشتن آن رب العزة آدم را كفت "إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها وأنت آخذها بما فيها قال : يا رب وما فيها : قال : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت قال بين أذني وعاتقي" يعني آدم بطاعت وخدمت بنده وار درآمد وكفت برداشتم ميان كوش ودوش خويش رب العالمين كفت اكهون كه برداشت ترادران معونت وقوت دهم) اجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فارخ حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقا فإذا خشيت أن تتكلم بما لا يحل فاغقله واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك.
شيخ جنيد قدس سره (فرموده كه نظر آدم بر عرض حق بود نه برامانت لذت عرض ثقل امانت را بروفراموش كردانيد لا جرم لطف رباني بزبان عنايت فرموده كه برداشتن ازتو ونكاه داشتن از من ون تو بطوع بارمرا برداشتى من هم ازميان همة تر برداشتم){وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70).
ـ وروي ـ أن آدم عليه السلام قال : أحمل الأمانة بقوتي أم بالحق؟ فقيل : من يحملها يحمل بنا فإن ما هو منا لا يحمل الا بنا فحملها :
را اورا بدو توان يمود
بار اورا بدو توان برداشت
قال بعضهم :
آن باركه ازبردن آن عرش ابا كرد
باقوت او حامل آن بارتوان بود
253
ـ القصة ـ (خلعت حمل امانت جز برقامت با استقامت انسان كه منشور {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30) او برنام نامى نوشته اند راست نيامد وون كارى بدين عظمت وفهمى بدين ابهت نامزد اوشدجهت دفع شم زخم حسود آن شياطين كه دشمن ديرينه اند سند {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} ) بر آتش غيرت افكندند تا كورشود هرآنكه نتواننديد كما قال : {أَنَّهُ} أي : الإنسان {كَانَ ظَلُومًا} لنفسه بمعصية ربه حيث لم يف بالأمانة ولم يراع حقها {جَهُولا} بكنه عاقبتها يعني : (نادان بعقوبت خيانت اكر واقع شود) والظلم وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه ومن هذا ظلمت السقاء إذا تناولته في غير وقته ويسمى ذلك اللبن الظلم وظلمت الأرض إذا حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر وتلك الأرض يقال لها المظلومة والتراب الذي يخرج منها ظليم والظلم يقال في مجاوزة الحد الذي يجري مجرى النقطة في الدائرة ويقال فيما يكثر ويقل من التجاوز ولذا يستعمل في الذنب الصغير والكبير ولذا قيل لآدم في تقدمه ظالم وفي إبليس ظالم وإن كان بين الظلمين بون بعيد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
قال بعض الحكماء : الظلم ثلاثة : أحدهما : بين الإنسان وبين الله وأعظمه الكفر والشرك والنفاق.
والثاني : ظلم بينه وبين الناس.
والثالث : ظلم بينه وبين نفسه وهذه الثلاثة في الحقيقة للنفس فإن الإنسان أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه.
اول بظالمان اثر ظلم ميرسد
يش ازهدف هميشه كمان تارميكند
والجهل خلو النفس من العلم وهو على قسمين ضعيف وهو الجهل البسيط وقوي وهو الجهل المركب الذي لا يدري صاحبه إنه لا يدري فيكون محروماً من التعلم ولذا كان قوياً.
قال في "الإرشاد" وقوله : {أَنَّهُ} الخ اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله أي : إنه كان مفرطاً في الظلم مبالغاً في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو عهودهم يوم الأرواح دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله وجروا على ما اعترفوا بقولهم بلى.
وقال بعضهم : الإنسان ظلوم وجهول أي : من شأنه الظلم والجهل كما يقال الماء طهور أي : من شأنه الطهارة.
واعلم أن الظلومية والجهولية صفتا ذم عند أهل الظاهر لأنهما في حق الخائنين في الأمانة فمن وضع الغدر والخيانة موضع الوفاء والأداء فقد ظلم وجهل.
قال في "كشف الأسرار" : (عادت خلق آنست كه ون امانتى عزيز بنزديك كسى نهند مهرى بروى نهند وآن روز كه باز خواهند مهررا مطالعت كنند اكر مهر برجاى بود اورا ثناها كويند امانتى بنزديك تونهادند از عهد ربو بيت {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (الأعراف : 172) ومهرى كه بروى نهادند ون عمر بآخر رسد وترا بمنزل خاك برند آن فرشته درآيد وكويد "من ربك" آن مطالعت كه ميكند تا مهر روز اول برجاى هست يانه) قال الحافظ :
از دم صبح ازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهدويك ميثاق بود
وقال أهل الحقيقة : هما صفتا مدح أي : في حق مؤدي الأمانة فإن الإنسان ظلم نفسه بحمل الأمانة لأنه وضع شيئاً في غير موضعه فأفنى نفسه وأزال حجبها الوجودية وهي المعروفة بالأنانية
254
(7/197)
وجهل ربه فإنه في أول الأمر يحب هذه البهيمية التي تأكل وتشرب وتنكح وتحمل الذكورية والأنوثية اللتين اشترك فيهما جميع الحيوانات وما يدري أن هذه الصورة الحيوانية قشر وله لب وهو محبوب الحق الذي قال : {يُحِبُّهُمْ} وهو محب الحق الذي قال : فإذا عبر عن قشر جسمانية الظلمانية ووصل إلى لب روحانية النورانية.
ثم علم أن هذا اللب النوراني أيضاً قشر فإن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إنسبعين ألف حجاب من نور وظلمة" فعبر عن القشر الروحاني أيضاً ووصل إلى لبه الذي هو محبوب الحق ومحبه فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه بتوحيد لا شرك فيه وجهل ما سوى الله تعالى بالكلية وأيضاً أن الجهول هو العالم لأن نهاية العلم هو الاعتراف بالجهل في باب المعرفة والعجز عن درك الإدراك إدراك.
قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
غير انسان كسش نكرد قبول
زانكه انسان ظلوم بود وجهول
ظلم او آنكه هستى خود را
ساخت فانى بقاى سرمدرا
جهل او آنكه هره جزحق بود
صورت آن زلوح دل نزدود
نيك ظلمى كه عين معدلتست
نغز جهلى كه مغز معرفتست
اى نكرده دل از علائق صاف
مزن از دانش خلائق لاف
زانكه در عالم خدا دانى
جهل علمست علم نا دانى
فلو لم يكن للإنسان قوة هذه الظلومية والجهولية لما حمل الأمانة وبهذا الاعتبار صح تعليل الحمل بهما.
وقال بعض أهل التفسير وتبعهم صاحب "القاموس" : إن الوصف بالظلومية والجهولية إنما يليق بمن خان في الأمانة وقصر عن حقها لا بمن يتحملها ويقبلها فمعنى حملها الإنسان أي : خانها والإنسان الكافر والمنافق من قولك فلان حامل للأمانة ومحتمل لها بمعنى أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج من عهدتها بجعل الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها كما يقال ركبته الديون فما يحمل إذا كناية عن الخيانة والتضيع والمعنى إنا عرضنا الطاعة على هذه الأجرام العظام فانقادت لأمر الله انقياداً يصح من الجمادات وأطاعت له إطاعة تليق بها حيث لم تمتنع عن مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة كما قال : {أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11) والإنسان مع حياته وكمال عقله وصلاحه للتكليف لم يكن حاله فيما يصح منه ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه مثل حال تلك الجمادات بل مال إلى أن يكون محتملاً لتلك الأمانة مؤدياً إياها ومن ثم وصف بالظلم حيث ترك أداء الأمانة وبالجهل حيث أخطأ طريق السعادة ففي هذا التمثيل تشبيه انقياد تلك الأجرام لمشيئة الله إيجاداً وتكويناً بحال مأمور مطيع لا يتوقف عن الامتثال فالحمل في هذا مجاز وفي التمثيل السابق على حقيقته وليس في هذا المعنى حذف المعطوف مع حرف العطف بخلافه في محل الحمل على التحمل فإن المراد حينئذٍ وحملها الإنسان ثم غدر بالحمل حتى يصح التعليل بقوله : {إِنَّه كَانَ} إلخ فاعرف هذا المقام والقول ما قالت حذام.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف عرض الأمانة عليه مع علمه بحاله من كونه ظلوماً جهولاً؟ والجواب هذا سؤال طويل
255
الذيل فإنه تعالى قد بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الإيمان مع علمه السابق بأن يؤمن بعضهم ويكفر بعضهم والخطاب عم الكل مع علمه باختلاف أحوالهم في الإيمان والكفر فهذا من قبيله وسبيله فإنه مالك الأعيان والآثار على الإطلاق.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ظلوماً بحق الأمانة جهولاً بما يفعل من الخيانة يعني لم تكن الخيانة عن عمد وقصد بل كانت عن جهل وسهو كما قال : {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115) والسهو والنسيان مغفور والجهل في بعض المواضع معذور الهنا اصنع بنا ما أنت أهله ولا تصنع بنا ما نحن أهله ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
بر در كعبه سائلى ديدم
كه همى كفت ميكرستى خوش
من نكويم كه طاعتم بذير
قلم عفو بركناهم كش
{إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الانسَـانُا إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا * لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِا وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمَا} .
(7/198)
{لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ} الذين ضيعوا الأمانة بعدما قبلوها {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ} الذين خانوا في الأمانة بعدم قبولها رأساً.
قال في "الإرشاد" : إشارة إلى الفريق الأول أي : حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضاً له من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها أبرز في معرض الغرض أي : كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية.
قال في "بحر العلوم" : ويجوز أن تكون اللام علة لعرضنا أي : عرضنا ليظهر نفاق المنافقين وإشراك المشركين فيعذبهما الله {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} الذين حفظوا الأمانة وراعوا حقها.
قال في "الإرشاد" : إشارة إلى الفريق الثاني أي : كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله على هؤلاء من أفراده أي : يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبليته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة والإظهار في موضع الإضمار ثانياً لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} مبالغاً في المغفرة والرحمة حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم.
وفي "التأويلات النجمية" : هذه اللام لام الصيرورة والعاقبة يشير إلى أن الحكمة في عرض الأمانة أن يكون الخليقة في أمرها على ثلاث طبقات :
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
طبقة منها : تكون الملائكة وغيرهم ممن لم يحملها فلا يكون لهم في ذلك ثواب ولا عقاب.
وطبقة منها : من يحملها ولم يؤد حقها وقد خان فيها وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات الذين حملوها بالظلومية على أنفسهم وضيعوها بجهولية قدرها فما رعوها حق رعايتها فحاصل أمرهم العذاب المؤبد.
وطبقة منها : من يحملها ويؤدي حقها ولم يخن فيها ولكن لثقل الحمل وضعف الإنسانية يتلعثم في بعض الأوقات فيرجع إلى الحضرة بالتضرع والابتهال معترفاً بالذنوب وهم المؤمنون والمؤمنات فيتوب الله عليهم لقوله : {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} والحكمة في ذلك ليكون كل طبقة من الطبقات الثلاث مرآة يظهر فيها جمال
256
صفة من صفاته.
فالطبقة الأولى : إذا لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها فهم مرآة جمال صفة عدله.
والطبقة الثانية : إذ حملوها طمعاً في نفعها ولم يؤدوا حقها وقد خانوا فيها بأن باعوها بعوض من الدنيا الفانية فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين فهم مرآة يظهر فيها جمال صفة قهره.
والطبقة الثالثة : إذ حملوها بالطوع والرغبة والشوق والمحبة وأدوا حقها بقدر وسعهم ولكن كما قيل لكل جواد كبوة وقع في بعض الأوقات قدم صدقهم عند ربهم في حجر بلاء وابتلاء بغير اختيارهم ثم اجتباهم ربهم فتاب عليهم وهداهم بجذبات العناية إلى الحضرة فهم مرآة يظهر فيها جمال فضله ولطفه وذلك قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} للمؤمنين بفضله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء انتهى.
قال بعض العارفين : الحكمة الإلهية اقتضت ظهور المخالفة من الإنسان ليظهر منه الرحمة والغفران ، قال الحافظ :
سهو وخطاى بنده كرش نيست اعتبار
معنى عفو ورحمت آمرزكار يست
(7/199)
وفي الحديث القدسي : "لو لم تذنبوا لذهبت بكم وخلقت خلقاً يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم" وفي الحديث النبوي : "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشد من الذنب ألا وهو العجب" ولهذه الحكمة خلق الله آدم بيديه أي : بصفاته الجلالية والجمالية فظهر من صفة الجلال قابيل والمخالفة ومن صفة الجمال هابيل والموافقة وهكذا يظهر إلى يوم قيام الساعة وليس الحديثان المذكوران واردين على سبيل الحث على الذنب فإن قضية البعثة إصلاح العالم وهو لا يوجد إلا بترك الكفر والشرك والمعاصي ولكن على سبيل الحث على التوبة والاستغفار.
إبراهيم أدهم قدس سره (كفت فرصت مى جستم تا كعبه را خالى يابم ازطواف وحاجتى خواهم هيج فرصتى نيافتم تا شبى باران عظيم بود كعبه خالى ماند طواف كردم ودست در حلقه زدم وعصمت خواستم ندا آمدكه يزى مى خواهى كه كسى را نداده ام اكر من عصمت دهم آنكاه درياى غفارى وغفورى ورحمانى ورحيمى من كجا شود س كفتم "اللهم اغفر لي ذنوبي" آوازى شنودم كه از همه جهان با ما سخن كوى واز خود مكوى كه سخن تو ديكران كويند ودر مناجات كفت يا رب العزة مرا ازذل معصيت باعز طاعت آور وديكر كفت الهى آه "من عرفك لم يعرفك فكيف حال من لم يعرفك" آه آنكه ترا مى داند ترا نمى داند س كونه باشد حال كسى كه ترانميداند ابراهيم كفت انزده سال مشقت كشيدم تانداى شنودم كه) كن عبداً فاسترح يعني : ليست الراحة إلا في العبودية للمولى والإعراض عن الهوى من الأدنى والأعلى فلا راحة لعبد الدنيا وما دون المولى لا في الأولى ولا في العقبى فإذا وقع تقصير أو سهو أو نسيان فالله تعالى يحكم اسميه الغفور الرحيم بمحوه ويعرض عنه ولا يثبته في صحيفة ولا يناقش عليه ولا يعذب به بل من العصاة من يبدل الله سيآتهم حسنات هذا.
قال أبيّ بن كعب رحمه الله : كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة أو أطول منها وكان فيها آية الرجم وهي : "إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله العزيز الحكيم" ثم رفع أكثرها من الصدور ونسخ وبقي ما بقي وفي الحديث : "من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطى الأمان من عذاب القبر"
257
اللهم اختم لنا بالخير واعصمنا من كل سوء وضير وآمنا من البلايا وفتنة القبر ومحاسبة الحشر تمت سورة الأحزاب بعون الله الوهاب يوم الأحد الثامن عشر من شهر الله المحرم سنة عشر ومائة وألف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131
طبقة منها : تكون الملائكة وغيرهم ممن لم يحملها فلا يكون لهم في ذلك ثواب ولا عقاب.
وطبقة منها : من يحملها ولم يؤد حقها وقد خان فيها وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات الذين حملوها بالظلومية على أنفسهم وضيعوها بجهولية قدرها فما رعوها حق رعايتها فحاصل أمرهم العذاب المؤبد.
وطبقة منها : من يحملها ويؤدي حقها ولم يخن فيها ولكن لثقل الحمل وضعف الإنسانية يتلعثم في بعض الأوقات فيرجع إلى الحضرة بالتضرع والابتهال معترفاً بالذنوب وهم المؤمنون والمؤمنات فيتوب الله عليهم لقوله : {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} والحكمة في ذلك ليكون كل طبقة من الطبقات الثلاث مرآة يظهر فيها جمال
256
صفة من صفاته.
فالطبقة الأولى : إذا لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها فهم مرآة جمال صفة عدله.
والطبقة الثانية : إذ حملوها طمعاً في نفعها ولم يؤدوا حقها وقد خانوا فيها بأن باعوها بعوض من الدنيا الفانية فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين فهم مرآة يظهر فيها جمال صفة قهره.
والطبقة الثالثة : إذ حملوها بالطوع والرغبة والشوق والمحبة وأدوا حقها بقدر وسعهم ولكن كما قيل لكل جواد كبوة وقع في بعض الأوقات قدم صدقهم عند ربهم في حجر بلاء وابتلاء بغير اختيارهم ثم اجتباهم ربهم فتاب عليهم وهداهم بجذبات العناية إلى الحضرة فهم مرآة يظهر فيها جمال فضله ولطفه وذلك قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} للمؤمنين بفضله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء انتهى.
قال بعض العارفين : الحكمة الإلهية اقتضت ظهور المخالفة من الإنسان ليظهر منه الرحمة والغفران ، قال الحافظ :
سهو وخطاى بنده كرش نيست اعتبار
معنى عفو ورحمت آمرزكار يست
وفي الحديث القدسي : "لو لم تذنبوا لذهبت بكم وخلقت خلقاً يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم" وفي الحديث النبوي : "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشد من الذنب ألا وهو العجب" ولهذه الحكمة خلق الله آدم بيديه أي : بصفاته الجلالية والجمالية فظهر من صفة الجلال قابيل والمخالفة ومن صفة الجمال هابيل والموافقة وهكذا يظهر إلى يوم قيام الساعة وليس الحديثان المذكوران واردين على سبيل الحث على الذنب فإن قضية البعثة إصلاح العالم وهو لا يوجد إلا بترك الكفر والشرك والمعاصي ولكن على سبيل الحث على التوبة والاستغفار.
إبراهيم أدهم قدس سره (كفت فرصت مى جستم تا كعبه را خالى يابم ازطواف وحاجتى خواهم هيج فرصتى نيافتم تا شبى باران عظيم بود كعبه خالى ماند طواف كردم ودست در حلقه زدم وعصمت خواستم ندا آمدكه يزى مى خواهى كه كسى را نداده ام اكر من عصمت دهم آنكاه درياى غفارى وغفورى ورحمانى ورحيمى من كجا شود س كفتم "اللهم اغفر لي ذنوبي" آوازى شنودم كه از همه جهان با ما سخن كوى واز خود مكوى كه سخن تو ديكران كويند ودر مناجات كفت يا رب العزة مرا ازذل معصيت باعز طاعت آور وديكر كفت الهى آه "من عرفك لم يعرفك فكيف حال من لم يعرفك" آه آنكه ترا مى داند ترا نمى داند س كونه باشد حال كسى كه ترانميداند ابراهيم كفت انزده سال مشقت كشيدم تانداى شنودم كه) كن عبداً فاسترح يعني : ليست الراحة إلا في العبودية للمولى والإعراض عن الهوى من الأدنى والأعلى فلا راحة لعبد الدنيا وما دون المولى لا في الأولى ولا في العقبى فإذا وقع تقصير أو سهو أو نسيان فالله تعالى يحكم اسميه الغفور الرحيم بمحوه ويعرض عنه ولا يثبته في صحيفة ولا يناقش عليه ولا يعذب به بل من العصاة من يبدل الله سيآتهم حسنات هذا.
قال أبيّ بن كعب رحمه الله : كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة أو أطول منها وكان فيها آية الرجم وهي : "إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله العزيز الحكيم" ثم رفع أكثرها من الصدور ونسخ وبقي ما بقي وفي الحديث : "من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطى الأمان من عذاب القبر"
257
اللهم اختم لنا بالخير واعصمنا من كل سوء وضير وآمنا من البلايا وفتنة القبر ومحاسبة الحشر تمت سورة الأحزاب بعون الله الوهاب يوم الأحد الثامن عشر من شهر الله المحرم سنة عشر ومائة وألف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 131(7/200)
سورة سبأ
أربع وخمسون آية مكية
جزء : 7 رقم الصفحة : 257
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{الْحَمْدُ} الألف واللام لاستغراق الجنس واللام للتمليك والاختصاص إلى جميع أفراد المدح والثناء والشكر من كل حامد ملكتعالى ومخصوص به لا شركة لأحد فيه لأنه الخالق والمالك كما قال : {الَّذِى لَهُ} خاصة خلقاً وملكاً وتصرفاً بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماته {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي : جميع الموجودات فإليه يرجع الحمد لا إلى غيره وكل مخلوق أجرى عليه اسم المالك فهو مملوك له تعالى في الحقيقة وإن الزنجي لا يتغير عن لونه لأن سمي كافوراً والمراد على نعمه الدنيوية فإن السموات والأرض وما فيها خلقت لانتفاعنا فكلها نعمة لنا ديناً ودنيا فاكتفى بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضاً فيها وقد صرح في موضع آخر كما قال : {لَهُ الْحَمْدُ فِى الاولَى وَالاخِرَةِ} (القصص : 70) وهذا القول أي : الحمدالخ وإن كان حمداً لذاته بذاته لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه {وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاخِرَةِ} بيان لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى أثر بيان اختصاص الدنيوي به على أن الجار متعلق إما بنفس الحمد أو بما تعلق به الخبر من الاستقرار وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليعم النعم الأخروية كما في قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} (الزمر : 74) وقوله : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} (فاطر : 35) الآية وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاانَا لِهَاذَا} (الأعراف : 43) أي : لما جزاؤه هذا من الإيمان والعمل الصالح.
يقال يحمده أهل الجنة في ستة مواضع :
أحدها : حين نودي {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) فإذا يميز المؤمنون من الكافرين يقولون : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّاانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون : 28) كما قال نوح عليه السلام حين أنجاه الله من قومه.
والثاني : حين جاوزوا الصراط قالوا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (فاطر : 34).
جزء : 7 رقم الصفحة : 258(7/201)
والثالث : لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحياة ونظروا إلى الجنة قالوا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاـانَا لِهَـاذَا} (الأعراف : 43).
والرابع : لما دخلوا الجنة واستقبلتهم الملائكة بالتحية قالوا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} (فاطر : 35).
والخامس : حين استقروا في منازلهم قالوا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ} (الزمر : 74).
والسادس : كلما فرغوا من الطعام قالوا : {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الفاتحة : 1).
والفرق بين الحمدين مع كون نعمتي الدنيا والآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ كما يتلذذ العطشان بالماء البارد لا على وجه الفرض والوجوب وقد ورد في الخبر "إنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النَفَس" (وكفته اند مجموع اهل آخرت مرورا حمد كويند دوستان اورا بفضل ستايند ودشنمان بعدل).
يقول الفقير : فيه نظر لأن الآخرة المطلقة كالعاقبة الجنة مع أن المقام يقتضي أن يكون ذلك من ألسنة أهل الفضل إذ لا اعتبار بحال أهل
258
العدل كما لا يخفى {وَهُوَ الْحَكِيمُ} الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبرها حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة {الْخَبِيرُ} بليغ الخبرة والعلم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ثم بين كونه خبيراً فقال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرْضِ} الولوج الدخول في مضيق أي : يعلم ما يدخل فيها من البزور والغيث ينفذ في موضع وينبع من آخر والكنوز والدفائن والأموات والحشرات والهوام ونحوها وأيضاً يعلم ما يدخل في أرض البشرية بواسطة الحواس الخمس والأغذية الصالحة والفاسدة من الحلال والحرام.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كالحيوان من جُحره والزرع والنبات وماء العيون والمعادن والأموات عند الحشر ونحوها وأيضاً ما يخرج من أرض البشرية من الصفات المتولدة منها والأعمال الحسنة والقبيحة.
{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والبركات والأمطار والثلوج والبرد والأنداء والشهب والصواعق ونحوها وأيضاً ما ينزل من سماء القلب من الفيوض الروحانية والإلهامات الربانية.
{وَمَا يَعْرُجُ} يصعد {فِيهَآ} كالملائكة والأرواح الطاهرة والأبخرة والأدخنة والدعوات وأعمال العباد.
ولم يقل "إليها" لأن قوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر : 10) يشير إلى أن الله تعالى هو المنتهى لا السماء ففي ذكر "في" إعلام بنفوذ الأعمال فيها وصعودها منها.
وأيضاً وما يعرج في سماء القلب من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى.
وقال بعضهم : (آنه بالاميرود ناله تائبانست وآه مفلسان كه ون سحركاه ازخلو تخانه ايشان روى بدركاه رحمت ناه آرد في الحال رقم قبول بروى افتدكه "أنين المذنبين احب إليّ من زجل المسبحين" غلغل تسبيح شيخ ارند مقبولست ليك آه درد آلود رندانرا قبول ديكرست بداود عليه السلام وحى آمدكه اى داود آن ذلت كه ازتو صادر شد برتو مبارك بود داود كفت بارخدا ذلت كونه مبارك باشد كفت اى داود يش ازان ذلت هرباركه بدركاه ما آمدى ملك وار مى آمدى باكر شمه وناز طاعت واكنون مى آيى بنده وار مى آيى باسوز ونياز مفلسى) {وَهُوَ الرَّحِيمُ} للحامدين ولمن تولاه {الْغَفُورُ} للمقصرين ولذنوب أهل ولايته فإذا كان الله متصفاً بالخلق والملك والتصرف والحكمة والعلم والرحمة والمغفرة ونحوها من الصفات الجليلة فله الحمد المطلق والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من جهة التعظيم من نعمة وغيرها كالعلم والكرم وأما قولهم الحمدعلى دين الإسلام فمعناه على تعليم الدين وتوفيقه والحمد القولي هو حمد اللسان وثناؤه على الحق بما أثنى به بنفسه على لسان أنبيائه والحمد الفعلي هو الإتيان بالأعمال البدنية ابتغاءً لوجه الله والحمد الحالي هو الاتصاف بالمعارف والأخلاق الإلهية والحمد عند المحنة الرضى عن الله فيما حكم به وعند النعم الشكر فيقال في الضراء الحمدعلى كل حال نظراً إلى النعمة الباطنة دون الشكرخوفاً من زيادة المحنة لأن الله تعالى قال : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم : 7) والحمد على النعمة كالروح للجسد فلا بد من إحيائها وأبلغ الكلمات في تعظيم صنع الله وقضاء شكر نعمته الحمدولذا جعلت زينة لكل خطبة وابتداء لكل مدحة وفاتحة
259
لكل ثناء وفضيلة لكل سورة ابتدئت بها على غيرها.
وفي الحديث "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمدفهو أجذم" أي : أقطع فله الحمد قبل كل كلام بصفات الجلال والإكرام :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
حمد أو تاج تارك سخنست
صدر هرنامه نوو كهنست
قال في "فتوح الحرمين" :
احسن ما اهتم به ذو الهمم
ذكر جميل لولي النعم
ون نعم اوست برون ازخيال
(7/202)
كيف يؤديه لسان المقال
نعمت او بيشتر از شكر ماست
شكرهم ازنعمتهاى خداست
وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما رفع رأسه صلى الله عليه وسلّم من الركوع قال : "سمع الله لمن حمده" فقال رجل وراءه : ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه فلما انصرف قال : "من تكلم آنفاً" قال الرجل : أنا قال : "لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً" وإنما ابتدرها هذا العدد لأن ذلك عدد حروف هذه الكلمات فلكل حرف روح هو المثبت له والمبقي لصورة ما وقع النطق به فبالأرواح تبقى الصور وبنيات العمال وتوجهات نفوسهم ترتفع حيث منتهى همة العامل وللملائكة مراتب منها مخلوقة من الأنوار القدسية والأرواح الكلية ومنها من اَلأعمال الصالحة والأذكار الخالصة بعضها على عدد بعض كلمات الأذكار وبعضها على عدد حروف الأذكار وبعضها على عدد الحروف المكررة وبعضها على عدد أركان الأعمال على قدر استعداد الذاكرين وقوتهم الروحية وهمتهم العلية.
وفي الحديث المذكور دليل على أن من الأعمال ما يكتبه غير الحفظة مع الحفظة ويختصم الملأ الأعلى في الأعمال الصالحة ويستبقون إلى كتابة أعمال بني آدم على قدر مراتبهم وتفصيل سر الحديث في "شرح الأربعين" لحضرة الشيخ الأجل صدر الدين القنوي قدس سره :
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} (نمى آيد بما قيامت) وعبر عن القيامة بالساعة تشبيهاً لها بالساعة التي هي جزء من أجزاء الزمان لسرعة حسابها.
قال في "الإرشاد" : أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصرهم فقط كما أرادوا بنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحققها في نفس الأمر وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها ولأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا تكون إلا بالإتيان والحضور.
وفي "كشف الأسرار" (منكران بعث دو كروه اند كروهى كفتند {إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية : 32) يعني : ما در كمانيم بر ستاخيز يقين نميدانيم كه خواهد بود ورب العالمين ميكويد ايمان بنده وقتى درست شود كه برستاخيز وآخرت بيكمان باشد ، وذلك قوله : {وَبِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة : 4) كروهى ديكر كفتند {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} رستاخيز بما نيايد ونخواهدبود) {قُلْ بَلَى} رد لكلامهم وإثبات لما نفوه من إتيان الساعة على معنى ليس الأمر إلا إتيانها (درلباب كفته كه ابو سفيان بلات وعزى سوكند خوردكه بعث ونشور نيست حق تعالى فرمودكه اى حبيب من تو هم سوكند خوركه) {وَرَبِّى} الواو للقسم يعني : (بحق آفريدكار من بزودى) {لَتَأْتِيَنَّكُمْ}
260
الساعة البتة يعني : (بيايد بشما قيامت) وهو تأكيد لما قبله {عَـالِمُ الْغَيْبِ} نعت لربي أو بدل منه وهو تشديد للتأكيد يريد أن الساعة من الغيوب والله عالم بكلها والغيب ما غاب عن الخلق على ما قال بعضهم العلقة غيب في النطفة والمضغة غيب في العلقة والإنسان غيب في هذا كله والماء غيب في الهواء والنبات غيب في الماء والحيوان غيب في النبات والإنسان غيب في هذا كله والله تعالى قد أظهره من هذه الغيوب وسيظهره بعدما كان غيباً في التراب وفائدة الأمر باليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر أصلاً لما أنهم كانوا يعرفون أمانته ونزاهته عن وصمة الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه مكابرة وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس الكاذبة المكذبة فمن وكله الله بالخذلان إلى طبيعة نفسه لا يصدر منه إلا الإنكار ومن نظره الله إلى قلبه بنظر العناية فلا يظهر منه عند سماع قوله :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/203)
{قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـالِمِ الْغَيْبِ} إلا الإقرار والنطق بالحق {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} (العزوب : درشدن) والعازب المتباعد في طلب الكلأ وعن أهله أي : لا يبعد عن علمه ولا يغيب {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} المثقال ما يوزن به وهو من الثقل وذلك اسم لكل صنج كما في "المفردات".
والذرة النملة الصغيرة الحميراء وما يرى في شعاع الشمس من ذرات الهواء أي : وزن أصغر نملة أو مقدار الهباء {فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الأرْضِ} أي : كائنة فيهما.
وفيه إشارة إلى علمه بالأرواح والأجسام {وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ} المثقال {وَلا أَكْبَرَ} منه ورفعهما على الابتداء فلا وقف عند أكبر والخبر قوله تعالى : {إِلا} مسطور ومثبت {فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ المظهر لكل شيء وإنما كتب جرياً على عادة المخاطبين لا مخافة نسيان وليعلم أنه لم يقع خلل وإن أتى عليه الدهر والجملة مؤكدة لنفي العزوب.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ * لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى ءَايَـاتِنَا مُعَـاجِزِينَ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} .
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ} علة لقوله : {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وبيان لما يقتضي إتيانها فاللام للعلة عقلاً وللمصلحة والحكمة شرعاً.
{أولئك} الموصوفون بالإيمان والعمل.
{لَهُمْ} بسبب ذلك {مَغْفِرَةٍ} ستر ومحو لما صدر عنهم مما لا يخلو عنه البشر {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تعب فيه ولا منّ عليه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَالَّذِينَ سَعَوْ} (بشتافتند) {وَإِذَا رَأَيْتَ} القرآنية بالرد والطعن فيها ومنع الناس عن التصديق بها {مُعَـاجِزِينَ} أي : مسابقين كي يفوتونا.
قال في "البحر" : ظانين في زعمهم وتقديرهم أنهم يفوتوننا وإن كيدهم للإسلام يتم لهم.
وفي "المفردات" السعي المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً وأعجزت فلاناً وعاجزته جعلته عاجزاً أي : ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا لأنهم حسبوا أن لا بعث ولا نشور فيكون لهم ثواب وعقاب وهذا في المعنى كقوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا} وقال في موضع آخر أي : اجتهدوا في أن يظهروا لنا عجزاً فيما أنزلناه من الآيات وبالفارسية : (وميكوشند درانكه مارا عاجز آرند ويش شوند) {أولئك} الساعون {لَهُمْ} بسبب ذلك {عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ} من للبيان والرجز سوء العذاب أي : من جنس سوء العذاب {أَلِيمٌ} بالرفع صفة عذاب أي : شديد الإيلام ويجيىء الرجز بمعنى القذر والشرك والأوثان كما في قوله : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر : 5) سماها رجزاً لأنها تؤدي إلى العذاب وكذا سمي كيد الشيطان رجزاً في قوله تعالى : {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ} (الأنفال : 11)
261
لأنه سبب العذاب.
وفي "المفردات" أصل الرجز الاضطراب وهو في الآية كالزلزلة.
{وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى ءَايَـاتِنَا مُعَـاجِزِينَ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/204)
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مستأنف مسوق للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات أي : يعلم أولوا العلم من أصحاب رسول الله ومن شايعهم من علماء الأمة أو من آمن من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونحوهما والأول أظهر لأن السورة مكية كما في "التكملة" : {الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي : النبوة والقرآن والحكمة والجملة مفعول أول لقوله : {يَرَى} .
{هُوَ} ضمير فصل يفيد التوكيد كقوله تعالى : {هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} (آل عمران : 180) {الْحَقِّ} بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى {وَيَهْدِى} عطف على الحق عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله كما في قوله تعالى : {صَـافَّـاتٍ} أي : وقابضات كأنه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك الحق وهادياً {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الذي هو التوحيد والتوشح بلباس التقوى وهذا يفيد رهبة لأن العزيز يكون ذا انتقام من المكذب ورغبة لأن الحميد يشكر على المصدق.
وفيه أن دين الإسلام وتوحيد الملك العلام هو الذي يتوصل به إلى عزة الدارين وإلى القربة والوصلة والرؤية في مقام العين كما أن الكفر والتكذيب يتوصل به إلى المذمة والمذلة في الدنيا والآخرة وإلى البعد والطرد والحجاب عما تعاينه القلوب الحاضرة والوجوه الناظرة.
قال بعض الكبار : يشير بالآية إلى الفلاسفة الذين يقولون : إن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان حكيماً من حكماء العرب وبالحكمة أخرج هذا الناموس الأكبر يعنون النبوة والشريعة ويزعمون أن القرآن كلامه أنشأه من تلقاء نفسه يسعون في هذا المعنى مجاهدين جهداً تاماً في إبطال الحق وإثبات الباطل فلهم أسوأ الطرد والإبعاد لأن القدح في النبوة ليس كالقدح في سائر الأمور.
وأما الذين أوتوا العلم من عند الله موهبة منه لا من عند الناس بالتكرار والبحث فيعلمون أن النبوة والقرآن والحكمة هو الحق من ربهم وإنما يرون هذه الحقيقة لأنهم ينظرون بنور العلم الذي أوتوه من الحق تعالى فإن الحق لا يرى إلا بالحق كما أن النور لا يرى إلا بالنور ولما كان يرى الحق بالحق كان الحق هادياً لأهل الحق وطالبيه إلى طريق الحق وذلك قوله : {وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} فهو العزيز لأنه لا يوجد إلا به وبهدايته والحميد لأنه لا يرد الطالب بغير وجدان كما قال : "ألا من طلبني وجدني".
قال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب؟ قال : يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ ، قال المولى الجامي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
هره جز حق ز لوح دل بتراش
بكذر از خلق جمله حق را باش
رخت همت بخطه جان كش
بر رخ غير خط نيسان كش
بكسلى خويش از هوا وهوس
روى دل درخداى دارى س
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منكري البعث وهم كفار قريش قالوا بطريق الاستهزاء مخاطباً بعضهم لبعض {هَلْ نَدُلُّكُمْ} (يا دلالت كنيم ونشان دهيم شمارا) {عَلَى رَجُلٍ} يعنون به النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما قصدوا بالتنكير الهزؤ والسخرية {يُنَبِّئُكُمْ} أي : يحدثكم ويخبركم بأعجب الأعاجيب ويقول لكم : {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} الممزق مصدر بمعنى التمزيق وهو بالفارسية (را كنده كردن) وأصل التمزيق التفريق يقال مزق ثيابه
262
اي : فرقها والمعنى إذا متم وفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث صرتم رفاتاً وتراباً {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي : مستقرون فيه وبالفارسية : (درآفرينش تو خواهيد بود يعني زنده خواهيد كشت) وجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين من جدّ فهو جديد كقل فهو قليل وبمعنى المفعول عند الكوفيين من جدّ النساج الثوب إذا قطعه.
قال في "المفردات" يقال جددت الثوب إذا قطعته على وجه الإصلاح وثوب جديد أصله المقطوع ثم جعل لكل ما أحدث إنشاؤه والخلق الجديد إشارة إلى النشأة الثانية والجديدان الليل والنهار والعامل في إذا محذوف دل عليه ما بعده أي : تنشأون خلقاً جديداً ولا يعمل فيها مزقتم لإضافتها إليه ولا ينبئكم لأن التنبئة لم تقع وقت التمزيق بل تقدمت ولا جديد لأن ما بعد أنّ لا يعمل فيما قبلها.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِه جِنَّةُا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَـالِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِا إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ} .
{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فيما قاله وهذا أيضاً من كلام الكفار وأصل افترى أإفترى بهمزة الاستفهام المفتوحة الداخلة على همزة الوصل المكسورة للإنكار والتعجب فحذفت همزة الوصل تخفيفاً مع عدم اللبس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/205)
والفرق بين الافتراء والكذب أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه ومعنى الافتراء بالفارسية (دروغ بافتن) أي : اختلق محمد على الله كذباً {أَم بِه جِنَّةُ} (يا بدو جنوني هست) أي : جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه من غير قصد والجنون حائل بين النفس والعقل وهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه وهما الكذب على عمد وهوالمعنيّ بالافتراء والكذب لا عن عمد وهو المعنيّ بالجنون فيكون معنى أم به جنة أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون لا افتراء له لأن الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالإخبار حال الجنة قسيم للافتراء الأخص لا الكذب الأعم ثم أجاب الله عن ترديدهم فقال : {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} أي : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء كما زعموا وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالحشر والنشر واقعون {فِى الْعَذَابِ} في الآخرة {وَالضَّلَـالِ الْبَعِيدِ} في الدنيا أي : البعيد عن الصواب والهدي بحيث لا يرجى الخلاص منه ووصف الضلال بالبعد على الإسناد المجازي للمبالغة إذ هو في الأصل وصف الضال لأنه الذي يتباعد عن المنهاج المستقيم وكلما ازداد بعداً عنه كان أضل وتقديم العذاب على ما يوجبه ويؤدي إليه وهو الضلال للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم وجعل العذاب والضلال محيطين بهم إحاطة الظرف بالمظروف لأن أسباب العذاب معهم فكأنهم في وسطه ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على أن علة ما اجترأوا عليه كفرهم بالآخرة وما فيها فنون العقاب ولولاه لما فعلوا ذلك خوفاً من غائلته.
وحاصل الآية إثبات الجنون الحقيقي لهم فإن الغفلة عن الوقوع في العذاب وعن الضلال الموجب لذلك جنون أي : جنون واختلال عقل أي : اختلال إذ لو كان فهمهم وإدراكهم تاماً وكاملاً لفهموا حقيقة الحال ولما اجترأوا على سوء المقال.
قال بعض الكبار كما أن الطفل الصغير يسبى إلى بعض البلاد فينسى وطنه الأصلي بحيث لو ذكر به لم يتذكر كذلك نفس الإنسان القاسي قلبه إن ذكر بالآخرة وهو وطنه الأصلي لم يتذكر ويكفر به ويقول مستهزئاً ما يقول ولا يتفكر أن أجزاءه كانت متفرقة حين كان هو ذرة أخرجت من صلب آدم كيف جمع الله
263
ذرات شخصه المتفرقة وجعلها خلقاً جديداً كذلك يجمع الله أجزاءه المتفرقة للبعث.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
بامرش وجود از عدم نقش بست
كه داند جزاو كردن ازنيست هست
دكر ره بكتم عدم در برد
وزانجا بصحراى محشر برد
دهد روح كر تربت آدمى
شود تربت آدم دران يكدمى
كسى كو بخواهد نظير نشور
بكو در نكر سبزه را در ظهور
كه بعد خزان بشكفد ند كل
بجوشد زمين در بهاران و مل
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} الفاء للعطف على مقدر أي : افعلوا ما فعلوا من المنكر المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفرّ لهم وهو السماء والأرض فإنهما أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم حيثما كانوا وساروا وبالفارسية : (آيا نمى نكرند كافران بسوى آنه در يش ايشانست از آسمان وزمين).
ثم بين المحذور المتوقع من جهتهما فقال : {إِن نَّشَأْ} جرياً على موجب جناياتهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ} كما خسفناها بقارون وخسف به الأرض غاب به فيها فالباء للتعدية وبالفارسية : (فرو بريم ايشانرا بزمين) {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ} كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستيجابهم ذلك بما ارتكبوه من الجرائم والكسف كقطع لفظاً ومعنى جمع كسفة.
قال في "المفردات" ومعنى الكسفة قطعة من السحاب والقطن ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة ومعنى إسقاط الكسف من السماء إسقاط قطع من النار كما وقع لأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وأشجار ملتفة حيث أرسل الله عليهم حراً شديداً فرأوا سحابة فجاءوا ليستظلوا تحتها فأمطرت عليهم النار فاحترقوا {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : فيما ذكر من السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظر من جميع الجوانب أو فيما تلى من الوحي الناطق بما ذكر {لايَةً} لدلالة واضحة {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} شأنه الإنابة والرجوع إلى ربه فإنه إذا تأمل فيهما أو في الوحي المذكور ينزجر عن تعاطي القبيح وينيب إليه تعالى.
قال في "المفردات" النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى والإنابة إلى الله الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل.
وفي الآية حث بليغ على التوبة والإنابة وزجر عن الجرم والجناية وأن العبد الخائف لا يأمن من قهر الله طرفة عين فإن الله قادر على كل شيء يوصل اللطف والقهر من كل ذرة من ذرات العالم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/206)
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره : إذا صدق العبد في توبته صار منيباً لأن الإنابة ثاني درجة التوبة.
قال أبو سعيد القرشي المنيب الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله.
وقال بعضهم : الإنابة الرجوع منه إليه لا من شيء غيره فمن رجع من غيره إليه ضيع أحد طرفي الإنابة والمنيب على الحقيقة من لم يكن له مرجع سواه ويرجع إليه من رجوعه ثم يرجع من رجوع رجوعه فيبقى شبحاً لا وصف له قائماً بين يدي الحق مستغرقاً في عين الجمع.
سرى سقطي قدس سره (كويد معروف كرخى را روح الله روحه بخواب ديدم در زير عرض خداى واله ومدهوش وازحق ندايى رسيد بملائكة اين مرد كيست كفتند خداوندا تودانا ترى كفت معروف ازدوشتى ما واله كشته است جز بديدار
264
ما بهوش نيايد وجز بلقاى ما ازخود خبر نيابد) فهذه هي حقيقة الرجوع.
ومن هذا القبيل ما حكي عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنه حج إلى بيت الله الحرام فبينما هو في الطواف إذ بشاب حسن الوجه قد أعجب الناس حسنه وجماله فصار إبراهيم ينظر إليه ويبكي فقال بعض أصحابه : إناوإنا إليه راجعون غفلة دخلت على الشيخ بلا شك ثم قال : يا سيدي ما هذا النظر الذي يخالطه البكاء؟ فقال إبراهيم : يا أخي عقدت مع الله عقداً لا أقدر على فسخه وإلا كنت أدني هذا الفتى مني وأسلم عليه لأنه ولدي وقرة عيني تركته صغيراً وخرجت فارّاً إلى الله تعالى وها هو قد كبر كما ترى وأني لأستحيي من الله أن أعود إلى شيء خرجت منه.
هجرت الخلق كلا في هواكا
وايتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب ارباً
لما سكن الفؤاد إلى سواكا
قال بعضهم : هجر النفس مواصلة الحق ومواصلة النفس هجر الحق ومن الله الإيصال إلى مقام الوصال.
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِا إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ مِنَّا فَضْلا يا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَه وَالطَّيْرَا وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَـابِغَـاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِا وَاعْمَلُوا صَـالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ مِنَّا فَضْلا} أعطى الله تعالى داود اسماً ليس فيه حروف الاتصال فدل على أنه قطعه عن العالم بالكلية وشرفه بالطافه الخفية والجلية فإن بين الاسم والمسمى مناسبة لا يفهما إلا أهل الحقيقة وقد صح أن الألقاب والأسماء تنزل من صوب السماء والفضل الزيادة والتنوين للنوع أي : نوعاً من الفضل على سائر الأنبياء مطلقاً سواء كانوا أنبياء بني إسرائيل أو غيرهم كما دل عليه قوله تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة : 253) والفاضل من وجه لا ينافي كونه مفضولاً من وجه آخر وهذا الفضل هو ما ذكر بعد من تأويب الجبال وتسخير الطير وإلانة الحديد فإنه معجزة خاصة به وهذا لا يقتضي انحصار فضله فيها فإنه تعالى أعطاه الزبور كما قال في مقام الامتنان والتفضل.
{وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} (النساء : 163).
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
قال في "التأويلات النجمية" : والفرق بين داود وبين نبينا صلى الله عليه وسلّم أنه ذكر فضله في حق داود على صفة النكرة وهي تدل على نوع من الفضل وشيء منه وهو الفيض الإلهي بلا واسطة كما دل عليه كلمة منا وقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلّم {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) والفضل الموصوف بالعظمة يدل على كمال الفضل وكذا قوله فضل الله لما أضاف الفضل إلى الله اشتمل على جميع الفضل كما لو قال أحد دار فلان اشتملت على جميع الدور انتهى بنوع من التغيير.
ويجوز أن يكون التنكير للتفخيم ومن التأكيد فخامته الذاتية لفخامته الإضافية على أن يكون المفضل عليه غير الأنبياء فالمعنى إذا ولقد آتينا داود بلا واسطة فضلاً عظيماً على سائر الناس كالنبوبة والعلم والقوة والملك والصوت الحسن وغير ذلك يا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ} بدل من آتينا بإضمار قلنا أومن فضلا باضمار قولنا.
والتأويب على معنيين :
أحدهما : الترجيع وهو بالفارسية (نغمه كردانيدن) لأنه من الأوب وهو الرجوع.
والثاني : السير بالنهار كله فالمعنى على الأول رجعي معه التسبيح وسبحي مرة بعد مرة.
قال في "كشف الأسرار" : أوّبي سبحي معه إذا سبح وهو بلسان الحبشة انتهى ، وبالفارسية : (باز كردانيدن آوازخودرا باداود دروقت تسبيح أو يعني موافقت كنيد باوى) وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها صوتاً مثل صوته كما خلق الكلام في شجرة موسى عليه السلام فكان كلما سبح سمع من الجبال ما يسمع من المسبح ويعقل معنى
265
(7/207)
معجزة له قالوا : فمن ذلك الوقت يسمع الصدى من الجبال وهو ما يرده الجبل على المصوت فيه.
فإن قلت : قد صح عند أهل الحقيقة أن للأشياء جميعاً تسبيحاً بلسان فصيح ولفظ صريح يسمعه الكمل من أهل الشهود فما معنى الفضل فيه لداود؟ قلت : الفضل موافقة الجبال له بطريق خرق العادة كما دل عليه كلمة مع.
فإن قلت : قد ثبت أيضاً عندهم أن أذكار العوالم متنوعة فمتى سمع السالك من الأشياء الذكر الذي هو مشغول به فكشفه خيالي غير صحيح يعني أنه خيال أقيم له في الموجودات وليس له حقيقة وإنما الكشف الصحيح الحقيقي هو أن يسمع من كل شيء ذكراً غير ذكر الآخر.
قلت : لا يلزم من موافقة الجبال لداود أن لا يكون لها تسبيح آخر في نفسها مسموع لداود كما هي فيه والمعنى على الثاني سيرى معه حيث سار ، يعني : (سير كنيد با او هرجاكه رود وهركاه كه خواهد واين معجزه داود بودكه با او روان شدى) ولعل تخصيص الجبال بالتسبيح أو السير لأنها على صور الرجال كما دل عليه ثباتها {وَالطَّيْرُ} بالنصب عطفاً على فضلاً يعني وسخرنا له الطير لأن إيتاءها إياه عليه السلام لتسخيرها له فلا حاجة إلى إضماره ولا إلى تقدير المضاف أي : تسبيح الطير كما في "الإرشاد" : وبالفارسية : (ومسخر كرديم ويرا مرغان تادروقت ذكر با او موافق بودندى) نزل الجبال والطير منزلة العقلاء حيث نوديت نداءهم إذ ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته ومطيع لأمره فانظر إذ من طبع الصخور الجمود ومن طبع الطيور النفور ومع هذا قد وافقته عليه السلام فأشد منها القاسية قلوبهم لا يوافقون ذكراً ولا يطاوعون تسبيحاً وينفرون من مجالس أهل الحق نفور الوحوش بل يهجمون عليها بأقدام الإنكار كأنهم الأعداء من الجيوش.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
قال المولى الجامي في "شرح الفصوص" : وإنما كان تسبيح الجبال والطير لتسبيحه لأنه لما قوي توجهه عليه السلام بروحه إلى معنى التسبيح والتحميد سري ذلك إلى أعضائه وقواه فإنها مظاهر روحه ومنها إلى الجبال والطير فإنها صور أعضائه وقواه في الخارج فلا جرم يسبحن لتسبيحه وتعود فائدة تسبيحها إليه يعني لما كان تسبيحها ينشأ من تسبيحه لا جرم يكون ثوابه عائداً إليه لا إليها لعدم استحقاقها لذلك انتهى.
والحاصل : أن الذكر من اللسان يعبر إلى أن يصل إلى الروح ثم ينعكس النور من الروح إلى جبال النفس وطير القلب ثم بالمداومة ينعكس من النفس إلى البدن فيستوعب جميع أجزاء البدن ظاهرها وباطنها ثم ينعكس من أجزائه العنصرية إلى العناصر الأربعة مفردها ومركبها وينعكس من النفس إلى النفوس أعني النفس النامية والنفس الحيوانية والنفس السماوية والنفس النجومية وينعكس من الروح الإنساني إلى عالم الأرواح إلى أن يستوعب جميع العالم ملكه وملكوته وإليهما الإشارة بالجبال والطير فيذكر العالم بما فيه موافقة للذاكر ثم يعبر الذكر عن المخلوقات ويصعد إلى رب العالمين كما قال : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) فيذكره الله تعالى فيكون ذاكراً ومذكوراً متصفاً بصفة الرب وبخلقه ويكون الفضل في حقه كونه مذكوراً للحق.
ثم إن الله تعالى ما بعث نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان لداود عليه السلام حسن صوت جداً زائد على غيره كما أنه كان ليوسف عليه السلام حسن زائد على حسن غيره (هركاه كه
266
داود بزبور خواند مشغول شدى سباع ووحوش ازمنازل خود بيرون آمده استماع آواز دلنوازش كردندى وطيور ازنغمات جانفزايش مضطرب كشته خود ازمنزل برزمين افكندندى :
زصوت دلكشش جان تازه كشتى
روانرا ذوق بى انداره كشتى
سهر نك شت ارغنون ساز
ازان ر حالت نشنوده آواز
وكفتند ون داود تسبيح كفتى كوهها بصدا ويرا مدد دادندى ومرغان برز بر سروى كشيده بالحان دلاويز امداد نمودندى وهركس كه آواز وى شنيدى ازلذت آن نغمه بيخود كشتى وازان وجد وسماع بودى كه دريك مجلس هار صد جنازه بركرفتندى) :
و كردد مطرب من نغمه رداز
زشوقش مرغ روح آيد برواز
(7/208)
قال القرطبي : حُسْنُ الصوت هبة الله تعالى وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بتزيين الصوت وبالترجيع ما لم يكن لحناً مفسداً مغيراً للمبنى مخرجاً للنظم عن صحة المعنى لأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية كما في "فتح القريب" (شبى داود عليه السلام باخود كفت "لا عبدنّ الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها" اين بكفت وبركوه شد تا عبادت كند وتسبيح كويد درميانه شب وحشتى بوى در آمد ورب العالمين آن ساعت كوه را فرمود تا انس دل داودرا باوى تسبيح وتهليل مساعدت كند ندان آواز تسبيح وتهليل ازكوه بديد آمد كه آواز داود در جنب آن نايز كشت باخود كفت) كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات فنزل ملك وأخذ بعضد داود وأوصله إلى البحر فوضع قدمه عليه فانفلق حتى وصل إلى الأرض تحته فوضع قدمه عليها حتى انشقت فوصل إلى الحوت تحت الأرض ثم إلى الصخرة تحت الحوت فوضع قدمه على الصخرة فظهرت دودة وكانت تنشر فقال له الملك : يا داود إن ربك يسمع نشير هذه الدودة في هذا الموضع من وراء السبع الطباق فكيف لا يسمع صوتك من بين أصوات الصخور والجبال فتنبه داود لذلك ورجع إلى مقامه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
همه آوازها در يش حق باز
اكر يدا اكر وشيده آواز
كسى كو بشنود آواز ازحق
شود در نفس خود خاموش مطلق
اللهم أسمعنا كلامك {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} اللين ضد الخشونة يستعمل في الأجسام ثم يستعار للمعاني وإلانة الحديد بالفارسية : (نرم كردانيدن آهن) أي : جعلناه لينا في نفسه كالشمع والعجين والمبلول يصرفه في يده كيف يشاء من غير إحماء بنار ولا ضرب بمطرقة أو جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه ليناً كالشمع بالنسبة إلى سائر قوى البشرية وكان داود أوتي شدة قوة في الجسد وإن لم يكن جسيماً وهو أحد الوجهين لقوله : ذا الأيد في سورة ص.
{أَنِ اعْمَلْ} أي : أمرناه بأن عمل على أن أن مصدرية حذف منها الباء.
{سَـابِغَـاتٍ} أي : دروعاً واسعة تامة طويلة.
قال في "القاموس" سبغ الشيء سبوغاً طال إلى الأرض والنعمة انسبغت ودرع سابغة تامة طويلة انتهى ومنه استعير إسباغ الوضوء أو إسباغ النعمة كما في "المفردات" وهو عليه السلام أول من اتخذها وكانت قبل ذلك صفائح حديد مضروبة قالوا :
267
كان عليه السلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكراً فيسأل الناس ما تقولون في داود فيثنون عليه فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه فسأله عنها فقال : لولا أنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله فعند ذلك سأل ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال فعلمه تعالى صنعة الدروع فكان يعمل كل يوم درعاً ويبيعها بأربعة آلاف درهم أو بستة آلاف ينفق عليه وعلى عياله ألفين ويتصدق بالباقي على فقراء بني إسرائيل (درلباب كويد ون وفات فرمود هزار ذره در خزانه او بود) وفي الحديث : "كان داود لا يأكل إلا من كسب يده".
وفي الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع فإن العمل بها لا ينقص بمرتبتهم بل ذلك زيادة في فضلهم إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم وفي الحديث : "إن خير ما أكل المرء من عمل يده" قال الشيخ سعدي قدس سره :
بياموز رورده را دست رنج
وكردست دارى و قارون كنج
بايان رسد كيسه سيم وزر
نكردد تهى كيسه يشه ور
{وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ} التقدير بالفارسية (اندازه كردن) والسرد في الأصل خرز ما يخشن ويغلظ كخرز الجلد ثم استعير لنظم الحديد ونسج الدروع كما في "المفردات" وقيل لصانع الدروع سراد وزراد بإبدال الزاء من السين وسرد كلامه وصل بعضه ببعض وأتى به متتابعاً وهو إنما يكون مقبولاً إذا لم يخل بالفهم والمعنى اقتصد في نسجها بحيث تناسب حلقها وبالفارسية : (واندازه نكه دار دربافتن آن "يعني حلقها مساوي" درهم افكن تا وضع آن متناسب افتد) ولا تصرف جميع أوقاتك إليه بل مقدار ما يحصل به القوة وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة وهو الأنسب بما بعده.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى إلانة قلبه والسابغات الحكم البالغة التي ظهرت ينابيعها من قلبه على لسانه {وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ} الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس.
نكته كفتن يش كفهمان زحكمت بيكمان
جوهرى ند ازجواهر ريختن يش خرست
{وَاعْمَلُوا} خطاب لداود وأهله لعموم التكليف.
{صَـالِحًا} عملاً صالحاً خالصاً من الأغراض {إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا أضيع عمل عامل منكم فأجازيكم عليه وهو تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به.
(7/209)
وفي "التأويلات النجمية" : أشار بقوله : {وَاعْمَلُوا صَـالِحًا} إلى جميع أعضائه الظاهرة والباطنة أن تعمل في العبودية كل واحدة منها عملاً يصلح لها ولذلك خلقت إني بعمل كل واحدة منكن بصير وبالبصارة خلقتكن انتهى.
والبصير هو المدرك لكل موجود برؤيته ومن عرف أنه البصير راقبه في الحركات والسكنات حتى لا يراه حيث نهاه أو يفقده حيث أمره.
وخاصية هذا الاسم وجود التوفيق فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مائة مرة فتح الله بصيرته ووفقه لصالح القول والعمل وإن كان الإنسان لا يخلو عن الخطأ.
يقال : كان داود عليه السلام يقول : اللهم لا تغفر للخطائين غيره منه وصلابة في الدين فلما وقع له ما وقع من الزلة كان يقول : اللهم اغفر للمذنبين.
ويقال لما تاب الله عليه اجتمع الإنس والجن والطير بمجلسه فلما رفع صوته
268
وأدار لسانه في حنكه على حسب ما كان من عادته تفرقت الطيور وقالت : الصوت صوت داود والحال ليست تلك الحال فبكى داود عليه السلام وقال : ما هذا يا رب فأوحى الله إليه يا داود هذا من وحشة الزلة وكانت تلك من إنس الطاعة :
قدم نتوان نهاد آنجاكه خواهى
بفرمان رو بفرمان كن نكاهى
كه هر كاو نه بامر حق قدم زد
و شمع ازسر برآمد تيز دم زد
{أَنِ اعْمَلْ سَـابِغَـاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِا وَاعْمَلُوا صَـالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌا وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِا وَمِنَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} أي : وسخرنا له الريح وهي الصبا {غُدُوُّهَا} أي : جريها وسيرها بالغداة أي : من لدن طلوع الشمس إلى زوالها وهو وقت انتصاف النهار ، وبالفارسية : (بامدادبردن باد اورا) {شَهْرٍ} مسيرة شهر أي : مسير دواب الناس في شهر.
قال الراغب : الشهر مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال أو باعتبار جزء من اثني عشر جزأ من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة.
والمشاهرة المعاملة بالشهر كما أن المسانهة والمياومة المعاملة بالسنة واليوم {وَرَوَاحُهَا} أي : جريها وسيرها بالعشي أي : من انتصاف النهار إلى الليل ، وبالفارسية : (ورفتن او شبانكاه) {شَهْرٍ} مسيرة شهر ومسافته يعني كانت تسير في يوم واحد مسيرة شهرين للراكب.
والجملة إما مستأنفة أو حال من الريح.
وعن الحسن كان يغدو بدمشق مع جنوده على البساط فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع واصطخر بوزن فردوس بلدة من بلاد فارس بناها لسليمان صخر الجني المراد بقوله : {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} (النمل : 39) ثم يروح أي : من اصطخر فيكون رواحه بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وكابل بضم الباء الموحدة ناحية معروفة من بلاد الهند وكان عليه السلام يتغدى بالري ويتعشى بالسمرقند والري من مشاهير ديار الديلم بين قومس والجبال وسمرقند أعظم مدينة بما وراء النهر أي : نهر جيحون.
ـ ويحكى ـ أن بعضهم رأى مكتوباً في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه غدونا من اصطخر فقلناه ونحن رائحون عنه فبائتون بالشام إن شاء الله.
قال في "كشف الأسرار" : (كفته اند سفروى از زمين عراق بود تابمرو وازآنجا تاببلخ وازآنجا تادر بلاد ترك شدى وبلاد ترك باز بريدى تازمين ين آنكه سوى راست زجانب مطلع آفتاب بركشتى برساحل دريا تابزمين قندهار وازآنجا تا بمكران وكرمان وازآنجا تا باصطخر فارس نزولكاه وى بود يكخند آنجا مقام كردى وازآنجا بامداد برفتى وشبانكاه بشام بودى بمدينه تدمر ومسكن ومستقروى تدمربود) وكان سليمان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر وقد وجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض الشام أنشأها بعض أصحاب سليمان :
ونحن ولا حول سوى حول ربنا
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا
مسيرة شهر والغدوّ لآخر
اناس شرو الله طوعا نفوسهم
بنصر ابن داود النبي المطهر
متى يركب الريح المطيعة أرسلت
مبادرة عن شهرها لم تقصر
269
تظلهمو طير صفوف عليهمو
متى رفرفت من فوقهم لم تبتر
(7/210)
قال مقاتل : كان ملك سليمان ما بين مصر وكابل.
وقال بعضهم : جميع الأرض وهو الموافق لما اشتهر من أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة : اثنان من أهل الإسلام وهما الاسكندر وسليمان واثنان من أهل الكفر وهما نمرود وبخت نصر (بعض كبار كفته كه سليمان عليه السلام اسبان نيكويى عيب داشت همون مرغان بارون آن قصه فوت نماز بيفتاد تيغ بركشيد وكردن اسبان مى بريد كفتندكه اكنون كه بترك اسبان بكفتى ما باد مركب توكرديم "من كانكان الله له" هركه بترك نظر خود بكريد نظر الله بدلش يوند هي كس نبودكه بترك يزى نكفت ازبهر خدا كه نه عوضى به ازانش ندادند مصطفى عليه السلام جعفررا رضي الله عنه بغزو فرستاد وامارت جيش بود داد لو اى اسلام دردست وى بودكفار حمله آوردند ويك دستش بينداختند لوا بديكردست كرفت يك زخم ديكر بر آوزدند وديكر دستش بيندا ختند بعد ازان هفتاد ونه زخم برداشت شهيد ازدنيابيرون شد اورا بخواب ديدندكه "ما فعل الله بك" كفت "عوّضني الله من اليدين جناحين أطير بهما في الجنة حيث أشاء مع جبريل وميكائيل" اسما بنت عميس كفت رسول خدا ايستاده بود ناكاه كفت "وعليكم السلام" كفتم "على من ترد السلام يا رسول الله" جواب سلام كه ميدهى ه كس را نمى بينم كه برتو سلام ميكند كفت "ان جعفر ابن أبي طالب مر مع جبريل وميكائيل" أي : جعفر دست بدادى اينك رجزاى تو آى سليمان اسبان بدادى اينك اسبان در بروبحر حمال تو أي : محب صادق اكربحكم رياضت ديده فدا كردى وشم نثار اينك لطف ماديده تو وفضل ما سمع تو وكرام ما راغ وشمع تو "فإذا أحببته كنت له سمعاً يسمع بي وبصراً يبصر بي ويداً يبطش بي" أول مرد كوينده شود س داننده شود س رونده شود س برنده شود اى مسكين ترا هركز آرزوى آن نبودكه روزى مرغ دلت ازقفس ادبار نفس خلاص يابد وبرهواى رضاى حق روازكند بجلال قدر بارخداكه جزنواخت "اتيته هرولة" استقبال تو نكند) :
ه مانى بهر مردارى و زاغان اندرين ستى
قفس بشكن و طاوسان يكى برر برين بالا
قفس قالب است وامانت مرغ جان راوعشق رواز او ارادت افق او غيب منزل او در دركاه كه مرغ امانت ازين قفس بشريت برافق غيب رواز كند كروبيان عالم قدس دستهابديده خويش بازنهندتا از برق اين جمال ديدهاى ايشان نسوزد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "التأويلات النجمية" : يشير قوله : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} إلى آخره إلى القلب وسيره إلى عالم الأرواح وسرعته في السير للطافته بالنسبة إلى كثافة النفس وإبطائها في السير وذلك لأن مركب النفس في السير البدن وهو كثيف بطييء السير ومركب القلب في السير هو الجذبة الإلهية وهي من صفات لطفه كما قال عليه السلام : "قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء" وتقليبها إلى الحضرة برياح العناية واللطف كما قال عليه السلام : "قلب المؤمن كريشة في فلاة يقلبها الريح ظهراً لبطن وبطناً لظهر" وهو حقيقة قوله "ولسليمان الريح" أي : لسليمان القلب سخرنا ريح العناية ليسير بها وهو ابن داود الروح وبساطه الذي كان مجلسه ويجري به الريح هو السر ولهذا المعنى قيل أن سليمان في سيره لاحظ
270
ملكه يوماً فمال ببساطة فقال سليمان للريح : استوي فقالت الريح استو أنت ما دمت مستوياً بقلبك كنت مستوية ملت فملت كذلك حال السر والقلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر فإن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم انتهى ، وفي "المثنوي" :
همنين تاج سليمان ميل كرد
روز روشن را بروون ليل كرد
كفت تاجا ك مشو برفرق من
آفتمابا كم مشو ازشرق من
راست مى كرد اوبدست آن تاج را
باز ك مى شد بروتاج اى فتى
هشت بارش راست كرد وكشت ك
كفت تاجايست آخر ك مغ
كفت اكر صدره كنى تو راست من
كروم ون كروى اى مؤتمن
س سليمان اندرون و راست كرد
دل بر آن شهرت كه بودش كرد سرد
بعد ازان تا جش همان دم راست شد
آننانكه تاج را ميخواست شد
س ترا هر غم كه يش آيد زدرد
بركسى تهمت منه بر خويش كرد
(7/211)
ـ حكي ـ أن رجلاً سَقَّاء بمدينة بخارى ، كان يحمل الماء إلى دار صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة صالحة في نهاية الحسن والبهاء فجاء السقاء على عادته يوماً وأخذ بيدها وعصرها فلما جاء زوجها من السوق قالت : ما فعلت اليوم خلاف رضى الله تعالى فقال : ما صنعت شيئاً فألحت عليه فقال : جاءت امرأة إلى دكاني وكان عندي سوار فوضعته في ساعدها فأعجبني بياضها فعصرتها فقالت : الله أكبر هذه حكمة خيانة السَّقاء اليوم فقال الصائغ : أيّها المرأة إني تبت فاجعليني في حل فلما كان الغد جاء السقاء وتاب وقال : يا صاحبة المنزل اجعليني في حل فإن الشيطان قد أضلني فقالت : امض فإن الخطأ لم يكن إلا من الشيخ الذي في الدكان فإنه لما غير حاله مع الله بمس الأجنبية غير الله حاله معه بمس الأجنبي زوجته ومثل ذلك من عدل الله تعالى والله تعالى غيور إذا رأى عبده فيما نهاه يؤاخذه بما يناسب حاله وفعله فإذا عرف العبد أن الحال هذا وجب عليه أن يترك الجفاء والأذى ويسلك طريق العدل والإنصاف ولا يأخذ سمت الجور والاعتساف والشقاق والخلاف {وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِ} أي : أذبنا وأجرينا لسليمان عين النحاس المذاب أساله من معدنه كما ألان الحديد لداود فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمي عيناً وبالفارسية : (وجارى كرديم براى سليمان شمه مس كداخت را تا از معدن بيرون آمدى ون آب روان وازان مس هره ميخواست ميساخت وآن در موضعي بود ازيمن بقرب صنعاء).
قال في "كشف الأسرار" : لم يعمل بالنحاس قبل ذلك فكل ما في أيدي الناس من النحاس في الدنيا من تلك العين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
يقول الفقير : يرد عليه أن في بعض البلاد معدن النحاس يلتقط جوهره منه اليوم يذاب ويعمل فكيف يكون ما في أيدي الناس مما أعطى سليمان إلا أن يقال أن أصله كان من تلك العين كما أن المياه كلها تخرج من تحت الصخرة في بيت المقدس على ما ورد في بعض الآثار {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} جملة من مبتدأ وخبر.
يعني : (ازطائفه جن است كسى كه
271
كار كردى يش سليمان) {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بأمره كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} الزيغ الميل عن الاستقامة أي : ومن يعدل من الجن ويمل عما أمرناه به من طاعة سليمان ويعصه {نُذِقْهُ} (بشانيم اورا) {مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} أي : عذاب النار في الآخرة.
ـ وروي ـ عن السدي أنه كان معه ملك بيده سوط من نار كلما استعصى عليه الجني ضربه من حيث لا يراه ضربة أحرقته بالنار.
وفيه إشارة إلى تسخير الله لسليمان صفات الشيطنة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلّم "إن الله سلطني على شيطاني فأسلم على يدي فلا يأمرني إلا بخير" فإذا كانت القوى الباطنة مسخرة كانت الظاهرة الصورية أيضاً مسخرة فتذهب الظلمة ويجيىء النور ويزول الكدر ويحصل السرور وهذا هو حال الكمل في النهايات.
{وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌا وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِا وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍا اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} .
{يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ} تفصيل لما ذكر من عملهم.
{مِن مَّحَـارِيبَ} بيان لما يشاء جمع محراب.
قال في "القاموس" : المحراب الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الإمام من المسجد والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس انتهى.
وفي "المفردات" محراب المسجد قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى أو لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريباً أي : مسلوباً من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر.
وقيل : الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم لما اتخذت المساجد سمي صدرها به وقيل : بل المحراب أصل في المسجد وهو اسم خص به صدر المسجد وسمي صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد وهذا أصح انتهى.
والمعنى من قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها أدرج في "تفسير الجلالين" أيضاً.
قال المفسرون : فبنت الشياطين لسليمان تدمر كتنصر وهي بلدة بالشام والأبنية العجيبة باليمن وهي صرواج ومرواج وبينون وسلحين وهيذة وهنيذة وفلتوم وغمدان ونحوها وكلها خراب الآن وعملوا له بيت المقدس في غاية الحسن والبهاء :
(
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/212)
أصحاب سير كفته اندكه رب العالمين درناد ابراهيم عليه السلام بركت كرد نانكه كس طاقت شمردن نسل آن نداشت خصوصاً در روزكار داود عليه السلام داود خواست كه عدد بني إسرائيل بداند ايشان كه در زمين فلسطين مسكن داشتند روز كارى دراز مى شمردند وبسر نرسيدند ونوميد كشتند س وحى آمد بداودكه ون ابراهيم آن خواب كه اورا نموديم بذبح فرزند تصديق ووفاكرد من اورا وعده دادم كه درنسل وى بركت كنم اين كثرت ايشان ازانست اما ايشان فراوانى ازخويشتن ديدند وخودبين كشتند لا جرم عدد ايشان كم كنم اكنون مخيراند ميان سه بليه آن يكى كه اختيار كنند برايشان كما رم يا قحط ونياز وكرسنكى يادشمن سه ماه ياوبا وطاعون سه روز داود بني إسرائيل را جمع كرد وايشانرا درين سه بليت مخير كرد ازهرسه طاعون اختيار كردند كفتند اين يكى آسانتراست وار فضيحت دورتر س همه جهاز مرك بساختند غسل كردند وخنود برخود ريختند وكفن در وشيدن وبصحرا بيرون رفتند با اهل وعيال وخرد وبزرك دران صعيد بيت المقدس يش ازبنا نهادن آن وداود بصخره سجود درافتاد وايشان دعا وتضرع كردند
272
رب العالمين طاعون برايشان فرود كشاد يك شبان روز ندان هلاك شدندكه بعد ازان بدوماه ايشانرا دفن توانستند كرد ون يك شبان روز ازطاعون بكذشت رب العالمين دعاى داود اجابت وتضرع ايشان روا كرد وآن طاعون ازايشان برداشت بشكر آنكه رب العالمين دران مقام برايشان رحمت كرد بفرمود تا آنجا مسجدي سازندكه يوسته آنجا ذكر الله ودعا وتضرع رود س ايشان دركار ايستادند ونخست مدينه بيت المقدس بنا نهادند وداود بردوش خودسنك ميكشيد وخيار بني إسرائيل همنان سنك مى كشيدند تايك قامت بنابر آوردند س وحى آمد بداودكه اين شهرستانرا بيت المقدس نام نهاديم قدمكاه يغمبران وهجرتكاه ونزولكاه اكان ونيكان).
قال بعض الكبار : أراد داود عليه السلام بنيان بيت المقدس فبناه مراراً فلما فرغ منه تهدّم فشكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء فقال داود : يا رب ألم يك ذلك في سبيلك : قال : بلى ولكنهم أليسوا عبادي فقال : يا رب اجعل بنيانه على يدي من هو مني فأوحى الله إليه أن ابنك سليمان يبنيه فإني أملكه بعدك وأسلمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده.
وسبب هذا أن الشفقة على خلق الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله بإجراء الحدود المفضية إلى هلاكهم ولكون إمامة هذه النشأة أولى من هدمها فرض الله في حق الكفار الجزية والصلح إبقاء عليهم ألا ترى من وجب عليه القصاص كيف شرع لولي الدم أخذ الفدية أو العفو فإن أبى فحينئذٍ يقتل ألا تراه سبحانه إذا كان أولياء الدم جماعة فرضى واحد بالدية أو عفا وباقي الأولياء لا يرون إلا القتل كيف يراعي من عفا ويرجح على من لم يعف فلا يقتل قصاصاً.
ثم نرجع إلى القصة فصلوا فيه زماناً (كفته اند داود درآن روز صد وبيست وهفت سال بود ون سال وى بصد وهل رسيد ازدنيا بيرون شد وسليمان بجاى وى نشست).
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وكان مولد سليمان بغزة وملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة ولما كان في السنة الرابعة من ملكه في شهر أيار سنة تسع وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام ابتدأ سليمان في عمارة بيت المقدس وإتمامه حسبما تقدم وصية أبيه إليه وجمع حكماء الإنس والجن وعفاريت الأرض وعظماء الشياطين وجعل منهم فريقاً يبنون وفريقاً يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام وفريقاً يغوصون في البحر فيخرجون منه الدر والمرجان وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة والدجاجة وبنى مدينة بيت المقدس وجعلها اثني عشر ربضاً وأنزل كل ربض منها سبطاً من أسباط بني إسرائيل وكانوا اثني عشر سبطاً ثم بنى المسجد الأقصى بالرخام الملون وسقفه بألواح الجواهر الثمينة ورصع سقوفه وحيطانه باللآلي واليواقيت وأنبت الله شجرتين عند باب الرحمة إحداهما تنبت الذهب والأخرى تنبت الفضة فكان كل يوم ينزع من كل واحدة مائتي رطل ذهباً وفضة وفرش المسجد بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة وبألواح الفيروزج فلم يكن يومئذٍ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد كان يضيىء في الظلمة كالقمر ليلة البدر وفرغ منه في السنة الحادية عشرة من ملكه وكان ذلك بعد هبوط آدم عليه السلام بأربعة آلاف وأربعمائة وأربع عشرة سنة وبين عمارة سليمان لمسجد بيت المقدس والهجرة النبوية المحمدية على صاحبها أزكى السلام ألف وثمانمائة
273
(7/213)
وقريب من سنتين ولما فرغ من بناء المسجد سأل الله ثلاثاً : حكماً يوافق حكمه وسأله ملكاً ولا ينبغي لأحد من بعده وسأله أن لا يأتي إلى هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه قال عليه السلام : نرجو أن يكون قد أعطاه إياه ، ولما رفع سليمان يده من البناء جمع الناس فأخبرهم أنه مسجدتعالى وهو أمره ببنائه وأن كل شيء فيهمن انتقص شيئاً منه فقد خان الله تعالى ثم اتخذ طعاماً وجمع الناس جمعاً لم ير مثله ولا طعام أكثر منه وقرب القرابينتعالى واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه فيه عيداً.
قال سعيد بن المسيب لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتى قال في دعائه بصلوات أبي داود وافتتح الأبواب فتفتحت فوزع له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل خمسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار فلا يأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله يعبد فيها واستمر بيت المقدس على ما بناه سليمان أربعمائة سنة وثلاثاً وخمسين سنة حتى قصده بخت نصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ جميع ما كان فيه من الذهب والفضة والجواهر وحمله إلى دار مملكته من أرض العراق واستمر بيت المقدس خراباً سبعين سنة ثم أهلك بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه وذلك أنه من كبر الدماغ وانتفاخه فعل ما فعل من التخريب والقتل فجازاه الله تعالى بتسليط أضعف حيوان على دماغه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
نه هركز شنيديم در عمر خويش
كه بد مردرانيكى آمد به يش
{وَتَمَـاثِيلَ} جمع تمثال بالكسر وهو الصورة على مثال الغير أي : وصور الملائكة والأنبياء على صورة القائمين والراكعين والساجدين على ما اعتادوه فإنها كانت تعمل حينئذٍ في المساجد من زجاج ونحاس ورخام ونحوها ليراها الناس ويعبدوا مثل عباداتهم.
ويقال إن هذه التماثيل رجال من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يعمل فيهم السلاح وكان اسفنديار رويين تن منهم كما في "تفسير القرطبي".
ـ وروي ـ أنهم عملوا أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعيهما فارتقى عليهما ، يعني : (ون سليمان خواستى كه بتخت برآيد آن دوشير بازوهاى خود برافراختندى تا ى بران نهاده بالارفتى) وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فلما مات سليمان جاء افريدون ليصعد الكرسي ولم يدر كيف يصعد فلما دنا منه ضربه الأسد على ساقه فكسر ساقه ولم يجسر أحد بعده أن يدنو من ذلك الكرسي.
واعلم أن حرمة التصاوير شرع جديد وكان اتخاذ الصور قبل هذه الأمة مباحاً وإنما حرم على هذه الأمة لأن قوم رسولنا صلى الله عليه وسلّم كانوا يعبدون التماثيل أي : الأصنام فنهى عن الاشتغال بالتصوير وأبغض الأشياء إلى الخواص ما عصى الله به وفي الحديث : "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً" وهذا يدل على أن تصوير ذي الروح حرام.
قال الشيخ الأكمل : هل هو كبيرة أو لا؟ فيه كلام فعند من جعل الكبيرة عبارة عما ورد الوعيد عليه من الشرع فهو كبيرة وأما من جعل الكبيرة منحصرة في عدد محصور فهذا ليس من جملته فيكون الحديث محمولاً على المستحل أو على استحقاق العذاب المؤبد وأما تصوير ما لا روح له فرخص فيه وإن كان مكروهاً من حيث أنه اشتغال بما لا يعني.
قال في "نصاب الاحتساب" :
274
ويحتسب على من يزخرف البيت بنقش فيه تصاوير لأن الصورة في البيت سبب لامتناع الملائكة عن دخوله قال جبريل عليه السلام : "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة" ولو زخرفه بنقش لا صورة فيه ولا بأس به.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/214)
وفي "ملتقط الناصري" لو هدم بيتاً مصوراً فيه بهذه الأصباغ تماثيل الرجال والطيور ضمن قيمة البيت وأصباغه غير مصورة انتهى فإذا منع من التصاوير في البيت فأولى أن يمنع منها في المسجد ولذا محيت رؤوس الطيور في المساجد التي كانت كنائس وفيها تماثيل وجاء في الفروع أنه يكره أن يكون فوق رأس المصلي أو بين يديه أو بحذائه صورة وأشدها كراهة أن يكون أمام المصلي ثم فوق رأسه ثم على يمينه ثم على يساره ثم خلفه قيل : ولو كانت خلفه لا يكره لأنه لا يشبه عبادة الصنم وفيه إهانة لها ولو كانت تحت قدميه لا يكره.
قال في "العناية" : قيل : إذا كانت خلفه لا تكره الصلاة ويكره كونها في البيت لأن تنزيه مكان الصلاة عما يمنع دخول الملائكة مستحب.
لا يقال فعلى هذا لا يكره كونها تحت القدم فيه أيضاً ، لأنا نقول فيه من التحقير والإهانة ما لا يوجد في الخلف فلا قياس لوجود الفارق ثم الكراهة إذا كانت الصورة كبيرة بحيث تبدو وتظهر للناظر بلا تأمل فلو كانت صغيرة بحيث لا تتبين تفاصيل أعضائها إلا بتأمل لا يكره لأن الصغير جداً لا يعبد ولو قطع رأسها لا يكره لأنها لا تعبد بلا رأس عادة ومعنى قطع الرأس أن يمحى رأسها بخيط يخاط عليها وينسج حتى لم يبق للرأس أثر أصلاً بل طمست هيئته قطعاً ولو خيط ما بين الرأس والجسد لا يعتبر لأن من الطيور ما هو مطوق فيكون أحسن في العين ولو محى وجه الصورة فهو كقطع رأسها بخلاف قطع يديها ورجليها ولا تكره الصلاة على بساط مصور لأنه إهانة وليس بتعظيم إن لم يسجد عليها لأن السجود عليها يشبه عبادة الأصنام وأطلق الكراهة في "المبسوط" لأن البساط الذي يصلي عليه معظم بالنسبة إلى سائر البسط فكان فيه تعظيم الصورة وقد أمرنا بإهانتها.
وفي "حواشي أخي" لبي إذا كان التمثال تمثال ما يعظم الكفار كشكل الصلب مثلاً لا ريب في كراهة السجدة عليه ألا يرى إلى ظهير الدين حيث قال : الأصل فيه أن كل ما يقع تشبهاً بهم فيما يعظمون يكره الاستقبال بالصلاة إليه ولو كانت الصورة على وسادة ملقاة أو بساط مفروش لم يكره لأنها توطأ فكأنه استهانة بالصورة بخلاف ما لو كانت الوسادة منصوبة كالوسائد الكبار أو كانت على الستر لأنها تعظيم لها.
وفي "الخلاصة" الصورة إذا كانت على وسادة أو بساط لا بأس باستعمالهما وإن كان يكره اتخاذهما وإن كانت على الإزار والستر فمكروه ولا يفسد صلاته في كل الفصول لوجود شرائط الجواز والنهي لمعنى في غير المنهى عنه وتعاد على وجه غير مكروه وهو الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة كما لو ترك تعديل الأركان كما في "الكافي" {وَجِفَانٍ} (وميكردندى يعني شياطين براى سليمان ازكاسهاى وبين وغير آن) وهي جمع جفنة ، وهي : القصعة العظيمة فإن أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم الميكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحفة تشبع الرجل فتفسير الجفان بالصحاف كما فعله البعض منظور فيه.
قال سعدي المفتي : والجفنة خصت بوعاء الأطعمة كما في "المفردات" {كَالْجَوَابِ} كالحياض الكبار أصله الجوابي بالياء كالجواري جمع جابية من الجباية لاجتماع الماء فيها وهي
275
من الصفات الغالبة كالدابة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/215)
قال الراغب : يقال جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية ومنه استعير جبيت الخراج جباية.
قيل : كان يقعد على الجفنة ألفا رجل فيأكلون منها وكان لمطبخه كل يوم اثنا عشر ألف شاة وألف بقرة وكان له اثنا عشر ألف خباز واثنا عشر ألف طباخ يصلحون الطعام في تلك الجفان لكثرة القوم.
وكان لعبد الله بن جدعان من رؤساء قريش وهو ابن عم عائشة الصديقة رضي الله عنها جفنة يستظل بظلها ويصل إليها المتناول من ظهر البعير ووقع فيها صبي فغرق وكان يطعم الفقراء كل يوم من تلك الجفنة وكان لنبينا صلى الله عليه وسلّم قصعة يحملها أربعة رجال يقال لها الغراء أي : البيضاء فلما دخلوا في الضحى وصلوا صلاة الضحى أتى بتلك القصعة وقد ثرد فيها فالتفوا حولها أي : اجتمعوا فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال أعرابي : ما هذه الجلسة؟ فقال عليه السلام : "إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً" ثم قال : "كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك فيها" قال في "الشرعة" : ولا بركة في القصاع الصغار ولتكن قصعة الطعام من خزف أو خشب فإنهما أقرب إلى التواضع.
ويحرم الأكل في الذهب والفضة وكذا الشرب منهما.
ويكره في آنية النحاس إذا كان غير مطليّ بالرصاص.
وكذا في آنية الصفر وهو بضم الصاد المهملة وسكون الفاء شيء مركب من المعدنيات كالنحاس والأسرب وغير ذلك يقال له بالفارسية : (روى) بترقيق الراء فإنه بتفخيمها بمعنى الوجه {وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ} القدر بالكسر اسم لما يطبخ فيه اللحم كما في "المفردات".
والجمع قدور.
والراسيات جمع راسية من رسا الشيء يرسو إذا ثبت ولذلك سميت الجبال الرواسي والمعنى وقدور ثابتات على الأثافي لا تنزل عنهما لعظمها ولا تحرك من أماكنها وكان يصعد عليها بالسلال وكانت باليمن (وهنوز در بعض از ولايات شام ديكهاى نين ازسنك تراشيده موجودست) وكانت تتخذ القدور من الجبال أو هي قدور النحاس وكانت موضوعة على الأثافي أو كانت أثافيها منها كما في "الكواشي".
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : {وَجِفَانٍ} إلى آخره إلى مأدبة الله التي لا نهاية لها التي يأكل منها الأولياء إذ يبيتون عنده كما قال عليه السلام : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" {اعْمَلُوا} يا {ءَالَ دَاوُادَ} فنصبه على النداء والمراد به سليمان لأن هذا الكلام قد ورد في خلال قصته وخطاب الجمع للتعظيم أو أولاده أو كل من ينفق عليه أو كل من يتأتى منه الشكر من أمته كما في "بحر العلوم" والمعنى وقلنا له أو لهم اعملوا {شَاكِرًا} نصب على العلة أي : اعملوا له واعبدوه شكراً لما أعطيتكم من الفضل وسائر النعماء فإنه لا بد من إظهار الشكر كظهور النعمة أو على المصدر لا عملوا لأن العمل للمنعم شكر له فيكون مصدراً من غير لفظه أو لفعل محذوف أي : اشكروا شكراً أو حال أي : شاكرين أو مفعول به أي : اعملوا شكراً ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة.
قال بعض الكبار : قال تعالى في حق داود : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ مِنَّا فَضْلا} فلم يقرن بالفضل الذي آتاه شكراً يطلبه منه ولا أخبر أنه أعطاه هذا الفضل جزاء لعمل من أعماله ولما طلب الشكر على ذلك الفضل بالعمل طلبه من آل داود لا منه ليشكره الآل على ما أنعم به على داود فهو في
276
حق داود عطاء نعمة وأفضال وفي حق آله عطاء لطلب المعاوضة منهم فداود عليه السلام ليس يطلب منه الشكر على ذلك العطاء وإن كانت الأنبياء عليهم السلام قد شكروا الله على إنعامه وهبته فلم يكن ذلك الشكر الواقع منهم مبنياً على طلب من الله سبحانه بل تبرعوا بذلك من عند نفوسهم كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى تورمت قدماه من غير أن يكون مأموراً بالقيام على هذا الوجه شكراً لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما قيل له في ذلك قال : "أفلا أكون عبداً شكوراً".
(7/216)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى شكر داود الروح وسليمان القلب من آله السر والخفي والنفس والبدن فإن هؤلاء كلهم من مولدات الروح فشكر البدن استعمال الشريعة بجميع أعضائه وجوارحه ومحال الحواس الخمس ولهذا قال : اعملوا.
وشكر النفس : بإقامة شرائط التقوى والورع.
وشكر القلب بمحبة الله وخلوه عن محبة ما سواه.
وشكر السر : مراقبته من التفاته لغير الله.
وشكر الروح : ببذل وجوده على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمع.
وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة ولهذا سمي خفياً لأنه بعد فناء الروح في الله يبقى في قبول الفيض في مقام الوحدة مخفياً بنور الوحدة على نفسه {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} قليل خبر مقدم للشكور.
وقال الكاشفي وصاحب "كشف الأسرار" : (واندكى ازبندكان من ساس دارند) والشكور المبالغ في أداء الشكر على النعماء والآلاء بأن يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته وأغلب أحواله ومع ذلك لا يوفي حقه لأن التوفيق للشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهاية ولذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
حق شكر حق نداند هي كس
حيرت آمد حاصل دانا وبس
آن بزركى كفت باحق درنهان
كاى ديد آرنده هر دوجهان
اى منزه اززن وفرزند وجفت
كى نوانم شكر نعمتهات كفت
يك حضرت دادش از ايزد يام
كفتش از تواين بود شكر مدام
ون درين راه اين قدر بشناختى
شكر نعمتهاى ما رداختى
قال الإمام الغزالي رحمه الله : أحسن وجوه الشكر لنعم الله تعالى أن لا يستعملها في معاصيه بل في طاعاته وذلك أيضاً بالتوفيق.
وعن جعفر بن سليمان : سمعت ثابتاً يقول : إن داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.
وعن النبي عليه السلام : "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ألا إن داود أشكر العابدين وأيوب صابر الدنيا والآخرة".
وفي "التأويلات النجمية" وبقوله : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} يشير إلى قلة من يصل إلى مقام الشكورية وهو الذي يكون شكره بالأحوال.
فللعوام شكرهم بالأقوال كقوله تعالى : {لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} (النمل : 93).
وللخواص شكرهم بالأعمال كقوله : {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا} .
والخواص الخواص شكرهم بالأحوال وهو الاتصاف بصفة الشكورية والشكور هو الله تعالى لقوله تعالى : {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر : 34) بأن يعطي على عمل فان عشراً في ثواب باق كل ما كان عندكم ينفد وما عنده إلى السرمد إن الله كثير الأحسان فاعمل
277
شكراً أيها الإنسان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} القضاء الحكم والفصل والموت زوال القوة الحساسة أي : لما حكمنا على سليمان بالموت وفصلناه به عن الدنيا {مَا دَلَّهُمْ} (دلالت نكرد ديوانرا) {عَلَى مَوْتِهِ} (برمرك سليمان) {إِلا} (مكر) {دَآبَّةُ الأرْضِ} أي : الأرضة وهي دويبة تأكل الخشب بالفارسية (كرمك وب خور) أضيفت إلى فعلها وهو الأرض بمعنى الأكل ولذا سميت الأرض مقابل السماء أرضاً لأنها تأكل أجساد بني آدم يقال أرضت الأرضة الخشبة أرضاً أكلتها فأرضت أرضاً على ما لم يسم فاعله فهي مأروضة {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي : عصاه التي يتوكأ عليها من النسيء وهو التأخير في الوقت لأن العصا يؤخر بها الشيء ويزجر ويطرد {فَلَمَّا خَرَّ} سقط سليمان ميتاً.
قال الراغب : خر سقط سقوطاً يسمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} من تبينت الشيء إذا علمته بعد التباسة عليك أي : علمت الجن علماً يقينياً ينتفي عنده الشكوك والشبه بعد التباس الأمر عليهم {ءَانٍ} أي : إنهم {لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} ما غاب عن حواسهم كما يزعمون {مَا لَبِثُوا} (درنك نمى كردند يكسال) {فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (در عذاب خوار كننده) يعني التكاليف الشاقة والأعمال الصعبة التي كانوا يعملونها.
والحاصل أنهم لو كان لهم علم بالغيب كما يزعمون لعلموا موت سليمان ولما لبثوا بعده حولاً في تسخيره إلى أن خر فلما وقع ما وقع علموا أنهم جاهلون لا عالمون.
ويجوز أن يؤخذ تبينت من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى فتكون أن مع ما في حيزها بدل اشتمال من الجن نحو تبين زيد جهله أي : ظهر للإنس أن الجن لو كانوا يعلمون إلى آخره.
وأصل القصة أنه لما دنا أجل سليمان عليه السلام كان أول ما ظهر من علاماته أنه لم يصبح إلا ورأى في محرابه شجرة نابتة كما قال في "المثنوي" :
هرصباحى ون سليمان آمدي
خاضع اندر مسجد أقصى شدى
نوكياهى رسته ديدى اندرو
س بكفتى نام ونفع خود بكو
توه دارويى يىء نامت ه است
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
توزيان كه ونفعت بركى است
س بكفتى هركياهى فعل ونام
كه من آنرا جانم واين را حمام
من مرين را زهرم واورا شكر
(7/217)
نام من اينست برلوح ازقدر
س طبيبان ازسليمان زان كيا
عالم ودانا شدندى مقتدا
تا كتبهاى طبيبي ساختند
جسم را از رنج مى ردا ختند
اين نجوم وطب وحى انبياست
عقل وحس را سوى بى سوره كجاست
هم بران عادت سليمان سنى
رفت درمسجد ميان روشنى
قاعده هرروز را مى جست شاه
كه ببيند مسجد اندر نوكياه
س سليمان ديد اندر كوشه
نزكياهى رسته همون خوشه
ديد س نادر كياهى سبزوتر
مى برود آن سبزيش نور از بصر
كفت نامت يست بركو بى دهان
نام من خروب اى شاه جهان
278
كفت فعلت يست وز توه رود
كفت من رستم مكان ويران شود
من كه خروبم خراب منزلم
من خرابى مسجد آب وكلم
س سليمان آن زمان دانست زود
كه اجل آمد سفر خواهد نمود
كفت تا من هستم اين مسجد يقين
در خلل نايد ز آفات زمين
تا كه من باشم وجود من بود
مسجد أقصى مخلخل كى شود
س خرابى مسجد ما بى كمان
نبود الا بعد مرك ما بدان
مسجداست آن دل كه شمش ساجداست
يار بد خروب هرجاكه مسجداست
يار بد ون رست در تو مهر او
هين ازو بكريز وكم كن كفت وكو
بركن از بيخش كه كر سر برزند
مر ترا ومسجدت را بركند
(س ازان سليمان بملك الموت رسيد وكفت ون ترا بقبض روح من فرمايند مرا خبر ده ملك الموت بوقتى كه اورا فرمودند آمد واورا خبرداد كفت نماند از عمرتو الا يك ساعت اكر وصيتى ميكنى يا كارى از بهر مرك ميسازى بساز) فدعا الشيطاين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب فقام يصلي ، قال في "كشف الأسرار" : (س بآخركار عصاي خود يش كرفت وتكيه برآن كرد وهردوكف زير سرنهاد وآن عصا اورا همنان ناهى كشت وملك الموت درآن حال قبض روح وى كرد ويكسال برين صفت برآن عصا تكيه زده بماند وشياطين همجنان دركار ورنج وعمل خويش مى بودند ونمى دانستندكه سليمان را وفات رسيد) ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك.
6
وقال "الكاشفي في تفسيره" : (ون سليمان در كذشت وبشستند وبرو نماز كذا ردند واورا برعصا تكيه دادند ومرك او بموجب وصيت او فاش نكردند وديوان ازدور زنده مى نداشتند وبهمان كاركه نامزد ايشان بود قيام نمودند تا بعد از يكسال اسفل عصاى اورا دوده بخورد سليمان برزمين افتاد همكنانرا موت او معلوم شد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
قال بعضهم : كانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع صوته ثم نظر فإذا سليمان قد خر ميتاً ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقداراً فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حياً ولو علموا أنه مات لما لبثوا في العذاب سنة.
وقال في "كشف الأسرار" : (وعذاب ايشان ازجهت سليمان آن بودى ون بريكى ازايشان خشم كرفتى) كان قد حبسه في دنّ وشدّ رأسه بالرصاص أو جعله بين طبقتين من الصخر فألقاه في البحر أو شدّ رجليه بشعره إلى عنقه فألقاه في الحبس.
ثم إن الشياطين قالوا للأرضة لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ولو كنت تشربين من الشراب سقيناك أطيب الشراب ولكن ننقل إليك الماء والطين فهم ينقلون ذلك حيث كانت ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشياطين تشكراً لها.
قال القفال : قد دلت هذه الآية على أن الجن لم يسخروا إلا
279
لسليمان وأنهم تخلصوا بعد موته من تلك الأعمال الشاقة يعني : (ون بدانستند كه سليمان را وفات رسيد في الحال فرار نموده درشعاب جبال واجواف بوادى كريختند وازرنج وعذاب بازرستند) وإنما تهيأ لهم التسخير والعمل لأن الله تعالى زاد في أجسامهم وقواهم وغير خلقهم عن خلق الجن الذي لا يرون ولا يقدرون على شيء من هذه الأعمال الشاقة مثل نقل الأجسام الثقال ونحوه لأن ذلك كان معجزة لسليمان عليه السلام.
(7/218)
قالت المعتزلة : الجن أجسام رقاق ولرقتها لا نراها ويجوز أن يكثف الله أجسام الجن في زمان الأنبياء دون غيره من الأزمنة وأن يقويهم بخلاف ما هم عليه في غير زمانهم.
قال القاضي عبد الجبار : ويدل على ذلك ما في القرآن من قصة سليمان أنه كثفهم له حتى كان الناس يرونهم وقواهم حتى يعملون له الأعمال الشاقة وأما تكثيف أجسامهم وأقدارهم عليها في غير زمان الأنبياء فإنه غير جائز لكونه نقضاً للعادة.
قال أهل التاريخ : كان سليمان عليه السلام أبيض جسيماً وضيئاً كثير الشعر يلبس البياض وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة وكانت وفاته بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة.
يقول الفقير : هو الصحيح أي : كون وفاته بعد الفراغ من البناء لا قبله بسنة على ما زعم بعض أهل التفسير وذلك لوجوه الأول ما في المرفوع من أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة وقد سبق في تفسير قوله تعالى : {مِن مَّحَـارِيبَ} والثاني اتفاقهم على أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاس موسى وبنى مقدار قامة إنسان فلم يؤذن له في الإتمام كما مر وجهه ثم لما دنا أجله وصى به إلى ابنه سليمان وبعيد أن يؤخر سليمان وصية أبيه إلى آخر عمره مع ما ملك مدة أربعين سنة والثالث قصة الخروب التي ذكرها الأجلاء من العلماء فإنها تقتضي أن سليمان صلى في المسجد الأقصى بعد إتمامه كثيراً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى كمال قدرته وحكمته وأنه هو الذي سخر الجن والإنس لمخلوق مثلهم وهم الألوف الكثيرة والوحوش والطيور ثم قضى عليه الموت وجعلهم مسخرين لجثة بلا روح وبحكمته جعل دابة الأرض حيواناً ضعيفاً مثلها دليلاً لهذه الألوف الكثيرة من الجن والإنس تدلهم بفعلها على علم ما لم يعلموا.
وفيه أيضاً إشارة إلى أنه تعالى جعل فيها سبباً لإيمان أمة عظيمة وبيان حال الجن أنهم لا يعلمون الغيب.
وفيه إشارة أخرى أن نبيين من الأنبياء اتكئا على عصوين وهما موسى وسليمان فلما قال موسى هي عصاي أتوكأ عليها قال ربه ألقها فلما ألقاها جعلها ثعباناً مبيناً يعني من اتكأ على غير فضل الله ورحمته يكون متكوؤه ثعباناً ولما اتكأ سليمان على عصاه في قيام ملكه بها واستمسك بها بعث الله أضعف دابة وأخسها لإبطال متكئه ومتمسكه ليعلم أن من قام بغيره زال بزواله وأن كل متمسك بغير الله طاغوت من الطواغيت ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها انتهى كلامه.
{لَقَدْ} أي : بالله لقد {كَانَ لِسَبَإٍ} كجبل وقد يمنع من الصرف باعتبار القبيلة أي : كان لقبيلة سبأ وهم أولاد سبأ بن يشجب بالجيم على ما في "القاموس" ابن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام.
وسبأ لقب عبد شمس بن يشجب وإنما لقب به لأنه أول من سبى كما قاله السهيلي
280
وهو يجمع قبائل اليمن.
ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية فهو أبو عرب اليمن يقال لهم العرب العاربة.
ويقال لمن تكلم بلغة إسماعيل العرب المستعربة وهي لغة أهل الحجاز فعربية قحطان كانت قبل إسماعيل عليه السلام وهو لا ينافي كون إسماعيل أول من تكلم بالعربية لأنه أول من تكلم بالعربية البينة المحضة وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن وكذا لا ينافي ما قيل أن أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية وجاء "من أحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق" واشتهر على ألسنة الناس أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "أنا أفصح من نطق بالضاد" قال جمع : لا أصل له ومعناه صحيح لأن المعنى أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد ولا توجد في غير لغتهم كما في "إنسان العيون" لعلي بن برهان الدين الحلبي.
{فِى مَسْكَنِهِمْ}
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/219)
بالفارسية (نشستكاه) والمعنى في بلدهم الذي كانوا فيه باليمن وهو مأرب كمنزل على ما في "القاموس" بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال وهي المرادة بسبا بلدة بلقيس في سورة النمل.
قال السهيلي : مأرب اسم ملك كان يملكهم كما أن كسرى اسم لكل من ملك الفرس.
وخاقان اسم لكل من ملك الصين.
وقيصر اسم لكل من ملك الروم.
وفرعون لكل من ملك مصر.
وتبع لكل من ملك الشحر واليمن وحضرموت.
والنجاشي لكل من ملك الحبشة.
وقيل : مأرب اسم قصر كان لهم ذكره المسعودي.
قال في "إنسان العيون" ويعرب بن قحطان قيل له أيمن لأن هودا عليه السلام قال له : أنت أيمن ولدي وسمي اليمن يمناً بنزوله فيه {ءَايَةً} علامة ظاهرة دالة بملاحظة الأحوال السابقة واللاحقة لتلك القبيلة من الإعطاء والترفية بمقتضى اللطف ثم من المنع والتخريب بموجب القهر على وجود الصانع المختار وقدرته على كل ما يشاء من الأمور البديعة ومجازاته للمحسن والمسيىء وما يعقلها إلا العالمون وما يعبرها إلا العاقلون {جَنَّتَانِ} بدل من آية والمراد بهما جماعتان من البساتين لا بستانان اثنان فقط {عَن يَمِينٍ} جماعة عن يمين بلدتهم واليمين في الأصل الجارحة وهي أشرف الجوارح لقوتها وبها تعرف من الشمال وتمتاز عنها {وَشِمَالٍ} وجماعة عن شمالها كل واحدة من تينك الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة أو بستانان لكل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله {كُلُوا} حكاية لما قال لهم نبيهم تكميلاً للنعمة وتذكيراً لحقوقها أو لسان الحال أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك {مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ} من أنواع الثمار {وَاشْكُرُوا لَه} على ما رزقكم باللسان والجنان والأركان {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} استئناف مبين لما يوجب الشكر المأمور به أي : بلدتكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم ما فيها من الطيبات وطلب منكم الشكر رب غفور لفرطات من يشكره فمعنى طيبة أنها لم تكن سبخة لينة حيث أخرجت الثمار الطيبة أو أنها طيبة الهواء والماء كما قال الكاشفي : (اين شهري كه خداى تعالى دروى روزى ميدهد شهري اكيزه است هواى تن درست وآب شيرين وخاك اك) :
شهري و بهشت از نكويى
ون باغ ارم بتازه رويى
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "فتح الرحمن" : وطيبتها أنها لم يكن بها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية
281
ولا غيرها من المؤذيات وكان يمر بها الغريب وفي ثيابه القمل فتموت كلها لطيب هوائها ومن ثمة لم يكن بها آفات وأمراض أيضاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانت أطيب البلاد هواء وأخصبها.
وكانت المرأة تخرج من منزلها إلى منزل جارتها وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىء المكتل مما يتساقط فيه من أنواع الثمار من غير أن تمد يدها وإلى هذا المعنى أشير بعبارة الجنة إذ حال الجنة يكون هكذا.
ولله تعالى جنان في الأرض كجنانه في السماء وأفضلها الجنة المعنوية التي هي القلب وما يحتويه من أنواع المعارف والفيوض والكشوف فالطيب من الأشياء ما يستلذه الحواس ومن الإنسان من تطهر عن نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتطيب بالعلم والإيمان ومحاسن الأفعال.
قال بعض الكبار بلدة طيبة بلدة الإنسانية قابلة لبذر التوحيد وكلمة لا إله إلا الله ورب غفور يستر عيوب أوليائه بنور مغفرته ويغفر ذنوبهم لعزة معرفته انتهى وبسببهم يغفر ذنوب كثير من عباده ويقبل حسناتهم (نقلست عبد الله بن مبارك رضي الله عنه در حرم محترم يكسال ازحج فارغ شده بود بخواب ديدكه دوفرشته درآمدندى ويكى ازديكرى رسيدى كه خلق امسال ند جمع آمدند ديكرى كفت سيصد هزار من كفتم حج ند كس مقبول افتاد كفتند حج هي كس عبد الله كفت ون اين شنودم اضطرابى در من بديد آمد كفتم آخر اين همه خلق ازاطراف جهان با اين همه رنج وتعب مى آمدند واين همه ضايعست كفتند كفشكريست دردمشق علي بن موفق كويند او اينجا نيامده است وليكن حج اورا قبول كردند واين جمله را دركار اوكردند) وكان حجه أنه قال : جمعت ثلاثمائة وخمسين درهماً للحج فمرت بي حامل فقالت : إن هذه الدار يجيىء منها رائحة طعام فاذهب وخذ شيئاً منه لي لئلا يسقط حملي قال : فذهبت فأخبرت القصة لصاحب الدار فبكى وقال : إن لي أولاداً لم يذوقوا طعاماً منذ أسبوع فقمت اليوم وجئت بلحم من ميتة حمار فهم يطبخونه فهو لنا حلال فإنا مضطرون ولك حرام فكيف أعطيك منه؟ قال علي : فلما سمعت ذلك منه احترق فؤادي ودفعت المبلغ المذكور إليه وقلت : حجي هذا فتقبل الله تعالى ذلك منه بقبول حسن ووهب له جميع الحجاج.
بإحساني آسوده كردن دلى
به ازالف ركعت بهر منزلي
يعني : في طريق مكة المشرفة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/220)
{فَأَعْرِضُوا} أي : أولاد سبأ عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء وكفروا النعمة وتعرضوا للنقمة وضيعوا الشكر فبدلوا وبدل لهم الحال.
يقال : أعرض أي : أظهر عرضه أي : ناحيته.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث الله تعالى ثلاثة عشر نبياً إلى ثلاث عشرة قرية باليمن فدعوهم إلى الإيمان والطاعة وذكروهم نعمه تعالى وخوفوهم عقابه فكذبوهم وقالوا : ما نعرف له علينا من نعمة فقولوا فربكم فليحبس عنا هذه النعمة إن استطاع {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} الإرسال مقابل الإمساك والتخلية وترك المنع {سَيْلَ الْعَرِمِ} السيل أصله مصدر كالسيلان بمعنى (رفتن آب) وجعل اسماً للماء الذي يأتيك ولم يصبك مطره والعرم من العرامة وهي الشدة والصعوبة يقال عرم كنصر وضرب وكرم وعلم عرامة وعراماً بالضم فهو عارم وعرم اشتد وعرم الرجل إذا شرس خلقه أي : ساء وصعب أضاف السيل إلى العرم أي : الصعب وهو
282
من إضافة الموصوف إلى صفته بمعنى سيل المطر العرم أو الأمر العرم.
والمعنى بالفارسية : (س فرستاديم وفروكشاديم بر ايشان سيل صعب ودشوار).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : العرم اسم الوادي ، يعني : (نام وادى كه آب از جانب او آمد).
وقال بعضهم : العرم السد الذي يحبس الماء ليعلوا على الأرض المرتفعة ، يعني : (عرم بند آبست بلغة حمير).
وقال بعضهم : هو الجرذ الذكر أضاف السيل إليه لأن الله تعالى أرسل جرذاناً برية كان لها أنياب من حديد لا يقرب منها هرة إلا قتلتها فنقبت عليهم ذلك السد ، يعني : (بندرا سوراخ كرد) فغرقت جنانهم ومساكنهم ويقال لذلك الجرذ الخلد بالضم لإقامته عند حجره وهو الفار الأعمى الذي لا يدرك إلا بالسمع.
قال أرسطو : كل حيوان له عينان إلا الخلد وإنما خلق كذلك لأنه ترابي جعل الله له الأرض كالماء للسمك وغذاؤه من باطنها وليس له في ظاهرها قوت ولا نشاط ولما لم يكن له بصر عوّضه الله حدة السمع فيدرك الوطء الخفي من مسافة بعيدة فإذا أحس بذلك جعل يحفر في الأرض قيل إن سمعه بمقدار بصر غيره وفي طبعه الهرب من الرائحة الطيبة ويهوي رائحة الكراث والبصل وربما صيد بها فإنه إذا شمها خرج إليها فإذا جاع فتح فاه فيرسل الله له الذباب فيسقط عليه فيأخذه ودمه إذا اكتحل به أبرأ العين كما في "حياة الحيوان".
قال الكاشفي : (درمختار آورده كه فرزندان سبارا درحوالى مأرب از ولايت يمن منزلي بود درميان دوكوه از اعلى تا اسفل آن منزل هده فرسخ وشرب ايشان در اعلاى وادي بود ازشمه در ايان كوى كاه بودى كه فاضل آب ازاوديه يمن با آب ايشان ضم شدى وخرابى كردى).
قال أبو الليث : كان الماء لا يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يجري بين الجبلين (ازبلقيس كه از واليه ولايت ايشان بود درخواست كردند تا سدى بست بسنك وقار دردهانه كوه تا آبهاى اصلي وزاندى از امطار وعيون آنجا جمع شدند).
وقال السهيلي في كتاب "التعريف والاعلام" : كان الذي بنى السد سبأ بن يشجب بناه بالرخام وساق إليه سبعين وادياً ومات قبل أن يستتمه فأتم بعده انتهى (وسه ثقبه برآن سد ترتيب كردتا اول ثقبه اعلى بكشايند وآب بمزروعات وباغها وخود برند وون وفا نكند وكمتر شود وسطى وبآخر سفلى ون سيزده يغمبررا تكذيب كردند ويغمبر آخرين در زمان ادشاه ذي الأوغار بن جيشان بعد از رفع عيسى بديشان آمد واورا بسيار رنجانيدند حق سبحانه وتعالى موشهاى دستى درزير بند ايشان بديد آورده بفرمود تا سوراخ كردند ونيم شب كه همه درخواب بودند بندشكسته شد وسيل در آمده منازل وحدائق ايشان مغمور كشت وبسيار مردم وهاراى هلاك كشت).
وقال في "فتح الرحمن" : فأرسلنا عليهم السيل الذي لا يطاق فخرب السد وملأ ما بين الجبلين وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار أي : إلى الجبل وأغرق أموالهم فتفرقوا في البلاد فصاروا مثلاً
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَبَدَّلْنَـاهُم} المذكورتين وآتيناهم بدلهما ، وبالفارسية : (وبدل داديم ايشانرا بباغهاى ايشان) والتبديل : جعل الشيء مكان آخر والباء تدخل على المتروك على ما هي القاعدة المشهورة {جَنَّتَيْنِ} ثاني مفعولي بدلنا {ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} صفة لجنتين ويقال في الرفع ذواتاً بالألف وهي تثنية
283
ذات مؤنث ذي بمعنى الصاحب والأكل بضم الكاف وسكونه اسم لما يؤكل والخمط كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يمكن أكله والمعنى جنتين صاحبتي ثمر مرّ ، وبالفارسية : (دوباغ خداوند ميوهاى تلخ) فيكون الخمط نعتاً للأكل وجاء في بعض القراآت بإضافة الأكل إلى الخمط على أن يكون الخمط كل شجر مر الثمر أو كل شجر له شوك أو هو الأراك على ما قاله البخاري والأكل ثمره.
قال في المختار : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم {وَأَثْلٍ} معطوف على أكل لا على خمط فإن الإثل هو الطرفاء بالفارسية (كز) أو شجر يشبهه أعظم منه ولا ثمر له ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
اكر بدكنى شم نيكى مدار
كه هركز نيارد كز انكور بار
(7/221)
{وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} وهو معطوف أيضاً على أكل.
قال البيضاوي وصف السدر بالقلة لما أن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين انتهى فالسدر شجر النبق على ما في "القاموس".
وقال المولى أبو السعود : والصحيح أن السدر صنفان : صنف يؤكل من ثمره وينتفع بورقه لغسل اليد وصنف له ثمرة عفصة لا يؤكل أصلاً وهو البري الذي يقال له الضال والمراد ههنا هو الثاني فكان شجرهم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بسبب أعمالهم القبيحة.
والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها غير المثمرة.
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَا سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{ذَالِكَ} إشارة إلى مصدر قوله تعالى : {جَزَيْنَـاهُم} فمحله النصب على أنه مصدر مؤكد له أي : ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر أو إلى ما ذكر من التبديل فمحله النصب على أنه مفعول ثان له أي : ذلك التبديل جزيناهم لا غيره {بِمَا كَفَرُوا} بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها أو بسبب كفرهم بالرسل وفي هذه الآية دليل على بعث الأنبياء بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فإنه روى أن الواقعة المذكورة كانت في الفترة التي بينهما وما قيل من أنه لم يكن بينهما نبي يعني نبي به ذو كتاب كذا في "بحر العلوم" فلا يشكل قوله عليه السلام : "ليس بيني وبينه نبي" أي : رسول مبعوث بشريعة مستقلة بل كل من بعث كان مقرراً لشريعة عيسى وقد سبق تحقيق هذا المبحث مراراً {وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ} أي : وما نجازي هذا الجزاء إلا المبالغ في الكفران أو الكفر.
فهل وإن كان استفهاماً فمعناه النفي ولذلك دخلت إلا في قوله إلا الكفور.
قال في "القاموس" : هل كلمة استفهام وقد يكون بمعنى الجحد وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما جميعاً.
وفي الآية إشارة إلى أن المؤمن الشاكر يربط بشكره النعم الصورية والمعنوية من الإيقان والتقوى والصدق والإخلاص والتوكل والأخلاق الحميدة وغير الشاكر يزيل بكفرانه هذه النعم فيجد بدلها الفقر والكفر والنفاق والشك والأوصاف الذميمة ألا ترى إلى حال بلعم فإنه لم يشكر يوماً على نعمة الإيمان والتوفيق فوقع فيما وقع من الكفر والعياذ بالله تعالى.
فلما غرس أهل الكفر في بستان القلب والروح الأشجار الخبيثة لم يجدوا إلا الأثمار الخبيثة فما عوملوا إلا بما استوجبوا وما حصدوا إلا ما زرعوا وما وقعوا إلا في الحفرة التي حفروا
284
كما قيل : "يداك أوكتا وفوك نفخ" وهذا مثل مشهور يضرب لمن يتحسر ويتضجر مما يرد عليه منه يقال أوكأ على سقائه إذا شده بالوكاء والوكاء للقربة وهو الخيط الذي يشد به فوها وقد ورد في العبارة النبوية : "فمن وجد خيراً فليحمد الله" أي : الذي هو ينبوع الرحمة والخير "ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه" ، وفي "المثنوي" :
داد حق اهل سبارا بس فراغ
صد هزاران قصر وايوانها وباغ
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
شكر آن نكزاردند آن بدركان
در وفا بودند كمتر از سكان
مر سكانرا لقمه نانى زدر
ون رسد بردرهمى بنددكمر
اسبان وحارس در ميشود
كره بروى جور سختى ميرود
هم بران درباشدش باش وقرار
كفر دارد كرد غيرى اختيار
بيوفايى ون سكانرا عار بود
بيوفايى ون روا دارى نمود(7/222)
{وَجَعَلْنَا} عطف على كان لسبأ وهو بيان لما أوتوا من النعم البادية في مسايرهم ومتاجرهم بعد حكاية ما أوتوا من النعم الحاضرة في مساكنهم ومحاضرهم وما فعلوا بها من الكفران وما فعل بهم من الجزاء تكملة لقصتهم وإنما لم يذكر الكل معاً لما في التثنية والتكرير من زيادة تنبيه وتذكير والمعنى وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فنون النعم {بَيْنَهُمْ} أي : بين بلادهم اليمنية {وَبَيْنَ الْقُرَى} الشامية {الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا} (بركت داده ايم دران) يعني بالمياه والأشجار والثمار والخصب والسعة في العيش للأعلى والأدنى والقرية اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس بلدة كانت أو غيرها والمراد هنا فلسطين وأريحا وأردن ونحوها والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء والمبارك ما فيه ذلك الخير {قُرًى ظَـاهِرَةً} أصل ظهر الشيء أن يحصل على ظهر الأرض فلا يخفى وبطن الشيء أن يحصل في بطنان الأرض فيخفي ثم صار مستعملاً في كل ما برز للبصر والبصيرة أي : قرى متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهي ظاهرة لا عين أهلها أو راكبة متن الطريق ظاهرة للسابلة غير بعيدة عن مسالكهم حتى تخفى عليهم (ودرعين المعاني آورده كه ازمأرب كه منزل أهل سبابود تاشام هار هزار وهفصدديه بود متصل ازسباتا بشام) {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} (التقدير : اندازه كردن) والسير المضي في الأرض أي : جعلنا القرى في نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين يليق بحال أبناء السبيل قيل : كان الغادي من قرية يقيل في الأخرى والرائح منها يبيت في أخرى إلى أن يبلغ الشام لا يحتاج إلى حمل ماء وزاد وكل ذلك كان تكميلاً لما أوتوا من أنواع النعماء وتوافيراً لها في الحضر والسفر {سِيرُوا فِيهَا} على إرادة القول بلسان المقال والحال فإنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه أي : وقلنا لهم سيروا في تلك القرى لمصالحكم {لَيَالِىَ وَأَيَّامًا} أي : متى شئتم من الليالي والأيام حال كونكم {ءَامِنِينَ} أصل إلا من طمأنينة النفس وزوال الخوف أي : آمنين من كل ما تكرهونه من الأعداء واللصوص والسباع بسبب كثرة الخلق ومن الجوع والعطش بسبب عمارة المواضع لا يختلف إلا من فيها باختلاف الأوقات أو سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالي
285
وأياماً كثيرة أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَا سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَـاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَـاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (المباعدة والبعاد : از كسى دورشدن وكسى را دور كردن) والسفر خلاف الحضر وهو في الأصل كشف الغطاء وسفر الرجل فهو سافر وسافر خص بالمفاعلة اعتباراً بأن الإنسان قد سفر عن المكان والمكان سفر عنه ومن لفظ السفر اشتقت السفرة لطعام السفر ولما يوضع فيه من الجلد المستدير.
وقال بعضهم : وسمي السفر سفراً لأنه يسفر أي : يشكف عن أخلاق الرجال ويستخرج دعاوي النفوس ودفائنها.
قال أهل التفسير بطر أهل سبأ النعمة وسئموا طيب العيش وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل الثؤم والبصل مكان السلوى والعسل وقالوا : لو كان جني جناننا أبعد لكان أجدر أن نشتهيه وسألوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز وقفاراً ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا الأزواد ويتطاولوا فيها على الفقراء ، يعني : (توانكرانرا بردرويشان حسد آمدكه ميان ما وايشان در رفتن هي فرقى نيست ياده ومفلس اين راه همنان ميرودكه سواره وتوانكر {فَقَالُوا} س كفتند اغنياى ايشان اى روردكار ما دورى افكن ميان منازل سفرهاى ما يعني : بيابانها بديدكن ازمنزلى بمنزلي تامردم بى زاد وراحله سفر نتوانند كرد) فعجل لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة وجعلها بلقعاً لا يسمع فيها داع ولا مجيب وفي "المثنوي" :
آن سبا زاهل صبا بودند وخام
كار شان كفران نعمت باكرام
باشد آن كفران نعمت در مثال
كه كنى بامحسن خود توجنال
كه نمى بايد مرا اين نيكويى
من برنجم زين ه رنه ميشوى
لطف كن اين نيكويى را دوركن
من نخواهم عافيت رنجور كن
س سبا كفتند باعد بيننا
شيننا خير لنا خذ زيننا
ما نمى خواهيم اين ايوان وباغ
نى زنان خوب ونى امن وفراغ
شهرها نزديك همديكر بدست
(7/223)
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
آن بيانانست خوش كانجاد دست
يطلب الإنسان في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا انكرذا
فهو لا يرضى بحال ابداً
لا بضيق لا بعيش رغداً
قتل الإنسان ما اكفره
كلما نال هدى انكره
{وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} حين عرّضوها للسخط والعذاب بالشرك وترك الشكر وعدم الاعتداد بالنعمة وتكذيب الأنبياء {فَجَعَلْنَـاهُمْ أَحَادِيثَ} ، قال ابن الكمال : الأحاديث مبني على واحده المستعمل وهو الحديث كأنهم جمعوا حديثاً على أحدثة ثم جمعوا الجمع على الأحاديث أي : جعلنا أهل سبأ اخباراً وعظة وعبرة لمن بعدهم بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم {وَمَزَّقْنَـاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي : فرقناهم غاية التفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان وفي عبارة التمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي : مزقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه
286
بحيث تضرب به الأمثال في كل فرقة ليس بعدها وصال فيقال تفرقوا أيدي سبأ أي : تفرقوا تفرق أهل هذا المكان من كل جانب وكانوا قبائل ولدهم سبأ فتفرقوا في البلاد (تايكى ازايشان دومأرب نمايد قبيله غسان ازايشان بشام رفت وقضاعه بمكه واسد ببجرين وانمار بيثرب وجذام بتهامه وازد بعمان) {إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور من قصتهم {لايَـاتٍ} عظيمة ودلالات كثيرة وعبراً وحججاً واضحة قاطعة على الوحدانية والقدرة.
قال بعضهم جمع الآيات لأنهم صاروا فرقاً كثيرة كل منهم آية مستقلة {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} عن المعاصي ودواعي الهوى والشهوات وعلى البلايا والمشاق والطاعات {شَكُورٍ} على النعم الإلهية في كل الأوقات والحالات أو لكل مؤمن كامل لأن الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر (دركشف الأسرار آورده كه أهل سبا درخوش حال وفارغ بالى مى كذرانيدند بسبب بى صبرى بر عافيت وناشكرى برنعمت رسيد بديشان آنه رسيد) :
اى روزكار عافيت شكرت نكفتم لا جرم
دستى كه در آغوش بودا كنون بدندان مى كزم
وفي "المثنوي" :
ون زحد بردند اصحاب سبا
كه به يش ماوبابه از صباناصحانشان درنصيحت آمدند
ازفسوق وكفر مانع مى شدند
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
قصد خون ناصحان ميداشتند
تخم فسق وكافرى مى كاشتند
بهر مظلومان همى كندند اه
دره افتادند ومى كفتند آه
صبر آرد آرزورانى شتاب
صبر كن والله أعلم بالصواب قال بعض الكبار : إن طلب الدنيا وشهواتها هو طلب البعد عن الله وعن حضرته والميل إلى الدنيا والرغبة في شهواتها من خسة النفس وركاكة العقل وهو ظلم على النفس فمن قطعته الدنيا عن الحضرة جعله الله عبرة لأهل الطلب وأوقعه في وادي الهلاك فلا بد من الصبر عن الدنيا وشهواتها والشكر على نعمة العصمة وتوفيق العبودية جعلنا الله وإياكم من الراغبين إليه والمعتمدين عليه وعصمنا من الرجوع عن طريقه والضلال بعد إرشاده وتوفيقه إنه الرحمن الذي بيده القلوب وتقليبها من حال إلى حال وتصريفها كيف يشاء في الأيام والليالي.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} التصديق بالفارسية : (راستى يافتن) وضمير عليهم إلى أهل سبأ لتقدم ذكرهم والظاهر أنه راجع إلى الناس كما يشهد به ما بعده.
وإبليس مشتق من الإبلاس وهو الحزن المعترض من شدة اليأس كما في المفردات أبلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي انتهى والظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ومظنة الشيء بكسر الظاء موضع يظن فيه وجوده والمعنى وبالله لقد وجد إبليس ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات صادقاً {فَاتَّبَعُوهُ} أي : اتبع أهل سبأ الشيطان في الشرك والمعصية {إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} الفريق الجماعة المنفردة عن الناس ومن بيانية أي : إلا جماعة هم المؤمنون لم يتبعوه في أصل الدين وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار أو تبعيضية أي : إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون
287
أو وجد ظنه ببني آدم صادقاً فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين وذلك أنه حين شاهد آدم عليه السلام قد أصغى إلى وسوسته قال : إن ذريته أضعف منه عزماً ولذا قال : لأضلنهم.
وقال الكاشفي : (شيطان لعين كمان برده بودكه من بر بني آدم بسبب شهوت وغضب كه درنهاد ايشان نهاده اند دست يابم وايشانرا كمراه كنم كمان او درباره اهل غوايت راست شد) أو قال : أنا ناري وآدم طيني والنار تأكل الطين أو ظن عند قول الملائكة : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30).
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن إبليس لم يكن متيقناً أن يقدر على الإغواء والإضلال بل كان ظاناً بنفسه أنه يقدر على إغواء من لم يطع الله ورسوله فلما زين لهم الكفر والمعاصي وكانوا مستعدين لقبولها حكمةفي ذلك وقبلوا منه بعض ما أمرهم به على وفق هواهم وتابعوه بذلك صدق عليهم ظنه أي : وجدهم كما ظن فيهم ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
(7/224)
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
نه ابليس در حق ما طعنه زد
كز اينان نيايد بجز كار بد
فغان از بديها كه در نفس ماست
كه ترسم شود ظن ابليس راست
و ملعون سند آمدش قهرما
خدايش برانداخت از بهر ما
كجا سر برآ ريم ازين عاروننك
كه با او بصلحيم وباحق بجنك
نظر دوست نادر كند سوى تو
ودر روى دشمن بود روى تو
ندانى كه كمتر نهد دوست اى
و بيندكه دشمن بود درسراى
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَه عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّا وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ * قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّه لا يَمْلِكُونَ} .
{وَمَا كَانَ لَهُ} أي : لإبليس {عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـانٍ} السلطان القهر والغلبة ومنه السلطان لمن له ذلك أي : تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء وإلا فهو ما سل سيفاً ولا ضرب بعصا {إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ} استثناء مفرغ من أعم العلل ومن موصولة منصوبة بنعلم.
والعلم إدراك الشيء بحقيقته والعالم في وصف الله تعالى هو الذي لا يخفى عليه شيء والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما وفي نظم الصلة الأولى بالفعلية دلالة على الحدوث كما أن في نظم الثانية بالإسمية إشعاراً بالدوام وفي مقابلة الإيمان بالشك إيذان بأن أدنى مرتبة الكفر يوقع في الورطة وجعل الشك محيطاً وتقديم صلته والعدول إلى كلمة من مع أنه يتعدى بفي للمبالغة والإشعار بشدته وأنه لا يرجى زواله فإنه إذا كان منشأ الشك متعلقه لا أمراً غيره كيف يزول وأن من كان حاله على خلاف هذا يكون مرجوّ الفلاح.
والمعنى : وما كان تسلطه عليهم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزاً ممن هو في شك منها تعلقاً حالياً يترتب عليه الجزاء فعلم الله قديم وتعلقه حادث إذ هو موقوف على وجود المكلف في عالم الشهادة فلا يظن ظان بالله ظن السوء أن الله جل جلاله لم يكن عالماً بأهل الكفر وأهل الإيمان وإنما سلط عليهم إبليس ليعلم به المؤمن من الكافر فإن الله بكمال قدرته وحكمته خلق أهل الكفر مستعداً للكفر وخلق أهل الإيمان مستعداً للإيمان كما قال عليه السلام : "خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً" وقال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} فالله تعالى كان عالماً بحال الفريقين قبل خلقهم وهو الذي خلقهم على ما هم به وإنما سلط الله الشيطان على بني آدم لاستخراج
288
جواهرهم من معادن الإنسانية كما تسلط النار على المعادن لتخليص جوهرها فإن كان الجوهر ذهباً فيخرج منه الذهب وإن كان الجوهر نحاساً فيخرج منه النحاس فلا تقدر النار أن تخرج من معدن النحاس الذهب ولا من معدن الذهب النحاس فسلط عليهم لأنهم معادن كمعادن الذهب والفضة وهو ناري يستخرج جواهرهم من معادنهم بنفخة الوساوس فلا يقدر أن يخرج من كل معدن إلا ما هو جوهره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
درزمين كرنيشكر ورخودنى است
ترجمان هرزمين بنت وى است
وقال بعضهم : العلم هنا مجاز عن التمييز والمعنى إلا لتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها فعلل التسلط بالعلم والمراد ما يلزمه {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} محافظ عليه بالفارسية : (نكهبانست) فإن فعيلاً ومفاعلاً صيغتان متآخيتان.
وقال بعضهم : هو الذي يحفظ كل شيء على ما هو به.
والحفيظ من العباد من يحفظ ما أمر بحفظه من الجوارح والشرائع والأمانات والودائع ويحفظ دينه عن سطوة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان فإنه على شفا جرف هار وقد اكتنفته هذه الملكات المفضية إلى البوار.
قال بعض الحكماء الإلهية أسباب الحفظ الجد والمواظبة وترك المعاصي واستعمال السواك وتقليل النوم وصلاة الليل وقراءة القرآن نظراً وشرب العسل وأكل الكندر مع السكر وأكل إحدى وعشرين زبيبة حمراء كل يوم على الريق.
ومن خاصية هذا الاسم وهو الحفيظ أن من علقه عليه لو نام بين السباع ما ضرته ومن حفظ الله تعالى ما قال ذو النون رضي الله عنه وقعت ولولة في قلبي فخرجت إلى شط النيل فرأيت عقرباً يعدو فتبعته فوصل إلى ضفدع على الشط فركب ظهره وعبر به النيل فركبت السفينة واتبعته فنزل وعدا إلى شاب نائم وإذا بأفعى بقربه تقصده فتواثبا وتلادغا وماتا وسلم النائم.
قال إبراهيم الخواص قدس سره : كنت في طريق مكة فدخلت إلى خربة بالليلة وإذا فيها سبع عظيم فخفت فهتف بي هاتف اثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك وهذا من لطف الله بأوليائه فواحد يحفظ عليه أعماله ليجازيه وآخر يحفظه فيدفع عنه الآفات اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واحفظنا برأفتك التي لا ترام وارحمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت ثقتنا ورجاؤنا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
(7/225)
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{قُلْ} يا محمد للمشركين إظهاراً لبطلان ما هم عليه وتبكيتاً لهم {ادْعُوا} نادوا {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} .
قال في "القاموس" : الزعم مثلثة القول الحق والباطل والكذب ضد وأكثر ما يقال فيما يشك فيه.
وفي "المفردات" الزعم حكاية قول يكون مظنة الكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به والمعنى زعمتموهم آلهة وهما مفعولا زعم ثم حذف الأول وهو ضمير الراجع إلى الموصول تخفيفاً لطول الموصول بصلته والثاني وهو آلهة لقيام صفته أعني قوله : {مِن دُونِ اللَّهِ} مقامه والمعنى ادعوا الذين عبدوهم من دون الله فيما يهتمكم من جلب نفع ودفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم ثم أجاب عنه إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال بطريق الاستئناف لبيان حالهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} من خير وشر ونفع وضر وقد سبق معنى المثقال والذرة في أوائل هذه السورة
289
{فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الأرْضِ} أي : في أمر ما من الأمور وذكرهما للتعميم عرفاً يعني أن أهل العرف يعبرون بهما عن جميع الموجودات كما يعبرون بالمهاجرين والأنصار عن جميع الجماعة أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية {وَمَا لَهُمْ} أي : لآلهتهم {فِيهِمَآ} في السموات والأرض {مِن شِرْكٍ} أي : شركة لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً {مَالَهُ} أي : تعالى {مِنْهُمْ} من آلهتهم {مِّن ظَهِيرٍ} من عون يعينه في تدبير أمورهما.
تلخيصه أنه تعالى غني عن كل خلقه وآلهتهم عجزة عن كل شيء ، وفي "المثنوي" :
نيست خلقش را دكر كس مالكى
شر كتش دعوى كند جزهالكىذات او مستغنيست از ياورى
بلكه يابد عون ازو هر سرورى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّه لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَه مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ عِندَه إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَلا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ} وهي طلب العفو أو الفضل للغير من الغير يعني أن الشافع شفيع للمشفوع له في طلب نجاته أو زيادة ثوابه ولذا لا تطلق الشفاعة على دعاء الرجل لنفسه وأما دعاء الأمة للنبي عليه السلام وسؤالهم له مقام الوسيلة فلا يطلق عليه الشفاعة إما لاشتراط العلو في الشفيع وإما لاشتراط العجز في المشفوع له وكلاهما منتف ههنا {عِندَهُ} تعالى كما يزعمون أي : لا توجد رأساً لقوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} (البقرة : 5ذ2) وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها {إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي : لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أي : لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة وإما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم أصلاً وإن فرض وقوعها وصدورها عن الشفعاء إذ لم يأذن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرهم فعلى هذا يثبت حرمانهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النص ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حين حرموها من جهة القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها أولى {إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} التفزيع من الأضداد فإنه التخويف وإزالة الخوف والفزع وبالفارسية : (بترسانيدن واندوه وابردن) وهذا يعدي بعن كما في هذا المقام والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ولذا لا يقال فزعت من الله كما يقال خفت منه والمعنى حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم من المؤمنين وأما الكفرة فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف منزل وحتى غاية لما ينبىء عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع إلا لمن أذن له فإنه يشعر بالاستئذان المستدعي الترقب والاسنتظار للجواب كأنه سئل كيف يؤذن لهم فقيل : يتربصون في موقف الاستئذان والاستدعاء ويتوقفون على وجل وفزع زماناً طويلاً حتى إذا أزيل الفزع عن قلوبهم بعد اللتيا والتي وظهرت لهم تباشير الإجابة {قَالُوا} أي : المشفوع لهم إذ هم المحتاجون إلى الإذن والمهتمون بأمره {مَاذَآ} (ه يز) {قَالَ رَبُّكُمْ} أي : في شأن الإذن
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{قَالُوا} أي : الشفعاء لأنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون ، بينهم وبينه تعالى بالشفاعة {الْحَقِّ} أي : قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} من
290(7/226)
تمام كلام الشفعاء قالواه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزة وقصور شأن كل من سواه أي : هو المتفرد بالعلو والكبرياء شأناً وسلطاناً ذاتاً وصفة قولاً وفعلاً ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه.
قال بعضهم : العلي فوق خلقه بالقهر والاقتدار والعلي الرفيع القدر وإذا وصف به تعالى فمعناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين بل وعلم العارفين والعبد لا يتصور أن يكون علياً مطلقاً إذ لا ينال درجة إلا ويكون في الوجود ما هو فوقها وهي درجات الأنبياء والملائكة نعم يتصور أن ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقها وهي درجة نبينا عليه السلام ولكنه علو إضافي لا مطلق والتخلق بهذا الاسم بالجنوح إلى معالي الأمور والبعد عن سفسافها وفي الحديث : "إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها" وعن علي رضي الله عنه علو الهمة من الإيمان ، قال الصائب :
ون بسير لا مكان خود ميروم ازخويشتن
همو همت توسنى درزير زن داريم ما
وخاصية هذا الاسم الرفع عن أسافل الأمور إلى أعاليها فيكتب ويعلق على الصغير فيبلغ وعلى الغريب فيجمع شمله وعلى الفقير فيجد غنى بفضل الله تعالى.
وأما الكبير فهوالذي يحتقر كل شيء في جنب كبريائه.
وقيل في معنى الله أكبر أي : أكبر من أن يقال له أكبر أو يدرك كنه كبريائه غيره.
قال بعض الكبار معنى قول المصلي الله أكبر بلسان الظاهر الله أكبر أن يقيد ربي حال من الأحوال بل هو تعالى في كل الأحوال أكبر ومن عرف كبرياءه نسي كبرياء نفسه والكبير من العباد هو العالم التقي المرشد للخلق الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ولهذا قال عيسى عليه السلام : من علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء وخاصية هذا الاسم فتح باب العلم والمعرفة لمن أكثر من ذكره وإن قرأه على طعام وأكله الزوجان وقع بينهما وفق وصلح.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا كبير أنت الذي لا تهتدي العقول لوصف عظمته.
قال السهروردي : إذا أكثر منه المديان أدى دينه واتسع رزقه وإن ذكره معزول عن رتبته سبعة أيام كل يوم ألفاً وهو صائم فإنه يرجع إلى مرتبته ولو كان ملكاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَلا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ عِندَه إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُلِ اللَّه وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * قُل لا تُسْـاَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
{قُلْ مَنْ} استفهام بمعنى (كه) بالفارسية {يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ} بإنزال المطر {وَالارْضِ} بإخراج النبات أمر عليه السلام بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما وإن الرازق هو الله تعالى فإنهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى : (يونس : 31) وحيث كانوا يتلعثمون في الجواب مخافة الإلزام قيل له عليه السلام : {قُلِ اللَّهُ} يرزقكم إذ لا جواب سواه عندهم أيضاً.
اعلم أن الرزق قسمان : ظاهر وهو الأقوات والأطعمة المتعلقة بالأبدان وباطن وهو المعارف والمكاشفات المتعلقة بالأرواح وهذا أشرف القسمين فإنه ثمرته حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوة إلى مدة قريبة الأمد والله تعالى هو المتولي لخلق الرزق والمتفضل بالإيصال إلى كلا الفريقين ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفي الحديث : "طلب الحلال فريضة بعد الفريضة" أي : فريضة الإيمان والصلاة وفي الحديث : "من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة في قلبه" وفي الحديث : "إنملكاً على بيت المقدس ينادي كل ليلة من أكل حراماً لم يقبل منه صرف
291
ولا عدل" أي : نافلة وفريضة (وكفته اند ازباكى مطعم وحلالي قوت صفاى دل خيزد واز صفاى دل نور معرفت افزايد وبانور معرفت مكاشفات ومنازلات دريوندد) ، وفي "المثنوي" :
لقمه كان نور افزود وكمال
آن بود آورده از كسب حلال
روغنى كايد راغ ما كشد
آب خوانش ون راغى راكشد
علم وحكمت زايد ازلقمه حلال
عشق ورقت آيد از لقمه حلال
ون زلقمه توحسد بينى ودام
جهل رغفلت زايد آنرادان حرام
هي كندم كارى وجو بردهد
ديده اسبى كه كره خردهد
لقمه تخمست وبرش انديشها
لقمه بحر وكوهرش انديشها
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
زايد ازلقمه حلال اندر دهان
ميل خدمت عزم رفتن آن جهان(7/227)
{وَأَنَا} (وديكر بكو با يشان كه بدرستى ما) {أَوْ إِيَّاكُمْ} عطف على اسم أن يعني (باشما) {لَعَلَى هُدًى} (برراه راستيم) {أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (يادركمراهى آشكار) أي : وأن أحد الفريقين من الذين يوحدون المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية ويحصونه بالعبادة والذين يشركون به في العبادة الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين وهذا بعد ما سبق من التقرير البليغ الناطق بتعيين من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح بذلك لجريانه على سنن الإنصاف المسكت للخصم الألد ونحوه قول الرجل في التعريف لصاحبه الله يعلم أن أحدنا لكاذب ، يعني : (اين سخن نانست دوكس درخصومت باشند يكى محق ويكى مبطل محق كويد ازمايكى دروغ زنست نا ر ومقصد وى ازين سخن تكذيب مبطل باشد وتصديق خويش همانست كه رسول عليه السلام كفت متلاعنين را) الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ وأو ههنا لمجرد إبهام وإظهار نصفة لا للشك والتشكيك.
وقال بعضهم أو ههنا بمعنى الواو ، يعني : إنا وإياكم لعلى هدى إن آمنا أو في ضلال مبين إن لم نؤمن انتهى واختلاف الجارين للإيذان بأن الهادي الذي هو صاحب الحق كمن استعلى على مكان مرتفع ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب فرساً جواداً يركضه حيث يشاء والضال كأنه منغمس في ظلال لا يرى شيئاً ولا يدري أين يتوجه أو متردي في بئر عميق أو محبوس في مطمورة لا يستطيع الخروج منها.
{قُل لا تُسْـاَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} (الإجرام : جرم كردن) والجرم بالضم الذنب وأصله القطع واستعير لكل اكتساب مكروه كما في "المفردات" أي : فعلنا واكتسبنا من الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن {وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الكفر والكبائر بل كل مطالب بعمله وكل زرّاع يحصد زرعه لا زرع غيره :
برفتند وهركس درود آنه كشت†
وهذا أبلغ في الإنصاف وأبعد من الجدل والاعتساف حيث أسند فيه الإجرام وإن أريد به الزلة وترك الأولى إلى أنفسهم ومطلق العمل إلى المخاطبين مع أن أعمالهم أكبر الكبائر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يوم القيامة عند الحشر والحساب {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} (الفتح : كشادن وحكم كردن) أي : يحكم بيننا ويفصل بعد ظهور حال كل منا ومنكم بأن يدخل المحقين الجنة
292
والمبطلين والنار {وَهُوَ الْفَتَّاحُ} الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة أي : المشكلة {الْعَلِيمُ} بما ينبغي أن يقضي به وبمن يقضى له وعليه ولا يخفى عليه شيء من ذلك كما لا يخفى عليه ما عدا ذلك.
قال الزروقي الفتاح المتفضل بآإظهار الخير والسعة على أثر ضيق وانغلاق باب للأرواح والأشباح في الأمور الدنيوية والأخروية.
وقال بعض المشايخ : الفتاح من الفتح وهو الإفراج عن الضيق كالذي يفرج تضايق الخصمين في الحق بحكمه والذي يذهب ضيق النفس بخيره وضيق الجهل بتعليمه وضيق الفقر ببذله.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الفتاح هو الذي بعنايته ينفتح كل منغلق وبهدايته ينكشف كل مشكل فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ويخرجها من أيدي أعدائه ويقول : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه وجمال كبريائه ويقول : ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها ومن بيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق فبالأحرى أن يكون فتاحاً وينبغي أن يتعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية وأن يتيسر بمعونته ما تعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ليكون له حظ من اسم الفتاح.
وخاصية هذا الاسم تيسير الأمور وتنوير القلب والتمكين من أسباب الفتح فمن قرأه في أثر صلاة الفجر إحدى وسبعين مرة ويده على صدره طهر قلبه وتنور سره وتيسر أمره وفيه تيسير الرزق وغيره.
والعليم : مبالغة العالم وهو من قام به العلم ومن عرف أنه تعالى هو العالم بكل شيء راقبه في كل شيء واكتفى بعلمه في كل شيء فكان واثقاً به عند كل شيء ومتوجهاً له بكل شيء.
قال : ابن عطاء الله متى آلمك عدم إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك فارجع إلى علم الله فيك فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم.
وخاصية هذا الاسم تحصيل العلم والمعرفة فمن لازمه عرف الله حق معرفته على الوجه الذي يليق به.
وفي "شمس المعارف" من انبهم عليه أمر أو كشف سر من أسرار الله فليدم عليه فإنه يتيسر له ما سأل ويعرف الحكمة فيما طلب وإن أراد فتح باب الصفة الإلهية فتح له باب من العلم والعمل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/228)
{قُلْ أَرُونِىَ} (بنماييد بمن) {الَّذِينَ أَلْحَقْتُم} أي : ألحقتموهم ، يعني : (بربسته آيد).
قال في "تاج المصادر" : (الإلحاق : در رسيدن ودر رسانيدن) {بِهِ} تعالى {شُرَكَآءَ} أريد بأمرهم إراءة الأصنام مع كونها بمرأى منه عليه السلام إظهار خطأهم العظيم واطلاعهم على بطلان رأيهم أي : أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء مع استحقاق العبادة هل يخلقون وهل يرزقون وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم {كَلا} ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة كما قال إبراهيم عليه السلام أف لكم ولما تعبدون بعدما حجهم يعني : (اين انبازى درست نيست) {بَلْ هُوَ} أي : الله وحده أو الشان كما قال : {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي : الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة فأين شركاؤكم التي هي أخس الأشياء وأذلها من هذه الرتبة العالية ، يعني : (بس كه با اودم شركت تواندزد وحده لا شريك له صفتش وهو الفرد اصل معرفتش شرك راسوى وحدتش ده نه عقل از كنه ذاتش آكه نه هست درراه كبريا وجلال شرك نا لائق وشريك محال).
والتقرب باسم العزيز في التمسك
293
بمعناه وذلك برفع الهمة عن الخلائق فإن العز فيه ومن ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله تعالى وأعزه فلم يحوجه لأحد من خلقه.
وفي الأربعين الإدريسية يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله.
قال السهروردي : من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً هلك خصمه وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده فإنهم ينهزمون والتقرب باسم الحكيم أن تراعي حكمته في الأمور فتجري عليها مقدماً ما جاء شرعاً ثم عادة سلمت من معارض شرعي.
وخاصيته دفع الدواهي وفتح باب الحكمة فمن أكثر ذكره صرف عنه ما يخشاه من الدواهي وفتح له باب من الحكمة والحكمة في حقنا إصابة الحق في القول والعمل وفي حق الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام.
قال بعضهم : الحكمة تقال بالاشتراك على معنيين : الأول كون الحكيم بحيث يعلم الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر.
والثاني كونه بحيث تصدر عنه الأفعال المحكمة الجامعة وقد سبق باقي البيان في تفسير سورة لقمان ومن الله العون على تحصيل العلم والاجتهاد في العمل ومعرفة الأشياء على ما هي عليه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ} يا محمد أي : ما بعثناك ، والإرسال بالفارسية : (فرستادن) {إِلا} إرسالاً {كَآفَّةً} عامة شاملة {لِلنَّاسِ} محيطة باحمرهم واسودهم من الكف بمعنى المنع لأنها إذا عمتهم وشملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم فانتصاب كافة على أنها صفة مصدر محذوف والتاء للتأنيث والجار متعلق بها ويجوز أن تكون حالاً من الكاف والتاء للمبالغة كتاء علامة أي : ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك جامعاً لهم في الإبلاغ لأن الكف يلزم الجمع.
وفي "كشف الأسرار" : الكافة هي الجامعة للشيء المانعة له عن التفرق ومنه الكفاف من العيش وقولك كف يدك أي : اجمعها إليك ولا يجوز أن يكون حالاً من الناس لامتناع تقدم الحال على صاحبها المجرور كامتناع تقدم المجرور على الجار.
قال الراغب : وما أرسلناك إلا كافاً لهم عن المعاصي والتاء فيه للمبالغة انتهى {بَشِيرًا} حال كونك بشيراً بالفارسية (مده دهنده) للمؤمنين بالجنة وللعاشقين بالرؤية {وَنَذِيرًا} وحال كونك منذراً بالفارسية (بيم كننده) للكافرين بالنار وللمنكرين بالحجاب {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ذلك فيحملهم جهلهم على المخالفة والعصيان وكرر ذكر الناس تخصيصاً للجهل بنعمتي البشارة والنذارة ونعمة الرسالة بهم وأنهم هم الذين لا يعلمون فضل الله بذلك عليهم ولا يشكرونه وذلك لأن العقل لا يستقل بإدراك جميع الأمور الدنيوية والأخروية والتمييز بين المضار والمنافع فاحتاج الناس إلى التبشير والإنذار وبيان المشكلات من جهة أهل الوحي.
قال صاحب "كشف الأسرار" (صديق صديقان عالم كرد شراك نعلين اكران وى بود وبيكانكان منكران اورا كاذب ميكفتند صداى وحى غيب عاشق سمع عزيز وى بود اورا كاهى ميخواندند عقول همه عقول عقلاء عالم از ادراك نور شراك غرا وعاجز بود وكافران نام او ديوانه نهادند آرى ديدهاى ايشان بحكم لطف ازل توتياى صدق نيافته وبشمهاى ايشان كحل اقبال حق نرسيده وازآنست كه اورا نشناختند).
ودلت الآية على عموم رسالته وشمول بعثته وفي الحديث"فضلت على الأنبياء
294
(7/229)
بست أعطيت جوامع الكلم" وهي ما يكون ألفاظه قليلة ومعانيه كثيرة "ونصرت بالرعب" يعني نصرني الله بإلقاء الخوف في قلوب أعطائي "من مسيرة شهر بيني وبينهم" وجعل الغاية شهراً لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه المحاربين له أكثر من شهر "وأحلت لي الغنائم" يعني أن من قبله من الأمم كانوا إذا غنموا الحيوانات تكون ملكاً للغانمين دون الأنبياء فخص نبينا عليه السلام بأخذ الخمس والصفي وإذا غنموا غيرها من الأمتعة والأطعمة والأموال جمعوه فتجيىء نار بيضاء من السماء فتحرقه حيث لا غلول وخص هذه الأمة المرحومة بالقسمة بينهم كأكل لحم القربان فإن الله أحله لهم زيادة في أرزاقهم ولم يحله لمن قبلهم من الأمم "وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً" يعني : أباح الله لأمتي الصلاة حيث كانوا تخفيفاً لهم وأباح التيمم بالتراب عند فقد الماء ولم يبح الصلاة للأمم الماضية إلا في كنائسهم ولم يجز التطهر لهم إلا بالماء "وأرسلت إلى الخلق كافة" أي : في زمنه وغيره ممن تقدم أو تأخر بخلاف رسالة نوح عليه السلام فإنها وإن كانت عامة لجميع أهل الأرض لكنها خصت بزمانه.
قال في "إنسان العيون" : والخلق يشتمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر.
قال الجلال السيوطي : وهذا القول أي : إرساله للملائكة رجحته في كتاب "الخصائص" : وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة ورجحه أيضاً البارزي وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات وزيد على ذلك أنه مرسل إلى نفسه وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم الحافظ العراقي والجلال المحلي وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي فيه الإجماع فيكون قوله عليه السلام : "أرسلت إلى الخلق كافة" وقوله تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان : 1) من العام المخصوص ولا يشكل عليه حديث سلمان رضي الله عنه إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده لأنه يجوز أن يكون ذلك صادراً عن بعثته إليهم.
يقول الفقير دل كونه أفضل المخلوقات على عموم بعثته لجميع الموجودات ولذا بشر بمولده أهل الأرض والسماء وسلموا عليه حتى الجماد بفصيح الأداء فهو رحمة للعالمين ورسول إلى الخلق أجمعين ، قال حضرة الشيخ العطار قدس سره :
داعى ذرات بود آن اك ذات
در كفش تسبيح ازان كفتى حصات
قال بعضهم :
ترا دادند منشور سعادت
وزان س نوع انسان آفريدند
رى را جمله درخيل تو كردند
س آنكاهى سليمان آفريدند
وختم به النبيون أي : فلا نبي بعده ولا مشرعاً ولا متابعاً كما بين في سورة الأحزاب.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن إرسال ماهية وجودك التي عبرت عنها مرة بنوري وتارة بروحي من كتم العدم إلى عالم الوجود لم يكن منا إلا لتكون بشيراً ونذيراً للناس كافة من أهل الأولين والآخرين والأنبياء والمرسلين وإن لم يخلقوا بعد لاحتياجهم لك من بدء الوجود في هذا الشأن وغيره إلى الأبد كما قال صلى الله عليه وسلّم "الناس محتاجون إلى شفاعتي حتى أبى
295
(7/230)
إبراهيم" فأما في بدء وجودهم فالأرواح لما حصلت في عالم الأرواح بإشارة كن تابعة لروحك احتاجت إلى أن تكون لها بشيراً ونذيراً لتعلقها بالأجسام لأنها علوية بالطبع لطيفة نورانية والأجسام سفلية بالطبع كثيفة ظلمانية لا تتعلق بها ولا تميل إليها لمضادة بينهما فتحتاج إلى بشير يبشرها بحصول كمال لها عند الاتصال بها لترغب إليها وتحتاج إلى نذير ينذرها بأنها إن لم تتعلق بالأجسام تحرم من كمالها وتبقى ناقصة غير كاملة كمثل حبة فيها شجرة مركوزة بالقوة فإن تزرع وترب بالماء تخرج الشجرة من القوة إلى الفعل إلى أن تبلغ كمال شجرة مثمرة فالروح بمثابة الأكار المربى فبعد تعلق الروح بالقالب واطمئنانه واتصافه بصفته يحتاج إلى بشير بحسب مقامه يبشره بنعيم الجنة وملك لا يبلى ثم يبشره بقرب الحق تعالى ويشوقه إلى جماله ويعده بوصاله ونذير ينذره أولاً بنار جهنم ثم يوعده بالبعد عن الحق ثم بالقطيعة والهجران وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات منبتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلّم وهو ثمرة هذه الشجرة من جميع الأنبياء والمرسلين وهم وإن كانوا ثمرة هذه الشجرة أيضاً ولكن وجدوا هذه المرتبة بتبعيته كما أنه من بذر واحد يظهر على الشجرة ثمار كثيرة بتبعية ذلك البذر الواحد فيجد كل بشير ونذير فرعاً لأصل بشيريته ونذيريته والذي يدل على هذا التحقيق قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) دخلت شجرات الموجودات كلها تحت الخطاب وبقوله : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} يشير إلى أن أكثر الناس الذين هم أجزاء وجود الشجرة وما وصلوا إلى رتبة الثمرية لا يعلمون حقيقة ما قررنا لأن أحوال الثمرة ليست معلومة للشجرة إلا لثمرة مثلها في وصفها لتكون واقفة بحالها :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
نداند آدم كامل جز آدم†
{وَيَقُولُونَ} أي : المشركون من فرط جهلهم وغاية غيهم مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين به بطريق الاستهزاء {مَتَى} (كى باشد) {هَـاذَا الْوَعْدُ} المبشر به والمنذر عنه يعني الجنة والنار {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في دعوى الوقوع والوجود.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَـاْخِرُونَ} .
{قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ} أي : وعد يوم وهو يوم البعث مصدر ميمي {لا تَسْتَـاْخِرُونَ عَنْهُ} أي : عن ذلك الميعاد عند مفاجأته فالجملة صفة للميعاد {سَاعَةِ} (مقدار اندك اززمان) {وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} (الاستئخار : س شدن.
والاستقدام : يش شدن) وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد ما لا يخفى حيث جعل الاستئخار في الاستحالة كالاستقدام الممتنع عقلاً.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أرباب الطلب واستعجالهم فيما وعدوهم من رتبة الثمرية يعني متى نصل إلى الكمال معلوماً لإدراكها وبلوغها إلى كمالها كذلك لكل سالك وقت معلوم لبلوغه إلى رتبة كماله كما قال تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف : 15) ولهذا السر قال تعالى مع حبيبه عليه السلام {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف : 35) هذا يشير إلى أن لنيل كل مقام صبراً مناسباً لذلك المقام كما أن النبي عليه السلام لما كان من أولي العزم من الرسل أمر بصبر أولي العزم من الرسل كما قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره :
296
صبر آرد آرزورانى شتاب
صبر كن والله أعلم بالصواب
{قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَـاْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِى} .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : كفار قريش {لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْءَانِ} الذي ينزل على محمد {وَلا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي : ولا بما نزل قبله من الكتب القديمة الدالة على البعث كالتوراة والإنجيل.
قال في "كشف الأسرار" (شمى كه مستعمل شده مملكته شيطان باشد مارا ون شناسد.
دلى كه ملوث تصرف ديو بود ازكجا جلال عزت قرآن بداند.
دلى بايد بضمان امان وحرم كرم حق ناه يافته تا راه بر رسالت ونبوت ما برد.
شمعى بايد بزلال اقبال ازل شسته تا جلال عزت قرآن اورا بخود راه دهد.
ديده بايد از رمص كفر خلاص يافته واز خواب شهوت بيدارشده تا معجزات وآيات ما بيند ودريابد.
اى جوانمرد هركه جمالى ندارد كه باسلطان نديمى كند ه كند تا كلخانيانرا حريقى نكند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
در مصطبها هميشه فراشم من
شايسته صومعه كجا باشم من
هر ند قلندرى وقلاشم من
تخمى باميد درد مى اشم من
(7/231)
{وَلَوْ تَرَى} يا محمد او يا من يليق بالخطاب {إِذِ الظَّـالِمُونَ} المنكرون للبعث لأنهم ظلموا بأن وضعوا الإنكار موضع الإقرار {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} أي : محبوسون في موقف المحاسبة على أطراف أناملهم وجواب لو محذوف أي : لرأيت أمراً فظيعاً شنيعاً تقصر العبارة عن تصويره يعني : (هرآينه به بينى امرى صعب وكارى دشوار) وإنما دخلت لو على المضارع مع أنها للشرط في الماضي لتنزيله منزلة الماضي لأن المترقب في أخبار الله كالماضي المقطوع به في تحقق وقوعه أو لاستحضار صورة الرؤية ليشاهدها المخاطب {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ} أي : يرد من رجع رجعاً بمعنى رد {إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي : يتحاورون ويتراجعون القول ويتجاذبون أطراف المجادلة وبالفارسية : (محاوره ميكنند سخن برهم ميكردانند وجواب ميكويند) ثم أبدل منه قوله : {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} (الاستضعاف : ضعيف شمردن) أي : يقول الاتباع الذين عدوا ضعفاء وقهروا وبالفارسية : (زبون وبياره كرفتكان) {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} (سر كشى ميكردند دردنيا) أي : للرؤساء الذين بالغوا في الكبر والتعظم عن عبادة الله وقبول قوله المنزل على أنبيائه واستتبعوا الضعفاء في الغي والضلال {لَوْلا أَنتُمْ} أي : لولا إضلالكم وصدكم لنا عن الإيمان {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي : أنتم منعتمونا من الإيمان واتباع الرسول كأنه قيل فماذا قال الذين استكبروا فقيل :
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْه وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَه أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} منكرين لكونهم الصادين لهم عن الإيمان مثبتين ذلك لأنفسهم أي : المستضعفين {أَنَحْنُ} (آياما) {صَدَدْنَـاكُمْ} منعناكم وصرفناكم {عَنِ الْهُدَى} (ازقبول ايمان وهدايت) {بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ} أي : الهدى أي : لم نصدكم عنه كقولك ما أنا أقلت هذا تريد لم أقله مع أنه مقول لغيري فإن دخول همزة الاستفهام الإنكاري على الضمير يفيد نفي الفعل عن المتكلم وثبوته لغيره كما قال : {بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} في الإجرام فبسبب ذلك صددتم أنفسكم عن الإيمان وآثرتم التقليد وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبب عداوة في الآخرة وتبرى بعضهم من بعض.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} مجيبين {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}
297
عطف على الجملة الاستئنافية وإضراب على إضرابهم وإبطال له {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة أي : بل صدّنا مكركم بنا في الليل والنهار وحملكم إيانا على الشرك والأوزار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعاً يعني اتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به كقوله : "يا سارق الليلة أهل الدار" أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين مجازاً {إِذْ تَأْمُرُونَنَآ} ظرف للمكر أي : بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا {أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَه أَندَادًا} نقول له شركاء على أن المراد بمكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر كما في قوله تعالى : يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنابِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} فإن الجعلين المذكورين نعمة من الله أي : نعمة وإما أمور أخر مقارنة للأمر داعية إلى الامتثال به والترغيب والترهيب ونحو ذلك {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} الندامة التحسر في أمر فائت أي : أضمر الفريقان الندامة على ما فعلا من الضلال والإضلال حين ما نفعتهم الندامة وأخفاها كل منهما عن الآخر مخافة التعيير وهو بالفارسية : (سرزنش كردن) أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته وهو المناسب لحالهم
جزء : 7 رقم الصفحة : 258(7/232)
{وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} يقال في رقبته غل من حديد أي : قيد وطوق وأصل الغل توسط الشيء ومنه الغل للماء الجاري خص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه كما في "المفردات" والمعنى : ونجعل الأغلال يوم القيامة في أعناق الذين كفروا بالحق لما جاءهم في الدنيا من التابعين والمتبوعين وإيراد المستقبل بلفظ الماضي من جهة تحقق وقوعه والإظهار في موضع الإضمار حيث لم يقل في أعناقهم للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب إغلالهم {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : لا يجزون إلا جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي وإلا بما كانوا يعملونه على نزع الجار فلما قيدوا أنفسهم في الدنيا ومنعوها عن الإيمان بتسويلات الشيطان الجني والإنسي جوزوا في الآخرة بالقيد.
وفي الفروع وكره جعل الغل في عنق عبده لأنه عقوبة أهل النار.
قال القهستاني : الغل الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس انتهى وهو معتاد بين الظلمة.
وقال الفقيه : إنه في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الأباق كما في "الكبرى".
ولا يكره أن يجعل قيداً في رجل عبده لأنه سنة المسلمين في السفهاء وأهل الفساد فلا يكره في العبد إذ فيه تحرز عن أباقه وصيانة لماله وحل ربطه بالحبل ونحوه.
[
قال في "نصاب الاحتساب" : وأما ما اعتاده أهل الحسبة في إطاقة السوقيين بعد تحقق جنايتهم وخيانتهم فأصله ما ذكر في أدب القاضي للخصاف أن شاهد الزور يطاق به أي : يجعل في عنقه الطوق وهو ما يقال له بالفارسية (تخته كله) ويجوز أن تكون الإطاقة بالفاء وذلك للتشهير بين الناس.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَه أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} .
{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} من القرى بالفارسية : (نفرستاديم درهي ديهى وشهرى).
قال في "كشف الأسرار" : القرية المصر تقرى أهلها وتجمعهم {مِّن نَّذِيرٍ} نبي ينذر أهلها بالعذاب {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ} المترف كمكرم المتنعم والموسع العيش والنعمة من الترفة بالضم وهو التوسع في النعمة يقال أترفه نعمه وأترفته النعمة أطغته أي : قال رؤساء تلك القرية المتكبرون المتنعمون بالدنيا لرسلهم {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ} على زعمكم من التوحيد
298
والإيمان {كَـافِرُونَ} منكرون على مقابلة الجمع بالجمع.
وهذه الآية جاءت لتسلية النبي عليه السلام أي : يا محمد هذه سيرة أغنياء الأمم الماضية فلا يهمك أمر أكابر قومك فتخصيص المتنعمين بالتكذيب مع اشتراك الكل فيه إما لأنهم المتبوعين أو لأن الداعي المعظم إلى التكذيب والإنكار هو التنعم المستتبع للاستكبار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَقَالُوا} أي : الكفار المترفون للفقراء المؤمنين فخراً بزخارف الدنيا وبما هو فتنة لهم {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا} منكم في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} في الآخرة على تقدير وقوعها لأن المكرم في الدنيا لا يهان في الآخرة.
{قُلْ} يا محمد رداً عليهم {إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ويوسعه {لِمَن يَشَآءُ} أن يبسطه له ويوسعه من مؤمن وكافر {وَيَقْدِرُ} أي : يضيق على من يشاء أن يقدره عليه ويضيقه من مؤمن وكافر حسب اقتضاء مشيئته المبنية على الحكم البالغة فلا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها فليس في التوسيع دلالة على الإكرام كما أنه ليس في التضييق دلالة على الإهانة وفي الحديث : "الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر".
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وهم أهل الغفلة والخذلان {لا يَعْلَمُونَ} حكمة البسط والقدر فيزعمون أن مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار القدر هو الذل والهوان ولا يدرون أن الأول كثيراً ما يكون بطريق الاستدراج والثاني بطريق الابتلاء ورفع الدرجات قال الصائب :
نفس را بدخو بناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان سير كاهل ميكند مزدور را(7/233)
{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـاتِنَا مُعَـاجِزِينَ أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَمَآ} (ونيست) {أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم} كلام مستأنف من جهته تعالى مبالغة في تحقيق الحق أي : وما جماعة أموالكم وأولادكم أيها الناس {بِالَّتِى} بالجماعة التي فان الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي فيكون تأنيث الموصول باعتبار تأنيث الصفة المحذوفة {تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} نصب مصدراً بتقربكم كأنبتكم من الأرض نباتاً والزلفى والزلفة والقربى والقربة بمعنى واحد.
وقال الأخفش : زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريباً {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى} استثناء من مفعول تقربكم أي : وما الأموال والأولاد تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله وعلم أولاده الخير ورباهم على الصلاح والطاعة أو من مبتدأ خبره ما بعده كما في "الكواشي" فيكون الاستثناء منقطعاً كما في "فتح الرحمن" فأولئك المؤمنون العاملون ثابت {لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ} على أن الجار والمجرور خبر لما بعده والجملة خبر لأولئك وإضافة الجزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف ومعناه أن يضاعف لهم الواحدة من حسناتهم عشراً فما فوقها إلى سبعمائة إلى ما لا يحصى {بِمَا عَمِلُوا} بسبب ما عملوا من الصالحات {وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ} أي : غرفات الجنة وهي قصورها ومنازلها الرفيعة جمع غرفة وهي البيت فوق البناء يعني كل بناء يكون
299
علواً فوق سفل {ءَامِنُونَ} من جميع المكاره والآفات كالموت والهرم والمرض والعدو وغير ذلك.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا تستحق الزلفى عند الله بالمال والأولاد مما زين للناس حبه وحب غير الله يوجب البعد عن الله كما قال صلى الله عليه وسلّم "حبك الشيء يعمي ويصم" يعني يعميك عن رؤية غيره ويصمك عن دعوة غيره وهذا أمارة كمال البعد فإن كمال البعد يورث العمى والصمم ولكن من موجبات القربة الأعمال الصالحة والأحوال الصافية والأنفاس الزكية بل العناية السابقة والهداية اللاحقة والرعاية الصادقة فأهل هذه الأسباب هم أهل الدرجات والأمن من الهجران والقطيعة وأما المنقطعون عن هذه الأسباب المفتخرون بما لا ينفع يوم الحساب وهم أهل الغفلات والدعوى والترهات فلهم الدركات والخوف الغالب في جميع الحالات قال الصائب :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
نميدانند اهل غفلت انجام شراب آخر
بآتش مى روند اين غافلان ازراه آب آخر
قال ابراهيم بن أدهم قدس سره لرجل : أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة قال : دينار في اليقظة فقال : كذبت لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة.
ودخل عمل بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم في داره فوجده في بيت منخفض السطح وقد أثر في جنبه الحصير فقال : ما هذا؟ قال : "يا عمر أما تأثير الحصير في جنبي فحبذا خشونة بعدها لين وأما السطح فسطح القبر يكون أخفض من هذا فنحن تركنا الدنيا لأهلها وهم تركوا لنا الآخرة وما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ثم راح وتركها" فالعاقل من لم يغتر بزينة الدنيا ويسعى إلى مرضاة المولى.
هركه كوته كند بدنيا دست
ر بر آرد و جعفر طيار
فالأولى أن يأخذ الباقي ويترك الفاني.
ـ حكي ـ أن سلطاناً كان يحب واحداً من وزرائه أكثر من غيره فحسدوه وطعنوا فيه فأراد السلطان أن يظهر حقيقة الحال فأضافهم في دار مزينة بأنواع الزينة ثم قال : ليأخذ كل منكم ما أعجبه في الدار فأخذ كل منهم ما أعجبه من الجواهر والمتاع وأخذ الوزير المحسود السلطان وقال : ما أعجبني إلا أنت فالإنسان لم يجيىء إلى هذه الدار المزينة إلا للامتحان فإنه كالعروس وهي لا تلتفت إلى ما ينثر عليها فإن التفتت فمن دناءة الهمة ونقصان العقل فاليوم يوم الفرصة وتدارك الزاد لسفر المعاد.
ازرباط تن و بكذشتى دكر معموره نيست
زاد راهى برنمى دارى ازين منزل را
نسأل الله سبحانه أن يقطع رجاءنا من غيره مطلقاً ويجعل عزمنا إليه صدقاً وإقبالنا عليه حقاً.
(7/234)
{وَالَّذِينَ} هم كفار قريش {يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـاتِنَا} القرآنية بالرد والطعن فيها ويجتهدون في إبطالها حال كونهم {مُعَـاجِزِينَ} ظانين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا فلا يكون لهم مؤاخذة بمقابلة ذلك.
قال في "تاج المصادر" (المعاجزة : بركسى يشى كرفتن در كارى) وقد سبق في أوائل السورة {أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} من الإحضار وهو بالفارسية : (حاضر كردن) أي : مدخلون لا يغيبون عنه ولا ينفعهم ما اعتمدوا عليه.
وفي "التأويلات النجمية" :
300
هم الذين لا يحترمون الأنبياء والأولياء ولا يرعون حق الله في السر فهم في عذاب الاعتراض عليهم وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله ثم في عذاب السقوط من عين الحق ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
ون خدا خواهدكه رده كس درد
ميلش اندر طعنه اكان برد
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـاتِنَا مُعَـاجِزِينَ أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ} .
{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي : يوسعه عليه تارة {وَيَقْدِرُ لَه} أي : يضيقه عليه تارة أخرى ابتلاء وحكمة فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرار {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ} ما موصولة بمعنى الذي وبالفارسية : (آنه) مبتدأ خبره قوله {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أو شرطية بمعنى أي : شيء وبالفارسية : (هره) نصب بقوله انفقتم ومن شيء بيان له وجواب الشرط قوله فهو يخلفه (والإنفاق : نفقه كردن) يقال نفق الشيء مضى ونفد إما بالبيع نحو نفق البيع نفاقاً وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقاً وإما بالفناء نحو نفقت الدراهم تنفق وأنفقتها (والإخلاف : بدل بازدادن ازمال وفرزند) يقال اخلف الله له وعليه إذا أبدل له ما ذهب عنه والمعنى الذي أو أي : شيء أنفقتم في طاعة الله وطريق الخير والبر فالله تعالى يعطي خلفاً له وعوضاً منه إما في الدنيا بالمال أو بالقناعة التي هي كنزل لا يفنى وإما في الآخرة بالثواب والنعيم أو فيهما جميعاً فلا تخشوا الفقر وانفقوا في سبيل الله وتعرضوا لالطاف الله عاجلاً أو آجلاً.
وفي "التأويلات النجمية" : وما أنفقتم من شيء من الموجودات أو الوجود فهو يخلفه من الموجود الفاني بالموجود الباقي ومن الوجود المجازي بالوجود الحقيقي فمن الخلف في الدنيا الرضى بالعدم والفقر صورة ومعنى وهو أتم من السرور بالموجود والوجود.
افتد هماى دولت اكر دركمندما
ازهمت بلند رها ميكنيم ما
{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي : خير من أعطى الرزق فإن غيره كالسلطان والسيد والرجل بالنسبة إلى جنده وعبده وعياله واسطة في إيصال رزقه ولا حقيقة لرازقيته والله تعالى يعطي الكل من خزائن لا تفنى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه خير المنفقين لأن خيرية المنفق بقدر خيرية النفقة فما ينفق كل منفق في النفقة فهو فان وما ينفق الله من نفقة ليخلفه بها فهي باقية والباقيات خير من الفانيات انتهى.
قال في "بحر العلوم" لما كانت إقامة مصالح العباد من أجل الطاعات وأشرف العبادات لأنها من وظيفة الأنبياء والصالحين دلهم الله في الآية على طرف منها حثاً عليها كما قال عليه السلام حثاً لأمته عليها : "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله" قال العسكري : هذا على التوسع والمجاز كأن الله تعالى لما كان المتضمن لأرزاق العباد والكافل بها كان الخلق كالعيال له وفي الحديث : "إنأملاكاً خلقهم كيف يشاء وصورهم على ما يشاء تحت عرشه ألهمهم أن ينادوا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في كل يوم مرتين ألا من وسع على عياله وجيرانه وسع الله عليه في الدنيا والآخرة ألا من ضيق ضيق الله عليه ألا إن الله قد أعطاكم لنفقة درهم على عيالكم خير من سبعين قنطاراً" والقنطار كجبل أحد وزناً "أنفقوا ولا تخشوا ولا تضيقوا ولا تقتروا وليكن أكثر نفقتكم يوم الجمعة" وفي الحديث : "كل معروف صدقة" وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له به صدقة
301
وما وقى الرجل به عرضه كتب له به صدقة" ومعنى كل معروف صدقة أن الإنفاق لا ينحصر في المال بل يتناول كل بر من الأموال والأقوال والأفعال والعلوم والمعارف وإنفاق الواصلين إلى التوحيد الحقاني والمعرفة الذاتية أفضل وأشرف لأن نفع الأموال للأجساد ونفع المعارف للقلوب والأرواح ومعنى ما وقى به عرضه ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقى وفي الحديث : "إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة" وفي الحديث : "ينادي منادٍ كل ليلة لا دواء للموت وينادي آخر ابنوا للخراب وينادي منادٍ هب للمنفق خلفاً وينادي مناد هب للممسك تلفاً" قال الحافظ :
أحوال كنج قارون كايام داد برباد
باغنه باز كوييد تازرنهان ندارد
وفي المثنوي :
آن درم دادن سخى را لايقست
جان سردن خودسخاى عاشقستنان دهى ازبهر حق نانت دهند(7/235)
جان دهى از بهر حق جانت دهند
هركه كارد كردد انبارش تهى
ليكش اندر مزرعه باشد بهى
وانكه در انبار ماند وصرفه كرد
اشش وموش وحوادثهاش خورد
جمله در بازار زان كشتند بند
تاه سود افتاد مال خود دهند وفي الحديث "يؤجر ابن آدم في نفقته كلها إلا شيئاً وضعه في الماء والطين".
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوي في شرح هذا الحديث : اعلم أن صور الأعمال أعراض جواهرها مقاصد العمال وعلومهم واعتقاداتهم ومتعلقات هممهم وهذا الحديث وإن كان من حيث الصيغة مطلقاً فالأحوال والقرائن تخصصه وذلك أن بناء المساجد والرباطات ومواضع العبادات يؤجر الباني لها عليها بلا خلاف فالمراد بالمذكور هنا إنما هو البناء الذي لم يقصد صاحبه إلا التنزه والانفساح والاستراحة والرياء والسمعة وإذا كان كذلك فمطمح همة الباني ومقصده لا يتجاوز هذا العالم فلا يكون لبنائه ثمرة ونتيجة في الآخرة لأنه لم يقصد بما فعله أمراً وراء هذه الدار فأفعاله أعراض زائلة لا موجب لتعديها من هنا إلى الآخرة فلا أثمار لها فلا أجر انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
اعلم أن العلماء تكلموا في الإنفاق والظاهر أنه بحسب طبقات الناس.
فمنهم من ينفق جميع ما ملكه توكلاً على الله تعالى كما فعله الصديق لقوة يقينه.
ومنهم من ينفق بعضه ويمسك بعضه لا للتنعم بل للإنفاق وقت الحاجة.
ومنهم من يقتصر على أداء الواجب.
قال الغزالي رحمه الله : الاكتفاء بمجرد الواجب حد البخلاء فلا بد من زيادة عليه لو شئت يسيراً فبين هذه الطبقات تفاوت في الدرجات وقد أسلفنا الكلام على الإنفاق في أواخر سورة الفرقان فارجع إليه واعتمد عليه جعلنا الله وإياكم من أهل البذل والإحسان بلا إمساك وادّخار وأخلف خيراً مما أنفقنا فإن خزائنه لا تفنى وبحر جوده زخار وهو المعطي المفيض كل ليل ونهار.
{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ لَه وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه وَهُوَ خَيْرُ الراَّزِقِينَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَـاؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّا أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} .
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي : واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر الله أي : يجمع المستكبرين والمستضعفين وما كانوا يعبدون من دون الله حال كونهم {جَمِيعًا} مجتمعين لا يشذ أحد منهم.
وقال بعضهم : هؤلاء المحشورون بنوا مليح من خزاعة كانوا يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله
302
لذلك سترهم.
فإن قلت : لِمَ لم يقولوا ذلك في حق الجن مع أنهم مستورون أيضاً عن أعين الناس؟ قلت : لأن الملائكة سماوية والجن أرضية وهم اعتقدوا أن الله تعالى في السماء {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة} توبيخاً للمشركين العابدين وإقناطاً لهم من شفاعتهم كما زعموا {أَهَـاؤُلاءِ} أي : الكفار وبالفارسية : (آيا اين كروه اندكه) {إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} في الدنيا وإياكم نصب بيعبدون وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم بطريق الأولوية.
{قَالُوا} متنزهين عن ذلك وهو استئناف بياني {سُبْحَـاـنَكَ} تنزيهاً عن الشرك.
وفي "كشف الأسرار" (اكى ترا است از آنكه غير ترا رستند) {أَنتَ وَلِيُّنَا} الولي خلاف العدو أي : أنت الذي نواليه {مِن دُونِهِمُ} (بجزمشركان يعني ميان ايشان هي دوستى نيست وحاشاكه برستش ايشان رضا داده باشيم) ثم اضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم : {بَلْ كَانُوا} من جهلهم وغوايتهم {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي : الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله وقيل : كانوا يتمثلون لهم ويتخيلون أنهم الملائكة فيعبدونهم وعبر عن الشياطين بالجن لاستتارهم عن الحواس ولذا أطلقه بعضهم على الملائكة أيضاً {أَكْثَرُهُمْ} الأكثر ههنا بمعنى الكل والضمير للمشركين كما هو الظاهر من السوق أي : كل المشركين.
وقال بعضهم : الضمير للإنس والأكثر بمعناه أي : أكثر الإنس {بِهِمُ} أي : الجن وبقولهم الكذب الملائكة بنات الله {مُؤْمِنُونَ} مصدقون ومتابعون ويغترون بما يلقون إليهم من أنهم يشفعون لهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258(7/236)
وفي الآية : إشارة إلى أنه كما يعبد قوم الملائكة بقول الشيطان وتتبرأ الملائكة منهم يوم القيامة كذلك من يعبد الله بقول الوالدين أو الاستاذين أو أهل بلده أو بالتعصب والهوى كما يعبده اليهود والنصارى والصابئون والمجوس وأهل البدع والأهواء يتبرأ الله منه ويقول : أنا بريء من أن أعبد بقول الغير وبقول من يعبدني بالهوى أو بإعانة أهل الهوى فإن من عبدني بالهوى فقد عبد الهوى ومن عبدني بإعانة أهل الهوى إياه على أن يعبدني فقد عبد أهل الهوى لأنه ما عبدني مخلصاً كما أمرته ولهذا المعنى أمرنا الله أن نقول في عبادته في الصلاة إياك نعبد أي : لم نعبد غيرك وإياك نستعين على عبادتك بإعانتك لا بإعانة غيرك وبقوله : {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} يشير إلى أن أكثر مدعي الإسلام بأهل الهوى مؤمنون أي : بتقليدهم وتصديقهم فيما ينتمون إليه من البدع والاعتقاد السوء كذا في "التأويلات النجمية" ، قال الصائب :
ه قدر راه بتقليد توان يمودن
رشته كوتاه بود مرغ نو آموخته را
{قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّا أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا} .
{فَالْيَوْمَ} أي : يوم الحشر {لا يَمْلِكُ} (الملك بالحركات الثلاث : خداوند شدن) {بَعْضُكُمْ} يعني المعبودين {لِبَعْضٍ} يعني العابدين {نَفْعًا} بالشفاعة {وَلا ضَرًّا} أي : دفع ضر وهو العذاب على تقدير المضاف إذ الأمر فيه كلهلأن الدار دار جزاء ولا يجازي الخلق أحد غير الله.
قال في "الإرشاد" تقييد هذا الحكم بذلك اليوم مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجائهم على تحقيق النفع يومئذٍ وهذا الكلام من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزه والتبري مما نسب إليهم الكفرة يخاطبون على رؤوس الإشهاد إظهاراً لعجزهم وقصورهم عند عبدتهم وتنصيصاً على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية والفاء ليست لترتيب ما بعدها
303
من الحكم على جواب الملائكة فإنه محقق أجابوا بذلك أم لا بل لترتيب الإخبار به عليه {وَنَقُولُ} في الآخرة {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بالكفر والتكذيب فوضعوهما موضع اللإيمان والتصديق وهو عطف على يقول للملائكة لا على يملك كما قيل لأنه مما يقال يوم القيامة خطاباً للملائكة مترتباً على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم لما سيقال للعبدة يومئذٍ أثر حكاية ما سيقال للملائكة {ذُوقُوا} الذوق في الأصل وإن كان فيما يقل تناوله كالأكل فيما يكثر تناوله إلا أنه مستصلح للكثير {عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم} في الدنيا {بِهَآ} متعلق بقوله : {تُكَذِّبُونَ} وتصرون على القول بأنها غير كائنة فقد وردتموها وبطل ظنكم ودعواكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من علق قلبه بالأغيار وظن صلاح حاله من الاحتيال والاستعانة بالأمثال والأشكال نزع الله الرحمة من قلوبهم فتتركهم وتشوش أحوالهم فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة ولا لهم من عقولهم في أمورهم استبصار ولا إلى الله رجوع إلا في الدنيا فإن رجعوا إليه في الآخرة لا يرحمهم ولا يجيبهم ويذيقهم عذاب نار البعد والقطيعة لكونهم ظالمين أي : عابدين غير الله تعالى (احمد حرب كفت خداى تعالى خلق را آفريده تا اورا بيكانكى شتاسند وشريك نسازند ورزق داد تا ورا برزاقى بدانند وميراند تا ورا بقهارى شناسند "ألا ترى أن الموت يذل الجبابرة ويقهر الفراعنة" وزنده كردانيد تا اورا بقادري بدانند ونكه قادر مطلق اوست انسان ببايدكه عجز خودرا بداند وعدم طاقت اودر زيربار قهرش شناسند ورحوع كند باختيار نه باضطرار وازحق شناسد توفيق هركار).
نكشود صائب ازمدد خلق هي كار
از خلق روى خود بخدا مى كنيم ما
اعلم أن من عبد الجن وأطاع الشيطان فيما شاء وهو زوال دينه يكون عذابه في التأبيد كعذاب إبليس ومن أطاع النفس فيما شاءت وهي المعصية يكون عذابه على الانقطاع ومن أطاع الهوى فيما شاء وهو الشهوات يكون له شدة الحساب من أجاب إبليس ذهب عنه المولى ومن أجاب النفس ذهب عنه الورع ومن أجاب الهوى ذهب عنه العقل.
وكان يحيى عليه السلام مع جلالة قدره وعدم همه بخطيئة يخاف من عذاب النار ويبكي في الليل والنهار والغافل كيف يأمن من سلب الإيمان مع كثرة العصيان وله عدو مثل الشيطان فلا بد من التوبة عن الميل إلى غير الله تعالى في جميع الأحوال والتضرع والبكاء في البكر والآصال لتحصل النجاة من النيران والفوز بدرجات الجنان والتنعم بنعيم القرب وشهود الرحمن.
زشت آينه روى مراد نتوان ديد
تراكه روى بخلق است ازخداه خبر
(7/237)
{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ قَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَإِذَا تُتْلَى} أي : تقرأ قراءة متتابعة بلسان الرسول عليه السلام {عَلَيْهِمْ} أي : على مشركي مكة {ءَايَـاتِنَا} القرآنية حال كونها {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على حقية التوحيد وبطلان الشرك {قَالُوا} مشيرين إلى النبي عليه السلام {مَا هَـاذَآ إِلا رَجُلٌ} تنكيره للتهكم والتلهي وإلا فرسول الله كان علماً مشهوراً بينهم {يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ} أي : يمنعكم ويصرفكم {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ} من الأصنام منذ أزمنة متطاولة فيستتبعكم بما يستبدعه من غير أن يكون هناك دين إلهي يعني : (مدعاى او آنست كه شما ازبت رستيدن منع كند
304
ويدين وآيين كه احداث كرده در آورد وتابع خود سازد) وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد {وَقَالُوا مَا هَـاذَآ} القرآن {إِلا إِفْكٌ} كلام مصروف عن جهته لعدم مطابقة ما فيه من التوحيد والبعث الواقع {مُّفْتَرًى} بإسناده إلى الله تعالى والافتراء الكذب عمداً قالوه عناداً ومكابرة وإلا فقد قال كبيرهم عتبة بن ربيعة والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} أي : للقرآن على أن العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز ووضع المظهر موضع المضمر إظهاراً للغضب عليهم ودلالة على أن هذا لا يجترىء عليه إلا المتمادين في الكفر المنهمكون في الغي والباطل {لَمَّا جَآءَهُمْ} من الله تعالى ومعنى التوقع في لما أنهم كذبوا به وجحدوه على البديهة ساعة أتاهم وأول ما سمعوه قبل التدبر والتأمل {ءَانٍ} بمعنى ما النافية {هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته لا شبهة فيه.
والسحر من سحر يسحر إذا خدع أحداً وجعله مدهوشاً متحيراً وهذا إنما يكون بأن يفعل الساحر شيئاً يعجز عن فعله وإدراكه المسحور عليه كما في "شرح الأمالي".
وقال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : السحر مأخوذ من السحر وهو ما بين الفجر الأول والفجر الثاني واختلاطته وحقيقته اختلاط الضوء والظلمة فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار فكذلك ما فعله السحرة ما هو باطل محقق فيكون عدماً فإن العين أدركت أمراً ما لا تشك فيه ولا هو حق محض فيكون له وجود في عينه فإنه ليس هو في نفسه كما تشهد العين ويظنه الرائي انتهى.
قال الشيخ الشعراني في الكبريت الأحمر : هو كلام نفيس ما سمعنا مثله قط.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ قَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَآ ءَاتَيْنَـاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
{وَمَآ ءَاتَيْنَـاهُم} أي : مشركي مكة {مِن كِتَـابِ} أي : كتباً فإن من الاستغراقية داخلة على المفعول لتأكيد النفي {يَدْرُسُونَهَا} يقرأونها فيها دليل على صحة الإشراك كما في قوله تعالى : {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ} (الروم : 35) وقوله : {أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ} وفي إيراد كتب بصيغة الجمع تنبيه على أنه لا بد لمثل تلك الشبهة من نظائر الأدلة والدرس قراءة الكتاب بإمعان النظر فيه طلباً لدلك معناه والتدريس تكرير الدرس.
قال الراغب في "المفردات" : درس الشيء معناه بقي أثره وبقاء الأثر يقتضي إنمحاءه في نفسه ولذلك فسر الدروس بالإنمحاء وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس {وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ وهو تجهيل لهم وتسفيه لآرائهم ثم هددهم بقوله :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
(7/238)
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المتقدمة والقرون الماضية كما كذب قومك من قريش {وَمَا بَلَغُوا} (ونرسيدند قريش ومشركان مكه) {مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} أي : عشر ما آتينا أولئك من قوة الأجسام وكثرة الأموال والأولاد وطول الأعمار.
فالمعشار بمعنى العشر كالمرباع بمعنى الربع.
قال الواحدي : المعشار والعشير والعشر جزء من العشرة وقيل المعشار عشر العشر {فَكَذَّبُوا رُسُلِى} عطف على وكذب الذين
305
الخ بطريق التفصيل والتفسير كقوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} (القمر : 9) إلخ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي : إنكاري لهم بالاستئصال والتدمير فأي شيء خطر هؤلاء بجنب أولئك فليحذروا من مثل ذلك وبالفارسية : (س ه كونه بودنا بسند من ايشانرا وعذاب دادن).
وفي الآية إشارة إلى أن صاحب النظر إذا دل الناس على الله ودعاهم إليه قال أخدانهم السوء وإخوانهم الجهلة وأعوانهم الغفلة من الأقارب وأبناء الدنيا وربما كان ذلك من العلماء السوء الذين أسكرتهم محبة الدنيا وقال صلى الله عليه وسلّم فيهم : "أولئك قطاع الطريق على العباد" هذا رجل يريد اصطيادكم واستتباعكم لتكونوا من أتباعه وأعوانه ومريديه ويصدكم عن مذاهبكم ويطمع في أموالكم ومن ذا الذي يطيق أن يترك الدنيا بالكلية وينقطع عن أقاربه وأهاليه ويضيع أولاده ويعق والديه وليس هذا طريق الحق وإنك لا تتمم هذا الأمر ولا بد لك من الدنيا ما دمت تعيش وأمثال هذا حتى يميل ذلك المسكين عن قبول النصح في الإقبال على الله والإعراض عن الدنيا وربما كان هذا من خواطره الدنية وهواجس نفسه الردية فيهلك ويضل كما هلكوا وضلوا فليعتبر الطالب بمن كان قبله من منكري المشايخ ومكذبي الورثة ما كان عاقبة أمرهم إلا الحرمان في الدنيا من مراتب الدين والعذاب في الآخرة بنار القطيعة وليحذر من الاستماع إلى العائقين له عن طريق العاشقين فإنهم أعداء له في صورة الأحباب وفي المثنوي :
آدمي را دشمن نهان بسيست
آدمي باحذر عاقل كسيست
قال المولى الجامي في "درة التاج" :
ون سكندر بقصد آب حيات
كرد عزم عبور بر ظلمات
بزمينى رسيد هن وفراخ
راند خيل وحشم دران كستاخ
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
هركجا مى شد از يسار ويمين
بود ر سنكريزه روى زمين
كرد روى سخن بسوى ساه
كاى همه كرده كم زظلمت راه
اين همه كو هراست بى شك وريب
كيسه تان ركنيد ودا من وجيب
هركرا بود شك در اسكندر
آن حكايت نيامدش باور
كفت در زير نعل لعل كه ديد
درّ وكوهر بر هكذر كه شنيد
وانكه آينه سكندر بود
سرّ جانش درو مصوّر بود
هره ازوى شنيد باورداشت
آنه مقدور بودازان برداشت
ون بريدند راه تاريكى
تافت خورشيد شان ز نزديكى
آن يكى دست ميكزيد كه ون
زين كهر بر نداشتم افزون
وان دكر خون همى كريست كه آه
بر سكندر نكردمى انكار
تا نيفتادمى ازان تقصير
در حجاب وخجالت وتشوير
فقس عليه مصدّق القرآن ومكذبه.
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍا أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍا إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللَّه وَهُوَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} الوعظ زجر يقترن به تخويف.
وقال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب والعظة والموعظة الاسم أي :
306
(7/239)
ما أنشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي {أَن تَقُومُوا} من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتتفرقوا من مجمعكم عنده فالقيام على حقيقته بمعنى القيام على الرجلين ضد الجلوس ويجوز أن يكون بمعنى القيام بالأمر والاهتمام بطلب الحق لأجله تعالى ورضاه لا للمراء والرياء والتقليد حال كونكم متفرقين {مَثْنَى} اثنين اثنين {وَفُرَادَى} واحداً واحداً.
قال الراغب : الفرد الذي لا يختلط به غيره فهو أعم من الوتر وأخص من الواحد وجمعه فرادى انتهى.
وفي "المختار" الفرد الوتر وجمعه أفراد وفرادى بالضم على غير القياس كأنه جمع فردان {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} التفكر طلب المعنى بالقلب يعني : (تفكرجست وجودى دلست در طلب معنى) أي : تتفكروا في أمره صلى الله عليه وسلّم فتعلموا {مَآ} نافية {بِصَاحِبِكُم} المراد الرسول عليه السلام {مِّن جِنَّةٍ} أي : جنون يحمله على دعوى النبوة العامة كما ظننتم وفائدة التقييد بالاثنين والفرادى أن الاثنين إذا التجئا إلى الله تعالى وبحثا طلباً للحق مع الإنصاف هديا إليه وكذا الواحد إذا تفكر في نفسه مجرداً عن الهوى بخلاف كثرة الجمع فإنه يقل فيها الإنصاف غالباً ويكثر الخلاف غبار الغضب ولا يسمع إلا نصرة المذهب.
وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوفق وأقرب من الاطمئنان فإن الاثنين إذا قعدا بطريق المشاورة في شأن الرسول عليه السلام وصحة نبوته من غير هوى وعصبية وعرض كل منهما محصول فكره على الآخر أدى النظر الصحيح إلى التصديق ويحصل العلم عن العلم.
وفي "الفتوحات المكية" قدس الله سر صاحبها الواحدة أن يقوم الواعظ من أجل الله إما غيرة وإما تعظيماً وقوله : {مَثْنَى} أي : بالله ورسوله فإنه من أطاع الرسول فقد أطاع الله فيقوم صاحب هذا المقام بكتاب الله وسنة رسوله لا عن هوى نفس ولا تعظيم كوني ولا غيرة نفسية وقوله : {وَفُرَادَى} أي : بالله خاصة أو برسوله خاصة انتهى هذا إذا علقت {مَا بِصَاحِبِكُم}
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
بمحذوف كما قدر فلا يوقف إذاً على تتفكروا ويجوز أن يكون الوقف تاماً عند تتفكروا على معنى ثم تتفكروا في أمره عليه السلام وما جاء به لتعلموا حقيقته فقوله : {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} استئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لادعائه إلا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه السلام أرجح العالمين عقلاً وأصدقهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلهم علماً وأحسنهم عملاً وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال {ءَانٍ} ما {هُوَ} صاحبكم {إِلا نَذِيرٌ لَّكُم} مخوف لكم بلسان ينطق بالحق {بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي : قدام عذاب الآخرة إن عصيتموه لأنه مبعوث في نسم الساعة أي : أولها وقربها وذلك لأن النسم النفس ومن قرب منك يصل إليك نفسه.
وفي "التأويلات النجمية" : {بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} في الدنيا والآخرة لينجيكم منه والعذاب الشديد الجهل والنكرة والجحود والإنكار والطرد واللعن من الله تعالى وفي الآخرة الحسرة والندامة والخجلة عند السؤال.
وفي بعض الأخبار : أنه عذاب من يسألهم الحق فيقع عليهم من الخجل
307
ما يقولون عنده عذبنا يا ربنا بما شئت من أنواع العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال.
{قُلْ مَآ} أي : شيء {سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} جعل على تبليغ الرسالة {فَهُوَ لَكُمْ} والمراد نفي السؤال رأساً يعني : (هي أجرى نخواهم) كقول من قال لمن لم يعطه شيئاً أن أعطيتني شيئاً فخذه.
وقال بعضهم لما نزل قوله تعالى : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} قال عليه السلام لمشركي مكة "لا تؤذوني في قرابتي" فكفوا عن ذلك فلما سب آلهتهم قالوا : لن ينصفنا يسألنا أن لا نؤذيه في قرابته وهو يؤذينا بذكر آلهتنا بسوء فنزل {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} إن شئتم آذوهم وإن شئتم امتنعوا {إِنْ أَجْرِىَ} أي : ما أجري وثوابي {إِلا عَلَى اللَّهِ} فإنما أطلب ثواب الله لا عرض الدنيا {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدُُ} مطلع يعلم صدقي وخلوصي نيتي.
وفيه إشارة إلى أنه من شرط دعوة الخلق إلى الله أن تكون خالصة لوجه الله لا يشوبها طمع في الدنيا والآخرة ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
زيان ميكند مرد تفسير دان
كه علم وأدب ميفروشد بنان
كجا عقل با شرع فتوى دهد
كه اهل خرد دين بدنيا دهد
(7/240)
قال الإمام الزروقي : الشهيد هو الحاضر الذي لا يغيب عنه معلوم ولا مرئي ولا مسموع ومنه عرف أن الشهيد عبد حافظ على المراقبة واتقى بعلمه ومشاهدته على غيره {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} القذف الرمي البعيد بنحو الحجارة والسهم ويستعار لمعنى الإلقاء والباء للتعدية أي : يلقي الوحي وينزله على من يجتبيه من عباده فالاجتباء ليس لعلة والاصطفاء ليس لحيلة أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزيله {عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} بالرفع صفة محمولة على محل أن واسمها أو بدل من المستكن في يقذف أو خبر ثان لأن أي : عالم بطريق المبالغة بكل ما غاب عن خلقه في السموات والأرض قولاً كان أو فعلاً أو غيرهما.
قال بعض الكبار : من أدمن ذكر يا علام الغيوب إلى أن يغلب عليه منه حال فإنه يتكلم بالمغيبات ويكشف ما في الضمائر وتترقى روحه إلى العالم العلوي ويتحدث بأمور الكائنات والحوادث.
وأيضاً هو نافع لقوة الحفظ وزوال النسيان.
وفي "التأويلات" : إنما ذكر الغيوب بلفظ الجمع لأنه عالم بغيب كل أحد وهو ما في ضمير كل أحد وأنه تعالى عالم بما يكون في ضمير أولاد كل أحد إلى يوم القيامة وإنما قال علام بلفظ المبالغة ليتناول علم معلومات الغيوب في الحالات المختلفة كما هي بلا تغير في العلم عند تغير المعلومات من حال إلى حال بحيث لا يشغله شأن حال عن حال.
{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ وَمَا يُعِيدُ * قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى} .
{قُلْ جَآءَ الْحَقُّ} أي : الإسلام والتوحيد {وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ابدأ الشيء فعله ابتداء (والإعادة : باز كردانيدن) والمعنى زال الشرك وذهب بحيث لم يبق أثره أصلاً مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعل مثلاً في الهلاك بالكلية.
ـ روى ـ ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه السلام دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : "جاء الحق وزهق الباطل قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعبد".
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطريق الحق كما تزعمون وتقولون لقد ضللت حين تركت دين آبائك {فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى} فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الحاملة عليه بالذات
308
والأمارة بالسوء وبهذا الاعتبار قوبل الشرطية بقوله : {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} إلى الطريق الحق {فَبِمَا يُوحِى} فبسبب ما يوحي {إِلَىَّ رَبِّى} من الحكمة والبيان فإن الاهتداء بتوفيقه وهدايته.
وفيه إشارة إلى منشأ الضلالة نفس الإنسان فإذا وكلت النفس إلى طبعها لا يتولد منها إلا الضلالة وإن الهداية من مواهب الحق تعالى ليست النفس منشأها ولذلك قال تعالى {وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى} (الضحى : 7) {أَنَّهُ} تعالى {سَمِيعٌ قَرِيبٌ} يعلم قول كل من المهتدي والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما.
قال بعض : الكبار سميع بمنطق كل ناطق قريب لكل شيء وإن كان بعيداً منه :
دوست نزديكتر از من بمن است
وين عجبتر كه من ازوى دورم
ه كنم باكه توان كفت كه او
در كنار من ومن مهجورم
قال بعضهم : السميع هو الذي انكشف كل موجود لصفة سمعه فكان مدركاً لكل مسموع من كلام.
وغيره وخاصية هذا الاسم إجابة الدعاء فمن قرأه يوم الخميس خمسمائة مرة كان مجاب الدعوة وقرب الله من العبد بمعنى أنه عند ظنه كما قال : "أنا عند ظن عبدي بي".
وقال بعضهم : هو قريب من الكل لظهوره على العموم وإن لم يره إلا أهل الخصوص لأنه لا بد للرؤية من إزالة كل شيء معترض وحائل وهي حجب العبد المضافة إلى نفسه.
وسئل الجنيد عن قرب الله من العبد فقال : هو قريب لا بالاجتماع بعيد لا بالافتراق وقال القرب يورث الحياء ولذا قال بعضهم :
نعره كمتر زن كه نزديكست يار†
يشير إلى حال أهل الشهود فإنهم يراعون الأدب مع الله في كل حال فلا يصيحون كما لا يصيح القريب للقريب وأما أهل الحجاب فلهم ذلك لأن قربهم بالهم لا بالشهود وكم من فرق بينهما.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا يصير المرء ضالاً بتضليل الآخرة إياه فإن الضال في الحقيقة من خلق الله فيه الضلالة بسبب إعراضه عن الهدى كما أنه لا يكون كافراً بإكفار الغير إياه فإن الكافر في الحقيقة من قبل الكفر وأعرض عن الإيمان وإلى أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأن كل شاة معلقة برجلها أي : كل واحد مجزي بعمله لا بعمل غيره فالصالح مجزي بأعماله الصالحة وأخلاقه الحسنة ولا ضرر له من الأعمال القبيحة لغيره وكذا الفاسق مجزي بعمله السوء ولا نفع له من صالحات غيره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
هركه او نيك ميكند يابد
نيك وبد هره ميكند يابد
(7/241)
وقيل للنابغة حين أسلم أصبوت يعني آمنت بمحمد قال : بلى غلبني بثلاث آيات من كتاب الله فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها فلما سمعت هذه الآية تعبت فيها ولم أطق فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (سبأ : 48) إلى قوله : {إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ : 05).
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا ءَامَنَّا بِه وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} .
{وَلَوْ تَرَى} يا محمد أو يا من يفهم الخطاب ويليق به {إِذْ فَزِعُوا} أي : حين يفزع الكفار ويخافون عند الموت أو البعث أو يوم بدر وجواب لو محذوف أي : لرأيت أمراً هائلاً وجيء بالماضي لأن المستقبل بالنسبة إلى الله تعالى كالماضي في تحققه وعن ابن عباس رضي الله عنه
309
عنهما أن ثمانين ألفاً وهم السفياني وقومه يخرجون في آخر الزمان فيقصدون الكعبة ليخربوها فإذا دخلوا البيداء وهي أرض ملساء بين الحرمين كما في "القاموس" خسف بهم فلا ينجو منهم إلا السريّ الذي يخبر عنهم وهو جهينة فلذلك قيل عند جهينة الخبر اليقين.
قال الكاشفي : (ازتمام لشكر دوكس نجات يابند يكى به بشارت بمكه برود وديكرى كه ناجى جهنى كويند روى او بر قفا كشته خبر قوم بسفياني رساند) {فَلا فَوْتَ} الفوت بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه أي : فلا فوت لهم من عذاب الله ولا نجاة بهرب أو تحصن ويدركهم ما فزعوا منه {وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي : من ظهر الأرض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى قليبها وهو البئر أن تبنى بالحجارة.
وقال أبو عبيدة : هي البئر العادية القديمة أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم وحيث كانوا فهم قريب من الله والجملة معطوفة على فزعوا.
{وَقَالُوا} وعند معاينة العذاب {بِه إِنَّهُ} أي : بمحمد عليه السلام لأنه مر ذكره في قوله : {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} فلا يلزم الإضمار قبل الذكر {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} التناوش بالواو التناول السهل بالفارسية (كرفتن) من النوش يقال تناوش وتناول إذا مديده إلى شيء يصل إليه ومن همزه فأما أنه أبدل من الواو همزة لانضمامه نحو اقتت في وقتت وادؤر في أدور وإما أن يكون من النأش وهو الطلب كما في "المفردات" والمعنى ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولاً سهلاً {مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} فإن الإيمان إنما هو في حيز التكليف وهي الدنيا وقد بعد عنهم بارتحالهم إلى الآخرة وهو تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة وهي غاية قدر رمية كتناوله من مقدار ذراع في الاستحالة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 258
{وَقَالُوا ءَامَنَّا بِه وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِه مِن قَبْلُا وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} .
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ} أي : بمحمد أو بالعذاب الشديد الذي أنذرهم إياه {مِن قَبْلُ} من قبل ذلك في وقت التكليف تابوا وقد أغلقت الأبواب وندموا وقد تقطعت الأسباب فليس إلا الخسران والندم والعذاب والألم :
فخل سبيل العين بعدك للبكا
فليس لأيام الصفاء رجوع
قال الحافظ :
وبر روى زمين باشى توانايى غنيمت دان
كه دوران ناتوانيها بسى زير زمين دارد
أي لا يقدر الإنسان على شيء إذا مات وصار إلى تحت الأرض كما كان يقدر إذا كان فوق الأرض وهو حي {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} الباء للتعدية أي : يرجمون بالظن الكاذب ويتكلمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول من المطاعن أو في العذاب من قطع القول بنفسه كما قالوا وما نحن بمعذبين {مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} من جهة بعيدة من حاله عليه السلام حيث ينسبونه إلى الشعر والسحر والكهانة والكذب ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه وهو معطوف على وقد كفروا به على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلاً لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ} أي : أوقعت الحيلولة والمنع بين هؤلاء الكفار {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من نفع الإيمان والنجاة من النار {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} أي : بأشياعهم من كفرة الأمم الماضية {إِنَّهُمْ كَانُوا}
310
في الدنيا {فِى شَكٍّ} مما وجب به الإيمان واليقين كالتوحيد والبعث ونزول العذاب على تقدير الإصرار {مُرِيبٍ} (بتهمت افكنده ودلرا مضطرب سازنده وشوراننده).
قال أهل التفسير مريب موقع لهم في الريبة والتهمة من أرابه إذا أوقعه في الريبة أو ذي ريبة من أراب الرجل إذا صار ذا ريبة ودخل فيها وكلاهما مجاز في الإسناد إلا أن بينهما فرقاً وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصلح أن يكون مريباً من الأشخاص والأعيان إلى المعنى وهو الشك أي : يكون صفة من أوقع في الريب حقيقة وقد جعل في الآية صفة نفس الشك الذي هو معنى من المعاني.
والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك أي : أنهم كانوا في شك ذي شك كما تقول شعر شاعر وإنما الشاعر في الحقيقة صاحب الشعر وإنما أسند الشاعرية إلى الشعر للمبالغة وإذا كان حال الكفرة الشك في الدنيا فلا ينفعهم اليقين في الآخرة لأنه حاصل بعد معاينة العذاب والخروج من موطن التكليف وقد ذموا في هذه الآيات بالشك والكفر والرجم بالغيب فليس للمرء أن يبادر إلى إنكار شيء إلا بعد العلم إما بالدليل أو بالشهود.
قال في "الفتوحات المكية" : لا يجوز لأحد المبادرة إلى الإنكار إذا رأى رجلاً ينظر إلى امرأة في الطريق مثلاً فربما يكون قاصداً خطبتها أو طبيباً فلا ينبغي المبادرة للإنكار إلا فيما لا يتطرق إليه احتمال وهذا يغلط فيه كثير من المذنبين لا من أصحاب الدين لأن صاحب الدين أول ما يحتفظ على نفسه ولا سيما في الإنكار خاصة وقد ندبنا الحق إلى حسن الظن بالناس لا إلى سوء الظن فصاحب الدين لا ينكر قط مع الظن لأنه يعلم أن بعض الظن إثم ويقول لعل هذا من ذلك البعض وإثمه أن ينطق به وإن وافق العلم في نفس الأمر وذلك أنه ظن وما علم فنطق فيه بأمر محتمل وما كان له ذلك فمعلوم أن سوء الظن بنفس الإنسان أولى من سوء ظنه بالغير وذلك لأنه من نفسه على بصيرة وليس هو من غيره على بصيرة فلا يقال في حقه إن فلاناً أساء الظن بنفسه بل إنه عالم بنفسه وإنما عبرنا بسوء الظن بنفسه اتباعاً لتعبيرنا بسوء الظن بغيره فهو من تناسب الكلام وإلى الآن ما رأيت أحداً من العلماء استبرأ لدينه هذا الاستبراء فالحمدالذي وفقنا لاستعماله انتهى كلام الشيخ في الفتوحات :
هميشه در صدد عيب جوئى خويشيم
نبوده ايم ى عيب ديكران هركز
والله الموفق لصالحات الأَمال وحسنات الأخلاق :
جزء : 7 رقم الصفحة : 258(7/242)
سورة فاطر
مكية وآيها خمس وأربعون
جزء : 7 رقم الصفحة : 310
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{الْحَمْدُ} أي : كل المحامد مختصة بالله تعالى لا تتجاوز منه إلى من سواه وهو وإن كان في الحقيقة حمد الله لذاته بذاته لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه.
واعلم أن الحمد يتعلق بالنعمة والمحنة إذ تحت كل محنة منحة فمن النعمة العطاس وذلك لأنه سبب لانفتاح المسام أي : ثقب الجسد واندفاع الأبخرة المحتبسة عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر فهو بحران الرأس كما أن العرق
311
بحران بدن المريض ولذا أوجب الشارع الحمد للعاطس.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من سبق العاطس بالحمدوقى وجع الرأس والأضراس ومن المحنة التجشي وفي الحديث : "من عطس أو تجشا فقال : الحمدعلى كل حال دفع الله بها عنه سبعين داء أهونها الجذام".
والتجشي تنفس المعدة وبالفارسية : (بدروغ شدن) وذلك لأن التجشي إنما يتولد من امتلاء المعدة من الطعام فهو من المصائب في الدين خصوصاً إذا وقع حال الصلاة ويدل عليه أنه عليه السلام كان يقول عند كل مصيبة : "الحمدعلى كل حال" ثم رتب الحمد على نعمة الإيجاد أولاً إذ لا غاية وراءها إذ كل كمال مبني عليها فقال : {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} إضافته محضة لأنه بمعنى الماضي فهو نعت للاسم الجليل ومن جعلها غير محضة جعله بدلاً منه وهو قليل في المشتق والمعنى مبدعهما وخالقهما ابتداء من غير مثال سبق من الفطر بالفتح بمعنى الشق أو الشق طولاً كما ذهب إليه الراغب كأنه شق العدم بإخراجهما منه والفطر بالكسر ترك الصوم وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما كنت أدري ما فاطر السموات حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي : ابتدأت حفرها قال المبرد فاطر خالق مبتدىء ، ففيه إشارة إلى أن أول كل شيء تعلقت به القدرة سموات الأرواح وأرض النفوس وأما الملائكة فقد خلقت بعد خلق أرواح الإنسان ويدل عليه تأخير ذكرهم كما قال : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} إضافته محضة أيضاً على أنه نعت آخر للاسم الجليل ورسلاً منصوب بجاعل واسم الفاعل بمعنى الماضي وإن كان لا يعمل عند البصريين إلا معرفاً باللام إلا أنه بالإضافة أشبه باللام فعمل عمله فالجاعل بمعنى المصير والمراد بالملائكة جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل والحفظة ونحوهم.
ويقال : لم ينزل إسرافيل على نبي إلا على محمد صلى الله عليه وسلّم نزل فأخبره بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم عرج.(7/243)
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
وفي "إنسان العيون" : نزل عليه ستة أشهر قبل نبوته فكان عليه السلام يسمع صوته ولا يرى شخصه.
والرسل جمع رسول بمعنى المرسل والمعنى مصير الملائكة وسائط بينه تعالى وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة.
قال بعض الكبار : الإلقاء إما صحيح أو فاسد فالصحيح إلهيّ رباني متعلق بالعلوم والمعارف أو ملكي روحاني وهو الباعث على الطاعة وعلى كل ما فيه صلاح ويسمى إلهاماً والفاسد نفساني وهو ما فيه حظ النفس ويسمى هاجساً أو شيطاني وهو ما يدعو إلى معصية ويسمى وسواساً {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفة لرسلاً وأولوا بمعنى أصحاب اسم جمع لذو كما أن أولاء اسم جمع لذا وإنما كتبت الواو بعد الألف حالتي الحر والنصب لئلا يلتبس بإلى حرف الجر وإنما كتبوه في الرفع حملاً عليهما.
والأجنحة جمع جناح بالفارسية (روبال) {مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ} صفات لأجنحة فهي في موضع خفض ومعناها اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة أي : ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت مالهم من المراتب ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون أو يسرعون بها فإن ما بين السماء والأرض وكذا ما بين السموات مسيرة خمسمائة سنة وهم يقطعونها في بعض الأحيان في وقت واحد ففي تعدد الأجنحة إشارة إلى كمالية استعداد بعض الملائكة على بعض والمعنى أن من الملائكة خلقاً لكل منهم جناحان
312
وخلقاً لكل منهم ثلاثة وخلقاً آخر لكل منهم أربعة.
قال الكاشفي : (مثنى دو دو براى طيران وثلاث سه سه ورباع هار هار براى آرايش) انتهى.
ـ وروي ـ أن صنفاً من الملائكة له ستة أجنحة بجناحين منها يلفون أجسادهم وبآخرين منها يطيرون فيما أمروا به من جهته تعالى وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى ويفهم من كلام بعضهم أن الطيران بكل الأجنحة كما قال عرف تعالى إلى العباد بأفعاله وندبهم إلى الاعتبار بها فمنها ما يعلمونه معاينة من السماء والأرض وغيرهما ومنها ما سبيل إثباته الخبر والنقل لا يعلم بالضرورة ولا بدليل العقل فالملاكة منه ولا يتحقق كيفية صورتهم وأجنحتهم وأنهم كيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة والأربعة لكن على الجملة يعلم كمال قدرته وصدق حكمته انتهى.
ـ وروي ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح منها اثنان يبلغان من المشرق إلى المغرب ودل هذا وكذا كل ما فيه زيادة على الأربع أنه تعالى لم يرد خصوصية الأعداد ونفي ما زاد عليها.
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة ملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب هذا كلامه كما في "إنسان العيون".
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
يقول الفقير : لا يجوز العدول عن الظاهر مع إمكان الحمل على الحقيقة وقد تظاهرت الروايات الدالة على إثبات الأجنحة للملائكة وإن لم تكن كأجنحة الطير من حيث أن الله تعالى باين بين صور المخلوقات والملائكة وإن كانوا روحانيين لكن لهم أجسام لطيفة فلا يمنع أن يكون للأجسام أجنحة جسمانية كما لا يمنع أن يكون للأرواح أجنحة روحانية نورانية كما ثبت لجعفر الطيار رضي الله عنه.
والحاصل أن المناسب لحال العلويين أن يكونوا طائرين كما أن المناسب لحال السفليين أن يكونوا سائرين ومن أمعن النظر في خلق الأرض والجو عرف ذلك ويؤيد ما قلنا أن البراق وإن كان في صورة البغل في الجملة لكنه لما كان علوياً أثبت له الجناح نعم أن الأجنحة من قبيل الإشارة إلى القوة الملكية والإشارة لا تنافي العبارة هذا.
وفي "كشف الأسرار" وردت في عجائب صور الملائكة أخبار يقال : إن حملة العرش لهم قرون وهم في صورة الأوعال يعني : (بزان كوهى) وفي الخبر "إن في السماء ملائكة نصفهم ثلج ونصفهم نار تسبيحهم يا من يؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب المؤمنين" وقيل لم يجمع الله في الأرض لشيء من خلقه بين الأجنحة والقرون والخراطيم والقوائم إلا وضعف خلقه وهو البعوض وفيه أيضاً (هرندكه فرشتكان مقربان دركاه عزت اند وطاوسان حضرت با اين مرتبت خاكيان مؤمنان برايشان شرف دارند) كما قال عليه السلام : "المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده" فالملائكة وإن طاروا من الأرض إلى السماء في أسرع وقت فأهل الشهود طاروا إلى ما فوق السماء في لمحة بصر فلهم أجنحة من العقول السليمة والألباب الصافية والتوجهات المسرعة والجذبات المعجلة اجتهدوا بقوله عليه السلام : "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" :
بربساط بوريا سير دو عالم ميكنيم
باوجود نى سوارى برق جولانيم ما
313
ون باوج حق ريم عاجز شود ازما ملك
كرد باد لا مكانى طرفه سيرانيم ما
(7/244)
{يَزِيدُ} الله تعالى يعني : (زياده ميكند ومى افزايد) فإن زاد مشترك بين اللازم والمتعدي وليس في اللغة أزاد {فِى الْخَلْقِ} في أي : خلق كان من الملائكة وغيرهم فاللام للجنس والخلق بمعنى المخلوق {مَا يَشَآءُ} كل ما يشاء أن يزيده بموجب مشيئته ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف فليس تفاوت أحوال الملائكة في عدد الأجنحة وكذا تفاوت أحوال غيرهم في بعض الأمور تستدعيه ذواتهم بل ذلك من أحكام المشيئة ومقتضيات الحكم وذلك لأن اختلاف الأصناف بالخواص والفصول بالأنواع إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال.
والآية متناولة لزيادات الصور والمعاني.
فمن الأولى حسن الصورة خصوصاً الوجه قيل ما بعث الله نبياً إلا حسن الشكل وكان نبينا عليه السلام أملح يعني : (بر يوسف عليه السلام مليحتر وشيرين تر بود) فمن قال كان أسود يقتل كما في "هدية المهديين" إلا أن لا يريد التقبيح بل الوصف بالسمرة والأسود العرب كما أن الأحمر العجم كما قال عليه السلام : "بعثت إلى الأسود والأحمر".
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
آن سيه رده كه شيرينىء عالم با اوست†
ومنها ملاحة العينين واعتدال الصورة وسهولة اللسان وطلاقته وقوة البطش والشعر الحسن والصوت الحسن وكان نبينا عليه السلام طيب النغمة وفي الحديث " أشد أذناً للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب قينة إلى قينته" أي : من استماع مالك جارية مغنية أريد هنا المغنية وفي الحديث "زينوا القرآن بأصواتكم" أي : اظهروا زينته بحسن أصواتكم وإلا فجل كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق ورخص تحصين الصوت والتطريب ما لم يتغير المعنى بزيادة أو نقصان في الحروف.
نانكه ميرود از جاى دل بوقت سماع
هم از سماع بمأواى خود كند رواز
خدايرا حدىء عاشقانه سركن
كه بى حدى نشود قطع راه دور ودراز
ومنها حسن الخط وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الخط الحسن يزيد الحق وضحاً" وهو بالفتح الضوء والبياض وفي الحديث "عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق".
يقول الفقير : حسن الخط مما يرغب فيه الناس في جميع البلاد فاستكمال صنعة الكتابة من الكمالات البشرية وإن كانت من الزيادات لا من المقاصد وقد يتعيش بعض الفقراء بمنافع قلمه ولا يحتاج إلى الغير فتكون المنةعلى كل حال :
برو بحسن خطت دل فراغ كن يارا
ز تنكدستى مبر شكوه اهل دنيارا
ومن الثانية كمال العقل وجزالة الرأى وجراءة القلب وسماحة النفس وغير ذلك من الزيادات المحمودة (در حقايق سلمى آورده كه تواضع در اشراف وسخا در اغنيا وتعفف درفقرا وصدق در مؤمنان وشوق در محبان.
إمام قشيري فرموده كه علوهمت است همت عالى كسى را دهدكه خود خواهد) فالمراد بعلو الهمة التعلق بالمولى لا بالدنيا والعقبى.
همايى ون تو عالى قدر حرص استخوان حيفست
دريغا سايه همت كه برنا اهل افكندى
314
ويقال : يزيد في الجمال والكمال والدمامة.
يقول الفقير : هذا المعنى لا يناسب مقام الامتنان كما لا يخفى على أهل الإذعان {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} بليغ القدرة على كل شيء ممكن وهو تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء مما يوجب قدرته على أن يزيد كل ما يشاؤه إيجاباً بيناً فقد أبان سبحانه أن قدرته شاملة لكل شيء ومن الأشياء الإنقاذ من الشهوات والإخراج من الغفلات والإدخال في دائرة العلم والشهود الذي هو من باب الزيادات فمن استعجز القدرة الإلهية فقد كفر ألا ترى إلى حال إبراهيم بن أدهم حيث تجلى الله له بجمال اللطف الصوري أولاً وأعطاه الجاه والسلطنة ثم منّ له باللطف المعنوي ثانياً حيث أنقذه من حبس العلاقات وخلصه من أيدي الكدورات وشرفه بالوصول إلى عالم الإطلاق والدخول في حرم الوفاق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
ـ حكي ـ أنه كان سبب خروج إبراهيم بن أدهم عن أهله وماله وجاهه ورياسته وكان من أبناء الملوك أنه خرج يوماً يصطاد فأثار ثعلباً ثم أرنباً فبينما هو في طلبه إذ هتف به هاتف ألهذا خلقت أم بهذا أمرت ثم هتف به من قربوس سرجه والله ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فنزل عن مركوبه وصادف راعياً لأبيه فأخذ جبة الراعي من صوف فلبسها وأعطاه فرسه وما معه ثم دخل البادية وكان من شأنه ما كان.
(7/245)
ـ وحكي ـ أن الشيخ أبا الفوارس شاهين بن شجاع الكرماني رضي الله عنه خرج للصيد وهو ملك كرمان فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع فلما رأته ابتدرت نحوه فزجرها الشاب عنه فلما دنا إليه سلم عليه وقال له : يا شاه ما هذه الغفلة عن الله اشتغلت بدنياك عن آخرتك وبلذتك وهواك عن خدمة مولاك إنما أعطاك الله الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة إلى الاشتغال عنه فبينما الشاب يحدثه إذ خرجت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيها إلى الشاه فشربه فقال : ما شربت شيئاً الذّ منه ولا أبرد ولا أعذب ثم غابت العجوز فقال الشاب : هذه الدنيا وكلها الله إلى خدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إليّ حين يخطر ببالي أما بلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها : يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه فلما رأى ذلك تاب وكان منه ما كان فهذان الملكان بالكسر صارا ملكين بالفتح بقدرة الله تعالى فجاء في حقهما يزيد في الخلق ما يشاء والله الموفق.
{مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه مِنا بَعْدِه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يا اأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِا لا إله إِلا هُوَا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} ما شرطية في محل النصب بيفتح.
والفتح في الأصل إزالة الاغلاق وفي العرف الظفر ولما كان سبباً للإرسال والاطلاق استعير له بقرينة لا مرسل له مكان الفاتح.
وفي "الإرشاد" عبر عن إرسالها بالفتح إيذاناً بأنها أنفس الخزائن وأعزها منالاً وتنكيرها للإشاعة والإبهام أي : أي شيء يفتح الله من خزائن رحمته أية رحمة كانت من نعمة وصحة وعلم وحكمة إلى غير ذلك وبالفارسية (آنكه بكشايد خداى براى مردمان وفرستد بديشان از بخشايش خويش ون نعمت وعافيت وصحت) {فَلا مُمْسِكَ لَهَا} أي : لا أحد من المخلوقات يقدر على إمساكها وحبسها فإنه لا مانع لما أعطاه.
قيل : الفتح ضربان : فتح الهي وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات
315
المحمودة فذلك قوله : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (الفتح : 1) وقوله : {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} (المائدة : 52) والثاني فتح دنيوي وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية وذلك قوله : {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} وقوله : {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (الأعراف : 96) {وَمَا يُمْسِكْ} أي : أي شيء يمسكه ويحبسه ويمنعه {فَلا مُرْسِلَ لَهُ} أي : لا أحد من الموجودات يقدر على إرساله وإعطائه فإنه لا معطي لما منعه.
واختلاف الضمير بالتذكير والتأنيث لما أن مرجع الأول مفسر بالرحمة ومرجع الثاني مطلق في كل ما يمسكه من رحمته وغضبه.
ففي التفسير الأول وتقييده بالرحمة إيذان بأن رحمته سبقت غضبه أي : في التعلق وإلا فهما صفتانتعالى لا تسبق إحداهما الأخرى في ذاتهما {مِّنا بَعْدِهِ} على تقدير المضاف أي : من بعد إمساكه ومنعه كقوله : {فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّهِ} أي : من بعد هداية الله {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك فلا أحد ينازعه {الْحَكِيمُ} الذي يفعل ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه كان النبي عليه السلام يقول في دبر الصلاة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وهو بالفتح الحظ والإقبال في الدنيا أي : لا ينفع الفتى المحظوظ حظه منك أي : بدل طاعتك وإنما ينفع العمل والطاعة.
وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً "لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ويعظم برّهم فاجرهم ويعن قراؤهم أمراءهم على معصية الله فإذا فعلوا نزع الله يده عنهم".
صاحب "كشف الأسرار" (كويد أرباب فهم بدانندكه اين آيت درباب فتوح مؤمنان وارباب عرفانست وفتوح آنرا كويند كه ناجسته وناخواسته آيد وآن دوقسمت يكى مواهب صوريه ون رزق نا مكتسب وديكر مطالب معنويه وآن علم لدنيست نا آموخته).
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
دست لطفش منبع علم وحكم
بى قلم بر صفحه دل زد رقم
علم اهل دل نه از مكتب بود
بلكه از تلقين خاص رب بود
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يأتي رزقه الصوري والمعنوي بلا جهد ومشقة وتعب.
(7/246)
ـ روي ـ عن الشيخ أبي يعقوب البصري رضي الله عنه أنه قال جعت مرة في الحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً فحدثتني نفسي أن أخرج إلى الوادي لعلي أجد شيئاً يسكن به ضعفي فخرجت فوجدت سلجمة مطروحة فأخذتها فإذا برجل جاء فجلس بين يديّ ووضع قمطرة وقال هذه لك فقلت كيف خصصتني بها؟ فقال : اعلم إنا كنا في البحر منذ عشرة أيام فأشرفت السفينة على الغرق فنذر كل واحد منا نذراً إن خلصنا الله أن يتصدق بشيء ونذرت أنا إن خلصني الله أن أتصدق بهذه على أول من يقع عليه بصري من المجاورين وأنت أول من لقيته قلت : افتحها ففتحها فإذا فيها كعك ممصر ولوز مقشر وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت : ردّ الباقي إلى صبيانك هدية مني إليهم وقد قبلتها ثم قلت في نفسي رزقك يسير إليك منذ عشرة أيام وأنت تطلبه في الوادي.
316
صائب فريب نعمت الوان نمى خوريم
روزىء خود زخوان كرم ميخوريم ما
وقال :
كشاد عقده روزى بدست تقديراست
مكن ز رزق شكايت ازين وآن زنهار
اللهم افتح لنا خير الباب وارزقنا مما رزقت أولى الألباب إنك مفتح الأبواب.
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} عامة فاللام للجنس أو يا أهل مكة خاصة فاللام للعهد {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} نعمه رسمت بالتاء في أحد عشر موضعاً من القرآن ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب أي : إنعامه عليكم إن جعلت النعمة مصدراً وكائنة عليكم إن جعلت اسماً أي : راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة بمعطيها سواء كانت نعمة خارجة كالمال والجاه أو نعمة بدنية كالصحة والقوة أو نعمة نفسية كالعقل والفطنة ولما كان ذكر النعمة مؤدياً إلى ذكر المنعم قال بطريق الاستفهام الإنكاري {هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} أي : هل خالق مغاير له تعالى موجود أي : لا خالق سواه على أن خالق مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه من تأكيدا للعموم وغير الله نعت له باعتبار محله كما أنه نعت له في قراءة الجر باعتبار لفظه.
قال في "الأسئلة المقحمة" : أي : حجة فيها على المعتزلة الجواب أنه تعالى أخبر بأن لا خالق غيره وهم يقولون : نحن نخلق أفعالنا وقوله من صلة وذلك يقتضي غاية النفي والانتفاء {يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} أي : المطر من السماء والنبات من الأرض وهو كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب ولا مساغ لكونه صفة أخرى لخالق لأن معناه نفي وجود خالق موصوف بوصفي المغايرة والرازقية معاً من غير تعرق لنفي وجود ما اتصف به المغايرة فقط ولا لكونه خبراً للمبتدأ لأن معناه نفي رازقية خالق مغاير له من غير تعرض لنفي وجوده رأساً مع أنه المراد حتماً وفائدة هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلق قلبه بأحد في طلب شيء ولا يتذلل للإنفاق لمخلوق وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضاً فيتخلص من ظلمات تدبيره واحتياله وتوهم شيء من أمثاله وأشكاله ويستريح بشهود تقديره.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
قال شيخي وسندي روّح الله روحه من بعض تعليقاته يا مهموماً بنفسه كنت من كنت لو ألقيتها إلينا وأسقطت تدبيرها وتركت تدبيرك لها واكتفيت بتدبيرنا لها من غير منازعة في تدبيرنا لها لاسترحت جعلنا الله وإياكم هكذا بفضله آمين {لا إله إِلا هُوَ} وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية {فَأَنَّى} فمن أي : وجه {تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن التوحيد إلى الشرك وعن عبادته إلى عبادة الأوثان فالفاء لترتيب إنكار عدولهم عن الحق إلى الباطل على ما قبلها.
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ * يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} أي : وإن استمر المشركون على أن يكذبوك يا محمد فيما بلغت إليهم فلا تحزن واصبر {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} أولوا شأن خطير وذووا عدد كثير {مِّن قَبْلِكَ} فصبروا وظفروا {وَإِلَى اللَّهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُ الامُورُ} من الرجع وهو الرد أي : ترد إليه عواقبها فيجازي كل صابر على صبره وكل مكذب على تكذيبه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم وأولياء أمته وتسهيل الصبر على الأذية إذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثل ما استقبله وأنهم لما صبروا كفاهم علم أنه يكفيه بسلوك
317
(7/247)
سبيلهم والاقتداء بهم وليعلم أرباب القلوب أن حالهم مع الأجانب من هذه الطريقة كأحوال الأنبياء مع السفهاء من أممهم وأنهم لا يقبلون منهم إلا القليل من أهل الإرادة وقد كان أهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية ولا يتخلصون إلا بستر حالهم عنهم والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتقشفين والعلماء الذين هم لهذه الأصول منكرون وإقرار المقرين وإنكار المنكرين ليس يرجع إليهم بل يرجع إلى تقدير عليم حكيم يعلم المبدأ والمعاد ويدبر على وفق إرادته الأحوال.
فعلى العاقل أن يختار طريق العشق والإقرار وإن كان فيه الأذى والملامة ويجتنب عن طريق النفي والإنكار وإن كان فيه الراحة والسلامة فإن ذرة من العشق خير للعاشقين من كثير من أعمال العابدين قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
هرند غرق بحر كناهم ز صد جهت
كر آشناى عشق شوم غرق رحمتم
وطريق العشق هو التوحيد وإثبات الهوية بالتفريد كما قال : {لا إله إِلا هُوَ} وهو كناية عن موجود غائب والغائب عن الحواس الموجود في الأزل هو الله تعالى وهو ذكر كل من المبتدى والمنتهى أما المبتدي ففي حقه غيبة لأنه من أهل الحجاب وأما المنتهى ففي حقه حضور لأنه من أهل الكشف فلا يشاهد إلا الهوية المطلقة وهو مركب في الحس من حرفين وهما : "ه و" وفي العقل من حرفين أيضاً وهما "اى" فكانت حروفه في الحس والعقل أربعة لتدل على الإحاطة التربيعية التي هي إحاطة هو الأول : والآخر والظاهر والباطن ولما كانت الأولية والآخروية اعتبارين عقليين دل عليهما بالألف والياء ولما كانت الظاهرية والباطنية اعتبارين حسيين دل عليهما بالهاء والواو فألف هو غيب في هائه وياؤه غيب في واوه.
واعلم أن الذكر خير من الجهاد فإن ثواب الغزو والشهادة في سبيل الله حصول الجنة والذاكر جليس الحق تعالى كما قال : "أنا جليس من ذكرني" وشهود الحق أفضل من حصول الجنة ولذلك كانت الرؤية بعد حصول الجنة وشرط الذكر الحضور بالقلب والروح وجميع القوى.
حضور قلب ببايدكه حق شود مشهود
وكرنه ذكر مجرد نمى دهد يك سود
يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث والجزاء {حَقٌّ} ثابت لا محالة لا خلف فيه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن كل ما وعد به الله من الثواب والعقاب والدرجات في الجنة والدركات في النار والقربات في أعلى عليين وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر والبعد إلى أسفل سافلين حق فإذا علم ذلك استعد للموت قبل نزول الموت ولم يهتم للرزق ولم يتهم الرب في كفاية الشغل ونشط في استكثار الطاعة ورضي بالمقسوم {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} بأن يذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها وتقطعكم زينتها وشهواتها عن الرياضات والمجاهدات وترك الأوطان ومفارقة الإخوان في طريق الطلب والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها.
وفي بعض الآثار "يا ابن آدم لا يغرنك طول المهلة فإنما يعجل بالأخذ من يخاف الفوت".
وعن العلاء بن زياد رأيت الدنيا في منامي قبيحة عمشاء ضعيفة عليها من كل زينة فقلت : من أنت أعوذ بالله منك فقالت : أنا الدنيا فإن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدراهم يعني لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق وفي الحديث :
318
"الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهال" وذلك لأن الأكياس يزرعون في مزرعة الدنيا أنواع الطاعات فيغتنمون بها يوم الحصاد بخلاف من جهل أن الدنيا مزرعة الآخرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
دل اندر دلارام دنيا مبند
كه ننشست باكس كه دل برنكند
{وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ} وكرمه وعفوه وسعة رحمته {الْغَرُورُ} فعول صيغة مبالغة كالشكور والصيور وسمي به الشيطان لأنه لا نهاية لغروره ، بالفارسية : (فريفتن).
وفي "المفردات" الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل الدنيا تغر وتضر وتمر.
والمعنى ولا يغرنكم بالله الشيطان المبالغ في الغرور بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلاً اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعاً وأنه غني عن عبادتكم وتعذيبكم فإن ذلك وإن أمكن لكن تناول الذنوب بهذا التوقع من قبيل تناول السم اعتماداً على دفع الطبيعة فالله تعالى وإن كان أكرم الأكرمين مع أهل الكرم لكنه شديد العقاب مع أهل العذاب (بزركان فرموده اندكه يكى مصائد ابليس تسويفست در توبه يعني توبه بنده را در تأخير افكند كه فرصت باقيست عشرت نقد از دست مده) :
امشب همه شب يار ومى وشاهد باش
ون روز شود توبه كن وزاهد باش
(عاقل بايدكه بدين فريب ازراه نرود وازنكته "الفرصة تمر مر السحاب" غافل نكردد).
عذر فاردا فكندى عمر فرداراكه ديد†
(7/248)
يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
{إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} عداوة قديمة بما فعل بأبيكم ما فعل لا تكاد تزول وتقديم لكم للاهتمام به {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم وكونكم على حذر منه في جميع أحوالكم (از بزركى رسيدندكه كونه شيطانرا دشمان كيريم كفت از ى آرزو مرويد ومتابع هواى نفس مشويد وهره كنيد بايدكه موافق شرع ومخالف طبع بود) فلا تكفي العداوة باللسان فقط بل يجب أن تكون بالقلب والجوارح جميعاً ولا يقوى المرء على عداوته إلا بملازمة الذكر ودوام الاستعانة بالرب فإن من هجم عليه كلاب الراعي يشكل عليه دفعها إلا أن ينادي الراعي فإنه يطردها بكلمة منه {إِنَّمَا يَدْعُوا} الشيطان {حِزْبَهُ} جماعته واتباعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
قال في "التأويلات" : حزبه المعرضون عن الله المشتغلون بغير الله {لِيَكُونُوا} أي : حزبه {مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} يعني : (جزاين نيست كه مى خواند شيطان باتباع هوى وميل بدنيا كروه خودرا يعني ى روان وفرمان بردارنرا تا باشند در آخرت با آواز ياران آتش يعني ملازمان دوزخ).
قال في "الإرشاد" : تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس تحصيل مطالبهم ومنافعهم الدنيوية كما هو مقصد المتحابين في الدنيا عند سعي بعضهم في حاجة بعض بل هو توريطهم وإلقاؤهم في العذاب المخلد من حيث لا يحتسبون.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : ثبتوا على الكفر بما وجب به الإيمان وأصروا عليه {لَهُمْ} بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان
319
{عَذَابٌ شَدِيدٌ} معجل ومؤجل.
فمعجله تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وخساسة همتهم حتى أنهم يرضون بأن يكون معبودهم الأصنام والهوى والدنيا والشيطان.
ومؤجله عذاب الآخرة وهو مما لا تخفى شدته وصعوبته {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} ثبتوا على الإيمان واليقين {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي : الطاعات الخالصةتحصيلاً لزيادة نور الإيمان {لَهُمْ} بسبب إيمانهم وعملهم الصالح الذي من جملته عداوة الشيطان {مَّغْفِرَةٌ} عظيمة وهي في المعجل ستر ذنوبهم ولولا ذلك لافتضحوا وفي المؤجل محوها من ديوانهم ولولا ذلك لهلكوا {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لا غاية له وهو اليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة وما يناله في قلبه من زوائد اليقين وخصائص الأحوال وأنواع المواهب وفي الآخرة تحقيق المسؤول ونيل ما فوق المأمول.
قيل : مثل الصالحين وما زينهم الله به دون غيرهم مثل جند قال لهم الملك : تزينوا للعرض عليّ غداً فمن كانت زينته أحسن كانت منزلته عندي أرفع ثم يرسل الملك في السر بزينة عنده ليس عند الجند مثلها إلى خواص مملكته وأهل محبته فإذا تزينوا بزينة الملك فخروا على سائر الجند عند العرض على الملك فالله تعالى وفقهم للأعمال الصالحة وزينهم بالطاعات الخالصة وحلاهم بالتوجهات الصافية بتوفيقه الخاص قصداً إلى الاصطفاء والاختصاص فميزهم بها في الدنيا عن سائرهم وبأجورها العظيمة في الآخرة لمفاخرهم فليحمد الله كثيراً من استخدمه الله واستعمله في طريق طاعته وعبادته فإن طريق الخدمة قلّ من يسلكه خصوصاً في هذا الزمان وسبيل العشق ندر من يشرع فيها من الإخوان ، قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نشان اهل خدا عاشقيست باخود دار
كه در مشايخ شهر اين نشان نمى بينم
ولله عباد لهم قلوب الهموم عمارتها والأحزان أوطانها والعشق والمحبة قصورها وبروجها.
أحبك حبين حب الهوى
وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فذكر شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
لا حمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
نسأل الله سبحانه أن يعمر قلوبنا بأنواع العمارات ويزين بيوت بواطننا بأصناف الإرادات ويحشرنا مع خواص عباده الذين لهم أجر كبير وثواب جزيل ويشرفنا بمطالعة أنوار وجهه الجميل إنه الرجو في الأول والآخر والباطن والظاهر.
(7/249)
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِمَا يَصْنَعُونَ * وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ} (التزيين : آراستن) {سُواءُ عَمَلِهِ} أي : قبيح عمله بالفارسية (زشت وبد) {فَرَءَاهُ حَسَنًا} فظنه جميلاً لأن رأى إذا عدّى إلى مفعولين اقتضى معنى الظن والعلم والمعنى أبعد تباين عاقبتي الفريقين يكون من زين له الكفر من جهة الشيطان فانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح أي : لا يكون فحذف ما حذف لدلالة ما سبق عليه {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ} إلى آخره تقرير له وتحقيق للحق ببيان أن الكل بمشيئة الله تعالى أي : فإنه تعالى يضل {مَن يَشَآءُ} أن يضله لاستحسانه الضلال وصرف اختياره إليه فيرده إلى أسفل سافلين {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} أن يهديه لصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين
320
{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} الفاء للسببية فإن ما سبق سبب للنهي عن التحسر.
والذهاب المضيّ وذهاب النفس كناية عن الموت.
والحسرة شدة الحزن على ما فات والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه وقوله : حسرات مفعول له والجمع للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه السلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر وعليهم صلة تذهب كما يقال هلك عليه حباً ومات عليه حزناً ولا يجوز أن يتعلق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته والمعنى إذا عرفت أن الكل بمشيئة الله فلا تهلك نفسك للحسرات على غيهم وإصرارهم والغموم على تكذيبهم وإنكارهم ، وبالفارسية : (س بايدكه نرود جان تو يعني هلاك نشود براى حسرتهاى متوالى كه مى خورى وتأسفهاى كونا كون كه دارى برفعلهاى ناخوش ايشان كه هريك مقتضى حسرت است) فقد بذلت لهم النصح وخرجت عن عهدة التبليغ فلا مشقة لك من بعد وإنما المشقة عليهم في الدنيا والآخرة لأنهم سقطوا عن عينك ومن سقط عن عينك فقد سقط عن عين الله فلا يوجد أحد يرحمه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ} بليغ العلم {بِمَا يَصْنَعُونَ} يفعلون من القبائح فيجازيهم عليها جزاء قبيحاً فإنهم وإن استحسنوا القبائح لقصور نظرهم فالقبيح لا يكون حسناً أبداً.
واعلم أن الكافر يتوهم أن عمله حسن كما قال تعالى : {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف : 104) ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها ولا يتفكر في زوالها ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها فقد زين له سوء عمله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
شد قواى جمله اجزاى جسمت درفنا
باهزاران آرزو دست وكريبانى هنوز
ثم الذي يتوهم أنه إذا وجد نجاته ودرجاته في الجنة فقد استراح واكتفى فقد زين له سوء عمله حيث تغافل عن حلاوة مناجاة ربه فإنها فوق نعيم الجنان.
ما ييم وهمين عاشقي ولذت ديدار
زاهد تو برو در طلب خلد برين باش
فمن زين له الدنيا بشهواتها ليس كمن زين له العقبى بدرجاتها ومن زين له نعيم العقبى ليس كمن زين له جمال المولى أي : لا يستوي هذا وذاك فاصرف إلى الأشهى هواك والله تعالى هو مبدأ كل حسن فمن وصل إليه حسن بحسن ذاته وصفاته وأفعاله وأعماله ومن وجده وجد كل شيء ومن لم يجده لم يجد شيئاً وإن وجد الدنيا كلها (نقلست كه ابراهيم بن أدهم قدس سره روزى برلب دجله نشسته بود خرقه مى دوخت سوزنش بدريا افتد يكى ازو رسيد كه ملك نان از دست دادى ه يافتى اشارت بدريا كرد كه سوزنم بدهيد قرب هزار ما هى ازدريا بر آمدند هر يكى سوزن زرين برلب كرفته كفت سوزن من خواهم ما هيكه ضعيف بر آمد وسوزن او آورد بستد وكفت كمترين يزى كه يافتم اين است باقى تو ندانى) فهذا من ثمرات الهداية الخاصة ونتائج النيات الخالصة والأعمال الصالحة وحسن الحال مع الله تعالى ولا يحصل إلا لمن أخذ الأمر من طريقه فأصلح الطبيعة في مرتبة الشريعة والنفس في مرتبة الطريقة وحسن ما حسنه الشرع والعقل السليم وقبح ما قبحه كل منهما فأما أصحاب الأهواء والبدع فقد زين لهم سوء أعمالهم
321
ونياتهم من جهة الشيطان فضلوا طريق الهدى والسنة نسأل الله سبحانه أن يجعلنا على صراطه المستقيم الذي سلكه أهل الدين القويم ويهدينا إلى الأعمال الحسنة ويحلينا بالأخلاق المستحسنة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/250)
{وَاللَّهُ} وحده وهو مبتدأ خبره قوله {الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ} الإرسال في القرآن على معنيين : الأول بمعنى (فرستادن) كما في قوله تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ} .
والثاني بمعنى (فرو كشادن) كما في قوله تعالى : {أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ} .
وفي "المفردات" : الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة وقد يكون ذلك للتسخير كإرسال الريح والمطر وقد يكون ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (مريم : 83) والإرسال يقابل الإمساك.
والرياح : جمع ريح بمعنى الهواء المتحرك أصله روح ولذا يجمع على أرواح وأما أرياح قياساً على رياح فخطأ.
قال صاحب "كشف الأسرار" (الله است كه فرو كشايد بتقدير وتدبير خويش بهنكام دربايست وباندازه دربايست بادهاى مختلف از مخارج مختلف) أراد بها الجنوب والشمال والصبا فإنها رياح الرحمة لا الدبور فإنها رياح العذاب أما الجنوب فريح تخالف الشمال مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا وأما الشمال بالفتح ويكسر فمهبها بين مطلع الشمس وبنات النعش أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر ولا تكاد تهب ليلاً وأما الصبا فمهبها من جانب المشرق إذا استوى الليل والنهار سميت بها لأنها تصبو إليها النفوس أي : تميل ويقال لها القبول أيضاً بالفتح لأنها تقابل الدبور أو لأنها تقابل باب الكعبة أو لأن النفس تقبلها {فَتُثِيرُ سَحَابًا} تهيجه وتنشره بين السماء والأرض لإنزال المطر فإنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعاً.
قال في "تاج المصادر" (الإثارة : برانكيختن كرد وشورانيدن زمين وميغ آوردن باد) والسحاب جسم يملأه الله ماء كما شاء وقيل بخار يرتفع من البحار والأرض فيصيب الجبال فيستمسك ويناله البرد فيصير ماء وينزل وأصل السحب الجر كسحب الذيل والإنسان على الوجه ومنه السحاب لجره الماء وصيغة المضارع مع مضي أرسل وسقنا لحكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة ولأن المراد بيان إحداثها لتلك الخاصية ولذلك أسند إليها {فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} السوق بالفارسية (راندن) والبلد المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه ولاعتبار الأثر قيل : بجلده بلد أي : أثر والبلد الميت هو الذي لا نبت فيه قد أغبر من القحط.
قال الراغب : الموت يقال بإزاء القوة النامية الموجودة في النبات ومقتضى الظاهر فساقه أي : ساق الله ذلك السحاب وأجراه إلى الأرض التي تحتاج إلى الماء وقال فسقناه إلى بلد التفاتاً من الغيبة إلى التكلم دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى وأن الكل منه والوسائط أسباب وقال إلى بلد ميت بالتنكير قصداً به إلى بعض البلاد الميتة وهي بلاد الذين تبعدوا عن مظان الماء
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{فَأَحْيَيْنَا} الفاآت الثلاث للسببية فإن ما قيل كل واحدة منها سبب لمدخولها غير أن الأولى دخلت على السبب بخلاف الأخيرتين فإنهما دخلتا على المسبب {بِهِ} أي : بالمطر النازل من السحاب المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازماً في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب {الارْضِ} أي : صيرناها
322
خضراء بالنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي : يبسها {كَذَالِكَ النُّشُورُ} الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي : مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الموتى وإخراجهم من القبور يوم الحشر في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلاً سوى الألف في الأول دون الثاني فالآية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث حيث دلهم على مثال يعاينونه.
وعن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الموتى؟ قال : "أما مررت بواد ممحلاً ثم مررت به خضراً" قلت : بلى قال : "فكذلك يحيي الله الموتى" أو قال : "كذلك النشور".
وقال بعضهم في آية كذلك النشور أي : في كيفية الإحياء فكما أن إحياء الأرض بالماء فكذا إحياء الموتى كما روي أن الله تعالى يرسل من تحت العرش ماء كمني الرجال فينبت به الأجساد كنبات البقل ثم يأمر إسرافيل فيأخذ الصور فينفخ نفخة ثانية فتخرج الأرواح من ثقب الصور كأمثال النحل وقد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله : ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض فيخرجون حفاة عراة.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى من سنته إذا أراد إحياء أرض يرسل الرياح فتثير سحاباً ثم يوجه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد تخصيصاً له كيف يشاء أو يمطرها هنالك كيف يشاء كذلك إذا أراد إحياء قلب عبد يرسل أولاً رياح الرجاء ويزعج بها كوامن الإرادة ثم ينشىء فيه سحاب الاحتياج ولوعة الإنزعاج ثم يأتي بمطر الجود فينبت به في القلب أزهار البسط وأنوار الروح ويطيب لصاحبه العيش والحضور.
يا رب از ابر هدايت برسان بارانى
(7/251)
يشتر زانكه و كردى زمان برخيزم
المقصود طلب الهداية الخاصة إلى الفيض الإلهي الذي يحصل عند الفناء التام.
{وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَالِكَ النُّشُورُ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَمَكْرُ أولئك هُوَ يَبُورُ * وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{مَن كَانَ} (هركه باشد) {يُرِيدُ الْعِزَّةَ} الشرف والمنعة بالفارسية : (ارجمندى).
قال الراغب : العز حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم أرض عزاز أي : صلبة والعزيز الذي يقهر ولا يقهر والعزة يمدح بها تارة كما قال تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) ويذم بها أخرى كعزة الكافرين وذلك أن العزة التيولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية والعزة التي للكافرين هي التعزز وهو في الحقيقة ذل والمراد بما في الآية المشركون المتعززون بعبادة الأصنام والمنافقون المتعززون بالمشركين {فَلِلَّهِ} وحده لا لغيره {الْعِزَّةَ} حال كونها {جَمِيعًا} أي : عزة الدنيا وعزة الآخرة لا يملك غيره شيئاً منها أي : فليطلبها من عنده تعالى بطاعته وتقواه لا من عند غيره فاستغنى عن ذكره بذكر دليله إيذاناً بأن اختصاص العزة به تعالى موجب لتخصيص طلبها به تعالى ونظيره قولك من أراد العلم فهو عند العلماء أي : فليطلبه من عندهم لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه فقد أقمت الدليل مقام المدلول وأثبت العزة في آية أخرىولرسوله وللمؤمنين وجه الجمع بينهما أن عز الربوبية والإلهيةتعالى وصفاً وعز الرسول وعز المؤمنين له فعلاً ومنة وفضلاً فإذا العزةجميعاً.
قال الكاشفي : (وبعزة أو رسول ومؤمنان متعززند عزت در موافقت اوست ومذلت در مخالفت او).
323
عزيزي كه هركه از درش سر بتافت
بهر دركه شد هي عزت نيافت
وفي الحديث "إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز" ثم بين ما يطلب به العزة وهو الإيمان والعمل الصالح فقال : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الضمير إلى الله تعالى وهو الظاهر.
والصعود الذهاب في المكان العالي استعير لما يصل من العبد إلى الله كما استعير النزول لما يصل من الله إلى العبد.
والكلم بكسر اللام جنس كنمر كما ذهب إليه الجمهور ولذا وصف بالمذكر لا جمع كلمة كما ذهب إليه البعض وأصل الطيب الذي به يطلب العزة لا إلى الملائكة الموكلين بأعمال العباد فقط وهو يعز صاحبه ويعطي مطلوبه بالذات.
وقال بعضهم : الكلم يتناول الدعاء والاستغفار وقراءة القرآن والذكر من قوله : "سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر" ونحو ذلك مما كان كلاماً طيباً.
وقيل : إليه يصعد أي : إلى سمائه ومحل قبوله وحيث يكتب الأعمال المقبولة لا إلى الله كما قال : {إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) وقال الخليل : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) أي : ذاهب إلى الشام الذي أمرني بالذهاب إليه.
فالظاهر أن الكتبة يصعدون بصحيفته إلى حيث أمر الله أن توضع أو يصعد هو بنفسه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
قال بعض الكبار : بعض الأعمال ينتهي إلى سدرة المنتهى وبعضها يتعدى إلى الجنة وبعضها إلى العرش وبعضها يتجاوز العرش إلى عالم المثال وقد يتعدى من عالم المثال إلى اللوح ثم إلى المقام القلمي ثم إلى العماء وذلك بحسب تفاوت مراتب العمال في الصدق والإخلاص وصحة التصوير والشهود والعيان.
فعلى هذا فبعض الأعمال يتجاوز السماء وعالم الأجسام كلها فيكون محل قبوله ما فوقها مما ذكر فسدر الانتهاآت إذاً كثيرة بعضها فوق بعض إلى مرتبة العماء نسأل الله قبول الأعمال وصحت توجه البال وقوة الحال {وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} الرفع يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها وتارة في البناء إذا طولته وتارة في الذكر إذا نوهته وتارة في المنزلة إذا شرفتها كما في "المفردات".
وفي مرجع المستكن في يرفعه وجوه :
الأول : أنه للكلم فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده القراءة بنصب العمل يعني أن التوحيد يصعد بنفسه ويرفع العمل الصالح بأن يكون سبباً لقبوله ألا ترى أن أعمال الكفار مردودة محبطة لوجود الشرك.
(7/252)
والثاني : أنه للعمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه ولا ينال الدرجات العالية إلا به كما في "الإرشاد".
وقال الشيخ : التوحيد إنما قبل بسبب الطاعة إذ هو مع العصيان لا ينفع أي : لا يمنع العقاب والأولى ما في "الإرشاد" فإن الأعمال كالمراقي وقول بلا عمل كثريد بلا دسم وسحاب بلا مطر وقوس بلا وتر.
وقال الكاشفي في الآية : (وعمل شايسته برميدارد آنرا وبمحل قبول ميرساند ه مجرد قول بي عمل صالح كه اخلاصست نافع نيست.
يا كلم طيب دعاست وعمل صالح صدقه مساكين ودرغالب اجابت دعوات بتصدقاتست.
يا كلم طيب دعاى ائمه است وعمل تأمين جماعيتان.
يا كلم تكبير غزاست وعمل شمشير زدن.
يا كلم استغفاراست وعمل ندم ودرين همه صور بردارنده كلمه عمل است).
والثالث أنهتعالى يعني يتقبله.
قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال وتخصيص العمل بهذا الشرف على هذا الوجه لما فيه من الكلفة.
وقال في "حل الرموز" : قالوا : كلمة "لا إله إلا الله
324
محمد رسول الله" تصعد إلى الله بنفسها وغيرها من الأذكار والأعمال ترفعها الملائكة كما قال تعالى : {وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} أي : يرفعه الحق ويقبله على أيدي الملائكة من الحفظة والسفرة وقد روي أن دعوة اليتيم وكذا دعوة المظلوم تصعد إلى الله بنفسها أي : من غير ملائكة.
وفيه معنى آخر وهو أن يرفعه بمعنى يجعله ذا قدر وقيمة مثل ثوب رفيع ومرتفع يعني : (قدر ومرتبه او رفيع سازد مراد عمل موحد مخلص است كه هي يزى بقيمت آن نيست وكاريرا كه بآن آميخته باشد ازهمه يزى خوارتر وبى مقدار تراست) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
كرت بيخ اخلاص در يوم نيست
ازين در كسى ون تو محروم نيست
زر قلب آلوده بى قيمت است
زريرا كه خالص بود حرمت است
وفي "التأويلات النجمية" : بقوله : {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} يشير إلى أن الإنسان خلق ذليلاً مهيناً محتاجاً إلى كل شيء ولا يحتاج شيء إلى شيء كاحتياج الإنسان إلى الأشياء كلها ولا يحتاج إلى كل شيء إلا الإنسان والذلة قرين الحاجة فمن ازدادت حاجته ازدادت مذلته {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} لعدم احتياجه وكل شيء ذليل له لاحتياجه إليه فكلما كان احتياج الإنسان كاملاً كان ذله كاملاً فقال تعالى : {كَمَن كَانَ} إلى آخره أي : لا يطلب العزة من غير الله لأنه ذليل أيضاًفبقدر قطع النظر عن الأشياء وطلب العزة منها تنقص ذلة العبد وتزيد عزته إلى أن لا يبقى له الاحتياج إلى غير الله ولا يزول الاحتياج والافتقار إلى غير الله من القلوب إلا بنفي لا إله وإثبات إلا الله فبالنفي تنقطع تعلقاته عن الكونين وبالاثبات يتوجه بالكلمة إلى الحق تعالى فإذا لم يبق له تعلق ترجع حقيقة الكلمة إلى الحضرة كما أن النار تستنزل من الفلك الأثير باصطكاك الحجر والحديد ثم يوقد بها شجرة فالنار تأكل الشجرة وتفنيها من الحطبية وتبقيها بالنارية إلى أن تفنى الشجرة بالكلية فلما لم يبق من وجود الحطب شيء ترجع النار إلى الأثير وهذا سرّ قول الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} والعمل الصالح هو أركان الشريعة فأول ركن منها كمال استنزال نار نور الله من أثير الحضرة باصطكاك حديد "لا إله إلا الله" وحجر القلب القاسي فلما وقعت النار في شجرة الوجود الإنساني عمل العبد بركن من الأركان الخمسة التي بنى الإسلام عليها والأركان الأربعة الباقية هي العمل الصالح الذي يقلع أصل الشجرة من أرض الدنيا ويقطعها قطعاً تستعد به لقبولها النار واشتعالها بالنار واحتراقها بها لتقع النار إلى أن تحترق الشجرة بالكلية وترفع بالعبور عن الشجرة إلى أثير الحضرة ولما كانت الشجرة مشتعلة بتلك النار آنس موسى عليه السلام من جانب الطور ناراً فلما أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة على لسان الشعلة {إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} (القصص : 30) تأمله تفهم إن شاء الله تعالى
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة.
وفي "القاموس" : المكر الخديعة وهذا بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح وانتصاب السيآت على أنها صفة للمصدر المحذوف فإن يمكر لازم لا ينصب المفعول به أي : يمكرون المكرات السيآت وهي مكرات قريش بالنبي عليه السلام في دار الندوة وتدارؤهم الرأي في إحدى الثلاث التي هي
325
(7/253)
الإثبات والقتل والإخراج كما حكى الله عنهم في سورة الأنفال بقوله : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال : 30) {لَهُمْ} بسبب مكراتهم {عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدنيا والآخرة لا يدرك غايته ولا يبالي عنده بما يمكرون به {وَمَكْرُ أُولَئكَ} المفسدين الذين أرادوا أن يمكروا به عليه السلام.
وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للإيذان بكمال تميزهم بما هم فيه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك {هُوَ} خاصة دون مكر الله بهم.
وفي "الإرشاد" لا من مكروا به {يَبُورُ} يهلك ويفسد فإن البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر بالبوار عن الهلاك والفساد ولقد أبارهم الله تعالى إبارة بعد إبارة مكراتهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه السلام بواحدة منهن قل كل يعمل على شاكلته.
فللمكر السيء قوم أشقياء غاية أمرهم الهلاك وللكلم الطيب والعمل الصالح قوم سعداء نهاية شأنهم النجاة.
قال مجاهد وشهر بن حوشب : المراد بالآية أصحاب الرياء.
وفي "التأويلات النجمية" : بقوله : {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} يشير إلى الذين يظهرون الحسنات بالمكر ويخفون السيآت من العقائد الفاسدة ليحسبهم الخلق من الصالحين الصادقين {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وشدة عذابهم في تضعيف عذابهم فإنهم يعذبون بالسيآت التي يخفونها ويضاعف لهم العذاب بمكرهم في إظهار الحسنات دون حقيقتها كما قال تعالى : {وَمَكْرُ أولئك هُوَ يَبُورُ} أي : مكرهم يبوّرهم ويهلكهم انتهى وإنما تظهر الكرامات بصدق المعاملات.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : (كفت شبى خانه بوشن كشت كفتم اكرشيطانست من ازان عزيز ترم وبلندهمت كه اورا در من طمع افتد واكر از نزديك تست بكذار تا ازسراى خدمت بسراى كرامت رسم) فالخدمة في طريق الحق بالخلوص وسيلة إلى ظهور الأنوار وانكشاف الأسرار.
وقد قيل : ليس الإيمان بالتمني يعني لا بد للتصديق من مقارنة العمل ولا بد لتحقيق التصديق من صدق المعاملة فمن وقع في التمني المجرد فقد اشتهى جريان السفينة في البر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
كر همه علم عالمت باشد
بى عمل مدعى وكذابى
حفظنا الله وإياكم من ترك المحافظة على الشرائع والأحكام وشرفنا بمراعاة الحدود والآداب في كل فعل وكلام إنه ميسر كل مراد ومرام.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} دليل آخر على صحة البعث والنشور أي : خلقكم ابتداء من التراب في ضمن خلق آدم خلقاً إجمالياً لتكونوا متواضعين كالتراب.
وفي الحديث "إن الله جعل الأرض ذلولاً تمشون في مناكبها وخلق بني آدم من التراب ليذلهم بذلك فأبوا إلا نخوة واستكباراً ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر".
وقال بعضهم من تراب تقبرون وتدفنون فيه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنكم أبعد شيء من المخلوقات إلى الحضرة لأن التراب أسفل المخلوقات وكثيفها فإن فوقه ماء وهو ألطف منه وفوق الماء هواء وهو ألطف منه وفوق الهواء أثير وهو ألطف من الهواء وفوق الأثير السماء وهي ألطف من الأثير ولكن لا تشبه
326
لطافة السماء بلطافة ما تحتها من العناصر لأن لطافة العناصر من لطافة الأجسام ولطافة السموات من لطافة الأجرام.
فالفرق بينهما أن لطافة الأجسام تقبل الخرق والالتئام ولطافة السموات لا تقبل الخرق والالتئام وفوق كل سماء سماء هي ألطف منها إلى الكرسي وهو ألطف من السموات وفوقه العرش وهو ألطف من الكرسي وفوقه عالم الأرواح وهو ألطف من العرش ولكن لا تشبه لطافة الأرواح بلطافة العرش والسموات لأنها لطافة الأجرام فالفرق بينهما أن لطافة الأجرام قابلة للجهات الست ولطافة الأرواح غير قابلة للجهات وفوق الأرواح هو الله القاهر فوق عباده وهو ألطف من الأرواح ولكن لطافته لا تشبه لطافة الأرواح لأن لطافة الأرواح نورانية علوية محيطة بما دونها إحاطة العلم بالمعلوم والله تعالى فوق كل شيء وهو منزه عن هذه الأوصاف ليس كمثله شيء وهو السميع البصير العليم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} النطفة هي الماء الصافي الخارج من بين الصلب والترائب قل أو كثر أي : ثم خلقكم من نطفة خلقاً تفصيلياً لتكونوا قابلين لكل كمال كالماء الذي هو سر الحياة ومبدأ العناصر الأربعة.
وقال بعضهم : خلقكم من تراب يعني آدم وهو أصل الخلق ثم من نطفة ذرية منه التناسل والتوالد.(7/254)
وفي "التأويلات" : يشير إلى أنه خلقكم من أسفل المخلوقات وهي النطفة لأن التراب نزل دركة المركبية ثم دركة النباتية ثم دركة الحيوانية ثم دركة الإنسانية ثم دركة النطفة فهي أسفل سافلي المخلوقات وهي آخر خلق خلقه الله تعالى من أصناف المخلوقات كما أن أعلى الشجرة آخر شيء يخلقه الله هو البذر الذي يصلح أن توجد منه الشجرة فالبذر آخر صنف خلق من أصناف أجزاء الشجرة {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أصنافاً أحمر وأبيض وأسود أو ذكراناً وإناثاً.
وعن قتادة جعل بعضكم زوجاً لبعض.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
وفي "التأويلات" : يشير إلى ازدواج الروح والقالب فالروح من أعلى مراتب القرب والقالب من أسفل دركات البعد فبكمال القدرة والحكمة جمع بين أقرب الأقربين وأبعد الأبعدين ورتب للقالب في ظاهره الحواس الخمس وفي باطنه القوى البشرية ورتب للروح المدركات الروحانية ليكون بالروح والقالب مدركاً لعوالم الغيب والشهادة كلها وعالماً بما فيها خلافة عن حضرة الربوبية عالم الغيب والشهادة :
آدمي شاه وكائنات سا
مظهر كل خليفة الله
{وَمَا} نافية {تَحْمِلُ} (برنكيرد يعني ازفرزند) {مِنُهُمُ اثْنَىْ} (هي زنى) من مزيدة لاستغراق النفي وتأكيده والأنثى خلاف الذكر ويقالان في الأصل اعتباراً بالفرجين كما في "المفردات" {وَلا تَضَعُ} (وننهد آنه درشكم اوست يعني نزايد) {إِلا} حال كونها ملتبسة {بِعِلْمِهِ} تابعة لمشيئته.
قال في "بحر العلوم" : بعلمه في موضع الحال والمعنى ما يحدث شيء من حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به يعلم مكان الحمل ووضعه وأيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة وغير ذلك {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} ما نافية (والتعمير : عمر دادن) والمعمر من أطيل عمره ويقال للمعمر ابن الليالي.
وقوله من معمر أي : من أحد ومن زائدة لتأكيد النفي كما في من أنثى وإنما سمي معمراً باعتبار مصيره يعني هو من باب
327
تسمية الشيء بما يأول إليه والمعنى وما يمد في عمر أحد وما يطول وبالفارسية : (وزندكانى داده نشود هي درازى عمرى) {وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأه من عمره بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر والضمير راجع إلى المعمر والنقصان من عمر المعمر محال فهو من التسامح في العبارة ثقة بفهم السامع فيراد من ضمير المعمر ما من شأنه أن يعمر على الاستخدام والمعنى لا ينقص من عمر أحد لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائداً بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصاً وبالفارسية : (وكم كرده نشود از عمر معمرى ديكر يعني كه يعمر معمر اول نرسد) {إِلا فِى كِتَـابٍ} أي : اللوح أو علم الله أو صحيفة كل إنسان {إِنَّ ذَالِكَ} المذكور من الخلق وما بعده مع كونه محاراً للعقول والأفهام {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لاستغنائه على الأسباب فكذلك البعث.
وفي "بحر العلوم" : إن ذلك إشارة إلى أن الزيادة والنقص على الله يسير لا يمنعه منه مانع ولا يحتاج فيه إلى أحد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
واعلم أن الزيادة والنقصان في الآية بالنسبة إلى عمرين كما عرفت وإلا فمذهب أكثر المتكلمين وعليه الجمهور أن العمر يعني عمر شخص واحد لا يزيد ولا ينقص.
وقيل : الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل أن يكتب فيه إن حج فلان فعمره ستون وإلا فأربعون فإذا حج فقد بلغ الستين وقد عمر وإذا لم يحج فلا يجاوز الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون وكذا إن تصدق أو وصل الرحم فعمره ثمانون وإلا فخمسون وإليه أشار عليه السلام بقوله : "الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار" وفي الحديث "إن المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاثة أيام فينسئه الله إلى ثلاثين سنة وإنه ليقطع الرحم وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيرده الله إلى ثلاثة أيام" وفي الحديث "بر الوالدين يزيد في العمر والكذب ينقص الرزق والدعاء يرد القضاء".
قال بعض الكبار : لم يختلف أحد من علماء الإسلام في أن حكم القضاء والقدر شامل لكل شيء ومنسحب على جميع الموجودات ولوازمها من الصفات والأفعال والأحوال وغير ذلك.
فما الفرق بين ما نهى النبي عليه السلام عن الدعاء فيه كالأرزاق المقسومة والآجال المضروبة وبين ما حرّض عليه كطلب الإجارة من عذاب النار وعذاب القبر ونحو ذلك.
(7/255)
فاعلم أن المقدورات على ضربين : ضرب يختص بالكليات وضرب يختص بالجزئيات التفصيلية فالكليات المختصة بالإنسان قد أخبر عليه السلام أنها محصورة في أربعة أشياء وهي : العمر والرزق والأجل والسعادة أو الشقاوة وهي لا تقبل التغير فالدعاء فيها لا يفيد كصلة الرحم إلا بطريق الفرض يعني لو أمكن أن يبسط في الرزق ويؤخر في الأجل لكان ذلك بالصلة والصدقة فإن لهما تأثيراً عظيماً ومزاية على غيرهما ويجوز فرض المحال إذا تعلق بذلك الحكمة قال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} وأما الجزئيات ولوازمها التفصيلية فقد يكون ظهور بعضها وحصوله للإنسان متوقفاً على أسباب وشروط ربما كان الدعاء والكسب والسعي والعمل من جملتها بمعنى لم يقدّر حصوله بدون الشرط أو الشروط.
وقال ابن الكمال : أما الذي يقتضيه النظر الدقيق فهو أن المعمر الذي قدر له العمر الطويل يجوز أن يبلغ حد ذلك العمر وأن لا يبلغه
328
فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير وذلك لأن المقدر لكل شخص إنما هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام المعدودة ولا خفاء في أن أيام ما قدر من الأنفاس تزيد وتنقص بالصحة والحضور والمرض والتعب فافهم هذا السر العجيب حتى ينكشف لك سر اختيار بعض الطوائف حبس النفس ويتضح وجه كون الصدقة والصلة سبباً لزيادة العمر انتهى.
وقيل المراد من النقص ما يمر من عمره وينقص فإنه يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ثم يكتب تحت ذلك ذهب يوم ذهب يومان وهكذا حتى يأتي على آخره كما قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله تعالى جعل لكل نسمة عمراً تنتهي إليه فإذا جرى عليه الليل والنهار نقص من عمره بالضرورة وقد قيل : نقصان العمر صرفه إلى غير مرضاة الله تعالى قال الحافظ قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
وقال :
اوقات خوش آن بودكه بادوست بسر رفت
باقي همه بى حاصلي وبي خبري بود
وقال المولى الجامي قدس سره :
هردم از عمر كرامي هست كنج بى بدل
ميرود كنج نين هر لحظه برباد آه آه
وقال الشيخ سعدي قدس سره :
هردم از عمر ميرود نفسي
ون نكه ميكنم نمانده بسى
عمر برفست وآفتاب تموز
اندكه ماندو خواجه غره هنوز
أيقظنا الله وإياكم.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِه إِلا فِى كِتَـابٍا إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآاـاِغٌ شَرَابُه وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌا وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُا وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِه مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ} أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ويقال للمتوسع في العلم بحر.
وفي "القاموس" البحر الماء الكثير عذباً أو ملحاً.
وقال بعضهم : البحر في الأصل يقال للملح دون العذب فقوله : وما يستوي البحران الخ إنما سمي العذب بحراً لكونه مع الملح كما يقال للشمس والقمر قمران.
قال في إخوان الصفا : فإن قيل ما البحار؟ يقال هي مستنقعات على وجه الأرض حاصرة للمياه المجتمعة فيها {هَـاذَا} البحر {عَذْبٌ} طيب بالفارسية (شيرين) {فُرَاتٌ} بليغ عذوبته بحيث يكسر العطش.
وقال في "تاج المصادر" : (الفروتة : خوش شدن آب) والنعت فعال ويقال للواحد والجمع {سَآاـاِغٌ شَرَابُهُ} سهل انحدار مائه في الحلق لعذوبته فإن العذب لكونه ملائماً للطمع تجذبه القوة الجاذبة لسهول.
والسائغ بالفارسية (كوارنده) يقال ساغ الشراب سهل مدخله والشراب ما شرب والمراد هنا الماء {وَهَـاذَا} البحر الآخر {مِلْحٌ} (تلخست).
قال في "المفردات" : الملح الماء الذي تغير طعمه التغير المعروف وتجمد ويقال له ملح إذا تغير طعمه وإن لم يتجمد فيقال ماء ملح وقلما تقول العرب مالح ثم استعير من لفظ الملح الملاحة فقيل : رجل مليح {أُجَاجٌ} شديد ملوحته بحيث يحرق بملوحته وهو نقيض الفرات.
قال في "خريدة العجائب" : الحكمة في كون ماء البحر ملحاً أجاجاً لا يذاق ولا يساغ لئلا ينتن من تقادم الدهور والأزمان وعلى ممرّ الأحقاب والأحيان فيهلك من نتنه العالم الأرضي ولو كان عذباً
329
(7/256)
لكان كذلك ألا ترى إلى العين التي بها ينظر الأنسان الأرض والسماء والعالم والألوان وهي شحمة مغمورة في الدمع وهو ماء مالح والشحم لا يصان إلا بالملح فكان الدمع مالحاً لذلك المعنى انتهى.
وأما الأنهار العظيمة العذبة فلجريانها دائماً لم يتغير طعمها ورائحتها فإن التغير إنما يحصل من الوقوف في مكان {وَمِن كُلٍّ} أي : من كل واحد من البحرين المختلفين طعماً {تَأْكُلُونَ} أيها الناس {لَحْمًا طَرِيًّا} غضاً جديداً من الطراء (والطراوة بالفارسية : ميخوريد كوشتى تازه يعني ماهى) وصف السمك بالطراوة وهي بالفارسية : (تازه شدن) لتسارع الفساد إليه فيسارع إلى أكله طرياً ومضى باقي النقل في سورة النحل
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَتَسْتَخْرِجُونَ} أي : من المالح خاصة ولم يقل منه لأنه معلوم {حِلْيَةً} زينة أي : لؤلؤاً ومرجاناً.
وفي "الأسئلة المقحمة" أراد بالحلية اللآلي واللآلي إنما تخرج من ملح أجاج لا من عذب فرات فكيف أضافها إلى البحرين والجواب قد قيل : إن اللآلي تخرج من عذب فرات وفي الملح عيون من ماء عذب ينعقد فيه اللؤلؤ والمرجان انتهى قال في "الخريدة" : اللؤلؤ يتكون في بحر الهند وفارس والمرجان ينبت في البحر كالشجر وإذا كلس المرجان عقد الزئبق فمنه أبيض ومنه أحمر ومنه أسود وهو يقوي العين كحلاً وينشف رطوبتها {تَلْبَسُونَهَا} أي : تلبس تلك الحلية نساؤكم ولما كان تزينهن بها لأجل الرجال فكأنها زينتهم ولباسهم ولذا أسند إليهم وفي الحديث "كلم الله البحرين فقال للبحر الذي بالشام يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عباداً لي يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال : أغرقهم قال الله تعالى فإني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواصيك" وقال للبحر الذي باليمن "إني قد خلقتك وأكثرت فيك الماء وإني حامل فيك عباداً يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال : أسبحك وأحمدك وأهللك وأكبرك معهم وأحملهم على ظهري قال الله تعالى فإني أفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري" كذا في "كشف الأسرار" {وَتَرَى الْفُلْكَ} السفينة {فِيهِ} أي : في كل منهما وأفراد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد يأتي منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط {مَوَاخِرَ} يقال سفينة ماخرة إذا جرت تشق الماء مع صوت والجمع المواخر كما في "المفردات" والمعنى شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة {لِتَبْتَغُوا} (تا طلب كنيد) واللام متعلق بمواخر {مِّن فَضْلِهِ} أي : من فضل الله تعالى بالنقلة فيها.
قال في "بحر العلوم" ابتغاء الفضل التجارة وهي أعظم أسباب سعة الرزق وزيادته قال عليه السلام : "تسعة أعشار رزق أمتي في البيع والشراء" {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي : ولتشكروا على ذلك الفضل وحرف الترجي للإيذان بكونه مرضياً عنده تعالى.
وفي "بحر العلوم" وكي تعرفوا نعم الله فتقوموا بحقها سيما أنه جعل المهالك سبباً لوجود المنافع وحصول المعايش.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
واعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية دلالة على قدرته وبياناً لنعمته.
وقال بعضهم : ضرب البحر العذب والملح مثلاً للمؤمن والكافر فكما لا يستوي البحران في الطعم فكذا المؤمن والكافر (يكى ازحلاوت ايمان عين عذب عرفانست وديكر از مرارت عصيان بحر اجاج كفر وطغيان آن آب
330
(7/257)
حيات آمد واين نقش سرابست اين عين خطا باشد وآن محض صوابست) فقوله : ومن كل الخ إما استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع أو تفضيل للأجاج على الكافر من حيث أنه يشارك العذب في منافع كثيرة كالسمك وجرى الفلك ونحوهما والكافر خلا من المنافع بالكلية على طريقة قوله تعالى : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةًا وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُا وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُا وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة : 74) ورحم الله أبا الليث حيث قال في تفسيره ومن كل يظهر شيء من الصلاح يعني يلد الكافر المسلم مثل ما ولد الوليد بن المغيرة خالد بن الوليد وأبو جهل عكرمة ابن أبي جهل.
والإشارة بالبحر العذب إلى الروح وصفاته الحميدة ومشربه الواردات الربانية وبالملح إلى النفس وصفاتها الذميمة ومشربها الشهوات الحيوانية ولنا سفينتان الشريعة والطريقة فسفينة الشريعة تجري من بحر الروح إلى بحر النفس فيها أحمال الأوامر والنواهي وسفينة الطريقة تجري من بحر الروح إلى الحضرة فيها أحمال الأسرار والحقائق والمعاني والمقصود الوصول إلى الحضرة على قدمي الشريعة والطريقة.
في "كشف الأسرار" (اين دودرياى مخلف يكى فرات ويكى أجاج.
مثال دو درياست كه ميان بنده وخداست يكى درياى هلاك ديكر درياى نجات.
دردرياى هلاك نج كشتى روانست.
يكى حرص.
وديكر رياست.
ديكر اصرار بر معاصى.
هارم غفلت نجم قنود.
هركه دركشتى حرص نشيند بساحل حسرت رسد.
هركه دركشتى قنود نشيند بساحل كفر رسد.
أما درياى نجات بساحل عطا رسد.
هركه دركشتى زهد نشيند بساحل قربت رسد هركه دركشتى معرفت نشيند بساحل انس رسد.
هركه دركشتى توحيد نشيند بساحل مشاهده رسد.
يرطريقت موعظتي بليغ كفته ياران ودوستان خودرا كفت اى عزيزان وبرادران هنكام آن آمد كه ازين درياى هلاك نجات جوييد واز ورطه فترت برخيزيد نعيم باقى باين سراى فانى نفروشيد نفس بخدمت بيكانه است بيكانه را مروريد دل بى يقظت غول است تا بغول صحبت مداريد نفس بى آكاهى باداست باباد عمر مكذرانيد باسمى ورسمى ازحقيقت قانع مباشيد از مكر نهانى ايمن منشينيد ازكار خاتمه ونفس باز سين همواره برحذر باشيد شيرين سخن ونيكو نظمى كه آن خوانمرد كفته است) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
اى دل ار عقيبت بايدنك ازين دنيا بدار
اك بازى يشه كير وراه دين كن اختيار
اى دردنيا نه وبردوز شم نام وننك
دست در عقبى زن وبربندراه فخر وعار
ون زنان تاكى نشينى براميدرنك وبوى
همت اندر راه بند كامزن مردانه وار
شم آن تادان كه عشق آوردبررنك صدف
والله آرديدش رسد هركز بدرشاهوار
قال بعض أهل المعرفة : {وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ} أي : الوقتان هذا بسط وصاحبه في روح وهذا قبض وصاحبه في نوح هذا فرق وصاحبه يوصف بالعبودية وهذا جمع وصاحبه في شهود الربوبية (بنده تادر قبض است خوابش ون خواب غرق شدكان خوردش ون خورد بيماران عيشش ون عيش زندانيان بسزاى نياز خويش مى زيد بخوارى وراه مى برد بزارى وبزبان
331
بذلل مى كويد رآب دوشم ورآتش جكرم رباد دودستم ورازخاك سرم ون زارى وخوارى بغايت رسد وتذلل وعجزى ظاهر كردد رب العزة تدارك دل وى كند دربسط وانبساط بردل وى كشايد وقت وى خوش كردد دلش با مولى يوسته وسر باطلاع حق آراسته وبزبان شكر ميكويد الهى محنت من بودى دولت من شدى اندوه من بودى راحت من شدى داغ من بودى راغ من شدي جراحت من بودى مرهم من شدى) نسأل الله الخلاص من البرازخ والقيود والوصول إلى الغاية القصوى من الوجدان والشهود إنه رحيم ودود.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/258)
{يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} أي : يدخل الله الليل في النهار بإضافة بعض أجزاء الليل إلى النهار فينقص الأول ويزيد الثاني كما في فصلي الربيع والصيف {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} بإضافة بعض أجزاء النهار إلى الليل كما في فصلي الخريف والشتاء {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (ورام كرد آفتاب وماه راه يعني مسخر فرمان خود ساخت).
وفي "بحر العلوم" معنى تسخير الشمس والقمر تصييرهما نافعين للناس حيث يعلمون بمسيرهما عدد السنين والحساب انتهى.
يقول الفقير ومنه يعلم حكمة الإيلاج فإنه بحركة النيرين تختلف الأوقات وتظهر الفصول الأربعة التي تعلق بها المصالح والأمور المهمة.
ثم قوله وسخر عطف على يولج واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حيناً فحيناً وأما تسخير النيرين فلا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره وقد أشير إليه بقوله تعالى : {كُلٍّ} أي : كل واحد من الشمس والقمر {يَجْرِى} أي : بحسب حركته الخاصة وحركته القسرية على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة جرياً مستمراً {لاجَلٍ} وقت {مُّسَمًّى} معين قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة فحينئذٍ ينقطع جريهما.
وقال بعضهم يجري إلى أقصى منازلهما في الغروب لأنهما يغربان كل ليلة في موضع ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما فجريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما في فلكيهما.
والأجل المسمى عبارة عن منتهى دوريتهما ومدة الجريان للشمس سنة وللقمر شهر فإذا كان آخر السنة ينتهي جري الشمس وإذا كان آخر الشهر ينتهي جري القمر.
قال في "البحر" : والمعنى في التحقيق يجري لإدراك أجل على أن الجري مختص بإدراك أجل {ذَالِكُمُ} مبتدأ إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة إشارة تجوّز فإن الأصل إلى الإشارة أن تكون حسية ويستحيل إحساسه تعالى وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة أي : ذلك العظيم الشان الذي أبدع هذه الصنائع البديعة {اللَّهِ} خبر {رَبُّكُمْ} خبر ثان {لَهُ الْمُلْكُ} خبر ثالث أي : هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية والمالكية لما في السموات والأرض واعرفوه ووحدوه وأطيعوا أمره {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} (وآنانرا كه مى خوانيد ومى رستيد) {مِن دُونِهِ} أي : حال كونكم متجاوزين الله وعبادته {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} هو القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة كاللفافة لها وهو مثل في القلة والحقارة كالنقير الذي هو النكتة في ظهر النواة ومنه ينبت النخل والفتيل الذي في شق النواة على هيئة الخيط المفتول والمعنى لا يقدرون على أن ينفعوكم مقدار القطمير.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُا وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِه مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
{إِن تَدْعُوهُمْ} أي : الأصنام للإعانة وكشف الضر
332
{لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ} لأنهم جماد والجماد ليس من شأنه السماع {وَلَوْ سَمِعُوا} على الفرض والتمثيل {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} فإنهم لا لسان لهم أو ما أجابوكم لملتبسكم لعجزهم عن النفع بالكلية فإن من لا يملك نفع نفسه كيف يملك نفع غيره.
قال الكاشفي يعني : (قادر نيستند بر إيصال منافع ودفع مكاره) {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي : يجحدون بإشراككم لهم وبعبادتكم إياهم بقولهم ما كنتم إيانا تعبدون وإنما جيىء بضمير العقلاء لأن عبدتهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلاً وغباوة ولأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والسمع ويجوز أن يريد كل معبود من دون الله من الجن والإنس والأصنام فغلب غير الأصنام عليها كما في "بحر العلوم" {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي : لا يخبرك يا محمد بالأمر مخبر مثل خبير أخبرك به وهو الحق سبحانه فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الإلهية (صاحب لباب آورده كه اضافت مثل بخداى جائز نيست س اين مثليست دركلام عرب شايع كشته واستعمال كنند دراخبار مخبرى كه سخن او في نفس الأمر معتمد عليه باشد).
قال الزروقي : الخبير هو العليم بدقائق الأمور التي لا يتوصل إليها غيره إلا بالاختيار والاحتيال.
وقال الغزالي : هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تصطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها :
بر احوال نا بوده علمش بصير
بر اسرار ناكفته لطفش خبير
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/259)
حظ العبد من ذلك أن يكون خبيراً بما يجري في بدنه وقلبه من الغش والخيانة والتطوف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير والتحمل بإظهار الإخلاص والإفلاس عنه ولا يكون خبيراً بمثل هذه الخفايا إلا بإظهار التوحيد وإخفائه وتحقيقه والوصول إلى الله بالإعراض عن الشرك وما يكون متعلق العلاقة والميل.
غلام همت آنم كه زير رخ كبود
ز هره رنك تعلق ذيرد آزادست
وذلك أن التعلق بما سوى الله تعالى لا يفيد شيئاً من الجلب والسلب فإنه كله مخلوق والمخلوق عاجز وليست القدرة الكاملة إلاتعالى فوجب توحيده والعبادة له والتعلق به.
وخاصية الاسم الخبير حصول الإخبار بكل شيء فمن ذكره سبعة أيام أتته الروحانية بكل خبر يريده من أخبار السنة وأخبار الملوك وأخبار القلوب وغير ذلك كذا في "شمس المعارف" ومن كان في يد شخص يؤذيه فليكثر ذكره يصلح حاله كذا في "شرح الأسماء الحسنى" للشيخ الزروقي.
{إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يا اأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّه وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} .
{النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ} الفقراء جمع فقير كالفقائر جمع فقيرة والفقير المكسور الفقار والفقر (شت كسى شكستن) ذكره في "تاج المصادر" في باب ضرب وجعله في "القاموس" من حد كرم.
وقال الراغب في "المفردات" : يقال افتقر فهو مفتقر وفقير ولا يكاد يقال فقر وإن كان القياس يقتضيه انتهى.
وفهم من هذا أن الفقير صيغة مبالغة كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير والشديد والفقر وجود الحاجة الضرورية وفقد ما يحتاج إليه وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم فإنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار
333
سائر الأخلاق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم.
والمعنى يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله تعالى بالاحتياج الكثير الشديد في أنفسكم وفيما يعرض لكم من أمر مهم أو خطب ملم فإن كل حادث مفتقر إلى خالقه ليبديه وينشئه أولاً ويديمه ويبقيه ثانياً ثم الإنسان محتاج إلى الرزق ونحوه من المنافع في الدنيا مع دفع المكاره والعوارض وإلى المغفرة ونحوها في العقبى فهو محتاج في ذاته وصفاته وأفعاله إلى كرم الله وفضله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
قال بعض الكبار : إن الله تعالى ما شرّف شيئاً من المخلوقات بتشريف خطاب أنتم الفقراء إلى الله حتى الملائكة المقربين سوى الإنسان وذلك أن افتقار المخلوقات إلى أفعال الله تعالى من حيث الخلق ونحوه وافتقار الإنسان إلى ذات الله وصفاته فجميع المخلوقات وإن كانت محتاجة إلى الله تعالى لكن الاحتياج الحقيقي إلى ذات الله وصفاته مختص بالإنسان من بينها كمثل سلطان له رعية وهو صاحب جمال فيكون افتقار جميع رعاياه إلى خزائنه وممالكه ويكون افتقار عشقاه إلى عين ذاته وصفاته فيكون غنى كل مفتقر بما يفتقر إليه فغنى الرعية يكون بالمال والملك وغنى العاشق يكون بمعشوقه.
كام عاشق دولت ديدار يار
قصد زاهد جنت ونقش ونكار
هره جز عشق حقيقي شدوبال
هره جز معشوق باقي شد خيال
هست در وصلت غنا اندر غنا
هست درفرقت غم وفقر وعنا
ومن الكمالات الإنسانية الاحتياج إلى الاسم الأعظم من جميع وجوه الأسماء الإلهية بحسب مظهريته الكاملة وأما غيره من الموجودات فاحتياجهم إنما هو بقدر استعدادهم فهو احتياج بوجه دون وجه ولذا ورد "الفقر فخري وبه افتخر" وهذا صحيح بمعناه وإن اختلف في لفظه كما قال عليه السلام : "اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك".
قال في "كشف الأسرار" (صحابه را فقرا نام نهاد) حيث قال : {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـاجِرِينَ} (الحشر : 8) وقال : {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 273) (وآن تلبيس توانكرى حال ايشانست تاكس توانكرىء ايشان ندانداين نانست كه كفته اند) :
ارسلانم خوان تاكس به نداندكه كه ام†
(يران طريقت كفته اند بناى دوستى برتلبيس نهاده اند سليمانرا نام ملكى تلبيس فقر بود آدم را نام عصيان تلبيس صفوت بود ابراهيم را التباس نعمت تلبيس خلت بود زيراكه شرط محبت غير نست ودوستان حال خود بهركس ننمايند كسى كه ازكون ذره ندارد وبكونين نظرى ندارد وهمواره نظر الله يش شم خود دارد اورا فقير كويند از همه درويش است وبحق ثوانكر "إنما الغني غنى القلب" توانكرى درسينه مى بايدنه درخزينه فقير اوست كه خودرادر دوجهان جز ازحق دست آوزنكند ونظر خود ندارد جهار تكبير برذات وصفات خود كند جنانكه آن جوانمرد كفت) :
نيست عشق لا يزالى را دران دل هي كار
كاو هنوزاندر صفات خويش مانداست استوار
هركه در ميدان عشق نيكوان نامى نهاد
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/260)
ار تكبيرى كند برذات او ليل ونهار
{وَاللَّهُ هُوَ} وحده {الْغَنِىُّ} المستغني على الإطلاق فكل أحد يحتاج إليه لأن أحداً
334
لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان لأن الأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الأمارة وكذا التاجر يحتاج إلى المكارين والله الغنيّ عن الأعوان وغيرها.
وفي "الأسئلة المقحمة" معناه الغنيّ عن خلقه فلو لم يخلقهم لجاز ولو أدام حياتهم لابتلاهم كلفهم أو لم يكلفهم فالكل عنده بمثابة واحدة لأنه غني عنهم خلافاً للمعتزلة حيث قالوا : لو لم يكلفهم معرفته وشكره لم يكن حكيماً وهذا غاية الخزي ويفضي إلى القول بأن خلقهم لنفع أو دفع وهو قول المجوس بعينه حيث زعموا وقالوا : خلق الله الملائكة ليدفع بهم عن نفسه أذى الشيطان انتهى {الْحَمِيدُ} المنعم على جميع الموجودات حتى استحق عليهم الحمد على نعمته العامة وفضله الشامل فالله الغنيّ المغني.
قال الكاشفي : (ببايد دانست كه ماهيات ممكنه در وجود محتاجند بفاعل {وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} إشارة با آنست وحق سبحانه وتعالى بحسب كمال ذاتي خود ازوجود عالم وعالميان مستغنيست {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ} عبارت ازآنست وون ظهور كمال اسمانى موقوفست بروجود اعيان ممكنات س درايجاد آن كه نعمتيست كبرى مستحق حمداست وثنا كلمه {الْحَمِيدُ} بدان ايمايى مينمايد وازين رباعى ى بدين معنى توان برد) :
تاخود كردد بجمله اوصاف عيان
واجب باشدكه ممكن آيد بميان
ورنه بكمال ذاتي از آدميان
فردست وغنى نانكه خود كردبيان
{إِن يَشَأْ} أي : الله تعالى {يُذْهِبْكُمْ} عن وجه الأرض ويعدمكم كما قدر على إيجادكم وبقائكم {وَيَأْتِ} (وبيارد) {بِخَلْقٍ} مخلوق {جَدِيدٍ} مكانكم وبدلكم ليسوا على صفتكم بل مستمرون على الطاعة فيكون الخلق الجديد من جنسهم وهو الآدمي أو يأتي بعالم آخر غير ما تعرفونه يعني : (يا كروهى بياردكس نديده ونشنيده بود) فيكون من غير جنسهم وعلى كلا التقديرين فيه إظهار الغضب للناس الناسين وتخويف لهم على سرفهم ومعاصيهم وفيه إيضاً من طريق الإشارة تهديد لمدعي محبته وطلبه أي : إن لم تطلبوه حق الطلب يفنكم ويأت بخلق جديد في المحبة والطلب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَمَا ذَالِكَ} أي : ما ذكر من الإذهاب بهم والإتيان بآخرين {عَلَى اللَّهِ} متعلق بقوله : {بِعَزِيزٍ} بمعتذر ولا صعب ومتعسر بل هو هين عليه يسير لشمول قدرته على كل مقدور ولذلك يقدر على الشيء وضده فإذا قال لشيء كن كان من غير توقف ولا امتناع وقد أهلك القرون الماضية واستخلف الآخرين إلى أن جاء نوبة قريش فناداهم بقوله يا أيها الناس وبين أنهم محتاجون إليه احتياجاً كلياً وهو غني عنهم وعن عبادتهم ومع ذلك دعاهم إلى ما فيه سعادتهم وفوزهم وهو الإيمان والطاعة وهم مع احتياجهم لا يجيبونه فاستحقوا الهلاك ولم يبق إلا المشيئة ثم إنه تعالى شاء هلاكهم لإصرارهم فهلك بعضهم في بدر وبعضهم في غيره من المعارك وخلق مكانهم من يطيعونه تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه ويستحقون بذلك فضله ورحمته واستمر الإفناء والإيجاد إلى يومنا هذا لكن لا على الاستعجال بل على الإمهال فإنه تعالى صبور لا يؤاخذ العصاة على العجلة ويؤخر العقوبة ليرجع التائب ويقلع المصر.
ففي الآية وعظ وزجر لجميع الأصناف من الملوك ومن دونهم فمن أهمل أمر الجهاد لم يجد المهرب من بطش رب العباد ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد
335
جعل نفسه عرضة للهلاك والخطر وعلى هذا فقس.
فينبغي للعاقل المكلف أن يعبد الله ويخافه ولا يجترىء على ما يخالف رضاه ولا يكون أسوأ من الجمادات مع أن الإنسان أشرف المخلوقات.
قال جعفر الطيار رضي الله عنه : كنت مع النبي عليه السلام وكان حذاءنا جبل فقال عليه السلام : "بلّغ منّي السلام إلى هذا الجبل وقل له يسقيك إن كان فيه ماء" قال : فذهبت إليه وقلت : السلام عليك أيها الجبل فقال الجبل بنطق : لبيك يا رسول رسول الله فعرضت القصة فقال : بلّغ سلامي إلى رسول الله وقل له منذ سمعت قوله تعالى : {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة : 24) بكيت لخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود النار بحيث لم يبق فيّ ماء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/261)
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يقال وزر يزر من الثاني وزراً بالفتح والكسر ووزر يوزر من الرابع حمل.
والوزر الإثم والثقل والوازرة صفة للنفس المحذوفة وكذا أخرى والمعنى لا تحمل نفس آثمة يوم القيامة إثم نفس أخرى بحيث تتعرى منه المحمول عنها بل إنما تحمل كل منهما وزرها الذي اكتسبته بخلاف الحال في الدنيا فإن الجبابرة يأخذون الولي بالولي والجار بالجار وأما في قوله تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} (العنكبوت : 13) من حمل المضلين أثقالهم وأثقالاً غير أثقالهم فهو حمل أثقال ضلالهم مع أثقال إضلالهم وكلاهما أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم ألا يرى كيف كذبهم في قولهم : {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ} (العنكبوت : 12) بقوله : {وَمَا هُم بِحَـامِلِينَ مِنْ خَطَـايَـاهُم مِّن شَىْءٍ} (العنكبوت : 12) ومنه يعلم وجه تحميل معاصي المظلومين يوم القيامة على الظالمين فإن المحمول في الحقيقة جزاء الظلم وإن كان يحصل في الظاهر تخفيف حمل المظلوم ولا يجري إلا في الذنب المتعدي كما ذكرناه في أواخر الأنعام.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى في خلق كل واحد من الخلق سراً مخصوصاً به وله مع كل واحد شأن آخر فكل مطالب بما حمل كما أن كل بذر ينبت بنبات قد أودع فيه ولا يطالب بنبات بذر آخر لأنه لا يحمل إلا ما حمل عليه كما في "التأويلات النجمية" ، قال الشيخ سعدي :
رطب ناورد وب خر زهره بار
ه تخم افيكنى بر همان شم دار
{وَإِن تَدْعُ} صيغة غائبة أي : ولو دعت ، وبالفارسية : (واكر بخواند) {مُثْقَلَةٌ} أي : نفس أثقلتها الأوزار والمفعول محذوف أي : أحداً.
قال الراغب : الثقل والخفة متقابلان وكل ما يترجح عما يوزن به أو يقدّر به يقال هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني أثقله الغرم والوزر انتهى.
فالثقل الإثم سمي به لأنه يثقل صاحبه يوم القيامة ويثبطه عن الثواب في الدنيا {إِلَى حِمْلِهَا} الذي عليها من الذنوب ليحمل بعضها.
قيل في الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر حمل بالكسر وفي الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن حمل بالفتح كما في "المفردات" {لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ} لم تجب لحمل شيء منه {وَلَوْ} للوصل {كَانَ} أي : المدعو المفهوم من الدعوة وترك ذكره ليشمل كل مدعو {ذَا قُرْبَىا} ذا قرابة من الداعي كالأب والأم والولد والأخ ونحو ذلك إذ لكل واحد منهم يومئذٍ شأن يغنيه وحمل يعجزه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
ففي هذا دليل أنه تعالى لا يؤاخذ بالذنب إلا جانيه وأن الاستغاثة بالأقربين غير نافعة لغير المتقين عن ابن عباس رضي الله عنهما يلقى الأب والأم ابنه فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول : لا أستطيع حسبي ما عليّ وكذا يتعلق الرجل بزوجته فيقول لها : إني كنت لك زوجاً في الدنيا
336
فيثني عليها خيراً فيقول قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترين فتقول ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أخاف مثل ما تخوفت :
هي رحمى نه برادر به برادر دارد
هي خيرى نه در را به سر مى آيد
دختر ازهلوى مادر بكند قصد فرار
دوستى از همه خويش بسرمى آيد
(7/262)
قال في "الإرشاد" : هذه الآية نفي للتحمل اختياراً والأولى نفي له إجباراً.
والإشارة أن الطاعة نور والعصيان ظلمة فإذا اتصف جوهر الإنسان بصفة النور أو بصفة الظلمة لا تنقل تلك الصفة من جوهره إلى جوهر إنسان آخر أياً ما كان ألا ترى أن كل أحد عند الصراط يمشي في نوره لا يتجاوز منه إلى غيره شيء وكذا من غيره إليه {إِنَّمَا تُنذِرُ} يا محمد بهذه الإنذارات.
والإنذار الإبلاغ مع التخويف {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ} يخافون {رَبِّهِمْ} حال كونهم {بِالْغَيْبِ} غائبين عن عذابه وأحكام الآخرة أو عن الناس في خلواتهم يعني : (در خلوتها أثر خشيت برايشان ظاهرت نه در صحبتها) فهو حال من الفاعل أو حال كون ذلك العذاب غائباً عنهم فهو حال من المفعول {وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ} أي : راعوها كما ينبغي وجعلوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً.
قال في "كشف الأسرار" وغاير بين اللفظين لأن أوقات الخشية دائمة وأوقات الصلاة معينة منقضية.
والمعنى إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والفساد وإن كنت نذيراً للخلق كلهم وخص الخشية والصلاة بالذكر لأنهما أصلا الأعمال الحسنة الظاهرية والباطنية.
أما الصلاة فإنها عماد الدين.
وأما الخشية فإنها شعار اليقين وإنما يخشى المرء بقدر علمه بالله كما قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} (فاطر : 28) فقلب لم يكن عالماً خاشياً يكون ميتاً لا يؤثر فيه الإنذار كما قال تعالى : {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} (يس : 70) ومع هذا جعل تأثير الإنذار مشروطاً بشرط آخر وهو إقامة الصلاة وامارة خشية قلبه بالغيب محافظة الصلاة في الشهادة وفي الحديث "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" {وَمِنَ} (وهركه) {تَزَكَّى} تطهر من أوضار الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذه الإنذارات وأصلح حاله بفعل الطاعات {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها ويقال : من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي : الرجوع لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
واعلم أن ثواب التزكي عن المعاصي هو الجنة ودرجاتها وثواب التزكي عن التعلق بما سوى الله تعالى هو جماله تعالى كما أشار إليه بقوله : {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فمن رجع إلى الله بالاختيار لم يبق له بما دونه قرار ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
ندادند صاحب دلان دل بوست
وكرابلهى داد بى مغز اوست
مى صرف وحدت كسى نوش كرد
كه دنيى وعقبى فراموش كرد
والأصل هو العناية.
وعن إبراهيم المهلب السائح رضي الله عنه قال : بينا أنا أطوف وإذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول بحبك لي ألا رددت عليّ قلبي فقلت : يا جارية من أين تعلمين أنه يحبك قالت بالعناية القديمة جيش في طلبي الجيوش وأنفق الأموال حتى أخرجني
337
من بلاد الشرك وأدخلني في التوحيد وعرفني نفسي بعد جهلي إياها فهل هذا يا إبراهيم إلا لعناية أو محبة؟ قلت : وكيف حبك له؟ قالت : أعظم شيء وأجله قلت : وكيف هو؟ قالت : هو أرق من الشراب وأحلى من الجلاب.
وإنما تتولد معرفة الله من معرفة النفس بعد تزكيتها كما أشار إليه : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" ففي هذا أن الولد يكون أعظم في القدر من الوالد فافهم رحمك الله وإياي بعنايته.
{وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} تمثيل للكافر والمؤمن فإن المؤمن من أبصر طريق الفوز والنجاة وسلكه بخلاف الكافر فكما لا يستوي الأعمى والبصير من حيث الحس الظاهري إذ لا بصر للأعمى كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن من حيث الإدراك الباطني ولا بصيرة للكافر بل الكافر أسوأ حالاً من الأعمى المدرك للحق إذ لا اعتبار بحاسة البصر لاشتراكها بين جميع الحيوانات.
وفيه إشارة إلى حال المحجوب والمكاشف فإن المحجوب أعمى عن مطالعة الحق فلا يستوي هو والمكاشف الذي كوشف له عن وجه السر المطلق.
وقال الكاشفي : {وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى} (وبرابر نيست نابينا يعني كافر يا جاهل يا كمراه {وَالْبَصِيرُ} وبينا يعني مؤمن يا عالم ياراه يافته).
(7/263)
{وَلا} لتأكيد نفي الاستواء {الظُّلُمَـاتُ} جمع ظلمة وهي عدم النور {وَلا} للتأكيد {النُّورُ} هو الضوء المنتشر المعين للأبصار تمثيل للباطل والحق.
فالكافر في ظلمة الكفر والشرك والجهل والعصيان والبطلان لا يبصر اليمين من الشمال فلا يرجى له الخلاص من المهالك بحال.
والمؤمن في نور التوحيد والإخلاص والعلم والطاعة والحقانية بيده الشموع والأنوار أينما سار.
وجمع الظلمات مع أفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق يعني أن الحق واحد وهو التوحيد فالموحد لا يعبد إلا الله تعالى وأما الباطل فطرقه كثيرة وهي وجوه الإشراك فمن عابد للكواكب ومن عابد للنار ومن عابد للأصنام إلى غير ذلك فالظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي ذلك النور الواحد.
وفيه إشارة إلى ظلمة النفس ونور الروح فإن المحجوب في ظلمة الغفلات المتضاعفة والمكاشف في نور الروح واليقظة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} قدم الأعمى على البصير والظلمات على النور والظل على الحرور ليتطابق فواصل الآي وهو تمثيل للجنة والنار والثواب والعقاب والراحة والشدة.
الظل بالفارسية (سايه).
قال الراغب : يقال لكل موضع لا تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيىء إلا لما زال عنه الشمس ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهية انتهى.
والحرور : الريح الحارة بالليل وقد تكون بالنهار وحر الشمس والحر الدائم والنار كما في "القاموس" فعول من الحر غلب على السموم وهي الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم تكون غالباً بالنهار.
والمعنى كما لا يستوي الظل والحرارة من حيث أن في الظل استراحة للنفس وفي الحرارة مشقة وألماً كذلك لا يستوي ما للمؤمن من الجنة التي فيها ظل وراحة وما للكافر من النار التي فيها حرارة شديدة.
وفيه إشارة إلى أن البعد من الله تعالى كالحرور في إحراق الباطن والقرب منه كالظل في تفريح القلب.
{وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُا إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُا وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلا} .
{وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ} تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وأوثرت صيغة الجمع في الطرفين تحقيقاً للتباين بين أفراد الفريقين والحي ما به القوة الحساسة
338
والميت ما زال عنه ذلك وجه التمثيل أن المؤمن منتفع بحياته إذ ظاهره ذكر وباطنه فكر دون الكافر إذ ظاهره عاطل وباطنه باطل.
وقال بعض العلماء : هو تمثيل للعلماء والجهال وتشبيه الجهلة بالأموات شائع ومنه قوله :
لا تعجبن الجهول خلته
فإنه الميت ثوبه كفن
لأن الحياة المعتبرة هي حياة الأرواح والقلوب وذلك بالحكم والمعارف ولا عبرة بحياة الأجساد بدونها لاشتراك البهائم فيها.
قال بعض الكبار : الأحياء عند التحقيق هم الواصلون بالفناء التام إلى الحياة الحقيقية وهم الذين ماتوا بالاختيار قبل أن يموتوا بالاضطرار ومعنى موتهم إفناء أفعالهم وصفاتهم وذواتهم في أفعال الحق وصفاته وذاته وإزالة وجودياتهم بالكلية طبيعة ونفساً وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "من أراد أن ينظر إلى ميت متحرك فلينظر إلى أبي بكر" فالحياة المعنوية لا يطرأ عليها الفناء بخلاف الحياة الصورية فإنها تزول بالموت فطوبى لأهل الحياة الباقية وللمقارنين بهم والآخذين عنهم.
قال إبراهيم الهروي : كنت بمجلس أبي يزيد البسطامي قدس سره فقال بعضهم : إن فلاناً أخذ العلم من فلان قال أبو يزيد المساكين أخذوا العلوم من الموتى ونحن أخذنا العلم من حي لا يموت وهو العلم اللدني الذي يحصل من طريق الإلهام بدون تطلب وتكلف ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نه مردم همين استخوانند ويوسف
نه هر صورتى جان ومعنى دروست
نه سلطان خريدار هربنده ايست
نه در زير هر نده ايست
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ} كلامه إسماع فهم واتعاظ وذلك بإحياء القلب {مَن يَشَآءُ} أن يسمعه فينتفع بإنذارك {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} جمع قبر وهو مقر الميت وقبرته جعلته في القبر.
وهذا الكلام ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه عليه السلام من إيمانهم وترشيح الاستعارة اقترانها بما يلائم المستعار منه شبه الله تعالى من طبع على قلبه بالموتى في عدم القدرة على الإجابة فكما لا يسمع أصحاب القبور ولا يجيبون كذلك الكفار لا يسمعون ولا يقبلون الحق.
(7/264)
{إِنَّ} ما {أَنتَ إِلا نَذِيرٌ} منذر بالنار والعقاب وأما الإسماع البتة فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى وقوله : {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ} الخ وقوله : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} (القصص : 56) وقوله : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} (آل عمران : 128) وغير ذلك لتمييز مقام الألوهية عن مقام النبوة كيلا يشتبها على الأمة فيضلوا عن سبيل الله كما ضل بعض الأمم السالفة فقال بعضهم عزيز ابن الله وقال بعضهم المسيح ابن الله وذلك من كمال رحمته لهذه الأمة وحسن توفيقه.
يقول الفقير أيقظه الله القدير : إن قلت قد ثبت أنه عليه السلام أمر يوم بدر بطرح أجساد الكفار في القليب ثم ناداهم بأسمائهم وقال : "هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً" فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا رواح فيها فقال عليه السلام : "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئاً" فهذا الخبر يقتضي أن النبي عليه السلام أسمع من في القليب وهم موتى وأيضاً تلقين الميت بعد الدفن للإسماع وإلا فلا
339
معنى له.
قلت : أما الأول فيحتمل أن الله تعالى أحيى أهل القليب حينئذٍ حتى سمعوا كلام رسول الله توبيخاً لهم وتصغيراً ونقمة وحسرة وإلا فالميت من حيث هو ميت ليس من شأنه السماع وقوله عليه السلام : "ما أنتم بأسمع" الخ يدل على أن الأرواح أسمع من الأجساد مع الأرواح لزوال حجاب الحس وانخراقه.
وأما الثاني فإنما يسمعه الله أيضاً بعد إحيائه بمعنى أن يتعلق الروح بالجسد تعلقاً شديداً بحيث يكون كما في الدنيا فقد أسمع الرسول عليه السلام وكذا الملقن بإسماع الله تعالى وخلق الحياة وإلا فليس من شأن أحد الإسماع كما أنه ليس من شأن الميت السماع والله أعلم.
قال بعض العارفين : (أي محمد عليه السلام دل در بو جهل ه بندى كه اونه ازان اصلت كه طينت خبيث وى نقش نكين تو ذيرد دل در سلمان بنده يش ازانكه تو قدم درميدان بعثت نهادى ندين سال كرد عالم سر كردان در طلب تو مى كشت ونشان تو ميجست) ولسان الحال يقول :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
كرفت خواهم من زلف عنبر ينت را
زمشك نقش كنم برك ياسمينت را
بتيغ هندى دست مرا جدا نكند
اكر بكيرم يك ره سر آستينت را
{إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ * إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ} .
(7/265)
{إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ} حال من المرسل بالكسر أي : حال كوننا محقين أو من المرسل بالفتح أي : حال كونك محقاً أو صفة لمصدر محذوف أي : إرسالاً مصحوباً بالحق وأرسلناك بالدين الحق الذي هو الإسلام أو بالقرآن {بَشِيرًا} حال كونك بشيراً للمؤمنين بالجنة وبالفارسية : (مده دهنده) {وَنَذِيرًا} منذراً للكافرين بالنار وبالفارسية : (بيم كننده) {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} أي : ما من أمة من الأمم السالفة وأهل عصر من الأعصار الماضية {إِلا خَلا} مضى.
قال الراغب الخلاء المكان الذي لا ساتر فيه من بناء وساكن وعيرهما.
والخلو يستعمل في الزمان والمكان لكن لما تصور في الزمان المضيّ فسر أهل اللغة قولهم خلا الزمان بقولهم مضى وذهب {فِيهَا} أي : في تلك الأمة {نَذِيرٌ} (بيم وآكاه كننده) من نبي أو عالم ينذرهم والاكتفاء بالإنذار لأنه هو المقصود الأهم من البعثة.
قال في "الكواشي" : وأما فترة عيسى فلم يزل فيها من هو على دينه وداع إلى الإيمان.
وفي "كشف الأسرار" الآية تدل على أن كل وقت لا يخلو من حجة خبرية وأن أول الناس آدم وكان مبعوثاً إلى أولاده ثم لم يخل بعده زمان من صادق مبلغ عن الله أو آخر يقوم مقامه في البلاغ والأداء حين الفترة وقد قال تعالى : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة : 36) لا يؤمر ولا ينهى.
فإن قيل كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـافِلُونَ} .
قلت : معنى الآية ما من أمة من الأمم الماضية إلا وقد أرسلت إليهم رسولاً ينذرهم على كفرهم ويبشرهم على إيمانهم أي : سوى أمتك التي بعثناك إليهم يدل على ذلك قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} (سبأ : 44) وقوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} (يس : 6) وقيل : المراد ما من أمة هلكوا بعذاب الاستئصال إلا بعد أن أقيم عليهم الحجة بإرسال الرسول بالأعذار والإنذار انتهى ما في "كشف الأسرار" وهذا الثاني هو الأنسب بالتوفيق بين الآيتين يدل عليه ما بعده من قوله "وإن يكذبوك إلخ" وإلا فلا يخفى أن أهل الفترة ما جاءهم نذير على ما نطق به قوله تعالى : {مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} ويدل
340
أيضاً أن كل أمة أنذرت من الأمم ولم تقبل استؤصلت فكل أمة مكذبة معذبة بنوع من العذاب وتمام التوفيق بين الآيتين يأتي في يس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} (واكر معاندان قريش ترا دروغ زن دارند وبر تكذيب استمرار نمايند س بايشان وبتكذيب آنان مبالات مكن) {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم العاتية أنبياءهم {جَآءَتْهُمْ} (آمدند بديشان) وهو وما بعده استئناف أو حال أي : كذب المتقدمون وقد جاءتهم {رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} أي : المعجزات الظاهرة الدالة على صدق دعواهم وصحت نبوتهم {وَبِالزُّبُرِ} كصحف شيث وإدريس وإبراهيم عليهم السلام جمع زبور بمعنى المكتوب من زبرت الكتاب كتبته كتابة غليظة وكل كتاب غليظ الكتابة يقال له زبور كما في "المفردات" {وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ} أي : المظهر للحق الموضح لما يحتاج إليه من الأحكام والدلائل والمواعظ والأمثال والوعد والوعيد ونحوها كالتوراة والإنجيل والزبور على إرادة التفصيل دون الجمع أي : بعض هذه المذكورات جاءت بعض المكذبين وبعضها بعضهم لا أن الجميع جاءت كلاً منهم.
{ثُمَّ أَخَذْتُ} بأنواع العذاب {الَّذِينَ كَفَرُوا} ثبتوا على الكفر وداوموا عليه وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلية الأخذ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي : إنكاري بالعقوبة وتعييري عليهم وبالفارسية : (س كونه بود انكار من برايشان بعذاب وعقاب).
قال في "كشف الأسرار" : (يداكردن نشان ناخوشنودى ون بود حال كردانيدن من ون ديدى).
قال ابن الشيخ الاستفهام للتقرير فإنه عليه السلامصلى الله عليه وسلّم علم شدة الله عليهم فحسن الاستفهام على هذا الوجه في مقابلة التسلية يحذر كفار هذه الأمة بمثل عذاب الأمم المكذبة المتقدمة والعاقل من وعظ بغيره :
نيك بخت آنكسى بود كه دلش
آنه نيكى دروست بذيرد
ديكرانرا و ند داده شود
او ازان ند بهره بر كيرد
ويسلي أيضاً رسوله عليه السلام فإن التكذيب ليس ببدع من قريش فقد كان أكثر الأولين مكذبين وجه التسلي أنه عليه السلام كان يحزن عليهم وقد نهى الله عن الحزن بقوله : {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النحل : 127) وذلك لأنهم كانوا غير مستعدين لما دعوا إليه من الإيمان والطاعة فتوقع ذلك منهم كتوقع الجوهرية من الحجر القاسي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
توان اك كردن نك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
(7/266)
مع أن الحزن للحق لا يضيع كما أن امرأة حاضت في الموقف فقالت : آه فرأت في المنام كأن الله تعالى يقول : أما سمعت أني لا أضيع أجر العاملين وقد أعطيتك بهذا الحزن أجر سبعين حجة.
قال بعض الكبار لا يخفى أن أجر كل نبي في التبيلغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين وعلى قدر ما يقاسيه منهم وكل من رد رسالة نبي ولم يؤمن بها أصلاً فإن لذلك النبي أجر المصيبة وللمصاب أجر على الله بعدد من رد رسالته من أمته بلغوا ما بلغوا وقس على هذا حال الولي الوارث الداعي إلى الله على بصيرة.
{تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِا وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّا وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَا وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَـاـاةًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
{أَلَمْ تَرَ} الاستفهام تفريري والرؤية قلبية أي : ألم تعلم يعني قد علمت يا محمد أو يا من يليق به الخطاب {أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ} بقدرته
341
وحكمته {مِنَ السَّمَآءِ} أي : من الجهة العلوية سماء أو سحاباً {مَآءً} مطراً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي : بذلك الماء.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بفعل الإخراج لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة والحكمة ولأن الرجوع إلى نون العظمة أهيب في العبارة.
وقال الكاشفي : (عدول متكلم جهت تخصيص فعل است يعني ماتوانييم كه بيرون آريم بدان آب) {ثَمَرَاتٍ} جمع ثمرة وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر {مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وصف سببي للثمرات أي : أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها أو أصنافها على أن كلاً منها ذو أصناف مختلفة كالعنب فإن أصنافه تزيد على خمسين وكالتمر فإن أصنافه تزيد على مائة أو هيآتها من الصفرة والحمرة والخضرة والبياض والسواد وغيرها
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ} مبتدأ وخبر.
والجدد جمع جدة بالضم بمعنى الطريقة التي يخالف لونها ما يليها سواء كانت في الجبل أو في غيره والخطة في ظهر الحمار تخالف لونه وقد تكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه.
ولما لم يصح الحكم على نفس الجدد بأنها من الجبال احتيج إلى تقدير المضاف في المبتدأ أي : ومن الجبال ما هو ذو جدد أي : خطط وطرائق متلونة يخالف لونها لون الجبل فيؤول المعنى إلى أن من الجبال ما هو مختلف ألوانه لأن بيض صفة جدد وحمر عطف على بيض فتلا عليه السلام القرائن الثلاث فإن ما قبلها فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها وما بعدها ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه أي : منهم بعض مختلف ألوانه فلا بد في القرينة المتوسطة بينهما من ارتكاب الحذف ليؤول المعنى إلى ما ذكر فيحصل تناسب القرائن.
وفي "المفردات" أي : طرائق ظاهرة من قولهم طريق مجدود أي : مسلوك مقطوع ومنه جادة الطريق.
وفي "الجلالين" الطرائق تكون في الجبال كالعروق {بِيضٌ} جمع أبيض صفة جدد {وَحُمْرٌ} جمع أحمر.
وفي"كشف الأسرار" : (واز كوهها راهها بيدا شده از روندكان خطها سبد وخطها سرخ در كوههاى سيد وكوههاى سرخ) حمل صاحب "كشف الأسرار" الجدد على الطرائق المسلوكة والظاهر هو الأول لأن المقام لبيان ما هو خلقي على أن كون الطريقة بيضاء لا يستلزم كون الجبال كذلك إذ للجبال عروق لونها يخالف لونها وكذا العكس وهو أن كون الجبل أبيض لا يقتضي كون الطريقة كذلك فمن موافق ومن مخالف {مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} أي : ألوان تلك الجدد إلا أن قوله مختلف ألوانها صفة لكل واحدة من الجدد البيض والحمر بمعنى أن بياض كل واحدة من الجدد البيض وكذا حمرة الجدد الحمر يتفاوتان بالشدة والضعف.
فقوله : {بِيضٌ وَحُمْرٌ} وإن كان صفة لجدد فرب أبيض أشد بياضاً من أبيض آخر وكذا رب أحمر أشد حمرة من أحمر آخر فنفس البياض مختلف وكذا نفس الحمرة فلذلك جمع لفظ ألوان مضافاً إلى ضمير كل واحد من البيض والحمر فيكون كل واحد منهما من قبيل الكلي المشكك.
ويحتمل أن يكون قوله مختلف ألوانها صفة ثالثة لجدد فيكون ضمير ألوانها للجدد فيكون تأكيداً لقوله {بِيضٌ وَحُمْرٌ} ويكون اختلاف ألوان الجدد بأن يكون بعضها أبيض وبعضها أحمر فتكون الجدد كلها على لونين بياض
342
وحمرة إلا أنه عبر عن اللونين بالألوان لتكثير كل واحد منهما باعتبار محاله كذا في "حواشي ابن الشيخ".
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/267)
يقول الفقير : من شاهد جبال ديار العرب في طريق الحج وغيرها وجد هذه الأقسام كلها فإنها وجددها مختلفة متلونة {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} عطف على بيض فيكون من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها كالبيض والحمر كأنه قيل ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود غرابيب.
وإنما وسط الاختلاف لأنه علم من الوصف بالغرابيب أنه ليس في الأسود اختلاف اللون بالشدة والضعف.
ويجوز أن يكون غرابيب عطفاً على جدد فلا يكون داخلاً في تفاصيل الجدد بل يكون قسيمها كأنه قيل ومن الجبال مخطط ذو جدد ومنها ما هو على لون واحد وهو السواد.
فالغرض من الآية إما بيان اختلاف ألوان طرائق الجبال كاختلاف ألوان الثمرات فترى الطرائق الجبلية من البعيد منها بيض ومنها حمر ومنها سود وإما بيان اختلاف ألوان الجبال نفسها وكل منها أثر دال على القدرة الكاملة كذا في "حواشي ابن الشيخ".
والغرابيب جمع غربيب كعفريت يقال : أسود غربيب أي شديد السواد الذي يشبه لون الغراب وكذا يقال : أسود حالك كما يقال : أصفر فاقع وأبيض يقق محركة وأحمر قان لخالص الصفرة وشديد البياض والحمرة وفي الحديث "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" يعني الذي يخضب بالسواد كما في "تفسير القرطبي" والذي لا يشيب كما في "المقاصد الحسنة" والسود جمع أسود.
فإن قلت إذا كان الغربيب تأكيداً للأسود كالفاقع مثلاً للأصفر ينبغي أن يقال وسود غرابيب بتقديم السود إذ من حق التأكيد أن يتبع المؤكد ولا يتقدم عليه.
قلت : الغرابيب تأكيد لمضمر يفسره ما بعده والتقدير سود غرابيب سود فالتأكيد إذاً متأخر عن المؤكد وفي الإضمار ثم الإظهار مزيد تأكيد لما فيه من التكرار وهذا أصوب من كون السود بدلاً من الغرابيب كما ذهب إليه الأكثر حتى صاحب "القاموس" كما قال وأما غرابيب سود بدل لأن تأكيد الألوان لا يتقدم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَمِنَ النَّاسِ} (واز آدميان) {وَالدَّوَآبِّ} (واز هار ايان) جمع دابة وهي ما يدب على الأرض من الحيوان وغلب على ما يركب من الخيل والبغال والحمير ويقع على المذكر {وَالانْعَـامِ} (واز رند كان) جمع نعم محركة وقد يسكن عينه الإبل والبقر والضأن والمعز دون غيرها فالخيل والبغال والحمير خارجة عن الأنعام والمعنى ومنهم بعض {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أو وبعضهم مختلف ألوانه بأن يكون أبيض وأحمر وأسود ولم يقل هنا ألوانها لأن الضمير يعود إلى البعض الدال عليه من {كَذَالِكَ} تم الكلام هنا وهو مصدر تشبيهي لقوله مختلف أي : صفة لمصدر مؤكد تقديره مختلف اختلافاً كائناً كذلك أي : كاختلاف الثمار والجبال {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} يعني (هركه نداند قدرت خدايرا بر آفريدن اشيا وعالم نبود بتحويل هر يزى از حالى بحالى كونه از خداى تعالى ترسد {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} ) الخ.
وفي "الإرشاد" وهو تكملة لقوله تعالى : {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} بتعيين من يخشاه من الناس بعد بيان اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منها حقها اللائق بها من البيان
343
أي : إنما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة لما أن مدار الخشية معرفة المخشى والعلم بشؤونه فمن كان أعلم به تعالى كان أخشى منه كما قال عليه السلام : "أنا أخشاكموأتقاكم له" ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته وحيث كان الكفرة بمعزل عن هذه المعرفة امتنع إنذارهم بالكلية انتهى.
وتقديم المخشي وهو المفعول للاختصاص وحصر الفاعلية أي : لا يخشى الله من بين عباده إلا العلماء ولو أخر لانعكس الأمر وصار المعني لا يخشون إلا الله وبينهما تغاير ففي الأول بيان أن الخاشعين هم العلماء دون غيرهم وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله دون غيره.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية استعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيباً فالمعنى إنما يعظمهم الله من بين جميع عباده كما يعظم المهيب المخشي من الرجال بين الناس وهذه القراءة وإن كانت شاذة لكنها مفيدة جداً وجعل عبد الله بن عمر الخشية بمعنى الاختيار أي : إنما يختار الله من بين عباده العلماء {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} (غالبست در انتقام كشيدن از كسى كه نترسد از عقوبت او) {غَفُورٌ} للخاشعين وهو تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب من عصيانه ومن حق من هذه صفته أن يخشى.
قيل الخشية تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل يكون تارة بكثرة الجناية من العبد وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته وخشية الأنبياء من هذا القبيل.
فعلى المؤمن أن يجتهد في تحصيل العلم بالله حتى يكون أخشى الناس فبقدر مراتب العلم تكون مراتب الخوف والخشية.
(7/268)
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
ـ روي ـ عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل يا رسول الله أيّنا أعلم؟ قال : "أخشاكمسبحانه وتعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء" قالوا : يا رسول الله فأي الأصحاب أفضل؟ قال : "من إذا ذكرت الله أعانك وإذا نسيت ذكرك" قالوا : فأي الأصحاب شر؟ قال : "الذي إذا ذكرت لم يعنك وإذا نسيت لم يذكرك" قالوا : فأي الناس شر؟ قال : "اللهم اغفر للعلماء العالم إذا فسد فسد الناس" كذا في "تفسير أبي الليث" :
علم جندانكه بيشتر خوانى
ون عمل در تونيست نادانى
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا عالمين ومحققين وفي الخوف والخشية صادقين ومحققين.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه كَذَالِكَا إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَـاؤُا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَـارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه إِنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ} .
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ} أي : يداومون على تلاوة القرآن ويعملون بما فيه إذ لا تنفع التلاوة بدون العمل والتلاوة القراءة أعم متتابعة كالدراسة والأوراد الموظفة والقراءة منها لكن التهجي وتعليم الصبيان لا يعد قراءة ولذا قالوا : لا يكره التهجي للجنب والحائض والنفساء بالقرآن لأنه لا يعد قارئاً وكذا لا يكره لهم التعليم للصبيان وغيرهم حرفاً حرفاً وكلمة كلمة مع القطع بين كل كلمتين {وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ} بآدابها وشرائطها وغاير بين المستقبل والماضي لأن أوقات التلاوة أعم بخلاف أوقات الصلاة وكذا أوقات الزكاة المدلول عليها بقوله : {وَأَنفَقُوا} في وجوه البر يعني : (ازدست بيرون كنند درويشانرا) {مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} أعطيناهم يعني : (از آنه روزى داده ايم ايشانرا {سِرًّا وَعَلانِيَةً} ) وهي ضد السر وأكثر ما يقال ذلك في المعاني دون الأعيان يقال أعلنته فعلن أي : في السر والعلانية أو إنفاق سر وعلانية أو ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين كيفما اتفق من غير قصد إليهما.
وقال الكاشفي : {سِرًّا} (
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نهان از خوف آنكه براي آميخته هنكردد {وَعَلانِيَةً}
344
واشكار بطمع آنكه سبب رغبت ديكران كردد بتصدق) فالأولى هي المسنونة والثانية هي المفروضة وفيهما إشارة إلى علم الباطن والظاهر وفيه بعث للمنفق على الصدقة في سبيل الله في عموم الأوقات والأحوال {يَرْجُونَ} خبر إن {تِجَـارَةً} تحصيل ثواب بالطاعة والتاجر الذي يبيع ويشتري وعمله التجارة وهي التصرف في رأس المال طالباً للربح قيل : وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة وأما تجاه فأصله وجاه وتجوب فالتاء فيه للمضارعة {لَّن تَبُورَ} البوار فرط الكساد والوصف بائر.
ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد عبر بالبوار عن الهلاك مطلقاً ومن الهلاك المعنوي ما في قولهم خذوا الطريق ولو دارت وتزوجوا البكر ولو بارت واسكنوا المدن ولو جارت.
والمعنى لن تكسد ولن تهلك مطلقاً بالخسران أصلاً وبالفارسية : (فاسد نبود وزيان بدان نرسيد بلكه در دوز قيامت متاع اعمال ايشان رواجي تمام يابد).
قال في "الإرشاد" قوله : {لَّن تَبُورَ} صفة للتجارة جيىء بها للدلالة على أنها ليست كسائر التجارات الدائرة بين الربح والخسران لأنه اشتراء باق بفان والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم.
{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} (التوفية : تمام بدادن) والأجر ثواب العمل وهو متعلق بلن تبور على معنى أنه ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بحسب أعمالهم وخلوص نياتهم أجور أعمالهم من التلاوة والإقامة والإنفاق فلا وقف على لن تبور {وَيَزِيدَهُم} (وزياده كند بر ثواب ايشانرا) {مِّن فَضْلِهِ} أي : جوده وتفضله وخزائن رحمته ما يشاء مما لم يخطر ببالهم عند العمل ولم يستحقوا له بل هو كرم محض ومن فضله يوم القيامة نصبهم في مقام الشفاعة ليشفعوا فيمن وجبت لهم النار من الأقرباء وغيرهم {إِنَّه غَفُورٌ} تعليل لما قبله من التوفية والزيادة أي : غفور لفرطاتهم.
وفي "بحر العلوم" ستار لكل ما صدر عنهم مما من شأنه أن يستر محاء له عن قلوبهم وعن ديوان الحفظة {شَكُورٌ} لطاعتهم أي : مجازيهم عليها ومثيب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/269)
وفي "التأويلات النجمية" : غفور يغفر تقصيرهم في العبودية شكور يشكر سعيهم مع التقصير بفضل الربوبية.
قال أبو الليث : الشكر على ثلاثة أوجه : الشكر ممن دونه يكون بالطاعة وترك مخالفته.
والشكر ممن هو شكله يكون بالجزاء والمكافأة.
والشكر ممن فوقه يكون رضى منه باليسير كما قال : بعضهم الشكور هو المجازي بالخير الكثير على العمل اليسير والمعطي بالعمل في أيام معدودة نعماً في الآخرة غير مجذوذة ومن عرف أنه الشكور شكر نعمته وآثر طاعته وطلب رحمته وشهد منته.
قال الغزالي رحمه الله : وأحسن وجوه الشكر لنعم الله أن لا يستعملها في معاصيه بل في طاعاته.
وخاصة هذا الاسم إنه لو كتبه إحدى وأربعين مرة من به ضيق في النفس وتعب في البدن وثقل في الجسم وتمسح به وشرب منه برىء بإذن الله تعالى وإن تمسح به ضعيف البصر على عينيه وجد بركة ذلك.
{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه إِنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِه لَخَبِيرُا بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} .
{وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} وهو القرآن ومن للتبيين أو للجنس أو للتبعيض {هُوَ الْحَقُّ} الصدق لا كذب فيه ولا شك {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي : حال كونه موافقاً لما قبله من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء في العقائد وأصول الأحكام وهو حال مؤكدة أي : أحقه مصدقاً لأن حقيته لا تنفك عن هذا التصديق {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ}
345
متعلق بقوله : {لَخَبِيرُا بَصِيرٌ} وتقديمه عليه لمراعاة الفاصلة التي على حرف الراء أي : محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب يعرف صدقها منه وتقديم الخبير للتنبيه على أن العمدة في ذلك العلم والإحاطة هي الأمور الروحانية.
وفي "التأويلات النجمية" : {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ} من أهل السعادة وأهل الشقاوة {لَخَبِيرُ} لأنه خلقهم {بَصِيرٌ} بما يصدر منهم من الأخلاق والأعمال انتهى فقد أعلم الله تعالى حقية القرآن ووعد على تلاوته والعمل به الأجر الكثير ولا يحصل أجر التلاوة للأمي إذ لا تلاوة له بل للقارىء فلا بد من التعلم والاشتغال في جميع الأوقات ، قال المولى الحامي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
ون زنفس وحديثش آيى تنك
بكلام قديم كن آهنك
مصحفى جو و شاهد مهوش
بوسه زن دركنار خويشش كش
حرف او كن حواس جسماني
وقف او كن قواى روحاني
دل بمعنى زبان بلفظ سار
شم بر خط نه ونقط بكذار
وفي الحديث : "إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من نور مطوقة بنور عند كل منبر ناقة من نوق الجنة ينادي منادٍ اين من حمل كتاب الله اجلسوا على هذه المنابر فلا روع عليكم ولا حزن حتى يفرغ الله مما بينه وبين العباد فإذا فرغ الله من حساب الخلق حملوا على تلك النوق إلى الجنة" وفي الحديث : "إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان".
ذكر في "القنية" أن الصلاة على النبي عليه السلام والدعاء والتسبيح أفضل من قراءة القرآن في الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها.
فالمستحب بعد الفجر مثلاً ذكر الله تعالى كما هو عادة الصوفية إلى أن تطلع الشمس فإن هذا الوقت وإن جاز فيه قضاء الفوائت وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ولكن يكره التطوع فهو منهي عنه فيه وكذا المنذورة وركعتا الطواف وقضاء تطوع إذا أفسده لأنها ملحقة بالنفل إذ سبب وجوبها من جهته جعلنا الله وإياكم من المغتنمين بتلاوة كتابه والمتشرفين بلطف خطابه والواصلين إلى الأنوار والأسرار.
{ثُمَّ} للترتيب والتأخير أي : بعدما أوحينا إليك أو بعد كتب الأولين كما دل ما قبله على كل منهما.
وسئل الثوري على ماذا عطف بقوله ثم قال على إرادة الأزل والأمر المقضي أي : بعدما أردنا في الأزل {أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ} أي : ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا هذا القرآن عطاء لا رجوع فيه.
قال الراغب الوراثة انتقال قينة إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد وسمي بذلك المنتقل عن الميت ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب قد ورث كذا انتهى وسيأتي بيانه {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الموصول مع صلته مفعول ثان لأورثنا.
والاصطفاء في الأصل تناول صفو الشيء بالفارسية : (بركزيدن وعباد اينجا بموضع كرامت است اكره كه نسبت عبوديت آدمرا حقيقت است) كما في "كشف الأسرار" والمعنى بالفارسية : (آنا نرا كه بركزيديم از بندكان ما "وهم الأمة بأسرهم"
346
(7/270)
زيرا آن روز كه اين آيت آمد مصطفى عليه السلام سخت شاد شد وازشادى كه بوى رسيد سه بار بكفت) امتى ورب الكعبة والله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم كما اصطفي رسولهم على جميع الرسل وكتابهم على كل الكتب وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزء ولو أنه الفاتحة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون كما في "المناسبات".
قال الكاشفي : (عطارا ميراث خواند ه ميراث خواند ه ميراث مالى باشدكه بى تعب طلب بدست آيد همنين عطيه قرآن بى جست وجوى مؤمنان بمحض عنايت ملك منان بديشان رسيد وبيكانكان را درميراث دخل نيست دشمنان نيز وبهر هاى اهل قرآن متفاوتست هركس بقدر استحاق واندازه استعداد خود از حقائق قرآن بهره مند شوند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
زين بزم يكى جرعه طلاب كرد يكى جام†
وفي "التأويلات النجمية" : إنما ذكر بلفظ الميراث لأن الميراث يقتضي صحة النسب أو صحة السبب على وجه مخصوص فمن لا سبب له ولا نسب له فلا ميراث له فالسبب ههنا طاعة العبد والنسب فضل الرب فأهل الطاعة هم أهل الجنة كما قال تعالى : {أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (المؤمنون : 10 ـ 11) فهم ورثوا الجنة بسبب الطاعة وأصل وراثتهم بالسببية المبايعة التي جرت بينهم وبين الله بقوله : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة : 111) فهؤلاء أطاعوا الله بأنفسهم وأموالهم فأدخلهم الله الجنة جزاء بما كانوا يعملون وأهل الفضل هم أهل الله وفضله معهم بأن أورثهم المحبة والمعرفة والقربة كما قال : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) الآية.
ولما كانت الوراثة بالسبب والنسب وكان السبب جنساً واحداً كالزوجية وهما صاحبا الفرض وكان النسب من جنسين الأصول كالآباء والأمهات والفروع كل ما يتولد من الأصول كالأولاد والأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام وأولادهم وهم صاحب فرض وعصبة فصار مجموع الورثة ثلاثة أصناف : صاحب الفرض بالسبب وصنف صاحب الفرض بالنسب وصنف صاحب الباقي وهم العصبة كذلك الورثة ههنا ثلاثة أصناف كما قال تعالى : {فَمِنْهُمْ} أي : من الذين اصطفينا من عبادنا {ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} في العمل بالكتاب وهو المرجأ لأمر الله أي : الموقوف أمره لأمر الله إما يعذبه وإما يتوب عليه وذلك لأنه ليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَـابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـاذَا الادْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} (الأعراف : 169) الآية ولا من ضرورة الاصطفاء المنع عن الوصف بالظلم هذا آدم عليه السلام اصطفاه الله كما قال : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ} (آل عمران : 33) وهو القائل : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) الآية.
سئل أبو يزيد البسطامي قدس سره : أيعصي العارف الذي هو من أهل الكشف؟ فقال : نعم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} يعني إن كان الحق قدر عليه في سابق علمه شيئاً فلا بد من وقوعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
واعلم أن الظلم ثلاثة : ظلم بين الإنسان وبين الله وأعظمه الكفر والشرك والنفاق ، وظلم بينه وبين الناس ، وظلم بينه وبين نفسه وهو المراد بما في الآية كما في "المفردات".
وتقديم الظلم بالذكر لا يدل على تقديمه في الدرجة لقوله تعالى : {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} كما في
347
"الأسئلة المقحمة".
وقال بعضهم : قدم الظالم لكثرة الفاسقين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان.
وقال أبو الليث الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق كي لا يعجب السابق بنفسه ولا ييأس الظالم من رحمة الله يعني : (ابتداء بظالم كرد تا شرم زده نكردند وبرحمت بى غايت او اميدوار باشند) :
نيايد از من آلوده طاعت خالص
ولى برحمت وفضلت اميدوارى هست
وقال القشيري في الإرث يبدأ بصاحب الفرض وإن قل نصيبه فكذا ههنا بدأ بالظالم ونصيبه أقل من نصيب الآخرين (وكفته اند تقديم ظالم ازروى فضلست وتأخيرش ازراه عدل وحق سبحانه فضل را از عدل دوستر دارد وتأخير سابق جهت آنست كه تابثواب كه دخول جنانست اقرب باشد يا بجهت آنكه اعتماد بر عمل خود نكند وبطاعت معجب نكرددكه عجب آتشيست كه ون برافروخته شود هزارخر من عبادت بدوسوخته شود) :
اى سر عجب آتشى عجبست
كرم ساز تنور بو لهبست
هركجا شعله ازو افروخت
هره از علم وزهد ديدبسوخت
(7/271)
{وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} يعمل بالكتاب في أغلب الأوقات ولا يخلو من خلط الشيء وبالفارسية : (وهست از ايشان كه راه ميان رفت نه هنر سابقان ونه تفريط ظالمان) فان الاقتصاد بالفارسية : (ميان رفتن دركار) وإنما قال مقتصد بصيعة الافتعال لأن ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة {وَمِنْهُمْ سَابِقُ} أصل السبق التقدم في السير ويستعار لاحراز الفضل فالمعنى متقدم إلى ثواب الله وجنته ورحمته {بِالْخَيْرَاتِ} بالأعمال الصالحة بضم التعليم والإرشاد إلى العلم والعمل والخير ما يرغب فيه الكل كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع وضده الشر.
قال بعض الكبار : وهذه الخيرات على قسمين : قسم من كسب العبد بتقديم الخيرات ، وقسم من فضل الرب بتواتر الجذبات إلى أن يسبق على الظالم لنفسه وعلي المقتصد بالسير بالله في الله وإن كان مسبوقاً بالذكر في الأخير كما كان حال النبي عليه السلام مسبوقاً بالخروج في آخر الزمان للرسالة سابقاً بالرجوع إلى الحضرة ليلة المعراج على جميع الأنبياء والرسل كما أخبر عن حال نفسه وحال سابقي أمته بقوله : "نحن الآخرون السابقون" أي : الآخرون خروجاً في عالم الصورة السابقون وصولاً إلى عالم الحقيقة.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه بدأ بالظالمين إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وإن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص.
وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له".
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
وقال أبو بكر بن الوراق رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال العبد ثلاث : معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة فإذا عصى دخل في حيز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين.
والسابق على ضربين سابق ولد سابقاً وعاش سابقاً ومات سابقاً وسابق ولد سابقاً وعاش ظالماً ومات سابقاً فاسم الظالم عليهم عارية إذا ولدوا سابقين
348
وماتوا سابقين ولا عبرة بالظلم العارض بل العبرة بالأزل والأبد لا بالبرزخ بينهما فأما من ولد ظالماً وعاش ظالماً ومات ظالماً من هذه الأمة فهو من أهل الكبائر الذين قال النبي عليه السلام فيهم : "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
فعلى هذا المقتصد من مات على التوبة والسابق من عاش في الطاعة ومات في الطاعة.
أو السابق هو الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيآته مكفرة وهو معنى قوله عليه السلام : "أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب".
وأما المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً.
وأما الذين ظلموا فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته.
(7/272)
وههنا مقالات أخر كثيرة ذكرنا بعضاً منها على ترتيب الآية وهو أن المراد بالطوائف الثلاث التالي للقرآن تلاوة مجردة والقارىء له العامل به والقارىء العامل بما فيه والمعلم له.
أو من استغنى بماله ومن استغنى بدينه ومن استغنى بربه.
أو الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة والذي يدخله وقد أذن والذي يدخله قبل تأذين المؤذن وإنما كان الأول ظالماً لأنه نقص نفس الأجر فلم يحصل لها ما حصل لغيرها.
أو الذي يعبد الله على الغفلة والعادة والذي يعبده على الرغبة والرهبة والذي يعبده على الهيبة.
أو الذي شغله معاشه عن معاده والذي اشتغل بالمعاش والمعاد جميعاً والذي شغله معاده عن معاشه.
أو من يرتكب المعاصي غير مستحل لها ولا جاحد تحريمها ومن لا يزيد من الطاعات على الفرائض والواجبات ومن يكثر الطاعات ويبلغ النهاية فيها مع اجتناب المعاصي.
أو من هو معذب ناج ومن هو معاتب ناج ومن هو مقرب ناج.
أو الذي ترك الحرام والذي ترك الشبهة والذي ترك الفضل في الجملة.
أو الذي رجحت سيآته والذي ساوت حسناته سيآته والذي رجحت حسناته.
أو من ظاهره خير من باطنه ومن استوى ظاهره وباطنه ومن باطنه خير من ظاهره.
أو من أسلم بعد فتح مكة ومن أسلم بعد الهجرة قبل الفتح ومن أسلم قبل الهجرة.
أو أهل البدو يعني : (أهل باديه كه نه كمر جهاد بندند ونه دولت جماعت يابند) وأهل الحضر أي : الامصار وهم أصحاب الجماعات والجمعات وأهل الجهاد في سبيل الله.
أو من لا يبالي من أين أخذ من الحلال أو الحرام ومن أخذ من الحلال ومن ترك الدنيا لما أنه في حلالها حساب وفي حرامها عذاب.
أو الذي يطلب فوق القوت والكفاف والذي يطلب القوت لا الزيادة عليه والذي يتوكل على الله ويجعل جميع جهده في طاعته.
أو الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين والذي يدخلها برحمة الله وفضله والذي ينجو بنفسه وينجو غيره بشفاعته.
أو الذي يضيع العمر في الشهوة والمعصية والذي يحارب فيهما والذي يجتهد في الزلات لأن محاربة الصديقين في الزلات ومحاربة الزاهدين في الشهوات ومحاربة التائبين في الموبقات.
أو من يطلب الدنيا تمتعاً ومن يطلبها تلذذاً ومن يتركها تزاهداً.
أو الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه وهو الرزق والذي يطلب ما أمر به وما لم يؤمر به والذي يطلب مرضاة الله ومحبته.
أو أصحاب الكبائر وأرباب الصغائر والمجتنب عنهما جميعاً فهذا القائل إنما حمل الأمر على أشده.
أو من يشتغل بعيب غيره ولا يصلح عيب نفسه ومن يطلب عيب نفسه ويطمع في عيب غيره أيضاً أو من يشتغل بعيب نفسه ولا يطلب عيب غيره أصلاً.
أو الجاهل والمتعلم والعالم (يا آنكه انصاف ستاند وندهد وآنكه هم ستاند وهم دهد وآنكه او دهد
349
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
ونستاند يا طالب نجاة ودرجات ومناجات يا ناظر از خود بخود ونكرنده از خود بآخرت وناظر از حق بحق يا آنكه يوسته درخواب غفلت باشد وآنكه كاهى بيدار كردد وآنكه هميشه يدار بود).
أو الزاهد لأنه ظلم نفسه بترك حظه من الدنيا والعارف والمحب.
أو الذي يجزع عند البلاء والصابر على البلاء والمتلذذ بالبلاء.
أو من ركن إلى الدنيا ومن ركن إلى العقبى ومن ركن إلى المولى.
نعيم هر دو جهان ميكنند برما عرض
دل ازميانه تمنا ندارد الا دوست
أو من جاد بنفسه ومن جاد بقلبه ومن جاد بروحه.
أو من له علم اليقين ومن له عين اليقين ومن له حق اليقين.
أو الذي يحب الله لنفسه والذي يحبه الله والذي أسقط عنه مراده لمراد الحق لم ير لنفسه طلباً ولا مراداً لغلبة سلطان الحق عليه.
أو من يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة ومن يراه في كل يوم مرة ومن هو غير محجوب عنه ولو ساعة.
أو من هو في ميدان العلم ومن هو في ميدان المعرفة ومن هو في ميدان الوجد.
أو السالك والمجذوب والمجذوب السالك فالسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه.
أو من هو مضروب بسوط الأمل مقتول بسيف الحرص مضطجع عل باب الرجاء ومن هو مضروب بسوط الحسرة مقتول بسيف الندامة مضطجع على باب الكرم ومن هو مضروب بسوط المحبة مقتول بسيف الشوق مضطجع على باب الهيبة.
اكر عاشقى خواهى آموختى
بكشتن فرج يابى از سوختن
مكن كريه بركور مقتول دوست
قل الحمدكه مقبول اوست
فالظالم على هذه الأقاويل كلها هو المؤمن.
(7/273)
وأما قول من قال : الظالم لنفسه آدم عليه السلام والمقتصد إبراهيم عليه السلام والسابق محمد عليه السلام ففيه أن الآية في حق هذه الأمة إلا أن يعاد الضمير في قوله منهم إلى العباد مطلقاً.
فإن قلت هل يقال إن آدم ظلم نفسه؟ قلت : هو قد اعترف بالظلم لنفسه في قوله : "ربنا ظلمنا أنفسنا" وإن كان الأدب الإمساك عن مثل هذا المقال في حقه وإن كان له وجه في الجملة كما قال الراغب الظلم يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة ويقال فيما يقل ويكثر من التجاوز ولهذا يستعمل في الذنب الكبير والصغير ولذلك قيل لآدم ظالم في تعديه ولإبليس ظالم وإن كان بين الظلمين بون بعيد انتهى {بِإِذْنِ اللَّهِ} جعله في "كشف الأسرار" متعلقاً بالأصناف الثلاثة على معنى ظلم الظالم وقصد المقتصد وسبق السابق بعلم الله وإرادته.
والظاهر تعلقه بالسابق كما ذهب إليه أجلاء المفسرين على معنى بتيسيره وتوفيقه وتمكينه من فعل الخير لا باستقلاله.
وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها.
قال القشيري قدس سره : كأنه قال يا ظالم ارفع رأسك فإنك وإن ظلمت فما ظلمت إلا نفسك ويا سابق اخفض رأسك فإنك وإن سبقت فما سبقت إلا بتوفيقي {ذَالِكَ} السبق بالخيرات {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} من الله الكبير لا ينال إلا بتوفيقه أو ذلك الإيراث والاختيار فيكون بالنظر إلى جمع المؤمنين من الأمة وكونه فضلاً لأن القرآن
350
أفضل الكتب الإلهية وهذ الأمة المرحومة أفضل جميع الأمم السابقة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
وفي "التأويلات النجمية" : أي : الذي ذكر من العالم مع السابق في الإيراث واصطفاء ودخول الجنة ومن دقائق حكمته أنه تعالى ما قال في هذا المعرض الفضل العظيم لأن الفضل العظيم في حق الظالم أن يجمعه مع السابق في الفضل والمقام كما جمعه معه في الذكر.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .
{جَنَّـاتُ عَدْنٍ} يقال عدن بمكان كذا إذا استقر ومنه المعدن لمستقر الجواهر كما في "المفردات" أي : بساتين استقرار وثبات وإقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها وهو إما بدل من الفضل الكبير بتنزيل السبب منزلة المسبب أو مبتدأ خبره قوله تعالى {يَدْخُلُونَهَا} جمع الضمير لأن المراد بالسابق الجنس وتخصيص حال السابقين ومالهم بالذكر والسكوت عن الفريقين الآخرين وإن لم يدل على حرمانهما من دخول الجنة مطلقاً لكن فيه تحذير لهما من التقصير وتحريض على السعي في إدراك شؤون السابقين.
وقال بعضهم : المراد بالأصناف الثلاثة الكافر والمنافق والمؤمن أو أصحاب المشأمة وأصحاب الميمنة ومن أريد بقوله تعالى : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} (الواقعة : 10) أو المنافقون والمتابعون بالإحسان وأصحاب النبي عليه السلام أو من يعطي كتابه وراء ظهره ومن يعطي كتابه بشماله ومن يعطي كتابه بيمينه.
فعلى هذه الأقوال لا يدخل الظالم في الجنات لكونه غير مؤمن وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو الأصح وعليه عامة أهل العلم كما في "كشف الأسرار".
قال أبو الليث في تفسير أول الآية وآخرها دليل على أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون.
فأما أول الآية فقوله : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ} فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة.
وأما آخر الآية فقوله : {يَدْخُلُونَهَا} إذ لم يقل يدخلانها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
ـ وروي ـ عن كعب الأحبار أنه قيل له ما منعك أن تسلم على يدي رسول الله عليه السلام قال : كان أبي مكنني من جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها فخرج أبي يوماً لحاجة فنظرت فيها فوجدت فيها نعت أمة محمد وأن يجعلهم الله يوم القيامة ثلاثة أثلاث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنة وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت وقلت لعلي أكون من الصنف الأول وإن لم أكن من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ} إلى قوله : {يَدْخُلُونَهَا} .
(7/274)
وفي "التأويلات النجمية" لما ذكرهم أصنافاً ثلاثة رتبها ولما ذكر حديث الجنة والتنعم والتزين فيها ذكرهم على الجمع {جَنَّـاتُ عَدْنٍ} الآية نبه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله وليس في الفضل تميز فيما يتعلق بالنعمة دون ما يتعلق بالمنعم لأن في الخبر "إن من أهل الجنة من يرى الله سبحانه في كل جمعة بمقدار أيام الدنيا مرة ومنهم من يراه في كل يوم مرة ومنهم من هو غير محجوب عنه لحظة" كما سبق {يُحَلَّوْنَ} (التحلية : بازيور كردن) أي : يلبسون على سبيل التزين والتحلي نساء ورجالاً خبر ثان أو حال مقدرة {فِيهَا} أي : في تلك الجنات {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى تبعيضية والثانية بيانية.
وأساور جمع أسورة وهو جمع سوار مثل كتاب وغراب معرب "دستواره" والمعنى يحلون بعض أساور من ذهب لأنه أفضل من سائر أفرادها أي : بعضاً سابقاً لسائر الأبعاض
351
كما سبق المسورون به غيرهم وقال في سورة هل أتى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} (الإنسان : 21) قيل يجمع لهم الذهب والفضة جميعاً وهو أجمل أو بعضهم يحلون بالذهب وهم المقربون وبعضهم يحلون بالفضة وهم الأبرار {وَلُؤْلُؤًا} بالنصب عطفاً على محل من أساور.
واللؤلؤ الدر سمي بذلك لتلألئه ولمعانه والمعنى ويحلون لؤلؤاً.
قال الكاشفي : (نانه ادشاهان عجم).
وقرىء بالجر عطفاً على ذهب أي : من ذهب مرصع باللؤلؤ ومن ذهب في صفاء اللؤلؤ وذلك لأنه لم يعهد الأسورة من نفس اللؤلؤ إلا أن تكون بطريق النظم في السلك.
وقال في "بحر العلوم" : عطف على ذهب فإنهم يسورون بالجنسين أساور من ذهب ومن لؤلؤ وذلك على الله يسير وكم من أمر من أمور الآخرة يخالف أمور الدنيا وهذا منها
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} لا كحرير الدنيا فإنه لا يوجد من معناه في الدنيا إلا الاسم واللباس اسم ما يلبس وبالفارسية : (جامه ووشش) والحرير من الثياب مارق كما في "المفردات" وثوب يكون سداه ولحمته ابريسما وإن كان في الأصل الابريسم المطبوخ كما في القهستاني.
ويحرم لبسه على الرجال دون النساء إلا في الحرب ولكن لا يصلي فيه إلا أن يخاف العدو أو لضرورة كحكة أو جرب في جسده أو لدفع القمل ولا يلبسه وإن لم يتصل بجلده وهو الصحيح وجاز أن يكون عروة القميص وزره حريراً كالعلم في الثوب ولا بأس أن يشد خماراً أسود من الحرير على العين الرامدة والناظرة إلى الثلج وأن تكون التكة حريراً ورخص قدر أربع أصابع كما هي.
وقيل مضمومة ولا يجمع المتفرق من الحرير.
ويجوز عند الإمام أن يجعل الحرير تحت رأسه وجنبه ويكره عندهما وبه أخذ أكثر المشايخ.
وعلى هذا الخلاف تعليق الحرير على الجدر ولا بأس بالجلوس على بساط الحرير والصلاة على السحادة منه ويوضع ملاءة الحرير على مهد الصبي.
ويلبس الرجل في الحرب وغيره بلا كراهة إجماعاً ما سداه ابريسم ولحمته وغيره سواء كان مغلوباً أو غالباً أو مساوياً للحرير وهو الصحيح.
ويلبس عكسه أي : ما لحمته ابريسم وسداه غيره في حرب فقط.
وكره إلباس الصبي ذهباً أو حريراً لئلا يعتاده والإثم على الملبس لأن الفعل مضاف إليه.
وكذا يكره كل لباس خلاف السنة والمستحب أن يكون من القطن والكتان أو الصوف.
وأحب الألوان البياض.
ولبس الأخضر سنة.
ولبس الأسود مستحب ولا بأس بالثوب الأحمر كما في الزاهدي الكل من القهستاني وقد سبق باقي البيان في سورة الحج وغيرها {وَقَالُوا} أي : ويقولون عند دخول الجنة حمداً لربهم على ما صنع بهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وبالفارسية : (وكويند اين جمع ون ازحفره دوزخ برهند وبروضه بهشت برسند) {الْحَمْدُ} أي : الإحاطة بأوصاف الكمال لمن له تمام القدرة {الَّذِى أَذْهَبَ} أزال {عَنَّا} بدخولنا الجنة {الْحَزَنَ} الحزن بفتحتين والحزن بالضم والسكون واحد وهو خشونة الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم ويضاده الفرح.
وفي "التأويلات النجمية" : سمي الحزن حزناً لحزونة الوقت على صاحبه وليس في الجنة وهي جوار الحضرة حزونة وإنما هي رضى واستبشار انتهى.
والمراد جنس الجزن سواء كان حزن الدنيا أو حزن الآخرة من هم المعاش وحزن زوال النعم والجوع والعطش وقوت من الحلال وخوف السلطان ودغدغة التحاسد والتباغض وحزن الأعراض والآفات ووسوسة إبليس والسيآت
352
ورد الطاعات وسوء العاقبة والموت وأهوال يوم القيامة والنار والمرور على الصراط وخوف الفراق وتدبير الأحوال وغير ذلك وفي الحديث "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم ينفضون التراب عن وجوههم ويوقولون الحمدالذي أذهب عنا الحزن".
قال أبو سعيد الخراز قدس سره : أهل المعرفة في الدنيا كأهل الجنة في الآخرة فتركوا الدنيا في الدنيا فتنعموا وعاشوا عيش الجنانيين بالحمد والشكر بلا خوف ولا حزن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/275)
جنت نقدست اينجا ذوق ارباب حضور
دردل ايشان نباشد حزن وغم تانفخ صور
{إِنَّ رَبَّنَا} المحسن إلينا مع إساءتنا {لَغَفُورٌ} للمذنبين فيبالغ في ستر ذنوبهم الفائتة للحصر {شَكُورٌ} للمطيعين فيبالغ في إثابتهم فإن الشكر من الله الإثابة والجزاء والوفاق.
وفي "التأويلات" : غفور للظالم لنفسه شكور للمقتصد والسابق وإنما قدم ما للظالم رفقاً بهم لضعف أحوالهم انتهى.
ثم وصفوا الله بوصف آخر هو شكر له فقالوا :
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا} .
{الَّذِى أَحَلَّنَا} أنزلنا يقال حلت نزلت من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل : حل حلولاً وأحله غيره والمحلة مكان النزول كما في "المفردات" {دَارَ الْمُقَامَةِ} مفعول ثانٍ لأحل وليست بظرف لأنها محدودة.
والمقامة بالضم مصدر تقول أقام يقيم إقامة ومقامة أي : دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبداً فلا يريد النازل بها ارتحالاً منها ولا يراد به ذلك {مِّن فَضْلِهِ} أي : من أنعامه وتفضله من غير أن يوجبه شيء من قبلنا من الأعمال فإن الحسنات فضل منه أيضاً فلا واجب عليه.
وذلك أن دخول الجنة بالفضل والرحمة واقتسام الدرجات بالأعمال والحسنات هذا مخلوق تحت رق مخلوق مثله لا يستحق على سيده عوضاً لخدمته فكيف الظن بمن له الملك على الإطلاق أيستحق من يعبده عوضاً عن عبادته تعالى الله عما يقول المعتزلة من الإيجاب.
وفي "التأويلات" وبقوله : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} من فضله كشف القناع عن وجه الأحوال كلها فدخل كل واحد من الظالم والمقتصد والسابق في مقام أحله الله فيه من فضله لا بجهده وعمله وأن الذي أدخله الله الجنة جزاء بعمله فتوفيقه للعمل الصالح أيضاً من فضل الله وهذا حقيقة قوله عليه السلام : "قبل من قبل لا لعلة ورد من رد لا لعلة" {لا يَمَسُّنَا} المس كاللمس وقد يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى والمعنى بالفارسية : (نميرسد مارا) {فِيهَا} أي : في دار الإقامة في وقت من الأوقات {نَصَبٌ} تعب بدن ولا وجع كما في الدنيا {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} كلال وفتور إذ لا تكليف فيها ولا كدّ وبالفارسية : (ماندكى وملال ه كفتى ومحنتى نيست دروى بلكه همه عيش وحضور وفرح وسرورست) وإذا أرادوا أن يروه لا يحتاجون إلى قطع مسافة وانتظار وقت بل هم في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاماً وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة في جهة يرونه كما هم بلا كيفية كل صفة لهم أرادت الرؤية لقوله تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} (الزخرف : 71) والفرق بين النصب واللغوب أن النصب نفس المشقة والكلفة واللغوب ما يحدث منه من الفتور للجوارح.
قال أبو حيان هو لازم من تعب البدن فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها :
353
علياء لا تنزل الأحزان ساحتها
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
لو مسها حجر مسته سراء
والتصريح بنفي الثاني مع استلزام نفي الأول له وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما.
(7/276)
ـ روي ـ عن الضحاك رحمه الله قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون فبعث الله من الملائكة من معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك كما أنت ويقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه مكتوب في أول خاتم منها {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} (الزمر : 73) وفي الثاني مكتوب {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍا ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق : 34) وفي الثالث مكتوب "رفعت عنكم الأحزان والهموم" وفي الرابع مكتوب "زوجناكم الحور العين" وفي الخامس مكتوب {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} (الحجر : 46) وفي السادس مكتوب {إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} (المؤمنون : 111) وفي السابع مكتوب {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} (المؤمنون : 111) وفي الثامن مكتوب "صرتم آمنين لا تخافوا أبداً" وفي التاسع مكتوب "رافقتم النبيين والصديقين والشهداء" وفي العاشر مكتوب "في جوار من لا يؤذي الجيران" ثم يقول الملك {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} فلما دخلوا {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} إلى آخر الآية (اى جوانمرد.
قدر ترياق مار كزيده دند.
قدر آتش سوزان روانه داند.
قدر يرهن يوسف يعقوب غمكين داند اوكه مغرور سلامت خويش است اكر اورا ترياق دهى قدر آن ه داند جان بلب رسيده بايد تاقدر ترياق بداند درويشى دل شكسته غم خورده اندوه كشيده بايد تاقدر اين شناسد وعزاين خطاب بداندكه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} باش تافردا كه آن درويش دلريش را در حظيره قدس بر سرير سرور نشانند وآن غلمان وولدان غكرواريش تخت دولت او سماطين بركشند شب محنت بايان رسيده خورشيد سعادت از افق كرامت برآمده وحضرت عزت از الطاف وكرم روى بدرويش نهاده بزبان ناز ودلال همى كويد بنعت شكر {الْحَمْدُ} ) الخ :
نماند اين شب تاريك ميرسد سحرش
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نماند ابر زخورشيد ميرود كدرش
نسأل الله الانكشاف.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} جحدوا بوجود الله تعالى أو بوحدته {لَهُمْ} بمقابلة كفرهم الذي هو أكبر الكبائر وأقبح القبائح {نَارُ جَهَنَّمَ} التي لا تشبه ناراً {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} لا يحكم عليهم بموت ثان يعني : (وقتى كه در دوزخ باشند) {فَيَمُوتُوا} ويستريحوا من العذاب ونصبه بإضمار ان لأنه جواب النفي {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} طرفة عين بل كلما خبت زيد استعارها يعني : (هركاه كه آتش فرونشيند زياده كنند احراق والتهاب اورا).
وقوله كلما خبت لا يدل على تخفيف عنهم بل على نقصان في النار ثم يزداد كما في "كشف الأسرار".
قوله عنهم نائب مناب الفاعل ومن عذابها في موقع النصب أو بالعكس وإن كانت زائدة يتعين له الرفع {كَذَالِكَ} أي : مثل هذا الجزاء الفظيع {نَجْزِى} (جزاميدهيم) {كُلَّ كَفُورٍ} مبالغ في الكفر أو في الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَالِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُا أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُا فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَهُمْ} أي : الكفار {يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثون وبالفارسية : (فرياد ميخواهند در
354
(7/277)
دوزخ) والاصطراخ افتعال من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة دخلت الطاء فيه للمبالغة كدخولها في الاصطبار والاصطناع والاصطياد استعمل في الاستغاثة بالفارسية (فرياد خواستن وشفاعت كردن خواستن) لجهر المستغيث صوته {رَبَّنَآ} بإضمار القول يقولون ربنا {أَخْرِجْنَا} من النار وخلصنا من عذابها وردنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَـالِحًا} (عمل بسنديده) أي : نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية وذلك لأن قبول الأعمال مبني على الإيمان {غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} قيدوا العمل الصالح بهذا الوصف إشعاراً بأنهم كانوا يحسبون ما فعلوه صالحاً والآن تبين خلافه إذ كان هوى وطبعاً ومخالفة يعني : (اكنون عذاب را معاينه ديديم ودانستيم كه كردارمادر دنيا شايسته نبود) {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام (والتعمير : زندكانى دادن) والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة وما نكرة موصوفة أو مصدر يراد به الزمان كقولك آتيك غروب الشمس (والتذكر : ندكر فتن) والمعنى ألم نعطكم مهلة ولم نعمركم عمراً أو تعميراً أو وقتاً وزمناً يتذكر فيه من تذكر وإلى الثاني مال الكاشفي حيث قال بالفارسية : (آيا زندكانى نداديم وعمر ارزانى نداشتيم شمارا آن مقدار ندكيريد ودران عمر هركه خواهد كه ند كيرد) ومعنى يتذكر فيه أي : يتمكن فيه المتذكر من التذكر والتفكر لشأنه وإصلاح حاله وإن قصر إلا أن التوبيخ في المطاولة أعظم يعني إذا بلغ حد البلوغ يفتح الله له نظر العقل فيلزم حينئذٍ على المكلف أن ينظر بنظر العقل إلى المصنوعات فيعرف صانعها ويوحده ويطيعه فإذا بلغ إلى الثماني عشرة أو العشرين أو ما فوق ذلك يتأكد التكليف ويلزم الحجة أشد من الأول وفي الحديث "اعذر الله إلى امرىء وأخر أجله حتى بلغ ستين سنة" أي : أزال عذره ولم يبق منه موضعاً للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يتعذر ولعل تعيين الستين ما قال عليه السلام : "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" وأقلهم من يجوز ذلك فإذا بلغ الستين وجاوزها كانت السبعون آخر زمان التذكر لأن ما بعدها زمان الهرم وفي الحديث : "إنملكاً ينادي كل يوم وليلة أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده وأبناء الستين ما قدمتم وما عملتم وأبناء السبعين هلموا إلى الحساب".
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
وكان الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : إذا قام إليه شاب ليتوب يقول : يا هذا ما جئت حتى طلبوك ولا قدمت من سفر الجفاء حتى استحضروك يا هذا ما تركناك لما تركتنا ولا نسيناك لما نسيتنا أنت في إعراضك وعيننا تحفظك ثم حركناك لقربنا وقدمناك لأنسنا.
وكان إذا قام إليه شيخ ليتوب يقول يا هذا أخطأت وأبطأت كبر سنك وتمردجنك هجرتنا في الصبى فعذرناك وبادرتنا في الشباب فمهلناك فلما قاطعتنا في المشيب مقتناك فإن رجعت إلينا قبلناك.
ذل زدنيا زودتر كردد جوانا نرا خنك
كهنكى از سردىء آبست مانع كوزه را
وكان جماعة من الصحابة ومن بعدهم إذا بلغ أربعين سنة أو رأى شيباً بالغ في الاجتهاد وطوى الفراش وأقبل على قيام الليل وأقل معاشرة الناس ولا فرق في ذلك بين الأربعين فما دونها
355
لأن الأجل مكتوم لا يدري متى يحل أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغافلين {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} عطف على الجملة الاستفهامية لأنها في معنى قد عمرناكم حيث أن همزة الإنكار إذا دخلت على حرف النفي أفادت التقرير كما في قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا} (الانشراح : 1) الخ لأنه في معنى قد شرحنا الخ.
والمراد بالنذير رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه الجمهور أو ما معه من القرآن أو العقل فإنه فارق بين الخير والشر أو موت الأقارب والجيران والإخوان أو الشيب وفيه أن مجيىء الشيب ليس بعام للجميع عموم ما قبله.
قال الكاشفي : (وأكثر علما برآنند كه مراد از نذير شيب است ه زمان شيب فلارو نشاننده شعله حياتست وموسم يرى زنك فزاينده آيينه ذات) :
نوبت يرى و زند كوس درد
دل شود ازخوشد لى وعيش فرد
درتن واندام در آيد شكست
لرزه كند اى زسستى ودست
موى سفيد از اجل آرد يام
شت خم ازمرك رساند سلام
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/278)
قيل : أول من شاب من ولد آدم عليه السلام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال : ما هذا يا رب؟ قال : هذا وقار في الدنيا ونور في الآخرة فقال : رب زدني من نورك ووقارك ، وفي الحديث : "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" أي : الذي لا يشيب كما في "المقاصد الحسنة".
وقال في "الكواشي" : يجوز أن يراد بالنذير كل ما يؤزن بالانتقال فلا بد من التنبه عند مجيئه ولذا قال أهل الأصول الصحيح من قولي محمد أن الحج يجب موسعاً يحل فيه التأخير إلا إذا غلب على ظنه أنه إذا أخر يفوت فإذا مات قبل أن يحج فإن كان الموت فجأة لم يلحقه إثم وإن كان بعد ظهور إمارات يشهد قلبه بأنه لو أخر يفوت لم يحل له التأخير ويصير مضيقاً عليه لقيام الدليل فإن العمل بدليل القلب أوجب عند عدم دلالته (در موضح آورده كه ون دوزخيان استغاثه كنند وبفرياد آيند وكويند خدايا مارا بدنيا فرست تا عمل خير كنيم بمقدار زمان دنيا از اول ابداع تا آخر انقطاع فرياد كنند تا حق سبحانه وتعالى جواب فرمايدكه زندكانى دادم شمارا ونذير فرستادم بشما كويند بلا زندكانى يافتيم ونذيررا ديديم خداى تعالى فرمايد) {فَذُوقُوا} (س بشيد عذاب دوزخ فالفاء لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيىء النذير {فَمَا} ) الفاء للتعليل {لِلظَّـالِمِينَ} على أنفسهم بالكفر والشرك {مِن نَّصِيرٍ} يدفع العذاب عنهم.
وفيه إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا نائمين ولذا لم يذوقوا الألم فلما ماتوا وبعثوا وتيقظوا تيقظاً تاماً ذاقوا العذاب وأدركوه {إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : يختص بالله علم كل شيء فيهما غاب عن العباد وخفي عليهم فكيف يخفى عليه أحوالهم وإنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه {إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} لم يقل ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات تأنيث ذي بمعنى صاحب والمعنى عليم بالمضمرات صاحبة الصدور أي : القلوب وبالفارسية : (داناست بيزها كه مضمراست درسينها) فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه وجعلت الخواطر القائمة بالقلب صاحبة له بملازمتها وحولها كما يقال للبن ذو الإناء ولولد المرأة وهو جنين ذو بطنها فالإضافة لأدنى ملابسة.
وفي "التأويلات
356
النجمية" أي : عالم بإخلاص المخلصين وصدق الصادقين وهما من غيب سموات القلوب وعالم بنفاق المنافقين وجحد الجاحدين وهما من غيب أرض النفوس انتهى.
ففيه وعد ووعيد وحكم الأول الجنة والقربة وحكم الثاني النار والفرقة.
قيل : لا يا رب إلا ما لا خير فيه قال كذلك لا أدخل النار من عبادي إلا من لا خير فيه وهو الإيمان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
در خلائق روحهاى اك هست
روحهاى شيره كلناك هست
واجتست اظهار اين نيك وتباه
همنان اظهار كندمها زكاه
{إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائفَ فِى الارْضِا فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا * قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى} .(7/279)
{هُوَ} أي : الله تعالى وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائفَ فِى الأرْضِ} جمع خليفة وأما خلفاء فجمع خليف وكلاهما بمعنى المستخلف أي : جعلكم خلفاء في أرضه وألقى إليكم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها أو جعلكم خلفاء ممن كان قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديهم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة.
وفيه إشارة إلى أن كل واحد من الأفاضل والأراذل خليفة من خلفائه في أرض الدنيا.
فالأفاضل يظهرون جمال صنائعه في مرآة أخلاقهم الربانية وعلومهم اللدنية.
والأراذل يظهرون كمال بدائعه في مرآة حرفهم وصنعة أيديهم.
ومن خلافتهم أن الله تعالى استخلفهم في خلق كثير من الأشياء كلخبز فإنه تعالى يخلق الحنطة بالاستقلال والإنسان بخلافته يطحنها ويخبزها وكالثوب فإنه تعالى يخلق القطن والإنسان يغزله وينسج منه الثوب بالخلافة وهلمّ جرا {فَمَن} (س هركه) {كَفَرَ} منكم نعمة الخلافة بأن يخالف أمر مستخلفه ولا ينقاد لأحكامه ويتبع هواه {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي : وبال كفره وجزاؤه وهو الطرد واللعن والنار لا يتعداه إلى غيره {وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} .
قال الراغب المقت البغض الشديد لمن يراه متعاطياً لقبيح يعني : (نتيجه كفرايشان بنسبت مكر بغض رباني كه سبب غضب جاودانى همان تواند بود) {وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} (مكر زياني در آخرت كه حرمانست ازجنت) والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة.
والتنكير للتعظيم أي : مقتاً عظيماً ليس وراءه خزي وصغار وخساراً عظيماً ليس بعده شر وتبار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{قُلْ} تبكيتاً لهم {أَرَءَيْتُمْ} (آياديديد) {شُرَكَآءَكُمُ} أي : آلهتكم وأصنامكم والإضافة إليهم حيث لم يقل شركائي لأنهم جعلوهم شركاء الله وزعموا ذلك من غير أن يكون له أصل مّا أصلاً {الَّذِينَ تَدْعُونَ} (ميخوانيد ايشانرا ومى رستيد) {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : حال كونكم متجاوزين دعاء الله وعبادته {أَرُونِى} أخبروني وبالفارسية : (بنماييد وخبر كنيدمرا) وذلك لأن الرؤية والعلم سبب الأخبار فاستعمل الإراءة في الأخبار وهو بدل من أرأيتم بدل اشتمال كأنه قيل اخبروني عن شركائكم أروني {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ} أي : جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله والمراد من الاستفهام نفي ذلك وبالفارسية : (اين شركا ه يز آفريده اند از زمين وآنه درو برويست) {أَمْ لَهُمْ} (آيا هست ايشانرا) {شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ} شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة في الألوهية
357
ذاتية {قُلْ أَرَءَيْتُمْ} أي : الشركاء ويجوز أن يكون الضمير للمشركين {كِتَـابًا} ينطق بإنا اتخذناهم شركاء {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْهُ} أي : حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية.
ولما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو التقرير فقال : {بَلْ} (نه نين است بلكه) {إِنَّ} نافية أي : ما {يَعِدُ الظَّـالِمُونَ} (وعده نمى دهند مشركان برخى ايشان كه اسلاف يا رؤسا واشرافند) {بَعْضًا} (برخى ديكررا كه اخلاف ويا اراذل واتباعند) {إِلا غُرُورًا} باطلاً لا أصل له وهو قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله وهو تغرير محض يسفه بذلك آراءهم وينبئهم على ذميم أحوالهم وأفعالهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم بإعراضهم عن الله وإقبالهم على ما سواه.
فعلى العاقل أن يصحح التوحيد ويحققه ولا يرى الفاعل والخالق إلا الله.
وعن ذي النون رضي الله عنه قال : بينا أنا أسير في تيه بني إسرائيل إذا أنا بجارية سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن شاخصة ببصرها نحو السماء فقلت : السلام عليك يا أختاه فقالت : وعليك السلام ياذا النون فقلت لها من أين عرفتني يا جارية فقالت : يا بطال إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم ادارها حول العرش فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فعرفت روحي روحك في ذلك الجولان فقلت : إني لأراك حكيمة علميني شيئاً مما علمك الله فقالت : يا أبا الفيض ضع على جوارحك ميزان القسط حتى يذوب كل ما كان لغير الله ويبقى القلب مصفى ليس فيه غير الرب فحينئذٍ يقيمك على الباب ويوليك ولاية جديدة ويأمر الخزان لك بالطاعة فقلت : يا أختاه زيديني فقالت : يا أبا الفيض خذ من نفسك لنفسك وأطع اي إذا خلوت يجبك إذا دعوت ولن يستجيب إلا من قلب غير غافل وهو قلب الموحد الحقيقي الذي زال عنه الشرك مطلقاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
اكره آينه دارى از براى رخش
ولى ه سودكه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد زآينه بزدآى
غبار شرك كه تا ك كرددا ز نكار(7/280)
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْه بَلْ إِن يَعِدُ الظَّـالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلا غُرُورًا * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لئن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الامَمِا فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِى الارْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىاِا وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَا فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} أي : يحفظهما بقدرته فإن الإمساك ضد الإرسال وهو التعلق بالشيء وحفظه {أَن تَزُولا} الزوال الذهاب وهو يقال في كل شيء قد كان ثابتاً قبل أي : كراهة زوالهما عن أماكنهما فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ فعلى هذا يكون مفعولاً له أو يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع يقال أمسكت عنه كذا أي : منعته فعلى هذا يكون مفعولاً به {وَلَـاـاِن زَالَتَآ} أي : والله لئن زالت السموات والأرض عن مقرهما ومركزهما بتخليتهما كما يكون يوم القيامة {إِنَّ} نافية أي : ما {أَمْسَكَهُمَا} (نكاه ندارد ايشانرا) أي : ما قدر على إعادتهما إلى مكانهما {مِنْ أَحَدٍ} (هي يكى) ومن مزيدة لتأكيد نفي الإمساك عن كل أحد {مِّنا بَعْدِهِ} من للابتداء أي : من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال والجملة سادة مسد الجوابين للقسم والشرط {إِنَّهُ} سبحانه {كَانَ حَلِيمًا} غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جنايات الكفار حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً لعظم كلمة الشرك {غَفُورًا} لمن رجع عن كلمة الكفر وقال بالوحدانية.
والحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب كما في "المفردات".
والفرق بين الحليم والصبور
358
أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم يعني أن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم كما في المفاتيح ولعل هذا بالنسبة إلى المؤمنين دون الكفار.
قال في"بحر العلوم" : الحليم مجازي أي : يفعل بعباده فعل من يحلم على المسيء ولا يعاجلهم بالعقوبة مع تكاثر ذنوبهم.
وفي "شرح الأسماء" : للإمام الغزالي رحمه الله تعالى الحليم هو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش.
فعلى العاقل أن يتخلق بهذا الاسم بأن يصفح عن الجنايات ويسامح في المعاملات بل يجازي الإساءة بالإحسان فإنه من كمالات الإنسان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن الى من اساء
ـ روي ـ عن بعضهم أنه كان محبوساً وكان يعرض غدوة وعشية ليقتل فرأى النبي عليه السلام في النوم فقال له : اقرأ وأشار إلى هذا الآية فقال : كم أقرأ؟ فقال : أربعمائة مرة فقرأ فلم يذكر عشرين ليلة حتى أخرج.
ولعل سره أن السموات والأرض إشارة إلى الأرواح والأجساد فكما أن الله تعالى يحفظ عالم الصورة من أوجه وحضيضه فكذا يحفظ ما هو أنموذجه وهو عالم الإنسان.
وأيضاً أن الجاني وإن كان مستحقاً للعقوبة لكن مقتضى الاسم الحليم ترك المعاجلة بل الصفح بالكلية ففي مداومة الآية استعطاف واستنزال للرحمة على الجسم والروح وطلب بقائهما.
واعلم أن التوحيد سبب لنظام العالم بأسره ألا يرى أنه لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله أي : لا يوجد من يوحد توحيداً حقيقياً فإنه إذا انقرض أهل هذا التوحيد وانتقل الأمر من الظهور إلى البطون يزول العالم وينتقض أجزاؤه لأنه إذا يكون كجسد بلا روح والروح إذا فارق الجسد يتسارع إلى الجسد البلي والفساد.
ففي الآية أخبار عن عظيم قدرة الله على حفظ السموات والأرض وإمساكهما عن الزوال والذهاب وأن الإنسان الكامل من حيث أنه خليفة الله هو العماد المعنوي فيه يحفظ الله عالم الأرواح والأجسام.
وفي "الفتوحات المكية" : لا بد في كل إقليم أو بلد أو قرية من ولي به يحفظ الله تلك الجهة سواء كان أهل تلك الجهة مؤمنين أو كفاراً.
ـ يروى ـ أن آخر مولود في النوع الإنساني يكون بالصين فيسري بعد ولادته العقم في الرجال والنساء ويدعوهم إلى الله فلا يجاب في هذه الدعوة فإذا قبضه الله وقبض مؤمني زمانه بقي من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً فعليهم تقوم الساعة وتخرب الدنيا وينتقل الأمر إلى الآخرة.
مدار نظم امور جهان انسانست
جميع اهل جهان جسم وجان انسانست
فناى عالم صورت برحلتش مربوط
(7/281)
مقام بود سما اوت كرد بارض هبوط
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} أقسم حلف أصله من القسامة وهي أيمان تقسم على أولياء المقتول ثم صار اسماً لكل حلف كما في "المفردات" والضمير لمشركي مكة والمعنى بالفارسية : (وسوكند خوردند اهل مكة بخداى تعالى) {جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ} مصدر في موقع الحال أي : جاهدين في أيمانهم.
والجهد والجهد الطاقة والمشقة.
وقيل الجهد بالفتح المشقة وبالضم الوسع والإيمان
359
بالفتح جمع يمين واليمين في الحلف مستعار من اليمين بمعنى اليد اعتباراً بما يفعل المحالف والمعاهد عنده.
قال الراغب : أي : حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك وكانوا يحلفون بالله ويسمونه جهد اليمين وهي اليمين المغلظة كما قال النابغة :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مطلب
أي كما أن الله تعالى أعلى المطالب كذلك الحلف به أعلى الاحلاف.
ـ روي ـ أن قريشاً بلغهم قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وحلفوا {لَـاـاِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} أي : والله لئن جاء قريشاً نبي منذر {لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى} أطوع وأصوب ديناً {مِنْ إِحْدَى الامَمِ} (از يكى امتان كذشته) أي : من كل من اليهود والنصارى وغيرهم لأن إحدى شائعة.
والأمم جمع فليس المراد إحدى الأمتين اليهود والنصارى فقط ولم يقل من الأمم بدون إحدى لأنه لو قال لجاز أن يراد بعض الأمم وقوله في أواخر الأنعام {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} (الأنعام : 156) أي : اليهود والنصارى ثم قوله : {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَـابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} (الأنعام : 157) أي : إلى الحق لا ينافي العموم لأن تخصيص الطائفتين وكتابيهما إنما هو لاشتهارهما بين الأمم واشتهارهما فيما بين الكتب السماوية.
وقال بعضهم : معنى من إحدى الأمم من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدي والاستقامة ومنه قولهم للداهية هي إحدى الدواهي أي : العظيمة وإحدى سبع أي : إحدى ليالي عاد في الشدة وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لما كان مركباً من الروح والجسد فبروحانيته يميل إلى الدين وما يتعلق به وببشريته يميل إلى الدنيا وما يتعلق بها الكافر والمؤمن فيه سواء إلا أن الكافر إذا مال إلى شيء من الدين بحسب غلبة روحانيته على بشريته وعاهد عليه ثم وقع في معرض الوفاء به لم توافقه نفسه لأنها مائلة إلى الكفر راغبة عن الدين وظلمة الكفر تحرّضه على نقض العهد فينقضه وأن المؤمن إذا مال إلى شيء من الدنيا بحسب غلبة بشريته على روحانيته وعاهد عليه وهو يريد الوفاء به يمنعه نور إيمانه عن ذلك ويحرضه على نقض العهد فينقضه وكذلك المريد الصادق إذا اشتد عليه القبض وملت نفسه من مقاساة شدة الرياضة والمجاهدة يمني نفسه بنوع من الرخص استمالة لها وربما عاهد الله عليه ويؤكد الشيطان فيه عهده ويمنيه وبعده فإذا وقع في معرض الوفاء وأراد أن يفي بعده فإذا صدقت إرادته تسبق عزيمته وتحرك سلسلة طلبه فينقض عهده مع النفس ويجدد عهد الطلب مع الله ويتمسك بدوام الذكر وملازمته إلى أن يفتح الله بمفتاح الذكر باب قلبه إلى الحضرة ويزهق بمجيىء الحق باطل ما تمناه {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} وأي نذير أفضل الكل وأشرف الأنبياء والرسل عليهم السلام {مَّا زَادَهُمْ} أي : النذير أو مجيئه على التسبب {إِلا نُفُورًا} تباعداً عن الحق والهدي وبالفارسية : (مكر رميدن از حق ودورشدن).
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لئن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الامَمِا فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِى الارْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىاِا وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَا فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةًا وَمَا كَانَ اللَّهُ} .
{اسْتِكْبَارًا فِى الأرْضِ} بدل من نفوراً أو مفعول له يعني عتواً على الله وتكبراً عن الإيمان به وبالفارسية : (كردن كشى ازفرمان
360
الهي).
قال في "بحر العلوم" : الاستكبار التكبر كالاستعظام والتعظم لفظاً ومعنى انتهى.
قال بعض الكبار : إن الله تعالى قد أنشأك من الأرض فلا ينبغي لك أن تعلو على أمك.
زخاك آفريدت خداوند اك
س اى بنده افتادكى كن وخاك
(7/282)
{وَمَكْرَ السَّيِّىاِ} عطف على استكباراً أو على نفوراً وأصله أن مكروا المكر السيىء فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ثم أضيف اتساعاً.
قال في "تاج المصادر" : (المكر : تاريك شدن شب) ومنه اشتق المكر لأنه السعي بالفساد في خفية.
وقال الراغب : المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان محمود وهو أن يتحرى بذلك فعل جميل وعلى ذلك قوله : {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح انتهى ومنه الآية ولذا وصف بالسيىء والمعنى ما زادهم إلا المكر السيىء في دفع أمره عليه السلام بل وفي قتله وإهلاكه وبالفارسية : (وآنكه مكر كردند مكرى بد يعنى حيله انديشيدند درهلاك كردن آن تدبير) {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} .
قال في "القاموس" : حاق به يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أحاط به كأحاق وحاق بهم العذاب أحاط ونزل كما في "المختار" والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله والمعنى ولا يحيط المكر السيىء إلا بأهله وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر وبالفارسية : (وأحاطه نميكنند مكر بدمكر باهل وى يعنى مكر هر ما كرى بوى احاطه كند واطراف وجوانب وى فرو كيرد وهره در باب قصد كسى انديشيده باشد در باره خود مشاهد نمايد).
قال في "بحر العلوم" : المعنى إلا حيقاً ملصقاً بأهله وهو استثناء مفرغ فيجب أن يقدر له مستثنى منه عام مناسب له من جنسه فيكون التقدير ولا يحيق المكر السيىء حيقاً إلا حيقاً بأهله وفي الحديث : "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً فإن الله يقول إنما بغيكم على أنفسكم" وأما قوله عليه السلام : "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فمعناه بالنسبة إلى نصرة الظالم أن تنصره على إبليس الذي يوسوس في صدره بما يقع منه في الظلم بالكلام الذي تستحليه النفوس وتنقاد إليه فتعينه على رد ما وسوس إليه الشيطان من ذلك وفي حديث آخر "المكر والخديعة في النار" يعني : أصحابهما لأنهما من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار وفي أمثالهم من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً فلا يصيب الشر إلا أهل الشر (وابن باميين را درين باب قطعه است اين دو بيت اينجا ثبت افتاد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
درباب من زروى حسد يكدو ناشناس
دمها زدند وكوره تزوير تافتند
زاعمال نفسهم همه نيكى بمن رسيد
وايشان جزاى فعل بدخويش يافتند
جعلنا الله وإياكم ممن صفا قلبه من الغل والكدر وحفظنا من الوقوع في الخطر {فَهَلْ يَنظُرُونَ} النظر هنا بمعنى الانتظار أي : ما ينتظرون وبالفارسية : (س آيا انتظار ميبرند مكذبان ومكاران يعنى نمى برند وشم نمى دارند) {اسْتِكْبَارًا فِى الأرْضِ} أي : سنة الله في الأمم المتقدمة بتعذيب مكذبيهم وماكريهم.
والسنة الطريقة وسنة النبي طريقته التي كان يتحراها وسنة الله طريقة حكمته {فَلَن} الفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه {تَجِدَ} (س نيابى توالبته) {لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} بأن يضع موضع العذاب
361
غير العذاب هو الرحمة والعفو {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم (والتحويل : بكردانيدن) ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.
وفي الآية تنبيه على أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله وجواره كما في "المفردات".
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأرْضِ} الهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر أي : اقعد مشركوا مكة في مساكنهم ولم يسيروا ولم يمضوا في الأرض إلى جانب الشام واليمن والعراق للتجارة {فَيَنظُرُوا} بمشاهدة آثار ديار الأمم الماضية العاتية {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ} جاءوا {مِن قَبْلِهِمْ} أي : هلكوا لما كذبوا الرسل وآثار هلاكهم باقية في ديارهم {وَكَانُوا} أي : والحال أن الذين من قبلهم كعاد وثمود وسبأ كانوا {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (سخترين ازمكيان ازروى توانايى) وأطول أعماراً فما نفعهم طول المدى وما أغنى عنهم شدة القوى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ} (الاعجاز : عاجز كردن) واللام ومن لتأكيد النفي والمعنى استحال من كل الوجوه أن يعجز الله تعالى شيء ويسبقه ويفوته {فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا} تأكيد آخر لما النافية ففي هذا الكلام ثلاثة تأكيدات {فِى الأرْضِ} (س هره خواهد كند وكسى بر حكم او يشى نكيرد) {إِنَّهُ} تعالى {كَانَ عَلِيمًا} بليغ العلم بكل شيء في العالم مما وجد ويوجد {قَدِيرًا} بليغ القدرة على كل ممكن ولذلك علم بجميع أعمالهم السيئة فعاقبهم بموجبها فمن كان قادراً على معاقبة من قبلهم كان قادراً على معاقبتهم إذا كانت أعمالهم مثل أعمالهم والآية وعظ من الله تعالى ليعتبروا :
(7/283)
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بينداندر بند
ند كيراز مصائب دكران
تانكيرند ديكران زتويند
والإشارة أنه ما خاب له تعالى ولي ولا ربح له عدو فقد وسع لأوليائه فضلاً كثيراً ودمر على أعدائه تدميراً وسبب الفضل والولاية هو التوحيد كما أن سبب القهر والعداوة هو الشرك.
قال بعض الكبار : ما أخذ الله من أخذ من الأمم إلا في آخر النهار كالعنين وذلك لأن أسباب التأثير الإلهي المعتاد في الطبيعة قد مرت عليه وما آثرت فيه فدل على أن العنة فيه استحكمت لا تزول فلما عدمت فائدة النكاح من لذة وتناسل فرق بينهما إذ كان النكاح موضوعاً للالتذاذ أو للتناسل أولهما معاً أو في حق طائفة لكذا وفي حق أخرى لكذا وفي حق أخرى للمجموع وكذلك اليوم في حق من أخذ من الأمم إذا انقضت دورته وقع الأخذ الإلهي في آخيه انتهى كلامه قدس سره.
واعلم أن الله تعالى أمهل عباده ولم يأخذهم بغتة ليروا أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام وليعلموا شفقته وبره وكرمه وأن رحمته سبقت غضبه ثم أنهم إذا لم يعرفوا الفضل من العدل واللطف من القهر والجمال من الجلال أخذهم في الدنيا والآخرة بأنواع البلاء والعذاب وهي تطهير في حق المؤمن وعقوبة محضة في حق الكافر لأنه ليس من أهل التطهير إذ التطهير إنما يتعلق بلوث المعاصي غير الكفر
362
عصمنا الله وإياكم مما يوجب سخطه وعذابه وعقابه.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةًا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِى الارْضِا إِنَّه كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِه بَصِيرَا} .
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} جميعاً {بِمَا كَسَبُوا} من المعاصي وبالفارسية : (واكر مؤاخذه كرد خداى تعالى مردمانرا بجزاى آنه كسب ميكنند از شرك ومعصيت نانكه مؤاخذه كرد امم ماضيه) {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} الظهر بالفارسية : (شت) والكناية راجعة إلى الأرض وإن لم يسبق ذكرها لكونها مفهومة من المقام {مِن دَآبَّةٍ} من نسمة تدب عليها من بني آدم لأنهم المكلفون المجازون ويعضده ما بعد الآية أو من غيرهم أيضاً فإن شؤم معاصي المكلفين يلحق الدواب في الصحاري والطيور في الهواء بالقحط ونحوه.
ولذا يقال : من أذنب ذنباً فجميع الخلق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماؤه يوم القيامة وقد أهلك الله في زمان نوح عليه السلام جميع الحيوانات إلا ما كان منها في السفينة وذلك بشؤم المشركين وسببهم.
وقال بعض الأئمة : ليس معناه أن البهيمة تؤخذ بذنب ابن آدم ولكنها خلقت لابن آدم فلا معنى لإبقائها بعد إفناء من خلقت له {وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت معين معلوم عند الله وهو يوم القيامة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} (س ون بيايد وقت هلاك ايشان) {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِه بَصِيرَا} فيجازيهم عند ذلك بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
آنرا بلوامع رضا بنوازد
اين را بلوامع غضب بكدازد
كس را بقضاى قدرتش كارى نيست
آنست صلاح خلق كوميسازد
وفي الآية : إشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجب المؤاخذة ولكن الله تعالى بفضله ورحمته يمهل ثم يؤاخذ من كان أهل المؤاخذة ويعفو عمن هو أهل العفو.
ففي الآية بيان حلمه تعالى وإرشاد للعباد إلى الحلم فإن الحلم حجاب الآفات وملح الأخلاق.
وساد أحنف بن قيس بعقله وحلمه حتى كان يتجرد لأمره مائة ألف سيف وكان أمراء الأمصار يلتجئون إليه في المهمات وهو المضروب به المثل في الحلم وقال له رجل : دلني على المروءة فقال : عليك بالخلق الفسيح والكف عن القبيح ثم قال : ألا أدلك على أدوى الداء قال : بلى قال : اكتساب الذم بلا منفعة.
ومن بلاغات الزمخشري "البأس والحلم حاتمي واحنفي ، والدين والعلم حنيفي وحنفي" وفيه لف ونشر على الترتيب والبأس الشجاعة وفيها السخاوة إذ لا تكون الشجاعة إلا بسخاوة النفس ولا تكون السخاوة إلا بالشجاعة فإن المال محبوب لا يصدر إنفاقه إلا ممن غلب على نفسه.
والجود منسوب إلى حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي.
والحلم منسوب إلى الأحنف المذكور.
والدين منسوب إلى.
والعلم منسوب إلى أبي حنيفة وفي هذا المعنى قيل :
الفقه زرع ابن مسعود وعلقمة
حصاده ثم ابراهيم دوّاس
نعمان طاحنه يعقوب عاجنه
محمد خابز والآكل الناس
ثم إن الحلم لا بد وأن يكون في محله كما قيل :
أرى الحلم في بعض المواضع ذلة
وفي بعضها عزاً يسود فاعله
وكذلك الإحسان فإنه إنما يحسن إذ وقع في موقعه :
هر آنكس كه بردزد رحمت كند
ببازوى خود كاروان ميزند
363
ثم أن البصير هو المدرك لكل موجود برؤيته.
وخاصية هذا الاسم وجود التوفيق فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مائة مرة فتح الله بصيرته ووفّقه لصالح القول والعمل نسأل الله سبحانه أن يفتح بصيرتنا إلى جانب الملكوت ويأخذنا عن التعلق بعالم الناسوت ويحلم عنا باسمه الحليم ويختمنا بالخير ويجعلنا ممن أتى بقلب سليم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311(7/284)
سورة يس
ثلاث وثمانون آية مكية
جزء : 7 رقم الصفحة : 363
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{يس} أما مسرود على نمط التعديل فلا حظ له من الإعراب أو اسم للسورة وعليه الأكثر فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هذه يس أو النصب على أنه مفعول لفعل مضمر أي : اقرأ يس ويؤيد كونه اسم السورة قوله عليه السلام : "إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن خلق آدم بألفي عام فإذا سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل عليهم هذا وطوبى لألسن تتكلم بهذا وطوبى لأجواف تحمل هذا" (ودر خبرست كه ون دوستان حق در بهشت رسند از جناب جبروت ندا آيدكه از ديكران بسيار بشنيديد وقت آن آمدكه از ما شنويد "فيسمعهم سورة الفاتحة وطه ويس" مصطفى عليه السلام كفت) "كأن الناس لم يسمعوا القرآن حين سمعوا الرحمن يتلوه عليهم" كما في "كشف الأسرار".
وقال بعضهم : إن الحروف المقطعة أسماء الله تعالى ويدل عليه أن علياً رضي الله عنه كان يقول : "يا كهيعص يا حمعسق" فيكون مقسماً به مجروراً أو منصوباً بإضمار حرف القسم وحذفه والمراد بحذفه أن لا يكون أثره باقياً وبإضماره أن يبقى أثره مع عدم ذكره ففي نحو الله لأفعلن يجوز النصب بنزع الخافض وأعمال فعل القسم المقدر ويجوز الجر أيضاً بإضمار حرف الجر أي : اقسم بيس أي : الله تعالى.
وفي "الإرشاد" : لا مساغ للنصب بإضمار فعل القسم لأن ما بعده مقسم به وقد أبوا الجمع بين القسمين على شيء واحد قبل انقضاء الأول.
وقال بعض الحكماء الإلهية : إنها أسماء ملائكة هم أربعة عشر كما سبق بيانه في طسم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول كثير منهم أن معنى {يس} يا إنسان في لغة طي على أن المراد به رسول عليه السلام ولعل أصله يا أنيسين تصغير إنسان للتكبير فإن صيغة التصغير قد تكون لإظهار العطف والتعظيم ولا سيما أن المتكلم بصيغة التصغير هو الله تعالى وهو لا يقول ولا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة فتكون "يا" من يس حرف نداء و"سين" شطر انيسين فلما كثر النداء به في ألسنتهم اقتصروا على شطره الثاني للتخفيف كما قالوا في القسم من الله أصله أيمن الله (واين خطاب باصورت رد بشريت مصطفاست عليه السلام نانكه جاى ديكر كفت {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف : 110) ازانجاكه انسانيست وجنسيت آنست او مشاكل خلق است واين خطاب با نسان بروفق آنست وازآنجاكه
364
شرف نبوتست وتخصيص رسالت خطاب باوى اينست كه يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} يا اأَيُّهَا الرَّسُولُ} واين خطاب كه باصورت وبشريت ازبهر آن رفت كه تانقاب غيرت سازند وهر نامحرمرا برجمال وكمال وى اطلاع ندهند اين نانست كه كويند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ارسلانم خوان تاكس نه بداندكه كيم
وعن ابن الحنفية معناه يا محمد دليله قوله بعده إنك لمن المرسلين وفي الحديد : "إن الله سماني بسبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله" ويؤيده أنه يقال لأهل البيت آل يس كما قيل سلام على آل طه ويس وسلام على آل خير النبيين.
دركمو يا آل ياسينا
يقول الفقير : يحتمل أن يكون المراد بآل يس أول من عظمه الله تعالى بما في سورة يس فلا يحصل التأييد.
وقال الكاشفي : (حقيقت آنست كه دركلام عرب از كلمه بحر في تعبير ميكنند نانه.
قد قلت لها قفي فقالت ق
أي وقفت س ميشايدكه حرف سين اشارت بكلمه ياسيد البشر أو يا سيد الأولين والآخرين وحديث "أنا سيد ولد آدم" تفسير اين حرف بود) كما قال في "لعرائس" : لم يمدح عليه السلام بذلك نفسه ولكن أخبر عن معنى مخاطبة الحق إياه بقوله يس انتهى (وديكر ببايد دانست كه ازميان حروف سين را سويت اعتداليه هست كه ميان زبر وبينات او توافق وتساوى هست وهي حرفى ديكر آن حال ندارد لا جرم مخصوص بحضرت ختميه است صلى الله عليه وسلّم كه عدالت حقيقى خواه در طريق توحيد وخواه دراحكام شرع بدو اختصاص دارد.
تراست مرتبه اعتدال درهمه حال
كه در خصائص توحيد اعدل ازهمه
تمكن است ترا در مقام جمع الجمع
بدين فضيلت مخصوص افضلى ازهمه(7/285)
واز فحواى كلمات سابقه روايح رياحين قلب القرآن يس استشمام ميتواند نمود) وسيجيىء تمامه في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
وقال نعمة الله النقشبندي : يا من تحقق بينبوع بحر اليقين وسبح سالماً من الانحراف والتلوين.
وشيخ نجم الدين (كفت قسمست بيمن نبوت حبيب وبسر مطهر او).
وقال البقلي : أقسم بيد القدرة الأزلية وسناء الربوبية.
وقال القشيري : الياء يشير إلى يوم الميثاق والسين إلى سره مع الأحباب كأنه قال بحق يوم الميثاق وسرى مع الأحباب والقرآن الخ.
وذهب قوم إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلاً إلى إدراك معاني الحروف المقطعة في أوائل السور وقالوا : إن الله تعالى متفرد بعلمها ونحن نؤمن بأنها من جملة القرآن العظيم ونكل علمها إليه تعالى ونقرأها تعبداً وامتثالاً لأمر الله وتعظيماً لكلامه وإن لم نفهم منهم ما نفهمه من سائر الآيات (درينابيع آورده كه هر حرفى از حروف مقطعه را سريست از اسرار خزانه غيب كه حضرت حق حبيب خودرا برآن اطلاع داده بعد ازان جبرائيل برآن نازل شده وجزخدا ورسول مقبول كسى برآن وقوف ندارد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال الشيخ ابن نور الدين في بعض وارداته : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أسرار المتشابهات من الحروف فقال : هي من أسرار المحبة بيني وبين الله فقلت : هل يعرفها أحد فقال : ولا يعرفها جدي إبراهيم
365
عليه السلام هي من أسرار الله تعالى التي لا يطلع عليها نبي مرسل ولا ملك مقرب ويؤيده ما في الأخبار أن جبريل عليه السلام نزل بقوله تعالى : {كاهيعاص} فلما قال كاف قال النبي عليه السلام : "علمت" فقال ها فقال : "علمت" فقال : يا فقال : "علمت" فقال عين فقال : "علمت" فقال صاد فقال : "علمت" فقال جبريل كيف علمت ما لم أعلم؟ يقول الفقير : لا شك أنه عليه السلام وصل إلى مقام في الكمال لم يصل إليه أحد من كمل الأفراد فضلاً عن الغير ويدل عليه عبوره ليلة المعراج جميع المواطن والمقامات فلهذا جاز أن يقال لم يعرف أحد من الثقلين والملائكة ما عرفه النبي عليه السلام فإن علوم الكل بالنسبة إلى علمه كقطرة من البحر فله عليه السلام علم حقائق الحروف بما لا مزيد عليه بالنسبة إلى ما في حد البشر وأما غيره فلهم علم لوازمها وبعض حقائقها بحسب استعداداتهم وقابلياتهم هذا ما يعطيه الحال والله تعالى أعلم بالخفايا والأسرار وما ينطوي عليه كتابه ويحيط به خطابه.
{وَالْقُرْءَانِ} بالجر على أنه مقسم به ابتداء {الْحَكِيمِ} أي : الحاكم كالعليم بمعنى العالم فإنه يحكم بما فيه من الأحكام أو المحكم من التناقض والعيب ومن التغير بوجه ما كما قال تعالى : {وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} وهو الذي أحكم نظمه وأسلوبه وأتقن معناه وفحواه أو ذي الحكمة أي : المتضمن لها والمشتمل عليها فإنه منبع كل حكمة ومعدن كل عظة فيكون بمعنى النسب مثل تامر بمعنى ذي تمر أو هو من قبيل وصف الكلام بصفة المتكلم به أي : الحكيم قائله.
{وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
{إِنَّكَ} يا أكمل الرسل وأفضل الكل وهو مخاطبة المواجهة بعد شرف القسم بنفسه وهو مع قوله : {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب للقسم والجملة لرد انكار الكفرة بقولهم في حقه عليه السلام لست مرسلاً وما أرسل الله إلينا رسولاً.
والإرسال قد يكون للتسخير كإرسال الريح والمطر وقد يكون ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل كما في "المفردات".
قال في "بحر العلوم" : هو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب بين المرسل به والمرسل إليه اللذين أحدهما المقسم المنزل والآخر المقسم عليه المنزل إليه انتهى.
وهذه الشهادة منه تعالى من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى : {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (الرعد : 43) ولم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له.
قال في "إنسان العيون" : من خصائصه عليه السلام أن الله تعالى أقسم على رسالته بقوله : {يسا * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ندانم كدامين سخن كويمت
كه والا ترى زانه من كويمت
تر اعز لولاك تمكين بس است
ثناى توطه ويس بس است
ومعنى ثناء طه أنه عليه السلام صلى في الليالي حتى تورمت قدماه فقال تعالى : طه أي : يا طه أو يا طالب الشفاعة وهادي البشر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي : لتقع به في التعب.
وقال بعضهم : الطاء تسعة والهاء خمسة معناه يا من هو كالقمر المنير ليلة البدر ومعنى ثناء يس ما ذكر من الأقسام على رسالته مع أنه يحتمل أن يراد بيس يا سيد البشر ونحوه على ما سلف وذلك ثناء من الله أي : ثناء.
(7/286)
{عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر آخر لإن أي : : متمكن على توحيد وشرائع موصلة إلى الجنة والقربة والرضى واللذة واللقاء وفي موضع إنك لعلى هدى مستقيم (يعني كه تو از مرسلانى بر طريقى راست بردينى درست وشريعتي اك وسيرتي سنديده)
366
كما في "كشف الأسرار".
فإن قلت : أي : حاجة إلى قوله {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ومن المعلوم أن الرسل لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت : فائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحاً وإن دل عليه {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} التزاماً فجمع بين الوصفين في نظام واحد كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت استقامته وقد نكره ليدل به على أنه أرسل من بين الصرط على صراط مستقيم لا يوازيه صراط ولا يكتنه وصفه في الاستقامة فالتنكير للتفخيم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : {يس} إلى {مُّسْتَقِيمٍ} إلى سيادة النبي عليه السلام وإلى أنه ما بلغ أحد من المرسلين إلى رتبته في السيادة وذلك لأنه تعالى أقسم بالقرآن الحكيم إنه لمن المرسلين على صراط مستقيم إلى قاب قوسين من القرب أو أدنى أي : بل أدنى من كمال القرب كما قال صلى الله عليه وسلّم "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" فإن لكل نبي مرسل سيرة إلى مقام معين على صراط مستقيم هو صراط الله كما أن النبي عليه السلام أخبر أنه رأى ليلة المعراج في كل سماء بعض الأنبياء حتى قال عليه السلام : "رأيت موسى عليه السلام في السماء السادسة ورأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة" وقد عبر عنهم إلى كمال رتبة ما بلغ أحد من العالمين إليها.
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} نصب على المدح بإضمار أعني والتقدير أعني بالقرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر الخ وهو مصدر بمعنى المفعول أي : المنزل كما تقول العرب هذا الدرهم ضرب الأمير أي : مضروبه عبر به عن القرآن لكمال عراقته في كونه منزلاً من عند الله تعالى كأنه نفس التنزيل (وتنزيل بناء كثرات ومبالغه است اشارت است كه اين قرآن بيكبار ازآسمان فرو آمد بلكه بكرات ومرات فروآمد بمدت بيست وسه سال سيزده سال بمكة وده سال بمدينه نجم نجم آيت آيت سورت سورت نانكه حاجت بود ولائق وقت بود).
والعزيز الغالب على جميع المقدورات المتكبر الغني عن طاعة المطيعين المنتقم ممن خالفه ولم يصدق القرآن.
وخاصية هذا الاسم وجود الغنى والعز صورة أو حقيقة أو معنى فمن ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله تعالى وأعزه فلم يحوجه إلى أحد من خلقه.
وفي "الأربعين الإدريسية" يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله.
قال السهروردي : من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك الله خصمه وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده فإنهم ينهزمون.
والرحيم المتفضل على عباده المؤمنين بإنزال القرآن ليوقظهم من نوم الغفلة ونعاس النسيان.
وخاصية هذا الاسم رقة القلب والرحمة للمخلوقين فمن داومه كل يوم مائة كان له ذلك ومن خاف الوقوع في مكروه ذكره مع قرينه وهو اسم الرحمن أو حمله.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا رحيم كل صريخ ومكروب وغيائه ومعاذه.
وقال السهروردي إذا كتبه ومحاه بماء وصب في أصل شجرة ظهر في ثمرها البركة ومن شرب من ذلك اشتاق لكاتبه وكذا إن كتب مع اسم الطالب والمطلوب وأمه فإنه يهيم ويدركه من الشوق ما لا يمكنه الثبات معه إن كان وجهاً يجوز فيه ذلك وإلا فالعكس.
قال في "الإرشاد" في تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة التامة والرأفة العامة حث على الإيمان به ترهيباً وترغيباً حسبما نطق به قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن القرآن تنزيل من عزيز غني لا يحتاج
367
إلى تنزيله لعلة بل هو رحيم اقتضت رحمته تنزيل القرآن فإنه حبل الله يعتصم به الطالب الصادق ويصعد إلى سرادقات عزته وعظمته.
وفي "كشف الأسرار" : (عزيز به بيكانكان رحيم بمؤمنان اكر عزيز بود بى رحيم هركز اورا كسى نيابد واكر رحيم بود بى عزيز همه كس اورا يابد عزيز است تا كافران دردنيا اورا ندانند رحيم است در عقبى تا مؤمنان اورا بينند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
دست رحمت نقاب خود بكشيد
عاشقان ذوق وصل او بشيد
ماند اهل حجاب در رده
ببلاى فراق او مرده
{لِتُنذِرَ} متعلق بتنزيل أي : لتخوف بالقرآن {قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} ما نافية والجملة صفة مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار.
(7/287)
والمعنى لتنذر قوماً لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة ولم يكونوا من أهل الكتاب ويؤيده قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} (سبأ : 44) يعني العرب وقوله : {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ} (الجمعة : 2) إلى قوله : {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة : 2) ويجوز أن تكون ما موصولة أو موصوفة على أن تكون الجملة مفعولاً ثانياً لتنذر بحذف العائد.
والمعنى لتتنذر قوماً العذاب الذي أنذره أو عذاباً أنذره آباؤهم الأبعدون في زمن إسماعيل عليه السلام وإنما وصف الآباء في التفسير الأول بالأقربين وفي الثاني بالأبعدين لئلا يلزم أن يكونوا منذرين وغير منذرين فآباؤهم الأقدمون أتاهم النذير لا محالة بخلاف آبائهم الادنين وهم قريش فيكون ذلك بمعنى قوله : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاوَّلِينَ} (المؤمنون : 68).
فإن قلت : كيف هذا وقد وقعت الفترات في الأزمنة بين نبي ونبي حسبما يحكى في التواريخ وأما الحديث فقيل كان خالد مبعوثاً إلى بني عبس خاصة دون غيرهم من العرب وكان بين عهد عيسى وعهد نبينا عليه السلام.
ويقال إن قبره بناحية جرجان على قلة جبل يقال له خدا وقد قال فيه الرسول عليه السلام لبعض من بناته جاءته "يا بنت نبي ضيعه قومه" كذا في "الأسئلة المقحمة".
ويحتمل التوفيق بوجه آخر وهو أن المراد بالأمة التي خلا فيها نذير هي الأمة المستأصلة فإنه لم يستأصل قوم إلا بعد النذير والإصرار على تكذيبه وأيضاً إن خلو النذير في كل عصر يستلزم وجوده في كل ناحية والله أعلم {فَهُمْ غَـافِلُونَ} متعلق بنفي الإنذار مترتب عليه.
والضمير للفريقين أي : لم ينذر آباؤهم فهم جميعاً لأجله غافلون عن الإيمان والرشد وحجج التوحيد وأدلة البعث والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله فالنفي المتقدم سبب له يعني أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله لتنذر رداً لتعليل إنذاره فالضمير للقوم خاصة أي : فهم غافلون بما أنذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة فالفاء داخلة على سبب الحكم المتقدم.
والغفلة ذهاب المعنى عن النفس والنسيان ذهابه عنها بعد حضوره.
قال بعضهم : الغفلة نوم القلب فلا تعتبر حركة اللسان إذا كان القلب نائماً ولا يضر سكونه إذا كان متيقظاً ومعنى التيقظ أن يشهده تعالى حافظاً له رقيباً عليه قائماً بمصالحه ، قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
رب نال يفوه بالقرآن
وهو يفضي به إلى الخذلان
لعنتست اين كه بهر لهجه وصوت
شود ازتو حضور خاطر فوت
فكر حسن غنا برد هوشت
متكلم شود فرا موشت
368
نشود بر دل توتابنده
كين كلام خداست يابنده
حكم لعنت ز قفل بى اخلاص
نيست باقارئان قرآن خاص
س مصلى كه درميان نماز
ميكند بر خداى عرض نياز
ون در صدق نيست باز برو
ميكند لعنت آن نماز برو
وفي الحديث "الغفلة في ثلاث الغفلة عن ذكر الله والغفلة فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وغفلة الرجل عن نفسه في الدين".
وفي "كشف الأسرار" : (غافلان دواند يكى ازكار دين غافل واز طلب اصلاح خود بى خبر سربدنيا درنهاده ومست شهوت كشته وديده فكرت وعبرت برهم نهاده حاصل وى آنست كه رب العزه كفت) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـاتِنَا غَـافِلُونَ * أولئك مَأْوَاـاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس : 7 ـ 8) وفي الخبر : "عجبت لغافل وليس بمغفول عنه" (ديكر غافلى است سنديده ازكار دنيا وترتيب معاش غافل سلطان حقيقت برباطن وى استيلا نموده درمكاشفه جلال احديت نان مستهلك شده كه ازخود غائب كشته نه ازدنيا خبردارد نه از عقبا بزبان حال ميكويد) :
اين جهان دردست عقلست آن جهان دردست روح
اى همت بر قفاى هر دوده سالار زن
قالوا الصوفى كائن بائن :
هركه حق دادنور معرفتش
كائن بائن بود صفتش
جان بحق تن بغير حق كائن
تن زحق جان زغير حق بائن
ظاهر او بخلق يوسته
باطن او زخلق بكسسته
از درون آشنا وهمخانه
وزبرون درلباس بيكانه
فأهل هذه الصفة هم المتيقظون حقيقة وإن ناموا لأنه لا تنام عين العارفين وما سواهم هم النائمون حقيقة وإن سهروا لأنه لم تنفتح أبصار قلوبهم (ودر وصايا واردست كه يا علي بامردكان منشين علي رضي الله عنه كفت يا رسول الله مردكان كيانند كفت اهل جهلت وغفلت) اللهم اجعلنا من أهل العلم والعرفان والإيقان والشهود والعيان وشرفنا بلقائك في الدارين واصرفنا عن ملاحظة الكونين آمين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/288)
{لَقَدْ} اللام جواب القسم أي : ولله لقد {حَقَّ الْقَوْلُ} وجب وتحقق {عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أي : أكثر القوم الذين تنذرهم وهم أهل مكة {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي : بإنذارك إياهم والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله.
واختلفوا فقال بعضهم : القول حكم الله تعالى إنهم من أهل النار.
وفي "المفردات" علم الله بهم.
وقال بعضهم : القول كناية عن العذاب أي : وجب على أكثرهم العذاب.
والجمهور على أن المراد به قوله تعالى لإبليس عند قوله : {لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 82) {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) وهو المعنيّ بقوله : {وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (الزمر : 71) وهذا القول لما تعلق بمن تبع إبليس من الجنّ والإنس وكان أكثر أهل مكة ممن علم الله منهم الإصرار على اتباعه واختيار الكفر إلى أن يموتوا كانوا ممن وجب وثبت عليهم مضمون هذا القول لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يقتضيه بل بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار وعدم
369
تأثرهم من التذكير والإنذار.
ولما كان مناط ثبوت القول وتحققه عليهم إصرارهم على الكفر إلى الموت كان قوله : {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} متفرعاً في الحقيقة على ذلك لا على ثبوت القول.
فإن الكاشفي (مراد آنانندكه خداى تعالى ميدانست كه ايشان بركفر ميرند يابر شرك كشته شوند ون أبو جهل واضراب او) وحقيقة هذا المقام أن الكل سعيداً كان أو شقياً يجرون في هذه النشأة على مقتضى استعداداتهم فالله تعالى يظهر أحوالهم على صفحات أعمالهم لا يجبرهم في شيء أصلاً فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غيره فلا يلومن إلا نفسه والأعمال أمارات وليست بموجبات فإن مصير الأمور في النهاية إلى ما جرى به القدر في البداية.
وفي الخبر الصحيح روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي يديه كتابان فقال للذي في يده اليمنى "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال للذي بشماله : "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال بيده فنبذهما ثم قال : "فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير" وحكم الله تعالى على الأكثر بالشقاوة فدل على أن الأقل هم أهل السعادة وهم الذين سمعوا في الأزل خطاب الحق ثم إذا سمعوا نداء النبي عليه السلام أجابوه لما سبق من الإجابة لنداء الحق.
وإنما كان أهل السعادة أقل لأن المقصود من الإيجاد ظهور الخليفة من العباد وهو يحصل بواحد مع أن الواحد على الحق هو السواد الأعظم في الحقيقة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعض الكبار : من رأى محمداً عليه السلام في اليقظة فقد رأى جميع المقربين لانطوائهم فيه ومن اهتدى بهداه فقد اهتدى بهدي جميع النبيين.
والإسلام عمل.
والإيمان تصديق.
والإحسان رؤية أو كالرؤية فشرط الإسلام الانقياد وشرط الإيمان الاعتقاد وشرط الإحسان الإشهاد فمن آمن فقد أعلى الدين ومن أعلاه فقد تعرض لعلوه وعزه عند الله تعالى ومن كفر فقد أراد إطفاء نور الله والله متم نوره وفي "المثنوي" :
هركه بر شمع خدا آردفو
شمع كى ميرد بسوز ووزاو
لما قال المشركون يوم أحد أعل هبل أعل هبل أذلهم الله وهبلهم وهو صنم كان يعبد في الجاهلية وهو الحجر الذي يطأه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة وهو الآن مكبوب على وجهه وبلط الملوك فوقه البلاط فإن كنت تفهم مثل هذه الأسرار وإلا فاسكت والله تعالى حكيم يضع الأمور كلها في مواضعها فكل ما ظهر في العالم فهو حكمة وضعه في محله لكن لا بد من الإنكار لما أنكره الشارع فإياك والغلط.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} .
{إِنَّآ} بمقتضى قهرنا وجلالنا {جَعَلْنَا} خلقنا أو صيرنا {فِى أَعْنَـاقِهِمْ} جمع عنق بالفارسية (كردن) والضمير إلى أكثر أهل مكة {أَغْلَـالا} عظيمة ثقالاً جمع غل ، بالضم وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد سواء كان من الحديد أو غيره.
وقال القهستاني : الغل الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس.
وفي "المفردات" أصل الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه وغل فلان قيد به.
وقيل للبخيل هو مغلول اليد قال تعالى :
370
(7/289)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة : 64) انتهى {فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ} الفاء للنتيجة أو التعقيب.
والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين بالفارسية (زنخدان) أي : فالأغلال منتهية إلى أذقانهم بحيث لا يتمكن المغلول معها من تحرك الرأس والالتفات وبالفارسية : (س آن غلها وزنجيرها يوسته شده بزنخدانهاى ايشان ونمى كذارندكه سرها بجنبانند) ووجه وصول الغل إلى الذقن هو إما كونه غليظاً عريضاً يملأ ما بين الصدر والذقن فلا جرم يصل إلى الذقن ويرفع الرأس إلى فوق وما كون الطوق الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق بحيث يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود الواصل بين ذلك الطوق وبين قيد اليد خارجاً عن الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يحرك رأسه {فَهُم مُّقْمَحُونَ} رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم فإن الأقماح رفع الرأس إلى فوق مع غض البصر يقال قمح البعير قموحاً فهو قامح إذا رفع رأسه عند الحوض بعد الشرب إما لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف وأقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعاً من ضيقه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعضهم لفظ الآية وإن كان ماضياً لكنه إشارة إلى ما يفعل بهم في الآخرة كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (سبأ : 33) الآية ولهذا قال الفقهاء كره جعل الغل في عنق عبده لأنه عقوبة أهل النار.
قال الفقيه : إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الأباق بخلاف التقييد فإنه غير مكروه لأنه سنة المسلمين في المتمردين هذا والجمهور على أن الآية تمثيل لحال الأكثر في تصميمهم على الكفر وعدم امتناعهم عنه وعدم التفاتهم إلى الحق وعدم انعطاف أعناقهم نحوه بحال الذين غلت أعناقهم فوصلت الأغلال إلى آذانهم وبقوا رافعين رؤوسهم غاضين أبصارهم فهم أيضاً لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم ولا يكادون يرون الحق أو ينظرون إلى جهته.
وقال الراغب : قوله فهم مقحمون تشبيه بحال البعير ومثل لهم وقصد إلى وصفهم بالتأبي عن الانقياد للحق وعن الإذعان لقبول الرشد والتأبي عن الإنفاق في سبيل الله انتهى ، وفي "المثنوي" :
كفت اغلالاً فهم به مقمحون
نيست آن اغلال برما از برون
بند نهان ليك ازآهن را بتر
بند آهن را كند اره بتر
بند آهن را توان كردن جدا
بند غيبى را نداند كس دوا
مرد را زنبور اكر نيشى زند
طبع او آن لحظه بر دفعى تند
زخم نيش اما و ازهستى تست
غم قوى باشد نكردد درد ست
قال النقشبندي : هي أغلال الأماني والآمال وسلاسل الحرص والطمع بمزحرفات الدنيا الدنية وما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَجَعَلْنَا} أي : خلقنا لهم من كمال غضبنا عليهم وصيرنا {مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} (ازيش روى ايشان) {سَدًّا} (ديوارى وحجابى) قرأه حفص بالفتح والباقون بالضم وكلاهما بمعنى.
وقيل : ما كان من عمل الناس بالفتح وما كان من خلق الله بالضم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (واز س ايشان) {سَدًّا} (رده ومانعى) {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ} (الإغشاء : بر وشانيدن وكور كردن) والمضاف محذوف
371
(7/290)
والتقدير غطينا أبصارهم وجعلنا عليها غشاوة وهو ما يغشى به الشيء وبالفارسية : (س بوشيديم جشمهاى ايشانرا) {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} الفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله لأن من أحاطه السد من جميع جوانبه لا يبصر شيئاً إذ الظاهر أن المراد ليس جهتي القدام والخلف فقط بل يعم جميع الجهات إلا أن جهة القدام لما كانت أشرف الجهات وأظهرها وجهة الخلف كانت ضدها خصت بالذكر.
والآية إما تتمة للتمثيل وتكميل له أي : تكميل أي : وجعلنا مع ما ذكر من أمامهم سداً عظيماً ومن ورائهم سداً كذلك فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على أبصار شيء ما أصلاً.
وإما تمثيل مستقل فإن ما ذكر من جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطينا بهما أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئاً قطعاً كاف في الكشف عن فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات محرومين من النظر في الأدلة والآيات.
قال الإمام : المانع من النظر في الآيات والدلائل قسمان : قسم يمنع من النظر في الآيات التي في أنفسهم فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحاً لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه.
وقسم يمنع من النظر في آيات الآفاق فشبه بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا تتبين له الآيات التي في الآفاق كما أن المقمح لا تتبين له الآيات التي في الأنفس فمن ابتلي بهما حرم من النظر بالكلية لأن الدلائل والآيات مع كثرتهما منحصرة فيهما كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) وقوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ} مع قوله : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الخ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله تعالى في الأنفس والآفاق (حققان كويندكه سد يش طول املست وطمع بقا وسد عقب غفلت ازجنايات كذشته وقلت ندم واستغفار برو هركه اورا دوسد نين احاطه كرده باشدهر آينه شم او وشيده باشد از نظردر دلائل قدرت ونه بيند راه فلاح وهدايت) وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
خلفهم سداً فأغشيناهمو
مى نه بيند بندرا يش وس او
رنك صحرا دارد آن سدى كه خاست
او نمى داند كه آن سر قضاست
شاهد تو سد زوى شاهداست
مرشدتو سد كفت مرشداست
(وآوردند كه ابو جهل سوكند خورد بلات وعزى كه اكر يغمبررا عليه السلام درنماز بيند سر مبارك او نعوذ بالله بشكند وعرب را ازو باز رهاند روزى ديدكه آن حضرت نماز مى كرد ودرحرم كعبه آن ملعون سنكى برداشت ونزد آن حضرت آمد وون دست بالا برد كه سنك بروى زند دست او بركردن نبر شده سنك بردست او سبيد دركردنش بماند نوميد باز كشت قوم بني مخزوم دست اورا بجهد بسياراز كردن او دور كردند واين آيت يعني : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ} الخ آمد كه ما ايشانرا بازداشتيم نانه مغلولان ازكارها بازداشته شوند ومحزومى ديكركه وليد بن مغيره است كفت من بروم وبدين سنك محمدرا عليه السلام بكشم نعوذ بالله ون بنزديك آن حضرت آمد نابينا شد تا حس وآواز مى شنيد وكس را نديد) فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وأخبرهم بالحال فنزل في حقه قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الخ فيكون ضمير الجمع في الآيتين
372
على طريقة قولهم بنو فلان فعلوا كذا والفاعل واحد منهم (وكفته اند اين آيت حرزى نيكوست كسى راكه ازدشمن ترسد اين آيت برروى دشمن خواند الله تعالى شر آن دشمن ازوى بازدارد دشمن را ازوى در حجاب كند نانكه بارسول خدا كرد آن شب كه كافران قصدوى كردند بدر سراى وى آمدند تا بر سروى هجوم برند رسول خدا علي را رضي الله عنه برجاي خود خوابانيد وبيرون آمد وبايشان بركذشت واين آيت مى خواند {وَجَعَلْنَا} الخ ودشمنان اورا نديدند ودر حجاب بماندند رسول بر كذشت وقصد مدينه كرد وآن ابتداى هجرت بود) كذا في "كشف الأسرار".
وقال "إنسان العيون" لما خرج عليه السلام من بيته الشريف أخذ حفنة من تراب ونثره على رؤوس القوم عند الباب وتلا {يسا * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} إلى قوله : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} فأخذ الله تعالى أبصارهم عنه عليه السلام فلم يبصروه.
{وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/291)
{وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي : مستو عند أكثر أهل مكة إنذارك إياهم وعدمه لأن قوله : {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} وإن كانت جملة فعلية استفهامية لكنه في معنى مصدر مضاف إلى الفاعل فصح الإخبار عنه فقد هجر فيه جانب اللفظ إلى المعنى ومنه "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهمزة الاستفهام وأم لتقرير معنى الاستواء والتأكيد فإن معنى الاستفهام منسلخ منهما رأساً بتجريدهما عنه لمجرد الاستواء كما جرد حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة" فكما أن هذا جرى على صورة النداء وليس بنداء كذلك {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} على صورة الاستفهام وليس باستفهام {لا يُؤْمِنُونَ} (نمى كردند ايشان كه علم قديم موت ايشان بر كفر حكم كرده است بسبب اختيار ايشان) وهو استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء.
قال في "كشف الأسرار" : أي من أضله الله هذا الضلال لم ينفعه الإنذار.
ـ روي ـ أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى دعا غيلان القدري فقال : يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر فقال : يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون عليّ قال : يا غيلان اقرأ أول سورة يس إلى قوله : {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فقال غيلان : يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أتكلم به في القدر فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته وإن كان كاذباً فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين قال : فأخذه هشام بن عبد الملك فقطع يديه ورجليه قال بعضهم : أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق.
دلت الحكاية على أن القدرية هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى وقال الإمام المطرزي في "المغرب" : والقدرية هم الفرقة المجبرة الذين يثبتون كل الأمر بقدر الله وينسبون القبائح إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقبه ببيان من يتأثر منه فقيل :
{إِنَّمَا تُنذِرُ} أي : ما ينفع إنذارك {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي : القرآن بالتأمل فيه أو الوعظ والتذكير ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ} أي : خاف عقابه تعالى والحال أنه غائب عن العقاب على أنه حال من الفاعل أو الحال إن العقاب غائب عنه أي : قبل نزول العقاب وحلوله
373
على أنه حال من المفعول أو حال كونه غائباً عن عيون الناس في خلوته ولم يغتر برحمته فإنه منتقم قهار كما أنه رحيم غفار وكيف يؤمن سخطه وعذابه بعد أن قال : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} (المعارج : 28) ومن كان نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة فظهر وجه ذكر الرحمن مع الخشية مع أن الظاهر أن يذكر معها ما ينبىء عن القهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ} أي : بنور غيبتي يشاهد وخامة عاقبة الكفر والعصيان ويتحقق عنده بشواهد الحق كمالية حلاوة الإيمان ورفعة رتبة العرفان {فَبَشِّرْهُ} أي : من اتبع وخشي وحد الضمير مراعاة اللفظ من {بِمَغْفِرَةٍ} عظيمة لذنوبه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} حسن مرضى لأعماله الصالحة لا يقادر قدره وهو الجنة وما فيها مما أعده الله لعباده الجامعين بين اتباع ذكره وخشيته والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية.
يقول الفقير : رتب التبشير بمثنى على مثنى فالتأمل في القرآن والتأثر من الوعظ يؤدي إلى الإيمان المؤدي إلى المغفرة لأن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء والخشية تؤدي إلى الحسنات المؤدية إلى الأجر الكريم لأنه تعالى قال : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24).
قال بعضهم : الإنذار لا يؤثر إلا في أصحاب الذكر لأنهم في مشاهدة عظمة المذكور فبركة موعظة الصادق تزيد لهم تعظيم الله تعالى وإجلاله وإذا زاد هذا المعنى زادت العبودية وزال التعب وحصل الإنس مع الرب.
واعلم أن الجنة دار جمال وأنس وتنزل إلهي لطيف.
وأما النار فهي دار جلال وجبروت فالاسم الرب مع أهل الجنة والاسم الجبار مع أهل النار أبد الآبدين ودهر الداهرين وقد قال تعالى : "هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي" وإنما كان الحق تعالى لا يبالي بذلك لأن رحمته سبقت غضبه في حق الموحدين أو في حق المشركين ويكون المراد بالرحمة رحمة الإيجاد من العدم لأنها سابقة على سبب الغضب الواقع منهم فلذلك كان تعالى لا يبالي بما فعل بالفريقين.
ولو كان المراد من عدم المبالاة ما توهمه بعضهم لما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف الحق نفسه بالغضب ولا كان البطش الشديد هذا كله من المبالاة والتهم بالمأخوذ كذا في "الفتوحات المكية".
(7/292)
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنَّآ} من مقام كمال قدرتنا والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات.
وقال بعضهم لما في إحياء الموتى من حظ الملائكة وينافيه الحصر الدال عليه قوله : {نَحْنُ} قال في "البحر" : كرر الضمير لتكرير التأكيد {إِنَّا نَحْنُ} نبعثهم بعد مماتهم ونجزيهم على حسب أعمالهم فيظهر حينئذٍ كمال الإكرام والانتقام للمبشرين والمنذرين من الأنام.
والإحياء جعل الشيء حياً ذا حس وحركة والميت من أخرج روحه وقد أطلق النبي عليه السلام لفظ الموتى على كل غني مترف وسلطان جائر وذلك في قوله عليه السلام : "أربع يمتن القلب الذنب على الذنب وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن وملاحاة الأحمق تقول له ويقول لك ومجالسة الموتى قيل : يا رسول الله وما مجالسة الموتى؟ قال : كل غني مترف وسلطان جائر".
وفي "التأويلات النجمية" : نحيى قلوباً ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة انتهى فالإحياء إذاً مجاز عن الهداية {وَنَكْتُبُ} أي : نحفظ ونثبت في اللوح المحفوظ يدل عليه آخر الآية أو يكتب رسلنا وهم الكرام الكاتبون وإنما أسند
374
إليه تعالى ترهيباً ولأنه الآمر به {مَاَ قَدَّمُوا} أي : أسلفوا من خير وشر وإنما أخر الكتابة مع أنها مقدمة على الإحياء لأنها ليست مقصودة لذاتها وإنما تكون مقصودة لأمر الإحياء ولولا الإحياء والإعادة لما ظهر للكتابة فائدة أصلاً {وَءَاثَارَهُمْ} أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده أي : آثارهم التي أبقوها من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء شيء من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البرّ قال الشيخ سعدي :
نمرد آنكه ماند س از وى بجاى
ل ومسجد وخان ومهمان سراى
هر آن كو نماند از سش ياد كار
درخت وجودش نياورد بار
وركرفت آثار خيرش نماند
نشايد س از مرك الحمد خواند
ومن السيآت كوظيفة وظفها بعض الظلمة على المسلمين مسانهة أو مشاهرة وسكة أحدثها فيها تحسيرهم وشيء أحدث فيه صدّ عن ذكر الله من ألحان وملاهي ونحوه قوله تعالى : {يُنَبَّؤُا الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذا بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي : بما قدم من أعماله وأخر من آثاره وفي "المثنوي" :
هركه بنهد سنت بد اى فتى
تا در افتد بعد او خلق از عمى
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
جمع كردد بر وى آن جمله بزه
كوسرى بودست وايشان دم غزه
فعلى العدول أن يرفعوا الأحداث التي فيها ضرر بين للناس في دينهم ودنياهم وإلا فالراضي كالفاعل وكل مجزي بعمله :
از مكافات عمل غافل مشو
كندم از كندم برويد جو ز جو
كين نين كفتست ير معنوي
كاى برادر هره كارى بدروى
وقال بعض المفسرين : هي آثار المشائين إلى المساجد ولعل المراد أنها من جملة الآثار كما في "الإرشاد".
ـ روي ـ أن جماعة من الصحابة بعدت دورهم عن المسجد النبوي فأراد النقلة إلى جوار المسجد فقال عليه السلام : "إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليها فالزموا بيوتكم" والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى سواء كانت في حسنة أو في سيئة وفي الحديث : "أعظم الناس أجراً من يصلي ثم ينام".
واختلف فيمن قربت داره من المسجد هل الأفضل له أن يصلي فيه أو يذهب إلى الأبعد فقالت طائفة : الصلاة في الأبعد أفضل لكثرة الثواب الحاصل بكثرة الخطى.
وقال بعضهم : الصلاة في الأقرب أفضل لما ورد "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ولإحياء حق المسجد ولماله من الجوار وإن كان في جواره مسجد ليس فيه جماعة وبصلاته فيه يحصل الجماعة كان فعلها في مسجد الجوار أفضل لما فيه من عمارة المسجد وإحيائه بالجماعة وأما لو كان إذا صلى في مسجد الجوار صلى وحده فالبعيد أفضل ولو كان إذا صلى في بيته صلى جماعة وإذا صلى في المسجد صلى وحده ففي بيته أفضل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعضهم : جار المسجد أربعون داراً من كل جانب.
وقيل : جار المسجد من سمع النداء.
قال في مجمع الفتاوى : رجل لو كان في جواره مسجدان يصلي في أقدمهما لأن له زيادة حرمة وإن كانا سواء أيهما أقرب يصلي هناك وإن كان فقيهاً يذهب إلى الذي قومه أقل حتى يكثر بذهابه وإن لم يكن فقيهاً يخير قالوا : كل ما فيه الجماعة كالفرائض والتراويح فالمسجد فيه أفضل فثواب المصلين في البيت بالجماعة
375
(7/293)
دون ثواب المصلين في المسجد بالجماعة وفي الحديث : "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته ، وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً" وفي رواية "سبعة وعشرين" وذلك لأن فرائض اليوم والليلة سبع عشرة ركعة والرواتب عشر فالجميع سبع وعشرون.
وأكثر العلماء على أن الجماعة واجبة.
قال بعضهم : سنة مؤكدة وفي الحديث : "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام يتخلفون عن الجماعة فاحرّق بيوتهم" وهذا يدل على جواز إحراق بيت المتخلف عن الجماعة لأن الهم على المعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لأنه معصية فإذا جاز إحراق البيت على ترك الواجب أو السنة المؤكدة فما ظنك في ترك الفرض وفي الحديث : "بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" وفيه إشارة إلى أن كل ظلمة ليست بعذر لترك الجماعة بل الظلمة الشديدة وإطلاق اللفظ يشعر بأن المتحري للأفضل ينبغي أن لا يتخلف عن الجماعة بأي وجه كان إلا أن يكون العذر ظاهراً والأعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة هي المرض الذي يبيح التيمم ومثله كونه مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مفلوجاً أو لا يستطيع المشي أو أعمى والمطر والطين والبرد الشديد والظلمة الشديدة في الصحيح وكذا الخوف من السلطان أو غيره من المتغلبين جعلنا الله وإياكم ممن قام بأمره في جميع عمره {وَكُلَّ شَىْءٍ} من الأشياء كائناً ما كان سواء كان ما يصنعه الإنسان أو غيره وهو منصوب بفعل مضمر يفسره قوله : {أَحْصَيْنَـاهُ} ضبطناه وبيناه.
قال ابن الشيخ : أصل الإحصاء العد ثم استعير للبيان والحفظ لأن العد يكون لأجلهما.
وفي "المفردات" الإحصاء التحصيل بالعدد يقال : أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصى واستعمال ذلك فيه لأنهم كانوا يعتمدون عليه في العد اعتمادنا فيه على الأصابع {فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أصل عظيم الشان مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون وهو اللوح المحفوظ سمي إماماً لأنه يؤتم به ويتبع.
قال الراغب : الإمام المؤتم به إنساناً كان يقتدي بقوله وبفعله أو كتاباً أو غير ذلك محقاً كان أو مبطلاً وجمعه أئمة نحو قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ} (الإسراء : 71) أي : بالذي يقتدون به وقيل بكتابهم {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} فقد قيل : إشارة إلى اللوح المحفوظ انتهى.
وفي الأحصاء ترغيب وترهيب فإن المحصى لم يصح منه الغفلة في حال من الأحوال بل راقب نفسه في كل وقت ونفس وحركة وسكنة.
وخاصية هذا الاسم تسخير القلوب فمن قرأه عشرين مرة على كل كسرة من الخبز والكسر عشرون فإنه يسخر له الخلق.
فإن قيل : ما فائدة تسخير الخلق؟ قلت : دفع المضرة أو جلب المنفعة وأعظم المنافع التعليم و"الإرشاد" واختار بعض الكبار ترك التصرف والالتفات إلى جانب الخلق بضرب من الحيل فإن الله تعالى يفعل ما يريد والأهم تسخير النفس الأمارة حتى تنقاد للأمر وتطيع للحق فمن لم يكن له أمارة على نفس كان ذليلاً في الحقيقة وإن كان مطاعاً في الظاهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" {وَكُلَّ شَىْءٍ} مما يتقربون به إلينا {أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي : أثبتنا آثاره وأنواره في لوح محفوظ قلوب أحبابنا انتهى.
واعلم أن قلب الإنسان الكامل اسم مبين ولوح إلهي فيه أنوار الملكوت منتقشة وأسرار الجبروت منطبعة مما كان في حد البشر دركه وطوق العقل الكلي كشفه وإنما يحصل هذا بعد التصفية بحيث لم يبق في القلب
376
صورة ذرة مما يتعلق بالكونين ومعنى التصفية إزالة المتوهم ليظهر المتحقق فمن لم يدر المتوهم من المتحقق حرم من المتحقق ، قال المولى الجامي قدس سره :
سككى مى شد استخوان بدهان
كرده رد بر كنار آب روان
بسكه آن آب صاف وروشن بود
عكس آن استخوان در آب نمود
برد بياره سك كمان كه مكر
هست در آب استخوان دكر
لب و بكشاد سوى آن بستاد
استخوان ازدهان در آب فتاد
نيست را هستى توهم كرد
بهر آن نيست هست راكم كرد
فعلى العاقل أن يجلو المرآة ليظهر صورة الحقيقة وحقيقة الوجود ويحصل كمال العيان والشهود نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الصفوة ويحفظنا من الكدورات والهفوة إنه غاية المقصود ونهاية الأمل من كل علم وعمل.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/294)
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ} إلى قوله : خامدون يشير إلى أصناف ألطافه مع أحبائه وأنواع قهره مع أعدائه كما في "التأويلات النجمية" أمر الله تعالى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم بإنذار مشركي مكة بتذكيرهم قصة أصحاب القرية ليحترزوا عن أن يحل بهم ما نزل بكفار أهل تلك القرية.
قال في "الإرشاد" ضرب المثل يستعمل على وجهين : الأول في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها فالمعنى اجعل أصحاب القرية مثلاً لأهل مكة في الغلو في الكفر والإصرار على تكذيب الرسل أي : طبق حالهم بحالهم على أن مثلاً مفعول ثان وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه.
والثاني في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها فالمعنى اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل فقوله أصحاب القرية أي : مثل أصحاب القرية على تقدير المضاف كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) وهذا المقدر بدل من الملفوظ أو بيان له.
والقرية انطاكية من قرى الروم وهي بالفتح والكسر وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة قاعدة بلاد يقال لها العواصم وهي ذات عين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل دورها اثنا عشر ميلاً كما في "القاموس" ويقال لها انتاكية بالتاء بدل الطاء وهو المسموع من لسان الملك في قصة ذكرت في "مشارع الأشواق".
قال الإمام السهيلي : نسبت انطاكية إلى انطقيس وهو اسم الذي بناها ثم غيرت.
وفي "التكملة" وكانت قصتهم في أيام ملوك الطوائف.
وفي "بحر العلوم" انطاكية من مدائن النار بشهادة النبي عليه السلام حيث قال : "أربع مدائن من مدائن الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس وصنعاء اليمن وأربع مدائن من مدائن النار أنطاكية وعمورية وقسطنطينية وظفار اليمن" وهو كقطام بلد باليمن قرب صنعاء إليه ينسب الجزع وهو بالفتح خرز فيه سواد وبياض يشبه به الأعين وكانت انطاكية إحدى المدن الأربع التي يكون فيها بطارقة النصارى وهي انطاكية والقدس والاسكندرية ورومية ثم بعدها قسطنطينية.
قال في "خريدة العجائب" : رومية الكبرى مدينة عظمية في داخلها كنيسة عظيمة طولها ثلاثمائة ذراع وأركانها من نحاس مفرع مغطى كلها بالنحاس الأصفر وبها كنيسة أيضاً بنيت على هيئة بيت المقدس وبها ألف حمام وألف فندق وهو الخان ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها وهي
377
للروم مثل مدينة فرانسة للافرنج كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم وبيت ديانتهم وفتحها من اشراط الساعة {إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} بدل من أصحاب القرية بدل الاشتمال لاشتمال الظروف على ما حل فيها كأنه قيل واجعل وقت مجيىء المرسلين مثلاً أو بدل من المضاف المقدر كأنه قيل واذكر لهم وقت مجيىء المرسلين وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهل انطاكية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/295)
{إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} بدل من إذ الأولى أي : وقت أرسلنا اثنين إلى أصحاب القرية وهما يحيى ويونس ونسبة إرسالهما إليه تعالى بناء على أنه بأمره تعالى فكانت الرسل رسل الله.
ويؤيده مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل بأن قال الموكل له اعمل برأيك يكون وكيلاً للموكل لا للوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول {فَكَذَّبُوهُمَا} أي : فأتياهم فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة بلا تراخ وتأمل وضربوهما وحبسوهما على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما وسيأتي {فَعَزَّزْنَا} أي : قويناهما فحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن القصد ذكر المعزز به وبيان تدبيره اللطيف الذي به عز الحق وذل الباطل يقال عزز المطر الأرض إذا لبدها وسددها وأرض عزاز أي : صلبة وتعزز اللحم اشتد وعز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه.
وفي "تاج المصادر" (التعزيز والتعزة : ليرومنكد كردند) ومنه الحديث "إنكم لمعزز بكم" أي : مشدد (وفرونشاند باران زمين را) انتهى {بِثَالِثٍ} هو شمعون الصفار ويقال له شمعون الصخرة أيضاً رئيس الحواريين وقد كان خليفة عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء.
قال في "التكملة" : اختلف في المرسلين الثلاثة فقيل : كانوا أنبياء رسلاً أرسلهم الله تعالى وقيل : كانوا من الحواريين أرسلهم عيسى بن مريم إلى أهل القرية المذكورة ولكن لما كان إرساله إياهم عن أمره أضاف الإرسال إليه انتهى علم منه أن الحواريين لم يكونوا أنبياء لا في زمان عيسى ولا بعد رفعه وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "ليس بيني وبينه نبي" أي : بين عيسى وإن احتمل أن يكون المراد النبي الذي يأتي بشريعة مستقلة وهو ينافي وجود النبي المقرر للشريعة المتقدمة {فَقَالُوا} أي : جميعاً {إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} مؤكدين كلامهم لسبق الإنكار لما أن تكذيبهما تكذيب للثالث لاتحاد كلمتهم.
قال في "كشف الأسرار" : (قصه آنست كه رب العالمين وحى فرستاد بعيسى عليه السلام كه من ترا بآسمان خواهم برد حواريان را يكان يكان ودوان دوان بشهرها فرست تا خلق را بدين حق دعوت كنند عيسى ايشانرا حاضر كرد ورئيس ومهترايشان شمعون وايشانرا يكان يكان ودوان دوان قوم بقوم فرستاد وشهر شهر ايشانرا نامزد مى زد وايشانرا كفت ون من بآسمان رفتم شماهر كجاكه معين كرده ام ميرويد ودعوت ميكنيد واكر زبان آن قوم ندانيد در آن راه كه ميرويد شمارا فرشته يش ايد جامى شراب بر دست نهاده از ان شراب نوراني بازخوريد تاز بان ان قوم بدانيد ودوكس را بشهر انطاكية فرستاد) وكانوا عبدة أصنام.
وقال أكثر أهل التفسير : ارسل إليهم عيسى اثنين قبل رفعه ولما أمرهما أن يذهبا إلى القرية قالا : يا نبي الله إنا لا نعرف لسان القوم فدعا الله لهما فناما بمكانهما فاستيقظا وقد حملتهما الملائكة وألقتهما إلى أرض أنطاكية فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار الذي ينحت الأصنام وهو صاحب
378
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
يس لأن الله تعالى ذكره في سورة يس في قوله تعالى : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} فسلما عليه فقال : من أنتما؟ فأخبراه بأنهما من رسل عيسى (آمده ايم تا شمارا بردين حق دعوت كنيم وراه راست وملت اك شما نماييم كه دين حق توحيداست وعبادت خداى يكتا ير كفت شمارا برراستى اين سخن هي معجزه هست كفتند آرى) نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء بدعاى عيسى (يركفت مرا سريست ديوانه وياخود دير كاه تاوى بيماراست ودرد وى علاج اطبانه ذيرد خواهم كه اورا به بينيد ايشانرا بخانه برد) فدعوا الله تعالى ومسحا المريض فقام بإذن الله صحيحاً :
قدم نهادي وبرهر دوديده جاكردى
بيكنفس دل بيمار را دوا كردى
فآمن حبيب وفشا الخبر وشفى على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك واسمه بحناطيس الرومي او انطيخس او شلاحن فطلبهما فأتياه فاستخبر عن حالهما فقالا : نحن رسل عيسى ندعوك إلى عبادة رب وحده فقال : ألنا رب غير آلهتنا؟ قالا : نعم وهو من أوجدك وآلهتك ، من آمن به دخل الجنة ومن كفر به دخل النار وعذب فيها أبداً فغضب وضربهما وحبسهما فانتهى ذلك إلى عيسى فأرسل ثالثاً وهو شمعون لينصرهما فإنه رفع بعده كما قاله البعض فجاء القرية متنكراً أي : لم يعرف حاله ورسالته وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به وكان شمعون يظهر موافقته في دينه حيث كان يدخل معه على الصنم فيصلي ويتضرع وهو يظن أنه من أهل دينه كما قال الشيخ سعدي في قصة صنم سومنات لما دخل الكنيسة متنكراً وأراد أن يعرف كيفية الحال :
بتك را يكى بوسه دادم بدست
كه لعنت بروباد وبربت رست
بتقليد كافر شدم روز ند
برهمن شدم در مقالات زند
(7/296)
فقال شمعون للملك يوماً : بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى إله غير إلهك فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلامهما وأخاصمهما عنك فدعاهما.
وفي بعض الروايات لما جاء شمعون إلى انطاكية دخل السجن أولاً حتى انتهى إلى صاحبيه فقال لهما : ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف :
و بينى كه جاهل بكين اندراست
سلامت بتسليم دين اندراست
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال : وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زماناً من دهرها ثم ولدت غلاماً فأسرعت بشأنه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغص به فمات فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء ثم انطلق إلى الملك يعني بعد التقرب إليه استدعاهما للمخاصمة فلما حضرا قال لهما شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال : صفاه وأوجزا قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال : وما برهانكما على ما تدعيانه قالا : ما يتمنى الملك فجيىء بغلام مطموس العينين أي : كان لا يتميز موضع عينيه من جبهته فدعوا الله حتى انشق له موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما فتعجب الملك فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف قال : ليس لي عنك سر مكتوم إن
379
الهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ثم قال له الملك : إن هنا غلاماً مات منذ سبعة أيام كان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه واستأذنوا في دفنه فأمرتهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه فهل يحييه ربكما فأمر بإحضار ذلك الميت فدعوا الله علانية ودعا شمعون سراً فقام الميت حياً بإذن الله (كفت ون جانم از كالبد جدا كشت مرا بهفت وادىء آتش بكذرانيدند ازآنكه بكفر مرده ام) وأنا أنذركم عما أنتم فيه من الشرك فآمنوا (وكفت ابنك درهاى آسمان مى بينم كشاده وعيسى يغمبر ايستاده زير عرش واز بهر اين ياران شفاعت ميكند وميكويدكه بار خدايا ايشانرا نصرت ده كه ايشان رسولان من اند) حتى أحياني الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى روح الله وكلمته وأن هؤلاء الثلاثة رسل الله قال الملك : ومن الثلاثة قال الغلام شمعون وهذان فتعجب الملك فلما رأى شمعون أن قول الغلام قد أثر في الملك أخبره بالحال وأنه رسول المسيح إليهم ونصحه فآمن الملك فقط كما حكاه القشيري خفية على خوف من عتاة ملئه وأصر قومه فرجموا الرسل بالحجارة وقالوا : إن كلمتهم واحدة وقتلوا حبيب النجار وأبا الغلام الذي أحيى لأنه أيضاً كان قد آمن ثم إن الله تعالى بعث جبريل فصاح عليهم صيحة فماتوا كلهم كما سيجيء تمام القصة.
وقال وهب بن منبه وكعب الأحبار : بل كفر الملك أيضاً وأصروا جميعاً هو وقومه على تعذيب الرسل وقتلهم ويؤيده حكاية تماديهم في اللجاج والعناد وركوبهم متن المكابرة في الحجاج ولو آمن الملك وبعض قومه كما قال بعضهم لكان الظاهر أن يظاهروا الرسل ويساعدوهم قبلوا في ذلك أو قتلوا كدأب النجار الشهيد ولم ينقل ذلك مع أن الناس على دين ملوكهم لا سيما بعد وضوح البرهان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} .
{قَالُوا} أي : أهل انطاكية الذين لم يؤمنوا مخاطبين للثلاثة {مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ} آدمي {مِّثْلُنَا} هو من قبيل قصر القلب فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشراً ولا منكرين لذلك لكنهم نزلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشراً فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية فقلبوا هذا الحكم وعكسوه وقالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا أي : أنتم مقصورون على البشرية ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة على زعمهم {وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ} من وحي سماوي ومن رسول يبلغه فكيف صرتم رسلاً وكيف يجب علينا طاعتكم وهو تتمة الكلام المذكور لأنه يستلزم الإنكار أيضاً {إِنْ أَنتُمْ} أي : ما أنتم {إِلا تَكْذِبُونَ} في دعوى رسالته.
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ} بعلمه الحضوري {إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وإن كذبتمونا استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم في التوحيد مع ما فيه من تحذيرهم معارضة علم الله وزادوا اللام المؤكدة لما شاهدوا منهم من شدة الإنكار.
(7/297)
{وَمَا عَلَيْنَآ} أي : من جهة ربنا {إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أي : إلا تبليغ رسالته تبليغاً ظاهراً مبيناً بالآيات الشاهدة بالصحة فإنه لا بد للدعوى من البينة وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا وليس في وسعنا إجباركم على الإيمان ولا أن نوقع
380
في قلوبكم العلم بصدقنا فإن آمنتم وإلا فينزل العذاب عليكم وفيه تعريض لهم بأن إنكارهم للحق ليس لخفاء حاله وصحته بل هو مبني على محض العناد والحمية الجاهلية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لئن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائرُكُم مَّعَكُمْ أَاـاِن} .
{قَالُوا} لما ضاقت عليهم الحيل ولم يبق لهم علل {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أصل التطير التفاؤل بالطير فإنهم يزعمون أن الطائر السانح سبب للخير والبارح سبب للشر كما سبق في النمل ثم استعمل في كل ما يتشاءم به والمعنى إنا تشاءمنا بكم جرياً على ديدن الجهلة حيث كانوا يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وإن كان مستجلباً لكل شر ووبال ويتشاءمون بكل ما لا يوافقها وإن كان مستتبعاً لسعادة الدارين.
وقال النقشبندي : قد تشاءمنا بقدومكم إذ منذ قدمتم إلى ديارنا ما نزل القطر علينا وما أصابنا هذا الشر إلا من قبلكم اخرجوا من بيننا وارجعوا إلى أوطانكم سالمين وانتهوا عن دعوتكم ولا تتفوهوا بها بعد.
وكان عليه السلام يحب التفاؤل ويكره التطير والفرق بينهما أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله والتطير إنما هو من طريق الاتكال على شيء سواه وفي الخبر لما توجه النبي عليه السلام نحو المدينة لقي بريدة بن أسلم فقال : "من أنت يا فتى" قال بريدة فالتفت عليه السلام إلى أبي بكر فقال : "برد أمرنا وصلح" أي : سهل ومنه قوله : "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" ثم قال عليه السلام : "ابن من أنت يا فتى" قال : ابن أسلم فقال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه : "سلمنا من كيدهم".
وفي الفقه : لو صاحت الهامة أو طير آخر فقال : رجل يموت المريض يكفر ولو خرج إلى السفر ورجع فقال : ارجع لصياح العقعق كفر عند البعض وفي الحديث : "ليس عبد إلا سيدخل في قلبه الطيرة فإذا أحس بذلك فليقل أنا عبد الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب بالسيآت إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي بوجهه" يعني : يمضي مارّاً بوجهه أي : بجهة وجهه فعدى يمضي بالباء لتضمين معنى المرور قالوا : من تطير تطيراً منهياً عنه حتى منعه مما يريده من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه كما في "عقد الدر" {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهُوا} والله لئن لم تمتنعوا عن مقالتكم هذه ولم تسكتوا عنا وبالفارسية : (واكر نه باز ايستيد ازدعواى خود) {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} (الرجم : سنكسار كردن) أي : لنرمينكم بالحجارة {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (وبشما رسد ازما عذابى دردنماى) أي : لا نكفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو ليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب مؤلم.
وفسر بعضهم الرجم بالشتم فيكون المعنى لا نكتفي بالشتم بل يكون شتمنا مؤدياً إلى الضرب والإيلام الحسي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ـ حكي ـ أن دباغاً مر بسوق العطارين فغشي عليه وسقط فاجتمع عليه أهل السوق وعالجوه بكل ما يمكن من الأشياء العطرة فلم يفق بل اشتد عليه الحال ولم يدر أحد من أين صار مصروعاً ثم أخبر أقرباؤه بذلك فجاء أخوه وفي كمه شيء من نجاسة الكلب فسحقه حتى إذا وصلت رائحته إلى شمه أفاق وقام وهكذا حال الكفار كما قال جلال الدين قدس سره في "المثنوي" :
ناصحان او را بغنبر يا كلاب
مى دوا سازند بهر فتح باب
مر خبيثانرا نشايد طيبات
درخور ولايق نباشد اى ثقات
ون زعطر وحى كم كشتندوكم
بدفغان شان كه تطيرنا بكم
381
رنج بيماريست مارا زين مقال
نيست نيكو وعظمتان مارا بفال
كر بيا غازيد نصحى آشكار
ماكنيم آن دم شمارا سنكسار
ما بلغو ولهو فربه كشته ايم
در نصيحت خويش را نسرشته ايم
هست قوت ما دروغ ولاف ولاغ
شورش معده است مارازين بلاغ
هركرا مشك نصيحت سودنيست
لا جرم بابوى بدخو كردنيست
مشركانرازان نجس خواندست حق
كاندرون شك زادند از سبق
كرم كوزادست در سركين ابد
مى نكرداند بعنبر خوى خود(7/298)
{قَالُوا} أي : المرسلون لأهل أنطاكية {طَائرُكُم} أي : سبب شؤمكم {مَّعَكُمْ} لا من قبلنا وهو سوء اعتقادكم وقبح أعمالكم فالطائر بمعنى ما يتشاءم به مطلقاً {أَإِن ذُكِّرْتُم} بهمزتين استفهام وشرط أي : وعظتم بما فيه سعادتكم وخوّفتم وبالفارسية : (آيا اكر ند داده مى شويد) وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي : تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضراب عما تقتضيه الشرطية من كون التذكير سبباً للشؤم أو مصححاً للتوعد أي : ليس الأمر كذلك بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتجاوز فيه عن الحد فلذلك أتاكم الشؤم أو في الظلم والعدوان ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب إكرامه والتبرك به.
وهؤلاء القوم في الحقيقة هم النفس وصفاتها فإن أسرفت في موافقة الطبع ومخالفة الحق فكل من كان في يد مثل هذه النفس فهو لا يبالي بالوقوع في المهالك ولا يزال يدعو الناس إلى ما سلكه من شر المسالك :
هركرا باشد مزاج وطبع سست
او نخواهد هي كس راتن درست
وكل من تخلص عنها وزكاها أفلح هو ومن تبعه ولذا وعظ الأنبياء والأولياء وذكروا ونبهوا الناس على خطاهم وإسرافهم وردوهم عن طريقة أسلافهم ولكن الذكرى إنما تنفع المؤمنين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ـ حكي ـ أن غلام الخليل سعى بالصوفية إلى خليفة بغداد وقال : إنهم زنادقة فاقتلهم ولك ثواب جزيل فأحضرهم الخليفة وفيهم الجنيد والشبلي والنوري فأمر بضرب أعناقهم فتقدم أبو الحسين النوري فقال السياف : أتدري إلى ما تبادر؟ فقال : نعم فقال : وما يعجلك فقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف وأنهى الأمر إلى الخليفة فتعجب الخليفة ومن عنده من ذلك فأمر بأن يختبر القاضي حالهم فقال القاضي : يخرج إليّ واحد منهم حتى أبحث معه فخرج إليه أبو الحسين النوري فألقى إليه القاضي مسائل فقهية فالتفت عن يمينه ثم التفت عن يساره ثم أطرق ساعة ثم أجابه عن الكل ثم أخذ يقول وبعد فإنعباداً إذا قاموا قاموا بالله وإذا نطقوا نطقوا بالله وسرد كلاماً أبكى القاضي ثم سأله القاضي عن التفاته فقال : سألتني عن المسائل ولا أعلم لها جواباً فسألت عنها صاحب اليمين فقال : لا علم لي ثم سألت صاحب الشمال فقال : لا علم لي فسألت قلبي فأخبرني قلبي عن ربي فأجبتك بذلك فأرسل القاضي إلى الخليفة إن كان هؤلاء زنادقة فليس على وجه الأرض مسلم (خليفه ايشانرا بخواند وكفت حاجتى خواهيد كفتند حاجت ما آنست كه مارا فراموش كنى نه بقبول خود مارا
382
مشرف كردانى نه برد مهجوركه مارا رد توون قبول تست خليفه بسيار بكريست وايشانرا با كرامى تمام روانه كرد ون درنهاد خليفه وقاضي عدل وإنصاف سرشته مى شد لا جرم بجانب حق ميل كردند ودرحق صوفيه محققين طريقه ظلم وإسراف سالك نشدند) عصمنا الله وإياكم من مخالفة الحق الصريح بعد وضوحه بالبرهان الصحيح.
{قَالُوا طَائرُكُم مَّعَكُمْ أَاـاِن ذُكِّرْتُما بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لا يَسْـاَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} أبعد جوانب أنطاكية وبالفارسية : (وآد ازدورتر جايى ازان شهر) {رَجُلٌ} فيه إشارة إلى رجولية الجائي وجلادته وتنكيره لتعظيم شأنه لا لكونه رجلاً منكوراً غير معلوم فإنه رجل معلوم عند الله تعالى وكان منزله عند أقصى باب في المدينة وفي مجيئه من أقصى المدينة بيان لكون الرسل أتوا بالبلاغ المبين حتى بلغت دعوتهم إلى أقصى المدينة حيث آمن الرجل وكان دور السور اثني عشر ميلاً كما سبق {يَسْعَى} حال كونه يسرع في مشيه فإن السعي المشي السريع وهو دون العدو كما في "المفردات" والمراد حبيب بن مرى النجار المشهور عند العلماء بصاحب يس كما سبق وجهه.
وفي بعض التواريخ كان من نسل الاسكندر الرومي وإنما سمي حبيب النجار لأنه كان ينحت أصنامهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364(7/299)
يقول الفقير : هذا ظاهر على تقدير أن يكون إيمانه على أيدي الرسل وهو الذي عليه الجمهور وأما قوله عليه السلام : "سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون" فمعناه إنهم لم يسجدوا للصنم ولم يخلوا بما هو من أصول الشرائع ولا يلزم من نحت الأصنام السجدة لها والأظهر أنه كان نجاراً كما في التعريف للسهيلي ولا يلزم من كونه نجاراً كونه ناحتاً للأصنام وقد قالوا : إنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم وبينهما ستمائة سنة.
وكان سبب إيمانه به أنه كان من العلماء بكتاب الله ورأى فيه نعته ووقت بعثته فآمن به ولم يؤمن بنبي غيره عليه السلام قبل مبعثه وقد آمن به قبل مبعثه أيضاً غير حبيب النجار كما قال السيوطي : أول من أظهر التوحيد بمكة وما حولها قس بن ساعدة وفي الحديث : "رحم الله قساً إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده" وورقة بن نوفل ابن عم خديجة رضي الله عنها وزيد بن عمرو بن نفيل وكذا آمن به عليه السلام قبل مبعثه وأظهر التوحيد تبع الأكبر.
وقصته أنه اجتاز بمدينة الرسول عليه السلام وكان في ركابه مائة ألف وثلاثون ألفاً من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفاً من الرجالة فأخبر أن أربعمائة رجل من اتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها فسألهم عن الحكمة فقالوا : إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها فبنى فيها لكل واحد منهم داراً واشترى له جارية وأعتقها وزوجها منه وأعطاهم عطاءً جزيلاً وكتب كتاباً وختمه ورفعه إلى عالم عظيم منهم وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلّم إن أدركه وفي ذلك الكتاب أنه آمن به وعلى دينه وبنى له صلى الله عليه وسلّم داراً ينزلها إذا قدم تلك البلدة ويقال إنها دار أبي أيوب وأنه من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب فهو عليه السلام لم ينزل إلا في داره ووصل إليه عليه السلام الكتاب المذكور على يد بعض ولد العالم المسطور في أول البعثة أو حين هاجر وهو بين مكة والمدينة ولما قرىء عليه قال : "مرحباً بتبع الأخ الصالح" ثلاث مرات وكان إيمانه قبل مبعثه بألف سنة ويقال
383
أن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء.
وذكر أنه حفر قبره بصنعاء قبل الإسلام فوجد فيه امرأتان لم تبليا وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب هذا قبر فلانة وفلانة ابنتي تبع ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما وفي الحديث : "من مات وهو يعلم لا إله إلا الله دخل الجنة" وإنما لم يقل من مات وهو يؤمن أو يقول ليعلمنا أن كل موحدفي الجنة يدخلها من غير شفاعة ولو لم يوصف بالإيمان كقس بن ساعدة وأضرابه ممن لا شريعة بين أظهرهم يؤمنون بها وبصاحبها فقس موحد لا مؤمن كما في "الفتوحات المكية" (كفتند حبيب نجار خانه داشت درآن كوشه ازشهر بدورتر جايى ازمردمان وكسب كردى هرروز آنه كسب وى بود يك نيمه بصدقه دادى ويك نيمه بخرج عيال كردى وخدايرا نهان عبادت كردى وكس ازحال وى خبر نداشتى تا آن روزكه رسولان عيسى را رنجانيدند وجفا كردند ازان منزل خويش بشتاب بيامد وايمان خويش آشكارا كرد.
وكفته اند اهل انطاكية دارها بردند وآن رسولا نرا باجهل تن كن ايمان آورده بودند كلوهاى شان سوراخ كردند ورسنها بكلو دركشيدند وازدار بياويختند خبر بحبيب نجار رسيدكه خدايرا مى رستيد درغارى نانكه ابدال دركوه نشينند وازخلق عزلت كيرند بشاب ازمنزل خويش بيامد)
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل فما قال عند ما جاء ساعياً ووصل إلى المجمع ورآهم مجتمعين على الرسل قاصدين قتلهم فقيل قال : يا قَوْمِ} أصله يا قومي معناه بالفارسية : (اى كروه من) خاطبهم بياقوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته وللاشارة إلى أنه لا يريد بهم إلا الخير وإنه غير متهم بإرادة السوء بهم.
قال بعضهم : وكان مشهوراً بينهم بالورع واعتدال الأخلاق {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} المبعوثين إليكم بالحق تعرض لعنوان رسالتهم حثاً لهم على اتباعهم (قتاده كفت ون بيامد نخست رسولانرا بديد كفت شما باين دعوت كه ميكنيد هي مزد ميخواهيد كفتند ما هي مزد نميخواهيم وجز اعلاى كلمه حق واظهار دين الله مقصود نيست حبيب قوم را بكفت).
(7/300)
{اتَّبِعُوا مَن لا يَسْـاَلُكُمْ} (نمى خواهند ازشما) {أَجْرًا} أجرة ومالاً على النصح وتبليغ الرسالة {وَهُم مُّهْتَدُونَ} إلى خير الدين والدنيا والمهتدي إلى طريق الحق الموصل إلى هذا الخير إذا لم يكن متهماً في الدعوة يجب اتباعه وإن لم يكن رسولاً فكيف وهم رسل ومهتدون ومن قال الايغال هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها تكون الآية عنده مثالاً له لأن قوله وهم مهتدون مما يتم المعنى بدونه لأن الرسول مهتد لا محالة إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل وترغيب فيه فقوله : من لا يسألكم بدل من المرسلين معمول لاتبعوا الأول والثاني تأكيد لفظ للأول.
قال في "الإرشاد" : تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يرغبهم في اتباعهم من التنزه عن الغرض الدنيوي والاهتداء إلى خير الدنيا والدين انتهى.
وفيه ذم للمتشيخة المزوّرين الذين يجمعون بتلبيساتهم أموالاً كثيرة من الضعفاء الحمقى المائلين نحو أباطيلهم كما في "التأويلات النقشبندية" :
ره كاروان شير مردان زنند
ولى جامه مردم اينان كنند
384
عصاى كليمند بسيار خوار
بظاهر نين زرد روى ونزار
(ون حبيب آن قوم را نصيحت كرد ايشان كفتند) وأنت مخالف لديننا ومتابع لهؤلاء الرسل فقال :
{اتَّبِعُوا مَن لا يَسْـاَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِه ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّى إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{مَالِيَ} وأي شيء عرض لي {لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى} خلقني وأظهرني من كتم العدل ورباني بأنواع اللطف والكرم وقد سبق الفطر في أول فاطر وهذا تلطف في "الإرشاد" بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبىء عنه قوله : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مبالغة في التهديد أي : إليه تعالى لا إلى غيره تردون أيها القوم بعد البعثة للمجازاة أو للمحاسبة.
قال في "فتح الرحمن" : أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر وفي الرجوع معنى الزجر وكان بهم أليق.
قال بعض العارفين العبودية ممزوجة بالفطرة والمعرفة فوق الخلقة والفطرة وهذا المعنى مستفاد من قول النبي عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" ولو كانت المعرفة ممزوجة بالفطرة لما قال : "وأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه" بل المعرفة تتعلق بكشف جماله وجلاله صرفاً بالبديهة بغير علة واكتساب لقوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه مِن قَبْلُ} (الأنبياء : 51).
قال بعضهم : العبد الخالص من عمل على رؤية الفطرة لا غير وأجل منه من يعمل على رؤية الفاطر ثم عاد على المساق الأول وهو إبراز الكلام في صورة النصيحة لنفسه فقال :
{ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ} أي : دون الذي فطرني وهو الله تعالى {ءَالِهَةً} باطلة وهي الأصنام وهو إنكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الإطلاق أي : لا أتخذ ثم استأنف لتعليل النفي فقال : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ} يعني : (اكرخواهد رحمن ضررى بمن رسد) والضر اسم لكل سوء ومكروه يتضرر به {لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ} أي : الآلهة {شَيْـاًا} أي : لا تنفعني شيئاً من النفع إذ لا شفاعة لهم فتنفع فنصب شيئاً على المصدرية وقوله : لا تغن جواب الشرط والجملة الشرطية استئناف لا محل لها من الإعراب {وَلا يُنقِذُونِ} الإنقاذ التخليص أي : لا يخلصونني من ذينك الضر والمكروه بالنصرة والمظاهرة وهو عطف على لا تغن وعلامة الجزم حذف نون الإعراب لأن أصله لا ينقذونني وهو تعميم بعد تخصيص مبالغة بهما في عجزه وانتفاء قدرتهم.
قال الإمام السهيلي : ذكروا أن حبيباً كان به داء الجذام فدعا له الحواري فشفي فلذلك قال : إن يردن الرحمن الخ انتهى.
وقال بعضهم : إن المريض كان ابنه كما سبق إلا أن يقال لا مانع من ابتلاء كليهما أو أن مرض ابنه في حكم مرض نفسه فلذا أضاف الضر إلى نفسه ويحتمل أن الضر ضر القوم لأنه روى شفاء كثير من مرضاهم على يدي الرسل فأضافه حبيب إلى نفسه على طريقة ما قبله من الاستمالة وتعريفاً للإحسان بهم بطريق اللطف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنِّى إِذًا} أي : إذا اتخذت من دونه آلهة {لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} فإن إشراك ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره ضلال بين لا يخفى على أحد ممن له تمييز في الجملة.
{إِنِّى إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَا قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} .
(7/301)
{إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ} الذي خلقكم ورباكم بأنواع النعم وإنما قال : آمنت بربكم وما قال آمنت بربي ليعلموا أن ربهم هو الذي يعبده فيعبدوا ربهم ولو قال إني آمنت بربي لعلهم يقولون أنت تعبد ربك ونحن نعبد
385
ربنا وهو آلهتهم {فَاسْمَعُونِ} أجيبوني في وعظي ونصحي واقبلوا قولي كما يقال سمع الله لمن حمده أي : قبله فالخطاب للكفرة شافههم بذلك إظهاراً للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل.
وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أرباباً كما في "الإرشاد" : وإنما أكده إظهاراً لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط.
ولما فرغ من نصيحته لهم وثبوا عليه فوطئوه بأرجلهم حتى خرجت إمعاؤه من دبره ثم ألقى في البئر وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال السدي رجموه يعني (ايشان اورا سنك مى زدند تا هلاك شد وهو يقول رب اهد قومي آن دليل است بركمال وفرط شفقت وى بر خلق اين آننان است كه ابو بكر الصديق بني تيم را كفت آنكه كه اورا مى رنجانيدند واز دين حق بادين باطل ميخواندند كفت "اللهم اهد بني تيم فإنهم لا يعلمون يأمرونني بالرجوع من الحق إلى الباطل" كمال شفقت ومهربانىء ابو بكر رضي الله عنه برخلق خدا غرفه بود از بحر نبوت عربى عليه السلام بآن خبركه كفت "ما صب الله تعالى شيئاً في صدري إلا وصببته في صدر أبي بكر" وخلق مصطفى عليه السلام باخلق نان بود كه كافران بقصدوى برخاسته بودند ودندان عزيزوى ميشكستند ونجاست برمهر نبوت مى انداختند وآن مهتر عالم دست شفقت بر سر ايشان نهاده كه) "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" وفي "المثنوي" :
طبع را كشتند در حمل بدى
نا حمولى كر بود هست ازدىاى مسلمان خود ادب اندر طلب
نيست الا حمل ازهر بى ادب
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وقال الحسن : خرقوا خرقاً في حلق حبيب فعلقوه من وراء سوء المدينة.
وقيل نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه.
وقيل : ألقي في البئر وهو الرس وقبره في سوق أنطاكية.
قيل : طوّل معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل إلى أن قال : إني آمنت بربكم فاسمعون فوثبوا عليه فقتلوه وباشتغالهم بقتله تخلص الرسل كما في "حواشي ابن الشيخ" وكذا قال الكاشفي : (وبقولى آنست بسلامت بيرون رفتند وحبيب كشته شد وقولى آنست كه يغمبران وملك ومؤمنان كشته شدند) كما قال أبو الليث في تفسيره وقتلوا الرسل الثلاثة
ون سفيها نراست اين كار وكيا
لازم آمد يقتلون الأنبيا {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} قيل له أي : الحبيب النجار ذلك لما قتلوه إكراماً له بدخولها حينئذٍ كسائر الشهداء.
وقيل معناه البشري بدخول الجنة وإنه من أهلها يدخلها بعد البعث لا أنه أمر بدخولها في الحال لأن الجزاء بعد البعث وإنما لم يقل قيل له لأن الغرض بيان المقول لا المقول له لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه والجملة استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية حاله ومقاله كأنه قيل كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي بروحه لوجهه تعالى فقيل : قيل ادخل الجنة وكذا قوله تعالى : {قَالَ} إلى آخره فإنه جواب عن سؤال نشأ من حكاية حاله كأنه قيل فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية فقيل : قال متمنياً علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان
386
(7/302)
والطاعة جرياً على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء وليعلموا أنهم كانوا على خفاء عظيم في أمره وإنه كان على الحق وأن عداوتهم لم تكسبه إلا سعادة يا لَيْتَ قَوْمِى} يا في مثل هذا المقام لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه (اى كاشكى قوم من) {يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} ما موصولة أي : بالذي غفر لي ربي بسببه ذنوبي أو مصدرية أي : بمغفرة ربي والباء صلة يعلمون أو استهامية وردت على الأصل وهو أن لا تحذف الألف بدخول الجار والباء متعلقة بغفر أي : بأي شيء غفر لي ربي يريد به تفخيم شأن المهاجرة عن ملتهم والمصابرة على إذيتهم لإعزاز الدين حتى قتل {وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي : المنعمين في الجنة وإن كان على النصف إذ تمامه إنما يكون بعد تعلق الروح بالجسد يوم القيامة وفي الحديث المرفوع "نصح قومه حياً وميتاً" (اكرآن قوم اين كرامت ديدندى ايشان نيز ايمان آوردندى) وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون ناصحاً للناس لا يلتفت إلى تعصبهم وتمردهم ويستوي حاله في الرضى والغضب.
قال حمدون القصار : لا يسقط عن النفس رؤية الخلق بحال ولو سقط عنها في وقت لسقط في المشهد الأعلى في الحضرة ألا تراه في وقت دخول الجنة يقول : يا ليت قومي يعلمون يحدّث نفسه إذ ذاك.
يقول الفقير وذلك لأن حجاب الإمكان الذي هو متعلق بجانب النفس والخلق والكثرة لا يزول أبداً وإن كان الانسلاخ التام ممكناً لا كامل البشر عند كمال الشهود فإن هذا الانسلاخ لا يخرجهم عن حد الحدوث والإمكان بالكلية والا يلزم أن ينقلب الحادث الممكن واجباً قديماً وهو محال.
قال في "كشف الأسرار" : (نشان كرامت بنده آنست كه مردوار درآيد وجان ودل وروز كار فداى حق ودين اسلام كند نانكه حبيب كرد تا از حضرت عزت اين خلعت كرامت بدور سيدكه
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{ادْخُلِ الْجَنَّةَ} دوستان او ون بآن عقبه خطرناك رسند بايشان خطاب آيد {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} (فصلت : 30) بازايشانرا بشارت دهندكه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (فصلت : 30) احمد بن حنبل رحمة الله در نزع بود بدست اشارت مى كرد وبزبان دند نه مى كفت عبد الله سرش كوش بردهان او نهاد تاه شنود او درخويشتن مى كفت "لا بعد لا بعد" سرش كفت اى در اين ه حالتست كفت اى عبد الله وقتى باخطراست بدعا مددى ده اينك ابليس بر ايستاده وخاك ادبار برسر مى ريزد وميكويدكه جان ببردى اززخم ما ومن ميكويم "لا بعد" هنوز نه بايك نفس مانده جاى خطراست نه جاى ايمن وكار موقوف بعنايت حق.
أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كويد يكى را درخاك مى نهادم سه بار روى او بجانب قبله كردم هربار روى ازقبله بكردانيد س ندايى شنيدكه اى على دست بدار آنكه ما ذليل كرديم تو عزيز نتوانى كرد وكذا العكس در خبر آيد كه بنده مؤمن ون از سراى فانى روى بدان منزل بقا نهد غسال اورا بدان تخته وب خواباند تا بشويد از جناب قدم بنعت كرم خطاب آيدكه اى مقربان دركاه دركريد نانكه آن غسال ظاهر او بآب ميشويد ما باطن او بآب رحمت ميشوييم ساكنان حضرت جبروت كويند ادشاها مارا خبركن تا آنه نورست كه ازدهان وى شعله مى زند وكويد از نور جلال ماست كه از باطن وى رظاهر تجلى ميكند
387
حبيب نجار ون بآن مقام دولت رسيد اورا كفتند {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} أي : در آى درين جاى ناز دوستان وميعادرا زمحبان ومنزل آسايش مشتاقان تاهم طوبى بينى هم زلفى هم حسنى.
طوبى عيش بى عتابست.
وزلفى ثواب بى حسابست.
وحسنى ديدار بى حجابست حبيب ون آن نواخت وكرامت ديد كفت يا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} الخ آرزو كردكه كاشكى قوم من دانستندى كه ماكجا رسيديم وه ديديم تواخت حق ديديم وبمغفرت الله رسيديم) :
آنجايكه ابرار نشستند نشستيم
صدكونه شراب از كف اقبال شيديم
مارا همه مقصود بخشايش حق بود
المنة بمقصود رسيديم
{بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/303)
{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} أي : قوم حبيب وهم أهل أنطاكية {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد قتله {مِن جُندٍ} (عسكر) {مِّنَ السَّمَآءِ} لإهلاكهم والانتقام منهم كما فعلناه يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} وما صح في حكمتنا أن ننزل لإهلاك قومه جنداً من السماء لما أن قدرنا لكل شيء سبباً حيث أهلكنا بعض الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالإغراق وجعلنا إنزال الجند من السماء من خصائصك في الانتصار من قومك.
وفي الآية استحقار لأهل أنطاكية ولإهلاكهم حيث اكتفى في استئصالهم بما يتوسل به إلى زجر نحو الطيور والوحوش من صيحة عبد واحد مأمور وإيماءً إلى تفخيم شأن الرسول عليه السلام لأنه إذا كان أدنى صيحة ملك واحد كافياً في إهلاك جماعة كثيرة ظهر أن إنزال الجنود من السماء يوم بدر والخندق لم يكن إلا تعظيماً لشأنه وإجلالاً لقدره لا لاحتياج الملائكة إلى المظاهرة والمعاونة فإنه قيل كما لم ينزل عليهم جنداً من السماء لم يرسل إليهم جنداً من الأرض أيضاً فما فائدة قوله من السماء فالجواب أنه ليس للاحتراز بل لبيان أن النازل عليهم من السماء لم يكن إلا صيحة واحدة أهلكتهم بأسرهم.
{إِن كَانَتْ} أي : ما كانت الأخذة أو العقوبة على أهل أنطاكية {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (مكر يك فرياد كه جبرائيل هردوبازى درشهر ايشان كرفته صيحه زد) {فَإِذَا هُمْ} (س آنجا ايشان) {خَـامِدُونَ} ميتون لا يسمع لهم حس ولا يشاهد لهم حركة شبهوا بالنار الخامدة رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب والميت كالرماد يقال خمدت النار سكن لهبها ولم ينطفىء جمرها وهمدت إذا طفىء جمرها.
قال في "الكواشي" : لم يقل هامدون وإن كان أبلغ لبقاء أجسادهم بعد هلاكهم ووقعت الصيحة في اليوم الثالث من قتل
388
حبيب والرسل أو في اليوم الذي قتلوهم فيه.
وفي رواية في الساعة التي عادوا فيها بعد قتلهم إلى منازلهم فرحين مستبشرين وإنما عجل الله عقوبتهم غضباً لأوليائه الشهداء فإنه تعالى يغضب لهم كما يغضب الأسد لجروه نسأل الله أن يحفظنا من موجبات غضبه وسخطه وعذابه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} المصرين على العناد تعالى فهذه من الأحوال التي حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليه قوله تعالى : {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} فإن المستهزئين بالناصحين الذين نيطت بنصائحهم سعادة الدارين أحقاء بأن يتحسروا ويتحسر عليهم المتحسرون وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنين من الثقلين فقوله : يا حَسْرَةً} نداء للحسرة عليهم والحسرة وهي أشد الغم والندامة على الشيء الفائت لا تدعي ولا يطلب إقبالها لأنها مما لا تجيب والفائدة في ندائها مجرد تنبيه المخاطب وإيقاظه ليتمكن في ذهنه أن هذه الحالة تقتضي الحسرة وتوجب التلهف فإن العرب تقول يا حسرة يا عجباً للمبالغة في الدلالة على أن هذا زمان الحسرة والتعجب والنداء عندهم يكون لمجرد التنبيه.
وقد جوز أن يكون تحسراً عليهم من جهة الله بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم شبه استعظام الله لجنايتهم على أنفسهم بتحسر الإنسان على غيره لأجل ما فاته من الدولة العظمى من حيث أن ذلك التحسر يستلزم استعظام ما أصاب ذلك الغير والإنكار على ارتكابه والوقوع فيه ويؤيده قراءة يا حسرتا لأن المعنى يا حسرتي ونصبها لطولها بما تعلق بها من الجار أي : لكونها مشابهة بالمنادي المضاف في طولها بالجار المتعلق.
وفي "بحر العلوم" قوله : {مَا يَأْتِيهِم} الخ حكاية حال ماضية مستمرة أي : كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر ويستحقرون ويستنكفون عن قبول دينه ودعوته وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه.
وفي "تفسير العيون" قوله : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} بيان حال استهزائهم بالرسل أي : يقال يوم القيامة يا حسرة وندامة على الكفار حيث لم يؤمنوا برسلهم وقوله : {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} تفسير لسبب الحسرة النازلة بهم وفي الحديث "إن المستهزئين بالناس في الدنيا يفتح لهم يوم القيامة باب من أبواب الجنة فيقال لهم هلم هلم فيأتيه أحدهم بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فلا يزال يفعل به ذلك حتى يفتح له الباب فيدعى إليه فلا يجيب من الإياس".
وقال مالك بن دينار قرأت في زبور داود طوبى لمن لم يسلك سبيل الآثمين ولم يجالس الخاطئين ولم يدخل في هزؤ المستهزئين ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
اره دوزى ميكنى اندر دكان
زير اين دكان تو مدفون دو كان
هست اين دكان كر آيى زودباش
تيشه بستان وتكش را مى تراش
تاكه تيشه ناكهان بر كان نهى
ازد كان واره دوزى وارهى
اره دوزى يست خورد آب ونان
مى زنى اين اره بر دلق كران
(7/304)
هر زمان مى درد اين دلق تنت
اره بروى مى زنى زين خوردنت
اره بركن ازين قعر دكان
تابر آرد سر به يش تو دو كان
يش ازان كين مهلت خانه كرى
آخر آيد تو نبردى زو برى
389
س ترا بيرون كند صاحب دكان
وين دكانرا بركند از روى كان
تو ز حسرت كاه بر سر مى زنى
كاه ريش خام خود بر ميكنى
كاى دريغا آن من بود اين دكان
كور بودم برنخوردم زين مكان
اى دريغا بود ما را برد باد
تا ابد يا حسرة شد للعباد
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِا مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} .
{أَلَمْ يَرَوْا} وعيد للمشركين في مكة بمثل عذاب الأمم الماضية ليعتبروا ويرجعوا عن الشرك أي : ألم يعلم أهل مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ} كم خبرية.
والقرن القوم المقترنون في زمن واحد أي : كثرة إهلاكنا من قبلهم من المذكورين آنفاً ومن غيرهم بشؤم تكذيبهم وقوله ألم يروا معلق عن العمل فيما بعده لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام خلا أن معناه نافذ في الجملة كما نفذ في قولك ألم تر أن زيداً لمنطلق وإن لم يعمل في لفظه فالجملة منصوبة المحل بيروا {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من أهلكنا على المعنى أي : ألم يعلموا كثرة إهلاكنا القرون الماضية والأمم السالفة كونهم أي : الهالكين غير راجعين إليهم أي : إلى هؤلاء المشركين أي : أهلكوا إهلاكاً لا رجوع لهم من بعده في الدنيا وبالفارسية : (ومشاهده نكردند كه هلاك شدكان سوى اينان بازنمى كردند يعنى بدنيا معاودت نمى كنند) أفلا يعتبرون ولم لا ينتبهون فكما أنهم مضوا وانقرضوا إلى حيث لم يعودوا إلى ما كانوا فكذلك هؤلاء سيهلكون وينقرضون أثرهم ثم لا يعودون.
وقال بعضهم : ألم يروا أن خروجهم من الدنيا ليس كخروج أحدهم من منزله إلى السوق أو إلى بلد آخر ثم عودته إلى منزله عند إتمام مصلحته هناك بل هو مفارق من الدنيا أبداً فكونهم غير راجعين إليهم عبارة عن هلاكهم بالكلية ويجوز أن يكون المعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بسبب الولادة وقطعنا نسلهم وأهلكناهم كما في "التفسير الكبير" (سلمان فارسي رضي الله عنه هركاه كه بخرابى بر كذشتى توقف كردى دل بدادند ومال ورفتكان آن منزل ياد كردى كفتى كجايند ايشان كه اين بنا نهادند واين مسكن ساختند وبزارى بناليدى وجان بردر باختند تا آن غرفها بياراستند ون دلبران نهادند وون كل بشكفتند برك بريختند ودر كل خفتند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
سل الطارم العالي الذرى عن قطينه
نجا ما نجا من بؤس عيش ولينه
فلما استوى في الملك واستعبد العدى
رسول المنايا تله لجبينه
وهذه الآية ترد قول أهل الرجعة أي : من يزعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت كما حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له إن قوماً يزعمون أن علياً رضي الله عنه مبعوث قبل يوم القيامة فقال : بئس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه أي : لو كان راجعاً لكان حياً والحي لا تنكح نساؤه ولا يقسم ميراثه كما قال الفقهاء إذا بلغ إلى المرأة وفاة زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته لأنها كانت منكوحته ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة فبقيت على النكاح السابق ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني.
ويجب إكفار الروافض في قولهم بأن علياً وأصحابه يرجعون
390
إلى الدنيا فينتقمون من أعدائهم ويملأون الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وذلك القول مخالف للنص نعم إن روحانية علي رضي الله عنه من وزراء المهدي في آخر الزمان على ما عليه أهل الحقائق ولا يلزم من ذلك محذور قطعاً لأن الأرواح تعين الأرواح والأجسام في كل وقت وحال فاعرف هذا {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} إن نافية وتنوين كل عوض عن المضاف إليه.
ولما بمعنى إلا.
وجميع فعيل بمعنى مفعول جمع بين كل وجميع لأن الكل يفيد الإحاطة دون الاجتماع والجميع يفيد أن المحشر يجمعهم.
ولدينا بمعنى عندنا ظرف لجميع أو لما بعده.
والمعنى ما كل الخلائق إلا مجموعين عندنا محضرون للحساب والجزاء.
وهذه الآية بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا وإن من مات ترك على حاله ولو لم يكن بعد الموت بعث وجمع وحبس وعقاب وحساب لكان الموت راحة للميت ولكنه يبعث ويسأل فيكرم المؤمن والمخلص والصالح والعادل ويهان الكافر والمنافق والمرائي والفاسق والظالم فيفرح من يفرح ويتحسر من يتحسر فللعباد موضع التحسر إن لم يتحسروا اليوم.
(7/305)
واعلم أنه غلبت على أهل زماننا مخالفة أهل الحق ومعاداة أولياء الله واستهزاؤهم ألا ترون أنهم يستمعون القول من المحققين فيتبعون أقبحه ويقعون في أولياء الله ويستهزئون بهم وبكلماتهم المستحسنة إلا من يشاء الله به خيراً من أهل النظر وأرباب الإرادة وقليل ما هم فكما أن الله تعالى هدد كفار الشريعة في هذا المقام من طريق العبارة كذلك هدد كفار الحقيقة من طريق الإشارة فإنه لم يفت منهم أحد ولم ينفلت من قبضة القدرة إلى يومنا هذا ولم يكن لواحد منهم عون ولا مدد وكلهم رجعوا إليه وأحضروا لديه وعوتبوا بل عوقبوا على ما هم عليه.
ثم اعلم أن الله تعالى جعل هذه الأمة آخر الأمم فضلاً منه وكرماً ليعتبروا بالماضين وما جعلهم عبرة لأمة أخرى وأنه تعالى قد شكا لهم من كل أمة وما شكا إلى أحد من غيرهم شكايتهم إلا ما شكا إلى نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج كما قال عليه السلام : "شكا ربي من أمتي شكايات : الأولى : أني لم أكلفهم عمل الغد وهم يطلبون مني رزق الغد.
والثانية : أني لا أدفع أرزاقهم إلى غيرهم وهم يدفعون عملهم إلى غيري.
والثالثة : أنهم يأكلون رزقي ويشكرون غيري ويخونون معي ويصالحون خلقي.
والرابعة : أن العزة لي وأنا المعز وهم يطلبون العز من سواي.
والخامسة أني خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها".
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
فغان از بديها كه در نفس ماست
نه فعل نكوهست نه كفتار راست
دوخواهنده بودن بمحشر فريق
ندانم كدامين دهندم طريق
خدايا دو شمم زباطل بدوز
بنورم كه فردا بنارت مسوز
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّـاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ} .
{وَءَايَةٌ} علامة عظيمة ودلالة واضحة على البعث والجمع والإحضار وهو خبر مقدم للاهتمام به وقوله {لَهُمُ} أي : لأهل مكة إما متعلق بآية لأنها بمعنى العلامة أو بمضمر هو صفة لها والمبتدأ قوله {الارْضُ الْمَيْتَةُ} اليابسة الجامدة وبالفارسية : (خشك وبى كياه) {أَحْيَيْنَـاهَا} استئناف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية كأن قائلاً قال كيف تكون آية
391
فقال : أحييناها والإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة والمعنى ههنا هيجنا القوى النامية فيها وأحدثنا نضارتها بأنواع النباتات في وقت الربيع بإنزال الماء من بحر الحياة وكذلك النشور فإنا نحيى الأبدان البالية المتلاشية في الأجداث بإنزال رشحات من بحر الجود فنعيدهم أحياء كما أبدعناهم أولاً من العدم {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا} أي : من الأرض {حَبًّا} الحب الذي يطحن والبزر الذي يعصر منه الدهن وهو جمع حبة والمراد جنس الحبوب التي تصلح قواماً للناس من الأرز والذرة والحنطة وغيرها {فَمِنْهُ} أي : فمن الحب {يَأْكُلُونَ} تقديم الصلة ليس لحصر جنس المأكول في الحب حتى يلزم أن لا يؤكل غيره بل هو لحصر معظم المأكول فيه فإن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به ومنه صلاح الإنس حتى إذا قلّ قلّ الصلاح وكثر الضر والصياح وإذا فقد فقد النجاح باختلال الأشباح والأرواح ولأمر مّا قال عليه السلام : "أكرموا الخبز فإن الله أكرمه فمن أكرم الخبز أكرمه الله" وقال عليه السلام : "أكرموا الخبز فإن الله سخر له بركات السموات والأرض والحديد والبقر وابن آدم ولا تسندوا القصعة بالخبز فإنه ما أهانه قوم إلا ابتلاهم الله بالجوع" وقال عليه السلام : "اللهم متعنا بالإسلام وبالخبز فلولا الخبز ما صمنا ولا صلينا ولا حججنا ولا غزونا وارزقنا الخبز والحنطة" كما في "بحر العلوم".
قال في "شرعة الإسلام" : ويكرم الخبز بأقصى ما يمكن فإنه يعمل في كل لقمة يأكلها الإنسان من الخبز ثلاثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزانة الرحمة ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ودواب الأرض وآخرهم الخباز ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ابروباد ومه وخورشيد وفلك دركارند
تاتونانى بكف آرى وبغفلت نخورى
همه ازبهر توسر كشته وفرمان بردار
شرط انصاف نباشد كه توفرمان نبرى
(7/306)
ومن إكرام الخبز أن يلتقط الكسرة من الأرض وإن قلت فيأكلها تعظيماً لنعمة الله تعالى وفي الحديث : "من أكل ما يسقط من المائدة عاش في وسعة وعوفي في ولده وولد ولده من الحمق" ويقال أن التقاط الفتات مهور الحور العين ولا يضع القصعة على الخبز ولا غيرها إلا ما يؤكل به من الأدام.
ويكره مسح الأصابع والسكين بالخبز إلا إذا أكله بعده.
وكذا يكره وضع الخبز جنب القصعة لتستوي.
وكذا يكره أكل وجه الخبز أو جوفه ورمي باقيه لما في كل ذلك من الاستخفاف بالخبز والاستخفاف بالخبز يورث الغلاء والقحط كذا في "شرح النقاية والعوارف".
ـ وذكر ـ أن الأرز خلق من عرق النبي عليه السلام.
زعم بعضهم أن أهل الهند لما منعوا من إخراجه إلى الروم أطعموه البط ثم ذبحوه فأخرجوه خيفة منهم بهذه الحيلة.
قال بعض الكبار : من لم يأكل الأرز بهذا الزعم فليأكل السم.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا} وخلقنا في الأرض {جَنَّـاتٍ} بساتين مملوءة {مِّن نَّخِيلٍ} جمع نخلة {وَأَعْنَـابٍ} جمع عنب أي : من أنواع النخل والعنب ولذلك جمعا دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع.
فإن قلت : لم ذكر النخيل دون التمور حتى يطابق الحب والأعناب في كونها مأكولة لأن التمور والحب والأعناب كلها مأكولة دون النخيل.
قلت لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع
392
وذلك لأنها أول شجرة استقرت على وجه الأرض وهي عمتنا لأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام وهي تشبه الإنسان من حيث استقامة قدّها وطولها وامتياز ذكرها من بين النبات واختصاصها باللقاح ورائحة طلعها كرائحة المني ولطلعها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها ولو قطع رأسها ماتت كما قالوا أقرب الجماد إلى النبات المرجان لأنه ينبت في البحر كالنبات ويكون له أغصان وأقرب النبات إلى الحيوان النخل لأنها تموت بقطع رأسها ولا تثمر بدون اللقاح كما ذكر وأقرب الحيوان إلى الإنسان الفرس يعني : (ازحيثيت شعور وزيركى) ويرى المنامات كبني آدم ولو أصاب جمار النخلة آفة هلكت والجمار من النخلة كالمخ من الإنسان وإذا تقارب ذكورها وإناثها حملت حملاً كثيراً لأنها تستأنس بالمجاورة وإذا كانت ذكورها بين إناثها ألحقتها بالريح وربما قطع ألفها من الذكور فلا تحمل لفراقه ويعرض لها العشق وهو أن تميل إلى نخلة أخرى ويخف حملها وتهزل وعلاجه أن يشد بينها وبين معشوقها الذي مالت إليه بحبل أو يعلق عليها سعفة منه أو يجعل فيها من طلعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ومن خواص النخلة أن مضغ خوصها يقطع رائحة الثؤم وكذا رائحة الخمر.
وأما العنب فقد جاء في بعض الكتب المنزلة أتكفرون بي وأنا خالق العنب وله خواص كثيرة وكذا الزبيب روي أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الزبيب فقال : "بسم الله كلوا نعم الطعام الزبيب يشد العصب ويذهب الوصب ويطفىء الغضب ويرضي الرب ويطيب النكهة ويذهب البلغم ويصفي اللون" وماء الكرم الذي يتقاطر من قضبانها بعد كسحها ينفع للجرب شرباً ويجمع ويسقي للمشغوف بالخمر بعد شرب الخمر من غير علمه فيبغض الخمر قطعاً.
وأول من استخرج الخمر جمشيد الملك فإنه توجه مرة إلى الصيد فرأى في بعض الجبال كرمة وعليها عنب فظنها من السموم فأمر بحملها حتى يجرّ بها ويطعم العنب لمن يستحق القتل فيحملوه فتكسرت حباته فعصروها وجعلوا ماءها في ظرف فما عاد الملك إلى قصره إلا وقد تخمر العصير فأحضر رجلاً وجب عليه القتل فسقاه من ذلك فشربه بكره ومشقة ونام نومة ثقيلة ثم انتبه وقال : اسقوني منه فسقوه أيضاً مراراً فلم يحدث فيه إلا السرور والطرب فسقوا غيره وغيره فذكروا أنهم انبسطوا بعدما شربوه ووجدوا سروراً وطرباً فشرب الملك فأعجبه ثم أمر بغرسه في سائر البلاد وكانت الخمر حلالاً في الأمم السالفة فحرمها الله تعالى علينا لأنها مفتاح لكل شر وجالبة لكل سوء وضرّ ومميتة للقلب ومسخطة للرب في الحديث "خير خلكم خل خمركم" وذلك لأن انقلاب الخمر إلى الخل مرضاة للرب.
وفيه خواص كثيرة وأكثر الناس السعال والتنحنح في مجلس معاوية فأمر بشرب خل الخمر.
والخل ورد فيه "نعم الأدام" وقد تعيش به كثير من السلف الكرام نسأل الله القناعة على الدوام {وَفَجَّرْنَا} الفجر شق الشيء شقاً واسعاً كما في "المفردات".
قال بعضهم : التفجير كالتفتيح لفظاً ومعنى وبناء التفعيل للتكثير والمعنى بالفارسية : (دركشاديم وروانه كرديم) {فِيهَا} أي : في الأرض {مِنَ الْعُيُونِ} جمع عين وهي في الأصل الجارحة ويقال لمنبع الماء عين تشبيهاً بها في الهيئة وفي سيلان الماء منها ومن عين الماء اشتق ماء معين أي : ظاهر للعيون ومعنى من العيون من ماء العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو العيون
393
ومن مزيدة على رأي الأخفش.
(7/307)
واعلم أن تفجير الأنهار والعيون في البلاد رحمة من الله تعالى على العباد إذ حياة كل شيء من الماء وللبساتين منه النضارة والنماء.
والعيون إما جارية وإما غير جارية والجارية غير الأنهار إذ هي أكثر وأوسع من العيون ومنبعها غير معلوم غالباً كالنيل المبارك حيث لم يوجد رأسه وغير الجارية هي الآبار.
وفي الدنيا عيون وآبار كثيرة وفي بعضها خواص زائدة كعين شبرم وهي بين أصفهان وشيراز وهي من عجائب الدنيا وذلك أن الجراد إذا وقعت بأرض يحمل إليها من ذلك العين ماء في ظرف أو غيره فيتبع ذلك الماء طيور سود تسمى السمرمر ويقال له السوادية بحيث أن حامل الماء لا يضعه إلى الأرض ولا يلتفت وراءه فتبقى تلك الطيور على رأس حامل الماء في الجو كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد فتصيح الطير عليها فتقتلها فلا يرى شيء من الجراد متحركاً بل يموت من أصوات تلك الطيور.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
يقول الفقير : في حد الروم أيضاً عين يقال لها ماء الجراد وهي مشهورة في جميع البلاد الرومية ينقل ماؤها من بلدة إلى بلدة القتل الجراد إذا استولت وقد حصلت تلك الخاصية لها بنفس من أنفاس بعض الأولياء وإن كان التأثير في كل شيء من الله تعالى ولهذا نظائر منها أن في قبر إبراهيم بن أدهم قدس سره ثقبة إذا قصد ظالم بسوء البلدة التي فيها ذلك القبر المنيف يخرج من تلك الثقبة نحل وزنابير تلسعه ومن يتبعه فيتفرقون ، وفي "المثنوي" :
اولياراهست قوت ازآله
تير جسته باز كرداند زراه
نسأل الله العصمة والتوفيق والشرب من عين التحقيق.
{لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ} متعلق بجعلنا وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادي الأثمار أي : وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مبادي أثمارها ليأكلوا من ثمر ما ذكر من الجنات والنخيل ويواظبوا على الشكر أداء لحقوقنا ففيه إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} عطف على ثمره وأيديهم كناية عن القوة لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده فصار ذكر اليد غالباً في الكناية ومثله ذلك بما قدمت أيديكم وفي كلام العجم (بدست خويش كردم بخويشتن) وأنت لا تنوي اليد بعينها كما في "كشف الأسرار" والمعنى وليأكلوا من الذي عملته أيديهم وهو ما يتخذ منه من العصير والدبس ونحوهما.
وقيل ما نافية والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحل الجملة النصب على الحالية ويؤكد الأول قراءة عملت بلا هاء فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها {أَفَلا يَشْكُرُونَ} إنكار واستقباح لعدم شكرهم النعم المعدودة والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : يرون هذه النعم أو يتنعمون بها فلا يشكرونها بالتوحيد والتقديس والتحميد (صاحب بحر الحقائق فرموده كه معنى آيت بزبان اهل اشارت آنست كه زمين دلرازنده كرديم بباران عنايت وبيرون آورديم ازان حب طاعت تا ارواح ازان غذامى يابند وساختيم بوستانها ازنخيل اذكار واعناب أشواق وعيون حكمت دورى روان كرديم تا ازاثمار مكاشفات ومشاهدات تمتع مى كيرند از نتايج اعمال كه كرده اند از صدقات وخيرات آياساس دارى نميكنند يعنى ساس نمى بايد داشت برين نعم ظاهره وباطنه تا موجب مزيد آن شودكه) {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم : 7) :
394
كر شكر كنى زياده كردد نعمت
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وزدل ببرد دغدغه بيش وكمت
س زود بسر منزل مقصود رسى
از منهج شكر آكه نلغزد قدمت
{لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَـانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا} .
{سُبْحَـانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} سبحان علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقاداً وقولاً أي : اعتقاد البعد عنه والحكم به فإن العلم كما يكون علماً للأشخاص كزيد وعمرو وللأجناس كأسامة يكون للمعاني أيضاً لكن علم الأعيان لا يضاف وهذا لا يجوز بغير إضافة كما في الآية أقيم مقام المصدر وبين مفعوله بإضافته إليه والمراد بالأزواج الأصناف والأنواع جمع زوج بالفارسية : (جفت) خلاف الفرد ويقال للأنواع أزواج لأن كل نوع زوج بقسميه.
وفي سبحان استعظام ما ذكر في حيز الصلة من بدائع آثار قدرته وروائع نعمائه الموجبة للشكر وتخصيص العبادة به والتعجب من إخلال الكفرة بذلك والحالة هذه فإن التنزيه لا ينافي التعجب.
والمعنى أسبح الذي أوجد الأصناف والأنواع سبحانه أي : أنزهه عما لا يليق به عقداً وعملاً تنزيهاً خاصاً به حقيقاً بشأنه فهو حكم منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به كما فعله الكفار من الشرك وما تركوه من الشكر وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه.
(7/308)
وقال بعضهم سبحان مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء على أن تكون الجملة أخبار من الله بالتنزه تعالى بذاته عن كل ما لا يليق به تنزهاً خاصاً ومن هو خالق الأصناف والأنواع كيف يجوز أن يشرك به ما لا يخلق شيئاً بل هو مخلوق عاجز.
قال ابن الشيخ : والتنزيه يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك الاعتقاد وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعاً وهو العمل الصالح والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئاً ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أفعال جوارحه فاللسان ترجمان الجنان والأركان ترجمان اللسان {مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ} بيان للأزواج والمراد كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي : خلق الأزواج من أنفسهم أي : الذكر والأنثى {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي : والأزواج مما لا يطلعهم على خصوصياته لعدم قدرتهم على الإحاطة بها ولما أنه لم يتعلق بها شيء من مصالحهم الدينية والدنيوية.
قال القرطبي : أي من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر ويعلمه الملائكة ويجوز أن لا يعلمه مخلوق.
يقال : دواب البحر والبر ألف صنف لا يعلم الناس أكثرها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال في "بحر العلوم" : ويجوز أن يكون المعنى مما لا يدركون كنهه مما خلق من الأشياء من الثواب والعقاب كما قال عليه السلام : "أربع لا تدرك غايتها شرور النفس وخداع إبليس وثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار" ومنه الروح فإنه ما بلغنا أن الله تعالى اطلع أحداً على حقيقة الروح.
وفي الآية إشارة إلى أنه ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعاً إذ الفردية من أخص أوصاف الربوبية كما قال عبد العزيز المكي رحمه الله خلق الأزواج كلها ثم قال : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} ليستدل بذلك أن خالق الأشياء منزه عن الزوج وإلى أن في كل شيء دليلاً على وجوده تعالى ووحدته وكمال قدرته.
قال في "كشف الأسرار" : (هريكى برهستى الله كواه وبريكانكىء وى نشان نه كواهى دهنده را خردنه نشان دهنده را زبان) :
395
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
قال في "أنيس الوحدة وجليس الخلوة" (وقتى ادشاهى بوداورا بكفر وزندقه ميلى بود وزيرى داشت عاقل ومسلمان خواست كه ادشاهرا ازان باز آورد وعادت وزير آننان بودكه هرسال ادشاهرا يكبار ضيافت كردى ون وقت ضيافت در رسيد ادشاهرا دعوت كرد بزمين شورستان كفت آنجاى ه اى ميزبانيست وزير كفت آنجا بوستانهاى خوش وانهار دلكش رواه وعمارتهاى كران ظاهر شده است بى آنكه كسى مباشرت واقدام نموده ادشاه ون اين سخن دور از عقل شنيد بخنديد وكفت در عقل ه كونه كنجد كه بنابى بنا كننده ظاهر شود وزير كفت ظاهر شدن عالم علوى وسفليست باندين عجائب وغرائب بى آفريدكارى ه كونه معقول بود ادشاهرا اين سخن عظيم خوش آمد واورا سعادت وهدايت روى نمود) :
شمها وكوشهارا بسته اند
جز مراآنهاكه از خود رسته اندجز عنايت كى كشايد شم را
جز محبت كى نشاند خشم را
ون كريزم زانكه بى توزنده نيست
بى خداونديت بود بنده نيستتوبه بى توفيقت اى نور بلند
يست جز بدريش توبه ريش خند
نسأل الله الوقوف على أسراره والاستنارة بأنوار آثاره إنه الظاهر في المجالي بحسن أسمائه وصفاته والباطن بحقائق كمالاته في غيب ذاته.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ} أي : علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا وهو مبتدأ خبره قوله {الَّيْلُ} المظلم كأنه قيل كيف كان آية فقيل {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} المضيىء أي : نزيل النهار ونكشفه على مكان الليل ونلقي ظله بحيث لا يبقى معه شيء من ضوئه الذي هو شعاع الشمس في الهواء مستعار من السلخ وهي إزالة ما بين الحيوان وجلده من الاتصال وإن غلب في الاستعمال تعليقه بالجلد يقال سلخت الاهاب بمعنى أخرجتها عنه {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} داخلون في الظلام مفاجأة فإن إذا للمفاجأة أي : ليس لهم بعد ذلك أمر سوى الدخول فيه.
وفيه رمز إلى أن الأصل هو الظلمة والنور عارض متداخل في الهواء فإذا خرج منه أظلم فعلى هذا المعنى كان الواقع عقيب إذهاب الضوء عن مواضع ظلمة الليل هو ظهور الظلمة كما كان الواقع عقيب سلخ الإهاب هو ظهور المسلوخ وأما على معنى الإخراج فالواقع بعده وإن كان هو الإبصار دون الإظلام والمقام مقام أن يقال فإذا هم مبصرون لكن لما كان الليل زمان ترح وألم وعدم إبصار والنهار وقت فرح وسرور وإبصار جعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة إذ زمان السرور ليس فيه مهلة حكماً وإن كان ممتداً بخلاف زمان الغم فإنه كان فيه المهلة وإن كان قصيراً كما قيل سنة الوصل سنة وسنة الهجر ألف سنة ، وقيل :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ويوم لا أراك كألف شهر
وشهر لا أراك كألف عام
قال الحافظ :
آندم كه باتو باشم يكساله هست روزى
(7/309)
واندم كه بى توباشم يكلحظه هست سالى
محن الزمان كثيرة لا تنقضي
وسروره يأتسك كالأعياد
396
وفي الخبر عن سلمان رضي الله عنه قال : الليل موكل به ملك يقال له شراهيل فإذا حان وقته أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب فإذا نظرت إليها الشمس وجبت" أي : سقطت في أسرع من طرفة العين وقد أمرت أن لا تغرب حتى ترى الخرزة فإذا غربت جاء الليل وقد نشرت الظلمة من تحت جناحي الملك فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيىء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع فإذا رأتها الشمس طلعت في طرفة عين وقد أمرت أن لا تطلع حتى ترى الخرزة البيضاء فإذا طلعت جاء النهار وقد نشر النور من تحت جناحي الملك فلنور النهار ملك موكل ولظلمة الليل ملك موكل عند الطلوع والغروب كما وردت الأخبار ذكره السيوطي في كتاب "الهيئة السنية".
قال في "كشف الأسرار" : (بزركى رامر سيدندكه شب فاضلتر يا روز جواب دادكه شب فاضلتركه درهمه شب آسايش وراحت بود والراحة من الجنة ودر روز همه رنج ودشوارى بود اندر طلب معاش والمشقة من النار).
يقول الفقير : فكون النهار زمان سرور بالنسبة إلى العامة أيضاً إذا كانت ليلة الإفطار فإن للصائم فرحة عند ذلك كما ورد في الحديث (وبزركى كفت شب حظ مخلصانست كه عبادت باخلاص كنند ريا دران نه وروز حظ مرائيانست كه عبادت بريا كنند اخلاص دران نه وحى آمد ببعض انبياكه) كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب خلوة حبيبه ها أنا مطلع عليكم أسمع وأرى.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ} البشرية {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} الروحانية {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} بظلمة الخلقية فإن الله خلق الخلق بظلمة ثم رش عليهم من نوره.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَالشَّمْسُ} معطوف على الليل أي : وآية لهم الشمس المضيئة المشرقة على صحائف الكائنات كإشراق نور الوجود مطلق الفائض على هياكل الموجودات حسب التجليات الإلهية كأنه قيل كيف كانت آية فقيل : {تَجْرِى} أو حال كونها جارية وسائرة {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} فيه وجوه : الأول أن اللام في المستقر للتعليل والمستقر اسم مكان أي : تجري لبلوغ مستقر واحد معين ينتهي إليه دورها في آخر السنة فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره.
والثاني : أن اللام بمعنى إلى والمستقر كبد السماء أي : وسطها والمعنى تجري إلى أن تبلغ إلى وسط السماء وتستقر فيه شبه بطؤ حركتها فيه بالوقفة والاستقرار وإلا فلا استقرار لها حقيقة كما قال في "المفردات" : الزوال يقال في شيء قد كان ثابتاً ومعلوم أن لا ثبات للشمس فكيف يقال زوال الشمس فالجواب قالوه لاعتقادهم في الظهيرة أن لها ثباتاً في كبد السماء وكما قال في "شرح التقويم" : فإن قلت : لم سميت السيارة بها وليست السموات بساكنة؟ قلت : لسرعة حركتها بالنسبة إلى حركة الكواكب الباقية فإن حركتها في غاية البطؤ ولذلك تسمى ثوابت.
والثالث أن اللام لام العاقبة والمستقر مصدر ميمي أي : تجري بحيث يترتب على جريها استقرارها في كل برج من البروج الإثني عشر على نهج مخصوص بأن تستقر في كل برج شهراً ويأخذ الليل من النهار في نصف الحول والنهار من الليل في النصف الآخر منه وتبلغ نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية انحطاطها في الشتاء ويترتب عليه اختلاف الفصول الأربعة وتهيئة أسباب معاش الأرضيات وتربيتها.
والرابع أن المعنى المنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلاثمائة وستين
397
مشرقاً ومغرباً تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليها إلى العام القابل فالمستقر اسم زمان أي : تجري إلى زمان استقرارها وانقطاع حركتها عند خراب العالم أو إلى وقت قرارها وتغير حالها بالطلوع من مغربها كما قال أبو ذر رضي الله عنه : دخلت المسجد ورسول الله عليه السلام جالس فلما غابت الشمس قال عليه السلام : "يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس" فقلت : الله ورسوله أعلم فقال : "تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد ولا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله والشمس تجري لمستقر لها" وفهم من الحديث أن المستقر أيضاً تحت العرش والمراد بالسجدة الانقياد ويجوز أن تكون على حقيقتها فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها حياة وإدراكاً يصح معهما سجدتها كما سبق نظائرها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعض العارفين : تسجد بروحها عند العرش كما تسجد الروح عند النوم إذا باتت على طهارة.
(7/310)
قال إمام الحرمين وغيره من الفضلاء : لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند قوم آخرين وعند خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويين أبداً والأرض مدورة مسيرة خمسمائة عام كأنها نصف كرة مدورة فيكون وسطها أرفع ولذلك سموا الجزيرة التي هي وسط الأرض كلها المستوي فيها الليل والنهار قبة الأرض وحول الأرض البحر الأعظم المحيط فيها ماء غليظ منتن لا تجري فيه المراكب وحول هذا البحر جبل قاف خلق من زمرد أخضر وسماء الدنيا مقبية عليه ومنه خضرتها.
وسئل الشيخ أبو حامد رضي الله عنه عن بلاد بلغار كيف يصلون لأن الشمس لا تغرب عندهم إلا مقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع فقال : يعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم والأصح عند أكثر الفقهاء أنهم يقدرون الليل والنهار ويعتبرون بحسب الساعات كما قال عليه السلام في حق الدجال : "يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة فيقدر الصلاة والصيام في زمنه" {ذَالِكَ} الجري البديع المنطوي على الحكم العجيبة التي تتحير في فهمها العقول والافهام {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الغالب بقدرته على كل مقدور {الْعَلِيمِ} المحيط علمه بكل معلوم.
قال في "المفردات" : التقدير تبيين كمية الشيء.
وتقدير الله الأشياء على وجهين : "أحدهما" : بإعطاء القدرة.
"والثاني" : أن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة.
وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ومعنى إيجاده بالفعل إظهاره.
وضرب إجراه بالقوة وقدره على وجه لا يتأتى غير ما قدر فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون وتقدير مني الآدمي أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات.
فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحكم منه أن يكون كذا ولا يكون كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإمكان.
والثاني بإعطاء القدرة عليه.
وفي الآية إشارة إلى شمس نور الله فإنها {تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله {ذَالِكَ} المستقر {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الذي لا يهتدي إليه أحد إلا به {الْعَلِيمِ} الذي يعلم حيث يجعل رسالته فليس كل قلب مستقراً لذلك النور فلا بد من التهيئة والتصقيل إلى أن يتلطف ويزول منه كل ثقيل مما يتعلق بظلمات الكون والفساد.
398
كوهر انواررا دلهاى اك آمد صدق†
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ} بالنصب بإضمار فعل يفسره الظاهر كما في زيداً ضربته أي : وقدرنا القمر قدرناه أي : قدرنا له وعينا {مَنَازِلَ} وهي ثمان وعشرون مقسومة على الاثني عشر برجاً كما استوفينا الكلام عليها في أوائل سورة يونس ينزل القمر كل ليلة في واحدة من تلك المنازل لا يتخطاها ولا يتقاصر عنها فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة إن كان تسعة وعشرين وقد صام عليه السلام ثمانية أو تسعة رمضانات خمسة منها كانت تسعة وعشرين يوماً والباقي ثلاثين وقد قال عليه السلام : "شهرا العيد لا ينقصان" أي : حكمهما إذا كانا تسعاً وعشرين مثل حكمهما إذا كانا ثلاثين في الفضل وقد صح أن دور هذه الأمة هو الدور القمري العربي الذي حسابه مبني على الشهر لا الدور الشمسي الذي مبني حسابه على الأيام {حَتَّى عَادَ} (تا عود كرد ماه).
وقال ابن الشيخ : حتى صار القمر في آخر الشهر وأول الشهر الثاني في دقته واستقواسه واصفراره {كَالْعُرْجُونِ} فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة.
والعذق بالكسر في النخل بمنزلة العنقود في الكرم بالفارسية (خوشه خرما).
والشماريخ جمع شمراخ او شمروخ ما عليه البسر من العيدان {الْقَدِيمِ} العتيق فإذا قدم وعتق دق وتقوس واصفر شبه به القمر في آخر الشهر في هذه الوجوه الثلاثة أي : في عين الناظر وإن كان في الحقيقة عظيماً بنفسه فالقديم ما تقادم عهده بحكم العادة ولا يشترط في إطلاق لفظ القديم عليه مدة بعينها إذ يقال لبعض الأشياء قديم وإن لم يمض عليه حول وقيل أقل هذا القديم الحول فمن حلف كل مملوك قديم لي فهو حر عتق من مضى عليه الحول
(7/311)
قال في "كشف الأسرار" : (ازروى حكمت كفته اندكه زيادت ونقصان ماه از آنست كه در ابتداى آفرينش نور او بر كمال بود بخود نظرى كرد عجبى دورى يدا شد رب العزة جبريل را فرمود تا رخويش برروى ماه زد وآن نور ازوى بستاد ابن عباس رضي الله عنهما كفت آن خطهاكه برروى ماه مى بينيد نشان ر جبرائيل است نور ازوى بست اما نقش برجاى بماند ونقش كلمه توحيداست بريشانى ماه نبشت "لا اله إلا الله محمد رسول الله" ياخود حروفى كه ازان اسم جميل حاصل ميشود ون نور ازماه بستدند اورا از خدمت دركاه منع كردند ماه ازفرشتكان مدد خواست تا از بهروى شفاعت كردند كفتند بارخدايا ماه درخدمت دركاه عزت خوى كرده هي روى آن دارد كه بيكباركى اورا مهجور كنى رب العزة شفاعت ايشان قبول كرد واورا دستورى داد تا هر ما هى بيكبار سجود كند درشب ارده اكنون هرشب كه برآيد وبوقت خدمت نزديكتر مى كردد نوروى مى افزايد تاشب هارده كه وقت سجود بود نورش بكمال رسد بازون از هارده در كذرد هرشب در نوروى نقصان مى آيد ازبساط خدمت دورتر مى كردد).
وقيل شبيه الشمس عبد يكون ابداً في ضياء معرفته وهو صاحب تمكين غير متلون أشرقت شمس معرفته من بروج سعادته دائماً لا يأخذه كسوف ولا يستره حجاب.
وشبيه القمر عبد تكون أحواله في التنقل وهو صاحب تلوين له من البسط ما يرقيه
399
إلى حد الوصال ثم يرد إلى الفترة ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال فيتناقص ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه من وقته ثم يجود عليه الحق فيوفقه لرجوعه عن فترته وإفاقته من سكرته فلا يزال يصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال ويرتقي إلى ذروة الكمال فعند ذلك يقول بلسان الحال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ما زلت أنزل من ودادك منزلاً
تتحير الألباب عند نزوله
وفي "التأويلات النجمية" : وبقوله : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ} يشير إلى قمر القلب فإن القلب كالقمر في استفادة النور من شمس الروح أولاً ثم من شمس شهود الحق تعالى ثانياً وله ثمانية وعشرون منزلاً على حسب حروف القرآن كما أن للقمر ثمانية وعشرون منزلاً فالقلب ينزل في كل حين منها بمنزل وهذه أسماؤها الإلفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والضرر والطلب والظمأ والعشق والغيرة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين فإذا صار إلى آخر منازله فقد تخلق بخلق القرآن واعتصم بحبل الله وله آن أن يعتصم بالله ولهذا قال الله تعالى لنبيه في قطع منازل العبودية {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) ويقال للمؤمن في الجنة اقرأ وارق يعني اقرأ القرآن وارتق في مقامات القرب وبقوله {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} يشير إلى سير قمر القلب في منازله فإذا ألف الحق تعالى في أول منزله ثم بر بالإيمان والعمل الصالح ثم تاب وتوجه إلى الحضرة ثم ثبت على تلك التوبة جعل له الجمعية مع الله فيستنير قمر قلبه بنور ربه حتى يصير بدراً كاملاً ثم يتناقص بدنوه من شمس شهود الحق تعالى قليلاً كلما ازداد دنوه من الشمس ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى ويخفى ولا يرى له أثر وهذا مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله : "الفقر فخري" لأنه عليه السلام كلما ازداد دنوه إلى الحضرة ليلة المعراج ازداد في فقره عن الوجود كما أخبر الله تعالى عنه بقوله : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم : 9) كمل ههنا فقره عن الوجود فوجده الله تعالى عائلاً فأغناه بجوده انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
واعلم أن القمر مرآة قابلة لأن تكتسب النور من قرص الشمس حسب المحاذاة بينهما ولما كان دور الشمس بطيئاً كان ظهور أثرها دائراً على حصول الفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء ولما كان دور القمر سريعاً كان ظهور أثره في الكون سريعاً وإلى القمر ينظر القلب في سرعة الحركة ولهذا السر أسكن الله آدم في فلك القمر لمناسبة باطنه به في سرعة حركاته وتقلباته.
ثم إن القمر مرئي مدرك وأما الشمس في إشراقها وإضاءتها وتلألؤ شعاعها لا تدرك كيفيتها وكميتها على ما هي عليه من تمنعها وامتناعها واحتيج إلى طريق يتوصل به إلى أبصارها بقدر الوسع فأفادت الفكرة والخبرة أن يأخذ الإنسان إناءً كثيفاً ويملأه ماءً صافياً نظيفاً ويضعه في مقابلة الشمس لتنعكس صورة من الشمس في الماء فيلاحظ الإنسان الشمس بغير دفع تلألؤ الأضواء ويراها في أسفل قعر الإناء فإن اللطيف من شأنه القبول والكثيف من شأنه الإمساك فقبل الماء وأمسك الإناء وهذا تدبير من يريد إبصار الشمس الظاهرة بمقلته
400
(7/312)
الباصرة فإذا كان الشمس الظاهرة المتناهية لا يدرك عكسها بالاستعدادات السابقة والتدبيرات اللاحقة فما ظنك بشمس عالم الأحدية الإلهية الربوبية الغير المتناهية وإن نسبتها إليه في الإنارة والإضاءة والظهور والإظهار ودفع أنوار العظمة ليست إلا كذرّة في الآفاق والسبع الطباق أو كقطرة بالنسبة إلى البحار الزاخرة أو كجزء لا يتجزأ بالنسبة إلى الدنيا والآخرة سبحان الله وله المثل الأعلى في الأرض والسماء فإذا عرفت هذا المثال عرفت حال القلب مع شمس الربوبية وانعكاس نورها فيه.
قال الشيخ المغربي قدس سره :
نخست ديده طلب كن س آنكهى ديدار
از آنكه يار كند جلوه بر اولو الأبصار
تراكه شم نباشد ه حاصل از شاهد
تراكه كوش نباشد ه سود از كفتار
اكره آينه دارى از براى رخش
ولى ه سود كه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد ز آينه بزدآى
غبار شرك كه تا اك كردد از نكار
وقال أيضاً :
كجا شود بحقيقت عيان جمال حقيقت
اكر مظاهر وآينه مجاز نباشد
مجوى دردل ما غير دوست زانكه نيابى
از آنكه در دل محمود جز اياز نباشد
به يش عقل مكو قصهاى عشق كه آنرا
قبول مى نكند آنكه عشقباز نباشد
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ} هو أبلغ من لا ينبغي للشمس كما أن أنت لا تكذب بتقديم المسند إليه آكد من لا تكذب أنت لاشتمال الأول على تكرر الإسناد.
ففي ذكر حرف النفي مع الشمس دون الفعل دلالة على أن الشمس مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وقدر لها وينبغي أن الانفعال وثلاثيه بغي يبغي بمعنى طلب تجاوز الاقتصار فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوز وإما استعمال انبغى ماضياً فقليل.
قال في "كشف الأسرار" : يقال بغيت الشيء فانبغى لي أي : استسهلته فتسهل لي وطلبته فتيسر لي والمعنى لا الشمس يصح لها ويتسهل وبالفارسية : (نه آفتاب سزد مرورا وشايد) {أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} في سرعة سيره فإن القمر أسرع سيراً حيث يقطع فلكه ويدور في منازله الثماني والعشرين في شهر واحد بخلاف الشمس فإنها أبطأ منه حيث لا تقطع فلكها ولا تدور في تلك المنازل المقسومة على الاثني عشر برجاً إلا في سنة فيكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً فهي لا تدرك القمر في سرعة سيره فإنه تعالى جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زحل وهو كوكب السماء السابعة وذلك لأن الشمس كاملة النور فلو كانت بطيئة السير لدامت زماناً كثيراً في مسامته شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث في بقعة واحدة بقدر ما يخرج النبات من الأرض والأوراق والثمار من الأشجار وبقدر ما ينضج الثمار والحبوب ويجف فلو أدركت القمر في سرعة سيره لكان في شهر واحد صيف وشتاء فيختل بذلك أحكام الفصول وتكوّن النبات وتعيش الحيوان ويجوز أن يكون المعنى ليس للشمس أن تدرك القمر في آثاره ومنافعه مع قوة نورها وإشراقها فإن لكل واحد منهما آثاراً ومنافع تخصه وليس للآخر أن يدركه فيها كما قالوا الثمرة تنضجها الشمس ويلونها القمر ويعطيها الطعم الكوكب.
وقالوا إن سهيلاً
401
وهو كوكب يمنّى يعطي الحجر اللون الأحمر فيصير عقيقاً.
ويجوز أن يكون معنى أن تدرك القمر أي : في مكانه فإن القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه في مكانه ولا يجتمعان في موضع أو لا تدركه في سلطانه أي : نوره الذي هو برهان لوجوده فإن نوره إنما يكون بالليل فليس للشمس أن تجامعه في وقت من أوقات ظهور سلطانه بأن تطلع بالليل فتطمس نوره فسلطان القمر بالليل وسلطان الشمس بالنهار ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه وبطل سلطانه ودخل النهار على الليل.
وفي بعض التصاوير لا ينبغي للشمس أن تدرك سلطان القمر فتراه ناقصاً وذلك أن الله تعالى لما قبض نور القمر سأله القمر أن لا ترى الشمس نقصانه.
وقال بعض الكبار : جعل الله شهورنا قمرية ولم يجعلها شمسية تنبيهاً من الله تعالى للعارفين من عباده أن آية القمر بمحوه عن العالم لمن اعتبر في قوله تعالى وتدبر
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/313)
{لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي : في علو المرتبة والشرف فكان ذلك تقوية لكتم آياتهم التي أعطاها للمحمديين العربيين وأجراها وأخفاها فيهم يعني : أن آيات المحمديين ليست بظاهرة في ظواهرهم غالباً كآية القمر وستظهر كراماتهم في الآخرة التي هي آثار ما في بواطنهم من العلوم والكشوف والحقائق والخوارق {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي : ولا الليل يسبق النهار فيعجزه من أن ينتهي إليه ويجيىء الليل بعده ولكن الليل يعاقب النهار ويناوبه.
وقيل : المراد بهما آيتاهما وهما النيران وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس في محو نورها فيكون عكساً للأول فالمعنى لا يصح للقمر أيضاً أن يطلع في وقت ظهور سلطان الشمس وضوئها بحيث يغلب نورها ويصير الزمان كله ليلاً فهما يسيران الدهر ولا يدخل أحدهما على الآخر ولا يجتمعان إلا عند إبطال الله هذا التدبير ونقض هذا التأليف وتطلع الشمس من مغربها ويجتمع معها القمر كما قال تعالى : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة : 9) وذلك من أشراط الساعة.
فإن قلت إذا كان هذا عكس ما ذكر قبله كان المناسب أن يقال ولا الليل مدرك النهار.
قلت : إيراد السبق مكان الإدراك لأنه الملائم لسرعة سيره.
وفيه إشارة إلى أنه كما لا يصير القمر شمساً والشمس قمراً فكذلك قمر القلب بتوجهه إلى شمس شهود الحق يتنور بنورها كما قال تعالى : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (الزمر : 69) ولكنه لا يصير الرب تعالى عبداً ولا العبد رباً فإن للرب الربوبية وللعبد العبودية تعالى ا لله تعالى عما يقول أصحاب الحلول وأرباب الفضول {وَكُلَّ} أي : وكلهم على أن التنوين عوض عن المضاف إليه الذي هو الضمير العائد إلى الشمس والقمر والجمع باعتبار التكاثر العارض لهما بتكاثر مطلعهما فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات أو إلى الكواكب فإن ذكرهما مشعر {فِى فَلَكٍ} مخصوص معين من الأفلاك السبعة.
وفي "بحر العلوم" في جنس الفلك كقولهم كساهم الأمير حلة يريدون كساهم هذا الجنس والفلك مجرى الكواكب ومسيرها وتسميته بذلك لكونه كالفلك كما في "المفردات" والجار متعلق {يَسْبَحُونَ} السبح المر السريع في الماء أو في الهواء واستعير لمر النجوم في الفلك كما في "المفردات".
وقال في "كشف الأسرار" : والسبح الانبساط في السير كالسباحة في الماء وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه والمعنى يسيرون بانبساط
402
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وسهولة لا مزاحم لهم سير السابح في سطح الماء.
وأخرج السيوطي في كتاب "الهيئة السنية" خلق الله بحراً دون السماء جارياً في سرعة السهم قائماً في الهواء بأمر الله تعالى لا يقطر منه قطرة يجري فيه الشمس والقمر والنجوم فذلك قوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والقمر يدور دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر فإذا أحب الله أن يحدث الكسوف حرف الشمس عن العجلة فتقع في غمر ذلك البحر ويبقى سائراً على العجلة النصف أو الثلث أو ما شاء الرب تعالى للحكمة الربانية واقتضاء الاستعداد الكوني.
قال المنجمون قوله تعالى : {يَسْبَحُونَ} يدل على أن الشمس والقمر والكواكب السيارة أحياء عقلاء لأن الجمع بالواو والنون لا يطلق على غير العقلاء.
وقال الإمام الرازي : إن أرادوا القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فذلك لم يثبت والاستعمال لا يدل عليه كما في قوله تعالى في حق الأصنام {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} (الصافات : 92) وقوله : {أَلا تَأْكُلُونَ} (الذاريات : 27).
وقال الإمام النسفي جمع يسبحون بالواو والنون لأنه تعالى وصفها بصفات العقلاء كالسباحة والسبق والإدراك وإن لم يكن لها اختيار في أفعالها بل مسخرة عليها يفعل بها ذلك تجبراً.
يقول الفقير : هنا وجه آخر هو أن صيغة العقلاء باعتبار مبادي حركات الأفلاك والنجوم فإن مبادي حركاتها جواهر مجردة عن مواد الأفلاك في ذواتها ومتعلقة بها في حركاتها ويقال لتلك الجواهر النفوس الفلكية على أنه ليس عند أهل الله شيء خال عن الحياة فإن سرّ الحياة سار في جميع الأشياء أرضية كانت أو سماوية لا سيما الشمس والقمر اللذان هما عينا هذا التعين الكوني :
جمله ذرات زمين وآسمان
مظهر سرّ حياتست أي : جوان
كى تواند يافتن آنرا خرد
هست او سرى خرد كى ى برد
نسأل الله تعالى حقيقة الإدراك والحفظ عن الزلق والهلاك.
{لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِا وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/314)
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ} أي : علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا وهو خبر مقدم لقوله : {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} (الحمل : برداشتن).
قال في "القاموس" ذرأ كجعل خلق والشيء كثر ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين انتهى.
قال الراغب : الذرية أصلها الصغار من الأولاد وإن كان يقع على الصغار والكبار في المتعارف ويستعمل في الواحد والجمع وأصله الجمع انتهى ويطلق على النساء أيضاً لا سيما مع الاختلاط مجازاً على طريقة تسمية المحل باسم الحال لأنهم مزارع الذرية كما في حديث عمر رضي الله عنه حجوا بالذرية يعني النساء وفي الحديث نهى عن قتل الذراري يعني النساء والمعنى إنا حملنا أولادهم الكبار الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم {فِى الْفُلْكِ} (در كشتى) وهو ههنا مفرد بدليل وصفه بقوله : {الْمَشْحُونِ} أي : المملوء منهم ومن غيرهم والشحناء عداوة امتلأت منها النفوس كما في "المفردات" أو حملنا صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم يعني : (برداشتيم فرزندان خرد وزنان ايشانرا كه آنانرا قوت سفر نيست بر خشكى) وتخصيص الذرية بمعنى الضعفاء الذين يستصحبونهم في سفر البحر مع أن تسخير البحر والفلك نعمة في حق أنفسهم أيضاً لما أن استقرارهم في السفن أشق واستمساكهم فيها أعجب.
403
{وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ} مما يماثل الفلك {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل فإنها سفائن البر فتعريف الفلك للجنس لأن المقصود من الآية الاحتجاج على أهل مكة ببيان صحة البعث وإمكانه.
استدل عليه أولاً بإحياء الأرض الميتة وجعلها سبباً لتعيشهم.
ثم استدل عليه بتسخير الرياح والبحار والسفن الجارية فيها على وجهه يتوسلون بها إلى تجارات البحر ويستصحبون من يهمهم حمله من النساء والصبيان كما قال تعالى : {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70).
وقيل تعريفه للعهد الخارجي والمراد فلك نوح عليه السلام المذكور في قوله : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود : 37) فيكون المعنى إنا حملنا ذريتهم أي : أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك المشحون منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وخلقنا لهم من مثله أي : مما يماثل ذلك الفلك في صورته وشكله من السفن والزوارق وبالفارسية : (ون زورق وصندل وناو).
فإن قلت فعلى هذا لم لم يقل حملناهم وذريتهم مع أن أنفسهم محمولون أيضاً.
قلت : إشارة إلى أن نعمة التخليص عامة لهم ولأولادهم إلى يوم القيامة ولو قيل : حملناهم لكان امتناناً بمجرد تخليص أنفسهم من الغرق وجعل السفن مخلوقةتعالى مع كونها من مصنوعات العباد ليس لمجرد كونها صنعتهم بأقدار الله تعالى وإلهامه بل لمزيد اختصاص أهلها بقدرته تعالى وحكمته حسبما يعرب عنه قوله تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود : 37) والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب لأنها باختيارهم كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم بفلك نوح بالحمل لكونها بغير شعور منهم واختيار وأما قوله تعالى في سورة المؤمنين {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون : 22) فبطريق التغليب وجعل بعضهم المعنى الثاني أظهر لأنه إذا أريد بمثل الفلك الإبل لكان قوله : {وَخَلَقْنَا لَهُم} إلخ فاصلاً بين متصلين لأن قوله : {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} متصل بالفلك واعتذر عنه في "الإرشاد" بأن حديث خلق الإبل في خلال الآية بطريق الاستطراد لكمال التماثل بين الإبل والفلك فكأنها نوع منه.
وقيل : المراد بالذرية الآباء والأجداد فإن الذرية تطلق على الأصول والفروع لأنها من الذرء بمعنى الخلق فيصلح الاسم للأصل والنسل لأن بعضهم خلق من بعض فالآباء ذريتهم لأن منهم ذرأ الأبناء.
وفيه أن الذرية في اللغة لم تقع إلا على الأولاد وعلى النساء كما ذكر اللهم إلا أن يراد ذرية أبيهم آدم عليه السلام وهم الأصول والفروع إلى قيام الساعة والعلم عند الله تعالى (كفتند سه يزرا الله تعالى راند بكمال قدرت خويش شتران در صحرا وميغ در هوا وكشتى در دريا) وفهم من الامتنان بالحمل جواز ركوب البحر إلا من دخول الشمس العقرب إلى آخر الشتاء فإنه لا يجوز ركوبه حينئذٍ لأنه من الإلقاء إلى التهلكة كما في شرح "حزب البحر" للشيخ الزروقي قدس سره.
{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} الخ من تمام الآية فإنهم معترفون بمضمونه كما ينطق به قوله تعالى : {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (لقمان : 32) وفي تعليق الإغراق وهو بالفارسية (غرقه كردن) بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب هلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به.
قال في "بحر العلوم" : وهو محمول على الفرض والتقدير بدليل قوله {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا} (يس : 43 ـ 44) الخ والمعنى أن نشأ إغراقهم نغرقهم في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك
(7/315)
404
وبالفارسية (واكر خواهيم اهل كشتى راكه مراد ذريت مذكوره است غرقه سازيم ودر آب كشيم) فإن الغرق الرسوب في الماء {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} فعيل بمعنى مفعول أي : مصرخ وهو المغيب بالفارسية (فريادرس) والصريخ أيضاً صوت المستصرخ والمعنى فلا مغيث لهم يحرسهم من الغرق ويدفعه عنهم قبل وقوعه وبالفارسية : (س هي فريادرسى نيست مر ايشانرا كه از غرقه شدن نكاه دارد) قبل الوقوع {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} ينجون منه بعد وقوعه يقال أنقذه واستنقذه إذا خلصه من ورطة ومكروه {إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي : لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة ناشئة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتع بالفارسية (برخور دارى وانتفاع دادن) بالحياة مترتب عليهما إلى زمان قدر لآجالهم.
وفي الآية رد على ما زعم الطبيعي من أن السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة وأن المجوف لا يرسب فقال تعالى في رده : ليس الأمر كذلك بل لو شاء الله تعالى إغراقهم لأغرقهم وليس ذلك بمقتضى الطبيعة وإلا لما طرأ عليها آفة ورسوب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
والإشارة إلى أن المنعم عليه ينبغي أن لا يأمن في حال النعمة عذاب الله تعالى فإن كفار الأمم السالفة آمنوا من بطشه تعالى فأخذوا من حيث لا يشعرون فكيف يأمن أهل مكة وأهل السفينة لكن لا يعرفون قدر النعمة إلا بعد تحولها عنهم ولا قدر العافية إلا بعد الابتلاء بمصيبة.
قال الشيخ سعدي : (ادشاهى باغلام عجمى در كشتى نشسة بود غلام دريا را هر كزنديده بود ومحنت كشتى نكشيده كريه وزارى درنهاد ولرزه براندامش افتاد ندانكه ملاطفت كردند آرام نكرفت ملك را عيش از ومنغص شد اره ندانستند حكيمى دران كشتى بود ملك را كفت اكر فرمان دهى من اورا بطريقى خاموش كنم كفت غايت لطف باشد فرمود تا غلام را بدريا انداختند بارى ند غوطه بخورد مويش كرفتند وسوى كشتى آوردند بهر دودست درسكان كشتى آويخت ون بر آمد بكوشه بنشست وقرار كرفت ملك را عجب آمد ورسيد درين ه حكمت بود كفت اي خداوند اول محنت غرق شدن نشيده بود قدر سلامت كشتى نمى دانست همنان قدر عافيت كسى داندكه بمصيبت كرفتار آيد) :
اى سير ترا نان جوين خوش ننمايد
معشوق منست آنكه بنزديك توز شتست
حوران بهشتى را دوزخ بود اعراف
از دوز خيان رس كه اعراف بهشتست
فلا بد من مقابلة النعمة بالشكر والعطاء بالطاعة والاجتهاد في طريق التوحيد والمعرفة فإن المقصود من الإمهال هو تدارك الحال.
وفي "التأويلات النجمية" {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يشير إلى حمله عباده في سفينة الشريعة خواصهم في بحر الحقيقة وعوامهم في بحر الدنيا فإن من نجا من تلاطم أمواج الهوى في بحر الدنيا إنما نجا بحمله للعناية في سفينة الشريعة وكذا من نجا من تلاطم أمواج الشبهات في بحر الحقيقة إنما نجا بحمله لعواطف إحسان ربه في سفينة الشريعة بملاحية أرباب الطريقة {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ} وهو جناح همة المشايخ الواصلين الكاملين {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} يعني العوام في بحر الدنيا والخواص في بحر الحقيقة بكسر سفينة الشريعة فمن ركب من المتمنين بحر الحقيقة بلا سفينة الشريعة أو كسروا
405
السفينة أغرقوا فادخلوا ناراً {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا} وهم المشايخ فإنهم صورة رحمة الحق تعالى {وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} أي : إلى حين تدركهم العناية الأزلية انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ} .
(7/316)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي : لكفار مكة بطريق الإنذار وبالفارسية : (وون كفته شود مر كافرانراكه) {اتَّقُوا} (بترسيد) {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي : العقوبات النازلة على الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم واحذروا من أن ينزل بكم مثلها إن لم تؤمنوا جعلت الوقائع الماضية باعتبار تقدمها عليهم كأنها بين أيديهم {وَمَا خَلْفَكُمْ} من العذاب المعد لكم في الآخرة بعد هلاككم جعلت أحوال الآخرة باعتبار أنها تكون بعد هلاكهم كأنها خلفهم أو ما بين أيديكم من أمر الآخرة فاعملوا لها وما خلفكم من الدنيا فلا تغتروا بها وقيل غير ذلك وما قدمناه أولى لأن الله خوف الكفار في القرآن بشيئين أحدهما العقوبات النازلة على الأمم الماضية والثاني عذاب الآخرة {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إما حال من واو اتقوا أي : راجين أن ترحموا أو غاية لهم أي : كي ترحموا فتنجوا من ذلك لما عرفتم أن مناط النجاة ليس إلا رحمة الله وجواب إذا محذوف أي : اعرضوا عن الموعظة حسبما اعتادوه وتمرنوا عليه وزادوا مكابرة وعناداً كما دلت عليه الآية الثانية.
كسى راكه ندار در سر بود
مندار هركزكه حق بشنود
ز علمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي : احذروا من الدنيا وما فيها من شهواتها ولذائذها {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآخرة وما فيها من نعيمها وحورها وقصورها وأشجارها وأثمارها وأنهارها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بمشاهدة الجمال ومكاشفة الجلال وكمالات الوصال.
وقال بعضهم : {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أحوال القيامة الكبرى {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أحوال القيامة الصغرى فإن الأولى تأتي من جهة الحق والثانية تأتي من جهة النفس بالفناء في الله وبالتجرد عن الهيآت البدنية في الثانية والنجاة منها والرحمة هي الخلاص من الغضب بالكلية فإنه ما دامت في النفس بقية فالعبد لا يخلو عن غضب وحجاب وتشديد بلاء وعذاب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَمَآ} نافية {تَأْتِيهِم} تنزل إليهم {مِّنْ} مزيدة لتأكيد العموم {ءَايَةٍ} تنزيلية كائنة {مِّنْ} تبعيضية {رَبِّهِمْ إِلا} التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها {إِلا كَانُوا عَنْهَا} متعلق بقوله : {مُعْرِضِينَ} يقال : أعرض أي : أظهر عرضه أي : ناحيته والجملة حال من مفعول تأتي والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم في حال من الأحوال إلا حال إعراضهم عنها على وجه التكذيب والاستهزاء ويجوز أن يراد بالآيات ما يعم الآيات التنزيلية والتكوينية فالمراد بإتيانهم ما يعم نزول الوحي وظهور تلك الأمور لهم والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات الشاهدة بوحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية إلا كانوا تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان به تعالى فكل ما في الكون فهو صورة صفة من صفاته تعالى وسر من أسرار ذاته.
مغربى آنه عالمش خواند
عكس رخسارتست در مرآت
406
وانه او آدمش همى داند
نسخه عالمست مظهر ذات
وقال المولى الجامي قدس سره :
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
ثم إن أعظم الآيات وأكبر العلامات الرجال البالغون الكاملون في الدين من أرباب الحقيقة وأهل اليقين فمن وفق للقبول والتسليم وتربى بتربيتهم الحسنة إلى أن يحصل على القلب السليم نجا وكان مقبلاً مقبولاً.
ومن قابلهم بالإعراض ونازلهم بالاعتراض هلك وكان مدبراً مردوداً.
قال بعض الكبار : من عدم الإنصاف إيمان الناس بما جاء من أخبار الصفات على لسان الرسل وعدم الإيمان بها إذا أتى بها أحد من العلماء الوارثين لهم فإن البحر واحد وإذا لم يؤمنوا بما جاءت به الأولياء فلا أقل من أن يأخذوه منهم على سبيل الحكاية وكما جاءت الأنبياء مما تحيله العقول من الصفات وآمنا به كذلك يجب الإيمان بما جاء به الأولياء المحفوظون وكما سلمنا ما جاء به الأصل كذلك نسلم ما جاء به الفرع بجامع الموافقة انتهى.
(7/317)
وأما قول أبي حنيفة رضي الله عنه ما أتانا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم فعلى الرأس والعين وما أتانا عن الصحابة رضي الله عنهم فنأخذ تارة ونترك أخرى وما أتانا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فإنما هو بالنظر إلى الاجتهاد الظاهر الذي يختلف فيه العلماء والإعراض فيه انتقال من الأدنى إلى الأعلى بحسب الدليل الأقوى وقد يفتح الله على الطالب على لسان شيخه بعلوم لم تكن عند الشيخ لحسن أدبه مع الله ومع شيخه.
وسأل الأعمش أبا حنيفة عن مسائل فأجاب فقال الأعمش من أين لك هذا قال مما حدثتنا به فقال : يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة وهي الجماعة المنسوبة إلى الصندل وهو شجر طيب الرائحة قلبت النون ياء كما يقال صندلاني وصيدلاني والمراد من يبيع مواد الأدوية.
ومن علامة العلم المكتسب دخوله في ميزان العقول وعلامة العلم الموهوب أن لا يقبله ميزان إلا في النادر وترده العقول من حيث أفكارها.
ومن أعظم المكر بالعبد أن يرزق العلم ويحرم العمل به أو يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه فإذا رأيت يا أخي هذا من نفسك أو علمته من غيرك فاعلم أن المقبل به ممكور به فالإقبال إلى الله تعالى إنما هو بالإخلاص فإن وجه الرياء إلى الغير حفظنا الله تعالى وإياكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي : للكافرين بطريق النصيحة {أَنفِقُوا} على المحتاجين {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي : بعض ما أعطاكم بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالصانع تعالى وهم زنادقة كانوا بمكة.
والزنديق من لا يعتقد إلهاً ولا بعثاً ولا حرمة شيء من الأشياء {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} تهكماً بهم وبما كانوا عليه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى حيث كانوا يقولون لو شاء الله لأغنى فلاناً ولو شاء الله لأعزه ولو شاء لكان كذا وكذا وإنما حمل على التهكم لأن المعطلة ينكرون الصانع فلا يكون جوابهم المذكور عن اعتقاد وجدّ {أَنُطْعِمُ} من أموالنا حسبما تعظوننا به وبالفارسية : (آيا طعام دهيم) أي : لا نطعم فإن الهمزة للإنكار والطعام في الأصل البر وقوله عليه السلام في ماء زمزم "إنه طعام طعم وشفاء سقم" فتنبيه منه إنه غذاء بخلاف سائر المياه {مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي : على
407
زعمكم يعني : (خداكه بزعم شما قادرست بر اطعام خلق بايستى كه ايشانرا طعام دهد ون او طعام نداد مانيز نمى دهيم) {إِنْ أَنتُمْ} (نيستيد شما اى مؤمنان) {إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} الضلال العدول عن الطريق المستقيم ويضاده الهداية ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمداً كان أو سهواً يسيراً كان أو كثيراً ولهذا صح أن يستعمل فيمن يكون منه خطأ ما كما في "المفردات".
والمعنى في خطأ بين بالفارسية : (كمراهى آشكارا) حيث تأمروننا بما يخالف مشيئة الله تعالى (واين سخن ازايشان خطا بود براى آنكه بعض مردم را خداى تعالى توانكر ساخته وبعضى را دوريش كذشته وبجهت ابتلا حكم في فرموده كه اغنيا مال خدايرا بفقرا دهند س مشيت را بهانه ساختن وامر الهى راكه بانفاق فرموده فرو كذاشتن محض خطا وعين جفاست) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
درويش را خدا بتوانكر حواله كرد
تاكار او بسازد وفارغ كند دلش
ازروى بخل اكرنشود ملتفت بوى
فردا بود ندامت واندوه حاصلش
وفي الحديث "لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ولو شاء لجعلكم فقراء لا غني فيكم ولكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف الغني وكيف صبر الفقير" وهذه الآية ناطقة بترك شفقتهم على خلق الله وجملة التكاليف ترجع إلى أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وهم قد تركوا الأمرين جميعاً وقد تمسك البخلاء بما تمسكوا به حيث يقولون لا نعطي من حرم الله ولو شاء لأغناه نعم لو كان مثل هذا الكلام صادراً عن يقين وشهود وعيان لكان مفيداً بل توحيداً محضاً يدور عليه كمال الإيمان ولكنهم سلكوا طريق التقليد والإنكار والعناد ومن لم يهد الله فما له من هاد.
وكان لقمان يقول.
إذا مر بالأغنياء : يا أهل النعيم لا تنسوا النعيم الأكبر وإذا مر بالفقراء يقول : إياكم أن تغبنوا مرتين.
وعن علي رضي الله عنه أن المال حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام.
قال الفضيل رحمه الله : من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين نسأل الله تعالى فضله الكثير ولطفه الوفير فإنه مسبب الأسباب ومنه فتح الباب وفي "المثنوي" :
(7/318)
ما عيال حضرتيم وشير خواه
كفت الخلق عيال للالهآنكه او از آسمان باران دهد
هم تواند كو زرحمت نان دهد
كل يوم هو في شأن بخوان
مرورا بى كار وبى فعلى مدان {وَيَقُولُونَ} أي : أهل مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين إنكاراً واستبعاداً {مَتَى} (كى است) {هَـاذَا الْوَعْدُ} بقيام الساعة والحساب والجزاء.
ومعنى طلب القرب في هذا إما بطريق الاستهزاء وإما باعتبار قرب العهد بالوعد.
والوعد يستعمل في الخير والشر والنفع والضر والوعيد في الشر خاصة.
والوعد هنا بتضمن الأمرين لأنه وعد بالقيامة وجزاء العباد إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال في "كشف الأسرار" : : إنما ذكر بلفظ الوعد دون الوعيد لأنهم زعموا أن لهم الحسنى عند الله إن كان الوعد حقاً.
يقول الفقير : هذا إنما يتمشى في المشركين دون المعطلة وقد سبق أنهم زنادقة كانوا بمكة {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ}
408
في وعدكم فقولوا متى يكون وهذا الاستعجال بهجوم الساعة والاستبطاء لقيام القيامة إنما وقع تكذيباً للدعوة وإنكاراً للحشر والنشر ولو كان تصديقاً وإقراراً واستخلاصاً من هذا السجن وشوقاً إلى الله تعالى ولقائه لنفعهم جداً ولما قامت عليهم القيامة عند الموت كما لا تقوم على المؤمنين بل يكون الموت لهم عيداً وسروراً وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
خلق در بازار يكسان مى روند
آن يكى در ذوق وديكر دردمند
همنان درمرك وزنده مى رويم
نيم در خسران ونيمى خسرويم
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ} .
{مَا يَنظُرُونَ} جواب من جهته والنظر بمعنى الانتظار أي : ما ينتظر كفار مكة {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} لا تحتاج إلى ثانية هي النفخة الأولى التي هي نفخة الصعق والموت والصيحة رفع الصوت {تَأُخُذُهُمْ} مفاجأة وتصل إلى جميع أهل الأرض.
والأخذ حوز الشيء وتحصيله وذلك تارة بالتناول نحو {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَهُ} (يوسف : 79) وتارة بالقهر نحو {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة : 55) ويقال أخذته الحمى ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أصله يختصمون فقلبت التاء صاداً ثم أسكنت وأدغمت في الصاد الثانية ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وخاصمته نازعته وأصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم أي : جانبه وأن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب وهو الجانب الذي فيه العروة.
والمعنى والحال أنهم يتخاصمون ويتنازعون في تجاراتهم ومعاملاتهم ويشتغلون بأمور دنياهم حتى تقوم الساعة وهم في غفلة عنها فلا يغتروا لعدم ظهور علامتها ولا يزعموا أنها لا تأتيهم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تهيج الساعة والدجلان يتبايعان قد نشرا أثوابهما فلا يطويانها والرجل يلوط حوضه فلا يستقي منه والرجل قد انصرف بلبن لقحته فلا يطعمه والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يأكلها ثم تلا {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} .
ـ روي ـ أن الله تعالى يبعث ريحاً بمانية ألين من الحرير وأطيب رائحة من المسك فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الخلق مائة عام لا يعرفون ديناً وعليهم تقوم الساعة وهم في أسواقهم يتبايعون.
فإن قلت : هم ما كانوا منتظرين بل كانوا جازمين بعدم الساعة والصيحة.
قلت : نعم إلا أنهم جعلوا منتظرين نظراً إلى ظاهر قولهم متى يقع لأن من قال متى يقع الشيء الفلاني يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ} الاستطاعة استفعال من الطوع وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتياً أي : لا يقدرون {تَوْصِيَةً} مصدر بالفارسية : (وصيت كردن) والوصية اسم من الإيصاء يقال وصيت الشيء بالشيء إذا وصلته به وسمي إلزام شيء من مال أو نفقة بعد الموت بالوصية لأنه لما أوصى به أي : أوجب وألزم وصل ما كان من أمر حياته بما بعده من أمر مماته والتنكير للتعميم أي : في شيء من أمورهم إذ كانت فيما بين أيديهم.
قال ابن الشيخ : لا يستطيعون توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة فإذا لم يقدروا عليها يكونون أعجز عما يحتاجون فيه إلى زمان طويل من أداء الواجبات ورد المظالم ونحوها لأن القول أيسر من الفعل فإذا عجزوا عن أيسر ما يكون من القول تبين أن الساعة لا تمهلهم بشيء ما واختيار الوصية من جنس الكلمات لكونها أهم بالنسبة إلى المحتضر فالعاجز
409
(7/319)
عنها يكون أعجز من غيرها {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ} الأهل يفسر بالأزواج والأولاد بالعبيد والإماء والأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال الراغب : أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب وعبر بأهل الرجل عن امرأته.
{يَرْجِعُونَ} إن كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيث ما كانوا وبالفارسية : (س نتوانند وصيت كردن با حاضران ونه بسوى ايشان كر غائب باشند باز كردند يعني مجال از بازار بخانه رفتن نداشته باشند الحاصل دران وقت كه دربازار بخصومت وجدال ومعاملات مشغول باشند ومهمات دنيايى سازند يكبار اسرافيل بصور در دمد وهمه خلق برجاى بميرند) إلا ما شاء الله كما يأتي في سورة الزمر إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الموت يدرك الإنسان سريعاً والإنسان لا يدرك كل الأماني فعلى العبد أن يتدارك الحال بقصر الآمال ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
تو غافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد ايمال
غبار هوى شم عقلت بدوخت
شموس هوس كشت عمرت بسوخت
خبر دارى اى استخوان قفس
كه جان تو مرغيست نامش نفس
و مرغ ازقفس رفت وبكسست قيد
دكر ره نكردد بسعى تو صيد
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
سكندر كه برعالمى حكم داشت
دران دم كه بكذشت عالم كذاشت
ميسر نبودش كزو عالمى
ستانند ومهلت دهندش دمى
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
دل اندر دلارام دنيا مبند
كه ننشست باكس كه دل برنكند
سر ازجيب غفلت برآور كنون
كه فردا نمانى بحسرت نكون
طريقى بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى بر انكيز وعذري بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد امان
و يمانه ر شد بدور زمان
دعا عمرو بن العاص رضي الله عنه حين احتضاره بالغل والقيد فلبسهما ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه" ثم استقبل القبلة فقال : اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك فإن تعف فأهل العفو أنت وإن تعاقب فيما قدمت يداي سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين فمات وهو مغلول مقيد فبلغ الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال : استسلم الشيخ حين أيقن بالموت ولعله ينفعه.
ومن السنة حسن الوصية عند الموت وإن كان الذي يوصي عند الموت كالذي يقسم ماله عند الشبع.
ومن مات بغير وصية لم يؤذن له في الكلام بالبرزخ إلى يوم القيامة ويتزاور الأموات ويتحدثون وهو ساكت فيقولون إنه مات من غير وصية فيوصي بثلث ماله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الضرار في الوصية من الكبائر ويوصي بإرضاء خصومه وقضاء ديونه وفدية صلاته وصيامه جعلنا الله وإياكم من المتداركين لحالهم والمتفكرين في مآلهم والمكثرين من صالحات الأعمال والمنتقلين من الدنيا على اللطف والجمال.
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يا وَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا} .
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} أي : ينفخ
410
في الصور وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع والنفخ نفخ الريح في الشيء وبالفارسية : (دردميد) والجمهور على إسكان واو الصور.
وفيه وجهان :
أحدهما أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وفيه بعدد كل روح ثقبة هي مقامه فالمعنى ونفخ في القرن نفخاً هو سبب لحياة الموتى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/320)
والثاني جمع صورة كصوف جمع صوفة ويؤيد هذا الوجه قراءة بعض القراء ونفخ في الصور بفتح الواو فالمعنى ونفخ في الصور الأرواح وذلك أيضاً بنفخ القرن والمراد النفخة الثانية التي يحيى الله بها كل ميت لا النفخة الأولى التي يميت الله بها كل حي وبينهما أربعون سنة تبقى الأرض على حالها مستريحة بعدما مر بها من الأهوال العظام والزلازل وتمطر سماؤها وتجري مياهها وتطعم أشجارها ولا حي على ظهرها من المخلوقات فإذا مضى بين النفختين أربعون عاماً أمطر الله من تحت العرش ماء غليظاً كمني الرجال يقال له ماء الحيوان فتنبت أجسامهم كما ينبت البقل وتأكل الأرض ابن آدم إلا عجب الذنب فإنه يبقى مثل عين الجرادة لا يدركه الطرف فينشأ الخلق من ذلك وتركب عليه أجزاؤه كالهباء في شعاع الشمس فإذا تكاملت الأجساد يحيى الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور فيطير كل روح إلى جسده ثم ينشق عنه القبر {فَإِذَا هُمْ} بغتة من غير لبث أي : الكفار كما دل عليه ما بعد الآية {مِّنَ الاجْدَاثِ} أي : القبول جمع جدث محركة وهو القبر كما في "القاموس".
فإن قيل أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال.
أجيب بأن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه {إِلَى رَبِّهِمْ} أي : إلى دعوة ربهم ومالك أمرهم على الإطلاق وهي دعوة إسرافيل للنشور أو إلى موقف ربهم الذي أعد للحساب والجزاء وقد صح أن بيت المقدس هي أرض المحشر والمنشر وكل من الجارين متعلق بقوله : {يَنسِلُونَ} كما دل عليه قوله : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ سِرَاعًا} (المعارج : 43) أي : يسرعون بطريق الإجبار دون الاختيار لقوله تعالى : {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} من نسل الثعلب ينسل أسرع في عدوه والمصدر نسل ونسلان وإذا المفاجأة بعد قوله : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} إشارة إلى كمال قدرته تعالى وإلى أن مراده لا يتخلف عن إرادته زماناً حيث حكم بأن النسلان وهو سرعة المشي وشدة العدو ويتحقق في وقت النفخ لا يتخلف عنه مع أن النسلان لا يكون إلا بعد مراتب وهي جمع الأجزاء المفترقة والعظام المتفتة وتركيبها وإحياؤها وقيام الحي ثم نسلانه.
فإن قيل قال تعالى في آية أخرى {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر : 68) وقال ههنا {فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} والقيام غير النسلان وقد صدر كل واحد منهما في موضعه بإذا المفاجأة فيلزم أن يكونا معاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
والجواب من وجهين :
الأول : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر أيضاً.
والثاني : أن الأمور المتعاقبة التي لا يتخلل بينها زمان ومهلة تجعل كأنها واقعة في زمان واحد كما إذا قيل مقبل مدبر.
{قَالُوا} أي : الكفار في ابتداء بعثهم من القبور منادين لويلهم وهلاكهم من شدة ما غشيهم من أمر القيامة يا وَيْلَنَا} أحضر فهذا أوانك ووقت مجيئك.
وقال الكاشفي : (اى واى برما) فويل منادي أضيف إلى ضمير المتكلمين وهو كلمة عذاب وبلاء كما أن ويح كلمة رحمة {مِّنْ} استفهام {بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} كان حفص يقف على مرقدنا وقفة لطيفة دون قطع نفس
411
(7/321)
لئلا يتوهم أن اسم الإشارة صفة لمرقدنا ثم يبتدىء هذا ما وعد الرحمن على أنها جملة مستأنفة ويقال لهذه الوقفة وقفة السكت وهي قطع الصوت مقداراً أخصر من زمان النفس.
والبعث (برانكيختن) والمرقد إما مصدر أي : من رقادنا وهو النوم أو اسم مكان أريد به الجنس فينتظم مرقد الكل أي : من مكاننا الذي كنا فيه راقدين وبالفارسية : (كه برانكيخته يعني يدار كرد مارا زخوابكاه ما) فإن كان مصدراً تكون الاستعارة الأصلية تصريحية فالمستعار منه الرقاد والمستعار له الموت والجامع عدم ظهور الفعل والكل عقلي وإن كان اسم مكان تكون الاستعارة تبعية فيعتبر التشبيه في المصدر لأن المقصود بالنظر في اسم المكان وسائر المشتقات إنما هو المعنى القائم بالذات وهو الرقاد ههنا لا نفس الذات وهي ههنا القبر الذي ينام فيه واعتبار التشبيه في المقصود الأهم أولى.
قال في "الأسئلة المقحمة" : إن قيل أخبر الكفار بأنهم كانوا في القبر قبل البعث في حال الرقاد وهذا يرد عذاب القبر قلت : إنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياماً أو أن الله تعالى يرفع عنه العذاب بين النفختين فكأنهم يرقدون في قبورهم كالمريض يجد خفة ما فينسلخ عن الحس بالمنام فإذا بعثوا بعد النفخة الآخرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل ويؤيد هذا الجواب قوله عليه السلام : "بين النفختين أربعون سنة وليس بينهما قضاء ولا رحمة ولا عذاب إلا ما شاء ربك" أو أن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها وافتضحوا على رؤوس الإشهاد وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم قالوا من بعثنا من مرقدنا وذلك إن عذاب القبر روحاني فقط.
وقول الإمام الأعظم رحمه الله إن سؤال القبر للروح والجسد معاً أراد به بيان شدة تعلق أحدهما بالآخر كأرواح الشهداء ولذا عدوا أحياء وأما عذاب يوم القيامة فجسداني وروحاني وهو أشد من الروحاني فقط {هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} جملة من مبتدأ وخبر وما موصولة والعائد محذوف أي : هذا البعث هو الذي وعده الرحمن في الدنيا وأنتم قلتم متى هذا الوعد إنكاراً وصدق فيه المرسلون بأنه حق وهو جواب من قبل الملائكة أو المؤمنين عدل به عن سنن سؤال الكفار تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً على أن الذي يهمهم هو السؤال عن نفس البعث ماذا هو دون الباعث كأنهم قالوا بعثكم الرحمن الذي وعدكم ذلك في كتبه وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم فيه وليس بالبعث الذي تتوهمونه وهو بعث النائم من مرقده حتى تسألوا عن الباعث وإنما هذا البعث الأكبر ذو الإفزاع والأهوال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِن كَانَتْ} أي : ما كانت النفخة الثانية المذكورة {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} حصلت من نفخ إسرافيل في الصور وقيل صيحة البعث هو قول إسرافيل على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة والأعضاء المتمزقة والشعور المنتشرة إن الله المصور الخالق يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء فاجتمعوا وهلموا إلى العرض وإلى جبار الجبابرة.
يقول الفقير : الظاهر إن هذا ليس غير النفخ في الحقيقة فيجوز أن يكون المراد من أحدهما المراد من الآخر أو أن يقال ذلك أثناء النفخ بحيث يحصل هو ولنفخ معاً إذ ليس من ضرورة التكلم على الوجه المعتاد حتى يحصل التنافي بينهما {فَإِذَا هُمْ} بغتة من غير لبث ما طرفة عين وهم مبتدأ خبره قوله : {جَمِيعٌ}
412
أي : مجموع وقوله : {لَّدَيْنَا} أي : عندنا متعلق بقوله : {مُحْضَرُونَ} للفصل والحساب.
وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى كما هو عسير على الخلق يسير على الله تعالى لعدم احتياجه إلى مزاولة الأسباب ومعالجة الآلات كالخلق وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وفي الآية إشارة إلى الحشر المعنوي الحاصل لأهل السلوك في الدنيا وذلك أن العالم الكبير صورة الإنسان وتفصيله فكما أنه تتلاشى أجزاؤه وقت قيام الساعة بالنفخ الأول ثم تجتمع بالنفخ الثاني فيحصل الوجود بعد العدم كذلك الإنسان العاشق يتفرق أنياته ويتقطع تعيناته وقت حصوله العشق بالجذبة القوية الإلهية ثم يظهر ظهوراً آخر فيحصل البقاء بعد الفناء فإذا وصل إلى هذه المرتبة يكون هو إسرافيل وقته كما جاء في "المثنوي" :
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زايشان حياتست ونما
جان هريك مرده از كورتن
برجهد زآواز شان اندر كفن
فالرقاد : هو غفلة الروح في جدث البدن ولا يبعثه في الحقيقة غير فضل الله تعالى وكرمه ولا يفنيه عنه إلا تجلي من جلاله والأنبياء والأولياء عليهم السلام وسائط بين الله تعالى وبين أرباب الاستعداد فمن ليس له قابلية الحياة لا ينفعه النفخ.
همه فيلسوفان يونان وروم
ندانند كردانكبين از زقوم
ز وحشى نيايدكه مردم شود
بسعى اندر وتربيت كم شود
بكوشش نرويد كل ازشاخ بيد
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
نه زنكى بكر ما به كردد سفيد
نسأل الله المحسان كثير الإحسان.
(7/322)
{إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَـالٍ عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} .
{فَالْيَوْمَ} أي : فيقال للكفار حين يرون العذاب المعد لهم اليوم أي : يوم القيامة وهو منصوب بقوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس برة كانت أو فاجرة والنفس الذات والروح أيضاً {شَيْـاًا} نصب على المصدرية أي : شيئاً من الظلم بنقص الثواب وزيادة العقاب {وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي : الإجزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي والأوزار أيها الكفار على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد او إلا بما كنتم تعملونه أي : بمقابلته أو بسببه فقوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} ليأمن المؤمن وقوله : {وَلا تُجْزَوْنَ} الخ لييأس الكافر.
فإن قلت ما الفائدة في إيثار طريق الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم والعدول عن الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن.
فالجواب أن قوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا} يفيد العموم وهو المقصود في هذا المقام فإنه تعالى لا يظلم أحداً مؤمناً كان أو مجرماً وأما قوله : {وَلا تُجْزَوْنَ} فإنه يختص بالكافر فإنه تعالى يجزي المؤمن بما لم يعمله من جهة الوراثة وجهة الاختصاص الإلهي فإنه تعالى يختص برحمته من يشاء من المؤمنين بعد جزاء أعمالهم فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافاً مضاعفة :
فضل أو بي نهايت وايان
لطف او از تصورت بيروز
فيض أو هم سعد آرامبذول
أجر او ميشده غير ممنون
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} الخ من جملة ما سيقال لهم يومئذٍ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار
413
بحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة {الْيَوْمَ} أي : يوم القيامة مستقرون {فِى شُغُلٍ} قال في "المثنوي" : الشغل بضم الغين وسكونها العارض الذي يذهل الإنسان.
وفي "الإرشاد" والشغل هو الشان الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه لكونه أهم عنده من الكل إما لإيجابه كمال المسرة والبهجة أو كمال المساءة والغم والمراد هنا هو الأول والتنوين للتفخيم أي : في شغل عظيم الشأنن {فَـاكِهُونَ} خبر آخر لأن من الفكاهة بفتح الفاء وهي طيب العيش والنشاط بالتنعم وأما الفكاهة بالضم فالمزاح والشطارة أي : حديث ذوي الإنس ومنه قول علي رضي الله عنه لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حد العبوس والمعنى متنعمون بنعيم مقيم فائزون بملك كبير.
ويجوز أن يكون فاكهون هو الخبر وفي شغل متعلق به ظرف لغوله أي : متلذذون في شغل فشلغهم شغل التلذذ لا شغل فيه تعب كشغل أهل الدنيا.
والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الإسمية قبل تحققها تنزيل للمترقب المتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققهاووقوعها ولزيادة مساءة المخاطبين بذلك وهم الكفار ثم إن الشغل فسر على وجوه بحسب اقتضاء مقام البيان ذلك :
(7/323)
منها افتضاض الأبكار وفي الحديث : "إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع" فقال رجل من أهل الكتاب : إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة فقال عليه السلام : "يفيض من جسد أحدهم عرق مثل المسك الأذفر فيضمر بذلك بطنه" وفي الحديث : "إن أحدهم ليفتض في الغداة الواحدة مائة عذراء".
قال عكرمة : فتكون الشهوة في أخراهن كالشهوة في أولاهن وكلما افتضها رجعت على حالها عذراء ولا تجد وجع الافتضاض أصلاً كما في الدنيا وجاء رجل فقال : يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدينا؟ قال : "والذي نفسي بيده أن المؤمن ليفضي في اليوم الواحد إلى ألف عذراء" (عبد الله بن وهب كفت كه درجنت غرفه ايست كه ويرا عاليه كفته مى شود دروى حوريست ويرا غنه كفته مى شود هر كاه كه دوست خداى بوى آيد آيد بوى جبرائيل اذن دهد ويرا س بر خيزد براطرافش باوى هار هزار كنيزك باشدكه جمع كنند دامنهاى وى وكيسوهاى ويرا بخور كنند از براى وى بمجمرهاى بى آتس.
كفته اند در صحبت بهشتيان مني ومذي وفضولات نباشد نانكه دردنيا بلى لذت صحبت آن باشدكه زير هر تار موى يك قطره عرق بيايدكه رنكش رنك عرق بود وبويس بوى مشك).
وفي "الفتوحات المكية" : ولذة الجماع هناك تضاعف على لذة جماع أهل الدنيا أضعافاً مضاعفة فيجد كل من الرجل والمرأة لذة لا يقدر قدرها لو وجداها في الدنيا غشي عليهما من شدة حلاوتها لكن تلك اللذة إنما تكون بخروج ريح إذ لا مني هناك كالدنيا كما صرحت به الأحاديث فيخرج من كل من الزوجين ريح كرائحة المسك وليس لأهل الجنة أدبار مطلقاً لأن الدبر إنما خلق في الدنيا مخرجاً للغائط ولا غائط هناك ولولا أن ذكر الرجل أو فرج المرأة يحتاج إليه في جماعهم لما كان وجد في الجنة فرج لعدم البول فيها ونعيم أهل الجنة مطلق والراحة فيها مطلقة إلا راحة النوم فليس عندهم من نعيم راحته شيء لأنهم لا ينامون ولا يعرف شيء إلا بضده.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ومنها سماع الأصوات الطيبة والنغمات اللذيذة (ون بنده مؤمن دربهست آرزوى سماع
414
كند رب العزت اسرافيل بفرستد تا برجانب راست وى بايستد وقرآن خواندن كيرد داود برب بايستد زبور خواندن كيرد بنده سماع همى كند تاوقت وى خوش كردد وجان وى در شهود جانان مستغرق رب العزت در آن دم رده جلال بردارد ديدار بنمايد بنده بجام شراب طهور بنوازد طه ويس خواندن كيرد جان بنده آنكه بحقيقت درسماع آيد).
ثم إنه ليس في الجنة سماع المزامير والأوتار بل سماع القرآن وسماع أصوات الأبكار المغنية والأوراق والأشجار ونحو ذلك كما سبق بعض ما يتعلق بهذا المقام في أوائل سورة الروم وأواخر الفرقان.
قال بعض العلماء : السماع محرك للقلب مهيج لما هو الغالب عليه فإن كان الغالب عليه الشهوة والهوى كان حراماً وإلا فلا.
قال بعض الكبار : إذا كان الذكر بنغمة لذيذة فله في النفس أثر كما للصورة الحسنة في النظر ولكن السماع لا يتقيد بالنغمات المعروفة في العرف إذ في ذلك الجهل الصرف فإن الكون كله سماع عند صاحب الاستماع فالمنتهى غني عن تغني أهل العرف فإن محركه في باطنه وسماعه لا يحتاج إلى الأمر العارض الخارج المقيد الزائد.
ومنها التزاور يعني : (شغل ايشان دربهشت زرايت يكديكرست اين بزيارت آن ميرود وآن بزيارت اين مى آيد وقتى يغمبران بزيارت صديقان واوليا وعلما روند وقتى صديقان واوليا وعلما بزيارت يغمبران روند وقتى همه بهم جمه شوند بزيارت دركاه عزت وحضرت الهيت روند) وفي الحديث : "إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة في رحال الكافور وأقربهم منه مجلساً أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدواً".
قال بعض الكبار : إن أهل النار يتزاورون لكن على حالة مخصوصة وهي أن لا يتزاور إلا أهل كل طبقة مع أهل طبقته كالمحرور يزور المحرورين والمقرور يزور المقرورين فلا يزور المقرور محروراً وعكسه بخلاف أهل الجنة للإطلاق والسراح الذي لأهلها المشاكل للنعيم ضد ما لأهل النار من الضيق والتقييد.
ومنها ضيافة الله تعالى (خدايرا عز وجل دو ضيافت است مر بندكانرا يكى اندر ربض بهشت بيرون بهشت ويكى اندر بهشت ولكن آن ضيافت كه دربهشت است متكرر ميشود نانكه) رؤيت وما ظنك بشغل من سعد بضيافة الله والنظر إلى وجهه وفي الحديث : "إذا نظروا إلى الله نسوا نعيم الجنة".
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/324)
ومنها شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق وشغلهم عن أهاليهم في النار لا يهمهم ولا يبالون بهم ولا يذكرونهم كيلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم يعني : (بهشتيانرا ندان ناز ونعيم بودكه ايشانرا رواى اهل دوزخ نبود نه خبرايشان رسند نه رواى ايشان دارندكه نام ايشان برند) وذلك لأن الله تعالى ينسيهم ويخرجهم من خاطرهم إذ لو خطر ذكرهم بالبال تنغص عيش الوقت (وكفته اند شغل بهشتيان ده يزاست ملكى كه در وعزل نه.
جوانى كه با او يرى نه.
صحتى بردوام كه با اوبيمارى نه.
عزى يوسته كه با اوذل نه.
راحتى كه با وشدت نه.
نعمتى كه با او محنت نه بقايى كه با اوفنانه ، حياتى كه با اومرك نه.
رضايى كه با اوسخط نه.
انسى كه با و وحشت نه) والظاهر أن المراد بالشغل ما هم فيه من فنون الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية أي : شغل كان.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل النار لا نعيم لهم من الطعام والشراب والنكاح وغيرها لأن النعيم من تجلي الصفات الجمالية وهم ليسوا من أهله لأن حالهم القهر والجلال
415
غير أن بعض الكبار قال : أما أهل النار فينامون في أوقات ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك هو القدر الذي ينالهم من النعيم فنسأل الله العافية انتهى وهذا كلام من طريق الكشف وليس ببعيد إذ قد ثبت في تذكرة القرطبي أن بعض العصاة ينامون في النار إلى وقت خروجهم منها ويكون عذابهم نفس دخولهم في النار فإنه عار عظيم وذل كبير ألا يرى أن من حبس في السجن كان هو عذاباً له بالنسبة إلى مرتبته وإن لم يعذب بالضرب والقيد ونحوهما ثم إنا نقول والعلم عند الله تعالى (ودربحر الحقائق كويد مراد از اصحاب جنت طالبان بهشت اندكه مقصد ايشان نعيم جنات بود حق سبحانه وتعالى ايشانرا بتنعم مشغول كرداند وآن حال اكره نسبت بادوزخيان ازجلائل احوال است نسبت باطلبان حق بغايت فرو مى نمايد واينجا سر "أكثر أهل الجنة البله" ى توان برد).
وعن بعض أرباب النظر أنه كان واقفاً على باب الجامع يوم الجمعة والخلق قد فرغوا من الصلاة وهم يخرجون من الجامع قال : هؤلاء حشو الجنة وللمجالسة أقوام آخرون.
وقد قرىء عند الشبلي رحمه الله قوله تعالى : {إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} الخ فشهق شهقة وغاب فلما أفاق قال مساكين : لو علموا أنهم عما شغلوا لهلكوا يعني : (بياركان اكردانندكه ازكه مشغول شده اند في الحال درورطه هلاك مى افتند.
ودر كشف الأسرار از شيخ الإسلام الأنصاري نقل ميكندكه مشغول نعمت بهشت ازان عامه مؤنانست اما مقربان حضرت از مطالعه شهود وملاحظه نور وجود يك لحظه بانعيم بهشت نردازند) قال علي رضي الله عنه : لو حجبت عنه ساعة لمت.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
روزيكه مرا وصل تودر نك آيد
از حال بهشتيان مرا ننك آيد
وربي تو بصحراى بهشتم خوانند
صحراى بهشت بر دلم تنك آيد
وفي "التأويلات النجمية" : إنتعالى عباداً استخصهم للتخلق بأخلاقه في سر قوله : "كنت سمعه وبصره فبي يسمع وبين يبصر" فلا يشغلهم شأن اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم عن شأن شهود مولاهم في الجنة كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته بأي حال من حالاتهم ولا يقدح اشتغالهم باستيفاء حظوظهم من معارفهم.
فعلى العاقل أن يكون في شغل الطاعات والعبادات لكن لا يحتجب به عن المكاشفات والمعاينات فيكون له شغلان : شغل الظاهر وهو من ظاهر الجنة وشغل الباطن وهو من باطنها فمن طلبه تعالى لم يضره أن يطلب منه لأن عدم الطلب مكابرة له في ربوبيته ومن طلب منه فقط لم ينل لقاءه.
قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه : رأيت رب العزة في منامي فقال لي : يا معاذ كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
واعلم أن كل مطلوب يوجد في الآخرة فهو ثمرة بذر طلبه في الدنيا سواء تعلق بالجنة أو بالحق كما قال عليه السلام : "يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه" {هُمْ} الخ استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسراراً من شركة أزواجهم لهم فيما هم فيه من الشغل والفكاهة وهم مبتدأ والضمير لأصحاب الجنة {وَأَزْوَاجُهُمْ} عطف عليه والمراد نساؤهم اللاتى كن لهم في الدنيا أو الحور العين أو أخلاؤهم كما في قوله تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات : 22) ويجوز أن يكون الكل مراداً فقوله وأزواجهم
416
(7/325)
إشارة إلى عدم الوحشة لأن المنفرد يتوحش إذا لم يكن له جليس من معارفه وإن كان في أقصى المراتب ألا ترى أنه عليه السلام لحقته الوحشة ليلة المعراج حين فارق جبريل في مقامه فسمع صوتاً يشابه صوت أبي بكر رضي الله عنه فزالت عنه تلك الوحشة لأنه كان يأنس به وكان جليسه في عامة الأوقات ولأمر ما نهى النبي عليه السلام عن أن يبيت الرجل منفرداً في بيت {فِى ظِلَـالٍ عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ} قوله متكئون خبر المبتدأ والجاران صلتان له قدمتا عليه لمراعاة الفواصل ويجوز أن يكون في ظلال خبراً ومتكئون على الأرائك خبراً ثانياً.
والظلال جمع ظل كشعاب جمع شعب والظل ضد الضح بالفارسية (سايه) أو جمع ظلة كقباب جمع قبة وهي الستر الذي يسترك من الشمس.
والأرائك جمع أريكة وهي كسفينة سرير في حجله وهي محركة موضع يزين بالثياب والستور للعروس كما في "القاموس".
قال في "المختار" : الأريكة سرير متخذ مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة أي : لا أريكة وتسميتها بالأريكة إما لكونها في الأصل متخذة من الأراك وهو شجر يتخذ منه المسواك أو لكونها مكاناً للإقامة فإن أصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في سائر الإقامات.
والاتكاء الاعتماد بالفارسية : (تكيه زدن) أي : معتمدون في ظلال على السرر في الحجال والاتكاء على السرر دليل التنعم والفراغ.
قال في "كشف الأسرار" : (معنى آنست كه ايشان وجفتان ايشان زير سايها اند بناها وخيمها كه از براى ايشان ساخته اند خيمهاست از مرواريد سفيد هار فرسنك در هار فرسنك آن خيمه زده شصت ميل ارتفاع آن ودران خيمه سريرها وتختها نهاده هر تختى سيصد كزار ارتفاع آن بهشتى ون خواهدكه بران تخت شودتخت بزمين هن باز شودتا بهشتى آسان بى رنج بران تخت شود).
فإن قيل كيف يكون أهل الجنة في ظلال والظل إنما يكون حيث تكون الشمس وهم لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً.
أجيب بأن المراد من الظل ظل أشجار الجنة من نور العرش لئلا يبهر أبصار أهل الجنة فإنه أعظم من نور الشمس.
وقيل من نور قناديل العرش كذا في "حواشي ابن الشيخ".
وقال في "المفردات" : ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهة قال تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـالٍ وَعُيُونٍ} أي : في عزة ومنعة وأظلني فلان أي : حرسني وجعلني في ظله أي : في عزه ومنعته وندخلهم ظلاً ظليلاً كناية عن نضارة العيش انتهى.
وقال الإمام في سورة النساء : إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه السلام : "السلطان ظل الله في الأرض".
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يقول لأقوام فارغين عن الالتفات إلى الكونين مراقبين للمشاهدات إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم أي : أشكالهم فارغبوا أنتم إليّ واشتغلوا بي وتنعموا بنعيم وصالي وتلذذوا بمشاهدة جمالي فإنه لا لذة فوقها رزقنا الله وإياكم ذلك قال الحافظ :
صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور
باخيال تواكر باد كرى ردازم
وقال أيضاً :
نعيم أهل جهان يش عاشقان يك جو
417
(7/326)
{لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ} الخ بيان لما يتمتعون به في الجنة في المآكل والمشارب ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان مالهم فيها من مجالس الإنس ومحافل القدس تكميلاً لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة والفاكهة الثمار كلها والمعنى لهم في الجنة غاية مناهم فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه عظيمة لا توصف جمالاً وبهجة وكمالاً ولذة كما روي أن الرمانة منها تشبع السكن وهو أهل الدار والتفاحة تنفتق عن حوراء عيناء وكل ما هو من نعيم الجنة فإنما يشارك نعيم الدنيا في الاسم دون الصفة.
وفيه إشارة إلى أن لا جوع في الجنة لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} الجملة معطوفة على الجملة السابقة وعدم الاكتفاء بعطف ما يدعون على فاكهة لئلا يتوهم كون ما عبارة عن توابع الفاكهة وتتماتها وما عبارة عن مدعو عظيم الشان معين أو مبهم.
ويدعون أصله يدتعيون على وزن يفتعلون من الدعاء لا من الادّعاء بمعنى الإتيان بالدعوى وبالفارسية : (دعوى كردن بركسى) فبناء افتعل الشيء فعله لنفسه وإعلاله أنه استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها فحذفت لاجتماع الساكنين فصار يدتعون ثم أبدلت التاء دالاً فأدغمت الدال في الدال فصار يدعون والمعنى ولهم ما يدعون الله به لأنفسهم من مدعو عظيم الشان أو كل ما يدعون به كائناً ما كان من أسباب البهجة وموجبات السرور.
قال ابن الشيخ : أي : ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب كما قال الإمام ليس معناه أنهم يدعون لأنفسهم شيئاً فيستجاب لهم بعد الطلب بل معناه لهم ذلك فلا حاجة إلى الدعاء كما إذا سألك أحد شيئاً فقلت : لك ذلك وإن لم تطلبه ويجيىء الادعاء بمعنى التمني كما قال في "تاج المصادر" (الادعاء : آرزو خواستن) من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه عليّ فالمعنى ولهم ما يتمنونه وبالفارسية : (ومرايشانرا آنه خواهند وآرزو برند وابن عباس رضي الله عنهما كفت كه بهشتى از أطعمه وأشربه بى آنكه بزبان آرد يش خود حاضر بيند).
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ * وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
{سَلَـامٌ} بدل من ما يدعون كأنه قيل ولهم سلام وتحية يقال لهم {قَوْلا} كائناً {مِّنْ} جهة {رَّبٍّ رَّحِيمٍ} أي : يسلم عليهم من جهته تعالى بواسطة الملك أو بدونها مبالغة في تعظيمهم فقولا مصدر مؤكد لفعل هو صفة لسلام وما بعده من الجار متعلق بمضمر هو صلة له والأوجه أن ينتصب قولاً على الاختصاص أي : بتقدير أعني فإن المقام مقام المدح من حيث أن هذا القول صادر من رب رحيم فكان جديراً بأن يعظم أمره وفي الحديث "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله سلام قولاً من رب يحيم فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم".
سلام دوست شنيدن سعادتست وسلامت
بوصل يار رسيدن فضيلتست وكرامت
قال في "كشف الأسرار" (معنى سلام آنست كه سلمت عبادى من الحرقة والفرقة واشارت رحمت درين موضع آنست كه ايشانرا برحخت خويش قوت وطاقت دهد تا بى واسطه كلام حق بشنوند وديدار وى بينند وايشانرا دهشت وحيرت نبود).
وفي "التأويلات النجمية"
418
يشير إلى أن سلامه تبارك وتعالى كان قولاً منه بلا واسطة وأكده بقوله رب ليعلم أنه ليس بسلام على لسان سفير وقوله رحيم فالرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية حال ما يسلم عليهم ليكمل لهم النعمة.
وفي "حقائق البقلى" سلام الله أزلي إلى الأبد غير منقطع عن عباده الصادقين في الدنيا والآخرة لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب فيسمعون سلامه وينظرون إلى وجهه كفاحا :
سلامت من دلخسته درسلام توباشد
زهى سعادت اكر دولت سلام تويابم
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/327)
قال في "كشف الأسرار" : (سلام خداوند كريم بربندكان ضعيف دو ضرب است يكى بسفير وواسطه ويكى بى سفير وبى واسطه اما آنه بواسطه است اول سلام مصطفاست عليه السلام وذلك في قوله : {وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} (الأنعام : 54) أي : محمد ون مؤمنان برتو آيند ونواخت ما طلبند تو بنيابت ما برايشان سلام كن وبكوى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام : 54) باز ون روز كار حيات بنده برسد وبريد مرك در رسد دران دم زدن بازسين ملك الموت را فرمان آيدكه توبريد حضرت مايى بفرمان ما قبض روح بنده ميكنى نخست اورا شربت شادى ده ومرهمى بردل خسته بروى نه بروى سلام كن ونعمت بروى تمام كن اينست كه رب العزت كفت {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌا وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (الأحزاب : 44) آن فرشتكان ديكركه اعوان ملك الموت اند ون آن نواخت وكرامت بينندهمه كويند {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل : 32) أي : بنده مؤمن خوشدلى وديعت جان تسليم كردى نوشت بادوسلام ودرود مرترا باد ازسراى حكم قدم درساخت بهشت نه كه كار كارتست ودولت دولت تو وازان س ون ازحساب وكتاب ديوان قيامت فارغ شود بدربهشت رسد ورضوان اورا استقبال كند كويد {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} (الزمر : 73) سلام ودرود برشماخوش كشتيد واك آمديد واك زندكانى كرديد اكنون دررويد درين سراى جاودان ونازونعيم بى كران وازان س كه در بهشت آيد بغرفه خويش آرام كيرد فرستادكان ملك آيندواورا مده دهند وسلام رسانند وكويند {سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 24) ون كوش بنده ازشنيدن سلام واسطه رشود وازدرود فرشتكان رشود آرزوى ديدارحق وسلام وكلام متكلم مطلب كند كويد بزبان افتقار درحالت انكسارى بساط انبساط كه.
اى معدن ناز من اين نياز من تاكى.
اى شغل جان من اين شغل جان من تاكى.
اى همراز دل من اين انتظار دل من تاكى.
اى ساقى سر من اين تشنكى من تاكى.
اى مشهود جان من اين خبر رسيدن من تاكى.
خداوندا موجود دل عارفانى در ذكر يكانه آرزوى مشتقانى دروجود يكانه هي روى آن دارد خداونداكه ديدار بنمايى وخود سلام كنى برين بنده) فيتجلى الله عز وجل ويقول سلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} .
قيل : سبعة أشياء ثواب لسبعة أعضاء لليد {يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} للرجل {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ} للبطن {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياـاَا} للعين {وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} للفرج {وَحُورٌ عِينٌ} للاذن {سَلَـامٌ قَوْلا} للسان {وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (يوسف : 10).
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَامْتَـازُوا} يقال مازه عنه يميزه ميزا اى عزله
419
ونحاه فامتاز والتمييز الفصل بين المتشابهات ودل الامتياز على أنه حين يحشر الناس يختلط المؤمن والكافر والمخلص والمنافق ثم يمتاز أحد الفريقين عن الآخر كقوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (الروم : 14) وهو عطف قصة سوء حال هؤلاء وكيفية عقابهم على قصة حسن حال أولئك ووصف ثوابهم وكان تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما ويجوز أن يكون معطوفاً على مضمر ينساق إليه حكاية حال أهل الجنة كأنه قيل بعد بيان كونهم في شغل عظيم الشان وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عيناً وامتازوا عنهم وانفردوا {الْيَوْمَ} وهو يوم القيامة والفصل والجزاء {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} إلى مصيركم فكونوا في السعير وفنون عذابها ولهبها بدل الجنة لهم وألوان نعمها وطربها وبالفارسية : (وجدا شويد آنروز أي : مشركان ازموحدان واى منافقان از مخلصان كه شما بزندان دشمنان مى رانند وايشانرا ببوستان دوستان خوانند).
وعن وقتادة اعتزلوا عما ترجون وعن كل خير أو تفرقوا في النار لكل كافر بيت من النار ينفرد به ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى وهو على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان وعذاب الفرقة عن القرناء والأصحاب من أسوء العذاب وأشد العقاب.
(7/328)
وفي "التأويلات" : يشير إلى امتياز المؤمن والكافر في المحشر والمنشر بابيضاض وجه المؤمن واسوداد وجه الكافر وبإيتاء كتاب المؤمن بيمينه وبإيتاء كتاب الكافر بشماله وبثقل الميزان وبخفته وبالنور وبالظلمة وثبات القدم على الصراط وزلة القدم عن الصراط وغير ذلك.
قال بعض الكبار : اعلم أن أهل النار الذين لا يخرجون منها أربع طوائف : المتكبرون ، والمعطلة ، والمنافقون ، والمشركون ويجمعها كلها المجرمون قال تعالى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي : المستحقون لأن يكونوا أهلاً لسكنى النار فهؤلاء أربع طوائف هم الذي لا يخرجون من النار من إنس وجن وإنما جاء تقسيمهم إلى أربع طوائف من غير زيادة لأن الله تعالى ذكر عن إبليس أنه يأتينا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ولا يدخل أحد النار إلا بواسطته فهو يأتي للمشرك من بين يديه ويأتي للمتكبر عن يمينه ويأتي للمنافق عن شماله ويأتي للمعطل من خلفه وإنما جاء للمشرك من بين يديه لأن المشرك بين يديه جهة غيبية فأثبت وجود الله ولم يقدر على إنكاره فجعله إبليس يشرك بالله في ألوهيته شيئاً يراه ويشاهده وإنما جاء للمتكبر من جهة اليمين لأن اليمين محل القوة فلذلك تكبر لقوته التي أحس بها من نفسه وإنما جاء للمنافق من جهة شماله الذي هو الجانب الأضعف لكون المنافق أضعف الطوائف كما أن الشمال أضعف من اليمين ولذلك كان في الدرك الأسفل من النار ويعطي كتابه بشماله وإنما جاء للمعطل من خلفه لأن الخلف ما هو محل نظر فقال له ما ثم شيء فهذه أربع مراتب لأربع طوائف ولهم من كل باب من أبواب جهنم جزء مقسوم وهي منازل عذابهم فإذا ضربت الأربع التي هي المراتب في السبعة أبواب كان الخارج ثمانية وعشرين منزلاً عدد منازل القمر وغيره من الكواكب السيارة انتهى كلامه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ} .
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ} الخ من جملة ما يقال لهم يوم القيامة بطرق التقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر بالامتياز وبين الأمر بدخول جهنم بقوله تعالى : {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} (يس : 64)
420
الخ والعهد والوصية التقدم بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلفهم الله تعالى على ألسنة الرسل من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى : يا بَنِى ءَادَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 27) وقوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأنعام : 142) وغيرها من الآيات الكريمة الواردة في هذا المعنى والمراد ببني آدم المجرمون والمعنى بالفارسية : (أيا عهد نكرده ام شمارا يعني عهد كردم وفرمودم شمارا) {أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ} إن مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول بالأمر والنهي أو مصدرية حذف منها الجار أي : ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان والمراد بعبادة الشيطان عبادة غير الله لأن الشيطان لا يعبده أحد ولم يرد عن أحد أنه عبد الشيطان إلا أنه عبر عن عبادة غير الله بعبادة الشيطان لوقوعها بأمر الشيطان وتزيينه والانقياد فيما سوّله ودعا إليه بوسوسته فسمي إطاعة الشيطان والانقياد له عبادة له تشبيهاً لها بالعبادة من حيث أن كل واحد منهما ينبىء عن التعظيم والاجلال ولزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من أطاع شيئاً عبده دل عليه {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) والمعنى بالفارسية : (نرستيد شيطانرا يعني بتان بفرموده شيطان) {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي : ظاهر العداوة لكم يريد أن يصدكم عما جبلتم عليه من الفطرة وكلفتم به من الخدمة وهو تعليل لوجوب الانتهاء عن المنهي عنه ووجه عداوة إبليس لبني آدم أنه تعالى لما أكرم آدم عليه السلام عاداه إبليس حسداً والعاقل لا يقبل من عدوه وإن كان ما يلقاه إليه خيراً إذ لا أمن من مكره فإن ضربة الناصح خير من تحية العدو.
قال الشيخ سعدي قدس سره : (دشمن ون ازهمه حيلتي درماند سلسله دوستى بجنباند س آنكاه بدوستى كارهاً كندكه هي دشمن نتواند كرد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
حذركن زانه دشمن كويد آن كن
كه بر زانوا زنى دست تغابن
كرت راهى نمايد راست ون تير
ازان بر كرد وراه دست ب كير
(7/329)
قال بعض الكبار : اعلم أن عداوة إبليس لبني آدم أشد من معاداته لأبيهم آدم عليه السلام وذلك أن بني آدم خلقوا من ماء والماء منافر للنار وأما آدم فجمع بينه وبين إبليس اليبس الذي في التراب فبين التراب والنار جامع ولهذا صدقه لما أقسم له بالله إنه لناصح وما صدقه الأبناء لكونه لهم ضداً من جميع الوجوه فبهذا كانت عداوة الأبناء أشد من عداوة الأب ولما كان العدو محجوباً عن إدراك الأبصار جعل الله لنا علامات في القلب من طريق الشرع نعرفه بها تقوم لنا مقام البصر فنتحفظ بتلك العلامة من إلقائه وإعانة الله عليه بالملك لذي جعله الله مقابلاً له غيباً بغيب انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى كمال رأفته وغاية مكرمته في حق بني آدم إذ يعاتبهم معاتبة الحبيب للحبيب ومناصحة الصديق للصديق وأنه تعالى يكرمهم ويجلهم عن أن يعبدوا الشيطان لكمال رتبتهم واختصاص قربتهم بالحضرة وغاية ذلة الشيطان وطرده ولعنه من الحضرة وسماه عدواً لهم وله وسمي بني آدم الأولياء والأحباب وخاطب المجرمين منهم كالمعتذر الناصح لهم ألم أعهد إليكم ألم أنصح ألم أخبركم عن خباثة الشيطان وعداوته لكم وإنكم أعز من أن تعبدوا مثله ملعوناً مهيناً.
{وَأَنِ اعْبُدُونِى}
421
لأن مثلكم يستحق لعبادة مثلي فإني أنا العزيز الغفور وإني خلقتكم لنفسي وخلقت المخلوقات لأجلكم وعززتكم وأكرمتكم بأن أسجدت لكم ملائكتي المقربين وعبادي المكرمين وهو عطف على أن لا تعبدوا وإن فيه كما هي فيه أي : وحدوني بالعبادة ولا تشركوا بها أحداً وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية وليتصل به قوله تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الحجر : 41) فإنه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارة عن التوحيد والإسلام وهو المشار إليه بقوله تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} (الأعراف : 16) والمقصود بقوله تعالى : {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} والتنكير للتفخيم.
قال البقلى : طلب الحق منهم ما خلق في فطرتهم من استعداد قبول الطاعة أي : اعبدوني بي لا بكم فهذا صراط مستقيم حيث لا تنقطع العبودية عن العباد أبداً ولا يدخل في هذا الصراط اعوجاج واضطراب أصلاً وكل قول يقبل الاختلاف بين المسلمين إلا قول : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فإنه غير قابل للاختلاف فمعناه متحقق وإن لم يتكلم به أحد.
قال الواسطي : من عبد الله لنفسه فإنما يعبد نفسه ومن عبده لأجله فإنه لم يعرف ربه ومن عبده بمعنى أن العبودية جوهرة فطرة الربوبية فقد أصاب ومن علامات العبودية ترك الدعوى واحتمال البلوى وحب المولى وحفظ الحدود والوفاء بالعهود وترك الشكوى عند المحنة وترك المعصية عند النعمة وترك الغفلة عند الطاعة.
قال بعض الكبار : لا يصح مع العبودية رياسة أصلاً لأنها ضد لها ولهذا قال المشايخ رضوان الله عليهم آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الجاه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
واعلم أنه كم نصح الله ووعظ وأنذر وحذر ووصل القول وذكر ولكن المجرمين لم يقبلوا النصح ولم يتعظوا بالوعظ ولم يعملوا بالأمر بل عملوا بأمر الشيطان وقبلوا إغواءه إياهم فليرجع العاقل من طريق الحرب إلى طريق الصلح قال الشيخ سعدي قدس سره :
نه ابليس در حق ما طعنه زد
كزاينان نيايد بجز كاربد
فغان ازبديها كه درنفس ماست
كه ترسم شودظن ابليس راست
و ملعون سند آمدش قهرما
خدايش بر انداخت ازبهرما
كجا بر سر آيم ازين عاروننك
كه با و بصلحيم وباحق بجنك
نظر دوست تادر كند سوى تو
كه درروى دشمن بودروى تو
ندانى كه كمترنهد دوست اى
وبيندكه كه دشمن بوددر سراى
وقال أيضاً من طريق الإشارة :
نه مارا درميان عهد ووفا بود
جفا كردى وبدعهدى نمودى
هنوزت ارسر صلحست بازآى
كزان محبوبتر باشى كه بودى
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} جواب قسم محذوف والخطاب لبني آدم.
وفي "الإرشاد" الجملة استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان أن جناياتهم ليست بنقض العهد فقط بل به وبعدم الاتعاظ بما شاهدوا من العقوبات النازلة على الأمم الخالية بسبب طاعتهم للشيطان والخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار مكة
422
(7/330)
خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم والجبل بكسر الجيم وتشديد اللام الخلق أي : المخلوق ولما تصور من الجبل العظم قيل للجماعة العظيمة جبل تشبيهاً بالجبل في العظم وإسناد الإضلال إلى الشيطان مجاز والمراد سببيته كما في قوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} (إبراهيم : 36) وإلا فالهداية والإضلال و"الإرشاد" والإغواء صفة الله تعالى في الحقيقة بدليل قوله عليه السلام : "بعثت داعياً ومبلغاً وليس إليّ من الهدى شيء وخلق إبليس مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء" والمعنى وبالله لقد أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً يعني صار سبباً لضلالهم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة التي ملأ الآفاق أخبارها وبقي مدى الدهر آثارها.
وقال بعضهم : وكيف تعبدون الشيطان وتنقادون لأمره مع أنه قد أضل منكم يا بني آدم جماعة متعددة من بني نوعكم فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل فحرموا من الجنة الموعودة لهم {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} الفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون إنها لضلالهم وطاعتهم إبليس أو فلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العقاب.
وقال الكاشفي : (ايا نيستيد شماكه تعقل كنيد وخودرا دردام فريب او بيفكنيد).
وفي "كشف الأسرار" هو استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل وفي الحديث "قسم الله العقل ثلاثة أجزاء فمن كانت فيه فهو العاقل حسن المعرفة بالله" أي : الثقة بالله في كل أمر والتفويض إليه والائتمار له على نفسك وأحوالك والوقوف عند مشيئته لك في كل أمر دنيا وآخرة "وحسن الطاعة " وهو أن تطيعه في كل أموره "وحسن الصبر"وهو أن تصبر في النوائب صبراً لا يرى عليك في الظاهر أثر النائبة كذا في "درر الأصول".
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} عن صراط مستقيم عبوديتي وأبعدكم عن جواري وقربتي {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} لتعلموا أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل فلا تظلموا على أنفسكم وارجعوا إلى ربكم واعلم أن العقل نور يستضاء به كما قال في "المثنوي" :
كربصورت وانمايد عقل رو
تيره باشد روز يش نوراوورمثال احمقى يدا شود
ظلمت شب يش اوروشن بود
اندك اندك خوى كن بانور روز
ورنه خفاشىء بمانى بى فروز
عقل كل راكفت ما زاغ البصر
عقل جزئي ميكند هرسونظر ثم اعلم أن الجاهل الأحمق والضال المطلق في يد الشيطان يقوده حيث يشاء ولو علم حقيقة الحال وعقل أن الله الملك المتعال واهتدى إلى طريق التوحيد والطاعة لحفظه الله من تلك الساعة فإن التوحيد حصنه الحصين ومن دخل فيه أمن من مكر العدو المهين ومن خرج عنه طالباً للنجاة أدركه الهلاك ومات في يد الآفات ومن أهمل نفسه فلم يتحرك لشيء كان كمجنون لا يعرف شمساً من فيىء فنسأل الله الاشتغال بطاعته واستيعاب الأوقات بعبادته وطرد الشيطان بأنوار الخدمة وقهر النفس بأنواع الهمة.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
{هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ} أيها المرجون {تُوعَدُونَ} أي : توعدونها على ألسنة الرسل في الدنيا في أزمنتها المتطاولة
423
بمقابلة عبادة الشيطان مثل قوله تعالى {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) وغير ذلك وهو استئناف يخاطبون به من خزنة جهنم بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} يقال : صلي اللحم كرمي يصليه صلياً شواه وألقاه في النار وصلى النار قاسى حرها وأصله أصليوها فاعل كاحشيوا وهو أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) والمعنى ادخلوها وقاسوا حرها وفنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا وفي ذكر اليوم ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم يعني أن أيام لذاتكم قد مضت ومن هذا الوقت واليوم وقت عذابكم
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال أبو هريرة رضي الله عنه : أوقدت النار ألف عام فابيضت ثم أوقدت ألف عام فاحمرت ثم أوقدت ألف عام فاسودت فهي سوداء كالليل المظلم وهي سجن الله تعالى المجرمين قال النبي عليه السلام لجبرائيل : "مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط" قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار.
قال بعضهم : ذكر النار شديد فكيف القطيعة والفضيحة فيها ولذا ورد فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
(7/331)
وعن السري السقطي رحمه الله : أشتهي أن أموت ببلدة غير بغداد مخافة أن لا يقبلني قبري فافتضح عندهم.
وقال العطار رحمه الله : لو أن ناراً أوقدت فقيل من قبل الرحمن من ألقى نفسه فيها صار لاشياً لخشيت أن أموت من الفرح قبل أن أصل إلى النار لخلاصي من العذاب الأبدي فانظر إلى إنصاف هؤلاء السادات كيف أساءوا الظن بأنفسهم مع أنهم موحدون توحيداً حقيقياً عابدون عارفون وقد جعل دخول النار مسبباً عن الكفر والشرك والأوزار.
خدايا بعزت كه خوارم مكن
بذل كنه شرمسارم مكن
مرا شر مسارى زروى توبس
دكر شر مسارم مكن يش كس
بلطفم بخوان يابران ازدرم
ندارد بجز آستانت سرم
بحقت كه شمم زباطل بدوز
بنورت كه فردا بنارم مسوز
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الختم في الأصل الطبع ثم استعير للمنع والأفواه جمع فم وأصل فم فوه بالفتح وهو مذهب سيبويه والبصريين كثوب وأثواب حذفت الهاء حذفاً على غير قياس لخفائها ثم الواو لاعتدالها ثم أبدل الواو المحذوفة ميماً لتجانسهما لأنهما من حروف الشفة فصار فم فلما أضيف رد إلى أصله ذهاباً به مذهب أخواته من الأسماء.
وقال الفراء جمع فوه بالضم كسوق وأسواق وفي الآية التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم ويحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيمان إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقى الجواب وقد انقطع بالكلية والمعنى تمنع أفواههم من النطق ونفعل بها ما لا يمكنهم معه أن يتكلموا فتصير أفواههم كأنها مختومة فتعترف جوارحهم بما صدر عنها من الذنو.
{وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} باستنطاقنا إياها {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فتنطق الأربع بما كسبوه من السيآت والمراد جميع الجوارح لا أن كل عضو يعترف بما صدر منه (والكسب : حاصل
424
كردن كسى يزى را) والمعنى بالفارسية : (امروز مهر مى نهيم بر دهنهاى ايشان ون ميكويد كه مشرك نبوده ايم وتكذيب رسل نكرده وشيطانرا نرستيده وسخن كويد بامادستهاى ايشان وكواهى دهد ايهاى ايشان بآنه بودند در دنيا ميكردند).
قال بعضهم لما قيل لهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ} جحدوا وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين وما عبدنا من دونك من شيء وما أطعنا الشيطان في شيء من المنكرات فيختم على أفواههم وتعترف جوارحهم بمعاصيهم.
والختم لازم للكفار أبداً.
أما في الدنيا فعلى قلوبهم كما قال تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة : 7).
وأما في الآخرة فعلى أفواههم ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى : {ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة : 30) فلما ختم على أفواههم أيضاً لزم أن يكون قولهم بأعضائهم لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء فإذا لم يبق القلب واللسان تعين الجوارح والأركان.
وفي "كشف الأسرار" (روز قيامت عمل كافران بركافران عرضه كنند وصحيفهاى كردار ايشان بايشان نمايند آن رسواييها بينند وكردها برمثال كوههاى عظيم انكار كنند وخصومت دركيرند وبر فرشتكان دعوى دروغ كنند كويند ما اين كه در صحيفهاست نكرده ايم وعمل ما نيست همسايكان برايشان كواهى دهند همسايكانرا دروغ زن كيرند اهل وعشيرت كواهى دهند وايشانرا نيز دروغ زن كيرند س رب العزة مهر بردهنهاى ايشان نهد وجوارح ايشان بسخن آردتا بر كردهاى ايشان كواهى دهند) وعن أنس رضي الله عنه : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فضحك فقال : "هل تدرون مم أضحك" قلنا : الله ورسوله أعلم قال : "في مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم يقول : بلى فيقول : لا أجيز عن نفسي إلا شاهداً مني فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنّ وسحقاً فعنكنّ كنت أناضل" أي : أدافع وأول عظم من الإنسان ينطق يوم يختم على الأفواه فخذه من رجله الشمال وكفه كما جاء في الحديث.
والسر في نطق الأعضاء والجوارح بما صدر عنها ليعلم أن ما كان عوناً على المعاصي صار شاهداً فلا ينبغي لأحد أن يلتفت إلى ما سوى الله ويصحب أحداً غير الله لئلا يفتضح ثمة بسبب صحبته.
نكشود صائب ازمدد خلق هي كار
از خلق روى خود به خدا ميكنيم ما
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/332)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الغالب على الأفواه الكذب كما قال : {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} (آل عمران : 167) والغالب على الأعضاء الصدق ويوم القيامة يوم يسأل الصادقين عن صدقهم فلا يسأل الأفواه فإنها كثيرة الكذب ويسأل الأعضاء فإنها كثيرة الصدق فتشهد بالحق أما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة لهم وأما العصاة من المؤمنين الموحدين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضاً بالإحسان كما جاء في بعض الأخبار المروية المسندة أن عبداً تشهد عليه أعضاؤه بالزلة فتتطاير شعرة من جفن عينيه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى : تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي
425
فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد هذا عتيق الله بشعرة (دركشف الأسرار فرمودكه نانكه جوارح اعدا بر افعال بدايشان كواهى ميدهد همنين اعضاى بر طاعت ايشان اقامت شهادت كند نانه در آثار آورده اندكه حق سبحانه وتعالى بنده مؤمن را خطاب كندكه ه آورده او شرم داردكه عبادات وخيرات خود برشمارد حق سبحانه اعضاى ويرا بسخن در آورد تاهريك اعمال خودرا باز كويند انامل كواهى بردهد بر تسبيحات) كما قال عليه السلام لبعض النساء : "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات" يعني : بالشهادة يوم القيامة ولذا سن عد الأذكار بالأصابع وإن لم يعلم العقد المعهود يعدّهن بأصابعه كيف شاء كما في "الأسرار المحمدية".
وقال بعض العرفاء معنى الختم على الأفواه وتكلم الأيدي وشهادة الأرجل تغيير صورهم وحبس ألسنتهم عن النطق وتصوير أيديهم وأرجلهم عن صورة تدل بهيآتها وأشكالها على أعمالها وتنطق بألسنة أحوالها على ما كان من هيئة أفعالها انتهى.
فكما أن هيئة أعضاء المجرمين تدل على قبح أحوالهم وسوء أفعالهم كذلك شكل جوارح المؤمنين يدل على حسن أحوالهم وجمال أفعالهم وكل إناء يترشح بما فيه فطوبى للسعداء ومن يتبعهم في زيهم وهيآتهم وطاعاتهم وعباداتهم.
ى نيك مردان بيايد شتافت
كه هركين سعادت طلب كرد يافت
ليكن تو دنبال ديو خسى
ندانم كه درصالحان كى رسى
يمبر كسى را شفاعت كرست
كه برجاده شرع يغمبرست
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَلَوْ نَشَآءُ} لو للمضي إن دخل على المضارع ولذا لا يجزمه أي : ولو أردنا عقوبة المشركين في الدنيا هم أهل مكة {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} طمس الشيء إزالة أثره بالكلية يقال طمسته أي : محوته واستأصلت أثره كما في "القاموس" أي : لسوينا أعينهم ومحوناها بأن أزلنا ضوءها وصورتها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن وتصير مطموسة ممسوخة كسائر أعضائهم وبالفارسية : (هرآينه ناييدا كنيم يعني رقم محو كشيم بر شمهاى ايشان) يعني كما أعمينا قلوبهم ومحونا بصائرهم لو نشاء لأعمينا أبصارهم الظاهرة وأزلناها بالكلية فيكون عقوبة على عقوبة {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} الاستباق افتعال وبالفارسية : (بر يكديكر يش كرفتن) والصراط من السبيل ما لا التواء فيه بل يكون على سبيل القصد وانتصابه بنزع الجار لأن الصراط مسبوق إليه لا مسبوق أي : فأرادوا أن يستبقوا ويتبادروا إلى الطريق الواسع الذي اعتادوا سلوكه وبالفارسية : (س يشى كيرند وآهنك كنند راهى راكه در سلوك آن معتادند) {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي : فكيف يبصرون الطريق وجهة السلوك إلى مقاصدهم حين لا عين لهم للابصار فضلاً عن غيره أي : لا يبصرون لأن أنى بمعنى كيف وكيف هنا إنكار فتفيد النفي وحاصله تهديد لأهل مكة بالطمس فإن الله تعالى قادر على ذلك كما فعل بقوم لوط حين كذبوه وراودوه عن ضيفه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى طمس عين الظاهر بحيث لا يكون لها شق فكيف تبكي حتى تشهد بالبكاء على صاحبها ويشير أيضاً إلى طمس عين
426
الباطن فإذا كانت مطموسة كيف يبصر بها الحق والباطل ليرجع من الباطل إلى الحق وإذا لم يبصر بها الحق كيف يخاف من الباطل ليحترق قلبه بنار الخوف فيسيل منه الدمع ليشهد له بالبكاء من الخوف.
كريه وزارى دليل رهبتست
هركرا اين نيست اهل شقوتست
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/333)
{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ} المسخ تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها سواء كان ذلك التحويل بقلبها إلى صورة البهيمية مع بقاء الصورة الحيوانية أو بقلبها حجراً ونحوه من الجمادات بإبطال القوى الحيوانية.
والمعنى ولو نشاء نسقطهم عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار لغيرنا صورهم بأن جعلناهم قردة وخنازير كما فعلنا بقوم موسى أي : بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام أو بأن جعلناهم حجارة ومدرة وهذا أشد من الأول وأقبح لأن الأول خروج عن رتبة الإنسانية إلى الحيوانية وهذا عن الحيوانية إلى الجمادية التي ليس فيها شعور أصلاً وقطعاً {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} بمعنى المكان إلا أن المكانة أخص كالمقامة والمقام أي : مكانهم ومنزلهم الذي هم فيه قعود وبالفارسية : (برجاى خويش تاهم آنجا افسرده شوند) وقال بعضهم : لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم {فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا} ذهاباً وإقبالاً إلى جانب أمامهم أي : لم يقدروا أن يبرحوا مكانهم بإقبال.
أصله مضوي قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وكسرت الضاد قبل الياء لتسلم الياء ومن قرأ مضياً بكسر الميم فإنما كسرها اتباعاً للضاد {وَلا يَرْجِعُونَ} أي : ولا رجوعاً وإدباراً إلى جهة خلفهم فوضع موضع الفعل لمراعاة الفاصلة وليس مساق الشرطين لمجرد بيان قدرته تعالى على ما ذكر من عقوبة الطمس والمسخ بل لبيان أنهم بما هم عليه من الكفر ونقص العهد وعدم الاتعاظ بما شاهدوا من آثار دثار امثالهم أحقاء بأن يفعل بهم في الدنيا لتلك العقوبة كما فعل بهم في الآخرة عقوبة الختم وأن المانع من ذلك ليس إلا عدم تعلق المشيئة الإلهية به كأنه قيل لو نشاء عقوبتهم بما ذكر من الطمس والمسخ لفعلناها لكنا لم نفعل جرياً على سنن الرحمة العامة والحكمة التامة الداعيتين إلى إمهالهم زماناً إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويشكروا النعمة أو إلى أن يتولد منهم من يتصف بذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعض الحكماء : المسخ ضربان خاص وهو تشويه الخلق بالفتح وعام في كل زمان وهو تبديل الخلق بالضم وذلك أن يصير الإنسان متخلقاً بخلق ذميم من أخلاق بعض الحيوانات نحو أن يصير في شدة الحرص كالكلب أو الشره كالخنزير أو الغمارة كالثور.
فعبارة الآية في تحويل الصورة وإشارتها في تحويل الصفات الإنسانية بالصفات السبعية والشيطانية فلا يقدرون على إزالة هذه الصفات ولا يقدرون على رجوعهم إلى صفاتهم الإنسانية فمن مسخه الله في الدنيا بصفات حشره في صورة صفته الممسوخة كما جاء في الحديث الصحيح "إن آزر يحشر على صفة ضبع".
قال في "حياة الحيوان" : في الحديث : "يلقي إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعص فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزي من أن يكون أبي في النار فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا
427
هو بذيح متلطخ وهو بكسر الذال والخاء المعجمتين ذكر الضباع الكثيرة الشعر فيؤخذ بقوائمه ويلقى في النار والحكمة في كون آزر مسخ ضبعاً دون غيره من الحيوان أن الضبع تغفل عما يجب التيقظ له وتوصف بالحمق فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمى في حجرها بحجر فتحسبه شيئاً تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك ولأن آزر لو مسخ كلباً أو خنزيراً كان فيه تشويه لخلقه فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه السلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة".
قال في "المحكم" : يقال خزيته أي : ذللته فلما خفض إبراهيم عليه السلام له جناح الذل من الرحمة لم يخز بصفة الذل يوم القيامة فإذا كان حال إبراهيم فما ظنك بغيره ممن لم يأت الله بقلب سليم فينبغي أن لا يلتفت إلى الاكتساب بل يؤخذ بصالحات الأعمال وخالصات الأحوال نرجو من الله المتعال أن لا يفضحنا يوم السؤال.
{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِا أَفَلا يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/334)
{وَمَن نُّعَمِّرْهُ} (التعمير : زندكانى دادن) والعمر مدة عمارة البدن بالروح أي : ومن نطل عمره في الدنيا وبالفارسية : (هركرا عمر دراز دهيم) {نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} (التنكيس : نكونسار كردن) وهو أبلغ والنكس أشهر وهو قلب الشيء على رأسه ومنه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه والنكس في المرض أن يعود في مرضه بعد إفاقته والنكس في الخلق وهو بالفارسية : (آفرينش) الرد إلى أرذل العمر والمعنى نقلبه فيه ونخلقه على عكس ما خلقناه أولاً فلا يزال يتزايد ضعفه وتتناقص قوته وتنتقض بنيته ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد وقلة العقل والخلو عن الفهم والإدراك.
أراني كل يوم في انتقاص
ولا يبقى على النقصان شيء
{أَفَلا يَعْقِلُونَ} أي : أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة غير أنه على تدرج وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
نزد قدرت كارها دشوار نيست†
وفي "البحر" : فإن لم نفعلها بكم في الدنيا نفعلها بكم في الآخرة إن لم تتوبوا عن الكفر والمعاصي فإنه روى أن بعض الناس من هذه الأمة يحشرون على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكوسين أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها وبعضهم عمياً وبعضهم صماً وبكماً وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع إلى غير ذلك وسيجيء تفصيله في محله.
قال أبو بكر الوراق قدس سره : من عمره الله بالغفلة فإن الأيام والأحوال مؤثرة فيه حالاً فحالاً من طفولة وشباب وكهولة وشيبة إلى أن يبلغ ما حكى الله عنه من قوله : {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} ومن أحياه الله بذكره فإن تلون الأحوال لا يؤثر فيه فإنه متصل الحياة بحياة الحق حي به وبقربه قال الله تعالى : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} (النحل : 97).
قال في "كشف الأسرار" : (اين بندكانرا تنبيهي است عظيم بيدار كردن ايشان ازخواب غفلت يعني كه خودرا دريابيد وروز كار جوانى وقوت بغنيمت داريد وعمل كنيد يش ازانكه
428
نتوانيد) قال النبي صلى الله عليه وسلّم "اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك وفراغك قبل شغلك" (س اكر روز كار جوانى ضايع كند ودر عمل تقصير كند برسر يرى وعجز عذري باز خواهد هم نكوبود) قال النبي عليه السلام : "إذا بلغ الرجل تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكتب أسير الله في الأرض وشفع في أهل بيته وإذا بلغ مائة سنة استحيى الله عز وجل منه أن يحاسبه" أي : رضي عنه وسامح في حسابه ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
دلم ميدهد وقت وقت اين اميد
كه حق شرم دارد زموى سفيد
عجب دارم ار شرم دارد زمن
كه شرمم نمى آيد از خويشتن
{وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} رد وإبطال لما كانوا يقولون في حقه عليه السلام من أنه شاعر وما يقوله شعر والظاهر في الرد أن يقال أنه ليس بشاعر وأن ما يتلوه عليكم ليس بشعر إلا أن عدم كونه شاعراً لما كان ملزوماً لعدم كون معلمه علمه الشعر نفي اللازم وأريد نفي الملزوم بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح.
قال الراغب : يقال : شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت كذا أي : علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته.
فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم : لست شعري وصار في التعارف اسماً للموزون المقفى من الكلام والشاعر المختص بصناعته.
وفي "القاموس" : الشعر غلب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية وإن كان كل علم شعراً والجمع إشعار يقال شعر به كنصر وكرم علم به وفطن له وعقله.
والشعر عند الحكماء القدماء ليس على وزن وقافية ولا الوزن والقافية ركن في الشعر عندهم بل الركن في الشعر إيراد المقدمات المخيلة فحسب ثم قد يكون الوزن والقافية معينين في التخيل فإن كانت المقدمة التي تورد في القياس الشعري مخيلة فقط تمحض القياس شعرياً وإن انضم إليها قول إقناعي تركبت المقدمة من معنيين شعري وإقناعي وإن كان الضميم إليه قولاً يقينياً تركبت المقدمة من شعريّ وبرهانيّ.
قال بعضهم : الشعر إما منطقي وهو المؤلف من المقدمات الكاذبة وإما اصطلاحي وهو كلام مقفى موزون على سبيل القصد والقيد الأخير يخرج ما كان وزنه اتفاقياً كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها أي : من بحور الشعر الستة عشر نحو قوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا} (آل عمران : 92) وقوله : {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ} (سبأ : 13) وقوله : {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (الصف : 13) ونحو ذلك وكلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقياً من غير قصد إليه وعزم عليه نحو قوله عليه السلام حين عثر في بعض الغزوات فأصاب إصبعه حجر فدميت.
هل أنت إلا إصبع دميت
(7/335)
وفي سبيل الله ما لقيت وقوله يوم حنين حين نزل ودعا واستنصر أو يوم فتح مكة :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب وقوله يوم الخندق :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
باسم الإله وبه بدأنا
ولو عبدنا غيره شقينا
429
وغير ذلك سواء وقع في خلال المنثورات والخطب أم لا.
والمراد بالشعر الواقع في القرآن الشعر المنطقي سواء كان مجرداً عن الوزن أم لا والشعر المنطقي أكثر ما يروج بالاصطلاحي.
قال الراغب : قال بعض الكفار للنبي عليه السلام : إنه شاعر فقيل لما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي.
وقال بعض المحصلين أرادوا به أنه كاذب لأن ظاهر القرآن ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الأغتم من العجم فضلاً عن بلغاء العرب فإنما رموه بالكذب لأن أكثر ما يأتي به الشاعر كذب ومن ثمة سموا الأدلة الكاذبة شعراً.
قال الشريف الجرجاني في "حاشية المطالع" : والشعر وإن كان مفيداً للخواص والعوام فإن الناس في باب الإقدام والأحجام أطوع للتخييل منهم للصدق إلا أن مداره على الأكاذيب ومن ثمة قيل أحسن الشعر أكذبه فلا يليق بالصادق المصدوق لما شهد به قوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} الآية والمعنى وما علمنا محمداً الشعر بتعليم القرآن على معنى أن القرآن ليس بشعر فإن الشعر كلام متكلف موضوع ومقال مزخرف مصنوع منسوج على منوال الوزن والقافية مبني على خيالات وأوهام واهية فأين ذلك من التنزيل الجليل الخطر المنزه عن مماثلة كلام البشر المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة الموصلة على سعادة الدنيا والآخرة ومن أي : اشتبه عليهم الشؤون واختلط بهم الظنون قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وفي الآية : إشارة إلى أن النبي عليه السلام معلم من عند الله لأنه تعالى علمه علوم الأولين والآخرين وما علمه الشعر لأن الشعر قرآن إبليس وكلامه لأنه قال رب اجعل لي قرآناً قال تعالى قرآنك الشعر.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في قوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} اعلم أن الشعر محل للإجمال واللغز والتورية أي : وما رمزنا لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم شيئاً ولا ألغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئاً ولا أجملنا له الخطاب حيث لم يفهم انتهى وهل يشكل على هذه الحروف المقطعة في أوائل السور ولعله رضي الله عنه لا يرى أن ذلك من قبيل المتشابه أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه
وفي "التأويلات النجمية" : يشير قوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} إلى أن كل أقوال وأعمال وأحوال تجري على العباد في الظاهر والباطن كلها تجري بتعليم الحق تعالى حتى الحرف والصنائع وذلك سر قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} وتعليمه الصنائع لعباده على ضربين بواسطة وبغير واسطة أما بالواسطة فبتعليم بعضهم بعضاً وأما بغير الواسطة فكما علم داود عليه السلام صنعة اللبوس وكل حرفة وصنعة يعملها الإنسان من قريحته بغير تعليم أحد فهي من هذا القبيل انتهى ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قابل تعليم وفهمست اين جسد
ليك صاحب وحى تعليمش دهد
جمله حرفتها يقين از وحى بود
اول اوليك عقل آنرا فزود
هي حرفت را ببين كين عقل ما
داند او آموختن بى اوستا
كره اندر مكر موى اشكاف بد
هي بيشه رام بى استاد شد
ثم حكى قصة قابيل فإنه تعلم حفر القبر من الغراب حتى دفن أخاه هابيل بعد قتله وحمله على عاتقه أياماً {وَمَا يَنابَغِى لَه} البغاء الطلب والإنبغاء انفعال منه يقال بغيته أي : طلبته فانطلب.
430
قال الراغب : هو مثل قوله النار ينبغي أن تحرق الثوب أي : هي مسخرة للإحراق والمعنى وما يصح لمحمد الشعر ولا يتسخر ولا يتسهل ولا يتأتى له لو طلبه أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يكن لسانه يجري به إلا منكسراً عن وزنه بتقديم وتأخير أو نحو ذلك كما جعلناه أمياً لا يهتدي للخط ولا يحسنه ولا يحسن قراءة ما كتبه غيره لتكون الججة أثبت وشبهة المرتابين في حقية رسالته ادحض فإنه لو كان شاعراً لدخلت الشبهة على كثير من الناس في أن ما جاء به يقوله من عند نفسه لأنه شاعر صناعته نظم الكلام.
وقال في "إنسان العيون" والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه صلى الله عليه وسلّم إنما هو إنشاء الشعر أي : الإتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه وهذا هو المعنى بقوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} فإن فرض وقوع كلام موزون منه عليه السلام لا يكون ذلك شعراً اصطلاحاً لعدم قصد وزنه فليس من الممنوع منه والغالب عليه أنه إذا أنشد بيتاً من الشعر متمثلاً به أو مسنداً لقائله لا يأتي به موزوناً.
وادعى بعض الأدباء أنه عليه السلام كان يحسن الشعر أي : يأتي به موزوناً قصداً ولكنه كان لا يتعاطاه أي : لا يقصد الإتيان به موزوناً قال : وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا إنه كان لا يحسن وفيه أن في ذلك تكذيباً للقرآن.
(7/336)
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التهذيب" للبغوي : من أئمتنا قيل كان عليه السلام يحسن الشعر ولا يقوله والأصح أنه كان لا يحسنه ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون.
ثم رأيته في "ينبوع الحياة" قال : كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظاً لنفسه وماله يعرض في كلامه بأن النبي عليه السلام كان يحسن الشعر يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى في قوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه} الآية الكل في "إنسان العيون".
يقول الفقير أغناه الله القدير : هذا ما قالوه في هذا المقام وفيه إشكال كما لا يخفى على ذوي الإفهام لأنهم حين حملوا الشعر في هذا الكلام على المنطقي ثم بنوا قوله وما ينبغي له على القريض لم يتجاوب آخر النظم بأوله والظاهر أن المراد وما ينبغي له من حيث نبوته وصدق لهجته أن يقول الشعر لأن المعلم من عند الله لا يقول إلا حقاً وهذا لا ينافي كونه في نفسه قادراً على النظم والنثر ويدل عليه تمييزه بين جيد الشعر ورديئه أي : موزونه وغير موزونه على ما سبق ومن كان مميزاً كيف لا يكون قادراً على النظم في الإلهيات والحكم لكن القدرة لا تستلزم الفعل في هذا الباب صوناً عن إطلاق لفظ الشعر والشاعر الذي يوهم التخييل والكذب وقد كان العرب يعرفون فصاحته وبلاغته وعذوبة لفظه وحلاوته منطقه وحسن سرده والحاصل أن كل كمال إنما هو مأخوذ منه كما سبق في أواخر الشعراء.
وكان أحب الحديث إليه صلى الله عليه وسلّم الشعر أي : ما كان مشتملاً على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق أو نصرة الإسلام أو ثناء على الله ونصيحة للمسلمين.
وأيضاً كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلّم الشعر أي : ما كان فيه كذب وقبح وهجو ونحو ذلك.
وأما ما روي من أنه عليه السلام كان يضع لحسان في المسجد منبراً فيقوم عليه يهجو من كان يهجو رسول الله والمؤمنين فذلك من قبيل المجاهدة التي أشير إليها في قوله : "جاهدوا بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
شاعران شيران شدند وهجوشان
همو نكال وو دندانست دان
431
تيزكن دندان وموزى قطع كن
اين نين باشد مكافات بدان
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنْ هُوَ} أي : ما القرآن {إِلا ذِكْرٌ} أي : عظة من الله تعالى وإرشاد للإنس والجن كما قال تعالى : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} (يوسف : 104) {وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ} أي : كتاب سماوي بين كونه كذلك أو فارق بين الحق والباطل يقرأ في المحاريب ويتلى في المعابد وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدين فكم بينه وبين ما قالوا.
فعطف القرآن على الذكر عطف الشيء على أحد أوصافه فإن القرآن ليس مجرد الوعظ بل هو مشتمل على المواعظ والأحكام ونحوها فلا تكرار.
قال في "كشف الأسرار" : (هريغمبرى كه آمد برهان نبوت وى ازراه ديدها در آمد و آتش ابراهيم وعصا ويد بيضاء موسى وإحياى موتاى عيسى عليهم السلام وبرهان نبوت محمد عربي أزراه دلها در آمد بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم اكره مصطفى را نيز معجزات بسيار بود كه محل اطلاع ديدها بود ون انشقاق قمر وتسبيح حجر وكلام ذئب وإسلام ضب وغير آن إما مقصود آنست كه موسى تحدى بعصا كرد وعيسى تحدى بإحياء موتى كرد ومصطفى عليه السلام تحدى بكلام كرد {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة : 23) عصاى موسى هرند درو صفت ربانى تعبيه بودازدرخت عوسج بود ودم عيسى هرندكه درو لطف الهى تعبيه بود اما وديعت سنيه بشر بود اى محمد توكه مى روى دمى ووبى باخود مبر وب نفقه خران باشد ودم نصيب بيماران توصفت قديم ما قرآن مجيد باخود بير تا معجزه تو صفت ما بود).
{لِّيُنذِرَ} أي : القرآن متعلق بقوله وقرآن أو بمحذوف دل عليه قوله إلا ذكر وقرآن اى إلا ذكر أنزل لينذر ويخوف {مَن كَانَ حَيًّا} أي : عاقلاً فهيماً يميز المصلحة من المفسدة ويستخدم قلبه فيما خلق له ولا يضيعه فيما لا يعنيه فإن الغافل بمنزلة الميت وجعل العقل والفهم للقلب بمنزلة الحياة للبدن من حيث أن منافع القلب منوطة بالعقل كما أن منافع البدن منوطة بالحياة.
وفيه إشارة إلى أن كل قلب تكون حياته بنور الله وروح منه يفيده الإنذار ويتأثر به وأمارة تأثره الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والمولى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/337)
وقال بعضهم : من كان حياً أي : مؤمناً في علم الله فإن الحياة الأبدية بالإيمان يعني أن إيمان من كان مؤمناً في علم الله بمنزلة الحياة للبدن لكونه سبباً للحياة الأبدية.
قال ابن عطاء : من كان في علم الله حياً أحياه الله بالنظر إليه والفهم عنه والسماع منه والسلام عليه.
وقال الجنيد : الحي من كان حياته بحياة خالقه لا من تكون حياته ببقاء نفسه ومن كان بقاؤه ببقاء نفسه فإنه ميت في وقت حياته ومن كان حياته بربه كان حقيقة حياته عند وفاته لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية وتخصيص الإنذار بمن كان حي القلب مع أنه عام له ولمن كان ميت القلب لأنه المنتفع به {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} أي : يجب كلمة العذاب وهو {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة : 13) {عَلَى الْكَـافِرِينَ} المصرين على الكفر لأنه إذا انتفت الريبة إلا المعاندة فيحق القول عليهم وفي إيرادهم بمقابلة من كان حياً إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها التي هي المعرفة أموات في الحقيقة كالجنين ما لم ينفخ فيه الروح فالمعرفة تؤدي إلى الإيمان والإسلام والإحسان التي لا يموت أهلها بل ينتقل من مكان إلى مكان.
قال
432
حضرة شيخي وسندي روح الله روحه : حالة النوم وحالة الانتباه إشارة إلى الغفلة ويقظة البصيرة فوقت الانتباه كوقت انتباه القلب في أول الأمر ثم الحركة إلى الوضوء إشارة إلى التوبة والإنابة ثم الشروع في الصلاة إشارة إلى التوجه الإلهي والعبور من عالم الملك والناسوت والدخول في عالم الملكوت ففي الحركات بركات كما أشار إليه المولوي في قوله :
فرقتي لو لم تكن في ذا السكوت
لم يقل إنا إليه راجعون
ثم إن الإنذار صفة النبي عليه السلام في الحقيقة وقد قرىء لتنذر بتاء الخطاب ثم صفة وارثه الأكمل الذي هو على بصيرة من أمره.
قال الشيخ الشهير بأفتاده قدس سره : إن الوعظ لا يليق بمن لم يعرف المراتب الأربع لأنه يعالج مرض الصفراء بعلاج البلغم أو السوداء نعم يحصل له الثواب إذا كان لوجه الله تعالى ولكن لا يحصل الترقي قدر ذرة فإنه لا بد أن يعرف الواعظ أن أية آية تتعلق بالطبيعة وأية آية تتعلق بالنفس ولذلك بكى الأصحاب دماً فمن وجب عليه القول الأزلي بموت قلبه وقساوته كالكافرين والغافلين فلا يتأثر بالإنذار إذ الباز الأشهب إنما يصيد الصيد الحي فنسأل الله الحياة واليقظة والتأثر من كل الإنذار والتنبيه والعظة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ * وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَمَشَارِبُا أَفَلا يَشْكُرُونَ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على مقدر والضمير للمشركين من أهل مكة أي : ألم يتفكروا ولم يعلموا علماً يقينياً هو في حكم المعاينة أي : قد رأوا وعلموا {إِنَّآ} بمقتضى جودنا {خَلَقْنَا لَهُم} أي : لأجلهم وانتفاعهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} العمل كل فعل من الحيوان يقصد فهو أخص من الفعل أي : مما تولينا إحداثه بالذات لم يشاركنا فيه غيرنا بمعاونة وتسبب وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تمثيلية من عمل يعمل بالأيدي لأنه تعالى منزه عن الجوارح.
قال الكاشفي : (ميان مردمان مثاليست هركارى كه تنهاكند كويند من اين مهم بدست خود ساخته ام يعني ديكر مرا درساختن يارى نداده) وإنما تخاطب العرب بما يستعملون في مخاطباتهم (اينجا نيز ميفرمايدكه ما آفريديم براى ايشان بخود بى مشاركت غيري).
قال الراغب : الأيدي جمع يد بمعنى الجارحة خص لفظ اليد لقصورنا إذ هي أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا.
وقال العتبي : الأيدي هنا القوة والقدرة وقوله عملت أيدينا حكاية عن الفعل وإن لم يباشر الفعل باليد هذا كقوله جرى بناء هذه القنطرة وهذا القصر على يدي فلان.
وفي الخبر على اليد ما أخذت حتى تؤديه فالأمانة مؤداة وإن لم تباشر باليد فيقول مالي في يد فلان أو اليتيم تحت يد القيم فاليد يكنى بها عن الملكة والضبط.
(7/338)
وقال في "الأسئلة المقحمة" : الأيدي هنا صلة وهو كقوله : {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى : 30) ومذهب العرب الكناية باليد والوجه عن الجملة انتهى وهذه المعاني متقاربة في الحقيقة {أَنْعَـامًا} مفعول خلقنا آخر جمعاً بينه وبين أحكامه المتفرعة عليه بقوله تعالى : {فَهُمْ} إلخ جمع نعم وهو المال الراعية وهي الإبل والبقر والغنم والمعز مما في سيره نعومة أي : لين ولا يدخل فيها الخيل والبغال والحمر لشدة وطئها الأرض وخص بالذكر من بين سائر ما خلق الله من المعادن والنبات والحيوان غير الأنعام لما فيها من بدائع الفطرة كما في الإبل وكثرة المنافع كما في البقر والغنم أي : الضأن والمعز {فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ} .
قال ابن الشيخ :
433
الفاء للسببية ومالكون من ملك السيد والتصرف أي : فهم لسبب ذلك مالكون لتلك الأنعام بتمليكنا إياها وهم متصرفون فيها بالاستقلال يختصون بالانتفاع بها لا يزاحمهم في ذلك غيرهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ} (التذليل : خوار وذليل ومنقاد كردن) والذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة.
وفي "المفردات" الذل ما كان عن قهر والذل ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر وذلت الدابة بعد شماس ذلاً وهي ذلول ليست بصعبة.
والمعنى وصيرنا تلك الأنعام منقادة لهم وبالفارسية : (رام كرديم انعام را براى ايشان) بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها من الركوب والحمل والسوق إلى ما شاءوا والذبح مع كمال قوتها وقدرتها فهو نعمة من النعم الظاهرة ولهذا ألزم الله الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله : {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ} (الزخرف : 13) {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} بفتح الراء بمعنى المركوب كالحلوب بمعنى المحلوب أي : فبعض منها مركوبهم أي : معظم منافعها الركوب وقطع المسافات وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمات الركوب.
قال الكاشفي : (س بعضى ازان مركوب ايشانست كه بران سوارى كنند ون شتر) والركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان وقد يستعمل في السفينة والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير (والامتطاء : مركب ومطيه كرفتن) {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي : وبعض منها يأكلون لحمه وشحمه.
{وَلَهُمْ فِيهَا} أي : في الأنعام المركوبة والمأكولة {مَنَـافِعُ} أخر غير الركوب والأكل كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والنسيلة أي : النتائج وكالحراثة بالثيران {وَمَشَارِبُ} من اللبن جمع مشروب والشرب تناول كل مائع ماء كان أو غيره {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي : أيشاهدون هذه النعم التي يتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها بأن يوحدوه ولا يشركوا به في العبادة فقد تولى المنعم أحداث تلك النعم ليكون أحداثها ذريعة إلى أن يشكروها فجعلوها وسيلة إلى الكفران كما شكا مع حبيبه وقال :
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَمَشَارِبُا أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ} .
{وَاتَّخَذُوا} أي : مع هذه الوجوه من الإحسان {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : متجاوزين الله المتفرد بالقدرة المتفضل بالنعمة {ءَالِهَةً} من الأصنام وأشركوها به تعالى في العبادة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاء أن ينصروا من جهتهم فيما أصابهم من الأمور أو ليشفعوا لهم في الآخرة ثم استأنف فقال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي : لا تقدر آلهتهم على نصرهم والواو لوصفهم الأصنام بأوصاف العقلاء {وَهُمْ} أي : المشركون {لَهُمُ} أي : لآلهتهم {جُندٌ} عسكر {مُحْضَرُونَ} أثرهم في النار أي : يشيعون عند مساقهم إلى النار ليجعلوا وقوداً لها وبالفارسية : (ساه اند حاضر كرده شد كان فرداكه لشكر ايشانند با ايشان حاضر شوند فردوزخ).
قال الكواشي : روي أنه يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه اتباعه كأنهم جنده فيحضرون في النار هذا لمن أمر بعبادة نفسه أو كان جماداً :
عابد ومعبود باشد در جحيم
حسرت ايشان شود تاكه عظيم
{فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} الفاء لترتيب النهي على ما قبله والنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهي له عن التأثر منه
434
(7/339)
بطريق الكناية على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية.
وقد يوجه النهي إلى المسبب ويراد النهي عن السبب كما في قوله لا أرينك ههنا يريد به نهي مخاطبه عن الحضور لديه والمراد بقولهم ما ينبىء عنه ما ذكر من اتخاذهم الأصنام آلهة فإن ذلك مما لا يخلو عن التفوه بقولهم هؤلاء آلهتنا وأنهم شركاء الله تعالى في المعبودية وغير ذلك مما يورث الحزن كذا في "الإرشاد".
قال ابن الشيخ : الفاء جزائية أي : إذا سمعت قولهم في الله أن له شريكاً وولداً وفيك أنك كاذب شاعر وتألمت من أذائهم وجفائهم فتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم وبأني أجازيهم على تكذيبهم إياك وإشراكهم بي {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
قال في "الإرشاد" : تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليله بطريق الإشعار فإن العلم بما ذكر مستلزم للمجازاة قطعاً أي : نعلم بعلمنا الحضوري عموم ما يضمرون في صدورهم من العقائد الفاسدة ومن العداوة والبغض وجميع ما يظهرون بألسنتهم من كلمات الكفر والشرك بالله والإنكار للرسالة فنجازيهم على جميع جناياتهم الخافية والبادية.
بآشكار ونهان هره كفتى وكردى
جزا دهد بتو داناى آشكار ونهان
وتقديم السر على العلن إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى لجميع المعلومات كأنه علمه تعالى بما يسرون أقدم منه بما يعلنون مع استوائهما في الحقيقة فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة.
وفي الآية إشارة إلى أن كلام الأعداء الصادر من العداوة والحسد جدير أن يحزن قلوب الأنبياء مع كمال قوتهم وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم الالتفات وتطييب القلوب في مقاساة الشدائد في الله بأن لها ثمرات كريمة عند الله وللحساد مطالب بها عند الله كما قال : {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من الحسد والضغائن {وَمَا يُعْلِنُونَ} من العداوة والطعن وأنواع الجفاء وإذا علم العبد أن ألمه آت من الحق هان عليه ما يقاسيه لا سيما إذا كان في الله كما في "التأويلات النجمية".
قال بعض الكبار : ليخفف ألم البلاء علمك بأن الله هو المبتلي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
هره ازجانان مى آيد صفا باشد مرا†
هذا ، قال في "برهان القرآن" قوله : {فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ} وفي يونس {وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (يونس : 65) تشابهاً في الوقف على قولهم في السورتين لأن الوقف عليه لازم وإن فيهما مكسورة في الابتداء لا في الحكاية ومحكي القول فيهما محذوف ولا يجوز الوصل لأن النبي صلى الله عليه وسلّم منزه عن أن يخاطب بذلك انتهى.
قال في "بحر العلوم" قوله : {إِنَّآ} الخ تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرىء أنا بفتح الهمزة على حذف لام التعليل جاز وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لبيك إن الحمد والنعمة لك" كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل انتهى.
وفي "الكواشي" وزعم بعضهم أن من فتح {إِنَّآ} بطلت صلاته وكفر وليس كذلك لأنه لا يخلو إما أن يفتحها تعليلاً فمعناه كالمكسورة أو يفتحها بدلاً من قولهم وليس بكفر
435
أيضاً لجواز أن يخاطب هو صلى الله عليه وسلّم والمراد غيرة نحو {لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) بل إن اعتقد أن محمداً عليه السلام يحزن لعلمه تعالى سرهم وعلانيتهم فقد كفر أو يفتحها معمولة قولهم عند من يعمل القول بكل حال وليس بكفر أيضاً انتهى كلامه بإجمال.
{فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه قَالَ مَن يُحْىِ} .
{أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ} كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائله وأعدل شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام.
والهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على مقدر والرؤية قلبية والنطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/340)
ـ روي ـ أن جماعة من كفار قريش منهم أبيّ بن خلف ووهب بن حذافة بن جمع وأبو جهل والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة اجتمعوا يوماً فقال أبيّ بن خلف : ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال : واللات والعزى لأذهبن إليه ولأخصمنه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتيه بيده ويقول : يا محمد إن الله يحيي هذا بعدما رمّ قال عليه السلام : "نعم ويبعثك ويدخلك جهنم" فنزلت رداً عليه في إنكاره البعث لكنها عامة تصلح رداً لكل من ينكره من الإنسان لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي "الإرشاد" وإيراد الإنسان موضع المضمر لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان كما في قوله تعالى : {أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـاًا} (مريم : 67) والمعنى ألم يتفكر الإنسان المنكر للبعث أياً من كان ولم يعلم علماً يقينياً إنا خلقناه من نطفة وبالفارسية : (آيا نديد وندانست ابيّ وغير او آنراكه ما بيافريديم اورا از آبى مهين در قرارى مكين هل روز اور در طور نطفه نكه داشتيم تا مضغه كشت مصطفى عليه السلام كفت "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكاً بأربع كلمات فيقول : اكتب أجله ورزقه وإنه شقي أو سعيد" آنكه تقطيع هيكل أو صورت شخص او در ظهور آورديم واورا كسوت بشريت وشانيديم وازان قرار مكين باين فضاى رحيب آورديم واز بستان رازخون اورا شير صافى داديم وبعقل وفهم وسمع وبصر ودل وجان اورا بياراستيم وبقبض وبسط ومشي وحركات اورا قوت ديديم وون ازان نطفه باين رتب رسانيديم وسخن كوى ودلير كشت) {فَإِذَا هُوَ} (س آنكاء او) {خَصِيمٌ} شديد الخصومة والجدال بالباطل {مُّبِينٍ} أي : مبين في خصومته أو مظهر للحجة وهو عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته وتحققه مبدأ فطرته شهادة بينة فهذا حال الإنسان الجاهل الغافل ونعم ما قيل :
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه القوافي كل حين
فلما قال قافية هجاني
وما قيل :
لقدر ربيت جرواً طول عمري
فلما صار كلباً عض رجلي
436
قال السمرقندي : العامل في إذا المفاجأة معنى المفاجأة وهو عامل لا يظهر استغنى عن إظهاره بقوة ما فيها من الدلالة عليه ولا يقع بعدها إلا الجملة المركبة من المبتدأ والخبر وهو في المعنى فاعل لأن معنى {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} فاجأه خصومة بينة كما أن معنى قوله : {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم : 36) فاجأهم قنوطهم أو مفعول أي : فاجأ الخصومة وفاجأوا القنوط يعني خاصم خالقه مخاصمة ظاهرة وقنطوا من الرحمة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/341)
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا} عطف على الجملة الفجائية أي : ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلاً أي : أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر وهي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل وهي إنكار إحيائنا العظام ونفي قدرتنا عليه.
قال ابن الشيخ المثل يستعار للأمر العجيب تشبيهاً له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر ولا شك أن نفي قدرة الله على البعث مع أنه من جملة الممكنات وأنه تعالى على كل شيء قدير من أعجب العجائب {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} عطف على ضرب داخل في حيز الإنكار والتعجيب والمصدر مضاف إلى المفعول أي : خلقنا إياه من النطفة أي : ترك التفكر في بدء خلقه ليدله ذلك على قدرته على البعث فإنه لا فرق بينهما من حيث أن كلاً منهما إحياء موات وجماد.
وقال البقلى في "خلق الإنسان والوجوه الحسان" : من علامات قدرته أكثر مما يكون في الكون لأن الكونين والعالمين في الإنسان مجموعون وفيه علمه معلوم لو عرف نفسه فقد عرف ربه لأن الخليقة مرآة الحقيقة تجلت الحقيقة في الخليقة لأهل المعرفة ورب قلب ميت أحياه بجمالته بعد موته بجهالته {قَالَ} استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ عن حكاية ضرب المثل كأنه قيل أي : مثل ضرب أو ماذا قال فقيل : قال {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ} منكراً له أشد النكير مؤكداً له بقوله : {وَهِىَ رَمِيمٌ} أي : بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد حيث لا جلد عليها ولا لحم ولا عروق ولا أعصاب يقال رمّ العظم يرم رمة بكسر الراء فيهما أي : بلى فهو رميم وعدم تأنيث الرميم مع وقوعه خبراً للمؤنثة لأنه اسم لما بلى من العظام غير صفة كالرفات.
وقد تمسك بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميت وهو الشافعي ومالك وأحمد وأما أصحابنا الحنفية فلا يقولون بنجاسته كالشعر ويقولون المراد بإحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس.
واختلفوا في الآدمي هل يتنجس بالموت.
فقال أبو حنيفة : يتنجس لأنه دموي إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له وتكره الصلاة عليه في المسجد.
وقال الشافعي وأحمد لا يتنجس به ولا تكره الصلاة عليه فيه وعن مالك خلاف والأظهر الطهارة وأما الصلاة عليه في المسجد فالمشهور من مذهبه كراهتها كقول أبي حنيفة.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{قُلْ} يا محمد تبكيتاً لذلك الإنسان المنكر بتذكير ما نسيه من فطرة الدالة على حقيقة الحال وإرشاده الطريقة للاستشهاد بها {يُحْيِيهَا} أي : تلك العظام {الَّذِى أَنشَأَهَآ} أوجدها {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي : في أول مرة ولم تكن شيئاً فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها وهو من النصوص القاطعة الناطقة بحشر الأجساد استدلالاً بالابتداء على الإعادة وفيه رد على من لم يقل به وتكذيب له {وَهُوَ} أي : الله المنشيء
437
{بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} مبالغ في العلم بتفاصيل كيفيات الخلق والإيجاد إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلاً من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل.
وفي "بحر العلوم" بليغ العلم بكل شيء من المخلوقات لا يخفى عليه شيء من الأجزاء المتفتتة وأصولها وفروعها فإذا أراد أن يحيي الموتى يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها ويحيون كما كانوا أحياء وهو معنى حشر الأجساد والأرواح وبعث الموتى.
قال القاضي عضد الدين في "المواقف" هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف والحق إنه لم يثبت ذلك ولا نجزم فيه نفياً ولا إثباتاً لعدم الدليل على شيء من الطرفين وقوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} لا يرجح أحد الاحتمالين لأن هلاك الشيء كما يكون بإعدام أجزائه يكون أيضاً بتفريقها وإبطال منافعها انتهى.
فالجسم المعاد هو المبتدأ بعينه أي : بجميع عوارضه المشخصة سواء قلنا أن المبتدأ قد فنى بجميع أعضائه وصار نفياً محضاً وعدماً صرفاً ثم إنه تعالى أعاده بإعادة أجزائه الأصلية وصفاته الحالة فيها أو قلنا أن المبتدأ قد فنى بتفرق أجزائه الأصلية وبطلان منافعها ثم إنه تعالى ألف بين الأجزاء المتفرقة وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وخلق فيها الحياة.
(7/342)
واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون كقولهم : {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيد} (السجدة : 10) وقولهم : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون : 82) ومن قال : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} قاله على طريق الاستبعاد فأبطل الله استبعادهم بقوله : {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} أي : نسي أنا خلقناه من تراب ثم من نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا له من ناصيته إلى قدمه أعضاء مختلفة الصور وما اكتفينا بذلك حتى أودعناه ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل واللذان بهما استحق الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه.
ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
الأول : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني أنه كما خلق الإنسان ولم يك شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً.
والثاني : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في حواصل الطيور وبعضه في جدران المنازل كيف يجتمع وأبعد من هذه أنه لو أكل إنسان إنسان وصارت أجزاء المأكول داخلة في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل لا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاؤه وإن أعيدت الأجزاء المأكولة إلى بدن المأكول وأعيد المأكول بأجزائه لا تبقى للآكل أجزاء يتخلق منها فأبطل الله هذه الشبهة بقوله : {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
ووجهه أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول أيضاً كذلك فإذا أكل إنسان إنساناً صارت الأجزاء الأصلية للمأكول
438
فضلة بالنسبة إلى الآكل والأجزاء الأصلية للآكل وهي ما كان قبل الأكل هي التي تجمع وتعاد مع الآكل والأجزاء المأكولة مع المأكول والله بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه الروح وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع المتباعدة بحكمته وقدرته.
قال بعض الأفاضل : لما كان تمسكهم بكون العظام رميمة من وجهين :
أحدهما : اختلاط أجزاء الأبدان والأعضاء بعضها مع بعض فكيف يميز أجزاء بدن من أجزاء رميمة يابسة جداً مع أن الحياة تستدعي رطوبة البدن.
أشار إلى جواب الأول بقوله : {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} فيمكنه تمييز أجزاء الأبدان والأعضاء.
وإلى جواب الثاني بقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا} بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف الصلة للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة.
والشجر من النبت : ماله ساق والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب فلهذا سمي الأسود أخضر والأخضر أسود.
وقيل : سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة ووصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظراً إلى اللفظ فإن لفظ الشجر مذكر ومعناه مؤنث لأنه جمع شجرة كثمر وثمرة والجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة.
والمعنى خلق لأجلكم ومنفعتكم من الشجر الأخضر كالمرخ والعفار ناراً والمرخ بالخاء المعجمة شجر سريع الورى والعفار بالعين المهملة كسحاب شجر آخر تقدح منه النار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال الحكماء : لكل شجر نار إلا العناب فمن ذلك يدق القصار الثوب عليه ويتخذ منه المطرقة والعرب تتخذ زنودها من المرخ والعفار وهما موجودات في أغلب الواضع من بوادي العرب يقطع الرجل منهما غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى وذلك قوله تعالى : {فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} إذا للمفاجأة والجار متعلق بتوقدون والضمير راجع إلى الشجر (والإيقاد : آتش افروختن) أي : تشعلون النار من ذلك الشجر لا تشكون في أنها نار تخرج منه كذلك لا تشكون في أن الله يحيي الموتى ويخرجهم من القبور للسؤال والجزاء من الثواب والعقاب فإن من قدر على إحداث النار وإخراجها من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضاً فطرأ عليه اليبوسة والبلى وعلم منه أن الله تعالى جامع الأضداد ألا يرى أنه جمع الماء والنار في الخشب فلا الماء يطفىء النار ولا النار تحرق الخشب.
(7/343)
ويقال إن الله تعالى خلق ملائكة نصف أبدانهم من الثلج ونصفها من النار فلا الثلج يطفىء النار ولا النار تذيب الثلج.
وفي الآية إشارة إلى شجرة أخضر البشرية ونار المحبة فمصباح القلوب إنما يوقد منه.
قال بعض الكبار : ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما تنحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح فكذلك قد ترتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب والحاصل أنه ينقدح الظاهر بالأعمال فيحدث منها نور يتنور به البال ويزيد الحال.
ادخلوا الأبيات من أبوابها
واطلبوا الأغراض من أسبابها
نسأل الله الدخول في الطريق والوصول إلى منزل التحقيق
439
{أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} الهمزة للإنكار وإنكار النفي إيجاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام فهمزة الإنكار وإن دخلت على حرف العطف ظاهراً لكنها في التحقيق داخلة على كلمة النفي قصداً إلى إثبات القدرة له وتقريرها.
والمعنى : أليس القادر المقتدر الذي أنشأ الأناسي أول مرة وأليس الذي جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً وأليس الذي خلق السموات أي : الإجرام العلوية وما فيها والأرض أي : الإجرام السفلية وما عليها مع كبر جرمهما وعظم شأنهما وبالفارسية : (ريانيست آنكس كه بيافريد آسمانها وزمينها بابزركى اجرام ايشان) {بِقَـادِرٍ} في محل النصب لأنه خبر ليس {عَلَى أَن يَخْلُقَ} في الآخرة {مِثْلَهُم} أي : مثل الأناسي في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما ويعيدهم أحياء كما كانوا فإن بديهة العقل قاضية بأن من قدر على خلقهما فهو على خلق الأناسي أقدر كما قال تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر : 57) أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد فإن المعاد مثل الأول في الاشتمال على الأجزاء الأصلية والصفات المشخصة وإن غايره في بعض العوارض لأن أهل الجنة جرد مرد وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد وغير ذلك.
وقال شرف الدين الطيبي : لفظ مثل ههنا كناية عن المخاطبين نحو قولك مثلك يجود أي : على أن يخلقهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" : قال : إن الإعادة في معنى الابتداء فإذا قررتم بالابتداء فأي إشكال بقي في جواز الإعادة في الانتهاء ثم قال الذي قدر على خلق النار في الأغصان من المرخ والعفار قادر على خلق الحياة في الرمية البالية ثم زاد في البيان بأن قال القدرة على مثل الشيء كالقدرة عليه لاستوائهما بكل وجه وأنه يحيى النفوس بعد موتها في العرصة كما يحيي الإنسان من النطفة والطير من البيضة ويحيي القلوب بالعرفان لأهل الإيمان كما يحيي نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان.
دل عاشق وباغ وفيض حق ابر بهارآسا
حياة تازه بخشد حق دمادم باغ دلهارا
{بَلَى} جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي وإيذان بتعين الجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام.
قال ابن الشيخ : هي مختصة بإيجاب النفي المتقدم ونقضه فهي ههنا لنقض النفي الذي بعد الاستفهام أي : بلى إنه قادر كقوله تعالى : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف : 172) أي : بلى أنت ربنا.
وفي "المفردات" بلى جواب استفهام مقترن بنفي نحو {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .
ونعم يقال في الاستفهام المجرد نحو : {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (الأعراف : 44) ولا يقال ههنا بلى فإذا قيل ما عندي شيء فقلت : بلى فهو رد لكلامه فإذا قلت نعم فإقرار منك انتهى {وَهُوَ الْخَلَّـاقُ الْعَلِيمُ} عطف على ما يفيده الإيجاب أي : بلى هو قادر على ذلك والمبالغ في العلم والخلق كيفا وكماً.
وقال بعضهم : كثير المخلوقات والمعلومات يخلق خلقاً بعد خلق ويعلم جميع الخلق.
ـ ذكر البرهان الرشيدي ـ أن صفات الله تعالى التي على صيغة المبالغة كلها مجاز لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له وصفاته تعالى متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها.
وأيضاً فالمبالغة تكون في صفات تفيد الزيادة والنقصان وصفات الله منزهة عن ذلك واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي.
وقال الزركشي في "البرهان" : التحقيق إن صيغة المبالغة قسمان :
"أحدهما" : ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
"والثاني" : بحسب زيادة
440
(7/344)
المفعولات ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواقع قد يقع على جماعة متعددين وعلى هذا القسم تنزل صفات الله وارتفع الإشكال ولهذا قال بعضهم في حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
وقال في "الكشاف" : المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده أو لأنه بليغ في قبول التوبة ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه {إِنَّمَآ أَمْرُهُ} أي : شأنه تعالى {إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا} وجود شيء من الأشياء خلقه {أَن يَقُولَ لَه كُن} أي : أن يعلق به قدرته {فَيَكُونُ} قرىء بالنصب على أن يكون معطوف على يقول والجمهور على رفعه بناء على أنه في تقدير فهو يكون بعطف الجملة الاسمية على الاسمية المتقدمة وهي قوله {إِنَّمَآ أَمْرُه إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن} فالمعنى فهو يحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى فيما أراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير توقف على شيء ما وهو قول أبي منصور الماتريدي لأنه لا وجه لحمل الكلام على الحقيقة إذ ليس هناك قول ولا آمر ولا مأمور لأن الأمر إن كان حال وجود المكون فلا وجه للأمر وإن كان حال عدمه فكذلك إذ لا معنى لأن يؤمر المعدوم بأن يوجد نفسه.
قال النقشبندي : والتعقيب في فيكون إنما نشأ من العبارة وإلا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه (وكويند اين كن كلمه علامتيست كه ون ملائكة بشنوند دانندكه خير حادث خواهد شد) :
حرفيست كاف ونون زتو امير صنع او
ازقاف تابقاف بدين حرف كشته دال
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإرادة الأزلية كما تعلقت بإيجاد المكونات تعلقت القدرة الأزلية على وفق الحكمة الأزلية بالمقدورات إلى الأبد على وفق الإرادة بإشارة أمر كن فيكون إلى الأبد ما شاء في الأزل انتهى.
فإن قلت إرادته قديمة فلو كان القول قديماً صار المكون قديماً.
قلت : تعلق الإرادة حادث في وقت معين وهو وقت وجود المكون في الخارج والعين فلا يلزم ذلك.
وعن بعض الكبار في قوله عليه السلام : "إن الله فرد يحب الفرد" إن مقام الفردية يقتضي التثليث فهو ذات وصفة وفعل وأمر الإيجاد يبتني على ذلك وإليه الإشارة بقوله : {إِنَّمَآ أَمْرُهُ} الخ فهو ذات وإرادة وقول والقول مقلوب اللقاء بعد الإعلال فليس عند الحقيقة هناك قول وإنما لقاء الموجد اسم فاعل بالموجد اسم مفعول وسريان هويته إليه وظهور صفته وفعله فيه فافهم هذه الدقيقة وعليها يدور سر قوله تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) إذ لا نفخ هناك أصلاً وإنما هو تصوير قال الحسين النوري قدس سره : ابدأ الأكوان كلها بقوله كن إهانة وتصغيراً ليعرف الخلق إهانتها ولا يركنوا إليها ويرجعوا إلى مبدئها ومنشئها فشغل الخلق زينة الكون فتركهم معه واختار من خواصه من أعتقهم من رق الكون وأحياهم به فلم يجعل للعلل عليهم سبيلاً ولا للآثار فيهم طريقاً :
محو معنى وفارع از صورم
نيست از جلوه صور خبرم
تاشدم از سواى حق فانى
يافتم من وجود حقانى
شد زمن غائب عالم اكوان
ديده ام كشت رزنور جهان
441
{فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} الملكوت والرحموت والرهبوت والجبروت مصادر زيدت الواو والتاء فيها للمبالغة في الملك والرحمة والرهبة والجبر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال في "المفردات" : الملكوت مختص بملك الله تعالى والملك ضبط الشيء والتصرف فيه بالأمر والنهي أي : فإذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه أكمل إيجاب من الشؤون المذكورة كالإنشاء والإحياء وأن إرادته لا تتخلف عن مراده ونحو ذلك فنزهوا الله الذي بيده أي : تحت قدرته وفي تصرف قبضته ملك كل شيء وضبطه وتصرفه عما وصفوه تعالى به من العجز وتعجبوا مما قالوه في شأنه تعالى من النقصان وبالفارسية : (س وصف كنيد به اكى وبى عيبى آنكسى راكه بدست اقتدار اوست ادشاهى همه يز) {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره إذ لا مالك سواه على الإطلاق {تُرْجَعُونَ} تردون بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم وهو وعد للمقرين ووعيد للمنكرين يعني : (وعده دوستانست ووعيد دشمنان اينانرا شديد العقابست وآنانرا) طوبى لهم وحسن مآب فالخطاب للمؤمنين والكافرين.
وفي "التأويلات النجمية" : أثبت لكل شيء ملكوتاً وملكوت الشيء ما هو الشيء به قائم ولو لم يكن للشيء ملكوت يقوم به لما كان شيء والملكوتات قائمة بيد قدرته.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالاختيار أهل القبول وبالاضطرار أهل الرد عصمنا الله من الرد بفضله وسعة كرمه اهـ.
(7/345)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس وقراءتها كيف خصت به فإذا أنه لهذه الآية ، وفي الحديث : "اقرأوا سورة يس على موتاكم" قال الإمام : وذلك لأن الإنسان حينئذٍ ضعيف القوة وكذا الأعضاء لكن القلب يكون مقبلاً على الله تعالى بكليته فإذا قرىء عليه هذه السورة الكريمة تزداد قوة قلبه ويشتد تصديقه بالأصول فيزداد إشراق قلبه بنور الإيمان وتتقوى بصيرته بلوامع العرفان انتهى.
يقول الفقير أغناه الله القدير : وأيضاً إن المشرف على النزع يناسبه خاتمة السورة إذ الملكوت الذي هو الروح القائم هو به وسر الفائض عليه من ربه يرجع إلى أصله حينئذٍ وينسلخ عن عالم الملك وقتئذٍ وإليه الإشارة بالقول المذكور لابن عباس رضي الله عنهما وفي الحديث "إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس".
خدايت لشكرى داده زقرآن
س آنكه قلب آن لشكر ز يس
قيل : إنما جعل يس قلب القرآن أي : أصله ولبه لأن المقصود الأهم من إنزال الكتب بيان أنهم يحشرون وأنهم جميعاً لديه محضرون وأن المطيعين يجازون بأحسن ما كانوا يعملون ويمتاز عنهم المجرمون وهذا كله مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه وأتمه.
ونقل عن الغزالي أنه إنما كانت قلب القرآن لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهذا المعنى مقرر فيها بأبلغ وجه فشابهت القلب الذي يصح به البدن.
وقال أبو عبد الله : القلب أمير على الجسد وكذلك يس أمير على سائر السور موجود فيه كل شيء.
ويجوز أن يقال في وجه شبهه بالقلب إنه لما كان القلب غائباً عن الإحساس وكان محلاً للمعاني الجليلة وموطناً للإدراكات الخفية والجلية وسبباً لصلاح البدن وفساده شبه الحشر به فإنه من عالم الغيب وفيه يكون انكشاف
442
الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلى بالشقاوة السرمدية
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وقال النسفي : يمكن أن يقال في كونه قلب القرآن إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة الوحدانية والرسالة والحشر وهو الذي يتعلق بالقلب والجنان وأما الذي باللسان والأركان ففي غير هذه السورة فلما كان فيها أعمال القلب لا غير سماها قلباً.
وآخر الحديث المذكور : "من قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن ثنتين وعشرين مرة وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكراته لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة يشربها وهو على فراشه ويقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان" ، وفي الحديث : "إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها ويغفر لسامعها تدعى في التوراة المعمة" قيل : يا رسول الله وما المعمة؟ قال : "تعم صاحبها بخير الدارين وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية" قيل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : "تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة" وفي الحديث : "من قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كان له ثواب صدقة ألف دينار في سبيل الله ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف بركة وألف رحمة ونزع منه كل داء وغل" وفي الحديث "من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفوراً له".
وعن يحيى بن كثير قال : "بلغنا أنه من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح" وفي الحديث : "اقرأوا يس فإن فيها عشر بركات ما قرأها جائع إلا شبع وما قرأها عار إلا اكتسى وما قرأها أعزب إلا تزوج وما قرأها خائف إلا أمن وما قرأها مسجون إلا فرج وما قرأها مسافر إلا عين على سفره وما قرأها رجل ضلت له ضالة إلا وجدها وما قرئت عند ميت إلا خفف عنه وما قرأها عطشان إلا روي وما قرأها مريض إلا برىء" وفي الحديث "يس لما قرئت له" وفي الحديث "من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذٍ وكان له بعدد من فيها حسنات".
وفي "ترجمة الفتوحات" (وون ببالين محتضر حاضر شوى سورة يس بخوان شيخ اكبر قدس سره ميفرمايدكه وقتى بيمار بودم ودرين مرض مراغشيانى شد بحدى كه مرا از جمله مردكان شمردند دران حالت قومى ديدم منظر هاى كريه وصورتهاى قبيح ميخواستندكه بمن اذيتي رسانند وشخصي ديدم بغايت خوب روى باقوت تمام وازوى بوى خوش مى آمد آن طائفه را ازمن دفع كرد وتابدان حدكه ايشانرا مقهور كردانيد واورا رسيدم توكيستى كفت من سوره يس ام ازتو دفع ميكنم ون ازان حالت بهوش آمدم در خودرا ديدم كه ميكريست وسورة يس ميخواند دران لحظه ختم كرد اورا از آنه مشاهده كرده بودم خبر دادم وبعد ازان بمدتى از رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمن رسيدكه) "اقرأوا على موتاكم يس".
قال الإمام اليافعي : قد جاء في الحديث : "إن عمل الإنسان يدفن معه في قبره
443
فإن كان العمل كريماً أكرم صاحبه وإن كان لئيماً آلمه" أي : إن كان عملاً صالحاً آنس صاحبه وبشره ووسع عليه قبره ونوّره وحماه من الشدائد والأهوال وإن كان عملاً سيئاً فزع صاحبه وروّعه وأظلم عليه قبره وضيقه وعذبه وخلى بينه وبين الشدائد والأهوال والعذاب والوبال كما جاء في "المثنوي" :
در زمانه مرترا سه همره اند
آن يكى وافى واين يك غدر مند
آن يكى رايان وديكر رخت ومال
وآن سوم وافيست وان حسن الفعال
مال انايد باتو بيرون از قصور
يار آيد ليك آيد تا بكور
ون ترا روز اجل آيد به يش
يار كويد از زبان حال خويش
تابدينجا بيش همره نيستم
بر سر كورت زمانى بيستم
فعل تو وافيست زوكن ملتحد
كه در آيد باتو در قعر لحد
بس يمر كفت بهر اين طريق
باو فاتر از عمل نبود رفيق
كربود نيكوابد يارت شود
وربود بد در لحد مارت شود
وعن بعض الصالحين في بعض بلاد اليمن أنه لما دفن بعض الموتى وانصرف الناس سمع في القبر صوتاً ودقاً عنيفاً ثم خرج من القبر كلب أسود فقال له الشيخ الصالح : ويحك أيّ شيء أنت؟ فقال : أنا عمل الميت قال : فهذا الضرب فيك أم فيه قال : فيّ وجدت عنده سورة يس وأخواتها فحالت بينه وبيني وضربت وطردت.
قال اليافعي : قلت لما قوي عمله الصالح غلب عمله الصالح وطرد عنه بكرم الله ورحمته ولو كان عمله القبيح أقوى لغلبه وأفزعه وعذبه نسأل الله الكريم الرحيم لطفه ورحمته وعفوه وعافيته لنا ولأحبابنا لإخواننا المسلمين اللهم أجب دعاءنا بحرمة سورة يس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364(7/346)
سورة الصافات
إحدى واثنتان وثمانون آية مكية
جزء : 7 رقم الصفحة : 443
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} الواو للقسم والصافات جمع صافة بمعنى جمع صافية بمعنى جماعة صافة فالصافات بمعنى الجماعات الصافات ولو قيل والصافين وما بعدها بالتذكير لم يحتمل الجماعات.
والصف أن يجعل الشيء على خط مستقيم كالناس والأشجار وبالفارسية : (رسته كردن) تقول صففت القوم من باب ردّ فاصطفوا إذا أقمتم على خط مستو لأداء الصلاة أو لأجل الحرب.
أقسم الله سبحانه بالملائكة الذين يصفون للعبادة في السماء ويتراصون في الصف أي : بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول واللاتي يقفن صفاً صفاً في مقام العبودية والطاعة ، وبالفارسية : (وبحق فرشتكان صف بركشيده در مقام عبوديت صف بركشيدنى) أو الصافات أنفسها أي : الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مواقف الطاعة ومنازل الخدمة وفي الحديث : "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم" قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال : "يتمون الصفوف المقدّمة ويتراصون في الصف" (والتراص : نيك در يكديكر بايستادن).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله
444
عنه إذا أراد أن يفتتح بالناس الصلاة قال استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان إن الله عز وجل يرى لكم بالملائكة إسوة.
يقول : والصافات صفاً يعني : (خداى تعالى مى نمايد برشمارا به بملائكه اقتدا كويد) والصافات صفاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ترد الملائكة صفوفاً صفوفاً لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه لم يلتفت منذ خلقه الله تعالى.
وفي "القاموس" والصافات صفاً الملائكة المصطفون في الهواء يسبحون ولهم مراتب يقومون عليهاصفوفاً كما يصطف المصلون انتهى.
وقال بعضهم : الصافات أجنحتها في الهواء منتظرة لأمر الله تعالى فيما يتعلق بالتدبير وقيل غير ذلك وقوله تعالى في أواخر هذه السورة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} يحتمل الكل.
قال بعض الكبار : الملائكة على ثلاثة أصناف مهيمون في جلال الله تعالى تجلى لهم في اسمه الجليل فهيمهم وأفناهم عنهم فلا يعرفون نفوسهم ولا من هاموا فيه وصنف مسخرون ورأسهم القلم الأعلى سلطان عالم التدوين والتسطير وصنف أصحاب التدبير للأجسام كلها من جميع الأجناس كلها وكلهم صافون في الخدمة ليس لهم شغل غير ما أمروا به وفيه لذتهم وراحتهم.
وفي الآية بيان شرف الملائكة حيث أقسم بهم وفضل الصفوف وقد صح أن الشيطان يقف في فرجة الصف فلا بد من التلاصق والإنضمام والاجتماع ظاهراً وباطناً.
{فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} يقال زجرت البعير إذا حثثته ليمضي وزجرت فلاناً عن سوء فانزجر أي : نهيته فانتهى فزجر البعير كالحث له وزجر الإنسان كالنهي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "كشف الأسرار" الزجر الصرف عن الشيء بتخويف.
وفي "المفردات" : الزجر طرد بصوت ثم يستعمل في الطرد تارة وفي الصوت أخرى.(7/347)
وفي "تاج المصادر" : (الزجر : تهديد كردن وبانك برستور زدن تابرود) أي : الفاعلات للزجر والزاجرات لما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي وزجر الشيطان عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما يأتي.
قال بعضهم : يعني الملائكة الذين يزجرون السحاب ويؤلفونه ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر به {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} مفعول التاليات وأما صفاً وزجراً فمصدران مؤكدان لما قبلهما بمعنى صفاً بديعاً وزجراً بليغاً أي : التاليات ذكراً عظيم الشأن من آيات الله وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرهما من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد.
أو المراد بالمذكورات نفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات وإقدامها في الصلاة الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله الدارسات شرائعه وأحكامه.
أو طوائف الغزاة الصافات أنفسهم في مواطن الحرب كأنهم بنيان مرصوص.
أو طوائف قوادهم الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقاً والعدو في المعارك طرداً التاليات آيات الله وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك لا يشغلهم عن الذكر مقابلة العدوّ وذلك لكمال شهودهم وحضورهم مع الله وفي الحديث : "ثلاثة أصوات يباهي الله بهن الملائكة : الأذان والتكبير في سبيل الله ورفع الصوت بالتلبية".
أو نفوس العابدين الصافات عند أداء الصلاة بالجماعة الزاجرات الشياطين بقراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم التاليات القرآن بعدها.
ويقال {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} أي : الصبيان يتلون في الكتاب فإن الله تعالى يحول العذاب عن الخلق ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء أولها أذان المؤذنين.
445
والثاني : تكبير المجاهدين.
والثالث : تلبية الملبين.
والرابع : صوت الصبيان في الكتاب (صاحب تأويلات فرموده كه سوكند ميخورد بنفوس سالكان طريق توحيدكه در مواقف مشاهده صف بركشيده دواعي شيطاني ونوازع شهوات نفساني را زجرى نمايند وبأنواع ذكر لساني يا قلبي يا سري يا روحي بحسب أحوال خود اشتغال ميفرمايند).
وفي "التأويلات النجمية" : {وَالصَّـافَّـاتِ صَفًّا} يشير إلى صفوف الأرواح وجاء أنهم لما خلقوا قبل الأجساد كانوا في أربعة صفوف.
كان الصف الأول أرواح الأنبياء والمرسلين.
وكان الصف الثاني أرواح الأولياء والأصفياء.
وكان الصف الثالث أرواح المؤمنين والمسلمين.
وكان الصف الرابع أرواح الكفار والمنافقين {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} هي الإلهامات الربانية الزاجرات للعوام عن المناهي والخواص عن رؤية الطاعات والأخص عن الالتفات إلى الكونين {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} هم الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات انتهى وهذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء للدلالة على ترتيبها في الفضل إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو على العكس وإن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة فهو للدلالة على ترتب الموصوفات في مراتب الفضل بمعنى أن طوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "تفسير الشيخ" وغيره وجاء بالفاء للدلالة على أن القسم بمجموع المذكورات {إِنَّ إِلَـاهَكُمْ} يا أهل مكة فإن الآية نزلت فيهم إذ كانوا يقولون بطريق التعجب أجعل الآلهة إلهاً واحداً أو يا بني آدم وبالفارسية : (وبدرستى كه خداى شمادرذات وحدانيت خود) {لَوَاحِدٌ} لا شريك له فلا تتخذوا آلهة من الأصنام والدنيا والهوى والشيطان.
والجملة جواب للقسم والفائدة فيه مع أن المؤمن مقر من غير حلف والكافر غير مقرّ ولو بالحلف تعظيم المقسم به وإظهار شرفه وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم وقد أنزل القرآن على لغتهم وعلى أسلوبهم في محاوراتهم.
وقيل تقدير الكلام فيها وفي مثلها ورب الصافات ورب التين والزيتون.
وفي "المفردات" : الوحدة الانفراد والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ثم يطلق على كل موجود حتى أنه ما من عدد إلا ويصح وصفه به فيقال عشرة واحدة ومائة واحدة.
فالواحد لفظ مشترك يستعمل في خمسة أوجه :
الأول : ما كان واحداً في الجنس أو في النوع كقولنا الإنسان والفرس واحد في الجنس وزيد وعمرو واحد في النوع.
والثاني : ما كان واحداً بالاتصال إما من حيث الخلقة كقولك شخص واحد وإما من حيث الصناعة كقولك حرفة واحدة.
"والثالث" ما كان واحداً لعدم نظيره إما في الخلقة كقولك الشمس واحدة وإما في دعوى الفضيلة كقولك فلان واحد دهره وكقولك هو نسيح وحده.
"والرابع" : ما كان واحد الامتناع التجزي فيه إما لصغره كالهباء وإما لصلابته كالماس.
(7/348)
"والخامس" للمبتدأ إما لمبدأ العدد كقولك واحد اثنين وإما لمبدأ الخط كقولك النقطة الواحدة والوحدة في كلها عارضة فإذا وصف الله عز وجل بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزي ولا التكثر ولصعوبة هذه الوحدة قال الله تعالى : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} (الزمر : 45) انتهى.
قال الغزالي رحمه الله : الواحد هو الذي لا يتجزى
446
ولا يثنى.
أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فيقال إنه واحد بمعنى أنه لا جزء له وكذا النقطة لا جزء لها والله تعالى واحد بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام على ذاته.
وأما الذي لا يثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها وإن كانت قابلة للقسمة بالوهم متجزئة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن لها نظير فما في الوجود موجود ينفرد بخصوص وجود إلا ويتصور أن يشاركه فيه غيره إلا الله تعالى فإنه الواحد المطلق أزلاً أبداً فالعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن في أبناء جنسه نظير له في خصلة من خصال الخير وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع فلا وحدة على الإطلاق إلاتعالى انتهى.
ولا يوحده تعالى حق توحيده إلا هو إذ كل شيء وحده أي : أثبت وجوده وفعله بتوحيده فقد جحده بإثبات وجود نفسه وفعله وإليه الإشارة بقول الشيخ أبي عبد الله الأنصاري قدس سره تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ما وحد الواحد من واحد
إذ كل من ينعته جاحد
فإذا أفنى الوجود المجازي صح التوحيد الحقيقي الذاتي وكل شيء من الأشياء عين مرآة توحيده كما قالوا :
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وذلك لأن كل شيء واحد بهويته أو بانتهائه إلى الجزء الذي لا يتجزى أو بغير ذلك :
تادم وحدت زدى حافظ شوريده حال
خامه توحيد كش برورق اين وآن
قال الشيخ الزروقي في "شرح الأسماء" : من عرف أنه الواحد أفرد قلبه له فكان واحداً به وقد فسر قوله عليه السلام "إن الله وتر يحب الوتر" يعني : القلب المنفرد له.
وخاصة هذا الاسم الواحد إخراج الكون من القلب فمن قرأه ألف مرة خرج الخلائق من قلبه فكفى خوف الخلق وهو أصل كل بلاء في الدنيا والآخرة وسمع عليه السلام رجلاً يقول في دعائه : "اللهم إني أسألك باسمك الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال : "سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى".
وفي "الأربعين الإدريسية" يا واحد الباقي أول كل شيء وآخره.
قال السهرودي يذكره من توالت عليه الأفكار الرديئة فتذهب عنه وإن قرأه الخائف من السلطان بعد صلاة الظهر خمسمائة مرة فإنه يأمن ويفرج همه ويصادقه أعداؤه {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} خبر ثانٍ لأن أي : مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيها ومبلغها إلى كمالاتها {وَرَبُّ الْمَشَـارِقِ} أي : مشارق الشمس وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً تشرق كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها يعني إذا كانت المشارق بهذا العدد تكون المغارب أيضاً بهذا العدد فتغرب في كل يوم من مغرب منها وأما قوله تعالى : {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرحمن : 17) فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما وقوله : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أراد به الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وإعادة الرب في المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم كما ذكر آنفاً.
تلخيصه هو رب جميع الموجودات وربوبيته لذاته لا لنفع يعود إليه بخلاف
447
تربية الخلق والربوبية بمعنى المالكية والخالقية ونحوهما عامة وبمعنى التربية خاصة بكل نوع بحسبه فهو مربي الأشباح بأنواع نعمه ومربي الأرواح بلطائف كرمه ومربي نفوس العابدين بأحكام الشريعة ومربي قلوب المشتاقين بآداب الطريقة ومربي أسرار المحبين بأنوار الحقيقة والرب عنوان الأدعية فلا بد للداعي من استحضاره لساناً وقلباً حتى يستجاب في دعائه اللهم ربنا إنك أنت الواحد وحدة حقيقية ذاتية لا انقسام لك فيها فاجعل توحيدنا توحيداً حقانياً ذاتياً سرياً لا مجازية فيه وإنك أنت الرب الكريم الرحيم فكما أنك ربنا وخالقنا فكذا مربينا ومولينا فاجعلنا في تقلبات أنواع نعمك شاغلين بك فارغين عن غيرك وأوصل إلينا من كل خيرك
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/349)
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} أي : القربى منكم ومن الأرض وأما بالنسبة إلى العرش فهي البعدي.
والدنيا تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الْكَوَاكِبِ} بالجر بدل من زينة على أن المراد بها الاسم أي : يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها عن بعض زينة وأي زينة.
وفيه إشارة إلى أن الزينة التي تدرك بالبصر يعرفها الخاصة والعامة وإلى الزينة التي يختص بمعرفتها الخاصة وذلك أحكامها وسيرها والكواكب معلقة في السماء كالقناديل أو مكوكبة عليها كالمسامير على الأبواب والصناديق وكون الكواكب زينة للسماء الدنيا لا يقتضي كونها مركوزة في السماء الدنيا ولا ينافي كون بعضها مركوزة فيما فوقها من السموات لأن السموات إذا كانت شفاعة وأجراماً صافية فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو في سماوات أخرى فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها فتكون سماء الدنيا مزينة بالكواكب.
"والحاصل" : أن المراد هو التزيين في رأي العين سواء كانت أصول الزينة في سماء الدنيا أو في غيرها وهذا مبني على ما ذهب إليه أهل الهيئة من أن الثوابت مركوزة في الفلك الثامن وما عدا القمر في السنة المتوسطة وإن لم يثبت ذلك فحقيقة العلم عند الله تعالى {وَحِفْظًا} منصوب بعطفه على زينة باعتبار المعنى كأنه قيل إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً برمي الشهب {مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} أي : خارج عن الطاعة متعر عن الخير من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر.
وفي "التأويلات النجمية" بقوله : {إِنَّا زَيَّنَّا} إلخ يشير إلى الرأس فإنه بالنسبة إلى البدن كالسماء مزين {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} الحواس وأيضاً زين سماء الدنيا بالنجوم وزين قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال وكما حفظ السموات بأن جعل النجوم للشياطين رجوماً كذلك زين القلوب بأنوار التوحيد فإذا قرب منها الشياطين رجموهم بنور معارفهم كما قال : {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} يعني : من شياطين الإنس.
وحكي أن أبا سعيد الخراز قدس سره رأى إبليس في المنام فأراد أن يضربه بالعصا فقال : يا أبا سعيد أنا لا أخاف العصا وإنما أخاف من شعاع شمس المعرفة :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
بسوزد نور اك اهل عرفان دير نارى را†
{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الاعْلَى} أصل يسمعون يتسمعون فأدغمت التاء في السين وشددت والتسمع وتعديته بإلى لتضمنه معنى الإصغاء.
والملأ جماعة يجتمعون على رأي فيملأون
448
العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء والملأ الأعلى الملائكة أو أشرافهم أو الكتبة وصفوا بالعلو لسكونهم في السموات العلى ، والجن والإنس هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض وهذا كلام مبتدأ مسوق لبيان حالهم بعد بيان حفظ السماء منهم مع التنبيه على كيفية الحفظ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذاب.
والمعنى : لا يتطلبون السماء والإصغاء إلى الملائكة الملكوتية يعني : (ملائكه كه مطلع اند بر بعضى از اسرار لوح بايكديكر ميكويند ايشانرا نمى شنوند بلكه طاقت شنودن وكوش فرانهادن ندارند) {وَيُقْذَفُونَ} القذف الرمي البعيد ولاعتبار البعد فيه قيل منزل قذف وقذيف وقذفته بحجر رميت إليه حجراً منه قذفه بالفجور أي : يرمون وبالفارسية : (وانداخته مى شوند) {مِن كُلِّ جَانِبٍ} من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها {دُحُورًا} علة للقذف أي : للدحور وهو الطرد يقال دحره دحراً ودحوراً إذا طرده وأبعده {وَلَهُمُ} في الآخرة غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب {عَذَابٌ وَاصِبٌ} دائم غير منقطع من وصب الأمر وصوباً إذا دام.
(7/350)
قال في "المفردات" : الوصب السقم اللازم {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} استثناء من واو يسمعون ومن بدل منه.
والخطف الاختلاس بسرعة والمراد اختلاس الكلام أي : كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة أي : لا يسمع جماعة الشياطين إلا الشيطان الذي خطف أي : اختلس الخطفة أي : المرة الواحدة يعني كلمة واحدة من كلام الملائكة وبالفارسية : (وانرا قوت استماع كلام ملائكه نيست مكر كسى كه درربايد يك ربودن يعنى بد زدد سخنى ازفرشته) {فَأَتْبَعَهُ} أي : طبعه ولحقه وبالفارسية : (س ازى در ريد اورا).
قال ابن الكمال : الفرق بين اتبعه وتبعه أنه يقال اتبعه اتباعاً إذا طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه {شِهَابٌ} .
قال في "القاموس" : الشهاب ككتاب شعلة من نار ساطعة انتهى والمراد هنا ما يرى منقضاً من السماء {ثَاقِبٌ} .
قال في "المفردات" : الثاقب النير المضيىء يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه انتهى أي : مضى في الغاية كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال عليه السلام : "ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية" فقالوا : يموت عظيم أو يولد عظيم فقال : "إنه لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن الله إذا قضى أمراً يسبحه حملة العرش وأهل السماء السابعة يقولون" أي : أهل السماء السابعة "لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم فيستخبر أهل كل سماء أهل سماء حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا فيتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به على وجهه هو حق ولكنهم يزيدون فيه ويكذبون فما ظهر صدقه فهو من قسم ما سمع من الملائكة وما ظهر كذبه فهو من قسم ما قالوه".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قيل : كان ذلك في الجاهلية أيضاً لكن غلظ المنع وشدّد حين بعث النبي عليه السلام.
قيل : هيئة استراقهم أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا فيسمع من فوقهم الكلام فيلقيه إلى من تحته ثم هو يلقيه إلى الآخر حتى إلى الكاهن فيرمون بالكوكب فلا يخطىء أبداً فمنهم من يقتل ومنهم من يحرق بعض أعضائه وأجزائه ومنهم من يفسد عقله وربما
449
أدركه الشهاب قبل أن يلقيه وربما ألقاه قبل أن يدركه ولأجل أن يصيبهم مرة ويسلمون أخرى لا يرتدعون عن الاستراق بالكلية كراكب البحر للتجارة فإنه قد يصيبه الموج وقد لا يصيبه فلذا يعود إلى ركوب البحر رجاء السلامة.
ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها ثم إن المراد بالشهاب شعلة نار تنفصل من النجم لا أنه النجم نفسه لأنه قار في الفلك على حاله.
"وقالت الفلاسفة" : إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجو عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك انتهى.
وقال بعض كبار أهل الحقيقة : لولا الأثير الذي هو بين السماء والأرض ما كان حيوان ولا نبات ولا معدن في الأرض لشدة البرد الذي في السماء الدنيا فهو يسخن العالم لتسري فيه الحياة بتقدير العزيز العليم وهذا الأثير الذي هو ركن النار متصل بالهواء والهواء حار رطب ولما في الهواء من الرطوبة إذا اتصل بهذا الأثير أثر فيه لتحركه اشتعالاً في بعض أجزاء الهواء الرطبة فبدت الكواكب ذوات الأذناب لأنها هواء محترق لا مشتعل وهي سريعة الاندفاع وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى شرر النار إذا ضرب الهواء النار بالمروحة يتطاير منها شرر مثل الخيوط في رأى العين ثم تنطفىء كذلك هذه الكواكب وقد جعلها الله رجوماً للشياطين الذين هم كفار الجن كما قال الله تعالى انتهى كلامه قدس سره.
قال بعضهم : لما كان كل نير يحصل في الجو مصابيح لأهل الأرض فيجوز أن تنقسم إلى ما تكون باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد وهي الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلى ما لا تبقى بل تضمحل وهو الحادث بالبخار الصاعد على ما ذهب إليه الفلاسفة أو بتحريك الهواء الأثير وإشعاله على ما ذهب إليه بعض الكبار فلا يبعد أن يكون هذا الحادث رجماً للشيطان.
يقول الفقير أغناه الله القدير : قول بعض الكبار يفيد حدوث بعض الكواكب ذوات الأذناب من التحريك المذكور وهي الكواكب المنقضة سواء كانت ذوات أذناب أو لا وهذا لا ينافي ارتكاز الكواكب الغير الحادثة في أفلاكها أو تعليقها في السماء أو بأيدي الملائكة كالقناديل المعلقة في المساجد أو كونها ثقباً في السماء أو عروقاً نيرة من الشمس على ما ذهب إلى كل منها طائفة من أهل الظاهر والحقيقة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/351)
قال قتادة : جعل الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، فعلى طالب الحق أن يرجم شيطانه بنور التوحيد والعرفان كيلا يحوم حول جنانه ويكون كالملأ الأعلى في الاشتغال بشأنه :
كاه كويى اعوذوكه لا حول
ليك فعلت بود مكذب قول
بحقيقت بسوز شيطانرا
ساز از نور حال درمانرا
{فَاسْتَفْتِهِمْ} خطاب للنبي عليه السلام والضمير لمشركي مكة (والاستفتاء : فتواى خواستن) والفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام يقال استفيته فأفتاني بكذا.
قال بعضهم : الفتوى من الفتى وهو الشاب القوي وسمي الفتوى فتوى لأن المفتي يقوي السائل في جواب الحادثة وجمعه فتاوي بالفتح والمراد بالاستفتاء هنا الاستخبار كما في قوله تعالى في قصة أهل
450
الكهف {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف : 22) وليس المراد سؤال الاستفهام بل التوبيخ.
والمعنى فاستخبر يا محمد مشركي مكة توبيخاً واسألهم سؤال محاجة {أَهُمْ} (آيا ايشان) {أَشَدُّ خَلْقًا} أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب على الخالق خلقاً أو أشق إيجاداً {أَم مَّنْ} أي : أم الذي {خَلَقْنَا} من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب والشياطين المردة ومن لتغليب العقلاء على غيرهم {إِنَّا خَلَقْنَـاهُم} أي : خلقنا أصلهم وهو آدم وهم من نسله {مِّن طِينٍ لازِب} لاصق يلصق ويعلق باليد لا رمل فيه.
قال في ا"المفردات" : اللازب الثابت الشديد الثبوت ويعبر بالازب عن الواجب فيقال ضربة لازب اهـ والباء بدل من الميم والأصل لازم مثل مكة وبكة كما في "كشف الأسرار".
والمراد إثبات المعاد ورد استحالتهم وتقريره أن استحالة المعاد إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان الإنضمام بعد وإما لعدم قدرة الفاعل وهو باطل فإن من قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة قادر على ما يعتد به بالإضافة إليها وهو خلق الإنسان وإعادته سيما ومن الطين اللازب بدأهم وقدرته ذاتية لا تتغير فهي بالنسبة إلى جميع المخلوقات على السواء (س هركاه خورشيد قدرت ازافق ارادت طلوع نمايد ذرات مقدورات در هواى ابداع وفضاى اختراع بجلوه در آيند) قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
كاينك زعدم سوى وجود آمده ايم†
قال الشيخ سعدي قدس سره :
بامرش وجود از عدم نقش بست
كه داند جزاو كردن ازنيست هست
دكرره بكتم عدم در برد
واز آنجا بصحراى محشر برد
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى أودع في الطينة الإنسانية خصوصية لزوب ولصوق يلصق بكل شيء صادفه فصادف قوما الدنيا فلصقوا بها وصادف قوماً الآخرة فلصقوا بها وصادف قوماً نفحات ألطاف الحق فلصقوا بها فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه إليها فطوبى لعبد لم يتعلق بغير الله تعالى.
قال الحافظ :
غلام همت آنم كه زير رخ كبود
زهره رنك تعلق ذيرد آزادست
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} .
قال سعدي المفتي إضراب عن الأمر بالاستفتاء أي : لا تستفتهم فإنهم معاندون ومكابرون لا ينفع فيهم الاستفتاء وانظر إلى تفاوت حالك وحالهم أنت تعجب من قدرة الله تعالى على خلق هذه الخلائق العظيمة ومن قدرته على الإعادة وإنكارهم للبعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث.
وقال قتادة : عجب نبي الله من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي عليه السلام كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب من ذلك النبي عليه السلام فقال الله تعالى : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} والسخرية الاستهزاء والعجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل :
451
لا يصح على الله التعجب إذ هو علام الغيوب لا يخفى عليه خافية.
والعجب في صفة الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار الشديد والذم كما في قراءة بل عجبت بضم التاء وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضى كما في حديث "عجب ربكم من شاب ليست له صبوة ونخوة".
وفي "فتح الرحمن" هي عبارة عما يظهره الله في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجب منه انتهى.
وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن الله وافق رسوله فقال : {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} (الرعد : 5) أي : هو كما تقوله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/352)
وفي "المفردات" : بل عجبت ويسخرون أي : عجبت من إنكارهم البعث لشدة تحققك بمعرفته ويسخرون بجهلهم.
وقرأ بعضهم بل عجبت بضم التاء وليس ذلك إضافة التعجب إلى نفسه في الحقيقة بل معناه إنه مما يقال عنده عجبت أو تكون عجبت مستعارة لمعنى أنكرت نحو : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (هود : 73) انتهى {وَإِذَا ذُكِّرُوا} أي : ودأبهم المستمر أنهم إذا وعظوا بشيء من المواعظ وبالفارسية : (وون ندداده شوندبه يزى) {لا يَذْكُرُونَ} ولا يتعظون وبالفارسية : (ياد نكنند آنرا وبدان ند ذير نشوند).
وفيه إشارة إلى أنهم نسوا الله غاية النسيان بحيث لا يذكرونه وإذا ذكروا يعني بالله تعالى لا يتذكرون {وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً} أي : معجزة تدل على صدق القائل بالبعث {يَسْتَسْخِرُونَ} (الاستسخار : افسوس داشتن) والسين والتاء للمبالغة والتأكيد أي : يبالغون في السخرية والاستهزاء أو للطلب على أصله أي : يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها يعني : (يكديكررا بسخريه مى خوانند) {وَقَالُوا إِنْ هَـاذَآ} (نيست اين كه ماديدم) إن نافية بمعنى ما وهذا إشارة إلى ما يرونه من الآية الباهرة {إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته.
وفيه إشارة إلى أن أهل الإنكار إذا رأوا رجلاً يكون آية من آيات الله يسخرون منه ويعرضون عن الإيمان به ويقولون لما يأتي به إن هذا إلا سحر مبين لانسداد بصائرهم عن رؤية حقيقة الحال بغطاء الإنكار ونسبة أهل الهدى إلى الضلال.
ون نباشد شم ويرانور جان
كفت وكوى وجه باقى شد خيال
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
أي : أنبعث إذا {مِتْنَا} وبالفارسية : (آيا برانكيختكان باشيم ون ميريم ما) {وَكُنَّا تُرَابًا} (وباشيم خاك) {وَعِظَـامًا} (واستخوانهاى بى كوشت ووست) أي : كان بعض أجزائنا تراباً وبعضها عظاماً وتقديم التراب لأنه منقلب من الأجزاء البالية {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي : لانبعث فإن الهمزة للإنكار الذي يراد به النفي وتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} الهمزة للاستفهام والواو للعطف وآباؤنا رفع على الابتداء وخبره محذوف عند سيبويه أي : وآباؤنا الأولون أي : الأقدمون أيضاً مبعوثون ومرادهم زيادة الاستبعاد بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على زعمهم {قُلْ} تبكيتاً لهم {نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} نعم بفتحتين يقع في جواب الاستخبار المجرد من النفي ورد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام والخطاب لهم ولآبائهم على التغليب.
والدخور أشد الصغار والذلة يقال ادخرته فدخر أي : أذللته فذل والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم أي : كلكم مبعوثون والحال أنكم صاغرون أذلاء على رغم منكم
452
{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} لا تحتاج إلى نعم الأخرى وهي إما ضمير مبهم يفسره خبره أو ضمير البعثة المذكورة في ضمن نعم لأن المعنى نعم مبعوثون والجملة جواب شرط مضمر أو تعليل لنهي مقدر أي : إذا أمر الله بالبعث فإنما هي الخ ولا تستصعبوه فإنما هي الخ.
والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه أو إبله إذا صاح عليها وهي النفخة الثانية {فَإِذَا هُمْ} إذا للمفاجأة والضمير للمشركين.
وفي بعض التفاسير للخلائق كلهم أي : فإذا هم قائمون من مراقدهم أحياء {يَنظُرُونَ} حيارى أو يبصرون كما كانوا أو ينتظرون ما يفعل بهم {وَقَالُوا} أي : المبعوثون وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق والتقرر يا وَيْلَنَا} الويل الهلاك أي : يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.
وقال الكاشفي : (اى واى برما) {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} تعليل لدعائهم الويل بطريق الاستئناف أي : اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضاً فتقول لهم الملائكة بطريق التوبيخ والتقريع
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/353)
{هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي : القضاء أو الفرق بين فريقي الهدى والضلال {الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} أي : كنتم على الاستمرار تكذبون به وتقولون إنه كذب ليس له أصل أبداً فيقول الله تعالى للملائكة {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} الحشر يجيىء بمعنى البعث وبمعنى الجمع والسوق وهو المراد ههنا دون الأول كما لا يخفى والمراد بالظالمين المشركون من بني آدم (جمع كنيدوبهم آريد آنانرا كه ستم كردند برخود بشرك) {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي : أشباههم من أهل الشرك والكفر والنفاق والعصيان عابد الصنم مع عبدته وعابد الكواكب مع عبدتها واليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى والمجوس مع المجوس وغيرهم من الملل المختلفة ويجوز أن يكون المراد بالأزواج نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} من الأصنام ونحوها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} الضمير للظالمين وأزواجهم ومعبوديهم أي : فعرّفوهم طريق جهنم ووجهوهم إليها وفيه تهكم بهم.
ويقال : الظالم في الآية عام على من ظلم نفسه وغيره فيحشر كل ظالم مع من كان معيناً له أهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنى مع أهل الزنى وأهل الربا مع أهل الربا وغيرهم كل مع مصاحبه (درقوت القلوب آورده كه يكى از عبد الله بن مبارك قدس سره رسيدكه من خياطم واحيانا براى ظلمه امه مى دوزم ناكاه ازعوان ايشان نباشيم ابن مبارك فرمودنى توكه ازاعوان نيستى بلكه از ظالمانى اعوان ظلمه آنها اندكه سوزن ورشته بتو ميفروشند).
وفي الفروع ويكره للخفاف والخياط أن يستأجر على عمل من زي الفساق ويأخذ في ذلك أجراً كثيراً لأنه إعانة على المعصية (نقليست كه يكبار امام اعظم رضي الله عنه را محبوس كردنديكى از ظلمه بيامدكه مر اقلمى تراش كن كفت ترسم كه ازان قوم باشم كه حق تعالى ميفرمايد) {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي : أتباعهم وأعوانهم وأقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم وفي الحديث "امرؤ القيس قائد لواء الشعراء إلى النار" كما في "تذكرة القرطبي" :
يار ظالم مباش تانشوى
روز حشر ازشماره ايشان
453
ـ روي ـ ان ابن المبارك رؤي في المنام فقيل له : ما فعل بك ربك؟ فقال : عاتبني وأوقفني ثلاث سنين بسبب أني نظرت باللطف يوماً إلى مبتدع فقال : إنك لم تعاد عدوى فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "الروضة" : يجيب دعوة الفاسق والورع أن لا يجيب ويكره للرجل المعروف الذي يقتدى به أن يتردد إلى رجل من أهل الباطل وأن يعظم أمره بين الناس فإنه يكون مبتدعاً أيضاً ويكون سبباً لترويج أمره الباطل واتباع الناس له في اعتقاده الفاسد وفعله الكاسد.
والحاصل أن أرباب النفوس الأمارة كانوا يدلون في الدنيا على صراط الجحيم من حيث الأسباب من الأقوال والأفعال والأخلاق فلذا يحشرون على ما ماتوا وكذلك من أعان صاحب فترة في فترته أو صاحب زلة في زلته كان مشاركاً في عقوبته واستحقاق طرده وإهانته كما اشتركت النفوس والأجساد في الثواب والعقاب نسأل الله العمل بخطابه والتوجه إلى جنابه والسلوك بتوفيقه والاهتداء إلى طريقه إنه المعين {وَقِفُوهُمْ} قفوا أمر من وقفه وقفاً بمعنى حبسه لا من وقف وقوفاً بمعنى دام قائماً فالأول متعد والثاني لازم.
والمعنى : احبسوا المشركين أيها الملائكة عند الصراط كما قال بطريق التعليل {إِنَّهُم مَّسْـاُولُونَ} عما ينطق به وقوله تعالى : {مَالَكُمْ} (يست بشماكه) {لا تَنَاصَرُونَ} حال من معنى الفعل في مالكم أي : ما تصنعون حال كونكم غير متناصرين وحقيقته ما سبب عدم تناصركم وأن لا ينصر بعضكم بعضاً بالتخليص من العذاب كما كنتم تزعمون في الدنيا كما قال أبو جهل يوم بدر نحن جميع منتصر يعني : (ما همه هم شتيم يكد يكررا تاكين كشيم از محمد) وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء منها بالكلية فالتوبيخ والتقريع حينئذٍ أشد وقعاً وتأثيراً وفي الحديث : "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة عن شبابه فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن عمله ماذا عمل به".
(7/354)
قال بعض الكبار مقام السؤال صعب قوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك فالذين تسألهم الملائكة أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف وأقوام لهم أعمال لا تصلح للكشف وهم قسمان : الخواص يسترهم الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة وأقوام هم أهل الزلات يخصهم الله تعالى برحمته فلا يفضحهم وأما الأغيار والأجانب فيقال لهم كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً فإذا قرأوا كتابهم يقال لهم فما جزاء من عمل هذا فيقولون جزاؤه النار فيقال لهم ادخلوا بحكمكم كما أن جبرائيل جاء في صورة البشر إلى فرعون وقال ما جزاء عبد عصى سيده وادعى العلو عليه وقد رباه بأنواع نعمه قال جزاؤه الغرق قال : اكتب لي فكتب له صورة فتوى فلما كان يوم الغرق أظهر الفتوى وقال : كن غريقاً بحكمك على نفسك.
ويجوز أن يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزع عليهم مالكم لا تناصرون فيكون منقطعاً عما قبله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "بحر العلوم" : والآية نص قاطع ينطق بحقية الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر واحد من السيف يعبره أهل الجنة وتزل به أقدام أهل النار وأنكره بعض المعتزلة لأنه لا يمكن العبور عليه وإن أمكن فهو تعذيب للمؤمنين وأجيب بأن الله قادر
454
أن يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين حتى أن منهم من يجوزه كالبرق الخاصف ومنهم كالريح الهابّة ومنهم كالجواد إلى غير ذلك ، وفي "سلسلة الذهب" للمولى الجامي :
هركه باشد زمؤمن وكافر
بر سرل كنند شان حاضر
هركه كافر بود و بنهد اى
قعر دوز خ بود مر او راجاى
مؤمنانرا زحق رسد تأييد
ليك بر قدر قوت توحيد
هر كرا بر طريقت نبوى
ره نبود ست غير راست روى
دوزخ از نور او كند رهيز
بكذرد همو برق خاطف تيز
ياو مرغ ران وباد وزان
ياو يزى دكر سبكترازان
وانكه ضعفى بود در ايمانش
نبود زان كذشتن آسانش
بلكه درربخ آن كذركه تنك
باشد اورا بقدر ضعف درنك
ليك يابد خلاص آخر كار
كره بيند مشقت بسيار
وفي الحديث : "إذا اجتمع العالم والعابد على الصراط قيل للعابد ادخل الجنة وتنعم بعبادتك وقيل للعالم قف ههنا فاشفع لمن أحببت فإنك لا تشفع لأحد إلا شفعت فقام مقام الأنبياء" وقد جاء في الفروع رجلان تعلما علماً كعلم الصلاة أو نحوها أحدهما يتعلم ليعلم الناس والآخر يتعلم ليعمل به فالأول أفضل لأن منفعة تعليم الخلق أكثر لكونه خيراً متعدياً فكان هو أفضل من الخير اللازم لصاحبه وقد جاء في الآثار "إن مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء الليلة" خصوصاً إذا كان مما يتعلق بالعلم بالله وقد قل أهله في هذا الزمان وانقطعت مذاكرته عن اللسان لانقطاع ذوق الجنان وانسداد البصيرة والعياذ بالله من الخذلان والحرمان {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} (استسلام : كردن نهادن) يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع وأصله طلب السلامة.
والمعنى : منقادون ذليلون خاضعون بالاضطرار لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجز فكل مستسلم غير منتصر كقوم متحابين انكسرت سفينتهم فوقعوا في البحر فأسلم كل واحد منهم صاحبه إلى الهلكة لعجزه عن تنجية نفسه فضلاً عن غيره بخلاف حال المتحابين في الله.
قال الحافظ :
يار مردان خدا باش كه دركشتى نوح
هست خاكى كه بآبى نخرد طوفانرا
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَأَقْبَلَ} حينئذٍ (والاقبال : يش آمدن وروى فراكسى كردن).
يقال : أقبل عليه بوجهه وهو ضد الإدبار {بَعْضُهُمْ} هم الاتباع أو الكفرة {عَلَى بَعْضٍ} هم الرؤساء أو القرناء حال كونهم {يَتَسَآءَلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال ولذا فسر بيتخاصمون كأنه قيل كيف يتساءلون فقيل : {قَالُوا} أي : الاتباع للرؤساء أو الكفرة للقرناء {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدنيا {عَنِ الْيَمِينِ} عن القوة والإجبار فنتجبروننا على الغي والضلال فاتبعناكم خوفاً منكم بسبب القهر والقوة وبها يقع أكثر الأعمال.
أو عن الناحية التي كان منها الحق فتصرفوننا عنها كما في ا"المفردات".
وعن الجهة التي كنا نأمنكم منها لحلفكم أنكم على الحق فتصدقناكم فأنتم أضللتمونا كما في "فتح الرحمن"
فاليمين
455
إذا بمعنى الحلف والأول أوفق للجواب الآتي كما في "الإرشاد".
ويقال : من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين لتلبيس الحق عليه.
ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات.
ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل تكذيب القيامة.
ومن أتاه من خلفه أتاه من قبل تخويفه بالفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحماً ولم يؤد زكاة.
وفي الآية إشارتان :
"الأولى" : أن دأب أهل الدنيا أنهم يلقون ذنب بعضهم على بعض ويدفعون عن أنفسهم ويبرئون اعراض الإخوان من تهمة الذنوب ويتهمون أنفسهم بها كما كان عيسى عليه السلام إذا رأى قد سرق شيئاً يقول له أسرقت؟ فيقول : لا والذي لا إله إلا هو فيقول عيسى : صدقت وكذبت عيناي.
"
(7/355)
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والثانية" : أن من كان مؤمناً حقيقياً لا يقدر أحد على إضلاله ومن كان مؤمناً تقليدياً يضل بإضلال أهل الهوى والبدع ويزول إيمانه بأدنى شبهة كما أشار بنفي الإيمان في الجواب الآتي {قَالُوا} استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال الرؤساء أو القرناء فقيل : قالوا : {بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي : لم نمنعكم من الإيمان بالقوة والقهر أو بنحو ذلك بل لم تؤمنوا باختياركم وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه وآثرتم الكفر عليه {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـان} من قهر وتسلط نسلب به اختياركم.
والسلاطة التمكن من القهر سلطه فتسلط ومنه سمي السلطان بمعنى الغالب والقاهر والسلطان يقال في السلاطة أيضاً ومنه ما في الآية ونظائرها {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَـاغِينَ} مختارين للطغيان مصرين عليه والطغيان مجاوزة الحد في العصيان {فَحَقَّ عَلَيْنَا} أي : لزم وثبت علينا {قَوْلُ رَبِّنَآ} وهو قوله : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِنَّا لَذَآاـاِقُونَ} أي : العذاب الذي ورد به الوعيد وبالفارسية : (بدرستى كه شند كانيم عذاب را دران روز) {فَأَغْوَيْنَـاكُمْ} فدعوناكم إلى الغي والضلال دعوة غير ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم الغي على الرشد وبالفارسية : (س ما شمارا دعوت كرديم بكمراهى وكراهى بجهت آنكه) {إِنَّا كُنَّا غَـاوِينَ} ثابتين على الغواية فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك المرتبة من الدعوة لتكونوا أمثالنا في الغواية وبالفارسية : (ما بوديم كمراهان خواستيم كه شما نيز مثل ما باشيد در مثل است كه خر من سوخته خر من سوخته طلبد :
من مستم وخواهم كه توهم مست شوى
تا همو من سوخته همدست شوى
حق سبحانه وتعالى فرمودكه) {فَإِنَّهُمْ} أي : الأتباع والمتبوعين {يَوْمَـاـاِذٍ} (آنروز) {فِى الْعَذَابِ} متعلق بقوله : {مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانوا مشتركين في الغواية {إِنَّا كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية وهو الجمع بين الضالين والمضلين في العذاب {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} المتناهين في الإجرام وهم المشركون كما يعرب عنه التعليل بقوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريق الدعوة والتلقين بأن يقال قولوا : {لا إله إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} يتعظمون عن القول ، وقع ذكر لا إله إلا الله في القرآن في موضعين : أحدهما في هذه السورة.
والثاني في سورة القتال في قوله : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إله إِلا اللَّهُ} وليس في القرآن لهما ثالث.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "التلويح" : لا يخفى أن الاستثناء ههنا بدل من اسم لا على المحل والخبر محذوف أي : لا إله موجود في الوجود إلا الله انتهى.
قال الهندي : ويجوز في المستثنى النصب على الاستثناء
456
ولا يضعف إلا في نحو لا إله إلا الله من حيث أنه يوهم وجهاً ممتنعاً وهو الإبدال من اللفظ انتهى.
قال العصام لأن إيهام البدل ههنا من اللفظ إيهام الكفر وبينه وبين قصد المخبر بالتوحيد تناف {وَيَقُولُونَ أَاـاِنَّا} (آياما) {لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا} (ترك كنند كانيم عبادات خداى خودرا) {لِشَاعِرٍ مَّجْنُون} أي : لأجل قول شاعر مغلوب على عقله يعنون محمداً صلى الله عليه وسلّم وهمزة الاستفهام للإنكار أي : ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا وهي الأصنام وبالفارسية : (ما بسخن أو ترك عبادت اصنام نكنيم) ولقد كذبوا في ذلك حيث جننوه وشعروه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً وأحسنهم رأياً وأشدهم قولاً وأعلاهم كعباً في المآثر والفضائل كلها وأطولهم باعاً في العلوم والمعارف بأسرها ويشهد بذلك خطبة أبي طالب في تزويج خديجة الكبرى في محضر بني هاشم ورؤساء مضر على ما سبق في سورة آل عمران عند قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ} (آل عمران : 164) الآية {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ} أي : ليس الأمر على ما قالوه من الشعر والجنون بل جاء محمد بالحق وهو التوحيد {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} جميعاً في مجيئهم بذلك فما جاء به هو الذي أجمع عليه كافة الرسل فأين الشعر والجنون من ساحته الرفيعة :
هركرا در عقل كل باشد كمال
نيست او مجنون اى شوريده حال
(7/356)
{إِنَّكُمْ} بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول والاستكبار {لَذَآاـاِقُوا الْعَذَابِ الالِيمِ} والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي : الإجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا ما كنتم تعملونه منها.
قال ابن الشيخ ولما كان المقام مظنة أن يقال كيف يليق بالكريم الرحيم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده أجاب عنه بقوله : {وَمَا تُجْزَوْنَ} إلخ وتقريره أن الحكمة تقتضي الأمر بالخير والطاعة والنهي عن القبيح والمعصية ولا يكمل المقصود من الأمر والنهي إلا في الترغيب في الثواب والترهيب بالعقاب ولما وقع الاخبار بذلك وجب تحقيقه صوناً للكلام عن الكذب فلهذا السبب وقعوا في العذاب انتهى.
فعلى العاقل أن يحذر من يوم القيامة وجزائه فينتقل من الإنكار إلى الإقرار ومن الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن الباطل إلى الحق ومن الفاني إلى الباقي ومن الشرك إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص.
وسئل علي رضي الله عنه ما علامة المؤمن قال أربع : أن يطهر قلبه من الكبر والعداوة.
وأن يطهر لسانه من الكذب والغيبة.
وأن يطهر قلبه من الرياء والسمعة.
وأن يطهر جوفه من الحرام والشبهة وأعظم الكبر أن يتكبر عن قول لا إله إلا الله الذي هو أساس الإيمان وخير الاذكار وكلمة الإخلاص وبه يترقى العبد إلى جميع المراتب الرفيعة لكن بشرائطه وأركانه (حسن بصري را رسيدند كه ه كويى درين خبر كه) "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" قال لمن عرف حدها وأدى حقها :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
هركرا از خدا بود تأييد
نشود كار او بجز توحيد
ذكر توحيد مايه حالست
ون ازان بكذرى همه قالست
{إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع من ضمير ذائقون وما بينهما اعتراض جيىء به مسارعة
457
إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلاً ولكون الاستثناء منقطعاً وإلا بمعنى لكن.
قال في "كشف الأسرار" : تم الكلام ههنا أي : عند قوله تعالى : {إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والمعنى إنكم لذائقوا العذاب الأليم لكن عباد الله المخلصين لا يذوقونه.
والمخلصون بالفتح من أخلصه الله لدينه وطاعته واختاره لجناب حضرته كقوله تعالى : {وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا} (النمل : 59) أي : اصطفاهم الله تعالى فلهم سلامة من الأزل إلى الأبد.
والمخلص بالكسر من أخلص عبادتهتعالى ولم يشرك بعبادته أحداً كقوله تعالى : {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ} (النساء : 46).
وحقيقة الفرق بينهم على ما قال بعض العارفين أن الصادق والمخلص بالكسر من باب واحد وهو من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق والمخلص بالفتح من باب واحد وهو من تخلص من شوائب الغيرية أيضاً والثاني أوسع فلكاً وأكثر إحاطة فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس فرحم الله حفصا حيث قرأ بالفتح حيثما وقع في القرآن {أولئك} الخ استئناف فكأن سائلاً سأل ما لهؤلاء املخلصين من الأجر والثواب فقيل : أولئك الممتازون عما عداهم بالإضافة والإخلاص {لَهُمُ} بمقابلة إخلاصهم في العبودية {رِزْقٌ} لا يدانيه رزق ولا يحيط به وصف على ما يفيده التنكير والرزق اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله {مَّعْلُومٌ} الخصائص من حسن المنظر ولذة الطعم وطيب الرائحة ونحوها من نعوت الكمال والظاهر أن معناه معلوم وجوداً وقدراً وحسناً ولذة وطيباً ووقتاً بكرة وعشياً أو دواماً كل وقت اشتهوه فإن فيه فراغ الخاطر وإنما يضطرب أهل الدنيا في حق الرزق لكون أرزاقهم غير معلومة لهم كما في الجنة :
تشنكانرا نمايد اندر خواب
همه عالم بشم شمه آب
هركرا شمه شد جدا لب او
كى بماند بآنكه در لب جو
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{فَوَاكِهُ} بدل من رزق جمع فاكهة وهي كل ما يتفكه به أي : يتنعم بأكله من الثمار كلها رطبها ويابسها وتخصيصها بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه أي : ما يأكل بمجرد التلذذ دون الاقتيات وبالفارسية : (قوت كرفتن) لأنهم مستغنون عن القوت لكون خلقتهم على حالة تقتضي البقاء فهي محكمة محفوظة من التحلل المحوج إلى البدل بخلاف خلقة أهل الدنيا فإنها على حالة تقتضي الفناء فهي ضعيفة محتاجة إلى ما يحصل به القوام اللهم إلا خلقة بعض الأفراد المصونة من التحلل والتفسخ دنيا وبرزخاً.
(7/357)
وقال بعضهم : لأن الفواكه من اتباع سائر الأطعمة فذكرها مغن عن ذكرها.
يقول الفقير : والظاهر أن الاقتصار على الفواكه للترغيب والتشويق من حيث أنه لا يوجد في أغلب ديار العرب خصوصاً في الحجاز أنواع الفواكه {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عنده لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم.
وقال بعضهم لما فصل خصائص رزقهم بين أن ذلك الرزق يصل إليهم بالتعظيم والإكرام لأن مجرد المطعوم من غير إعزاز وإكرام يليق بالبهائم.
ولما ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال : {فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} النعيم النعمة أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم بالإضافة للاختصاص والظرف يقرر محل الرزق والإكرام أو خبر آخر
458
لقول هم مثل قوله : {عَلَى سُرُرٍ} (برتختهاى آراسته) جمع سرير وهو الذي يجلس عليه من السرور إذ كان كذلك لأولي النعمة وسرير الميت يشبه به في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق بالميت برجوعه إلى الله وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن" ويجوز أن يتعلق على سرر بقوله : {مُّتَقَـابِلِينَ} أي : حال كونهم متقابلين على سرر وهو حال من الضمير في قوله على سرر والمعنى بالفارسية : (روى در روى يكديكر تابديدار هم شاد وخرم باشند) والتقابل وهو أن ينظر بعضهم وجه بعض أتم للسرور والإنس.
وقيل : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم ثم إن استئناس بعضهم برؤية بعض صفة الأبرار فإن من صفة الأحرار لا يستأنسوا إلا بمولاهم.
وسئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه هل يقبل الحبيب بوجهه على الحبيب؟ فقال : وهل يصرف الحبيب وجهه عن الحبيب وذلك لكون أحدهما مرآة للآخر فالله تعالى يتجلى للمقربين كل لحظة فيدوم عليهم انسهم الباطن حال كون ظواهرهم مستغرقة في نعيم الجنان ، قال الكمال الخجندي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
دولت آن نيست كه يابم دو جهان زير نكين
دولت اينست وسعادت كه ترا يافته ام
ولما ذكر مأكل المخلصين ومسكنهم ذكر بعده صفة شربهم فقال : {يُطَافُ عَلَيْهِم} استئناف مبني على ما نشأ عن حكاية تكامل مجالس أنسهم.
والطواف الدوران حول الشيء وكذا الإطافة كما قال في "التهذيب" : (الإطافة : كرد يزى بركشتن) والمعنى بالفارسية : (كردانيده ميشود برايشان يعني ساقيان بهشت وخادمان برسر ايشان مى كردانند) {بِكَأْسٍ} (جامى تر) اى باناء فيه خمر فإن الكأس يطلق على الزجاجة ما دام فيها خمر وإلا فهو قدح وإناء {مِّن مَّعِين} صفة كأس أي : كائنة من شراب معين أي : ظاهر للعين أو من نهر معين أي : جار على وجه أرض الجنة فإن في الجنة أنهاراً جارية من خمر كأنهار جارية من ماء.
قال في ا"المفردات" : هو من قولهم معن الماء جرى فهو معين وقيل ماء معين هو من العين والميم زائدة فيه انتهى.
وفي الآية إشارة إلى أن قوماً شربوا ومشربهم الشراب بالكأس والشراب معين محسوس وقوماً شربوا ومشربهم الحب والحب مغيب مستور وقوماً شربوا ومشربهم المحبوب هو سر مكنون.
نسيم الحب يحييكم
رحيق الحب يلهيكم
من المحبوب تأتيكم
إلى المحبوب ينهيكم
{بَيْضَآءَ} لوناً أشد من لون اللبن والخمر البيضاء لم تر في الدنيا ولن ترى وهذا من جملة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وبيضاء تأنيث أبيض صفة أيضاً لكأس وكذا قوله : {لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} لكل من يشرب منها.
ووصفها بلذة ما للمبالغة أي : كأس لذيذة عذبة شهية طيبة صارت في لذتها كأنها نفس اللذة أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ وصفها باللذة بياناً لمخالفتها لخمور الدنيا لانقطاع اللذة عن خمور الدنيا كلها رأساً بالكلية {لا فِيهَا غَوْلٌ} بخلاف خمور الدنيا فإن فيها غولاً كالصداع ووجع البطن وذهاب العقل والإثم فهو من قصر المسند إليه على المسند.
يعني إن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي إذ خمور الجنة لا تتجاوز الاتصاف بفي كخمور الدنيا وبالفارسية : (نيست دران شراب آفتى وعلتى كه بر
459
خمر دنيا مرتب است ون فساد حال وذهاب عقل وصداع سر وخواب وجزآن) وهي صفة لكأس أيضاً وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها.
والغول اسم بمعنى الغائلة يطلق على كل أذية ومضرة.
قال في ا"المفردات" : قال تعالى في صفة خمر الجنة {لا فِيهَا غَوْلٌ} نفياً لكل ما نبه عليه بقوله : {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} وبقوله : {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} انتهى يقال غاله الشيء إذا أخذه من حيث لم يدر وأهلكه من حيث لا يحس به ومنه سمي السعلاة غولاً بالضم والسعلاة سحرة الجن كما سبق في سورة الحجر.
قال في "بحر العلوم" : ومنه الغول الذي يراه بعض الناس في البوادي ولا يكذبه ولا ينكره إلا المعتزلة من جميع أصناف الناس حتى جعلوه من كذبات العرب مع أنه يشهد بصحته قوله عليه السلام : "إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/358)
قال ابن الملك عند قوله عليه السلام : "لا عدوى ولا طيرة ولا غول" هو واحد الغيلان وهي نوع من الجن كانت العرب يعتقدون أنه في الفلاة يتصرف في نفسه ويتراءى للناس بألوان مختلفة وأشكال شتى ويضلهم عن الطريق ويهلكهم.
فإن قيل ما معنى النفي وقد قال عليه السلام : "إذا تغولت الغيلان" أي : تلونت لوناً بصور شتى "فعليكم بالأذان".
أجيب بأنه كان ذلك في الابتداء ثم دفعه الله عن عباده.
أو يقال المنفي ليس وجود الغول بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه انتهى أي : من تلونه بالصور المختلفة واغتياله أي : إضلاله وإهلاكه والغول يطلق على ما يهلك كما في ا"المفردات" ، وفي "المثنوي" :
ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز†
أخذ ذكر الحق من الأذان في الحديث وأراد بالغيلان ما يضل السالك أياً كان {وَلا هُمْ} أي : المخلصون {عَنْهَا} أي : عن خمر الجنة {يُنزَفُونَ} يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله من السكر وبالكسر من أنزف الرجل إذا سكر وذهب عقله أو نفد شرابه.
وفي "المفردات" : نزف الماء نزحه كله من البئر شيئاً بعد شيء ونزف دمه ودمعه أي : نزح كله ومنه قيل سكران نزف أي : نزف فمه بسكره.
وقرىء ينزفون أي : بالكسر من قولهم أنزف القوم إذا نزف ماء بئرهم انتهى.
ثم إنه أفرد هذا بالنفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغول عنها لما أنه من معظم مفاسد الخمر كأنه جنس برأسه.
والمعنى لا فيها نوع من أنواع الفساد من مغص أي : وجه في البطن أو صداع أو حمى أو عربدة أي : سوء خلق والمعربد مؤذ نديمه في سكره "قاموس" أي : لا لغو ولا تأثيم ولا هم يسكرون.
وفي "بحر العلوم" وبالجملة ففي خمر الدنيا أنواع من الفساد من السكر وذهاب العقل ووقوع العداوة والبغضاء والصداع والخسارة في الدين والدنيا حتى جعل شاربها كعابد الوثن ومن القيىء والبول وكثيراً ما تكون سبباً للقتال والضراب والزنى وقتل النفس بغير حق كما شوهد من أهلها ولا شيء من ذلك كله في خمر الجنة.
قال بعض العرفاء جميع البلاء والارتكابات ليس إلا لكثافتنا فلولا هذه الكثافة لما عرض لنا الأمراض والأوجاع ولم يصدر منا ما يقبح في العقول والأوضاع ألا يرى أنه لا مرض في عالم الآخرة ولا شيء مما يتعلق بالكثافة ولكن معرفة الله تعالى لا تحصل لو لم تكن تلك الكثافة فهي مدار الترقي والتنزل ولذلك لا يكون للملائكة ترق وتدل فهم على خلقتهم وجبلتهم الأصلية {وَعِندَهُمْ}
460
أي : عند المخلصين {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} القصر الحبس والمنع وطرف العين جفنه والطرف تحريك الجفن وعبر به عن النظر لأن تحريك الجفن يلازمه النظر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والمعنى حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفاً إلى غيرهم ولا يبغين بهم بدلاً لحسنهم عندهن ولعفتهن كما في بعض التفاسير {عِينٌ} صفة بعد صفة لموصوف ترك ذكره للعلم به.
جمع عيناء بمعنى واسعة العين وأصله فعل بالضم كسرت الفاء لتسلم الياء والمعنى حسان الأعين وعظامها.
قال في "المفردات" : يقال للبقر الوحشي عيناء وأعين لحسن عينه وبها شبه الإنسان {كَأَنَّهُنَّ} أي : القاصرات {بَيْضٌ} بفتح الباء جمع بيضة وهو المعروف سمي البيض لبياضه والمراد به هنا بيض النعام يعني : (خايه شتر مرغ) {مَّكْنُونٌ} ذكر المكنون مع أنه وصف به الجمع فينبغي أن يؤنث اعتباراً للفظ الموصوف ومكنون أي : مستور من كننته أي : جعلته في كن وهو السترة شبهن بيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان أي : لم تنله الأيدي فإن ما مسته الأيدي يكون متدنساً.
وقال الطبري أولى الأقاويل أن يقال : إن البيض هو الجلدة التي في داخل القشرة قبل أن يمسها شيء لأنه مكنون يعني هو البيض أول ما ينحى عنه قشره.
يقول الفقير أغناه الله القدير : ذكر الله تعالى في هذه الآيات ما كان لذة الجسم ولذة الروح.
أما لذة الجسم فالتنعم بالفواكه وأنواع النعم والخمر التي لم يكن عند العرب أحب منها والتمتع بالأزواج الحسان.
وأما لذة الروح فالسرور الحاصل من الإكرام والإنس الحاصل من صحبة الإخوان والانبساط الحاصل من النظر إلى وجوه الحسان وفي الحديث : "ثلاث يجلين البصر النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن" قال ابن عباس رضي الله عنهما والاثمد عند النوم نسأل الله لقاءه وشهوده ونطلب منه فضله وجوده :
دارم اندك روشنايى در بصر
بى جمال او ولى فيه النظر
(7/359)
قال بعض العرفاء : البيضة حلال لطيف ولكن أهل التصوف لا يأكلها لأنها ناقصة وإنما كمالها إذا كانت دجاجة وكذا لا يحصل منها الشبع التام وكذا من مرق العمارة لعدم طهارته فلتكن هذه المسألة نقلاً وفاكهة لأهل الإرادة ومن الله الوصول إلى أسباب السعادة {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} معطوف على يطاف أي : ليشرب عباد الله المخلصون في الجنة فيتحادثون على الشراب كما هو عادة الشرب في الدنيا فيقبل بعضهم على بعض حال كونهم يتساءلون عن الفضائل والمعارف وعما جرى عليهم ولهم في الدنيا وبالفارسية : (مى رسند از احوال دنيا وما جراى ايشان بادوست ودشمن) فالتعبير عنهم بصيغة الماضي للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع حتماً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الجنة هم الذين كانوا ممن لم يقبلوا على الله بالكلية وإن كانوا مؤمنين موحدين وإلا كانوا في مقعد صدق مع المقربين {قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ} في تضاعيف محاوراتهم وأثناء مكالماتهم {إِنِّى كَانَ لِى} في الدنيا {قَرِينٌ} مصاحب وجليس وبالفارسية : (مرايارى وهمنشينى بود) {يَقُولُ} لي على
461
طريقة التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث (آياتو) {لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} المعتقدين والمقرين بالبعث {أَءِذَا مِتْنَا} (آيا ون بميريم) {وَكُنَّا تُرَابًا} (وخاك كرديم) {وَعِظَـامًا} (واستخوانهاى كهنة) {أَءِنَّا لَمَدِينُونَ} جمع مدين من الدين بمعنى الجزاء ومنه كما تدين تدان أي : لمبعوثون ومحاسبون ومجزيون أي : لانبعث ولانجزى {قَالَ} أي : ذلك القائل بعدما حكى لجلسائه مقالة قرينه في الدنيا {هَلْ أَنتُم} (آياشما) {مُّطَّلِعُونَ} (الاطلاع : ديده ور شدن) أي : ناظرون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين المكذب بالبعث يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه فقال جلساؤه : أنت أعرف به منا فاطلع أنت {فَاطَّلَعَ} عليه يعني : (فرونكيرد برايشان) {فَرَءَاهُ} أي : قرينه {فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} في وسط جهنم وبالفارسية : (درميان آتش دوزخ) وسمي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة منه إلى جميع الجوانب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار ويناظرونهم" لأن لهم في توبيخ أهل النار لذة وسروراً.
يقول الفقير : لا شك أن الجنة في جانب الأوج والنار في طرف الحضيض فلأهل الجنة النظر إلى النار وأهلها كما ينظر أهل الغرف إلى من دونهم وأما سرور وهم لعذابهم مع كونهم مؤمنين رحماء فلأن يوم القيامة يوم ظهور اسم المنتقم والقهار ونحوهما فكما أنهم في الدنيا رحماء بينهم أشداء على الكفار كذلك لا يرحمون الأعداء كما لا يرحمهم الله إذ لو رحمهم لأدخلهم الجنة نسأل الله ثوابه وجنته {قَالَ} أي : القائل مخاطباً لقرينه متشمتاً به حين رآه على صورة قبيحة {تَاللَّهِ إِن} أي : إن الشان {كِدتَّ} قاربت وبالفارسية : (بخداى كه نزديك توبودى كه) {لَتُرْدِينِ} (مراهلاك كردى وتباه) أي : لتهلكني بالإغواء والردى الهلاك والارداء الإهلاك وأصله ترديني بياء المتكلم فحذفت اكتفاء بالكسرة {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى} بالهداية والعصمة {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} الإحضار لا يستعمل إلا في الشر كما في "كشف الأسرار" أي : من الذين أحضروا العذاب ما أحضرته أنت وأمثالك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى} حفظه وخصمته وهدايته {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معكم فيما كنتم فيه من الضلالة في البداية وفيما أنتم فيه من العذاب والبعد في النهاية وإنما أخبر الله تعالى عن هذه الحالة قبل وقوعها ليعلم أن غيبة الأشياء وحضورها عند الله سواء لا يزيد حضورها في علم الله شيئاً ولا ينقص غيبتها من علمه شيئاً سواء في علمه وجودها وعدمها بل كانت المعدومات في علمه موجودة :
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه سروراً بفضل الله العظيم والنعيم المقيم فإن تذكر الخلود في الجنة لذة عظيمة والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام أي : أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي : بمن شأنه الموت {إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى} (الدخان : 56) التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الاحياء للسؤال قاله تصديقاً لقوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى} أي : لا نموت في الجنة أبداً سوى موتتنا الأولى في الدنيا ونصبها على المصدر من اسم الفاعل يعني إنه مستثني مفرغ معرب
462
(7/360)
على حسب العوامل منصوب بميتين كما ينصب المصدر بالفعل المذكور قبله في مثل قولك ما ضربت زيداً إلا ضربة واحدة كأنه قيل وما نحن نموت موتة إلا موتتنا الأولى وقيل نصبها على الاستثنا المنقطع بمعنى لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا.
وقيل إلا هنا بمعنى بعد وسوى {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكفار فإن النجاة من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتحدث بها كما أن العذاب محنة عظيمة مستدعية لتمني الموت كل ساعة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه "الموت أشد مما قبله وأهون مما بعده".
وفي الآية إشارة إلى أن مات الموتة الأولى وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية الحيوانية فقد حيى بحياة روحانية ربانية لا يموت بعدها أبداً بل ينقل المؤمن من دار إلى دار في جوار الحق ولا يعذب بنار الهجران وآفة الحرمان :
هركه فانى شد ازارادت خويش
زندكى يافت او زمهجت خويش
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
از عذاب والم مسلم كشت
در جوار خدا منعم كشت
{إِنْ هَـاذَآ} أي : الأمر العظيم الذي نحن فيه من النعمة والخلود والأمن من العذاب {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الفوز الظفر مع حصول السلامة أي : لهو السعادة والظفر بكل المراد الدنيا وما فيها تحتقر دونه كما تحتقر القطرة من البحر المحيط والحبة من البيدر الكبير {لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ} أي : لنيل هذا المرام الجليل يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانقطاع المشوبة بفنون الآلام والبلايا والصداع.
قال الكاشفي : (ازبراى اين نعمتها س بايدكه عمل كنند كان نه براى مال وجاه دنياكه برشرف زوال وصدد انتقال است) :
كربار كشى بار نكارى بارى
وركار كنى براى يارى بارى
ورروى بخاكراهى خواهى ماليد
برخاك ره طرفه سوارى بارى
ويحتمل أن يكون قوله إن هذا الخ من كلام رب العزة فهو ترغيب في طلب ثواب الله بطاعته ويقال فليحتمل المحتملون الأذى لأنه قد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات كما قال جلال الدين الرومي قدس سره :
حفت الجنة بمكروهاتنا
حفت النيران من شهواتنا
يعني : جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكرهة لنا وجعلت النار محاطة بالأشياء التي محبوبة لنا فما بين المرء وبين الجنة حجاب إلا المكاره وهو حجاب عظيم صعب خرقه وما بين النار وبينه حجاب إلا الشهوات وهو حجاب حقير سهل لأهله والعياذ بالله من الإقبال على الشهوات والإدبار عن الكرامات في الجنات.
قال في "كشف الأسرار" : (س عارفان سزاتراندكه براميد ديدار جلال احديت ويافت حقائق قربت وتباشير صبح وصلت ديده ديده ودل فرا كنند وجان ورواه درين بشارت نثار كنند) يعني إن هبت نفحة من نفحات الحق من جنات القدس أو شم رائحة من نسيم القرب أو بدت شطبة من الحقائق وتباشير الوصلة حق للعارف أن يقول إن هذا لهو الفوز العظيم وبالحرى أن يقول : {لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ} بل لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل :
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وإن بات من سلمى على اليأس طاوياً
463
والحاصل : أن لكل من العابدين والعارفين حصة من إشارة هذا في الآية وكان بعض الصلحاء يصلي الضحى مائة ركعة ويقول لهذا خلقنا وبهذا أمرنا يوشك أولياء الله أن يكفوا ويحمدوا أي : على ما آتاهم الله في مقابلة مجاهداتهم وطاعتهم من الأجر الجزيل والثواب الجميل.
وقد ثبت أن كثيراً من الصلحاء تلوا عند النزع قوله تعالى : {لِمِثْلِ هَـاذَا} إلى آخر ما أشير إليه لما شاهده من حيث مقامه فنسأل الله القلب السليم في الدنيا والنعيم المقيم في العقبى ولله تعالى ألطاف لا تحويها الأفكار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/361)
ـ حكي ـ أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى من أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال : رجل يجيىء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت يا رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت يا رب قال موسى عليه السلام : فمن أعلاهم منزلة؟ فقال أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر والكل فوز لكن الفوز بالأعلى فوز عظيم ألا ترى أنه لا تستوي الرعية والسلطان في الدنيا فإن كل للرعية عباء فللسلطان قباء وإن كان لهم حجرة فله غرفة وإن كان لهم كسرة خبز فله ألوان نعمة وهكذا فقد تفاوتت الهمم في الدنيا واختلف الأغراض ولذا تفاوت المراتب في العقبى وتباين الأعواض فمن وجد الله تعالى وجد الجنة أيضاً بكل ما فيها ولكن ليس كل من يجد الجنة بأسرها يصل إلى الله تعالى والإنسان به والاحتظاظ بلقائه المستغرق جميع الأوقات وشهوده المستوعب لكل الحالات فكن عالي الهمة فإن علو الهمة من الإيمان وغاية الإيمان الإحسان ونهايته الاستغراق في شهود المنان {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} الهمزة للتقرير والمراد حمل الكفار على إقرار مدخولها وذلك إشارة إلى نعيم الجنة.
وخير وارد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم وانتصاب نزلاً على الحالية وهو ما يهيأ من الطعام الحاضر للنازل أي : الضيف ومنه إنزال الأجناد لأرزاقهم.
والزقوم : اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة تكون بتهامة يعرفها المشركون سميت بها الشجرة الموصوفة بقوله إنها شجرة الخ.
وفي "المفردات" : شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار ومنه استعير زقم فلان وتزقم إذا ابتلع شيئاً كريهاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والمعنى : أن نعم الجنة والرزق المعلوم للمؤمنين فيها خير طعاماً يعني أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم أي : ثمرها فأيهما خير في كونهما نزلاً وفي ذكره دلالة على أن ما ذكره من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يعد ويرفع للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الإفهام وكذلك الزقوم لأهل النار ويقال أصل النزل الفضل والزيادة والريع ومنه قولهم العسل ليس من إنزال الأرض أي : من ريعها وما يحصل منه فاستعير للحاصل من الشيء فانتصاب نزلاً على التمييز.
والمعنى أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلاً أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم {إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ} محنة وعذاباً لهم في الآخرة فإن الفتن في اللغة الإحراق أو ابتلاء في الدنيا حيث فتنوا وضلوا عن الحق بسببه فإن الفاتن قد يطلق على المضل عن الحق فإن الكفار لما سمعوا كون هذه الشجرة في النار فتنوا به في دينهم وتوسلوا به إلى الطعن
464
في القرآن والنبوة والتمادي في الكفر وقالوا : كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجرة في النار وحفظه من الإحراق {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي : تنبت في قعر جهنم فمنبتها في قعرها وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ولما كان أصل عنصرها النار لم تحرق بها كسائر الأشجار ألا ترى أن السمك لما تولد في الماء لم يغرق بخلاف ما لم يتولد ليه.
ولعله رد على ابن الزبعري وصناديد قريش وتجهيل لهم حيث قال ابن الزبعري لهم : إن محمداً يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان البربر الزبد والتمر فأدخلهم أبو جهل بيته وقال : يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال استهزاء تزقموا فهذا ما توعدكم به محمد فقال تعالى : {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} فليس الزقوم ما فهم هؤلاء الجهلة الضلال {طَلْعُهَا} أي : حملها وثمرها الذي يخرج منها ويطلع مستعار من طلع النخلة لمشاركته له في الشكل.
والطلع شيء يخرج من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود {كَأَنَّهُ} (كويا او) {رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ} في تناهي القبح والهول لأن صورة الشيطان أقبح الصور وأكرهها في طباع الناس وعقائدهم ومن ثمة إذا وصفوا شيئاً بغاية القبح والكراهة قالوا : كأنه شيطان وإن لم يروه فتشبيه الطلع برؤوس الشياطين تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك قال تعالى حكاية
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/362)
{مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف : 31).
وفيه إشارة إلى أن من كان ههنا معلوماته في قبح صفات الشياطين يكون هناك مكافأته في قبح صورة الشياطين {فَإِنَّهُمْ} (بس دوز خيان) {لاكِلُونَ مِنْهَا} أي : من الشجرة ومن طلعها فالتأنيث مكتسب من المضاف إليه {فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها وإن كرهوها ليكون ذلك نوعاً آخر من العذاب.
وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لها في مزرعة الآخرة أعني الدنيا زارعين فما حصدوا إلا ما زرعوا.
والمالىء : اسم فاعل من ملأ الإناء ماء يملؤه فهو مالىء ومملوء.
والبطون جمع بطن وهو خلاف الظهر في كل شيء {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} أي : على الشجرة التي ملأوا منها بطونهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم كما ينبىء عنه كلمة ثم فتكون للتراخي الزماني ويجوز أن تكون للرتبى من حيث أن كراهة شرابهم وبشاعته لما كانت أشد وأقوى بالنسبة إلى كراهة طعامهم كان شرابهم أبعد من طعامهم من حيث الرتبة فيكونون جامعين بين أكل الطعام الكريه البشيع وشرب شراب الأكره الأبشع {لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} الشوب الخلط والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره أي : شراباً من دم أو قيح أسود أو صديد ممزوجاً مشوباً بماء حار غاية الحرارة يقطع إمعاءهم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} أي : مصيرهم {لالَى الْجَحِيمِ} أي : إلى درجاتها أو إلى نفسها فإن الزقوم والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها وقيل الجحيم خارج عنها لقوله تعالى : {هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 43 ـ 44) يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم من الجحيم إلى شجره الزقوم فيأكلون منها إلى أن يتملئوا ثم يسقون من الحميم ثم يردون إلى الجحيم كما يرد الإبل عن موارد الماء ويؤيده قراءة ابن مسعود "ثم إن منقلبهم" وفي الحديث : "يا أيها الناس اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فلو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرّت
465
على أهل الدنيا معيشتها فكيف بمن هو طعامه وشرابه وليس له طعام غيره" {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في الدين من غير أن يكون لهم ولآبائهم شيء يتمسك به أصلاً.
والإلفاء بالفاء الوجدان وبالفارسية : (يافتن) وضالين مفعول ثان لقوله ألفوا بمعنى وجدوا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والمعنى : وجدوهم ضالين في نفس الأمر عن الهدى وطلب الحق ليس لهم ما يصلح شبهة فضلاً عن صلاحية الدليل {فَهُمْ} أي : الكافرون الظالمون {عَلَى ءَاثَارِهِمْ} أي : آثار الآباء جمع أثر بالفارسية (ى) {يُهْرَعُونَ} يسرعون من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أو لا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل ، والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون ويحثون حثاً على الإسراع على آثارهم {وَلَقَدْ} جواب قسم أي : وبالله لقد {ضَلَّ} (كمراه شد) {قَبْلَهُمْ} أي : قبل قومك قريش {أَكْثَرُ الاوَّلِينَ} من الأمم السابقة أضلهم إبليس ولم يذكر لأن في الكلام دليلاً فاكتفى بالإشارة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم} (وبتحقيق ما فرستاديم درميان ايشان) يعني الأكثرين {مُّنذِرِينَ} أي : أنبياء أولى عدد كثير ذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما هم عليه وأنذروهم عاقبته الوخيمة {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي : آخر أمر الذين أنذروا من الهول والفظاعة والهلاك لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا لهم رأساً.
والخطاب إما للرسول أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم وسماع أخبارهم وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكاً فظيعاًاستثنى منهم المخلصون بقوله تعالى : {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي : الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجب الإنذار يعني أنهم نجوا مما أهلك به كفار الأمم الماضية.
وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان أنه تعالى أرسل قبله رسلاً إلى الأمم الماضية فأنذروهم بسوء عاقبة الكفر والضلال فكذبهم قومهم ولم ينتهوا بالإنذار وأصروا على الكفر والضلال فصبر الرسل على أذاهم واستمروا على دعوتهم إلى الله تعالى فاقتد بهم وما عليك إلا البلاغ ثم إن عاقبة الإصرار الهلاك وغاية الصبر النجاة والفوز بالمراد.
فعلى العاقل تصحيح العمل بالإخلاص وتصحيح القلب بالتصفية.
قال الواسطي : مدار العبودية على ستة أشياء : التعظيم والحياء والخوف والرجاء والمحبة والهيبة.
فمن ذكر التعظيم يهيج الإخلاص.
ومن ذكر الحياء يكون العبد على خطرات قلبه حافظاً.
ومن ذكر الخوف يتوب العبد من الذنوب ويأمن من المهالك.
ومن ذكر الرجاء يسارع إلى الطاعات.
ومن ذكر المحبة يصفو له الأعمال.
ومن ذكر الهيبة يدع التملك والاختيار ويكون تابعاً في إرادته لإرادة الله تعالى ولا يقول إلا سمعنا وأطعنا.
(7/363)
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وقد صح أن ذا القرنين لما دخل الظلمات قال لعسكره ليرفع كل منكم من الأحجار التي تحت أقدام الافراس فإنها جواهر فمن رفع بلغ نهاية الغنى ومن خالف وأنكر ندم وبقي في التحسر أبداً :
كاشكى بهر امتحان بارى
كردمى نان ذخيره مقدارى
تا كنون نقد وقت من كشتى
وقتم اينسان بمقت نكذشتى
كاشكى كزكهر بكردم بار
برسكندر نكردمى انكار
تانيفتادمى ازان تقصير
در حجاب وخجالت وتشوير
466
آين بود حال كافر ومسلم
كاو درين تنك موطن ومظلم
ون رشيد ازخدا كتاب ورسول
آن برد يش رفت اين بقبول
نزدند از سر فساد وغلو
كافران جز در عناد وعتو
مؤمنان كرده در يمبر روى
هم سمعنا وهم أطعنا كوى
شد بلايا نهايت انكار
شد عطايا نهايت اقرار
ومن الله التوفيق بطريق التحقيق {وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ} نوع تفصيل لحسن عاقبة المنذرين بالكسر وسوء خاتمة المنذرين بالفتح.
والنداء الدعاء بقرينة فلنعم المجيبون.
والمعنى وبالله لقد دعانا نوح وهو أول المرسلين حين يئس من إيمان قومه بعدما دعاهم إليه أحقاباً ودهوراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً ونفوراً فأجبناه أحسن الإجابة حيث أوصلناه إلى مراده من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي : فوالله لنعم المجيبون نحن نحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه والجمع دليل العظمة والكبرياء {وَنَجَّيْنَـاهُ} (التنجية : نجات دادن) {وَأَهْلَهُ} (وكسان او) {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (ازاندوه بزرك) أي : من الغرق أو من أذى قومه دهراً طويلاً.
والكرب الغم الشديد والكربة كالغمة وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك ويصح أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ} نسله {هُمُ} فحسب {الْبَاقِينَ} حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً.
وقد روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير أبنائه وأزواجهم وهم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة.
قال قتادة : إنهم كلهم من ذرية نوح وكان له ثلاثة أولاد : سام وحام ويافث.
فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى.
وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب والسند والهند والنوبة والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم.
ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "كشف الأسرار" : (أصحاب التورايخ كفتند فرزاندن يافث هفت بودند نامهاى ايشان ترك وخزر وصقلاب وتاريس ومنسلك وكمارى وصين ومسكن ايشان ميان مشرق ومهب شمال بود وهره ازين جنس مردم اند از فرزندان اين هفت برادرانند وهمنين فرزندان حام بن نوح هفت بودند نامهاى ايشان سند وهند وزنج وقبط وحبش ونوب وكنعان ومسكن ايشان ميان نوب ودبور وصبابود وجنس سياهان همه ازفرزندان اين هفت برادرانند اما فرزندان سام ميكويند ن بودند وقومى ميكويندكه هفت بودندارم وارفخشد وعالم ويفر واسود وتارخ وتورخ ارم درعاد وثمود بودار فحشد بدر عرب بود از ايشان فالغ وقحطان بود فالغ جد ابراهيم عليه السلام قحطان ابو اليمن بود وعالم بدر خراسان واسود در فارس ويفر در روم بود وتورخ در ارمين بود صاحب ارمينيه وتارخ در كرمان بود وابن ديار واقطاع همه بنام ايشان باز ميخوانند وبعد ازنوع خليفه وى سام بود برسر فرزندان نوح فرمانده بود وكارساز ومسكن وى زمين عراق بود وايران شهر) وقيل يشتوا بأرض خوخى ويصيف بالموصل (ونوح راسرهارمين بودنام او يام) وهو الغريق
467
ولم يكن له عقب {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} أبقينا على نوح {فِى الاخِرِينَ} من الأمم وبالفارسية : (درميان سينيان) {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ} أي : هذا الكلام بعينه وهو وارد على الحكاية كقولك قرأت سورة أنزلناها فلم ينتصب السلام لأن الحكاية لا تزال عن وجهها.
والمعنى يسلمون عليه تسليماً ويدعون له على الدوام أمة بعد أمة {فِى الْعَـالَمِينَ} بدل من قوله في الآخرين لكونه أدل منه على الشمول والاستغراق لدخول الملائكة والثقلين فيه.
والمراد الدعاء بثبات هذه التحية واستمرارها أبداً في العالمين من الملائكة والثقلين جميعاً.
وفي "تفسير القرطبي" جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح : لا أحملكما لأنكما سبب الضر والبلاء فقالا : احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ} لم يضراه ذكره القشيري.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/364)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بهذا إلى أن المستحق لسلام الله هو نوح روح الإنسان لأنه ما جاء أن الله سلم على شيء من العالمين غير الإنسان كما قال تعالى ليلة المعراج : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فقال عليه السلام : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وما قال وعلى ملائكتك المقربين.
وإنما كان اختصاص الإنسان بسلام من بين العالمين لأنه حامل الأمانة الثقيلة التي أعرض عنها غيره فكان أحوج شيء إلى سلام الله ليعبر بالأمانة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ولهذا قال النبي عليه السلام : "تكون دعوة الرسل حينئذٍ رب سلم سلم" وهل سمعت أن يكون لغير الإنسان العبور على الصراط وإنما اختصوا بالعبور على الصراط لأنهم يؤدون الأمانة إلى أهلها وهو الله تعالى فلا بد من العبور على صراط الله الموصل إليه لأداء الأمانة {إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} الكاف متعلقة بما بعدها أي : مثل ذلك الجزاء الكامل من إجابة الدعاء وإبقاء الذرية والذكر الجميل وتسليم العالمين أبداً نجزي الكاملين في الإحسان لاجزاء أدنى منه فهو تعليل لما فعل بنوح من الكرامات السنية بأنه مجازاة له على إحسانه {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تعليل لكونه من المحسنين بخلوص عبوديته وكمال إيمانه.
وفيه إظهار لجلالة قدر الإيمان وأصالة أمره وترغيب في تحصيله والثبات عليه.
وفي "كشف الأسرار" : خص الإيمان بالذكر والنبوة أشرف منه بياناً لشرف المؤمنين لا لشرف نوح كما يقال إن محمداً عليه السلام من بني هاشم.
قال عباس بن عطاء أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين وأدنى مراتب النبيين أعلى مراتب الصديقين وأدنى مراتب الصديقين أعلى مراتب المؤمنين {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ} أي : المغايرين لنوح وأهله وهم كفار قومه أجمعين (والإغراق : غرقه كردن يعني آنكه ديكرانرا بآب كشتيم) وهو عطف على نجيناه.
وثم لما بين الإنجاء والإغراق من التفاوت وكذا إذا كان عطفاً على تركنا وليس للتراخي لأن كلاً من الإنجاء والإبقاء إنما هو بعد الإغراق دون العكس كما يقتضيه التراخي {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} أي : ممن شايع نوحاً وتابعه في أصول الدين {لابْرَاهِيمَ} وإن اختلفت فروع شريعتيهما ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أهل دينه وعلى سنته أو ممن شايعه على التصلب
468
في دين الله ومصابرة المكذبين وما كان بينهما الأنبياء هود وصالح وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة.
وفي بعض التفاسير أن الضمير عائد إلى حضرة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم وإن كان غير مذكور فإبراهيم وإن كان سابقاً في الصورة لكنه متابع لرسول الله في الحقيقة ولذا اعترف بفضله ومدح دينه ودعا فيه حيث قال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} (البقرة : 129) الآية :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
يش آمدند بسى انبيا وتو
كر آخر آمدى همه را يشوا تويى
خوان خليل هست نمكدان خوان تو
برخوان اصطفا نمك انبيا تويى
(7/365)
{إِذْ جَآءَ رَبَّهُ} منصوب باذكر {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الباء للتعدية أي : بقلب سليم من آفات القلوب بل من علاقة من دون الله مما يتعلق بالكونين ومعنى مجيئه به ربه إخلاصه له كأنه جاء به متحضناً إياه بطريق التمثيل وإلا فليس القلب مما ينقل من مكان إلى مكان حتى يجاء به {إِذْ قَالَ} الخ بدل من إذ الأولى {لابِيهِ} آزر بن باعر بن ناحور بن فالغ بن سالح بن ارفخشد بن سام بن نوح {وَقَوْمِهِ} وكانوا عبدة الأصنام {مَاذَا تَعْبُدُونَ} استفهام إنكاري وتوبيخ أي : أي شيء تعبدون {أَاـاِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} الإفك أسوء الكذب أي : أتريدون آلهة من دون الله إفكاً أي : للافك فقدم المفعول على الفعل للعناية ثم المفعول له على المفعول به لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على أفك آلهتهم وباطل شركهم {فَمَا ظَنُّكُم} أي : أي شيء ظنكم فما مبتدأ خبره ظنكم {بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أن يغفل عنكم أو لا يؤاخذكم بما كسبت أيديكم أي : لاظن فكيف القطع.
قال في "كشف الأسرار" : (دردل ابراهيم بود كه بتان ايشان را كيدى سازد تا حجت برايشان الزام كنند وآشكارا نمايد كه ايشان مبعودى را نشايند روزى در وياران وى كفتندكه اى ابراهيم بيا تا بحصرا بيرون شويم وبعيد كاه ما برويم) {فَنَظَرَ} ابراهيم {نَظْرَةً فِى النُّجُومِ} جمع نجم وهو الكوكب الطالع أي : في علمها وحسابها إذ لو نظر إلى النجوم أنفسها لقال إلى النجوم وكان القوم يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه واعتل في التخلف عن عيدهم أي : عن الخروج معهم إلى معبدهم {فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ} .
قال في "المفردات" : السقم والسقم المرض المختص بالبدن والمرض قد يكون في البدن وفي النفس.
وقوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} فمن التعريض والإشارة به إما إلى ماض وإما إلى مستقبل وإما إلى قليل مما هو موجود في الحال إذ كان الإنسان لا ينفك من خلل يعتريه وإن كان لا يحس به ويقال مكان سقيم إذا كان فيه خوف انتهى.
وقال ابن عطاء : إني سقيم ممن مخالفتكم وعبادتكم الأصنام أو بصدد الموت فإن من في عنقه الموت سقيم وقد فوجىء رجل فاجتمع عليه الناس وقالوا : مات وهو صحيح فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه وأياً ما كان فلم يقل إلا على تأويل فإن العارف لا يقع في انهتاك الحرمة أبداً وكان ذلك من إبراهيم لذب عن دينه وتوسل إلى إلزام قومه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال عز الدين بن عبد السلام : الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان
469
تحصيل ذلك المقصود مباحاً.
وواجب إن كان ذلك المقصود واجباً فهذا ضابطه.
وفي "الأسئلة المقحمة" : ومن الناس من يجوّز الكذب في الحروب لأجل المكيدة والخداع وإرضاء الزوجة والإصلاح بين المتهاجرين والصحيح أن ذلك لا يجوز أيضاً في هذه المواضع لأن الكذب في نفسه قبيح والقبيح في نفسه لا يصير حسناً باختلاف الصور والأحوال وإنما يجوز في هذه المواضع بتأويل وتعريض لا بطريق التصريح.
ومثاله يقول الرجل لزوجته : إذا كان لا يحبها كيف لا أحبك وأنت حلالي وزوجتي وقد صحبتك وأمثال هذه فأما إذا قال صريحاً بأني أحبك وهو يبغضها فيكون كذباً محضاً ولا رخصة فيه.
مثاله كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراد النهضة نحو يمينه كان يسأل عن منازل اليسار ليشبه على العدو من أي : جانب يأتيه وأما إذا كان يقصد جانباً ويقول أمضي إلى جانب آخر فهذه من قبيلها انتهى.
وكان القوم يتطيرون من المريض فلما سمعوا من إبراهيم ذلك هربوا منه إلى معبدهم وتركوه في بيت الأصنام فريداً ليس معه أحد وذلك قوله تعالى : {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ} فأعرضوا وتفرقوا عن إبراهيم {مُدْبِرِينَ} هاربين مخافة العدوى أي : السراية.
وقال بعضهم : إن المراد بالسقم هو الطاعون وكان أغلب الأسقام وكانوا يخافون العدوى.
يقول الفقير : المشهور إن الطاعون قد فشا في بني إسرائيل ولم يكن قبلهم إلا على رواية كما قال عليه السلام : "الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم" {فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ} أي : ذهب إليها في خفية وأصله الميل بحيلة من روغة الثعلب وهو ذهابه في خفية وحيلة.
قال في "القاموس" : راغ الرجل والثعلب روغاً وروغاناً مال وحاد عن الشيء.
وفي "تاج المصادر" : (الروغ والروغان : روباهى كردن) (والروغ : نهان سوى يزى شدن).
وفي "التهذيب" (الروغ والروغان : دستان كردن) {فَقَالَ} للأصنام استهزاء (ون ديد ايشانرا آراسته وخوانهاى طعام دريش ايشان نهاده) {أَلا تَأْكُلُونَ} (آيا نمى خوريد ازين طعامها) وكانوا يضعون الطعام عند الأصنام لتحصل له البركة بسببها
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/366)
{مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} أي : ما تصنعون غير ناطقين بجوابي وبالفارسية : (يست شمارا كه سخن نمى كوييد ومرا جوابى ندهيد) {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمال مستعلياً عليهم حال كونه يضربهم {ضَرْبَا بِالْيَمِينِ} أو حال كونه ضارباً باليمين فالمصدر بمعنى الفاعل أي : ضرباً شديداً قوياً وذلك لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما وقوة الآلة تقتضي قوة الفعل وشدته.
وقيل : بالقوة والمتانة وعلى ذلك مدار تسمية الحلف باليمين لأنه يقوي الكلام ويؤكده.
وقيل بسبب الحلف وهو قوله : {وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم} فلما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسورة يعني : (اره اره كشته) فسألوا عن الفاعل فظنوا أن إبراهيم عليه السلام فعله فقيل فائتوا به {فَأَقْبَلُوا} أي : توجه المأمورون بإحضاره {إِلَيْهِ} إلى إبراهيم.
قال ابن الشيخ : إليه يجوز أن يتعلق بما قبله وبما بعده {يَزِفُّونَ} حال من واو أقبلوا أي : يسرعون من زفيف النعام وهو ابتداء عدوها.
قال في "المفردات" : أصل الزفيف في هبوب الريح وسرعة النعامة التي تخلط الطيران بالمشي وزفزف النعام إذا أسرع ومنه استعير زف العروس استعارة ما تقتضي السرعة لا لأجل مشيها ولكن
470
للذهاب بها على خفة من السرور {قَالَ} أي : بعدما أتوا به وجرى بينهم وبينه من المحاورات ما نطق به قوله تعالى : {قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَا يا اإِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء : 62) إلى قوله : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـاؤُلاءِ يَنطِقُونَ} (الأنبياء : 65) {أَتَعْبُدُونَ} همزة الاستفهام للإنكار {مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونه من الأصنام فما موصولة.
والنحت نحت الشجر والخشب ونحوهما من الأجسام وبالفارسية : (تراشيدن يعني آيامى رستيد آنه مى تراشيد از سنك ووب بدست خود) {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} حال من فاعل تعبدون مؤكدة للإنكار والتوبيخ أي : والحال أنه تعالى خلقكم والخالق هو الحقيق بالعبادة دون المخلوق {وَمَا تَعْمَلُونَ} أي : وخلق ما تعملونه من الأصنام وغيرها فإن جواهر أصنامهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنه بأقدار الله تعالى إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد والأسباب فلم يلزم أن يكون الشيء مخلوقاًتعالى ومعمولاً لهم وظهر من فحوى الآية أن الأفعال مخلوقةتعالى مكتسبة للعباد حسبما قالته أهل السنة والجماعة وبالاكتساب يتعلق الثواب والعقاب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال المولى الجامي :
فعل ماخواه زشت وخواه نكو
يك بيك هست آفريده او
نيك وبد كره مقتضاى قضاست
اين خلاف رضا وآن برضاست
{قَالُوا} (كفت نمرود وخواص او).
وقال السهيلي في "التعريف" : قائل هذه المقالة لهم فيما ذكر الطبري اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك وهو الذي جاء في الحديث "بينا رجل يمشي في حلة يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" {ابْنُوا لَه بُنْيَـانًا} (بنا كنيد براى سوختن ابراهيم بنايى واز هيزم رساخته آتش دران زنيد).
ـ روي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : بنوا حائطاً من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملأوه حطباً وأشعلوه ناراً وطرحوه فيها كما قال : {فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} في النار الشديدة الإيقاد وبالفارسية : (س طرح كنيد ودر افكنيد اورا در آتش سوزان) من الجحمة وهي شدة التأجج والالتهاب واللام عوض عن المضاف إليه أي : ذلك البنيان {فَأَرَادُوا بِه كَيْدًا} أي : شراً وهو أن يحرقوه بالنار عليه السلام لما قهر لهم بالحجة وألقمهم الحجر قصداً أن يكيدوا به ويحتالوا لإهلاكه كما كاد أصنامهم بكسره إياهم لئلا يظهر للعامة عجزهم والكيد ضرب من الاحتيال كما في "المفردات" {فَجَعَلْنَـاهُمُ الاسْفَلِينَ} الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهاناً نيراً على علو شأنه عليه السلام بجعل النار عليه برداً وسلاماً على ما سبق تفصيل القصة في سورة الأنبياء.
فإن قلت لم ابتلاه تعالى بالنار في نفسه؟ قلت : لأن كل إنسان يخاف بالطبع من ظهور صفة القهر كما قيل لموسى عليه السلام {وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى} (طه : 21) فأراه تعالى أن النار لا تضر شيئاً إلا بإذن الله تعالى وإن ظهرت بصورة القهر وصفته وكذلك أظهر الجمع بين المتضادين بجعلها برداً وسلاماً.
وفيه معجزة قاهرة لأعدائه فإنهم كانوا يعبدون النار والشمس والنجوم ويعتقدون وصف الربوبية لها فأراهم الحق تعالى أنها لا تضر إلا بإذن الله تعالى.
وقد ورد في الخبر "أن النمرود لما شاهد النار كانت على إبراهيم برداً وسلاماً قال : إن ربك لعظيم نتقرب إليه بقرابين فذبح تقرباً إليه
471
آلافاً كثيرة فلم ينفعه لإصراره على اعتقاده وعمله وسوء" حاله ، قال المولى الجامي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
يافت ناكاه آن حكيمك راه
يش جمعى زاو لياء الله
فصل دى بود ومنقلى آتش
(7/367)
شعله ميزد ميان ايشان خوش
شد بتقريب آتش ومنقل
از خليلى برى زنقص وخلل
ذكر آن قصه كهن بتمام
كه برونار كشت برد وسلام
آن حكيمك زجهل واستكبار
كفت بالطبع محرق آمدنار
آنه بالطبع محرقست كجا
كردد از مقتضاى طبع جداً
يكى از حاضران زغيرت دين
كفت هين دامنت بيار وببين
منقل رتشش بدامان ريخت
آتش خجلتش زجان آنكيخت
كفت دركن ميان آتش دست
هي كرمى ببين در آتش هست
ون نه دستش بسوخت نى دامن
شدازان جهل او برو روشن
طبع راهم مسخر حق ديد
حانش ازتيركى عقل رهيد
اكر آن علم او يقين بودى
قصه اوكى ايننين بودى
علم كامد يقين زبيم زوال
بيقين ايمن است درهمه حال
{وَقَالَ} إبراهيم بعدما أنجاه الله تعالى من النار قاله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم أو لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك ترغيباً لهم {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} أي : مهاجر من أرض حرّان أو من بابل أو قرية بين البصرة والكوفة يقال لها من مزبحره إلى حيث أمرني ربي وهو الشام أو إلى حيث أتجرد فيه لعبادته تعالى أي : موضع كان فإن الذهاب إلى ذات الرب محال إذ ليس في جهة.
وفي "بحر العلوم" : ولعله أمره الله تعالى بأن يهجر دار الكفر ويذهب إلى موضع يقدر على زيارة الصخرة التي هي قبلته وعلى عمارة المسجد الحرام أو هي القرية التي دفن فيها كما أمر نبينا بالهجرة من مكة إلى المدينة.
وفي بعض التواريخ : دفن إبراهيم بأرض فلسطين وهي بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة البلاد التي بين الشام وأرض مصر منها الرملة وغزة وعسقلان وغيرها {سَيَهْدِينِ} إلى مقصدي الذي أردت وهو الشام أو إلى موضع يكون فيه صلاح ديني وبت القول بذلك لسبق الوعد أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى حيث قال : {عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ} (القصص : 22) ولذلك أتى بصيغة التوقع.
وهذه الآية أصل في الهجرة من ديار الكفر إلى أرض يتمكن فيها من إقامة وظائف الدين والطاعة وأول من فعل ذلك إبراهيم هاجر مع لوط وصار إلى الأرض المقدسة.
قال في "كشف الأسرار" : (برذوق أهل معرفت {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} اشارتست بانقطاع بنده ومعنى انقطاع باحق بريدنست در بدايت بجهد ودر نهايت بكل بدايت تن درسعى وزبان در ذكر وعمر در جهد ونهايت باخلق عاريت وباخود بيكانه واز تعلق آسوده) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وصل ميسر نشود جز بقطع
قطع نخست از همه ببريدنست
فمن بقي له في القلب لمحة للعالم بأسره الملك والملكوت لم ينفتح له باب العلم بالله من حيث المشاهدة
472
ولم يدخل عالم الحقيقة.
واسطى (كفت خليل از خلق بحق مى شد وحبيب ازحق بخلق مى آمد اوكه از خلق بحق ثود حق را بدليل شناسد واوكه ازحق بخلق آيد دليل را بحق شناسد).
ـ روي ـ أن إبراهيم عليه السلام لما جعل الله النار عليه برداً وسلاماً وأهلك عدوه النمرود وتزوج بسارة وكانت أحسن النساء وجهاً وكانت تشبه حواء في حسنها عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام (س روى مبارك بشام نهاد ودران راه هاجر بدست ساره خاتون افتاد وآنرا بابراهيم بخشيد وون ملك يمين وى شد دعا كرده كه) {رَّبُّ} (اى رودكار من) {هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} المراد ولد كامل الصلاح عظيم الشأن فيه أي : بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة يعني الولد لأن لفظ الهبة على الإطلاق خاص به وإن كان قد ورد مقيداً بالأخ في قوله {وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا} (مريم : 53) ولقوله تعالى : {فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ} فإنه صريح في أن المبشر به غير ما استوهبه عليه السلام.
والغلام الطارّ الشارب والكهل ضد أو من حين يولد إلى أن يشيب كما في "القاموس".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/368)
وقال بعض أهل اللغة : الغلام من جاوز العشر وأما من دونها فصبي والحليم من لا يعجل في الأمور ويتحمل المشاق ولا يضطرب عند إصابة المكروه ولا يحركه الغضب بسهولة.
والمعنى بالفارسية : (س مده داديم اورا بفرزندى بردبار يعني ون ببلوغ رسد حليم بود) ولقد جمع فيه بشارات ثلاث بشارة إنه غلام وإنه يبلغ أوان الحلم فإن الصبي لا يوصف بالحلم وإنه يكون حليماً أي : حلم يعادل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فاستسلم.
قال الكاشفي : (س خداى تعالى اسماعيل را ازهاجر بوى ارزانى داشت وبحكم سبحانه از زمين شام هاجر يسر آورده را بمكة برد واسماعيل آنجا نشو ونمايافت) {فَلَمَّا بَلَغَ} الغلام {مَعَهُ} مع إبراهيم {السَّعْىَ} الفاء فصيحة معربة عن مقدر أي : فوهبنا له فنشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه ومصالحه ومعه متعلق بالسعي وجاز لأنه ظرف فيكفيه رائحة من الفعل لا يبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ولم يكن معاً كذا في "بحر العلوم".
وتخصيصه لأن الأدب أكمل في الرفق والاستصلاح فلا نستسعيه قبل أوانه لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاث عشرة سنة {قَالَ} إبراهيم : يا بُنَىَّ} (اى سرك من تصغير شفقت است){إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} قرباناًتعالى أي : أرى هذه الصورة بعينها أو ما هذه عبارته وتأويله.
وقيل : إنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمة سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثمة سمي يوم عرفة ثم رأى في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي اليوم يوم النحر {فَانظُرْ مَاذَا} منصوب بقوله : {تَرَى} من الرأي فيما ألقيت إليك وبالفارسية : (س در نكر درين كاره يزى بيني رأى تو ه تقاضا ميكند) فإنما يسأله عما يبديه قلبه ورأيه أي : شيء هل هو الإمضاء أو التوقف فقوله ترى من الرأي الذي يخطر بالبال لا من رؤية العين وأنما شاوره فيه وهو أمر محتوم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله تعالى فتثبت قدمه إن جزع ويأمن إن سلم ويكتسب
473
المثوبة عليه بالانقياد له قبل نزوله وتكون سنة في المشاورة.
فقد قيل لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك {قَالَ يا اأَبَتِ افْعَلْ} (كفت اى دربكن) {مَا تُؤمَرُ} (آنه فرموده شدى بدان) أي : ما تؤمر به فحذف الجار أولاً على القاعدة المطردة ثم حذف العائد إلى الموصول بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعل أو حذفاً دفعة أو افعل أمرك إضافة المصدر إلى المفعول وتسمية المأمور به أمراً وصيغة المضارع حيث لم يقل ما أمرت للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به ولعله فهم من كلامه أنه رأى ذبحه مأموراً به ولذا قال : ما تؤمر وعلم أن رؤيا الأنبياء حق وإن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/369)
وإنما أمر به في المنام دون اليقظة مع أن غالب وحى الأنبياء أن يكون في اليقظة ليكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الإنقياد والإخلاص.
قالوا : رؤيا الأنبياء حق من قبيل الوحي فإنه يأتيهم الوحي من الله إيقاظاً إلا لا تنام قلوبهم أبداً ولأنه لطهارة نفوسهم ليس للشيطان عليهم سبيل.
وفي "أسئلة الحكم" لم أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده في المنام ورؤيا الأنبياء حق وقتل الإنسان بغير حق من أعظم الكبائر.
قيل : أمره في المنام دون اليقظة لأنه ليس شيء أبغض إلى الله من قتل المؤمن {سَتَجِدُنِى} (زود باشدكه يابى مرا) ثم استعان بالله في الصبر على بلائه حيث استثنى فقال : {إِن شَآءَ اللَّهُ} ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى والتجأ إليه لم يعطب {مِنَ الصَّـابِرِينَ} على الذبح أو على قضاء الله تعالى قال : الذبيح من الصابرين أدخل نفسه في عداد الصابرين فرق عليه وموسى عليه السلام تفرق بنفسه حيث قال للخضر : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} (الكهف : 69) فخرج والتفويض أسلم من التفرد وأوفق لتحصيل المرام ولما كان إسماعيل في مقام التسليم والتفويض إلى الله تعالى وقف وصبر ولما كان موسى في صورة المتعلم ومن شأن المتعلم أن يتعرض لأستاذه بالاعتراض فيما لم يفهمه خرج ولم يصبر.
وقال بعضهم : ظاهر موسى تعرض وباطنه تسليم أيضاً لأنه إنما اعترض على الخضر بغيرة الشرع {فَلَمَّآ أَسْلَمَا} أي : استسلم إبراهيم وابنه لأمر الله وانقادا وخضعا له وبالفارسية : (س هنكام كه كردن نهادند خدايرا) يقال : سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد قرىء بهن جميعاً وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له ومعناه سلم أن ينازع فيه وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان منه ومعناهما أخلص نفسهوجعلها سالمة وكذلك معنى استسلم استخلص نفسهتعالى.
وعن قتادة في أسلما أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه {وَتَلَّه لِلْجَبِينِ} .
قال في "القاموس" : تله صرعه وألقاه على عنقه وخده.
والجبين أحد جانبي الجبهة فللوجه فوق الصدغ جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.
قال الراغب : أصل التل المكان المرتفع والتليل العنق وتله للجبين أسقطه على التل أو على تليله.
وقال غيره صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر وجلد ليرضيا الرحمن ويحزنا الشيطان وكان ذلك عند الصخرة من منى أو في الموضع المشرف على مسجد منى أو في المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ـ وروي ـ أن إبليس عرض لإبراهيم عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى وعزم على الذبح ومنه شرع رمي الجمرات في الحج فهو
474
من واجبات الحج يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة.
قال في "التأويلات النجمية" : ومن دقة النظر في رعاية آداب العبودية في حفظ حق الربوبية في القصة أن إسماعيل أمر أباه أن يشد يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسه ألم الذبح فيعاتب ثم لما هم بذبحه قال : افتح القيد عني فإني أخشى أن أعاتب فيقال لي أمشدود اليد حبيب يطيعني :
ولو بيد الحبيب سقيت سماً
لكان السم من يده يطيب
وقد قيل ضرب الحبيب يطيب :
ازدست تومشت بردهان خوردن
خوشتركه بدست خويش نان خوردن
{وَنَـادَيْنَـاهُ أَن} مفسرة لمفعول ناديناه المقدر أي : ناديناه بلفظ هو قولنا يا اإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ} بالعزم على الإتيان بالمأمور به وترتيب مقدماته وبالفارسية : (بدرستى كه راست كردى خوابى كه ديده بودى).
وفي "شرح الفصوص" للمولى الجامي أي : حققت الصورة المرئية وجعلتها صادقة مطابقة للصورة الحسية الخارجية بالإقدام على الذبح والتعرض لمقدماته وقد قيل إنه أمرّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين.
آن توكل تو خليلانه ترا
تانبرد تيغت اسماعيل را
فعند ذلك وقع النداء.
وفي الخبر سأل نبينا عليه السلام جبريل : هل أصابك مشقة وتعب في نزولك من السماء قال : نعم في أربعة مواضع :
الأول : حين ألقي إبراهيم في النار كنت تحت العرش قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته وقلت له : هل لك من حاجة فقال : أما إليك فلا.
والثاني : حين وضع إبراهيم السكين على حلق إسماعيل كنت تحت العرش قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته طرفة عين فقلبت السكين.
والثالث : حين شجك الكفار وكسروا رباعيتك يوم أحد قال الله تعالى : أدرك دم حبيبي فإنه لو سقط من دمه على الأرض قطرة ما أخرجت منها نباتاً ولا شجراً فقبضت دمك بكفي ثم رميته في الهواء.
والرابع : حين ألقي يوسف في الجب قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته قبل أن وصل إلى قعر الجب وأخرجت حجراً من أسفل البئر فأجلسته عليه.
(7/370)
وجواب لما محذوف إيذاناً بعدم وفاء التعبير بتفاصيله كأنه قيل : كان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان من استبشارهما وشكرهماتعالى على ما أنعم به عليهما من رفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق أحد لمثله وإظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال بعض العارفين : الإنسان مجبول على حب الولد فاقتضت غيرة الخلة ومقام المحبة أن يقطع علاقة القلب عن غيره فأمر بذبح ولده امتحاناً واختباراً له ببذل أحب الأشياء في سبيل الله من غير توقف وإشعاراً للملائكة بأنه خليل الله لا يسعه غير الحق فليس المبتغى منه تحصيل الذبح إنما هو إخلاء السر عنه وترك عادة الطبع.
وقال المولى الجامي : غلبت عليه محبة الحق حتى تبرأ من أبيه في الحق ومن قومه وتصدى لذبح ابنه في سبيل الله وخرج عن جميع ماله مع كثرته المشهورةتعالى.
ـ ورد ـ في الخبر : أنه كان له خمسة آلاف قطيع من الغنم فتعجب الملائكة من كثرة ماله مع خلته العظيمة عند الله فخرج يوماً خلف غنمه وكلاب قطائع الأغنام عليها أطواق الذهب فطلع ملك في صورة آدمي على شرف الوادي فسبح قائلاً : سبوح قدوس رب الملائكة والروح فلما سمع الخليل تسبيح حبيبه أعجبه وشوّقه نحو لقائه فقال : يا إنسان كرر ذكر ربي فلك نصف مالي فسبح
475
بالتسبيح المذكور فقال : كرر تسبيح خالقي فلك جميع أموالي مما ترى من الأغنام والغلمان وكانوا خمسة آلاف غلام فأنصفت الملائكة وسلمت بخلته كما سلمت بخلافة آدم وهذا من جملة الأسرار التي جعل بها أباً ثانياً لنا.
يقول الفقير أغناه الله القدير : سمعت من شيخي قدس سره إنه قال : إن إبراهيم له الإحراز بجميع مراتب التوحيد من الأفعال والصفات والذات وذلك لأن الحجب الكلية ثلاثة هي المال والولد والبدن فتوحيد الأفعال إنما يحصل بالفناء عن المال وتوحيد الصفات بالفناء عن الولد وتوحيد الذات بالفناء عن الجسم والروح فتلك الحجب على الترتيب بمقابلة هذه المقامات من التوحيد فأخذ الله من إبراهيم المال تحقيقاً للتوحيد الأول وابتلاه بذبح الولد تحقيقاً للتوحيد الثاني وبجسمه حين رمى به في نار نمرود تحقيقاً للتوحيد الثالث فظهر بهذا كله فناؤه في الله وبقاؤه بالله حققنا الله وإياكم بحقيقة التوحيد وأوصلنا وإياكم إلى سر التجريد والتفريد {إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} تعليل لتفريج تلك الكربة عنهما بإحسانهما واحتج به من جوز النسخ قبل وقوع المأمور به فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح ولم يحصل.
قال في "الأسئلة المقحمة" وهذه القصة حجة على المعتزلة فإن الآية تدل على أن الله تعالى قد يأمر بالشيء ولا يريده فإنه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرد ذلك منه والمعتزلة لا يجوزون اختلاف الأمر والإرادة {إِنْ هَـاذَآ} (بدرستى كه اين كار) {لَهُوَ الْبَلَـاؤُا الْمُبِينُ} الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة الصعوبة إذ لا شيء أصعب منها.
قال البقلى أخبر سبحانه وتعالى أن هذا بلاء في الظاهر ولا يكون بلاء في الباطن لأن في حقيقته بلوغ منازل المشاهدات وشهود أسرار حقائق المكاشفات وهذا من عظائم القربات وأصل البلاء ما يحجبك عن مشاهدة الحق لحظة ولم يقع هذا البلاء بين الله وبين أحبابه قط فالبلاء لهم عين الولاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال الحريري : البلاء على ثلاثة أوجه على المخالفين نقم وعقوبات وعلى السابقين تمحيص وكفارات وعلى الأولياء والصديقين نوع من الاختبارات.
جاميا دل بغم ودرد نه اندرره عشق
كه نشد مردره آنكس كه نه اين درد كشيد
{وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ} بما يذبح بدله فيتم به الفعل المأمور وهو فرى الأوداج وإنهار الدم أي : جعلنا الذبح بالكسر اسم لما يذبح فداء له وخلصناه به من الذبح وبالفارسية : (وفدا داديم اسماعيل را بكبشى) والفادي في الحقيقة هو إبراهيم وإنما قال وفديناه لأنه تعالى هو المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد {عَظِيمٍ} أي : عظيم الجثة سمين وهي السنة في الأضاحي كما قال عليه السلام : "عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين.
وفي "التأويلات النجمية" : إنما سمي الذبح عظيماً لأنه فداء نبيين عظيمين أحدهما أعظم من الآخر وهما إسماعيل ومحمد عليهما السلام لأنه كان محمد في صلب إسماعيل انتهى.
وفي "أسئلة الحكم" : لم عظَّم الله الذبح مع أن البدن أعظم في القربان من الكبش لأنها تنوب عن سبعة الجواب لشدة المناسبة بين الكبش وبين النفس المسلمة الفانية في الله فإنه خلق مستسلماً للذبح فحسب فيكون الكبش في الآخرة صورة الموت يذبح على الصراط كما كان صورة الفناء الكلي والتسليم والانقياد ولذلك المعنى عظمه الله تعالى لأن فضل كل
476
(7/371)
شيء بالمعنى بالصورة إذ فضل الصورة تابع لفضل المعنى بخلاف البدنة فإن المقصود الأعظم منها الركوب وحمل الأثقال عليها قيل : كان ذلك كبشاً من الجنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل وحينئذٍ تكون النار التي نزلت في زمن هابيل لم تأكله بل رفعته إلى السماء وحينئذٍ يكون قول بعضهم فنزلت النار فأكلته محمولاً على التسمح كما في "إنسان العيون".
ويحتمل أن تتجسم الروح كما تتجسم المعاني وتبقى أبداً فلا ينافي أن تأكله النار في زمن هابيل أن يذبحه إبراهيم ثانياً.
وروي أنه هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقي سنة في الرمي.
وروي أنه رمي الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده كما سبق.
وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : "الله أكبر الله أكبر" فقال الذبيح : "لا إله إلا الله والله أكبر" فقال إبراهيم : "الله أكبر ولله الحمد" فبقي سنة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
واعلم أن الذبح ثلاثة : وهو ذبح هابيل ثم ذبح إبراهيم ثم ذبح الموت في صورة الكبش.
وكذا الفداء فإنه فداء إسماعيل بكبش هابيل وفداء المؤمنين يوم القيامة يفدى عن كل مؤمن بكافر يأخذ المؤمن بناصيته فيلقيه في النار وفداء الله عن الحياة الأبدية بالموت يذبح في صورة الكبش على الصراط فيلقى به في النار بشارة لأهل الجنة بالخلود الدائم وتبكيتاً لأهل النار بالعقوبة الدائمة.
ففيه إشارة إلى مراتب التوحيد فذبح هابيل إشارة إلى توحيد الأفعال وذبح يحيى إلى توحيد الصفات وذبح إبراهيم إلى توحيد الذات لأنه مظهر توحيد الذات والفناء الكلي في ذات الله تعالى فذبحه أعظم من كل ذبح وفداؤه أتم من كل فداء.
قالوا : إن الدم إذا تعين على الحاج فلا يسقط عمن تعين عليه ولما تعين ذبح ولد إبراهيم لم يسقط عنه الدم أصلاً ففداه الله تعالى بكبش عظيم حيث جعله بدل إفساد نبي مكرم فحصل الدم وبعد أن وجب فلا يرتفع ولذا من نذر بذبح ولده لزمه شاة عند الحنفية فصارت صورة ولد إبراهيم صورة الكبش يساق إلى الجنة يدخل فيها في أي : صورة شاء فذبحت صورة الكبش ولبست صورة ولد إبراهيم صورة الكبش وهذا سبب العقيقة التي كل إنسان مرهون بعقيقته ولو لم يفد الله بالكبش لصار ذبح الناس واحداً من أبنائهم سنة إلى يوم القيامة.
وتحقيق المقام أنه كان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام لمناسبة واقعة بينهما وهي الاستسلام والانقياد فكان مراد الله الكبش لا ابن إبراهيم فما كان ذلك المرئي عند الله إلا الذبح العظيم متمثلاً في صورة ولده ففدى الحق ولده بالذبح العظيم وهدا كما أن العلم يرى في صورة اللبن فليس ما يرى في حضرة الخيال عين اللبن وحقيقته فلو تجاوز إبراهيم عليه السلام عما رآه في حضرة الخيال إلى المعنى المقصود منه بأن يعبر ذبح ابنه في منامه بذبح الكبش الذي في صورته لما ظهر لأهل الآفاق كمال فنائه وتمام استسلامه وكذلك انقياد ابنه لكن الله سبحانه أراد إراءة استسلامهما وإظهار انقيادهما لأمره تعالى فأخفى عليه تعبير رؤياه وستر المقصود من المنام حتى صدق الرؤيا وفعل ما فعل لتلك الحكمة العلية.
واختلف في أن الذبيح إسماعيل وإسحاق فذهب أكثر المفسرين إلى الأول لوجوه ذكرت في التفاسير ولأن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج ولم يكن
477
إسحاق ثمة.
وفي "فضائل القدس" : كان في السلسلة التي في وسط القبة على صخرة الله درة يتيمة وقرنا كبش إبراهيم وتاج كسرى معلقات فيها أيام عبد الملك بن مروان فلما صارت الخلافة إلى بني هاشم حولوا إلى الكعبة حرسها الله انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
يقول الفقير : هذا يقتضي أن لا تأكل النار الكبش الذي جاء فداء لأن بقاء القرن من موجبات ذلك وأكل النار القربان كان عادة إلهية من لدن آدم إلى زمان نبينا عليه السلام ثم رفع عن قربان هذه الأمة.
اللهم إلا أن يحمل على أحد وجوه : الأول : أن معنى أكل النار القربان إحراقه بحيث يخرج عن الانتفاع به وهذا لا يوجب كون القرنين حريقين بالكلية.
والثاني : أن الذي كان يحرقه النار ليس جثة القربان بمجموعها من القرن إلى القدم بل ثروبه وأطايب لحمه كما روي أن بني إسرائيل كانوا إذا ذبحوا قرباناً وضعوا ثروبه وأطايب لحمه في موضع فيدعو النبي فتأتي نار فتأكله فلا يلزم أن يكون جميع أجزائه مأكولة محروقة.
(7/372)
والثالث : أنه محمول على التسمح كما سبق في قربان هابيل.
فإن قلت : قد صح أن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سهل الله حفر بئر زمزم أو بلغ بنوه عشرة فلما سهل الله فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله منعه أخواله ففداه بمائة من الإبل ولذلك سنت الدية بمائة فقد روي أنه فرق لحوم القرابين المذكورة إلى الفقراء ولم تأكلها النار فكيف كان سنة إلهية بين جميع الملل.
قلت : المتقرب إن كان جاهلياً فلا شك أن قربانه غير معتد به وإن كان إسلامياً فلا بد أن يكون في محضر نبي من الأنبياء إذ هو الذي يدعو فتأتي النار كما لا يخفى على من له حظ أو في من علم التفسير والتأويل.
وذهب إلى الثاني بعض أرباب الحقائق والتوفيق بين الروايتن عند التحقيق أن صورة الذبح جرى في الظاهر إلى حقيقة إسماعيل أولاً ثم سري ثانياً إلى حقيقة إسحاق لتحققه أيضاً بمقام الإرث الإبراهيمي من التسليم والتفويض والإنقياد الذي ظهر في صورة الكبش ولهذا السر اشتركا في البشارة الإلهية {فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ} فكان إسماعيل وإسحاق مختلفين في الصورة والتشخص متفقين في المعنى والحقيقة فإن شئت قلت أن الذبيح هو إسماعيل وإن شئت قلت : إنه إسحاق فإنت مصيب في كل من القولين في الحقيقة لما عرفت أن أحدهما عين الآخرة في التحقق بسر إبراهيم عليه وعليهما السلام إلى يوم القيامة {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} أي : أبقينا على إبراهيم {فِى الاخِرِينَ} من الأمم {سَلَـامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي : هذا الكلام بعينه كما سبق في قصة نوح {كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} الكاف متعلقة بما بعدها وذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما أشير إليه فيما سبق فلا تكرار أي : مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي المحسنين لأجزاء أدنى منه يعني أن إبراهيم من المحسنين وما فعلناه به مما ذكر مجازاة له على إحسانه {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والإطمئنان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "التأويلات النجمية" : أي : من عبادنا المخلصين لا من عباد الدنيا والهوى والسوى {وَبَشَّرْنَـاهُ} أي : إبراهيم ، والتبشير بالفارسية : (مده دادن) وهو الإخبار بما يظهر سروراً في المخبر به ومنه تباشير الصبح لما ظهر من أوائل ضوئه {بِإِسْحَـاقَ} من سارة رضي الله عنها {نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ} أي : مقضياً بنبوته مقدراً كونه من الصالحين
478
وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار معنى الحال.
وفي "التأويلات النجمية" : {نَبِيًّا} أي : ملهماً من الحق تعالى كما قال بعضهم حدثني قلبي عن ربي {مِنَ الصَّـالِحِينَ} أي : من المستعدين لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة انتهى.
وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق وقد سبق الكلام المشبع فيه في أواخر سورة يوسف {وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ} على إبراهيم في أولاده ، وبالفارسية : (وبركت داديم بر ابراهيم) {وَعَلَى إِسْحَـاقَ} بأن أخرجنا من صلبه أنبياء من بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عمله أو لنفسه بالإيمان والطاعة {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالكفر والمعاصي {مُّبِينٌ} ظاهر ظلمه.
وفيه تنبيه على أن الظلم في أولادها وذريتهما لا يعود عليهما بعيب ولا نقيصة وأن المرء يجازي بما صدر من نفسه طاعة أو معصية لا بما صدر من أصله وفرعه كما قال : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام : 164) وأن النسب لا تأثير له في الصلاح والفساد والطاعة والعصيان فقد يلد الصالح العاصي والمؤمن الكافر وبالعكس ولو كان ذلك بحسب الطبيبعة لم يتغير ولم يتخلف.
وفيه قطع لأطماع اليهود المفاخرين بكونهم أولاد الأنبياء وفي الحديث "يا بني هاشم لا تأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" الواو في تأتوني واو الصرف ولهذا نصب وتأتوني حذف نون تأتون علامة للنصب وهذه النون نون الوقاية أي : لا يكون أعمال الناس وأنسابكم مجتمعين فائتوني بالأعمال والغرض تقبيح افتخارهم لديه عليه السلام بالأنساب حين يأتي الناس بالأعمال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
أتفخر باتصالك من عليّ
وأصل البولة الماء القراح
وليس بنافع نسب زكي
تدنسه صنائعه القباح
وقال بعضهم :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وقبيلة باهلة عرفوا بالدناءة لأنهم كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية ويأكلون نقي عظام الميتة :
كر بنكرى باصل همه بنى آدمند
زان اعتبار جمله عزيز ومكرمند
بيش اندناس صورت نسناس سيرتان
خلقي كه آدمند بخلق وكرم كمند
(7/373)
وفي المثل : "ذهب الناس وما بقي إلا النسناس" وهم الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس أو هم خلق في صورة الناس وقال بعضهم :
أصل را اعتبار ندان نيست
روى همو ورد خندان نيست
مى زغوره شود شكر ازنى
عسل از نحل حاصلست بقى
فعلى العاقل ترك الاغترار بالأنساب والأحساب والاجتهاد فيما ينفعه يوم الحساب.
وكان زين العابدين رضي الله عنه يقول : اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي وتقبح سريرتي ومن الله التوفيق {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} المنان في صفة الله تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب عوضاً يقال منّ عليه منا إذا أعطاه شيئاً ومنّ عليه منة إذا أعد
479
نعمته عليه وامتن وهو مذموم من الخلق لا من الحق كما قال تعالى : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} والمعنى وبالله لقد أنعمنا على موسى وأخيه هارون بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية {وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} وهم بنو إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من تعذيب فرعون وأذى قومه القبط وقد سبق معنى الكرب في هذه السورة ولما كانت النتيجة عبارة عن التخليص من المكروه وهي لا تقتضي الغلبة أتبعها بقوله : {وَنَصَرْنَـاهُمْ} أي : موسى وهارون وقومهما {فَكَانُوا} بسبب ذلك {هُمُ} فحسب {الْغَـالِبِينَ} على عدوهم فرعون وقومه غلبة لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما في أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم.
وفيه إشارة إلى تنجية موسى القلب وهارون السر من غرق بحر الدنيا وماء شهواتها ونصرتهما مع صفاتهما على فرعون النفس وصفاتها فليصبر المجاهدون على أنواع البلاء إلى أن تظهر آثار الولاء فإن آخر الليل ظهور النهار وغاية الخريف والشتاء طلوع الأزهار والأنوار ، قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكر ثوبهار باز آمد
{وَءَاتَيْنَـاهُمَا} بعد ذلك المذكور من النتيجة {الْكِتَـابَ الْمُسْتَبِينَ} أي : البيلغ والمتناهي في البيان والتفصيل وهو التوراة فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا قال تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} .
فاستبان مبالغة بان بمعنى ظهر ووضح وجعل الكتاب بالغاً في بيانه من حيث أنه لكماله في بيان الأحكام وتمييز الحلال عن الحرام كأنه يطلب من نفسه أن يبينها ويحمل نفسه على ذلك وقيل : هذه السين كهي في قوله يستسخرون فإن بان واستبان وتبين واحد نحو عجل واستعجل وتعجل فيكون معناه الكتاب المبين {وَهَدَيْنَـاهُمَا} بذلك الكتاب {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام.
وفي "كشف الأسرار" : وهديناهما دين الله الإسلام أي : ثبتناهما عليه واستعير الصراط المستقيم من معناه الحقيقي وهو الطريق المستوي للدين الحق وهو ملة الإسلام وهذا أمر تحقق عقلاً فقد نقل اللفظ إلى أمر معلوم من شأنه أن ينص عليه ويشار إليه إشارة عقلية ولأجل تحققه سميت هذه الاستعارة بالتحقيقية.
وفيه إشارة إلى إيتاء العلوم الحقيقية والإلهامات الربانية والهداية بذلك إلى الحضرة الواحدية والأحدية {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} أي : أبقينا عليهما فيما بين الأمم الآخرين هذا الذكر الجميل والثناء الجزيل فهم يسلمون عليهما يقولون سلام على موسى وهارون ويدعون لهما دعاء دائماً إلى يوم الذين {إِنَّا كَذَالِكَ} أي : مثل هذا الجزاء الكامل {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} الذين هما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} يشير إلى أن طريق الإحسان هو الإيمان فالإيمان هو مرتبة الغيب والإحسان هو مرتبة المشاهدة ولما كان الإيمان ينشأ عن المعرفة كان الأصل معرفة الله والجري على مقتضى العلم فالإنسان من حيث ما يتغذى نبات ومن حيث ما يحس ويتحرك حيوان ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم والفهم وسائر الكمالات البشرية وفي الحديث : "ما فضلكم
480
أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكن بسرّ وقر في صدره" ومن آثار هذا السر الموقور ثباته يوم موت الرسول عليه السلام وعدم تغيره كسائر الأصحاب حيث صعد المنبر وقرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران : 144) الآية فكان إيمانه أقوى وثباته أوفى ومشاهدته أعلى {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي : إلى بني إسرائيل وهو الياس بن ياسين بن شير بن فخاص بن العيزار بن هارون بن عمران وهو من سبط هارون أخي موسى بعث بعد موسى هذا هو المشهور وعليه الجمهور.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/374)
ودل عليه ما في بعض المعتبرات أن الموجود من الأنبياء بأبدانهم العنصرية أربعة : اثنان في السماء إدريس وعيسى واثنان في الأرض الخضر وإلياس فإدريس وإلياس اثنان من حيث الهوية والتشخص.
وقال جماعة من العلماء منهم أحمد بن حنبل : إن إلياس هو إدريس أي : أخنوخ بن متوشلخ بن لمك وكان قبل نوح كما قالوا خمسة من الأنبياء لهم إسمان إلياس هو إدريس ويعقوب هو إسرائيل ويونس هو ذو النون وعيسى هو المسيح ومحمد هو أحمد صلوات الله عليهم أجمعين ووافقهم في ذلك بعض أكابر المكاشفين فعلى هذا معناه أن هوية إدريس مع كونها قائمة في أنيته وصورته في السماء الرابعة ظهرت وتعينت في أنية إلياس الباقي إلى الآن فتكون من حيث العين والحقيقة واحدة ومن حيث التعين الصوري اثنتين كنحو جبرائيل وميكائيل وعزرائيل يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصور شتى كلها قائمة بهم وكذلك أرواح الكمل كما يروى عن قضيب البان الموصلي قدس سره أنه كان يرى في زمان واحد في مجالس متعددة مشتغلاً في كل بأمر غير ما في الآخر وليس معناه أن العين خلع الصورة الإدريسية ولبس الصورة الإلياسية وإلا لكان قولاً بالتناسخ {إِذْ قَالَ} أي : اذكر وقت قوله : {لِقَوْمِه أَلا تَتَّقُونَ} أي : عذاب الله تعالى وبالفارسية : (آيانمى ترسيد از عذاب الهي) {أَتَدْعُونَ بَعْلا} أتعبدونه أي : لا تعبدوه ولا تطلبوا منه الخير.
والبعل هو الذكر من الزوجين ولما تصور من الرجل استعلاء على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه فسمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله بعلا لاعتقادهم ذلك.
فالبعل اسم صنم كان لأهل بك من الشام وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك وكان من ذهب طوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه وفي عينيه ياقوتتان كبيرتان فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـالِقِينَ} وتتركون عبادته {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم للإشعار ببطلان آرائهم أيضاً.
ثم إن الخلق حقيقة في الاختراع والإنشاء والإبداع ويستعمل أيضاً بمعنى التقدير والتصوير وهو المراد به ههنا لأن الخلق بمعنى الاختراع لا يتصور من غير الله حتى يكون هو أحسنهم كما قال الراغب.
إن قيل قوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14) يدل على أنه يصح أن يوصف غيره بالخلق.
قيل ذلك معناه أحسن المقدرين أو يكون على تقدير ما كانوا يعبدون ويزعمون أن غير الله يبدع فكأنه قيل : وهب أن ههنا مبدعين وموجودين فالله تعالى أحسنهم إيجاداً على ما يعتقدون كما قال خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وعبد الخالق عند الصوفية المتحققين
481
هو الذي يقدر الأشياء على وفق مراد الحق لتجليه له بوصف الخلق والتقدير فلا يقدر إلا بتقديره له تعالى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إذا بلغ العبد في مجاهدة نفسه بطريق الرياضة في سياستها وسياسة الخلق مبلغاً ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها والترغيب فيها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود قبل إذ يقال لواضع الشطرنج إنه الذي وضعه واخترعه حيث وضع ما لم يسبق إليه انتهى.
(7/375)
يقول الفقير : إن بعض الكمل كانوا يتركون في مكانهم بدلاً منهم على صورتهم وشكلهم ويكونون في أكنة في آن واحد كما روي عن قضيب البان فيما سبق فهو من أسرار هذا المقام لأنه إنما يقدر عليه بعد المظهرية للاسم الخالق والوصول إلى سره فاعرف واكتم وصن وصم {فَكَذَّبُوهُ} أي : إلياس {فَإِنَّهُمْ} بسبب تكذيبهم إياه {لَمُحْضَرُونَ} لمدخلون في النار والعذاب لا يغيبون منها ولا يخفف عنهم كقوله : {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء متصل من فاعل كذبوه.
وفيه دلالة على أن من قومه من لم يكذبه ولم يحضر في العذاب وهم الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجب الدعوة والإرشاد {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} وأبقينا على إلياس {فِى الاخِرِينَ} من الأمم {سَلَـامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي : هذا الكلام بعينه فيدعون له ويثنون عليه إلى يوم القيامة وهو لغة في إلياس كسيناء في سينين فإن كل واحد من طور سيناء وطور سينين بمعنى الآخر زيد في أحدهما الياء والنون فكذا إلياس وإلياسين وقرىء بإضافة آل إلى ياسين لأنهما في المصحف مفصولان فيكون ياسين أبا إلياس والآل هو نفس الياس {إِنَّا كَذَالِكَ} مثل هذا الجزاء الكامل {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} إحساناً مطلاقاً ومن جملتهم إلياس {أَنَّهُ} لا شبهة إن الضمير لإلياس فيكون إلياس وإلياسين شخصاً واحداً وليس الياسين جمع إلياس كما دل عليه ما قبله من قوله : {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ} (الصافات : 79) {سَلَـامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الصافات : 109) {سَلَـامٌ عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} (الصافات : 120) {مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} .
قال الكاشفي : (ايمان اسميست من جميع كمالات صوري ومعنوي ونام بندكى بتشريفيست خاص ازبراى اهل اختصاص) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
اكر بنده خويش خوانى مرا
به از مملكت جاودانى مرا
شهانى كه با بخت فرخنده اند
همه بندكان ترا بنده اند
ـ روي ـ أنه بعث بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين بأرض الشام وكان سبط منهم حلوا ببعلبك ونواحيها من أرض الشام وهم السبط الذين كان منهم الناس فلما أشركوا وعبدوا الصنم المذكور وتركوا العمل بالتوراة بعث الله إلياس إليهم نبياً وتبعه يسع بن أخطوب وآمن به وكان على سبط إلياس ملك اسمه أجب وكان له امرأة يقال لها أزبيل يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم وكانت تبرز للناس وتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء والصالحين يقال : إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام وقد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم غيلة وكانت معمرة يقال إنها ولدت سبعين ولداً وكان لزوجها
482
أجب جار صالح يقال له مزدكى وكانت له جنينة يعيش منها في جنب قصرهما فحسدته في ذلك حتى إذا خرج الملك إلى سفر بعيد أمرت جمعاً من الناس أن يشهدوا على مزدكى أنه سب زوجها أجب فأطاعوها فيه وكان في حكم ذلك الزمان يحل قتل من سبب الملك إذا قامت عليه البينة فأحضرته فقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينة غصباً ثم لما قدم الملك أوحى الله إلى إلياس أن يخبرهما بأن الله قد غضب عليهما لوليه مزدكى حين قتلاه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة على ورثة مزدكى أن يهلكهما في جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين حتى تتعرى عظامهما من لحومهما فلما سمعا ذلك اشتد غضبهما إلى الياس ولم يظهر منهما ولا من قومهما إلا المخالفة والعصيان والإصرار إلى أن همّ الملك بتعذيب إلياس وقتله فلما أحس إلياس بالشر خرج من بينهم لأن الفرار مما لا يطاق من سسن المرسلين وارتقى إلى أصعب جبل وأرفعه فدخل مغارة فيه يقال أنه بقي فيها سبع سنين يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون والله تعالى ستره كما وقع مثله لأصحاب الكهف فلما طال عصيانهم دعا عليهم بالقحط والجوع سبع سنين فقال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ولكن أعطيك مرادك ثلاث سنين فقحطوا بتلك المدة فلم يقلعهم ذلك عن الشرك ولما رأى ذلك منهم إلياس دعا الله تعالى بأن يريحه منهم فقيل له : اخرج يوم كذا إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه فخرج إلياس في ذلك اليوم ومعه خادمه أليسع فوصل الموضع الذي أمر فاستقبله فرس من نار وجميع الآلة من النار حتى وقف بين يديه فركب عليه فانطلق به الفرس إلى جانب السماء فناداه أليسع ما تأمرني فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/376)
يعني : (كه ترا خليفه خويش كردم بربنى اسرائيل) ورفع الله إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً.
وقال بعضهم : كان قد مرض وأحس بالموت فبكى فأوحى الله إليه لِمَ تبكي؟ أحرصاً على الدنيا أم جزعاً من الموت أم خوفاً من النار؟ قال : لا ولكن وعزتك وجلال إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك ويذكرك الذاكرون بعدي ولا أذكرك ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم ويصلي المصلون بعدي ولا أصلي فقيل له : يا إلياس لأوخرنك إلى وقت لا يذكرني ذاكر يعني يوم القيامة وسلط الله على قومه عدواً لهم من حيث لا يشعرون فأهلكم وقتل أجب وامرأته أزبيل في جنينة مزدكى فلم تزل جيفتاهما ملقاتين فيها إلى أن بليت لحومهما ورمت عظامهما ونبأ الله أليسع وبعثه إلى بني إسرائيل وأيده فآمنت به بنو اسرائيل وكانوا يعظمونه ويطيعونه وحكم الله فيهم قائم إلى أن فارقهم أليسع.
ـ روي ـ أن الياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام وهما آخر من يموت من بني آدم.
وقيل إن إلياس موكل بالفيافي جمع فيفاة بمعنى الصحراء والخضر موكل بالبحار وذكر أنهما يقولان عند افتراقهما من الموسم ما شاء الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله.
483
ما شاء الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله.
ما شاء الله ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله.
ما شاء الله ما شاء الله توكلنا على الله حسبنا الله ونعم الوكيل (محمد بن أحمد العابد كويد در منسجد اقصى نشسته بودم روز آزينه بعد ازنماز ديكركه دو مرد ديدم يكى برصفت وهيئت ما وآن ديكر شخصى عظيم بود قدى بلند ويشانى فراخ هن صدر وذراعين اين شخص عظيم ازمن دورنشست وآن يركه برصفت وقدما بود فرا يش آمد وسلام كرد جواب سلام دادم وكفتم "من أنت رحمك الله" توكيستى وآنكه ازما دور نشسته است كيست كفت من خضرم واو برادرم الياس از كفتار ايشان دردل من هراس آمد وبلرزيدم خضر كفت "لا بأس عليك نحن نحبك" ماترا دوست داريم ه انديشه برى.
آنكه كفت هركه روز آزينه نماز ديكر بكزارد وروى بسوى قبله كند رتا بوقت فروشدن آفتاب همى كويد "يا الله يا رحمن" رب العزة دعاى وى مستجاب كرداند وحاجت وى روا كند كفتم "آنستني آنسك الله بذكره" كفتم طعام توه باشد كفت كرفس وكماءة كفتم طعام الياس ه باشد كفت دو رغيف خوارى هرشب وقت افطار كفتم مقام او كجا باشد كفت در جزاثر دريا كفتم شنماكى فراهم آييد كفت ون يكى از اولياء الله از دنيا بيرون شود هردو بروى نماز كنيم ودر موسم عرفات فراهم آييم وبعد از فراغ مناسك او موى من بازكند ومن موى اوباز كنم كفتم اولياء الله را همه شناسى كفت قومى معدودرا شناسم كفت ون رسول خدا صلوات الله عليه ازدنيا بيرون شد زمين بالله ناليدكه "بقيت لا يمشي عليّ نبي إلى يوم القيامة" رب العالمين كفت من از اين امت مردانى را بديدارم دلها انبيا باشد.
آنكه خضر برخاست تارود من تيز برخاستم تاباوى باشم كفت توبا من نتوانى بود من هر روز نماز بامداد بمكه كزارم در مسجد حرام وهمنان نشينم نزديك ركن شامى در حجر تا آفتاب برآيد آنكه طواف كنم ودو ركعت خلف المقام بكزارم ونماز يشين بمدينه مصطفى عليه السلام كزارم ونماز شام بطورسينا ونماز خفتن بر سد ذو القرنين وهمه شب آنجا اس دارم ون وقت صبح باشد نماز بامداد بامكه برم درمسجد حرام)
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَإِنَّ لُوطًا} هو لوط بن هاران أخي إبراهيم الخليل عليه السلام {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قومه وهم أهل سدوم بالدال المهملة فكذبوه وأرادوا إهلاكه فقال : رب نجني وأهلي مما يعملون فنجاهم الله وأهله فذلك قوله تعالى {إِذْ نَجَّيْنَـاهُ} أي : اذكر وقت تنجيتنا إياه ولا يتعلق بما قبله لأنه لم يرسل إذ نجى {وَأَهْلَه أَجْمَعِينَ} (وهمه اهل بيت اورا ازدختران وغير ايشان) {إِلا عَجُوزًا} هي امرأته الخائنة واهلة كانت كافرة وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن جائزاً في شريعته وسميت المرأة المسنة عجوزاً لعجزها عن كثير من الأمور كما في "المفردات".
{فِى الْغَـابِرِينَ} صفة لها بمعنى إلا عجوزاً مقدراً غبوراً لأن الغبور لم يكن صفتها وقت تنجيتهم فلم يكن بد من تقدير مقدر أي : الباقين في العذاب والهلاك وقيل للباقي غابر تصوراً بتخلف الغبار عن الذي يعدو فيخلفه أو الماضين الهالكين وقيل غابر تصورا لمضي الغبار عن الأرض.
والمعنى بالفارسية : (مكر يره زنى كه زن اوبوده اواقرار كرفت در بازار ماندكان بعذاب وبالوط همراهى نكرد) قال الشيخ سعدي :
484
بابدان يار كشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزى ند
ى نيكان كرفت ومردم شد
(7/377)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا} التدمير إدخال الهلاك على الشيء أي : أهلكنا {الاخِرِينَ} بالائتفاك بهم وإمطار الحجارة عليهم فإنه تعالى لم يرض بالائتفاك حتى اتبعه مطراً من حجارة وبالفارسية : (س هلاج كردم ديكرانرا از قوم وى وديار ايشان وقتى زير وزبر ساختيم) فإن في ذلك شواهد على جلية أمره وكونه من جملة المرسلين وتقدم ذكر قصته في سورة هود والحجر فارجع {وَإِنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم} أي : على ديار قوم لوط المهلكين ومنازلهم في متاجركم إلى الشام وتشاهدون آثار هلاكهم فإن سدوم في طريق الشام وهو قوله تعالى : {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} (الحجر : 76) {مُّصْبِحِينَ} حال من فاعل تمرون أي : حال كونكم داخلين في الصباح {وَبِالَّيْلِ} أي : وملتبسين بالليل أي : مساء ولعلها وقعت بقرب منزل يمر به المرتحل عنه صباحاً والقاصد له مساء ويجوز أن يكون المعنى نهاراً وليلاً على أن يعمم المرور للأوقات كلها من الليل والنهار ولا يخصص بوقتي الصباح والمساء {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : أفتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن من قدر على إهلاك أهل سدوم واستئصالهم بسبب كفرهم وتكذيبهم كان قادراً على إهلاك كفار مكة واستئصالهم لاتحاد السبب ورحجانه لأنهم أكفر من هؤلاء وأكذب كما يشهد به قوله : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أولئكم} (القمر : 43) وكان النبي عليه السلام يقول لأبي جهل "إن هذا أعتى على الله من فرعون".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
فعلى العاقل أن يعتبر ويؤمن بوحدانية الحق ويرجع إلى أبواب فضله وكرمه ورحمته ويؤدب عجوز نفسه الأمارة ويحملها على التسليم والامتثال كي لا تهلك مع أهل القهر والجلال.
قال بعض الكبار : لا بد من نصرة لكل داخل طريق أهل الله عز وجل ثم إذا حصلت فإما أن يعقبها رجوع إلى الحال الأول من العبادة والاجتهاد وهم أهل العناية الإلهية وإما أن لا يعقبها رجوع فلا يفلح بعد ذلك أبداً انتهى أي : فيكون كالمصر على ذنبه ابتداء وانتهاء.
ثم إن الله تعالى ركب العقل في الوجود الإنساني ومن شأنه أن يرى ويختار أبداً الأصلح والأفضل في العواقب وإن كان على النفس في المبدأ مؤونة ومشقة وأما الهوى فهو على ضد ذلك فإنه يؤثر ما يدفع به المؤذي في الوقت وإن كان يعقبه مضرة من غير نظر منه في العواقب كالصبي الرمد الذي يؤثر أكل الحلاوات واللعب في الشمس على أكل الاهليلج والحجامة ولهذا قال النبي عليه السلام : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
تو بركره توسنى در كمر
نكر تانيد زحكم توسر
اكر الهنك از كفت در كسيخت
تن خويشتن كشت وخونت بريخت
ففيه إشارة إلى فكر العواقب.
وجاء في الأمثال (وقتى زنبورى مورى را ديدكه بهزار حيله دانه بخانه ميكشيد ودران رنج بسيارى ديد اورا كفت اى مور اين ه رنجست كه برخود نهاده واين ه بارست كه اختيار كرده بيا مطعم ومشرب من ببين كه هر طعام كه
485
لطيف ولذيذ ترست تا ازمن زياده نيايد بادشاهان نرسد هر آنجاكه خواهم كزينم وخورم درين سخن بودكه برريد وبدكان قصابى برمسلوخى نشست قصاب كاردكه دردست داشت بران زنبور مغرور زد ودوياره كرد وبرزمين انداخت ومور بيامد واى كشان اورامى برد وكفت "رب شهوة ساعة أورثت صاحبها حزناً طويلاً" زنبور كفت مرا بجايى مبركه نخواهم مور كفت هركه از روى حرص وشهوت جايى نشيندكه خواهد بجايى كشندش كه نخواهد) نسأل الله أن يوفقنا لإصلاح الطبيعة والنفس ويجعل يومنا خيراً من الإمس في التوجه إلى جنابه والرجوع إلى بابه إنه هادى القلوب الراجعة في الأوقات الجامعة ومنه المدد كل يوم لكل قوم {وَإِنَّ يُونُسَ} ابن متى بالتشديد وهو اسم أبيه أو أمه.
وفي "كشف الأسرار" اسم أبيه متى واسم أمه تنجيس كان يونس من أولاد هود كما في "أنوار المشارق" وهو ذو النون وصاحب الحوت لأنه التقمه.
وأما ذو النون المصري من أولياء هذه الأمة فقيل : إنما سمي به لأنه ركب سفينة مع جماعة فقد واحد منهم ياقوتاً فلم يجده فآل رآيهم إلى أن هذا الرجل الغريب قد سرقه فعوتب عليه فأنكر الشيخ فحلف فلم يصدقوه بل أصروا على أنه ليس إلا فيه فلما اضطر توجه ساعة فأتى جميع الحوت من البحر في فيها يواقيت فلما رأوا ذلك اعتذروا عن فعلتهم فقام وذهب إلى البحر ولم يغرق بإذن الله تعالى فسمي ذا النون.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى بقية ثمود وهم أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل.(7/378)
وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر انتهى.
ولما بعث إليهم دعاهم إلى التوحيد أربعين سنة وكانوا يعبدون الأصنام فكذبوه وأصروا على ذلك فخرج من أظهرهم وأوعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث أو بعد أربعين ليلة ثم إن قومه لما أتاهم إمارات العذاب بأن أطبقت السماء غيماً أسود يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدنيتهم حتى صار بينهم وبين العذاب قدر ميل أخلصوا الله تعالى بالدعاء والتضرع بأن فرقوا بين الأمهات والأطفال وبين الاتن والجحوش وبين البقر والعجول وبين الإبل والفصلان وبين الضأن والحملان وبين الخيل والإفلاء ولبسوا المسوح ثم خرجوا إلى الصحراء متضرعين ومستغفرين حتى ارتفع الضجيج إلى السماء فصرف الله عنهم العذاب وقبل توبتهم ويونس ينتظر هلاكهم فلما أمسى سأل محتطباً مر بقومه كيف كان حالهم فقال : هم سالمون وبخير وعافية وحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وخرج من ديارهم مستنكفاً خجلاً منهم ولم ينتظر الوحي وتوجه إلى جانب البحر وذلك قوله تعالى : {إِذْ أَبَقَ} أي : أذكر وقت إباقه أي : هربه وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه بطريق المجاز تصويراً لقبحه فإنه عبد الله فكيف يفر بغير الإذن وإلى أين يفر والله محيط به وقد صح أنه لا يقبل فرض الآبق ولا نفله حتى يرجع فإذا كان الأدنى مأخوذاً بزلة فكيف الأعلى.
{إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي : المملوء من الناس
486
والدواب والمتاع ويقال المجهز الذي فرغ من جهازه يقال شحن السفينة ملأها كما في "القاموس".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ـ روي ـ أن يونس لما دخل السفينة وتوسطت البحر احتبست عن الجري ووقفت فقال الملاحون : هنا عبد آبق من سيده وهذا رسم السفينة إذا كان فيها عبد آبق لا تجرى.
وقال الإمام فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر وقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأينا نقترع فمن خرج سهمه نرميه في البحر لأن غرق الواحد خير من غرق الكل فاقترعوا ثلاث مرات فخرجت القرعة على يونس في كل مرة وذلك قوله تعالى : {فَسَاهَمَ} المساهمة المقارعة يعني : (باكسى قرعه زدن) والسهم ما يرمي به من القداح ونحوه.
والمعنى فقارع أهل الفلك من الآبق وألقوا السهام على وجه القرعة.
والمفهوم من تفسير الكاشفي أن الضمير إلى يونس يعني : (يونس قرعه زد باهل كشتى سه نوبت) {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر والغلبة.
قال في "القاموس" : دحضت رجله زلقت والشمس زالت والحجة دحوضاً بطلت انتهى.
فالإدحاض بالفارسية : (باطل كردن حجت) وحين خرجت القرعة على يونس قال : أنا العبد الآبق أو يا هؤلاء أنا والله العاصي فتلفف في كسائه ثم قام على رأس السفينة فرمى بنفسه في البحر يعني : (يونس كليم در سرخود كشيده خود رادربحر افكند) {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} الإلتقام الابتلاع يعني : (لقمه كردن وفرو بردن) يقال لقمت اللقمة والتقمتها إذا ابتلعتها أي : فابتلعه السمك العظيم.
قال الكاشفي : (حق تعالى وحي فرستاد بما هي كه در آخرين ديارها باشد تايش كشتى رمده دهن بازكرده).
وقال في "كشف الأسرار" : فصادفه حوت جاء من قبل اليمن فابتلعه فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى {وَهُوَ مُلِيمٌ} حال من مفعول التقمه أي : داخل في الملامة ومعنى دخوله في الملامة كونه يلام سواء استحق اللوم أم لا وأتى بما يلام عليه فيكون المليم بمعنى من يستحق اللوم سواء لاموه أم لا يقال : ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه أو يلوم نفسه يعني : (واوملامت كننده بود نفس خودراكه را ازقوم كريختى) فالهمزة على هذا للتعدية لا على التقديرين الأولين.
(7/379)
ـ روي ـ أن الله تعالى أوحى إلى السمكة أني لم أجعله لك رزقاً ولكن جعلت بطنك له وعاء فلا تكسري منه عظماً ولا تقطعي منه وصلاً فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة كما دل عليه كونه منبوذاً على الساحل وهو سقيم.
قال الكاشفي : (سه روز ياهفت روز اشهر آنست كه هل روز درشكم ماهى بود وآن ماهى هفت دريارا بكشت وحق سبحانه وتعالى كوشت ويوست اورا نازك وصافى ساخته بود ون آبكينه تايونس عجائب وغرائب بحر را مشاهده كرد ويوسته بذكر حق سبحانه وتعالى اشتغال داشت) {فَلَوْلا أَنَّهُ} (س اكرنه آنست كه يونس) {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} في بطن الحوت وهو قوله : {أَن لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) أو من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح مدّة عمره.
وعن سهل من القائمين بحقوق الله قبل البلاء ذكراً أو صلاة أو غيرهما {لَلَبِثَ} لمكث حياً أو ميتاً {فِى بَطْنِهِ} أي : في بطن الحوت {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يعني : (تاآن روز كه خلق را برانكيزند از قبور).
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "كشف الأسرار" :
487
فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يبقى هو والحوت إلى يوم البعث.
والثاني : يموت الحوت ويبقى هو في بطنه.
والثالث : يموتان ثم يحشر يونس من بطنه فيكون بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة فلم يلبث لكونه من المسبحين ، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه وإشارة إلى أن خلاص يونس القلب إذا التقمه حوت النفس لا يكون إلا بملازمة ذكر الله ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء والعمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر وإذا صرع يجد متكئاً.
وفي الوسيط كان يونس عبداً صالحاً ذاكراًفلما وقع في بطن الحوت قال الله : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الآية وإن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً ذكر الله {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّه لا إله إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إِسْرَاءِيلَ} (يونس : 90) قال الله تعالى : {ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس : 91) وعن الشافعي أنفس ما يداوي به الطاعون التسبيح لأن الذكر يرفع العقوبة والعذاب كما قال الله تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} .
وعن كعب قال : سبحان الله يمنع العذاب.
وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بجلد رجل فقال في أول جلده سبحان الله فعفا عنه.
ذكر حق شافع بود دركاه را
راضى وخشنود كند الله را
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "كشف الأسرار" : (خداوند كريم ون يونس را درشكم ما هى بزندان كرد نام الله راغ ظلمت اوبود يا الله أنس ورحمت اوبود هرندكه ازروى ظاهر ماهى بلاى يونس بود اما ازروى باطن خلوتكاه وى بود ميخواست بى زحمت اخيار بادوست رازى كويد نانكه يونس را درشكم ماهى خلوتكاه ساختند خليل را درمبان آتش نمرود خلوتكاه ساختند وصديق اكبررا بامهتر عالم دران كوشه غار خلوتكاه ساختند همنين هركجا مؤمنين وموحدين است اوراخلوتكاهى است وآن سينه عزيزوى است وغار سورى نزول كاه لطف الهى وموضع نظر رباني) روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة فقال تعالى : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في يوم وليلة عمل صالح قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل في أرض نصيبين" وهي بلدة قاعدة ديار ربيعة وذلك قوله تعالى : {فَنَبَذْنَـاهُ بِالْعَرَآءِ} النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
والعراء ممدوداً مكان لا سترة فيه وهو من التعري سمي به الفضاء الخالي عن البناء والأشجار المظلة لتعريه عما يستر أهله ومعاري الإنسان الأعضاء التي من شأنها أن تعرى كاليد والوجه والرجل.
والإسناد المعبر في قوله فنبذناه من قبيل إسناد الفعل إلى السبب الحامل على الفعل فالمعنى فحملنا الحوت على لفظه ورميه بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت {وَهُوَ سَقِيمٌ} أي : عليل البدن من أجل ما ناله في بطن الحوت من ضعف بدنه فصار كبدن الطفل ساعة يولد لا قوة له أو بلي لحمه ونتف شعره حتى صار كالفرخ ليس عليه شعر وريش ورق عظمه وضعف بحيث لا يطيق حر الشمس وهبوب الرياح.
وفيه إشارة إلى أن القلب وإن تخلص من سجن النفس وبحر الدنيا يكون سقيماً بانحراف مزاجه القلبي بمجاورة صحبة النفس واستراق طبعه {وَأَنابَتْنَا عَلَيْهِ} أي : فوقه مظلة عليه {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} يفعيل مشتق
488
(7/380)
من قطن بالمكان إذا أقام به كاشتقاق الينبوع من نبع فهو موضوع لمفهوم كلي متناول للقرع والبطيخ والقثاء ونحوها مما كان ورقه كله منبسطاً على وجه الأرض ولم يقم على ساق واحدته يقطينة.
وفي "القاموس" اليقطين ما لا ساق له من النبات ونحوه وبهاء القرعة الرطبة انتهى أطلق هنا على القرع استعمالاً للعام في بعض جزئياته.
قال ابن الشيخ : ولعل إطلاق اسم الشجرة على القرع مع أن الشجر في كلامهم اسم لكل نبات يقوم على ساقه ولا ينبسط على وجه الأرض مبني على أنه تعالى أنبت عليه شجرة صارت عريشاً لما نبت تحتها من القرع بحيث استولى القرع على جميع أغصانها حتى صارت كأنها شجرة من يقطين وكان هذا الإنبات كالمعجزة ليونس فاستظل بظلها وغطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليها كما يقع على سائر العشب وكان يونس حين لفظه البحر متغيراً يؤلمه الذباب فسترته الشجرة بورقها.
قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنك تحب القرع قال : "أجل هي شجرة أخي يونس" وعن أبي يوسف لو قال رجل : إن رسول الله كان يحب القرع مثلاً فقال الآخر أنا لا أحبه فهذا كفر يعني : إذا قاله على وجه الإهانة والاستخفاف وإلا فلا يكفر على ما قاله بعض المتأخرين.
وروي أنه تعالى قيض له أروية وهي الأنثى من الوعل تروح عليه بكرة وغشية فيشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره وعادت قوته
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ} هم قومه الذين هرب منهم المراد إرساله السابق وهو إرساله إليهم قبل أن خرج من بينهم والتقمه الحوت.
أخبر أولاً بأنه من المرسلين على الإطلاق ثم أخبر بأنه قد أرسل إلى مائة ألف جمة وكان توسيط تذكير وقت هربه إلى الفلك وما بعده بينهما لتذكير سببه وهو ما جرى بينه وبين قومه من إنذاره إياهم عذاب الله وتعيينه لوقت حلوله وتعللهم وتعليقهم لإيمانهم بظهور إمارته ليعلم أن إيمانهم الذي سيحكى بعد لم يكن عقيب الإرسال كما هو المتبادر من ترتب الإيمان عليه بالفاء بل بعد اللتيا والتي {أَوْ يَزِيدُونَ} أي : في مرأى الناظر فإنه إذا نظر إليهم قال : إنهم مائة ألف أو يزيدون عليها عشرين ألفاً أو ثلاثين أو سبعين فأو التي للشك بالنسبة إلى المخاطبين إذ الشك على الله محال والغرض وصفهم بالكثرة وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا كقوله : {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} (المرسلات : 6) {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه : 44) {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه : 113) وغير ذلك {فَـاَامَنُوا} أي : بعدما شاهدوا علائم حلول العذاب إيماناً خالصاً {فَمَتَّعْنَـاهُمْ} أي : بالحياة الدنيا وأبقيناهم {إِلَى حِينٍ} قدره الله سبحانه لهم وهذا كناية عن رد العذاب عنهم وصرف العقوبة.
ـ روي ـ أن يونس عليه السلام نام يوماً تحت الشجرة فاستيقظ وقد يبست فخرج من ذلك العراء ومر بجانب مدينة نينوى فرأى هنالك غلاماً يرعى الغنم فقال له من أنت يا غلام فقال من قوم يونس قال فإذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم مني السلام وأخبرهم إنك قد لقيت يونس ورأيته فقال الغلام : إن تكن يونس فقد تعلم أن من يحدث ولم يكن له بينة قتلوه وكان في شرعهم أن من كذب قتل فمن يشهد لي فقال له يونس تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس : مرهما بذلك فقال لهما : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا نعم فرجع الغلام إلى قومه فأتى الملك فقال : إني لقيت يونس وهو
489
يقرأ عليكم السلام فأمر الملك أن يقتل فقال : إن لي بينة فأرسل معه جماعة فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام أنشدكما الله عز وجل أي : أسألكما بالله تعالى هل أشهدكما يونس؟ قالتا : نعم فرجع القوم مذعورين فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في منزله وقال له : أنت أحق مني بهذا المقام والملك فأقام بهم الغلام أربعين سنة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ـ روي ـ في بعض التفاسير : أن قومه آمنوا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى يونس لأن النبي إذا هاجر لم يرجع إليهم مقيما فيهم.
(7/381)
ـ وروي ـ أنه لما استيقظ فوجد أنه قد يبست الشجرة فأصابته الشمس حزن لذلك حزناً شديداً فجعل يبكي فبعث الله إليه جبرائيل وقال : قل له : أتحزن على شجرة لم تخلقها أنت ولم تنبتها ولم تربها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس وأنا أرحم الراحمين وما أحسن ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترغيباً للعبد فيما يوصله إلى ما خلق له وتفضيلاً لهذا الموصل على هدم النشأة الإنسانية وإن كان ذلك الهدم واقعاً بموجب الأمر وكان للهادم رتبة إعلاء كلمة الله وثواب الشهادة "ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر الله" أي : ما هو خير لكم مما ذكر ذكر الله تعالى فأبقاء هذه النشأة أفضل من هدمها وإن كان بالأمر.
وفي "كشف الأسرار" (درقصه رورده اندكه ون يونس عليه السلام ازان ظلمت نجات يافت وازان محنت برست وباميان قوم خودشد وحى آمدبوى كه فلان مرد فخارى را كوى تا آن خنورهاى ويرانهاكه باين يكسال ساخته ورداخته همه بشكند وبتلف آرد يونس باين فرمان كه آمده اندوهكين كشت وبران فخار بخشايشى كرد وكفت بار خدايا مرا رحمت مى آيد بران مردكه يكساله عمل وى تباه خواهى كرد ونيست خواهد شد الله تعالى كفت اى يونس بخشايش مى نمايى بمردى كه عمل يكساله وى تباه ونيست ميشود وبرصد هزار مرد از بندكان من بخشايش ننمودى وهلاك وعذاب ايشان خواستى "يا يونس لم تخلقهم ولو خلقتهم لرحمتهم" بشر حافى را رحمه الله بخواب ديدند كفتند حق تعالى باتوه كرد كفت بامن عتاب كرد كفت اى بشر آن همه خوف ووجل در دنيا ترا ازبهر ه بود "اما علمت أن الرحمة والكرم صفتي" فردا مصطفى عربى را عليه السلام دركنهكاران امت شفاعت دهدتا آنكه كه كويد خداوند مرا درحق كسانى شفاعت ده كه هرنيكى نكرده اند فيقول الله عز وجل يا محمد اين يكى مراست حق من وسراى منست آنكه خطاب آيدكه "اخرجوا من النار من ذكرني مرة في مقام أو خاف مني في وقت" اين آن رحمتست كه سؤال دروى كم كشت اين آن لطف است كه انديشه دروى نيست كشت اين آن كرم است كه وهم درو متحير كشت اين آن فضلست كه حد آن ازغايت اندازه در كذشت.
اى بنده اكر طاعت كنى قبول برمن.
ورسؤال كنى عطا برمن.
وركناه كنى عفو برمن.
آب درجوى من.
راحت دركوى من.
طرب در طلب من.
انس باجمال من.
سرورببقاى من.
شادى بلقاى من).
قال الكاشفي : {فَمَتَّعْنَـاهُمْ إِلَى حِينٍ} (س برخور دارى داديم ايشانرا تاهنكام اجل ايشان وبعد ازانكه متقاضى اجل باسترداد وديعت روح
490
متوجه كردد نه بمدافعت ابطال منع او ميسراست ونه ببذل اموال دفع او متصور) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
روزى كه اجل دست كشايد بستيز
وزبهر هلاك بر كشد خنجرتيز
نه وقت جدل بود نه هنكام دخيل
نه روى مقاومت نه ياراى كريز
وصارت قصة يونس آخر القصص لما فيها من ذكر عدم الصبر على الأذى والإباق كما أنهم أخروا ذكر الحلاج في المناقب لما صدر منه من الدعوى على الإطلاق ولعل عدم ختم هذه القصة وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من ذكر السلام وما يتبعه للتفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبار وأولي العزم من الرسل أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة قاله البيضاوي والشيخ رشيد الدين في "كشف الأسرار" وأورده المولى أبو السعود في تفسيره بصيغة التمريض.
(7/382)
يقول الفقير : وجهه أن إلياس ويونس سواء في أن كلاً منهما ليس من أرباب الشرائع الكبار وأولى العزم من الرسل فلا بد لتخصيص أحدهما بالسلام من وجه وأن التسليم المذكور في آخر السورة شامل لكل من ذكر هنا ومن لم يذكر فحينئذٍ كان الظاهر أن يقتصر على ذكر سلام نوح ونحوه ثم يعمم عليهم وعلى غيرهم ممن لم يكن في درجتهم {فَاسْتَفْتِهِمْ} (س رس از ايشان) أي : إذا كان الله موصوفاً بنعوت الكمال والعظمة والجلال متفرداً بالخلق والربوبية وجميع الأنبياء مقرين بالعبودية داعين للعبيد إلى حقيقة التنزيه والتوحيد فاستخبر على سبيل التوبيخ والتجهيل قريشاً وبعض طوائف العرب نحو جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح فإنهم كانوا يقولون إن الله تعالى تزوج من الجن فخرجت منها الملائكة فهم بنات الله ولذا يسترهن من العيون فأثبتوا الأولادتعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور وقسموا القسمة الباطلة حيث جعلوا الإناثتعالى وجعلوا الذكور لأنفسهم فإنهم كانوا يفتخرون بذكور الأولاد ويستنكفون من البنات ولذا كانوا يقتلونهن ويدفنونهن حياء قال تعالى : {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالانثَى ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل : 58) الآية ومن هنا أنه من رأى في المنام أنه اسود وجهه فإنه يولد له بنت والذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق كما قال تعالى : {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} اللاتي هن أوضع الجنسين {وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الذين هم أرفعهما.
وفيه تفضيل لأنفسهم على ربهم وذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل وهذا كقوله تعالى : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم : 21 ـ 22) أي : قسمة جائرة غير عادلة.
وفيه إشارة إلى كمال جهالة الإنسان وضلالته إذا وكل إلى نفسه الخسيسة وخلي إلى طبيعته الركيكة إنه يظن بربه ورب العالمين نقائص لا يستحقها أدنى عاقل بل غافل من أهل الدنيا :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
برى ذاتش ازتهمت ضد وجنس
غنى ذاتش از تهمت جن وانس
نه مستغنى از طاعتش شت كست
نه برحرف اوجاى انكشت كس
ثم انتقل إلى تبكيت آخر فقال : {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَـاثًا} الإناث ككتاب جمع الأنثى أي : بل أم خلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأبعدهم من صفات الأجسام ورذائل الطبائع إناثاً والأنوثة من أخس صفات الحيوان ولو قيل لأدناهم فيك أنوثة لتمزقت نفسه
491
من الغيظ لقائله ففي جعلهم الملائكة أناثاً استهانة شديدة بهم {وَهُمْ شَـاهِدُونَ} حال من فاعل خلقنا مفيد للاستهزاء والتجهيل أي : والحال إنهم حاضرون حينئذٍ فيقدمون على ما يقولون فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل الصرف بالضرورة أو بالاستدلال إذ الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم بل من اللوازم الخارجية وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهداً أي : حاضراً عند خلقهم إذ أسباب العلم هذه الثلاثة فكيف جعلوهم إناثاً ولم يشهدوا خلقهم ثم استأنف فقال : {إِلا} حرف تنبيه يعني : (بدانكه) {إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} أي : من أجل كذبهم الأسوء وهو متعلق بقوله {لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} (بزاد خداى تعالى يعني براى او بزادند آن) يعني مبني مذهبهم الفاسد ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة قطعاً.
والولد يعم الذكور والإناث والقليل والكثير وفيه تجسيم له تعالى وتجويز الفناء عليه لأن الولادة مختصة بالأجسام القابلة للكون والفساد {وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} في قولهم ذلك كذباً بيناً لا ريب فيه {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} بفتح الهمزة على أنها همزة استفهام للإنكار والاستبعاد دخلت على ألف الافتعال أصله أاصطفى فحذفت همزة الافتعال التي هي همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام.
والاصطفاء أخذ صفوة الشي لنفسه أي : أتقولون أنه اختار البنات على البنين من نقصانهن رضي بالأخص الأدنى وبالفارسية : (آيا بركزيد خداى تعالى دخترانرا كه مكروه طباع شما اند به سران كه ماده افتخار واستظهار شما ايشانند) {مَالَكُمْ} أي : شيء لكم في هذه الدعوى.
وقال الكاشفي : (يست شمارا قسمت) {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} على الغني عن العالمين بهذا الحكم الذي تقضي ببطلانه بديهة العقول ارتدعوا عنه فإنه جور وبالفارسية : (كونه حكم ميكنيد ونسبت ميدهيد بخداى آنراكه براى خود نمى سنديد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 444(7/383)
قال ابن الشيخ جملتان استفهاميتان ليس لأحديهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار ثم استفهم استفهام تعجب من حكمهم هذا الحكم الفاسد وهو أن يكون أحسن الجنسين لأنفسهم وأخسهما لربهم {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التائين من تتذكرون والفاء للعطف على مقدر أي : أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل زكي وغبي ثم انتقل إلى تبكيت آخر فقال : {أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ} أي : هل لكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي {فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ} الناطق بصحة دعواكم وبالفارسية : (س بياريد آن كتاب منزل را) فالباء للتعدية {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} فيها فإذا لم ينزل عليكم كتاب سماوي فيه ذكر ذلك الحكم فلم تصرون على الكذب ثم التفت إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكى جناياتهم لآخرين فقال : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} الجنة بالكسر جماعة الجن والملائكة كما في "القاموس" والمراد هنا الملائكة
492
وسموا جنة لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار ومنه سمي الجنين وهو المستور في بطن الأم والجنون لأنه خفاء العقل.
والجنة بالضم الترس لأنه يجن صاحبه ويستره.
والجنة بالفتح لأنها كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض فمن له اجتنان عن الأعين جنس يندرج تحته الملائكة والجن المعروف.
قالوا : الجن واحد ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شراً كله فهو شيطان ومن طهر منهم ونسك وكان خيراً فهو ملك.
قال الراغب الجن يقال على وجهين : أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس فعلى هذا يدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة.
وقيل : بل الجن بعض الروحانيين وذلك أن الروحانيين ثلاثة أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فهم أخيار وأشرار وهم الجن ويدل على ذلك قوله تعالى : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} إلى قوله : {وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَ} (الجن : 13 ـ 14) {نَسَبًا} النسب والنسبة اشتراك من جهة الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسبة بين الأخوة وبني العم وقيل فلان نسيب فلان أي : قريبه.
والمعنى وجعل المشركون بما قالوا نسبة بين الله وبين الملائكة وأثبتوا بذلك جنسية جامعة له وللملائكة.
وفي ذكر الله الملائكة بهذا الاسم في هذا الموضع إشارة إلى أن من صفته الاجتنان وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك.
وفيه إشارة إلى جنة الإنسان وقصور نظر عقله عن كمال أحدية الله وجلال صمديته إذا وكل إلى نفسه في معرفة ذات الله وصفاته فيقيس ذاته على ذاته وصفاته فيثبت له نسباً كما له نسب ويثبت له زوجة وولداً كما له زوجة وولد ويثبت له جوارح كما له جوارح ويثبت له مكاناً كما له مكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهو يقول تبارك وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى : 11) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
جهان متفق بر الهيتش
فرومانده از كنه ماهيتش
بشر ما وراى جلالش نيافت
بصر منتهاى كمالش نيافت
نه ادراك در كنه ذاتش رسد
نه فكرت بنور صفاتش رسد
ثم إن هذا وهو قوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} الخ عبارة عن قولهم الملائكة بنات الله وإنما أعيد ذكره تمهيداً لما يعقبه من قوله : {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} أي : وبالله لقد علمت الجنة التي عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسباً وهم الملائكة {إِنَّهُمْ} أي : الكفرة {لَمُحْضَرُونَ} النار معذبون بها لا يغيبون عنها لكذبهم وافترائهم في ذلك والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذي يدعى هؤلاء المشركون لهم تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكماً مؤكداً.
قال في "كشف الأسرار" : (نحويان كفتند ون ان ازقفاى علم وشهادت آيد مفتوح بايد مكر كه در خبر لام آيد آنكه مكسور باشد) كقول العرب أشهد أن فلاناً عاقل وإن فلاناً لعاقل وجهه أن إن المكسورة لا تغير معنى الجملة واللام الداخلة على الخبر لتأكيد معنى الجملة.
ثم إن الله تعالى نزه نفسه عما قالوه من الكذب فقال : {سُبْحَـانَ اللَّهِ} أي : تنزه تعالى
493
(7/384)
تنزهاً لائقاً بجنابه {عَمَّا يَصِفُونَ} به من الولد والنسب أو نزهوه تنزيهاً عن ذلك أو ما أبعد وما أنزه من هؤلاء خلقه وعبيده عما يضاف إليه من ذلك فهو تعجب من كلمتهم الحمقاء وجعلتهم العوجاء {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع من الواو في يصفون أي : يصفه هؤلاء بذلك ولكن المخلصين الذين أخلصهم الله بلطفه من ألواث الشكوك والشبهات ووفقهم للجريان بموجب اللب برءاء من أن يصفوه به.
وجعل أبو السعود قوله سبحان الله عما يصفون بتقدير قول معطوف على علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون به من الولد والنسب لكن عباد الله المخلصين الذين نحن من جملتهم برءاء من ذلك الوصف بل نصفه بصفات العلى فيكون المستثنى أيضاً من كلام الملائكة {فَإِنَّكُمْ} أيها المشركون عود إلى خطابهم لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَمَا تَعْبُدُونَ} ومعبوديكم وهم الشياطين الذين أغووهم {مَآ أَنتُمْ} ما نافية وأنتم خطاب لهم ولمعبوديهم تغليباً للمخاطب على الغائب {عَلَيْهِ} الضميروعلى متعلقة بقوله : {بِفَـاتِنِينَ} الفاتن هنا بمعنى المضل والمفسد يقال فتن فلان على فلان امرأته أي : أفسدها عليه وأضلها حاملاً إياها على عصيان زوجها فعدى الفاتن بعلى لتضمينه معنى الحمل والبعث.
والمعنى ما أنتم بفاتنين أحداً من عباده أي : بمضلين ومفسدين بحمله على المعصية والخلاف فمفعول فاتنين محذوف {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} منهم أي : داخلها لعلمه تعالى بأنه يصر على الكفر بسوء اختياره ويصير من أهل النار لا محالة فيضلون بتقدير الله من قدر الله أن يكون من أهل النار وأما المخلصون منهم فإنهم بمعزل عن إفسادهم وإضلالهم فهم لا جرم برءاء من أن يفتنوا بكم ويسلكوا مسلككم في وصفه تعالى بما وصفتموه به.
قوله صال بالكسر أصله صالي على وزن فاعل من الصلي وهو الدخول في النار يقال صلي فلان النار يصلى صلياً من الباب الرابع دخل فيها واحترق فاعل كقاض فلما أضيف إلى الجحيم سقط التنوين وأفرد حملاً على لفظ من.
واحتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية وهي قوله : {فَإِنَّكُمْ} الخ على أنه لا تأثير لإلقاء الشيطان ووسوسته ولا لأحوال معبودهم في وقوع الفتنة وإنما المؤثر هو قضاء الله وتقديره وحكمه بالشقاوة ولا يلزم منه الجبر وعدم لوم الضال والمضل بما كسبا لما أشير إليه من أنهم لا يقدرون على إضلال أحد إلا إضلال من علم الله منه اختيار الكفر والإصرار عليه وعلم الله وتقديره وقضاؤه فعلاً من أفعال المكلفين لا ينافي اختيار العبد وكسبه.
هركه در فعل خود بود مختار
فعل او دور باشد از اجبار
بهر آن كرد امر ونهي عباد
تاشود ظاهر انقياد وعناد
زايد از انقياد حب ورضا
وزخلاف وعناد سوء قضا
س بود امر ونهي شرط ظهور
فعلها را ز بنده مأمور
{وَمَا مِنَّآ} حكاية اعتراف الملائكة للرد على عبدتهم كأنه قيل ويقول الملائكة الذين جعلتموهم بنات الله وعبدتموهم بناء على ما زعمتم من أن بينهم وبينه تعالى مناسبة وجنسية
494
جامعة وما منا أحد أي : ملك على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه فالموصوف المقدر في الآية مبتدأ وقوله : {إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} صفة وما منا مقدم خبره أي : أحد استثنى منه من له مقام معلوم ليس منا يعني لكل واحد منا مرتبة في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم مقصور عليها لا يتجاوزها ولا يستطيع أن ينزل عنها قدر ظفر خضوعاً لعظمته وخشوعاً لهيبته وتواضعاً لجلاله كما روى فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه.
ففيه تنبيه على فساد قول المشركين أنهم أولاد الله لأن مبالغتهم في إظهار العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية فكيف يكون بينه تعالى وبينهم جنيسة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح" بل والعالم مشحون بالأرواح فليس فيه موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله ولذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتستر في الخلوة وأن لا يجامع الرجل امرأته عريانين.
وقال السدي : {إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} في القربة والمشاهدة.
وقال أبو بكر الوراق قدس سره : {إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضى يعني : (مراد مقامات سنيه است ون خوف ورجا ومحبت ورضاكه هريك از مقربان حظائر ملكوت ومقدسان صوامع جبرون در مقامى ازان ممكن اند).
(7/385)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن للملك مقاماً معلوماً لا يتعدى حده وهو مقام الملك الروحاني أو الكروبي فالروحاني لا يعبر عن مقامه إلى مقام الكروبي والكروبي لا يقدم على مقام الروحاني فلا عبور لهم من مقامهم إلى مقام فوق مقامهم ولا نزول لهم إلى مقام دون مقامهم ولهم بهذا فضيلة على إنسان بقي في أسفل سافلين في الدرك الأسفل من النار واللذين عبروا منهم عن أسفل سافلين بالإيمان والعمل الصالح وصعدوا إلى أعلى عليين بل ساروا إلى مقام قاب قوسين بل طاروا إلى منزل أو أدنى فضيلة عليهم ولهذا أمروا بسجدة أهل الفضل منهم فقعوا له ساجدين فللإنسان أن يتنزل من مقام الإنسانية إلى دركة الحيوانية كقوله تعالى : {أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (الأعراف : 179) وله أن يترقى بحيث يعبر عن المقام الملكي ويقال له تخلقوا بأخلاق الله انتهى.
وقال جعفر رضي الله عنه : الخلق مع الله على مقامات شتى من تجاوز حده هلك فللأنبياء مقام المشاهدة وللرسل مقام العيان وللملائكة مقام الهيبة وللمؤمنين مقام الدنو وللعصاة مقام التوبة وللكفار مقام الغفلة والطرد واللعنة.
وقال الحسين قدس سره : المريدون يتحولون من مقام إلى مقام والمرادون يتجاوزون المقامات إلى رب المقامات.
وقال بعضهم : العارف يأكل في هذه الدار الحلوى والعسل فهذا مقامه والكامل المحقق يأكل فيها الحنظل لا يتلذذ فيها بنعمة لاشتغاله بما كلفه الله تعالى من الشكر عليها وغير ذلك من تحمل هموم الناس فكم من فرق بين المقامين وأهل الفناء وإن تألموا هنا ولكن ذلك ليس بألم بل أشد العذاب والألم فيما إذا رأى أهل الذوق مراتب أهل الفناء فوقهم وأقله التألم من تقدمهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
باش تافانى شود احوال تو
بكزرد از حال كل تا حال تو
از مقامى ساز بقعه خويش را
كه بماند جمله زير بال تو
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} في مواقف الطاعة ومواطن الخدمة وبالفارسية : (وبدرستى كه
495
ماصف كشيدكانيم در مواقف در طاعات ومواضع خدمت).
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : ليس للملائكة نافلة إنما هم دائماً في فرائض بعدد أنفاسهم فلا نفل لهم بخلاف البشر انتهى.
قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين ، يقول الفقير : الاصطفاف في الصلاة حصل بفعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أول ما صلى من الصلوات وهي صلاة الظهر فإنه لما نزل من المعراج وزالت الشمس أمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة ، فاجتمعوا فصلى به عليه السلام جبريل وصلى النبي عليه السلام بالناس إلا أن يتفق نزول الآية في ذلك الوقت ولكن كلام القائل يقتضي كونهم مقيمين للصلاة فرادى قيل نزولها كما قال قتادة : كان الرجال والنساء يصلون معاً حتى نزلت {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} المقدسونتعالى عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه وتحلية كلامهم بفنون التأكيد لإبراز صدوره عنهم بكمال الرغبة والنشاط.
قال البيضاوي : ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعات وهذا في المعارف انتهى.
قال بعض الكبار : للملائكة الترقي في العلم لا في العمل فلا يترقون بالأعمال كما لا نترقى بأعمال الآخرة إذا انتقلنا إليها وأما الإنسان فله الترقي في العلم والعمل ولو أن الملائكة ما كان لها الترقي في العلم ما قبلت الزيادة حين علمت الأسماء كلها فإنه زادهم علماً بالأسماء لم يكن عندهم.
قال البقلي رحمه الله : لما كانوا من أهل المقامات افتخروا بمقاماتهم في العبودية من الصلاة والتسبيح ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعاتهم من استيلاء أنوار مشاهدة الحق.
وفي "التأويلات النجمية" : ولو كان من مفاخر الملك أن يقولوا وإنا لنحن الصافون يعني في الصلاة والعبودية فإن للإنسان معه شركة في هذا وللإنسان صف يحبه الله وليس للملك فيه شركة وذلك قوله : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِه صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَـانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف : 4) وأن يقولوا : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أيضاً للإنسان معهم شركة ومن مفاخر الإنسان أن يقولوا : إنا لنحن المحبون وإنا لنحن المحبوبون وهم المخصوصون به في الترقي من مقام المحبية إلى مقام المحبوبية انتهى وهذا بالنسبة إلى أكاملهم وأفاضلهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
لفظ إنسان يكى ولى هركس
زده ازوى بقدر خويش نفس
جنبش هركسى زجاى ويست
روى هركس بفكر ورأى ويست
تا بر اهل طلب خداى مجيد
متجلى نشد باسم مريد
يارادت كسى نشد موصوف
بمحبت كسى نشد معروف
(7/386)
{وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ} إن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشان محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وفي الإتيان بأن المخففة واللام إشارة إلى أنهم كانوا يقولون ما قالوه مؤكدين جادّين فيه فكم بين أول أمرهم وآخره.
والمعنى وأن الشان كان قريش تقول قبل المبعث : {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ} أي كتاباً من كتب الأولين من التوراة والإنجيل وبالفارسية : (اكربودى نزديك ما كتابي كه سبب بند ونصيحت بودى)
496
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لأخلصنا العبادةولما خالفنا كما خالفوا {فَكَفَرُوا بِهِ} الفاء فصيحة أي فجاءهم ذكر أي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأسفار وهو القرآن فكفروا به وأنكروه وقالوا في حقه وفي حق من أنزل عليه ما قالوا {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة كفرهم وغائلته من المغلوبية في الدنيا والعذاب العظيم في العقبى وهو وعيد لهم وتهديد.
وفيه إشارة إلى تنزل الإنسان إلى الدرك الأسفل وإلى أن مآل الدعوى بلا تطبيق للصورة بالمعنى خزي وقهر وجلال عصمنا الله الملك الكريم المتعال.
قال بعضهم : وكان الملامية الذين هم أكابر القوم لا يصلون مع الفرائض إلا ما لا بد منه من مؤكدات النوافل خوفاً أن يقوم بهم دعوى أنهم أتوا بالفرائض على وجه الكمال الممكن وزادوا على ذلك فإنه لا نفل إلا عن كمال فرض ونعم ما فهموا ولكن ثم ما هو أعلى وهو أن يكثروا من النوافل توطئة لمحبة الله لهم ثم يرون ذلك جبراً لبعض ما في فرائضهم من النقص وفي الحديث "حسنوا نوافلكم فبها تكمل فرائضكم" وفي المرفوع : "النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها" ولكون الهدية سبباً للمحبة قال عليه السلام : "تهادوا تحابوا".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
واعلم أن القرآن ذكر جليل أنزل تذكيراً للناس وطرداً للوسواس الخناس فإنه كلما ذكر الإنسان خنس الشيطان أي تأخر والقرآن وإن كان كله ذكراً لكن ما كل آي القرآن يتضمن ذكر الله فإن فيه حكاية الأحكام المشروعة وفيه قصص الفراعنة وحكايات أقوالهم وكفرهم وإن كان في ذلك الأجر العظيم من حيث هو قرآن بالإصغاء إلى القارىء إذا قرأه من نفسه وغيره فذكر الله إذا سمع في القرآن أتم من استماع قول الكافرين في الله ما لا ينبغي فالأول من قبيل استماع القول الأحسن والثاني من استماع القول الحسن فاعرف ذلك.
ويستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته ويضع يده على الآية يتتبعها فيأخذ اللسان حظه من الرفع ويأخذ البصر حظه من النظر واليد حظها من المس وكان كبار السلف يقرأون على سبيل التأني والتدبر للوقوف على أسراره وحقائقه كما حكي أن الشيخ العطار قدس سره كان يختم في أوائله في كل يوم ختمة وفي كل ليلة ختمة ثم لما آل الأمر إلى الشهود وأخذ الفيض من الله ذي الجود بقي في السبع الأول من القرآن أكثر من عشرين سنة ومن الله العناية والهداية {وَلَقَدْ سَبَقَتْ} أي وبالله لقد تقدمت في الأزل أو كتبت في اللوح المحفوظ ثم إن السبق والتقدم الموقوف على الزمان إنما هو بالنسبة إلى الإنسان وإلا فالأمر بالإضافة إلى الله كائن على ما كان {كَلِمَتُنَا} وعدنا على مالنا من العظمة {لِعِبَادِنَا} الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون {الْمُرْسَلِينَ} الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة ثم فسر ذلك الوعد بطريق الاستئناف فقال : {إِنَّهُمْ لَهُمُ} خاصة {الْمَنصُورُونَ} فمن نصرناه فلا يغلب كما أن من خذلناه لا يغلب ثم عمم فقال : {وَإِنَّ جُندَنَا} أي من المرسلين وأتباعهم المؤمنين والجند العسكر {لَهُمُ} أي لا غيرهم {الْغَـالِبُونَ} على أعدائهم في الدنيا والآخرة وإن رؤي أنهم مغلوبون في بعض المشاهد لأن العاقبة لهم والحكم للغالب والنادر كالمعدوم والمغلوبية لعارض كمخالفة أمر الحاكم
497
وطمع الدنيا والعجب والغرور ونحو ذلك لا تقدح في النصر المقضي بالدات.
والنصر منصب شريف لا يليق إلا بالمؤمن وأما الكافر فشأنه الاستدراج وغاية الخذلان.
وقال بعضهم : لم يرد بالنصر هذا النصر المعهود بل الحجة لأن الحق إنما يتبين من الباطل بالحجة لا بالسيف فأراد بذلك أن الحجة تكون للأنبياء على سائر الأمم في اختلاف الأطوار والأعصار.
وقال الحسن البصري رحمه الله : أراد بالنصرة هذه النصرة بعينها دون الحجة ثم قال ما انتهى إلى أن نبياً قتل في حرب قط.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/387)
يقول الفقير : أراد الحسن المأمور بالحرب منصور لا محالة بخلاف غير المأمور وهو التوفيق بين قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ} (آل عمران : 21) ونظائره وبين هذه الآية وأمثالها.
والحاصل أن المؤمنين المخلصين هم المنصورون والغالبون لأن المستند إلى المولى الغالب العزيز هو المنصور المظفر الغالب القاهر وأعداءهم هم المنهزمون المغلوبون لأن المستند إلى غير الله خصوصاً إلى الحصون والقلاع المبنية من الأحجار هو المنهزم المدمر المغلوب المقهور :
تكيه بر غير بود جهل وهوى
نيست آنجام اعتماد سوى
ثم إن جنده تعالى هم مظاهر اسمه العزيز والمنتقم ومظاهر قوله : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء : 18).
وفي "التأويلات النجمية" : جنده الذين نصبهم لنشر دينه وأقامهم لنصر الحق وتبيينه فمن أراد إذلالهم فعلى أذقانه يخرّ.
والجند كما ورد في الحديث : "جندان جند الوغى وجند الدعاء" فلا بد لجند الوغي من عمل الوغي وشغل الحرب ولجند الدعاء من عمل الدعاء وشغل الأدب فمن وجد في قلبه الحضور واليقظة فليطمع في الإجابة ومن وجد الفتور والغفلة فليخف عدم الإصابة :
كى دعاى تو مستجاب شود
كه بيك روى دردو محرابى
وفي الحديث : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم" أي عاداهم "حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" ولا شك أن الملوك العثمانية خاتمة هذه الطائفة وعيسى والمهدي عليهما السلام خاتمة الخاتمة والصيحة الواحدة الآخذة كل من بقي على الأرض عند قيام الساعة من الكفرة الفجرة خاتمة خاتمة الخاتمة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي إذا علمت أن النصرة والغلبة لك ولأتباعك فأعرض عن كفار مكة واصبر على أذاهم {حَتَّى حِينٍ} أي مدة يسيرة وهي مدة الكف عن القتال فالآية محكمة لا منسوخة بآية القتال {وَأَبْصِرْهُمْ} على أسوء حال وأفظع نكال حل بهم من القتل والأسر والمراد بالأمر بأبصارهم الإيذان بغاية قربه كأنه بين يديه يبصره في الوقت وإلا فمتعلق الأبصار لم يكن حاضراً عند الأمر {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما يقع حينئذٍ من الأمور.
وفي "التأويلات" : وأبصر أحوالهم فسوف يبصرون جزاء ما عملوا من الخير والشر انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وسوف للوعيد ليتوبوا ويؤمنوا دون التبعيد لأن تبعيد الشيء المحذر منه كالمنافي لإرادة التخويف به ولما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قالوا استعجالاً واستهزاء لفرط جهلهم متى هذا فنزل قوله تعالى : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي أبعد هذا التكرير من الوعيد يستعجلون بعذابنا والهمزة للإنكار والتعجب يعني تعجبوا من هذا الأمر المستنكر وبالفارسية : (آيا بعذاب ما شتاب ميكنند ووقت نزول آن مى رسند).
وفي التوراة "أبي يغترون أم عليّ يجترئون؟" يعني : (بمهلت دادن وفراكذشتن من فريفته شوند يا بر من ديرى كنند ونمى ترسند) {فَإِذَا نَزَلَ} العذاب الموعود {بِسَاحَتِهِمْ} .
498
قال في "المفردات" : الساحة المكان الواسع ومنه ساحة الدار انتهى.
وفي "حواشي" ابن الشيخ الساحة الفناء الخالي عن الأبنية وفناء الدار بالكسر ما امتد من جوانبها معداً لمصالحها وبالفارسية : (يشكاه منزل) والمعنى بفنائهم وقربهم وحضرتهم كأنه جيش قد هزمهم فأناخ بفنائهم بغتة {فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} فبئس صباح المنذرين صباحهم أي صباح من أنذر بالعذاب وكذبه فلم يؤمن واللام للجنس فإن أفعال المدح والذم تقتضي الشيوع والإبهام والتفصيل فلا يجوز أن تكون للعهد.
والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت منهم الإغارة في الصباح سموها صباحاً وإن وقعت ليلاً.
قال الكاشفي : (آورده اندكه درميان عرب قتل وغارت واسر بسيار بود هر لشكركه قصد قبيله داشتندى شب همه شب راه يموده وقت سحر كه خواب كرانيست بحواله ايشان آمدندى ودست بقتل وغارت واسر وتاراج بر كشاده قوم را مستأصل كردندى وبدين سبب كه اغلب غارت در صباح واقع مى شد غارت را صباح نام نهادند وهرند دروقتى ديكر وقوع يافتى همان صباح كفتندى) {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان بأن ما يبصره عليه السلام من فنون المسار وما يبصرون من أنواع المضار لا يحيط به الوصف والبيان.
وفي "البرهان" حذف الضمير من الثاني اكتفاء بالأول {سُبْحَـانَ رَبِّكَ}
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/388)
خطاب للنبي عليه السلام وقوله : {رَبِّ الْعِزَّةِ} بدل من الأول {عَمَّا يَصِفُونَ} أي نزه يا محمد من هو مربيك ومكفلك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه من الأولاد والأزواج والشركاء وغير ذلك من الأشياء التي من جملتها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب.
قال في "بحر العلوم" : أضاف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذي العزة كقولك صاحب صدق لاختصاصه بالصدق فلا عزة إلا له على أن العزة ذاتية أو لمن أعزه من الأنبياء وغيرهم فالعزة حادثة كائنة بين خلقه وهي وإن كانت صفة قائمة بغيره تعالى إلا أنها مملوكة له مختصة به يضعها حيث يشاء كما قال تعالى : {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} (آل عمران : 26) وفيه إشعار بالسلوب والإضافات كما في قوله تعالى : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 78) وذلك أن قوله سبحان إشارة إلى السلوب كالجلال فإن كل منهما يفيد ما أفاد الآخر في قولنا سبحان ربنا عن الشريك والشبيه وجل ربنا عنهما.
وقوله ربك رب العزة إشارة إلى الإضافات كالإكرام وإنما قدم السلب على الإضافة لأن السلوب كافية فيها ذاته من حيث هو هو بخلاف الإضافات فإنه لا بد من تحققها من غيره لأن الإضافة لا توجد إلا عند وجود المضافين.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام سبحان الله كلمة مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته فما كان من أسمائه سلباً فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه.
ثم إن المرسلين لما كانوا وسائط بين الله وبين عباده نبه على علو شأنهم بقوله : {وَسَلَـامٌ} وسلامة ونجاة من كل المكاره وفوز
499
بجميع المآرب {عَلَى الْمُرْسَلِينَ} الذين يبلغون رسالات الله إلى الأمم ويبينون لهم ما يحتاجون إليه من الأمور الدينية والدنيوية أولهم آدم وآخرهم محمد عليهم السلام فهو تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم فيما سبق لأن تخصيص كل واحد بالذكر يطول وفي الحديث "إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا أحدهم" كما في "فتح الرحمن" و"حواشي" ابن الشيخ وغيرهما وفي الحديث "إذا صليتم عليّ فعمموا" أي للآل والأصحاب.
قال في "المقاصد الحسنة" : لم أقف عليه بهذا اللفظ ويمكن أن يكون بمعنى صلوا عليّ وعلى أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني انتهى
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
قال الشيخ عز الدين : الحمدكلمة مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته تعالى فما كان من أسمائه متضمناً للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحتها فأثبتنا بالحمدكل كمال عرفناه وكل جلال أدركناه.
قال المولى أبو السعود : هذا إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الجميلة التي من جملتها إفاضته عليهم من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وأسباغه عليهم وعلى من اتبعهم من فنون النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده من النصرة والغلبة قد تحقق.
والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه وتحميده والتسليم على رسله الذين هم وسائط بينهم وبينه عز وجل في فيضان الكمالات الدينية والدنيوية عليهم ولعل توسط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده مع ما فيه من الإشعار بأن توفيقه عليهم من جملة نعمه الموجبة للحمد انتهى.
وقال بعضهم : والحمدعلى إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين وعلى كل حال يعني هو المحمود في كل من الحالات ساء أم سرّ نفع أم ضرّ :
در بلا ودر ولا الحمد خوان
اين بود آيين اك عاشقان
وعن علي رضي الله تعالى عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه سبحان ربك الخ.
وفي بعض النسخ من أحب أن يكال له وإليه الإشارة بقوله الكاشفي : (هركه دوست ميداردكه برو يمايند مزد ثواب را به يمانه بزركتر بايدكه آخر كلام او از مجلس اين آيت باشد).
يقول الفقير : أصلحه الله القدير فللمؤمن أن يتدارك حاله بشيئين قبل أن يقوم من مجلسه أحدهما يجلب الأجر الجزيل وهو بالآية المذكورة.
والثاني بالكفارة وهو بما أشار إليه النبي عليه السلام وقوله : "من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقد غفر له" يعني من الصغائر ما لم يتعلق بحق آدمي كالغيبة كما في شرح الترغيب المسمى "بفتح القريب" فعلى العاقل أن لا يغفل في مجلسه بل يذكر ربه لأنسه ويختمه بما هو من باب التخلية والتحلية والتصفية والتجلية وآخر دعواهم أن الحمدرب العالمين.
500
جزء : 7 رقم الصفحة : 444(7/389)
سورة ص
مكية آيها ست أو ثمان وثمانون
جزء : 7 رقم الصفحة : 500
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{} : خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذه سورة ص كما مرّ في أخواته : (يعني برآنندكه حروف مقطعة براى اسكات كفارست كه هروقت كه حضرت محمد عليه السلام در نماز وغير آن قرآن بجهر تلاوت فرمودي إيشان أزروى عناد صفير زدندى ودست وبردست كوفتندى تا آن حضرت درغلط افند حق سبحانه وتعالى اين حروف فرستاد تا ايشان بعد آز استماع آن متأمل ومتفكر شده از تغليظ باز مي ماندند).
وقال الشعبي : إنتعالى في كل كتاب سراً وسره في القرآن فواتح السور.
وقال بعضهم : {} : مفتاح اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القسم بصاد صمديته في الأزل وبصاد صانعيته في الوسط ويصاد صبوريته إلى الأبد وبصاد صدق الذي جاء بالصدق وصاد صديقية الذي صدق به وبصاد صفوته في مودته ومحبته.
هـ.
وقال ابن جبير رضي الله عنه : {} يحيي الله به الموتى بين النفختين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : {} كان بحراً بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.
وفي بعض المعتبرات : كان جبلاً بمكة ومضى شرح هذا الكلام في أول {الاماص} .
وقيل في {} : معناه أن محمداً عليه السلام صاد قلوب الخلائق ، واستمالها حتى آمنوا به كما قال في إنسان العيون ، ومما لا يكاد يقضى منه العجب حسن تدبيره عليه السلام للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة كيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه صلى الله عليه وسلّم واختاروه على أنفسهم ، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهجروا في رضاه أوطانهم.
انتهى.
يقول الفقير أغناه الله القدير : سمعت
2
شيخي وسندي قدس سره ، وهو يقول : إن قوله تعالى {ق} إشارة إلى مرتبة الأحدية التي هي التعيين الأول كما في سورة الإخلاص المصدرة بكلمة : قل المبتدأة بحرف ق.
وقوله ص : إشارة إلى مرتبة الصمدية التي هي التعيين الثاني المندرجة تحته مرتبة بعد مرتبة وطوراً بعد طور إلى آخر المراتب والأطوار.
{ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} : (الواو) : للقسم ، والذكر : الشرف والنباهة ، أو الذكرى والموعظة أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام ، وغيرها من أقاصيص الأنبياء وأخبار الأمم الماضية والوعد والوعيد ، وحذف جواب القسم في مثل ذلك غير عزيز والتقدير : على ما هو الموافق لما في أول يس ولسياق الآية أيضاً ، وهو عجبوا الخ.
إن محمداً الصادق في رسالته وحق نبوته ليس في حقيته شك ، ولا فيما أنزل عليه من القرآن ريب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} :
من رؤساء أهل مكة فهو إضراب عن المفهوم من الجواب {فِى عِزَّةٍ} .
قال الراغب : العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ويمدح بالعزة تارة كما في قوله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) ؛ لأنها الدائمة الباقية ، وهي العزة الحقيقية ويذم بها أخرى ، كما في قوله تعالى : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ} : لأن العزة التي هي التعزز وهي في الحقيقة ذل ، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة ، وذلك في قوله تعالى : {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ} (البقرة : 206).
انتهى.
وقد حمل أكثر أهل التفسير العزة في هذا المقام على الثاني لما قالوا ، بل هم في استكبار عن الاعتراف بالحق والإيمان وحمية شديدة : وبالفارسية (در سركشي اند ازقبول حق).
{وَشِقَاقٍ} ؛ أي : مخالفةوعداوة عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فلذا لا ينقادون.
وفي "التأويلات النجمية" وبقوله : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} يشير إلى القسم بالقرآن الذي هو مخصوص بالذكر ، وذلك لأن القرآن قانون معالجات القلوب المريضة وأعظم مرض القلب نسيان الله تعالى كما قال : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} ، وأعظم علاج مرض النسيان بالذكر كما قال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ، ولأن العلاج بالضد وبقوله : {بَلِ الَّذِينَ} إلخ.
يشير إلى انحراف مزاج قلوب الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلى الغلظة والقساوة ومن التواضع إلى التكبر ومن الوفاق إلى الخلاف ومن الوصلة إلى الفرقة ومن المحبة إلى العداوة ، ومن مطالعة الآيات إلى الإعراض عن البحث في الأدلة والسير للشواهد.
{كَمْ} : مفعول قوله : {أَهْلَكْنَا} .
ومن في قوله : {مِن قَبْلِهِم} : لابتداء الغاية.
وقوله : {مِّن قَرْنٍ} : تمييز.
والقرن : القوم المقترنون في زمن واحد.
والمعنى : قرناً كثيراً أهلكنا من القرون المتقدمة ؛ أي : أمة من الأمم الماضية بسبب الاستكبار والخلاف.
{فَنَادَوا} عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة أو توبة واستغفاراً لينجوا في ذلك ، وبالفارسية : (بس ندا كردند وآواز بلند برداشتدتا كسي ايشانرا بفريادرسد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2(8/1)
{وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} : حال من ضمير نادوا ؛ أي : نادوا ، واستغاثوا طلباً للنجاة ، والحال أن ليس الحين حين مناص ؛ أي : فوت وفرار ونجاة لكونه حالة اليأس : وبالفارسية : (ونيست آن هنكام وقت رجوع بكريزكاه).
فقوله : لا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وخصت بنفي الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد معموليها اسمها أو خبرها ، والأكثر حذف اسمها.
وفي بعض التفاسير لات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن.
انتهى.
والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي علي وعند الكسائي نحو قاعدة وضاربة وعند أبي عبيد على لا.
3
ثم يبتدىء تحين مناص ، لأنه عنده أن هذه التاء تزاد مع حين ، فيقال : كان هذا تحين كان ذاك كذا في "الوسيط".
والمناص : المنجأ ؛ أي : النجاة والفوت عن الخصم على أنه مفعل من ناصه ينوصه إذا فاته أريد به المصدر.
ويقال : ناص ينوص ؛ أي : هرب.
ويقال : أي : تأخر ، ومنه : ناص قرنه ؛ أي : تأخر عنه حيناً.
وفي "المفردات" : ناص إلى كذا ، التجأ إليه ، وناص عنه تنحى ينوص نوصاً.
والمناص : الملجأ.
انتهى.
(در معالم فرموده كه عادت كفار مكي آن بودكه جون دركارزاركار برايشان زار شدي كفتندي مناص مناص يعني بكر زيد حق سبحانه وتعالى خبر ميدهدكه بهنكام حلول عذاب دربدر خلاص مناس خواهند كفت وآنجا جاي كريز نخوا هدبود).
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ}
{وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ} ؛ أي : عجب كفار أهل مكة من أن جاءهم منذر ينذرهم النار ؛ أي : رسول من جنسهم بل أدون منهم في الرياسة الدنيوية والمال على معنى أنهم عدوا ذلك خارجاً عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه ، وتعجبوا منه ، وقالوا : إن محمداً مساوٍ لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة ، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي ولم يتعجبوا من أن تكون المنحوتات آلهة ، وهذه مناقضة ظاهرة ، فلما تحيروا في شأن النبي عليه السلام نسبوه إلى السحر والكذب كما قال حكاية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَقَالَ الْكَـافِرُونَ} : وضع فيه الظاهر موضع المضمر غضباً عليهم وإيذاناً بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولونه إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {هَـاذَآ} (اين منذر) {سَـاحِرٌ} فيما يظهره من الخوارق {كَذَّابٌ} فيما يسنده إلى الله من الإرسال والإنزال لم يقل كاذب لرعاية الفواصل ، ولأن الكذب على الله ليس كالكذب على غيره ولكثرة الكذب في زعمهم ، فإنه يتعلق بكل آية من الآيات القرآنية بخلاف إظهار الخوارق فإنه قليل بالنسبة إليه.
هكذا لاح لي هذا المقام.
وفي "التأويلات النجمية" : لما كانوا منحرفي مزاج القلوب لمرض نسيان الحق جاءت النبوة على مذاق عقولهم المتغيرة سحراً والصدّيق كذاباً.
قال الكاشفي (جه تيره رايي كه أنوار لمعات وحى را أزتاريكىء سحر امتياز نكند وجه بي بصيرتي كه آثار شعاع صدق را از ظلمات كذب بازنشناسند).
كشته طالع آفتابي أنيينين عالم فروز
ديدة خفاش را يكذره ازوى نورته
از شعاع روز روشن روى كيتى مستنير
تيركي شب هنوز از ديده دورنه
واعلم : أن إثبات النبوة والولاية سهل بالنسبة إلى أهل العناية والتوفيق فإن قلوبهم ألفت الإعراض عما سوى الله بخلاف أهل الإنكار والخذلان ، فإن قلوبهم ألفت الإعراض عن الله ، فلذا صحبتهم الوقيعة في أنبياء الله وأوليائه.
قال الأستاذ أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه التصديق بعلمنا هذا ولاية يعني : الولاية الصغرى دون الكبرى.
قال اليافعي : والناس على أربعة أقسام :
القسم الأول : حصل لهم التصديق بعلمهم ، والعلم بطريقتهم والذوق لمشربهم وأحوالهم.
والقسم الثاني : حصل لهم التصديق ، والعلم المذكور دون الذوق.
والقسم الثالث : حصل لهم التصديق دونهما.
والقسم الرابع : لم يحصل لهم من الثلاثة شيء ، نعوذ بالله من الحرمان ونسأله التوفيق والغفران ، فهم الذين أطالوا ألسنتهم في حق الخواص ورموهم بالسحر والكذب والجنون لكونهم ليسوا من المحارم في شأن من الشؤون : وفي "المثنوي" :
4
جون خدا خواهد كه برده كس درد
ميلش اندر طعنه با كان برد
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/2)
{أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا} : (الهمزة) : للإنكار والاستبعاد.
والآلهة : جمع إله وحقه أن لا يجمع إذ لا معبود في الحقيقة سواه تعالى لكن العرب لاعتقادهم أن ههنا معبودات جمعوه.
فقالوا : آلهة.
وإلهاً واحداً : مفعول ثان لجعل ؛ لأنه بمعنى صير ؛ أي : صيرهم إلهاً واحداً في زعمه وقوله لا في فعله ؛ لأن جعل الأمور المتعددة شيئاً واحداً بحسب الفعل محال (آورده اندكه بعد ازاسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما أشراف قريش جون وليد وأبو سفيان وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية ازروى اضطراب نزد أبو طالب آمده در مرض موت أو كفتند اي عبد مناف تو بزر كتر ومهتر مايي آمده ايم تاميان ما وبرادر زاده خود حكم فرمايي كه يك يك ازسفهاي قوم را مي فريبد ودين محدث وآيين مجدد خودرا بديشان جلوه ميدهد سنك تفرقه در مجمع ما افكنده است ونزديك بآن رسيده كه دست تدارك از اطفاي اين نائره عاجز آيد أبو طالب آن حضرت را صلى الله تعالى عليه وسلم طلبيد وكفت اي محمد قوم تو آمده اند وايشانرا أزتو مدعاييست يكباركي طرف انحراف مورد متمناي ايشان تأمل نماي حضرت عليه السلام فرمود اي معشر قريش مطلوب شما ازمن جه جيزست كفتند آنكه دست ازنقض دين ما بداري وسب آلهة ما فرو كذاري تامانيز متعرض تو ومتابعان تونشويم حضرت عليه السلام فرمودكه من هم ازشما مي طلبم كه بيك كلمه بامن متفق شويد تاممالك غرب شمارا مسخر شود واكابر عجم كمر فرمان برادري شما بربندند كفتند آن كلمه كدامست سيد عالم عليه السلام فرمودكه : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بيكبار أشراف قريش ازان حضرت اعراض نموده كفتند).
أجعل إلخ ؛ أي : أصير محمد بزعمه الآلهة إلهاً واحداً بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد ولم يعلموا أنهم جعلوا الإله الواحد آلهة {إِنَّ هَـاذَآ} : (بدرستى كه يكانكى خداى تعالى).
{لَشَىْءٌ عُجَابٌ} : العجاب : بمعنى العجيب ، وهو الأمر الذي يتعجب منه كالعجب إلا أن العجيب أبلغ منه ، والعجاب بالتشديد أبلغ من العجاب بالتخفيف مثل كبار في قوله : {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} (نوح : 22) ، فإنه أبلغ من الكبار بالتخفيف ونحوه طويل وطوال.
والمعنى : بليغ في العجب ، لأنه خلاف ما اتفق عليه آباؤنا إلى هذا الآن.
وقال بعضهم : (نيك شكفت جه سيصد وشصت بت كه مداريم كاريك شهر مكه راست نمى توانندكرد يك خداي كه محمد ميكويد كار تمام عالم جون سازد).
يعني : أنهم ما كانوا أهل النظر والبصيرة ، بل أوهامهم كانت تابعة للمحسوسات ، فقاسوا الغائب على الشاهد ، وقالوا : لا بدّ لحفظ هذا العالم الكبير من آلهة كثيرة يحفظونه بأمره وقضائه تعالى ولم يعرفوا الإله ، ولا معنى الآلهية ، فإن الآلهية هي القدرة على الاختراع وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجوده التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كاملي الوصف لم يكونا إلهين وكل أمر جرّ ثبوته سقوطه فهو مطروح.
باطل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ} : الانطلاق الذهاب والملأ الأشراف لا مطلق الجماعة ، ويقال لهم : ملأ لأنهم إذا حضروا مجلساً ملأت العيون وجاهتهم والقلوب مهابتهم ؛ أي : وذهب الأشراف من قريش وهم خمسة وعشرون عن مجلس أبي طالب بعد ما أسكتهم رسول الله عليه السلام بالجواب الحاضر ،
5
وشاهدوا تصلبه عليه السلام في الدين وعزيمته على أن يظهره على الدين كله ويئسوا مما كانوا يرجونه بتوسط أبي طالب من المصالحة على الوجه المذكور.
{إِنَّ} : مفسرة للمقول المدلول عليه بالانطلاق لأن الانطلاق عن مجلس التقاول لا يخلو عن القول ؛ أي : وانطلق الملأ منهم بقول هو قول بعضهم لبعض على وجه النصيحة.
{امْشُوا} : سيروا على طريقتكم وامضوا فلا فائدة في مكانة هذا الرجل.
وحكى المهدوي أن قائلها عقبة بن أبي معيط.
{وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ} ؛ أي : واثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الكفار إذا تراضوا فيما بينهم بالصبر على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم بل الطالب الصادق والعاشق الوامق أولى بالصبر والثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب المعشوق.
{إِنَّ هَـاذَآ} : تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به ؛ أي : هذا الذي شاهدناه من محمد من أمر التوحيد ونفي آلهتنا وإبطال أمرنا.
{لَشَىْءٌ يُرَادُ} : من جهته عليه السلام إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان ، أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتناع ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه بواسطة أبي طالب وشفاعته وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية فاصبروا عليها وتحملوا ما تسمعونه في حقها من القدح وسوء المقالة هذا ما ذهب إليه المولى أبو السعود في "الإرشاد".
وقال في "تفسير الجلالين" : لأمر يراد بنا ومكر يمكر علينا.
(8/3)
وقال سعدي المفتي : وسنح بالبال أنه يجوز أن يكون المراد أن دينكم لشيء يستحق أن يطلب ويعض عليه بالنواجذ ، فيكون ترغيباً وتعليلاً للأمر السابق.
وقال بعضهم : (بدرستى كه مخالفت محمد باما جيز نيست كه خواسته اند بما از حوادث زمان واز وقوع آن جاره نيست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ويقول الفقير أمده الله القدير بالفيض الكثير ويجوز أن يكون المعنى : أن الصبر والثبات على عبادة الآلهة التي هي الدين القديم يراد منكم فإنه أقوى ما يدفع به أمر محمد كما قالوا نتربص به ريب المنون ، فيكون موافقاً لقرينه في الإشارة إلى المذكور فيما قبله أو أن شأن محمد لشيء يراد دفعه وإطفاء نائرته بأي وجه كان قبل أن يعلو ويشيع ، كما قيل :
علاج واقعه بيش از وقوع بايد كرد
ودل عليه اجتماعهم على مكره عليه السلام مراراً فأبى الله إلا أن يتم نوره.
{وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ * أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} .
{مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا} : الذي يقوله من التوحيد.
{فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ} : ظرف لغو سمعنا ؛ أي : في الملة التي أدركنا عليها آباءنا ، وهي ملة قريش ودينهم الذي هم عليه ، فإنها متأخرة عما تقدم عليها من الأديان والملل.
وفيه إشارة إلى ركون الجهال إلى التقليد والعادة وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلال وإخطاء طريق العبادة :
ترسم نرسى بكعبه اي اعرابى
كين ره كه توميروى بتركستانست
والملة كالدين اسم لما شرع الله لعباده على يد الأنبياء ليتوصلوا به إلى ثواب الله وجواره فإطلاق كل منهما على طريقة المشركين مجاز مبني على التشبيه.
{إِنَّ هَـاذَآ} : نافية بمعنى ما {إِلا اخْتِلَـاقٌ} .
(الاختلاق دروغ كفتن ازنزد خود) ؛ أي : كذب اختلقه من عند نفسه.
قال
6
في "المفردات" : وكل موضع استعمل فيه الخلق في وصف الكلام ، فالمراد به الكذب ومن هذا امتنع كثير من الناس من إطلاق لفظ الخلق على القرآن ، وعلى هذا قوله : أن هذا إلاَّ اختلاق.
{عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} : ونحن رؤساء الناس وأشرافهم وأكبرهم سناً وأكثرهم أموالاً وأعواناً وأحقاء بكل منصب شريف ومرادهم إنكار كون القرآن ذكراً منزلاً من الله تعالى.
وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد على اختصاصه عليه السلام بشرف النبوة من بينهم وحرمانهم منه وقصر النظر على متاع الدنيا وغلطوا في القصر والقياس.
أما الأول فلأن الشرف الحقيقي إنما هو بالفضائل النفسانية دون الخارجية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وأما الثاني فلأن قياس نفسه عليه السلام بأنفسهم فاسد إذ هو روح الأرواح وأصل الخليقة ، فأنى يكون هو مثلهم وأما الصورة الإنسانية فميراث عام من آدم عليه السلام لا تفاوت فيها بين شخص وشخص نعم وجهه عليه السلام كان يلوح منه أنوار الجمال بحيث لم يوجد مثله فيما بين الرجال :
اى حسن سعادت زجبين تو هويدا
اين حسن جه حسنست تقدس وتعالى
وفيه إشارة إلى حال أكثر علماء زماننا وعبادهم أنهم إذا رأوا عالماً ربانياً من أرباب الحقائق يخبر عن حقائق لم يفهموها ويشير إلى دقائق لم يذوقوها دعتهم النفوس المتمردة إلى تكذيبه ، فيجحدونه بدل الاغتنام بأنفاسه والاقتباس من أنواره ويقولون أكوشف هو بهذه الحقائق من بيننا ويقعون في الشك من أمرهم كما قال تعالى : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى} ؛ أي : القرآن أو الوحي بميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يجزمونه فهم مذبذبون بين الأوهام ينسبونه تارة إلى السحر وأخرى إلى الاختلاق.
وفيه إشارة إلى أن القرآن قديم لأنه سماه الذكر ثم أضافه إلى نفسه ، ولا خفاء بأن ذكره قديم ، لأن الذكر المحدث يكون مسبوقاً بالنسيان ، وهو منزه عنه.
{بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} في لما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع ، لأنها للتوقع ؛ أي : بل لم يذوقوا بعد عذابي ، فإذا ذاقوه تبين لهم حقيقة الحال.
وفيه تهديد لهم ؛ أي : سيذوقون عذابي فيلجئهم إلى تصديق الذكر حين لا ينفع التصديق.
(8/4)
وفيه إشارة إلى أنهم مستغرقون في بحر عذاب الطرد والبعد ونار القطيعة لكنهم عن ذوق العذاب بمعزل لغلبة الحواس إلى أن يكون يوم تبلى السرائر فتغلب السرائر على الصور والبصائر على البصر ، فيقال لهم : ذوقوا العذاب ، يعني : كنتم معذبين وما كنتم ذائقي العذاب ، فالمعنى : لو ذاقوا عذابي ووجدوا ألمه لما قدموا على الجحود دل على هذا قوله عليه السلام : "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".
شو زخواب كران جان بيدار
تا جمالش عيان ببين اي يار
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} : أم منقطعة بمعنى : بل ، والهمزة وهي للإنكار.
والخزائن جمع خزانة بالكسر بمعنى المخزن ؛ أي : بل أعندهم خزائن رحمته تعالى يتصرفون فيها حسبما يشاؤون حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم ، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم.
والمعنى : أن النبوة عطية من الله تعالى
7
يتفضل بها على من يشاء من عباده ، لا مانع له فإنه العزيز ؛ أي : الغالب الذي لا يغالب الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
جون زحال مستحقان آكهي
هرجه خواهي هركرا خواهي دهي
ديكرا نرا اين تصرف كي رواست
اختيار اين تصرفها تراست
{أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا} : ترشيح ؛ أي : تربية لما سبق ؛ أي : بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء.
{فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} : جواب شرط محذوف ، والارتقاء : الصعود.
قال الراغب : السبب الحبل الذي يصعد به النخل ، وقوله تعالى : {فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} : إشارة إلى قوله : {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ} (الطور : 38) فيه وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سبباً.
انتهى.
والمعنى : إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي إلى ما يختارون ويستصوبون.
وفيه من التهكم بهم ما لا غاية وراءه.
{أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاحَزَابِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الاوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِا أولئك الاحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} .
{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاحَزَابِ} : الجند جمع معد للحرب وما مزيدة للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئاً ما وهنالك مركب من ثلاث كلمات إحداها ها هنا وهو إشارة إلى مكان قريب.
والثانية : اللام وهي للتأكيد ، والثالثة : الكاف وهي للخطاب.
قالوا : واللام فيها كاللام في ذلك في الدلالة على بعد المشار إليه ، والهزم : الكسر.
يقال : هزم العدو كسرهم وغلبهم والاسم : الهزيمة.
وهزمه يهزمه ، فانهزم غمزه بيده فصارت فيه حفرة كما في "القاموس".
والحزب جماعة فيها غلظ كما في "المفردات" قال ابن الشيخ : جند خبر مبتدأ محذوف ومن الأحزاب صفته ؛ أي : جملة الأحزاب وهم القرون الماضية الذين تحزبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب ، فقهروا وهلكوا ومهزوم خبر ثاننٍ للمبتدأ المقدر أو صفة لجند ، وهنالك ظرف لمهزوم أو صفة أخرى لجند ، وهو إشارة إلى الموضع الذي تقاولوا وتحاوروا فيه بالكلمات السابقة ، وهو مكة ؛ أي : سيهزمون بمكة ، وهو إخبار بالغيب لأنهم انهزموا في موضع تكلموا فيه بهذه الكلمات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وقال بعضهم : هنالك إشارة إلى حيث وضعوافيه أنفسهم من الانتداب ؛ أي : الإجابة والمطاوعة لمثل ذلك القول العظيم من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك فإن هواهم الزائغ وحسدهم البالغ حملهم على أن يقولوا : أأنزل عليه الذكر من بيننا فانتدبوا له ووضعوا أنفسهم في مرتبة أن يقولوا ذلك العظيم ، فإنه لاستلزامه الاعتراض على مالك الملك والملكوت لا ينبغي لأحد أن يجترىء عليه ويضع نفسه في تلك المرتبة.
والمعنى : هم كجند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث بما يهذون.
ففي إشارة إلى عجزهم وعجز آلهتهم ، يعني : أن هؤلاء الكفار ليس معهم حجة ولا لأصنامهم من النفع والضر مكنة ولا في الدفع والردّ عن أنفسهم قوة.
وسمعت من فم حضرة شيخي وسندي قدس سره يقول استناد الكفار إلى الأحجار ألا ترى إلى القلاع والحصون واستناد المؤمنين إلى "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
ألا ترى أنهم لا يتحصنون بحصن سوى التوكل على الله تعالى ، وهو يكفيهم كما قال تعالى :
8
(لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي).
انتهى.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ؛ أي : قبل قومك يا محمد ، وهم : قريش.
(8/5)
{قَوْمُ نُوحٍ} ؛ أي : كذبوا نوحاً ، وقد دعاهم إلى الله وتوحيده ألف سنة إلا خمسين عاماً.
{وَعَادٌ} : قوم هود.
{وَفِرْعَوْنُ} : موسى عليه السلام.
{ذُو الاوْتَادِ} : جمع وتد محركة وبكسر التاء ، وهو ما غرز في الأرض أو الحائط من خشب : وبالفارسية : (ميخ) ؛ أي : ذو الملك الثابت ، لأنه استقام له الأمر أربعمائة سنة من غير منازع وأصله أن يستعمل في ثبات الخيمة بأن يشد أطنابها على أوتاد مركوزة في الأرض ، فإن أطنابها إذا اشتدت عليها كانت ثابتة فلا تلقيها الريح على الأرض ولا تؤثر فيها ثم استعير لثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر ، بأن شبه ملك فرعون بالبيت المطنب استعارة بالكناية ، وأثبت له لوازم المشبه به.
وهو الثبات بالأوتاد تخييلاً.
وجه تخصيص هذه الاستعارة أن أكثر بيوت العرب كانت خياماً ، وثباتها بالأوتاد ويجوز أن يكون المعنى ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك ونهم يشدون البلاد ، والملك ويشد بعضهم بعضاً كالوتد يشد البناء والخباء ، فتكون الأوتاد استعارة تصريحية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي الحديث : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" ؛ أي : لا يتقوى في أمر دينه ودنياه إلا بمعونة أخيه كما أن بعض البناء يتقوى ببعضه ويكفي دليلاً على كثرة جموع فرعون أنه قال في حق بني إسرائيل إن هؤلاء لشرذمة قليلون مع أنهم كانوا ينيفون على ستمائة ألف مقاتل سوى الصغير والشيخ.
ويجوز أن يكون الأوتاد حقيقة لا استعارة فإنه على ما روي كانت له أوتاد من حديد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد ، وشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وكان كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت ، أو كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد.
يقول الفقير : هذه الرواية هي الأنسب لما ذكروه في قصة آسية امرأة فرعون في سورة التحريم من أنها لما آمنت بموسى أوتد لها فرعون بأوتاد في يديها ورجليها كما سيجيء.
{وَثَمُودُ} : قوم صالح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن قوم صالح آمنوا به ، فلما مات صالح رجعوا بعده عن الإيمان فأحيى الله صالحاً وبعثه إليهم ثانياً فأعلمهم أنه صالح ، فكذبوه فأتاهم بالناقة فكذبوه فعقروها فأهلكهم الله.
قال الكاشفي : (بعضى إيمان آوردند وجمعى تكذيب نمودند وبسبب عقر ناقه هلاك شدند).
{وَقَوْمُ لُوطٍ} : قال مجاهد : كانوا أربعمائة ألف بيت ، في كل بيت عشرة.
وقال عطاء : ما من أحد من الأنبياء إلا ويقوم معه يوم القيامة قوم من أمته ، إلا لوط فإنه يقوم وحده كما هو في "كشف الأسرار".
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ} : أصحاب الغيضة من قوم شعيب بالفارسية (أهل بيشه).
قال الراغب : الأيك شجر ملتف.
وأصحاب الأيكة : قيل : نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها.
وقيل : هي اسم بلد كما في "المفردات".
{أولئك الاحْزَابُ} : بدل من الطوائف المذكورة ، يعني المتحزبين ؛ أي : المجتمعين على أنبيائهم الذين جعل الجند المهزوم ، يعني : قريشاً منهم.
{إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ} : استئناف جيء به تهديداً لما يعقبه ؛ أي : ما كل حزب وجماعة من أولئك الأحزاب إلا كذب رسوله على نهج مقابلة الجمع بالجمع لتدل على انقسام الآحاد بالآحاد ، كما في قولك : ركب القوم دوابهم.
والاستثناء : مفرغ من أعم الأحكام
9
في حيز المبتدأ ؛ أي : ما كل واحد منهم محكوماًعليه بحكم إلا محكوم عليه ، بأنه كذب الرسل ، ويجوز أن يكون قوله : {أولئك الاحْزَابُ} : مبتدأ.
وقوله : {إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ} : خبره محذوف العائد ؛ أي : إن كل منهم.
{فَحَقَّ عِقَابِ} ؛ أي : ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات المفصلة في مواقعها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالاشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةًا كُلٌّ لَّه أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ} : الإشارة إلى كفار مكة بهؤلاء تحقير لشأنهم وتهوين لأمرهم وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المذكورة المهلكة في الكفر والتكذيب.(8/6)
{إِلا صَيْحَةً واحِدَةً} : هي النفخة الثانية ؛ أي : ليس بينهم وبين حلول ما أعد لهم من العقاب الفظيع إلا هي حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه.
والنبي عليه السلام بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} (الأنفال : 33).
ثم إن الانتظار يحتمل أن يكون حقيقة أو استهزاء فهم ، وإن كانوا ليسوا بمنتظرين لأن تأتيهم الصيحة إلا أنهم جعلوا منتظرين لها تنبيهاً على قربها منهم ، فإن الرجل إنما ينتظر الشيء ، ويمدّ طرفه إليه مترقباً في كل آن حضوره إذا كان الشيء في غاية القرب منه.
{مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ؛ أي : ما للصيحة من توقف مقدار فواق ، ففيه تقدير مضاف هو صفة لموصوف مقدر.
والفواق : بالضم كغراب ويفتح كما في "القاموس" ما بين حلبتي الحالب من الوقت ؛ لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لإدرار اللبن ثم تحلب ثانية ، يعني : إذا جاء وقت الصيحة لم تستأخر هذا القدر من الزمان كقوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} (الأعراف : 34) : وهو عبارة عن الزمان اليسير.
وفي الحديث : "من اعتكف قدر فواق فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل".
وفي الحديث : "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة".
وفي الآيتين إشارة إلى تسلية قلب النبي عليه السلام وتصفيته عن الاهتمام بكفار مكة لئلا يضيق قلبه من تكذيبهم ولا يحزن عليهم لكفرهم فإن هؤلاء الأحزاب كذبوا الرسل كما كذبه قومه وكانوا أقوياء متكثرين عدداً وقومه جنداً قليلاً من تلك المتحزبين ثم إنهم كانوا مظهر القهر وحطب نار الغضب ما أغنى عنهم جمعهم وقوتهم أبداناً وكثرتهم أسباباً ، فكذا حال قريش فانتظارهم أيضاً أثر من آثار القهر الإلهي ، ونار من نيران الغضب القهاري.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَقَالُوا} : بطريق الاستهزاء والسخرية عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة ، والقائل النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة الخزاعي وأضرابه ، وكان النضر من شياطينهم ونزل في شأنه في القرآن بضع عشرة آية وهو الذي قال : {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} (الأنفال : 32).
{رَبَّنَا} : وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال.
{عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} : القط : القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه.
والمراد هنا : القسط والنصيب ؛ لأنه قطعة من الشيء مفرزة.
قال الراغب : أصل القط : الشيء المقطوع عرضاً كما أن القدّ هو المقطوع طولاً.
والقط : النصيب المفروض كأنه قط ، وأفرز.
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما الآية به.
انتهى.
فالمعنى : عجل لنا قسطنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به محمد ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدأه الصيحة المذكورة.
ويقال لصحيفة
10
الجائزة أيضاً قط ؛ لأنها قطعة من القرطاس.
فالمعنى : عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها.
قال سهل بن عبد الله التستري ـ رحمه الله ـ ـ : لا يتمنى الموت إلا ثلاثة : رجل جاهل بما بعد الموت ، أو رجل يفر من أقدار الله عليه ، أو مشتاق محب لقاء الله.
وفيه إشارة إلى أن النفوس الخبيثة السفلية يميل طبعها إلى السفليات ، وهي في الدنيا لذائد الشهوات الحيوانية.
وفي الآخرة دركات أسفل سافلين جهنم كما أن القلوب العلوية اللطيفة يميل طبعها إلى العلويات ، وهي في الدنيا حلاوة الطاعة ولذاذة القربات.
وفي الآخرة درجات أعلى عليين الجنات ، وكما أن الأرواح القدسية تشتاق بخصوصيتها إلى شواهد ومشاهدات أنوار الجمال والجلال ولكل من هؤلاء الأصناف جذبة بالخاصية جاذبة بلا اختيار كجذبة المغناطيس للحديد وميلان طبع الحديد إلى المغناطيس من غير اختيار بل اضطرار كذا في "التأويلات النجمية" : وفي "المثنوي".
ذره ذره كاندرين ارض وسماست
جنس خودرا همجوكاه وكهرباست
{اصْبِرْ} : يا محمد.
{عَلَى مَا يَقُولُونَ} ؛ أي : ما يقوله كفار قريش من المقالات الباطلة التي من جملتها قولهم في تعجيل العذاب ربنا عجل لنا إلخ.
فعن قريب سينزل الله نصرك ويعطيهم سؤلهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال شاه الكرماني : الصبر ثلاثة أشياء ترك الشكوى وصدق الرضا وقبول القضاء بحلاوة القلب.
قال البقلي : كان خاطر النبي عليه السلام أرق من ماء السماء بل ألطف من نور العرش والكرسي من كثرة ما ورد عليه من نور الحق فلكمال جلاله في المعرفة كان لا يحتمل مقالة المنكرين وسخرية المستهزئين ، لا أنه لم يكن صابراً في مقام العبودية.
{وَاذْكُرْ} : من الذكر القلبي ؛ أي : وتذكر.
{عَبْدَنَآ} : المخصوص بعنايتنا القديمة.
{دَاوُادُ} : ابن إيشا من سبط يهودا بن يعقوب عليه السلام بينه وبين موسى عليه السلام خمسمائة وتسع وستون سنة.
وقام بشريعة موسى وعاش مائة سنة.
(8/7)
{ذَا الايْدِ} : يقال : آد يئيد أيداً مثل باع يبيع بيعاً اشتد وقوي.
والأيد : القوة كما في "القاموس" والقوة الشديدة كما في "المفردات" ؛ أي : ذا القوة في الدين القائم بمشاقه وتكاليفه.
وفي "الكواشي" : ويجوز أن يراد القوة في الجسد والدين.
انتهى.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوة داود في أمر الدين ثم زلته بحسب القضاء الأزلي ، ثم توبته بحسب العناية السابقة وأمره عليه السلام بذكر حاله وقوته في باب الطاعة ليتقوى على الصبر ولا يزل عن مقام استقامته وتمكينه كما زل قدم داود فظهرت المناسبة بين المسندين واتضح وجه عطف واذكر على اصبر.
{إِنَّه أَوَّابٌ} : من الأوب ، وهو الرجوع ؛ أي : رجاع إلى الله ومرضاته ؛ أي : عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله ، وهو تعليل لكونه ذا الأيد.
ودليل على أن المراد به القوة في أمر الدين وما يتعلق بالعبادة لا قوة البدن ؛ لأن كونه راجعاً إلى مرضاة الله لا يستلزم كونه قوي البدن.
وقد روى أنه لم يكن جسيماً كسائر الأنبياء بل قصير القامة ، وأكثر القوى البدنية كان فيمن زاده الله بسطة في جسمه.
"وفي التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى كماليته في العبودية بأنه لم يكن عبد الدنيا ولا عبد الآخرة ، وإنما كان عبدنا خالصاً ومخلصاً وله قوة في العبودية ظاهراً وباطناً.
فأما قوته ظاهراً فبأنه قتل جالوت ، وكثيراً من جنوده بثلاثة أحجار رماها عليهم وأما قوته في الباطن فلأنه كان أواباً وقد سرت أوابيته في الجبال والطير ، فكانت تؤوب
11
معه انتهى.
ومن قوة عبادة داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وذلك أشد الصوم ، وكان ينام النصف الأول من الليل ويقوم النصف الأخير منه مع سياسة الملك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي بعض التفاسير كان ينام النصف الأول من الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وهو الموافق لما في المشارق من قوله عليه السلام : "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وأحب الصلاة إلى الله" ؛ أي : في النوافل : "صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" ، وإنما صار هذا النوع أحب ؛ لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخف وأنشط في العبادة.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} : بيان لفضله مع داود ؛ أي : ذللناها ومع متعلق بالتسخير وإيثارها على اللام لكون تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان سيرها معه بطريق تفويض التبعية له ، فتكون مع على حالها ، ويجوز أن تكون مع متعلقة بما بعدها.
وهو قوله : {يُسَبِّحْنَ} ؛ أي : حال كونها تقدس الله تعالى مع داود لم يقل مسبحات للدلالة على تجدد التسبيح حالاً بعد حال.
قال في "كشف الأسرار" : كان داود يسمع ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به كرامة له ومعجزة.
انتهى.
واختلفوا في كيفية التسبيح ، فقيل : بصوت يتمثل له وهو بعيد.
وقيل : بلسان الحال ، وهو أبعد.
وقيل : بخلق الله في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً فحينئذٍ يسبح الله كما يسبح الأحياء العقلاء.
وهذا لسان أهل الظاهر ، وأما عند أهل الحقيقة فسر الحياة سار في جميع الموجودات حيواناً أو نباتاً أو جماداً ، فالحياة في الكل حقيقة لا عارضية أو حالية أن تمثيلية لكن إنما يدركها كُمَّل المكاشفين فتسبيح الجبال مع داود على حقيقته لكن لما كان على كيفية مخصوصة وسماعه على وجه غريب خارج عن العقول كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته.
وقد سبق مراراً تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه من الكلام.
{بِالْعَشِىِّ} : في آخر النهار.
{وَالاشْرَاقِ} : في أول النهار ووقت الإشراق هو حين تشرق الشمس ؛ أي : تضيء.
ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى.
وأما شروقها فطلوعها.
يقال : شرقت الشمس ولما تشرق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت أمر بهذه الآية ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل عليها يوم فتح مكة فدعا بوضوء فتوضأ.
وفي "البخاري" : واغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثماني ركعات.
وقال : "يا أم هانيء هذه صلاة الإشراق".
ومن هنا قال بعضهم : من دخل مكة وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله عليه السلام يوم فتح مكة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وقال بعضهم : صلاة الضحى غير صلاة الإشراق كما دل عليه قوله عليه السلام : "من صلى الفجر بجماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة".
وهي صلاة الإشراق كما في "شرح المصابيح" وقوله عليه السلام : "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال من الضحى".
والمعنى : أن صلاة الضحى تصلى إذا وجد الفصيل حرّ الشمس من الرمضاء ؛ أي : من الأرض التي اشتد حرها من شدة وقع الشمس عليها ، فإن الرمض : شدة وقع الشمس على الرمل وغيره والفصيل الذي يفصل ويفطم عن الرضاع من الإبل وخص الفصال هنا بالذكر ؛ لأنها التي ترمض لرقة جلد رجلها.
(8/8)
وفيه إشارة إلى مدحهم بصلاة الضحى في الوقت الموصوف ؛
12
لأن الحر إذا اشتد عند ارتفاع الشمس تميل النفوس إلى الاستراحة ، فيرد على قلوب الأوابين المستأنسين بذكر الله تعالى أن ينقطعوا عن كل مطلوب سواه.
يقول الفقير : يمكن التوفيق بين الروايتين بوجهين :
الأول : يحتمل أن يكون الإشراق من أشرق القول إذا دخلوا في الشروق ؛ أي : الطلوع ، فلا يدل على الضحى الذي هو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها.
والثاني : أن أول وقت صلاة الإشراق هو أن ترتفع الشمس قدر رمح وآخر وقتها هو أول وقت صلاة الضحى فصلاة الضحى في الغداة بإزاء صلاة العصر في العشي ، فلا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ويرتفع كدرها بالكلية وتشرق بنورها كما يصلى العصر إذا اصفرت الشمس.
فقوله عليه السلام : "هذه صلاة الإشراق" ، إما بمعنى : أنها إشراق بالنسبة إلى آخر وقتها ، وإما بمعنى : أنها ضحى باعتبار أول وقتها.
قال الشيخ عبد الرحمن البسطامي ـ ـ قدس سره ـ ـ في "ترويح القلوب" يصلي أربع ركعات بنية صلاة الإشراق فقد وردت السنة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الشمس وضحاها.
وفي الثانية : والليل إذا يغشى ، وفي الثالثة : والضحى.
وفي الرابعة : ألم نشرح لك.
ثم إذا حان وقت صلاة الضحى ، وهو إذا انتصف الوقت من صلاة الصبح إلى الظهر يصلي صلاة الضحى.
وأقلّ صلاة الضحى : ركعتان أو أربع ركعات أو أكثر إلى ثنتي عشرة ركعة ولم ينقل أزيد منها بثلاث تسليمات وإن شئت بست تسليمات ورد في فضلها أخبار كثيرة من صلاها ركعتين ، فقد أدى ما عليه من شكر الأعضاء لأن الصلاة عمل بجميع الأعضاء التي في البدن ، ومن صلاها ثنتي عشرة ركعة بني له قصر من ذهب في الجنة وللجنة باب يقال له : الضحى.
فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : أين الذين كانوا يدومون على صلاة الضحى هذا بابكم ، فادخلوه برحمة الله عزّ وجلّ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَالطَّيْرَ} : عطف على الجبال.
جمع طائر كركب وراكب ، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء.
{مَحْشُورَةً} : حال من الطير ، والعامل سخرنا ؛ أي : وسخرنا الطير حال كونها محشورة مجموعة إليه من كل جانب وناحية : وبالفارسية : (جمع كرده شد نزد وى وصف زده بالاى سروى).
وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها كما في "كشف الأسرار" عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت.
وذلك حشرها وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين ، بأن يقال : يحشرن ؛ لأن الحشر جملة أدل على القدرة منه متدرجاً كما يفهم من لفظ المضارع.
{كُلٌّ} ؛ أي : كل واحد من الجبال والطير {لَهُ} ؛ أي : لأجل داود لأجل تسبيحه ، فهو على حذف المضاف.
{أَوَّابٌ} : رجاع إلى التسبيح إذا سبح سبحت الجبال والطير معه : وبالفارسية : (بازكرداننده أواز خود باوى بتسبيح).
ووضع الأواب موضع المسبح ؛ لأنها كانت ترجح التسبيح والمرجع رجاع ؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعاً بعد رجوع.
والفرق بينه وبين ما قبله وهو يسبحن.
أن يسبحن يدل على الموافقة في التسبيح.
وهذا يدل على المداومة عليها.
وقيل : الضمير ؛ أي : كل من داود والجبال والطيرأواب ؛ أي : مسبح مرجع .
التسبيح والترجيع بالفارسية (نغمت كردانيدن) ـ روي ـ أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه ما أعطى داود من حسن الصوت ، فلما وصل إلى الجبال ألحان داود تحركت من لذة السماع فوافقته في الذكر والتسبيح ولما سمعت الطيور نغماته صفرت بصفير التنزيه والتقديس ولما
13
أصغت الوحوش إلى صوته ودنت منه حتى كانت تؤخذ بأعناقها فقبل الكل فيض المعرفة والحالة بحسب الاستعداد إلا ترى إلى الهدهد والبلبل والقمرى والحمامة ونحوها.
دانى جه كفت مرا آن بلبل سحرى
توخو دجه آدمى كزعشق بيخبرى
اشتر بشعر عرب در حالتست وطرب
كر ذوق نيست تراكز طبع جانورى
فالتأثر والحركة والبكاء ونحوها ليست من خواص الإنسان فقط بل إذا نظرت بنظر الحقيقة وجدتها في الحيوانات بل في الجمادات أيضاً لكونها أحياء بالحياة الحقيقية كما أشير إليه فيما سبق.
قال الكاشفي : (يكى أزاوليا سنكى راديدكه جون قطرات باران آب ازوميجكد ساعتى توقف كرد بتأمل دران نكريست سنك باوى بسخن در آمدكه اي ولى خدا جندين سالست كه خداى تعالى مرا آفريده وازبيم سياست اواشك حسرت ميريزم آن ولى مناجات كردكه خدايا اين سنك را ايمن كردان دعاى اوباجابت بيوسته مزده امان بدان سنك رسيد آن ولى بعذار مدتى ديكر باره هما نجا رسيد وآن سنك راديدكه ازنوبت أول بيشتر قطرها ميريخت فرمودكه اى سنك جون ايمن شدى اين كريه ازجيست جواب دادكه اول مى كريستم از خوف عقوبت وحالا ميكريم ازشادى امن وسلامت).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ازسنك كريه بين ومكو آن ترشحست
دركوه ناله بين ومبندار كان صداست
(8/9)
قال بعض كبار المكاشفين : سبحت الجبال وكذا الطير لتسبيح داود ليكون له عملها ، لأن تسبيحها لما كان لتسبيحه منتشأ منه لا جرم يكون ثوابه عائداً إليه لا إليها لعدم استحقاقها لذلك بخلاف الإنسان فإنه إذا وافقه إنسان آخر في ذكره وتسبيحه ، أو عمل بقوله يكون له مثل ثواب ذكره وتسبيحه لإحيائه وإيقاظه فهو صيده ، وأحق به ، وإنما كان يسبح الجبال والطير لتسبيحه ، لأنه لما قوي توجهه عليه السلام بروحه إلى معنى التسبيح والتحميد سرى ذلك إلى أعضائه وقواه ؛ فإنها مظاهر روحه ومنها إلى الجبال والطير فإنها صور أعضائه وقواه في الخارج ، فلا جرم يسبحن لتسبيحه وتعود فائدة تسبيحها إليه وخاصية العشي والإشراق أن فيهما زيادة ظهور أنوار قدرته وآثار بركة عظمته ، وأن وقت الضحى وقت صحو أهل السكر من خمار شهود المقامات المحمودة ، وأن العشي وقت إقبال المصلين إلى المناجاة وعرض الحاجات.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} : قوينا ملكه بالهيبة والنصرة ونحوهما.
قال الكاشفي : (ومحكم كرديم بادشاهى ويرا بدعاى مظلومان.
يابو زراى نصيحت كنندكان.
يابكوتاه كردن ظلم ازرعيت.
يابا لقاى رعب وى دردل اعادى.
يابيافتن زره وساختن آلات حرب ، يابه بسيارى لشكر.
يابكثرت باسبانان جه هرشب سى وششن هزار مردباس خانه وى ميداشتند).
وقيل : كان أربعون ألف لابسي درع يحرسونه ، فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله وكان نبينا عليه السلام يحرس أيضاً إلى نزول قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة : 67).
ومن ذلك أخذ السلاطين الحرس في السفر والحضر فلا يزالون يحرسونهم في الليالي ولهم أجر في ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ادعى رجل على رخر بقرة وعجز عن إقامة البينة فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : أن اقتل المدعى عليه فأعلم الرجل فقال : صدقت يا نبي الله ، إن الله لم يأخذني بهذا
14
الذنب.
ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله فقال الناس : إن أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه فقتله فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب.
والغيلة : بالكسر هو أن يخدع شخصاً فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ؛ أي : العلم بالأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه إن كان متعلقاً بكيفية العمل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
واعلم أن الحكمة نوعان :
أحدهما : الحكمة المنطوق بها وهي علم الشريعة والطريقة.
والثاني : الحكمة المسكوت عنها وهي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها عوام العلماء على ما ينبغي فيضرهم أو يهلكهم.
كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يجتاز في بعض سكك المدينة مع أصحابه فأقسمت عليه امرأة أن يدخلوا منزلها ، فدخلوا فرأوا ناراً موقدة وأولاد المرأة يلعبون حولها ، فقالت : يا نبي الله أرحم بعباده أم أنا بأولادي ، فقال عليه السلام : "بل الله أرحم فإنه أرحم الراحمين".
فقالت : يا رسول الله أتراني أحب أن ألقي ولدي في النار فقال : "لا".
فقالت : فكيف يلقي الله عبيده فيها ، وهو أرحم بهم.
قال الراوي : فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "هكذا أوحي إلي".
{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} : لبيان تلك الحكمة على الوجه المفهم كما في "شرح الفصوص" للمولى الجامي رحمه الله ، فيكون بمعنى الخطاب الفاصل ؛ أي : المميز والمبين ، أو الخطاب المفصول ؛ أي : الكلام الملخص الذي ينبه المخاطب على المرام من غير التباس.
وفي "شرح الجندي" : يعني الإفصاح بحقيقة الأمر وقطع القضايا والأحكام باليقين من غير ارتياب ، ولا شك ولا توقف ، فيكون بمعنى فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل ، فالفصل على حقيقته ، وأريد بالخطاب المخاصمة لاشتمالها عليه.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} : في الظاهر بأن جعلناه أشد ملوك الأرض في الباطن بأن {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
والحكمة : هي أنواع المعارف من المواهب وفصل الخطاب بيان تلك المعارف بأدل دليل وأقل قليل.
انتهى.
وإنما سمي به.
أما بعد ، لأنه يفصل المقصود عما سبق تمهيداً له من الحمد والصلاة.
وقال زياد : أول من قال في كلامه أما بعد داود عليه السلام ، فهو فصل الخطاب ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته.
وأما بعد لفظة عربية وفصل الخطاب الذي أوتيه داود هو فصل الخصومة كما في "إنسان العيون".
اللهم إلا أن يقال إن صح هذا القول لم يكن ذلك بالعربية على هذا النظم وإنما كان بلسانه عليه السلام.
وقال عليّ ـ ـ رضي الله عنه ـ ـ : فصل الخطاب أن يطلب البينة من المدعي ويكلف اليمين من أنكر ، لأن كلام الخصوم لا ينقطع ولا ينفصل إلا بهذا الحكم.
(8/10)
قالوا : كان قبل ذلك قد علق الله سلسلة من السماء وأمره بأن يقضي بها بين الناس ، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة وتصل يده إليها.
ومن كان ظالماً لا يقدر على أخذ السلسلة ثم قال المدعى عليه : خذ مني العصا ، فأخذ عصاه فقال : إني دفعت اللؤلؤ إليه وإني صادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة ، فاتفق أن رجلاً غصب من رجل آخر لؤلؤاً فجعل اللؤلؤ في جوف عصاه ، ثم خاصم المدعي إلى داودعليه السلام ، فقال : إن هذا قد أخذ لؤلؤاً وإني صادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك ورفعت السلسلة وأمر عليه السلام بأن يقضي بالبينات والإيمان فذلك قوله : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، يعني : العلم والفهم وفصل الخطاب يعني القضاء بالبينات والإيمان على الطالبين والمدعى عليهم كذا في "تفسير الإمام أبي الليث" رحمه الله.
وكان
15
الحكم في شرعنا أيضاً بذلك ؛ لأنه أسدّ الطرق وأحسن الوسائل في كل مسألة من المسائل لكل سائل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَـاذَآ أَخِى لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} .
{وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ} : استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه للإيذان بأنه من الأخبار البديعة التي حقها أن لا تخفى على أحد.
والنبأ : الخبر العظيم والخصم بمعنى المخاصم وأصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم ؛ أي : جانبه ولما كان الخصم في الأصل مصدراً متساوياً أفراده وجمعه ، أطلق على الجمع في قوله تعالى : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} .
يقال : تسور المكان إذا علا سوره وسور المدينة حائطها المشتمل عليها.
وقد يطلق على حائط مرتفع وهو المراد هنا.
والمراد من المحراب البيت الذي كان داود عليه السلام يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه.
قيل : كان ذلك البيت غرفة وسمي ذلك البيت محراباً لاشتماله على المحراب على طريقة تسمية الشيء بأشرف أجزائه وإذ متعلقة بمحذوف ، وهو التحاكم ؛ أي : نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا المحراب ؛ أي : تصعدوا سور الغرفة ونزلوا إليه.
والمراد بالخصم المتسورين : جبرائيل وميكائيل بمن معهما من الملائكة على صورة المدعي والمدعى عليه ، والشهود والمزكين من بني آدم.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ} : بدل مما قبله.
{فَفَزِعَ مِنْهُمْ} : الفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ، ولا يقال : فزعت من الله كما يقال خفت منه وإنما فزع منهم ، لأنه كان الباب مغلقاً وهو يتعبد في البيت فنزلوا عليه بغتة من فوق ؛ أي : من غير الباب على خلاف العادة.
وفيه إشارة إلى كمال ضعف البشرية مع أنه كان أقوى إذ فزع منهم ، ولعل فزع داود كان لاطلاع روحه على أنه تنبيه له وعتاب فيما سلف منه كما سيأتي فلما رأوه فزعاً {قَالُوا} : إزالة لفزعه {لا تَخَفْ} منا.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه لا تخف من صورة أحوالنا ، فإنا جئنا لتحكم بيننا بالحق ولكن خف من حقيقة أحوالنا ، فإنها كشف أحوالك التي جرت بينك وبين خصمك أوريا {خَصْمَانِ} ؛ أي : نحن فريقان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصماً تجوزاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
والحاصل أنه أطلق لفظ الخصم فيما سبق على الجمع بدليل تسوروا ثم ثنى بتأويل الفريق ، وهم وإن لم يكونوا فريقين بل شخصين اثنين بدليل {إِنَّ هَـاذَآ أَخِى} الآية لكن جعل مصاحب الخصم خصماً فكانا بمن معهما فريقين من الخصوم ، فحصل الانطباق بين صيغة التثنية في قوله خصمان وبين ما مر من إرادة الجمع.
{بَغَى} : (ستم وجور كرد).
{بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} : هو على الفرض وقصد التعريض بداود لا على تحقيق البغي من أحدهما ، فلا يلزم الكذب إذ الملائكة منزهون عنه ، فلا يحتاج إلى ما قيل أن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة ، فلما رآهما اخترعا الدعوى كما في "شرح المقاصد".
{فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} : بالعدل : وبالفارسية : (بس حكم كن درميان ما براستى).
{وَلا تُشْطِطْ} : (الإشطاط : بيدا كردن واز حد در كذشتن) من الشطط وهو مجاوزة الحد وتخطي الحق.
والمعنى : لا تجر في الحكومة وهو تأكيد للأمر بالحكم بالحق والمقصود من الأمر والنهي والاستعطاف.
{وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} إلى وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل.
{إِنَّ هَـاذَآ} : استئناف لبيان ما فيه الخصومة {أَخِى} في الدين أو في الصحبة
16
والتعرض لذلك تمهيد لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه.
(8/11)
{لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ} : فرأ حفص بن عاصم ولي بفتح الياء والباقون بإسكانها على الأصل.
{نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} : النعجة هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة والكناية والتعريض أبلغ في المقصود وهو : التوبيخ فإن حصول العلم بالمعرض به يحتاج إلى تأمل فإذا تأمله واتضح قبحه كان ذلك أوقع في نفسه وأجلب لخجالته وحيائه.
{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} : أي ملكنيها وحقيقته : اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي.
والكافل : هو الذي يعولها وينفق عليها.
{وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} ؛ أي : غلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان أعز مني وأقوى على مخاطبتي ؛ لأنه كان الملك ، فالمعنى : كان أقدر على الخطاب لعزة ملكه كما في "الوسيط".
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{قَالَ} : داود بعد اعتراف المدعى عليه أو على تقدير صدق المدعي وإلا فالمسارعة إلى تصديق أحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر لا وجه له في الحديث : "إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر".
{لَقَدْ ظَلَمَكَ} : جواب قسم محذوف قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه وتهجن طعمه في نعجة من ليس له غيرها مع أن له قطيعاً منها.
{بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} : السؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والضم كأنه قيل بضم نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب.
وفي هذا إشارة إلى أن الظلم في الحقيقة من شيم النفوس ، فإن وجدت ذا عفة ، فالعلة كما قال يوسف : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى} (يوسف : 53) الآية.
فالنفوس جبلت على الظلم والبغي وسائر الصفات الذميمة ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام كذا ، في "التأويلات النجمية".
يقول الفقير : هذا بالنسبة إلى أصل النفوس وحقيقتها وإلا فنفوس الأنبياء مطمئنة لا أمارة إذ لم يظهر فيهم إلا آثار المطمئنة وهي أول مراتب سلوكهم.
وقد إشار الشيخ إلى الجواب بقوله ، فإن وجدت الخ.
فاعرف ذلك ، فإنه من مزالق الأقدام وقد سبق التحقيق فيه في سورة "يوسف".
ثم قال داود عليه السلام حملاً للنعجة على حقيقتها لا على كونها مستعارة للمرأة.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ} ؛ أي : الشركاء الذين خلطوا أموالهم.
جمع : خليط ، كظريف.
والخلطة : الشركة ، وقد غلبت في الماشية.
{لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ؛ أي : ليتعدى غير مراعي لحق الصحبة والشركة : يعني : (ازحق خودزياده مى طلبند).
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} : منهم فإنهم يجتنبون عن البغي والعدوان.
{وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} : وهم قليل فهم : مبتدأ وقليل خبره.
قدم عليه للاهتمام به وإنما أفرد تشبيهاً بفعيل بمعنى مفعول وما مزيدة لتأكيد القلة أو للإبهام ، أو التعجب من قلة الموصوفين بالإيمان وصالح العمل.
{وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ} : الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة.
يعني : أن الظن الغالب لما كان يقارب العلم استعير له فالظن يقين لكنه ليس بيقين عيان ، فلا يقال فيه إلا العلم.
وما في إنما كافة.
والمعنى : وعلم داود بما جرى في مجلس الحكومة أنما فعلنا به الفتنة والامتحان لا غير ، بتوجيه الحصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الأفعال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} : إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب كما استغفر آدم عليه السلام بقوله ربنا ظلمنا أنفسنا إلخ وموسى عليه السلام بقوله : تبت إليك وغيرهما من الأنبياء
17
الكرام على ما بين في موضعه.
{وَخَرَّ} : سقط حال كونه {رَاكِعًا} ؛ أي : ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدأه ؛ لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع وفي كل من الركوع والسجود التحني والخضوع.
وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود أو خرّ للسجود راكعاً ؛ أي : مصلياً إطلاقاً للجزء ، وإرادة الكل كأنه أحرم بركعتي الاستغفار والدليل على الأول ؛ أي : على الركوع هاهنا بمعنى السجود ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام كان يقول في سجدة {} وسجدة الشكر : "اللهم اكتب لي عندك بها أجراً ، واجعلها لي عندك ذخراً وضع عني بها وزراً ، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود سجدته".
{وَأَنَابَ} ؛ أي : رجوع إلى الله بالتوبة من جميع المخالفات التي هي الزلات وما كان من قبيل ترك الأولى والأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام سجد في {} وقال : "سجدها داود توبة ونسجدها شكراً".
وهذه السجدة من عزائم السجود عند أبي حنيفة ومالك رحمهما الله وكل منهما على أصله ، فأبو حنيفة يقول : هي واجبة.
ومالك : هي فضيلة عند الشافعي وأحمد سجدة شكر تستحب في غير الصلاة فلو سجد بها في الصلاة بطلت عندهما كما في فتح الرحمن.
(8/12)
وقال الكاشفي : (اين سجده نزد امام اعظم سجدة عزيمت است وميكويد بتلاوت وى سجده بايد كرد در نماز وغير غاز ونزد امام شافعي از عزائم نيست واز امام احمد درين سجده دو روايتست واين سجده دهم است بقول امام اعظم.
ودر فتوحات مكيه اين را سجده انابت كفته وفر موده كه).
يقال لها : سجدة الشكر في حضرة الأنوار ؛ لأن داود سجدها شكراً.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَا * فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَا وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ * يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ} ؛ أي : ما استغفر منه ، وكان ذلك في شهر ذي الحجة كما في "بحر العلوم" ، وروي ، أنه عليه السلام بقي في سجوده أربعين يوماً وليلة لا يرفع رأسه لصلاة مكتوبة أو لما لا بدّ منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت منه العشب حول رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمع وجهد نفسه راغباً إلى الله في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له : إيشا على ملكه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما نزلت توبته بعد الأربعين وغفر له حاربه فهزمه.
وقد قال نبينا عليه السلام : "إذا بويع لخليفتين" ؛ أي : لأحدهما أولاً وللآخر بعده : "فاقتلوا الآخر منهما" ، لأنه كالباغي هذا إذا لم يندفع إلا بقتله.
{وَإِنَّ لَهُ} ؛ أي : داود {عِندَنَا لَزُلْفَى} : لقربة وكرامة بعد المنفرة كما وقع لآدم عليه السلام.
والزلفى : القربة والإزلاف : التقريب.
والازدلاف : الاقتراب ومنه سميت المزدلفة لقربها من الموقف.
وعن مالك بن دينار في قوله : {وَإِنَّ لَهُ} إلخ.
يقول الله تعالى لداود عليه السلام وهو قائم بساق العرش يا داود مجدني بذلك الصوت الرخيم اللين ، فيقول : كيف وقد سلبتنيه في الدنيا فيقول : إني أرده عليك فيرفع داود صوته بالزبور ، فيستفرغ نعيم أهل الجنة كما في "الوسيط".
{وَحُسْنَ مَـاَابٍ} : حسن مرجع في الجنة.
وفي "كشف الأسرار" : هو الجنة يعني الجنة هي مآب الأنبياء والأولياء.
وأصل هذه القصة†
أن داود عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له : أوريا بن حنانا ، ويقال لها : بنشاوع أو بنشاويع بنت شايع ، فمال قلبه إليها وابتلي بعشقها وحبها من غير اختيار منه كما ابتلي نبينا عليه السلام بزينب رضي الله عنها لما رآها يوماً حتى قال : يا مقلب القلوب فسأله داود أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم
18
سليمان عليه السلام ، وكان ذلك جائزاً في شريعته معتاداً فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته خلا أنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته ، وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ، ويسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها ، فيتزوجها مع كثرة نسائه ، بل كان يجب عليه أن يصبر على ما امتحن به ، كما صبر نبينا عليه السلام حتى كان طالب الطلاق هو زوج زينب ، وهو المذكور في سورة الأحزاب لا هو عليه السلام ؛ أي : لم يكن هو عليه السلام طالت الطلاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال البقلي : عشق داود عليه السلام لعروس من عرائس الحق حين تجلى الحق منها له ؛ فإنه كان عاشق الحق فسلاه بواسطة من وسائطه.
وهذه القصة تسلية لقلب نبينا عليه الصلاة السلام ، حيث أوقع الله في قلبه محبة زينب ، فضاق صدره ، فقال سبحانه : {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} (الإسراء : 77) ، وفرح بذلك وزاد له محبة الله والشوق إلى لقائه.
(8/13)
قال أبو سعيد الخراز ـ ـ قدس سره ـ ـ زلات الأنبياء في الظاهر زلات وفي الحقيقة كرامات وزلفى ألا تَرى إلى قصة داود حين أحس بأوائل أمره كيف استغفر وتضرع ورجع ، فكان له بذلك عنده زلفى وحسن مآب صدق أبو سعيد فيما قال ؛ لأن بلاء الأنبياء والأولياء لا ينقص اصطفائيتهم بل يزيدهم شرفاً على شرفهم ، وذلك لأن مقام الخلافة مظهر الجمال والجلال ، فيتحقق تجليات الجلال بالافتتان والابتلاء.
وفي ذلك ترق له كما قال في "التأويلات النجمية" : إن من شأن النبي والولي أن يحكم كل واحد منهم بين الخصوم بالحق كما ورد الشرع به بتوفيق الله وأن الواجب عليهم أن يحكموا على أنفسهم بالحق كما يحكمون على غيرهم كما قال تعالى : {كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (النساء : 135).
فلما تنبه داود أنه ما حكم على نفسه بالحق كما حكم على غيره استغفر ورجع إلى ربه متضرعاً خاشعاً باكياً بقية العمر معتذراً عما جرى عليه ، فتقبل الله منه ورحم عليه وعفا عنه كما قال : {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَا وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى} ؛ أي : لقربة بكل تضرع وخضوع وخشوع وبكاء وأنين وحنين وتأوه صدر منه لهذه المراجعات {وَحُسْنَ مَـاَابٍ} عندنا.
انتهى.
وفي الحديث : "أوحى الله تعالى إلى داود يا داود قل للعاصين أن يسمعوني ضجيج أصواتهم ، فإني أحب أن أسمع ضجيج العاصين إذا تابوا إليّ يا داود ، لن يتضرع المتضرعون إلى من هو أكرم مني ولا يسأل السائلون أعظم مني جوداً ، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني ومستجيب له ، قبل أن يدعوني وغافر له قبل أن يستغفرني".
وقد أنكر القاضي عياض ما نقله المؤرخون والمفسرون في هذه القصة ، وهي قولهم فيها.
ونقل عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : أنهما قالا ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ونبه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا.
قال : وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره ـ وحكى ـ بعضهم أن أوريا كان خطب تلك المرأة : يعني (أوريا آن زن را خطبه كره بود أورا بخواسته واز قوم وي أجابت يافته ودل بروى نهاده "فأما عقد نكاح" هنوز نرفته بود "فلما غاب أوريا" يعني بغزا رفت).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وكان من غزاة البلقاء ثم خطبها داود فزوجت منه لجلال قدره ، فاغتم لذلك أوريا ، فعاتبه الله على ذلك ، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المسلم مع عدم احتياجه ؛ لأنه
19
كانت تحت نكاحه وقتئذٍ تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأوريا غير من خطبها.
يقول الفقير : دلّ نظم القرآن على الرواية فقوله : {أَكْفِلْنِيهَا} دلّ على أنها كانت تحت نكاح أوريا.
وأيضاً دل لفظ : {الْخَصْمِ} على أن أوريا بصدد الخصام ، ولا يكون بهذا الصدد إلا بكونها تحت نكاحه مطلوبة منه بغير حسن رضاه وصفاء قلبه ومجرد جواز استنزال الرجل عن امرأته في شريعتهم لا يستلزم جواز الجبر ، فلما طلقها أوريا استحياء من داود بقيت الخصومة بينه وبين داود إذ كان كالجبر كما دلّ : {وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} ، فكان السائل العزيز الغالب فهاتان الروايتان أصح ما ينقل في هذه القصة ، فإنهم وإن أكثروا القول فيها لكن الأنبياء منزهون عما يشين بكمالهم أو لا يزين بجمالهم خصوصاً عما يقوله القصاص من حديث قتل أوريا وسببية داود في ذلك بتزوج امرأته.
ولذلك قال علي ـ ـ رضي الله عنه ـ ـ : من حدّث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين ، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي "الفتوحات المكية" في الباب السابع والخمسين بعد المائة : ينبغي للواعظ أن يراغب الله في وعظه ويجتنب عن كل ما فيه تجر على انتهاك الحرمات مما ذكره المؤرخون عن اليهود من ذكر زلات الأنبياء كداود ويوسف عليهما السلام مع كون الحق أثنى عليهم واصطفاهم ، ثم الداهية العظمى أن يجعل ذلك في تفسير القرآن.
ويقول : قال المفسرون : كذا وكذا مع كون ذلك كله تأويلات فاسدة بأسانيد واهية عن قوم غضب الله عليهم ، وقالوا في الله ما قصه الله علينا في كتابه ، وكل واعظ ذكر ذلك في مجلسه مقته الله وملائكته لكونه ذكر لمن في قلبه مرض من العصاة حجة يحتجّ بها.
ويقول : إذا كان مثل الأنبياء في مثل ذلك ، فأي شيء أنا فعلم أن الواجب على الواعظ ذكر الله وما فيه تعظيمه وتعظيم رسله وعلماء أمته وترغيب الناس في الجنة وتحذيرهم من النار وأهوال الموقف بين يدي الله تعالى ، فيكون مجلسه كله رحمة.
انتهى كلام "الفتوحات" على صاحبه أعلى التجليات.
(8/14)
قال الشيخ الشعراني قدس سره في "الكبريت الأحمر" : وكذلك لا ينبغي له أن يحقق المناط في نحو قوله تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران : 159).
ولا نحو قوله : {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخِرَةَ} (آل عمران : 152).
وقوله : {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآاـاِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} (المائدة : 13).
فإن العامة إذا سمعوا مثل ذلك استهانوا بالصحابة ثم احتجوا بأفعالهم.
انتهى كلامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله : يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين رضي الله عنه وحكاية ما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم ، فإنه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين ، وما وقع بينهم من المنازعات ، فيحمل على محامل صحيحة ، فلعل ذلك الخطأ في الاجتهاد لا لطلب الرياسة أو الدنيا ، كما لا يخفى.
انتهى.
والحاصل : أن معاصي الخواص ليست كمعاصي غيرهم بأن يقعوا فيها بحكم الشهوة الطبيعية ، وإنما تكون معاصيهم بالخطأ في التأويل ، فإذا أظهر الله لهم فساد ذلك التأويل الذي أداهم إلى ذلك الفعل حكموا على أنفسهم بالعصيان ، وتابوا ورجعوا إلى حكم العزيز المنان.
{يادَاوُادُ} ؛ أي : فغفرنا له ذلك وقلنا له : يا داود {إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ} .
الخلافة : النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته ، وإما لعجزه ، وإما لتشريف المستخلف وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض إذ الوجوه الأول محال في حق
20
الله تعالى فالخليفة عبارة عن الملك النافذ الحكم ، وهو من كان طريقته وحكومته على طريقة النبي وحكومته والسلطان أعم ، والخلافة في خصوص مرتبة الإمامة أيضاً أعمّ.
والمعنى : استخلفناك على الملك في الأرض والحكم فيما بين أهلها ؛ أي : جعلناك أهل تصرف نافذ الحكم في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها.
وكان النبوة قبل داود في سبطه والملك في سبط آخر فأعطاهما تعالى داود عليه السلام ، فكان يدبر أمر العباد بأمره تعالى.
وفي دليل بيّن على أن حاله عليه السلام بعد التوبة كما كان قبلها لم يتغير قط ، بل زادت اصطفائيته كما قال في حق آدم عليه السلام : {ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 122).
قال بعض كبراء المكاشفين : ثم المكانة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله بها التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه وهم الأنبياء وإن كان فيهم خلفاء.
فإن قلت : آدم عليه السلام قد نص الله على خلافته ، فليس داود مخصوصاً بالتنصيص على خلافته.
قلنا : ما نص على خلافة آدم مثل التنصيص على خلافة داود وإنما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة فيحتمل أن يكون الخليفة الذي أراده الله غير آدم بأن يكون بعض أولاده ، ولو قال أيضاً : إني جاعل آدم لم يكن مثل قوله : إنا جعلناك خليفة بضمير الخطاب في حق داود ، فإن هذا محقق ليس فيه احتمال غير المقصود.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال بعضهم : تجبرت الملائكة على آدم ، فجعله الله خليفة وتجبر طالوت على داود فجعله خليفة وتجبرت الأنصار على أبي بكر رضي الله عنه ، فجعله خليفة ، فلذا جعل الله الخلفاء ثلاثة : آدم وداود وأبا بكر.
وكان مدة ملك داود أربعين سنة مما وهبه الخليفة الأول من عمره ، فإن آدم وهب لداود من عمره ستين سنة ، فلذا كان خليفة في الأرض كما كان آدم خليفة فيها.
وفي الآية إشارة إلى معان مختلفة :
منها : أن الخلافة الحقيقية ليست بمكتسبة للإنسان وإنما هي عطاء وفضل من الله يؤتيه من يشاء كما قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً} ؛ أي : أعطيناك الخلافة.
ومنها : أن استعداد الخلافة مخصوص بالإنسان كما قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائفَ الأرْضِ} (الأنعام : 165).
ومنها : أن الإنسان وإن خلق مستعداً للخلافة ، ولكن بالقوة فلا يبلغ درجاتها بالفعل إلا الشواذ منهم.
ومنها : أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى ، كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة ولهذا لما أخبر الله تعالى عن صورة آدم عليه السلام قال : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} (ص : 71).
ولما أخبر عن معناه قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30).
ومنها : أن الروح الإنساني هو الفيض الأول ، وهو أول شيء تعلق به أمركن ولهذا نسبه إلى أمره ، فقال تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) ، فلما كان الروح هو الفيض الأول كان خليفة الله.(8/15)
ومنها : أن الروح الإنساني خليفة الله بذاته وصفاته إما بذاته ، فلأنه كان له وجود من وجود وجوده بلا واسطة ، فوجوده كان خليفة وجود الله.
وإما بصفاته ، فلأنه كان له صفات من صفات الله بلا واسطة ، فكل وجود وصفات تكون بعد وجود الخليفة يكون خليفة ، خليفة الله بالذات والصفات وهلم جراً إلى أن يكون القالب الإنساني هو أسفل سافلين الموجودات وآخر شيء لقبول الفيض الإلهي ، وأقل حظ من الخلافة ، فلما أراد الله أن يجعل الإنسان خليفة خليفته في الأرض خلق لخليفة روحه منزلاً صالحاً لنزول الخليفة فيه ، وهو قالبه وأعدّ له عرشاً فيه ليكون محل استوائه عليه ، وهو القلب ونصب له خادماً وهو النفس ، فلو بقي الإنسان على
21
فطرة الله التي فطر الناس عليها يكون روحه مستفيضاً من الحق تعالى فائضاً بخلافة الحق تعالى على عرش القلب والقلب فائض بخلافة الروح على خادم النفس والنفس فائضة بخلافة القلب على القالب والقالب فائض بخلافة النفس على الدنيا ، وهي أرض الله فيكون الروح بهذه الأسباب والآلات خليفة الله في أرضه بحكمه وأمره بتواقيع الشرائع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ومنها : أن من خصوصية الخلافة الحكم بين الناس بالحق والإعراض عن الهوى بترك متابعته كما أن من خصوصية أكل الحلال العمل الصالح قال تعالى : {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا} (المؤمنون : 51).
ومنها : أن الله تعالى جعل داود الروح خليفة في أرض الإنسانية وجعل القلب والسر والنفس والقالب والحواس والقوى والأخلاق والجوارح والأعضاء كلها رعية له ثم على قضية كلكم راععٍ وكلكم مسؤول عن رعيته أمر بأن يحكم بين رعيته بالحق ؛ أي : بأمر الحق لا بأمر الهوى ، كما قال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ؛ أي : بحكم الله تعالى ، فإن الخلافة مقتضية له حتماً وحكم الله بين خلقه هو العدل المحض وبه يكون الحاكم عادلاً لا جائراً.
والحكم لغة : الفصل وشرعاً : أمر ونهي يتضمنه إلزاماً.
{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ؛ أي : ما تهواه النفس وتشتهيه في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا : وبالفارسية : (وبيروى مكن هواى نفس را وآرزوهاي أورا).
قال بعضهم : وهو يؤيد ما قيل أن ذنب داود الهم الذي هم به حين نظر إلى امرأة أوريا ، وهو أن يجعلها تحت نكاحه أو ما قيل : أن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته : {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بالنصب على أنه جواب النهي ؛ أي : فيكون الهوى أو اتباعه سبباً لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق تكويناً وتشريعاً.
قال بعض الكبار : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ؛ أي : ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني ، {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : عن الطريق الذي أوحى بها إلى رسلي.
انتهى.
فإن قلت : كيف يكون متابعة الهوى سبباً للضلال.
قلت : لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية فيشغل عن طلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات فمن ضلّ عن سبيل الله الذي هو اتباع الدلائل المنصوبة على الحق أو اتباع الحق في الأمور وقع في سبيل الشيطان ، بل في حفرة النيران والحرمات.
{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} : تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار في سبيل الله في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا} ؛ أي : بسبب نسيانهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{يَوْمِ الْحِسَابِ} : مفعول لنسوا.
ولما كان الضلال عن سبيل الله مستلزماً لنسيان يوم الحساب كان كل منهما سبباً وعلة لثبوت العذاب الشديد تأدب سبحانه وتعالى مع داود ، حيث لم يسند الضلال إليه ؛ بأن يقول : فلئن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد لما هو مقتضى الظاهر بل أسنده إلى الجماعة الغائبين الذين داود عليه السلام واحد منهم.
واعلم أن الله تعالى خلق الهوى الباطل على صفة الضلالة مخالفاً للحق تعالى ؛ فإن من صفته الهداية والحكمة في خليفته يكون هادياً إلى الحضرة بضدية طبعه ومخالفة أمره كما أن الحق تعالى كان هادياً إلى حضرته بنور ذاته وموافقة أمره ليسير السائر إلى الله على قدمي موافقته أمر الله ومخالفته هواه.
ولهذا قال المشائخ : لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله تعالى ، وأعظم جنايات العبد وأقبح
22
خطاياه متابعة الهوى كما قال عليه السلام : "ما عبد إله في الأرض أبغض على الله من الهوى".
(8/16)
وفي الحديث : "ثلاث مهلكات : شحّ مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه".
وللهوى كمالية في الإضلال لا توجد في غيره ذلك لأنه يحتمل أن يتصرف في الأنبياء عليهم السلام بإضلالهم عن سبيل الله كما قال لداود عليه السلام : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} .
وبقوله : {إِنَّ الَّذِينَ} إلخ : يشير إلى أن الضلال الكبير هو : الانقطاع عن طلب الحق ومن ضل عن طريق الحق أخذ بعذاب شديد القطيعة والحرمان من القرب وجوار الحق وذلك بما نسوا يوم الحساب ، وهو يوم يجازى فيه كل محق بقدر هدايته وكل مبطل بحسب ضلالته كما في "التأويلات النجمية".
وفي الآية دليل على وجوب الحكم بالحق وأن لا يميل الحاكم إلى أحد الخصمين بشيء من الأشياء.
وفي الحديث ، أنه عليه السلام قال لعلي : "يا علي احكم بالحق فإن لكل حكم جائر سبعين درعاً من النار لو أن درعاً واحداً وضع على رأس جبل شاهق لأصبح الجبل رماداً".
(درفوائد السلوك آورده كه بنكركه بادشاهى جه صعب كاريست كه حضرت داود عليه السلام با كمال درجه نبوت وجلال مرتبه رسالت بحمل اعباى جنين أمري مأمور وبخطب اثقال جنين خطابي مخاطب مي شودكه {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ميان مردمان بطريق معدلت ونصفت كن وداورى برمنهج عدل وإنصاف نماي وباي برجاي حق نه بر طريق باطل ومتابعت هواي نفس برمتابعت مراد حق اختيار مكن كه تراز مسالك مراضى ما كمراه كردند : ودر سلسلة الذهب ميفرمايد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
نص قرآن شنوكه حق فرمود
در مقام خطاب يا داود
كه ترازان حليفكى داديم
سوى خلقان ازان فرستاديم
تادهى ملك را زعدل اساس
حكم راني بعدل بين الناس
هركرا نه زعدل دستورست
از مقام خليفكي دورست
آنكه كيرد ستم زديو سبق
عدل جون خواندش خليفة حق
بيشه كرده خلاف فرمان را
كشته نائب مناب شيطان را
حق زشاهان بغير عدل نخواست
آسمان وزمين بعدل بباست
شاه باشد شبان خلق همه
رمه وكرك آن رمه زكرك امان
بهر آنست هاي هوى شبان
تابيايد رمه زكرك امان
جون شبان سازكار كرك بود
رمه را آفت بزرك بود
هركرا دل بعدل شد مائل
طمع از مال خلق كوبكسل
طمع وعدل آتش وآبند
هردو يكجا قرار كي يابند
هركرا از خليفكي خداي
نشود سير نفس بد فرماي
سيرمشكل شود ازان زروسيم
كه كشدكه زبيوه كه زيتيم
ومن الله التوفيق للعدل في الأنفس والآفاق وإجراء أحكام الشريعة وآداب الطريقة على الإطلاق إنه المحسن الخلاق.
{يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} : من المخلوقات {بَـاطِلا}
23
؛ أي : خلقاً باطلاً لا حكمة فيه ، بل ليكون مدار للعلم والعمل ومذكراً للآخرة وما فيها من الحساب والجزاء ؛ فإن الدنيا لا تخلو عن الصفو والكدر وكل منهما يفصح عما في الآخرة من الراحة والخطر.
وأيضاف ليكون مرآة يشاهد فيها المؤمنون الذين ينظرون بنور الله شواهد صفات الجمال والجلال.
جهان مرآت حسن شاهدماست
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فشاهد وجهه في كل ذرات
{ذَالِكَ} ؛ أي : كونه خلقاً باطلاً خالياً عن الغاية الجليلة والحكمة الباهرة.
{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : مظنون كفار مكة فإنهم وإن كانوا مقرين بأن الله هو الخالق لكن لما اعتقدوا بأن الجزاء الذي هو علة خلق العالم باطل لزمهم أن يظنوا أن المعلول باطل ويعتقدوا ذلك.
{فَوَيْلُُ} ؛ أي : فإذا كان مظنونهم هذا فالهلال كل الهلاك ؛ أي : فشدة هلاك حاصل : وبالفارسية : (بس واي).
{لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} : خبر لويل.
{مِنَ النَّارِ} : من تعليلية مفيدة لعلية النار لثبوت الويل لهم صريحاً بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم ؛ أي : فويل لهم بسبب النار المرتبة على ظنهم وكفرهم فلابدّ من رؤية الحق والباطل باطلاً وتدارك زاد اليوم ؛ أي : يوم الجزاء ظاهراً وباطناً ليحصل الخلاص والنجاة والنعيم واللذات في أعلى الدرجات.
(8/17)
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} : أم منقطعة بمعنى بل.
و(الهمزة) الإنكارية ؛ أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين في الأرض {كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأرْضِ} بالكفر والمعاصي ؛ أي : لا نجعلهم سواء ، فلو بطل البعث والجزاء كما يظن الكفار لاستوت عند الله حال من أصلح ومن أفسد ومن سوى بينهما ، كان سفيهاً والله تعالى منزه عن السفه ، فإنما بالإيمان والعمل الصالح يرفع المؤمنين إلى أعلى عليين ويرد الكافرين إلى أسفل سافلين.
{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ؛ أي : كما لا نجعل أهل الإيمان والعمل الصالح الذين هم مظاهر صفات لطفنا وجمالنا كالمفسدين الذين هم مظاهر صفات قهرنا وجلالنا كذلك لا نجعل أهل التقوى ، كالفجار.
والفجر : شق الشيء شقاً واسعاً.
والفجور : شق سر الديانة.
أنكر التسوية أولاً بين أهل الإيمان والشرك ، ثم بين أهل التقوى والهوى يعني من المؤمنين ، وهو المناسب لمقام التهديد والوعيد كي يخاف من الله تعالى كل صنف بحسب مرتبته.
ويجوز أن يكون تكرير الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم.
وروي : أن كفار قريش قالوا للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون بل أكثر فقال تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ} إلخ.
وإنما قالوا ذلك على تقدير وقوع الآخرة كما سبق من قوله تعالى : {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ : 35).
وسيجيء في قوله تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم : 35) ؛ أي : في ثواب الآخرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
واعلم أن الله تعالى سوى بين الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا بل الكفار أوفر حظاً من المؤمنين ؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، لكن الله جعل الدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ، وهم المؤمنون المخلصون المنقادونولأمره ، وإنما لم يجازهم في هذه الدار لسعة رحمته وضيق هذه الدار ، فلذا أخر الجزاء إلى الدار الآخرة ، فإذا ترقى الإنسان من الهوى إلى الهدى ومن الفجور إلى التقوى أخذ الأجر بالكيل الأوفى.
ثم لما كان القرآن منبع جميع السعادات والخيرات وصفه
24
أولاً ثم بين المصلحة فيه فقال : {كِتَـابٌ} : خبر مبتدأ محذوف وهو عبارة عن القرآن ؛ أي : هذا كتاب {أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ} : صفته {مُبَـارَكٌ} : خبر ثان للمبتدأ ؛ أي : كثير المنفعة دنيا وديناً لمن آمن به وعمل بأحكامه وحقائقه وإشاراته ، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء والمبارك ما فيه ذلك الخير {لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ} : متعلق بأنزلنا وأصله : يتدبروا فأدغمت التاء في الدال ؛ أي : أنزلناه ليتفكروا في آياته بالفكر السليم فيعرفوا ما يتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة ؛ أي : ليتفكروا في معانيها فإن التدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور والتفكر : تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.
{وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} ؛ أي : وليتعظ به أصحاب العقول الخالصة عن شوب الوهم ، عمم التدبر لعموم العلماء وخص التذكر بخصوص العقلاء ؛ لأن التدبر للفهم والتذكر لوقوع الإجلال والخشية الخاص بأكابر أهل العلم.
قال بعضهم : التفكر عند فقدان المطلوب لاحتجاب القلب بالصفات النفسانية.
وأما التذكر فهو عند رفع الحجاب والرجوع إلى الفطرة الأولى ، فيتذكر ما انطبع في النفس في الأزل من التوحيد والمعارف انتهى.
فعلم أن المقصود من كلام الحق التفكر والتذكر والاتعاظ به لا حفظ الألفاظ فقط.
قال الشبلي قدس سره : قرأت أربعة آلاف حديث ثم اخترت منها حديثاً واحداً ، وكان علم الأولين والآخرين مندرجاً فيه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لبعض أصحابه : "اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها واعملبقدر حاجتك إليه واعمل للنار بقدر صبرك عليها".
وكان الصحابة يكتفون ببعض السور القرآنية ويشتغلون بالعمل بها ؛ فإن المقصود من القرآن العمل به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
روي أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام وقال : علمني مما علمك الله ، فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن ، فعلمه : {إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ} (الزلزلة : 1)حتى بلغ {فَمَن يَعْمَلْ} (الزلزلة : 7) إلخ.
قال : حسبي ، فأخبر النبي عليه السلام بذلك فقال : "دعوه فقد فقه الرجل".
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : مررت بحجر مكتوب عليه : قلبني ينفعك ، فقلبته ، فإذا مكتوب عليه : أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب ما لم تعلم.
(8/18)
وعن البصري رحمه الله : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله وحفظوا حروفه وضيعوا حدوده حتى أن أحدهم ليقول : والله ، لقد قرأت القرآن ، فما أسقطت منه حرفاً ، والله وقد أسقط كله ما يرى عليه للقرآن أثر في خلق ولا عمل والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء ، فمن اقتفى بظاهر المتلوّ كان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ومهرة نتوج لا يستولدها.
قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تعوذوا بالله من فخر القراء ، فإنهم أشد فخراً من الجبابرة.
ولا أحد أبغض إلى رسول الله من قارىء متكبر".
وعن علي رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تعوذوا بالله من دار الحزن فإنها إذا فتحت استجارت منها جهنم سبعين مرة ، أعدها الله للقراء المرائين بأعمالهم وإن شر القراء لمن يزور الأمراء" : وفي سلسلة الذهب للمولى الجامي قدس سره.
رُب تاللٍ يفوه بالقرآن وهو يفضي به إلى الخذلان.
25
خواجه را نيست جزتلاوت كار
ليكن آن طرد ولعنت آرد بار
لعنتست اين كه بهر لهجه وصوت
شود از تو حضور خاطر فوت
نشود بر دل توتا بنده
كين كلام خداست يابنده
لعنتست اين كه سازدت بي سيم
روز شب با مير وخواجه نديم
خانه شان مزبله است وقرآن نور
دار اين نور را زمز بله دور
معنى لعن جيست مردودى
بمقامات بعد خشنودى
هركه ماند از خدا بيك سرمو
آمد اندر مقام بعد فرو
كرجه ملعون نشد زحق مطلق
هست ملعون بقدر بعد ازحق
{كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ * وَوَهَبْنَا لِدَاوُادَ سُلَيْمَـانَا نِعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّـافِنَـاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّا فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُادَ سُلَيْمَـانَ} : (وبخشيديم داودرا فرزندى كه آن سليمانست) عليهما السلام.
والهبة : عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق العوض ، والجزاء الموافق لأعمال الموهوب له.
فسليمان : النعمة التامة على داود ؛ لأن الخلافة الظاهرة الإلهية قد كملت لداود وظهرت أكمليتها في سليمان ، وكذا على العالمين لما وصل منه إليهم من آثار اللطف والرحمة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أولادنا من مواهب الله ، ثم قرأ : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} (الشورى : 49).
روي : أن داود عليه السلام عاش مائة سنة ومات يوم السبت فجأة.
ويوم السبت لهم كيوم الجمعة لنا أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه ؛ أي : الغرفة وينزل.
وقال : جئت لأقبض روحك ، فقال : دعني حتى أنزل وأرتقي ، فقال : ما لي إلى ذلك سبيل ، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها ، فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال.
وموت الفجأة رحمة للصالحين وتخفيف ورفق بهم إذ هم المنقطعون المستعدون ، فلا يحتاجون إلى الإيصاء وتجديد التوبة ورد المظالم بخلاف غيرهم ولذا كان من آثار غضب الله على الفاسقين ، وأوصى داود لابنه سليمان بالخلافة.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمان لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني وهو مقام النبوة والخلافة.
قال بعضهم : العبودية هي الذبول عن موارد الربوبية والخمول تحت صفات الألوهية.
{إِنَّه أَوَّابٌ} : رجاع إلى الحضرة بإخلاص العبودية بلا علة دنيوية ولا أخروية أو رجاع إلى الله في جميع الأحوال في النعمة بالشكر وفي المحنة بالصبر.
(بظاهر ملك ومملكت ميراند وبباطن فقر وفاقت همى برورد سليمان روزى تمنى كرد كفت بار خدايا جن وانس وطيور ووحوش بفرمان من كردى جه بود كه ابليس رانيز بفرمان من كنى تا أورا كنم كفت اي سليمان اين تمنى مكن كه دران مصلحت نيست كفت بار خدايا كر هم دو روز باشد اين مراد من بده كفت دادم سليمان ابليس را در بند كرد ومعاش سليمان با آن همه ملك ومملكت از دست رنج خويش بود هر روز نبيلى ببافتى وبدو قرص بدادى ودر مسجد با درويشى بهم بخوردى وكفتى).
مسكين وجالس مسكيناً.
يك كدا بود سليمان بعصا وزنبيل
يافت از لطف توآن حشمت وملك آرايى
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
آن روز كه ابليس در بند كرد زنبيل ببازار فرستاد وكس نخريد كه در بازار آن
26
(8/19)
روز هيج معاملت وتجارب نبود ومردم همه بعبادت مشغول بودند آن روز سليمان هيج طعام نخورد ديكر روز همجنان بر عادت زنبيل بافت وكس نخريد سليمان كرسنه شد بالله ناليد كفت بار خدايا كرسنه وكس زنبيلى نمى خرد فرمان آمد كه اي سليمان نمى دانى كه جون تو مهتر بازاريان در بند كنى در معاملات بر خلق فروبسته شود ومصلحت خلق نباشد أو معمار دنياست ومشارك خلق در أموال واولاد).
يقول الله تعالى : {وَشَارِكْهُمْ فِى الامْوَالِ وَالاوْلَـادِ} (الإسراء : 64) فظهر من هذه الحكاية حال سليمان مع الله تعالى وكونه متخلياً عن المال فارغاً عن الملك في الحقيقة.
جوهر ساعت از بجايى رود دل
بتنهايى اندر صفايى نبينى
ورت مال وجاهست وزرع وتجارت
جو دل باخدايست خلوت نشينى
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} ؛ أي : اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه يقال : عرض له أمر كذا ؛ أي : ظهر وعرضته له ؛ أي : أظهرته وعرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر ما حالهم.
{بِالْعَشِىِّ} : هو من الظهر إلى آخر النهار.
{الصَّـافِنَـاتُ} : مرفوع بعرض جمع صافن لا صافنة ، لأنه لذكور الخيل وصفة المذكر الذي لا يعقل يجمع هذا الجمع مطرداً كما عرف في النحو.
والصفن : الجمع بين الشيئين ضاماً بعضهما إلى بعض يقال : صفن الفرس قوائمه إذا قام على ثلاث وثنى الرابعة ؛ أي : قلب أحد حوافره وقام على طرف سنبك يد أو رجل.
والسنبك : طرف مقدم الحافر.
وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا يكاد يتفق إلا في العربي الخالص.
والمعنى بالفارسية : (اسبان ايستاده سه باى وبركناره سم از قائم جهارم).
{الْجِيَادُ} : جمع جواد وجود وهو الذي يسرع في جريه تشبيهاً له بالمطر الجود.
والمعنى بالفارسية : (اسبهاى تازى نيورنك نيكوقد تيزرو).
كذا قاله صاحب "كشف الأسرار" ، وكأنه جمع بين معنى الجيد والجواد.
قال في "القاموس" : الجواد السخي والسخية.
والجمع : الأجواد.
والجيد ضد الرديء والجمع : الجياد.
وقيل : الجواد هو : الفرس الذي يجود عند الركض ؛ أي : العدو.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الجياد : الخيل السوابق ، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها.
روي أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، وهي قاعدة ديار ربيعة ، فأصاب ألف فرس عربي ، أو أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه ، وهذا على تقدير عدم بقاء قوله عليه السلام : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة" على عمومه أو يحمل على الاستعارة بعلاقة المشابهة في ثبوت ولاية التصرف ، فإن لسليمان حق التصرف فيما تركه أبوه في بيت المال ، كالدروع ونحوها كما كان للخلفاء حق التصرف فيما تركه نبينا عليه السلام ، ولذا منع أبو بكر رضي الله عنه فاطمة رضي الله عنها عن الميراث حيث طلبته وذلك أن ما تركه عليه السلام من صفايا أموال النفير وفدك كان مصروفاً إلى نفقة نسائه كما في حياته لكونهن محبوسات عليه إلى وفاتهن.
وأيضاً إلى نفقة خليفته لكونه خادماً له قائماً مقامه وما فضل من ذلك كان يصرف إلى مصالح المسلمين ، فلم يبق له بعد وفاته ما يكون ميراثاً لأهل بيته.
(وكفته اند اسبان دريايى بودند وبر داشتند وديوان.
براى سليمان از بحر بر آوردند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وسيجيء ما يؤيده
27
وعلى كل تقدير قعد سليمان يوماً بعد ما صلى الظهر على كرسيه وكان يريد جهاداً ، فاستعرض تلك الأفراس ؛ أي : طلب عرضها عليه ، فلم تزل تعرض عليه وهو ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى غربت الشمس وغفل عن العصر ، وكانت فرضاً عليه كما في "كشف الأسرار" ، وعن ورد : كان له من الذكر وقتئذٍ وتهيبه قومه فلم يعلموه فاغتم لما فاته بسبب السهو والنسيان فاستردها فعقرها تقرباً إلى الله وطلباً لمرضاته على أن يكون العقر قربة في تلك الشريعة ، ولذا لم ينكر عليه فعله أو مباحاً في ذلك اليوم ، وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله كما قال أبو الليث فلم يكن من قبيل تعذيب الحيوان.
يقول الفقير : سر العقر هاهنا هو أن تلك الخيل لما شغلته عن القيام إلى الصلاة كان العقد كفارة موافقة له.
وقال بعضهم : المراد من العقر : الذبح فيكون تقديم السوق كما يأتي لرعاية الفاصلة ، فذبحها وتصدق بلحومها.
وكان لحم الخيل حلالاً في ذلك الوقت وإنما لم يتصدق بها ، لأنه يحتاج إلى زمان ووجدان محل صالح له.
والحاصل : أنه ذبح تسعمائة وبقي مائة وهو ما لم يعرض عليه بعد فما في أيدي الناس من الجياد ، فمن نسل تلك المائة الباقية كذا.
قالوا : وفيه أن هذا يؤيد كون تلك الخيل قد أخرجت من البحر إذ لو كانت من غنائم الغزو لم يلزم أن يكون نسل الجياد من تلك المائة لوجود غيرها في الدنيا ، وأيضاً على تقدير كونها ميراثاً من أبيه بالمعنى الثاني كما سبق تكون أمانة في يده.
والأمانة لا تعقر ولا تذبح كما لا يخفى.
(8/20)
{فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى} ، قاله عليه السلام عند غروب الشمس اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها ، والتعقيب بالفاء باعتبار آواخر العرض المستمر دون ابتدائه والتأكيد للدلالة على أن اعترافه وندمه عن صميم القلب لا لتحقيق مضمون الخبر وأصل أحببت : أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت كما في قوله تعالى : {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت : 17).
وكل من أحب شيئاً فقد آثره ، لكن لما أنيب مناب أنبت وضمن معناه عدي تعديته بعن وحب الخير مفعوله ؛ أي : مفعول به لانبت المضمن ، والذي أنيب مناب الذكر هو الاطلاع على أحوال الخيل لا حب الخيل إلا أنه عدى الفعل إلى حب الخيل للدلالة على غاية محبته لها فإن الإنسان قد يحب شيئاً ، ولكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يضره ، ولذا لما قيل لمريض : ما تشتهي.
قال : أشتهي أن لا أشتهي ، وأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه فذلك غاية المحبة.
والخير : المال الكثير والمراد به : الخيل التي شغلته عليه السلام ؛ لأنها مال ويحتمل أنه سماها خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال عليه السلام : "الخير" ؛ أي : الأجر والمغنم (معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة).
والمراد بالذكر : صلاة العصر بدليل قوله : بالعشي ، وسميت الصلاة ذكراً ؛ لأنها مشحونة بالذكر كما في "كشف الأسرار" أو الورد المعين وقتئذٍ.
ومعنى الآية : أنبت حب الخيل ؛ أي : جعلته نائباً عن ذكر ربي ووضعته موضعه ، وكان يحب لمثلي أن يشتغل بذكر ربه وطاعته.
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} : التواري : الاستتار.
والضمير للشمس ، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها إذ لا شيء يتوارى حينئذٍ غيرها ، فالحجاب : مغيب الشمس ومغربها ، كما في "المفردات".
وحتى متعلق بقوله : أحببت.
28
وغاية له باعتبار استمرار المجبة ودوامها حسب استمرار العرض.
والمعنى : أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى توارت ؛ أي : غربت الشمس تشبيهاً لغروبها في مغربها بتواري الجارية المخبأة بحجابها ؛ أي : المستترة بخبائها وخدرها.
وقيل : الضمير في توارت للصافنات ؛ أي : حتى توارت بحجاب الليل ؛ أي : بظلامه ؛ لأن ظلام الليل يستر كل شيء.
{رُدُّوهَا عَلَىَّ} : من تمام مقالة سليمان ومرمى غرضه من تقديم ما قدمه ، والخطاب لأهل العرض من قومه ؛ أي : أعيدوا تلك الخيل عليّ.
{فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاعْنَاقِ} : الفاء : فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذاناً بغاية سرعة الامتثال بالأمر وطفق من أفعال المقاربة الدالة على شروع فاعلها في مضمون الخبر ، فهو بمعنى أخذ وشرع وخبر هذه الأفعال يكون فعلاً مضارعاً في الأغلب ومسحاً نصب على المصدرية بفعل مقدر ، هو خبر طفق.
والمسح : إمرار اليد على الشيء.
والجمهور على أن المراد به هنا القطع من قولهم : مسح علاوته ؛ أي : ضرب عنقه وقطع رأسه.
والعلاوة : بالكسر أعلى الرأس أو العنق.
قال في "المفردات" : مسحته بالسيف كناية عن الضرب.
والسوق : جمع ساق كدور ودار.
والساق : ما بين الكعبين كعب الركبة وكعب الرجل.
والأعناق : جمع عنق ، بالفارسية : (كردن).
والباء : مزيدة كما في قوله تعالى : {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} : فإن مسحت رأسه ومسحت برأسه بمعنى واحد.
والمعنى : فردوها عليه فأخذ يمسح بالسيف مسحاً سوقها وأعناقها ؛ أي : يقطع أعناقها ويعرقب أرجلها ؛ أي : هو وأصحابه ، أو يذبح بعضها ويعرقب بعضها إزالة للعلاقات ورفعاً للحجاب الحائل بينه وبين الحق واستغفاراً وإنابه إليه بالترك والتجريد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي الآية إشارة إلى أن حب غير الله شاغل عن الله وموجب للحجاب ، وأن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله.
"لا" نهنكيست كائنات آشام
عرض تا فرش در كشيده بكام
هر كجا كرده آن نهنك آهنك
ازمن وما نه بوى ماندونه رنك
(8/21)
وقال الإمام في "تفسيره" : الصواب أن يقال : إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو مندوب إليه في شرعنا.
ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس على كرسيه وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها.
وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أجريها وأحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه ، وهو المراد من قوله : عن ذكر ربي ثم إنه أمر بإجرائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب ؛ أي : غابت عن بصره ، فإنه كان له ميدان واسع مستدير يسابق فيه بين الخيل حتى تتوارى عنه وتغيب عن عينه ، ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ؛ أي : بيده حبالها وتشريفاً وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في قهر الأعداء وإعلاء الدين ، وهو قول الزهري وابن كيسان ، وليس فيه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام ، فهو أحق بالقبول عند أولي الأفهام.
وفي "الفتوحات المكية" : معنى الآية : أحببت الخير عن ذكر ربي الخير بالخيرية فأحببته لذلك.
والخير : هي الصافنات : الجياد من الخيل.
وأما قوله : فطفق مسحاً ؛ أي : يمسح بيده
29
على أعناقها وسوقها فرحاً وإعجاباً بخير ربه لا فرحاً بالدنيا ؛ لأن الأنبياء منزهون عن ذلك وهذه تشبه ما وقع لأيوب عليه السلام حين أرسل الله له جراداً من ذهب ، فصار يحثو في ثوبه منه ويقول : لا غنى لي عن بركتك يا رب ، فما أحب سليمان الخير إلا لكونه تعالى أحب حب الخير ولذلك اشتاق إليها لما توارت بالحجاب ، يعني : الصافنات الجياد لكونه فقد المحل الذي أوجب له حب الخير عن ذكر ربه ، فقال : ردوها عليّ.
وليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل ، فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا الصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة.
انتهى كلام "الفتوحات".
وعن علي رضي الله عنه : اشتغل سليمان عليه السلام بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت بالحجاب ؛ أي : غربت الشمس ، فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : ردوها ، يعني : الشمس فردوها إلى موضع وقت العصر حتى صلى العصر في وقتها فذلك من معجزات سليمان عليه السلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال في "كشف الأسرار" : (سليمان عليه السلام درراه خدا آن همه اسبان فدا كرد ودل ازان زينب وآرايش دنيا بر داشت وباعبادت الله برادخت لا جرم رب العزة أورا به ازان عوض داد بجاي اسبان بادرا مركب أوساخت وبسبب آن اندوه كه بوى رسيد برفوت عبادت فرشته قرص آفتاب ازمغرب باز كردانيد بهروى تانماز ديكر بوقت خويش بكزارد وآن ويرا معجزة كشت وجنانكه ابن معجزة ازبهر سليمان بيغمبر بيدا كشت درين امت ازبهر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه زروى كرامت بيدا كشت درخبر ست مصطفى عليه السلام سربر كنار على نهاد وبخفت على نماز ديكر نرده بود نخواست كه خواب بررسول قطع كند مرد عالم بود كفت نماز طاعت حق وخدمت راست رسول طاعت حق همجنان مي بود تاقرص آفناب بمغرب فروشد مصطفى عليه السلام از خواب در آمد على كفت يا رسول الله وقت نماز ديكر فوت شد ومن نماز نكردم رسول كفت اي علي جرا نماز نكردى كفت نخواستم كه لذت خواب برتو قطع كنم جبريل آمد كه يا محمد حق تعالى مرا فرمود تاقرص آفتاب را از مغرب باز آرم تا على نماز ديكر بوقت بكنرارد بعض ياران كفتند قرص آفتاب را جندان باز آوردكه شعاع آفتاب ديديم كه بر ديوار هاي مدينة مي تافت).
قال الكاشفي : (وانكه آفتاب بدعاى حضرت بيغمبر عليه السلام در صهباى خيبر بعد از غروب بازكشت وبجاي عصر آمد تا حضرت علي رضي الله عنه نماز كزارد ونزد محدثان مشهورست وإمام طحاوي در شرح آثار خويش فرمود كه روات اين ثقات اند واز أحمد بن صالح رحمه الله نقل كرده كه أهل علم را سزاوار نيست كه تغافل كنند از حفظ اين حديث كه از علامات نبوتست).
ولا عبرة بقول بعضهم بوضعه :
كه دعوتش كرفته كريبان آفتاب
بالا كشيده ازجه مغرب برآسمان
كه قرص بدررا بسر كردخوان جرخ
دستش دونيم كرده بيك ضربت بنان
واعلم أن حبس الشمس وردها وقع مراراً.
ومعنى حبسها : وقوفها عن السير والحركة بالكلية أو بطء حركتها أو ردها إلى ورائها.
ومعنى ردها : إعادتها بعد غروبها ومغيبها فقد
30
حبست لداود عليه السلام.
وذلك في رواية ضعيفة وردت لسليمان على ما قرر.
وحبست أيضاً لخليفة موسى عليه السلام ، وهو : يوشع بن نون ، فإنه سار مع بني إسرائيل لقتال الجبارين ، وكان يوم الجمعة ولما كاد يفتحها كادت الشمس تغرب ، فقال للشمس : أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتي عليك ، إلا ركدت ؛ أي : مكثت ساعة من النهار.
وفي رواية : اللهم احبسها عليّ فحبسها الله حتى افتتح المدينة ، وإنما دعا بحبسها خوفاً من دخول البيت المحرم عليهم فيه المقاتلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/22)
وردت أيضاً لعلي رضي الله عنه بدعاء نبينا عليه السلام على ما سبق.
وحبست أيضاً عن الغروب لنبينا عليه السلام ، وذلك أنه أخبر في قصة المعراج أن عير قريش تقدم يوم كذا ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك ، وقد ولى النهار حتى كادت الشمس تغرب ، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدمت العير ، وفي بعض الروايات حبست له عن الطلوع ؛ لأنه عليه السلام قال : "وتطلع العير عليكم من الثنية عند طلوع الشمس" ، فحبس الله الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير.
وحبست أيضاً له عليه السلام في بعض أيام الخندق إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذٍ.
وفي بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب.
وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "شغلونا عن الصلاة الوسطى" ؛ أي : عن صلاة العصر.
في كلام سبط ابن الجوزي إن قيل : حبسها ورجوعها مشكل ؛ لأنها لو تخلفت أو ردّت لاختلت الأفلاك وفسد النظام ، قلنا : حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد أنه قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت ، فجاءت سحابة غطت الشمس وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم ألا يتحركوا ، ثم أدار وجهه إلى ناحية المغرب ، وقال : ()
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي
مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن
هذا الوقوف لولده ولنسله
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب.
هذا كلامه رحمه الله سبحانه وتعالى :
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} : الفتنة : الاختبار والابتلاء.
{وَأَلْقَيْنَا} : الإلقاء : الطرح.
{عَلَى كُرْسِيِّهِ} : الكرسي : اسم لما يقعد عليه والمراد : سريره المشهور ، وقد سبق في سورة سبأ.
{جَسَدًا} :
قال في "المفردات" : الجسد : الجسم لكنه أخص.
قال الخليل : لا يقال : الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه.
وأيضاً فإن الجسد يقال : لما له لون.
والجسم يقال : لما لا يبين له لون كالماء والهواء.
وقال في "أنوار المشارق" : الفرق بين الجسد والبدن ، أن الأول يعمّ لذي الروح وغيره.
ويتناول الرأس والشوى.
[
والثاني : مخصوص بذي الروح ولا يتناولهما.
ومن هذا قد اشتهر فيما بينهم حشر الأجساد بإضافة الحشر الخاص بذي الروح إلى الأجساد العامة له ، ولغيره دون الأبدان المخصوصة وذلك لأن في إضافته إلى البدن باعتبار أنه لا يتناول الرأس والشوى على ما نص عليه الزمخشري في "الفائق" والخليل في كتاب "العين" قصوراً مخلاً بحكم الإعادة بعينه.
وأما ما في الجسد من العموم الزائد على قدر الحاجة ، فمندفع بقرينة إضافة الحشر.
انتهى كلام "الأنوار".
والمراد به في الآية : القالب بلا روح كما سيأتي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{ثُمَّ أَنَابَ} ؛ أي : سليمان
31
عليه السلام.
والإنابة : الرجوع إلى الله تعالى.
روي أن سليمان كان له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية ، وكان في ظهره ماء مائة رجل ؛ أي : قوتهم.
وهكذا أنبياء الله أعطي كل منهم من القوة الجماعية ما لم يعط أحد من أفراد أمته ، وكذا الولي الأكمل ؛ فإن له قوة زائدة على سائر الآحاد ، وإن لم تبلغ مرتبة قوة النبي ، فقال سليمان عليه السلام يوماً : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ؛ أي : أجامعهن أو تسعين أو تسع وتسعين أو مائة ، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فقال له صاحبه ؛ أي : وزيره آصف ، قل : إن شاء الله فلم يقل فطاف عليهن تلك الليلة ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فألقته القابلة على كرسيه وهو الجسد المذكور.
قال نبينا عليه السلام : "لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون".
قال القاضي عياض رحمه الله : وإن سئل : لم لم يقل سليمان في تلك القصة المذكورة : إن شاء الله فعنه أجوبة.
أسدّها ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقولها ؛ أي : كلمة إن شاء الله.
وذلك لينفذ مراد الله.
والثاني : أنه لم يسمع صاحبه وشغل عنه.
انتهى.
فمعنى ابتلائه قوله : لأطوفن إلخ ، وتركه الاستثناء ومعنى إلقاء الجسد على كرسيه ، إلقاء الشق المذكور عليه.
ومعنى إنابته : رجوعه إلى الله تعالى عن زلته ، وهو تركه الاستثناء في مثل ذلك الأمر الخطير ، لأن ترك الأولى زلة للأنبياء إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ألا ترى أن نبينا عليه السلام لما سئل عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين قال : "ائتوني غداً أخبركم" ولم يستثن فحبس عنه الوحي أياماً ، ثم نزل قوله تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} (الكهف : 23 ، 24).
(8/23)
روي أن سليمان عليه السلام ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله وذلك أنهم كانوا يقدرون في أنفسهم أنهم سيستريحون مما هم فيه من تسخير سليمان إياهم على التكاليف الشاقة والأعمال المستمرة الدائمة بموته ، فلما ولد له ابن قال بعضهم لبعض : إن عاش له ولده لم ننفك عما نحن فيه من البلاء ، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله.
والتخبيل : إفساد العقل والعضو فلم سليمان بذلك فأمر السحاب ، فحكله وكانت الريح تعطيه غذاءه وربا فيه خوفاً من مضرة الشياطين فابتلاه الله لأجل خوفه هذا وعدم توكله في أمر ابنه على ربه العزيز بموت ابنه حيث مات في السجاب وألقي ميتاً على كرسيه ، فهو المراد من الجسد الملقى على كرسيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال في "شرح المقاصد" : فتنبه لخطئه في ترك التوكل فاستغفر وتاب ، فهذا مما لا بأس به وغايته ترك الأولى إذ ليس في التحفظ ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكل على ما قال عليه السلام : "اعقلها وتوكل".
انتهى.
فإن قلت : كان الشياطين يصعدون إلى السماء وقتئذٍ فما فائدة رفعه في السحاب في المنع عنهم.
قلت : فائدته أن الشياطين التي خاف سليمان على ابنه منهم كانوا في خدمته الدائمة في الأرض فكان في الرفع إلى السحاب رفعه عن أبصارهم وتغييبه عن عملهم وتسليمه إلى محافظة الملائكة ، ولما ألقي ابنه الميت على كرسيه جزع سليمان عليه إذ لم يكن له إلا ابن واحد ، فدخل عليه ملكان ، فقال أحدهما : إن هذا مشى في زرعي ، فأفسده ، فقال له سليمان : لم مشيت في زرعه؟ قال : لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس ، فلم أجد مسلكاً غير ذلك.
فقال سليمان للآخر : لم زرعت على طريق الناس ، أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون
32
فيه ، فقال لسليمان : صدقت لم ولدت على طريق الموت ، أما علمت أن ممر الخلق على الموت ، ثم غابا عنه ، فاستغفر سليمان وأناب إلى الله تعالى : قال الشيخ سعدي قدس سره :
مكن خانه در راه سيل اي غلام
كه كس را نكشت اين عمارت تمام
نه از معرفت باشد وعقل ورأى
كه در ره كند كارواني سراي
ز هجران طفلي كه در خاك رفت
جه نالي كه باك آمد وباك رفت
توباك آمدي بر حذر باش وباك
كه ننكست ناباك رفتن بخاك
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
قال الكاشفي : (ومشهور آنست كه بواسطه ترك ازلي انكشتر مملكت سليمان بدست صخر جن افتاد وجهل روز برتخت سليمان نشست وباز آن خاتم بدست سليمان آمد بمملكت بازكشت).
فيكون المعنى : ولقد ابتليناه بسبب ملكه وألقينا على كرسيه جسداً ، يعني : العفريت الذي أخذ خاتمه وجلس على كرسيه وهو صخر صاحب البحر على أشهر الأقاويل وسمي جسداً ؛ لأنه تمثل بصورة سليمان ، ولم يكن هو فكان جسداً محضاً وصورة بلا معنى ، ثم أناب ؛ أي : رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً.
يقول الفقير : أرشده الله القدير هذا وإن كان مشهوراً محرراً خصوصاً في نظم بعض العرب والعجم ، لكنه مما ينكر جداً ولا يكاد يصح قطعاً ، وذلك لوجوه :
أحدها : أنه ليس في جلوس الجن على الكرسي معنى الإلقاء إلا أن يتكلف.
والثاني : أن جميع الأنبياء معصومون من أن يظهر شيطان بصورهم في النوم واليقظة لئلا يشتبه الحق بالباطل ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام صور الاسم الهادي ومظاهر صفة الهداية والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان ، فلا يجتمعان ، ولا يظهر أحدهما بصورة الآخر.
وقس على الأنبياء أحوال الكمل من الأولياء ، فإنهم ورثتهم ومتحققون بمعارفهم وحقائقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فإن قيل : عظمة الحق سبحانه أتم من عظمة كل عظيم ، فكيف امتنع على إبليس أن يظهر بصورة الأنبياء مع أن اللعين قد تراءى لكثيرين وخاطبهم بأنه الحق طلباً لإضلالهم.
وقد أضل جماعة بمثل هذا حتى ظنوا أنهم رأوا الحق وسمعوا خطابه.
قلنا : إن كل عاقل يعلم أن الحق ليست له صورة معينة معلومة توجب الاشتباه ، ولذا جوز بعض العلماء رؤية الله في المنام في أي صورة كانت ، لأن ذلك المرئي غير ذات الله إذ ليس لها صورة.
وأما الأنبياء فإنهم ذوو صور معينة معلومة مشهودة توجب الاشتباه.
والثالث : أنه كيف يصح من الحكيم أن يجلس شيطاناً من الشياطين على كرسي نبي من الأنبياء ويسلطه على المسلمين ويحكمه عليهم مع أنه لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً أبداً.
كس نيايد يزير سايه بوم
ورهماي ازجهان شود معدوم
والرابع : أن الخاتم كان نورانياً فكيف صح أن يستقر في يد الشيطان الظلماني بطريق تقلد الحكومة ، وقد ثبت أن الشيطان يحرقه النور مطلقاً ، ولذا جعل الشهاب رجماً للشياطين.
والخامس : أنه كان ملك سليمان في الخاتم ، فكيف يصح أن يجلس الجني على كرسيه على تقدير قذف الخاتم في البحر على ما قالوا.
قال في "كشف الأسرار" : (ملك سليمان در خاتم وى بود
33
ونكين آن خاتم كبريت أحمر بود).
انتهى.
(8/24)
وفي "عقد الدرر" : أنه كان خاتم آدم عليه السلام قبل خروجه من الجنة ألبسه الحق إياه ، ثم أودع في ركن من أركان العرش وكان مكتوب عليه في السطر الأول : "بسم الله الرحمن الرحيم".
وفي الثاني : "لا إله إلا الله" ، وفي الثالث : "محمد رسول الله".
فلما أنزله جبريل إلى سليمان اضطرب العالم من مهابته ، ولما وضعه في أصبعه غاب عن أعين الناس ، فقالوا : يا نبي الله نريد أن نتشرف بمشاهدة جمالك ، فقال : اذكروا الله ، فلما ذكروه رأوه فالتأثير من الله وبسليمان المظهرية والخاتم واسطة في الحقيقة.
وإنما وضع ملكه في فص خاتم ؛ لأنه تعالى أراه في ذلك أن ما أعطيت في جنب ما لم تعط قدر هذا الحجر من بين سائر الأحجار إذ كان ملك الدنيا عند الله تعالى كقدر حجر من الأحجار والله يعز من يشاء بما يشاء.
{قَالَ} : سليمان وهو بدل من أناب وتفسير له.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَـاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{رَبِّ} (اي بروردكار من).
{اغْفِرْ لِى} : ما صدر مني من الزلة التي لا تليق بشأني وتقديم الاستغفار على الاستيهاب الآتي لمزيد اهتمامه بأمر الدين جرياً على سنن الأنبياء والصالحين وكون ذلك أدخل في الإجابة.
{وَهَبْ لِى} : (وببخش مرا).
{مُلْكًا} : (بادشاهي وتصرفي كه).
{لا يَنابَغِى} : (نسنرد ونشايد) {لاحَدٍ} من الخلق {مِّنا بَعْدِى} إلى يوم القيامة بأن يكون الظهور به بالفعل في عالم الشهادة في الأمور العامة والخاصة مختصاً بي ، وهو الغاية التي يمكنه بلوغها دل على هذا المعنى قول نبينا عليه السلام : "إن عفريتاً من الجن".
وهو الخبيث المنكر "تفلت عليّ البارحة ؛ أي : تعرض في صورة هر كما في حياة الحيوان.
قال في "تاج المصادر" : (التفلت بجستن).
وفي الحديث : "إن عفريتاً من الجن تفلّت عليّ البارحة" ؛ أي : تعرض له فلتة ؛ أي : فجأة "ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه".
الإمكان : القدرة على الشيء مع ارتفاع الموانع ؛ أي : أعطاني الله مكنة من أخذه وقدرة عليه "فأخذته فأردت أن أربطه" بكسر الباء وضمنها ؛ أي : أشده "على سارية من سواري المسجد" ؛ أي : أسطوانة من أساطينه "حتى تنظروا إليه كلكم ويلعب به ولدان أهل المدينة فذكرت دعوة أخي سليمان : رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئاً" ؛ أي : ذليلاً مطروداً ، لم يظفر بي ولم يغلب على صلاتي ، فدل على أن الملك الذي آتاه الله سليمان ولم يؤته أحداً غيره من بعده هو الظهور بعموم التصرف في عالم الشهادة لا التمكن منه ، فإن ذلك مما آتاه الله غيره من الكمل نبياً كان أو ولياً ألا ترى أن نبينا عليه السلام قال : "فأمكنني الله منه" ؛ أي : من العفريت فعلمنا أن الله تعالى قد وهب التصرف فيه بما شاء من الربط وغيره ، ثم إن الله تعالى ذكره فتذكر دعوة سليمان ، فتأدب معه كمال التأديب حيث لم يظهر بالتصرف في الخصوص فكيف في العموم فردّ الله ذلك العفريت ببركة هذا التأدب خاسئاً عن الظفر به.
وكان في وجود سليمان عليه السلام قابلية السلطنة العامة ولهذا ألهمه الله تعالى أن يسأل الملك المخصوص به ، فلم يكن سؤاله للبخل والحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة والرغبة فيها كما توهمه الجهلة.
وأما سلطان الأنبياء صلى الله عليه وسلّم فقد أفنى جميع ما في ملك وجوده من جهة الأفعال والصفات ، فلم يبق شيء فظهر مكانه شيء لا يوصف حيث وقع تجلي الذات في مرتبة لم ينلها أحد من أفراد الخلق سابقاً ولا لاحقاً ، وستظهر سلطنته الصورية أيضاً بحيث يكون آدم ومن دونه تحت لوائه.
34
در بزم احتشام تو سياره هفت جام
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وز مطبخ نوال تو افلاك نه طبق
هر خطبه كمال بنام تو شد ازل
كس تا بد زلوح نمى خوانده اين سبق
{إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} : لجميع استعدادات كل ما سألت من الكمالات كما قال تعالى : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} (إبراهيم : 34).
وفي "التأويلات النجمية" : بقوله : {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى} الآية.
يشير إلى معاننٍ مختلفة.
منها : أنه لما أراد طلب الملك الذي هو رفعة الدرجة بنى الأمر في ذلك على التواضع الموجب للرفعة ، وهو قوله : {رَبِّ اغْفِرْ لِى} .
ومنها : أنه قدم طلب المغفرة على طلب الملك ؛ لأنه لو كان طلب الملك زلة في حق الأنبياء كانت مسوقة بالمغفرة لا يطالب بها.
ومنها : أن الملك مهما يكن في يد مغفور له منظور بنظر العناية ما يصدر منه تصرف في الملك إلا مقروناً بالعدل والنصفة ، وهو محفوظ من آفات الملك وتبعاته.
(8/25)
ومنها : قوله : {وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ؛ أي : يكون ذلك موهوباً له بحيث لا ينزعه منه ويؤتيه من ويؤتيه كما هي السنة الإلهية جارية فيه.
ومنها : قوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ؛ أي : لا يطلبه أحد غيري لئلا يقع في فتنة الملك على مقتضى قوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ، 7) ، فإن الملك جالب للفتنة كما كان جالباً لها إلى سليمان بقوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} .
ومنها : قوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ؛ أي : لا يكون هذا الملك ملتمس أحد منك غيري للتمتع والانتفاع به ، وهو بمعزل عن قصدي ونيتي في طلب هذا ، فإن لي في طلب هذا الملك نية لنفسي ونية لقلبي ونية لروحي ونية للممالك بأسرها ونية للرعايا.
فأما نيتي لنفسي فتزكيتها عن صفاتها الذميمة وأخلاقها اللئيمة.
وذلك في منعها عن استيفاء شهواتها وترك مستلذاتها النفسانية بالاختيار دون الاضطرار وإنما يتيسر ذلك بعد القدرة الكاملة عليه بالمالكية والملكية بلا مانع ولا منازع ، وكماليته في المملكة بحيث لا يكون فيها ما يحرك داعية من دواعي البشرية المركوزة في جبلة الإنسان ليكون كل واحدة من المشتهيات والمستلذات النفسانية محركة لداعية تناسبها عند تملكها ، والقدرة عليها عند توقان النفس إليها وغلبات هواها فيحرم على النفس مراضعها ويحرمها من مشاربها وينهاها عن هواها خالصاً ، وطلباً لمرضاته فتموت النفس عن صفاتها كما يموت البدن عند إعواز فقدان ما هو غذاء يعيش به ، فإذا ماتت عن صفاتها الذميمة يحييها الله بالصفات الحميدة كما قال : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} (النحل : 97).
وقال : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} (الشمس : 9) ، فلا يبقى لها نظر إلى الدنيا وسائر نعمها كما كان حال سليمان لم يكن له نظر إلى الدنيا ونعيمها ، وإنما كان مع تلك الوسعة في المملكة يأكل كسرة من كسب يده مع جليس مسكين ويقول : مسكين جالس مسكيناً ، وأما نيته لقلبه فتصفيته عن محبة الدنيا وزينتها وشهواتها وتوجيهه إلى الآخرة بالإعراض عنها عند القدرة عليها والتمكن فيها ، ثم صرفها في سبيل الله وقلع أصلها من أرض القلب ، ليبقى القلب صافياً من الدنس قابلاً للفيض الإلهي ، فإنه خلق مرآة لجميع الصفات الإلهية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وأما نيته لروحه فلتحليته بالأخلاق الحميدة الربانية ولا سبيل إليها إلا بعلو الهمة وخلوص النية ، فإن المرء يطير بهمته كالطائر يطير بجناحيه وتربية الهمة بحسب نيل المقاصد الدنيوية الدينية وصرفها في نيل المراتب الدينية الأخروية الباقية ، وإن ترك المقاصد الدنيوية الدينية ، وإن كان أثر التربية الهمة ولكن لا يبلغ حد أثر صرف ما يملك
35
من المقاصد الدنيوية لنيل الدرجات العلية فلما كان من أخلاق الله أن يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها.
التمس سليمان أقصى مراتب الدنيا ونهاية مقاصدها لئلا يلتفت ويستعملها في تربية الهمة لتتخلى روحه بأن يحسن إليهم ويؤلف قلوبهم ببذل المال والجاه ، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، فإنهم إذا أحبوا نبي الله لزمهم حب الله ، فيكون حب الله وحب نبيه في قلوبهم محض الإيمان ، ومن لم يمكن أن يؤمن بالإحسان ، فيدخلهم في الإيمان بالقهر والغلبة بأن يأتيهم بجنود لم يروها كما أدخل بلقيس وقومها في الإيمان.
وأما نيته للممالك ، فبأن يجعل الممالك الدنيوية الفانية أخروية باقية بأن يتوسل بها إلى الحضرة بصرفها بإظهار الدين وإقامة الحق وإعلاء كلمة الإسلام.
فإن قيل قوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ، هل يتناول النبي عليه السلام أو لا؟.
قلنا : أما بالصورة ، فيتناول ، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا لعدم استحقاقه ؛ لأنه عرض عليه صلى الله عليه وسلّم ملك أعظم من ملكه ، فلم يقبله.
وقال : "الفقر فخري".
وأما بالمعنى : فلم يتناول النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه قال : "فضلت على الأنبياء بست" ، يعني على جميع الأنبياء ولا خفاء في أن سليمان عليه السلام ما بلغ درجة واحد من أولي العزم من الرسل مع اختصاصه بصورة الملك منهم ، وهم معه مفضولون بست فضائل من النبي عليه السلام ، فمعنى الملك الحقيقي الذي كان ملك سليمان صورته بلا ريب يكون داخلاً في الفضائل التي اختصه الله بها وأخبر عنها بقوله : {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113).
بل أعطاه الله ما كان مطلوب سليمان من صورة الملك ومعناه أوفر ما أعطى سليمان وفتنه به من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتتان به عزة ودلالاً.
انتهى كلام التأويلات على مكاشفة أعلى التجليات.
(8/26)
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} .
قال أبو عمرو : إنه ريح الصبا ؛ أي : فذللناها لطاعة سليمان ؛ أي : جعلناها مطيعة لا تخالفه إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليه السلام على ما كان عليه قبل الفتنة فيكون ذلك مسبباً عن إنابته : وبالفارسية : (بس رام كردانيدم مر سليمان را باد تافر مان وى برد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفيه إشارة إلى أن سليمان لما فعل بالصافنات الجياد ما فعل في سبيل الله عوضه الله مركباً مثل الريح كان غدوها شهراً ورواحها شهراً كما في "التأويلات النجمية".
وقد سبق أيضاً من "كشف الأسرار".
قال البقلي رحمه الله : كان سليمان عليه السلام من حبه جمال الحق يحب أن ينظر إلى صنائعه وممالكه ساعة فساعة من الشرق إلى الغرب حتى يدرك عجائب ملكه وملكوته ، فسخر الله له الريح وأجراها بمراده.
وهذا جزاء صبره في ترك حظوظ نفسه.
{تَجْرِى بِأَمْرِهِ} : بيان لتسخيرها له.
{رُخَآءً} : حال من ضمير تجري.
والرخاء : الريح اللينة من قولهم شيء رخو كما في "المفردات" : وبالفارسية : (نرم وخوش).
وفي "الفتوحات المكية" : أن الهواء لا يسمى ريحاً إلا إذا تحرك وتموج ، فإن اشتدت حركته كان زعزعاً ، وإن لم تشتد كان رخاء ، وهو ذو روح يعقل كسائر أجزاء العالم وهبوبه تسبيحه تجري به الجواري ، ويطفأ به السراج وتشتعل به النار وتتحرك المياه والأشجار ويموج البحر وتزلزل الأرض ويزجى السحاب.
انتهى.
والمعنى : حال كون تلك الريح لينة طيبة لا تزعزع ولا تنافي بين كونها لينة الهبوب ، وبين قوله تعالى : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} (الأنبياء : 81) ؛ لأن المراد : أن تلك الريح أيضاً في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما جرت بأمره عليه السلام ، كانت لينة رخاء أو تسخر له كلا نسيميها.
36
{حَيْثُ أَصَابَ} : ظرف لتجري أو لسخرنا.
وأصاب بمعنى أراد لغة حمير أو هجر.
وفي "القاموس" : الإصابة : القصد ؛ أي : حيث قصد وأراد من النواحي والأطراف.
واعلم أن المراد بقوله بأمره جريان الريح بمجرد أمره من غير جمعية خاطر ولا همة قلب فهو الذي جعل الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده لا مجرد التسخير ، فإن الله تعالى سخر لنا أيضاً ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما ، لكن إنما تفعل أجرام العالم لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية ، فهذا التسخير عن أمر الله لا عن أمرنا كحال سليمان عليه السلام.
{وَالشَّيَـاطِينَ} : عطف على الريح.
{كُلَّ بَنَّآءٍ} : بدل من الشياطين ، وهو مبالغة بأن اسم الفاعل من بني ، وكانوا يعملون له عليه السلام ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ، وقدور راسيات لما سبق في سورة سبأ ويبنون له الأبنية الرفيعة بدمشق واليمن ، ومن بنائهم بيت المقدس وإصطخر ، وهي من بلاد فارس ، تنسب إلى صخر الجني المراد بقوله تعالى : {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} (النمل : 39).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَغَوَّاصٍ} : مبالغة غائص من غاص يغوص غوصاً ، وهو الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه.
قال في "المفردات" : قوله تعالى : {وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} (الأنبياء : 82) ؛ أي : يستخرجون له الأعمال الغريبة والأفعال البديعة وليس استنباط الدر فقط.
انتهى.
وكانوا يستخرجون الدرر والجواهر والحليّ من البحر ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
{وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} : عطف على كل بناء داخل في حكم البدل يقال : قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما وقرنت على التكثير كما في الآية.
قال الراغب : والتقرين بالفارسية : (برهم كردن).
قال ابن الشيخ : مقرنين صفة لآخرين ، وهو اسم مفعول من باب التفعيل منقول من قرنت الشيء بالشيء ؛ أي : وصلته به وشدد العين للمبالغة والكثرة.
والأصفاد : جمع صفد محركة ، وهو القيد وسمي به العطاء ؛ لأنه يرتبط بالمنعم عليه ، وفرقوا بين فعلهما ، فقالوا : صفده قيده وأصفده أعطاه على عكس وعد وأوعد ، فإن الثلاثي فيه للخير والمنفعة والرباعي للشر والمضرة ولكن في كون أصفد ، بمعنى : أعطى نكتة ، وهي أن الهمزة للسلب.
والمعنى : أزلت ما به من الاحتياج بأن أعطيته ما تندفع به حاجته بخلاف أوعد ، فإنه لغة أصلية موضوعة للتهديد.
ومعنى الآية : وسخرنا له شياطين آخرين لا يبنون ولا يغوصون ، كأنه عليه السلام فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في أعمال الشاقة من البناء والغوص ونحو ذلك.
وإلى مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل وأوثقهم بالحديد لكفهم على الشر والفساد.
(8/27)
فإن قيل : إن هذه الآية تدل على أن الشياطين لها قوة عظيمة ، قدروا بها على تلك الأبنية العظيمة التي لا يقدر عليها البشر وقدروا على الغوص في البحار ، واستخراج جواهرها ، وأنى يمكن تقييدهم بالأغلال والأصفاد.
وفيه إشكال ، وهو أن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ، فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة إذ لو جاز أن لا يراهم مع كثافة أجسادهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة لا نراها ، ولا نسمعها وذا سفسطة ، وإن كانت أجسادهم لطيفة واللطافة تنافي الصلابة ، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة بحيث يقدر بها على ما لا يقدر عليه البشر ؛ لأن الجسم اللطيف يكون ضعيف القوام تتمزق أجزاؤه بأدنى المدافعة ، فلا يطيق
37
تحمل الأشياء الثقيلة ومزاولة الأعمال الشاقة.
وأيضاً لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قلنا : إن أجسادهم لطيفة ولكن شفافة ولطافتها لا تنافي صلابتها بمعنى الامتناع من التفرق ، فلكونها لطيفة لا ترى ولكونها صلبة يمكن تقييدها وتحملها الأشياء الثقيلة ومزاولتها الأعمال الشاقة ، ولو سلم أن اللطافة تنافي الصلابة إلا أنا لا نسلم أن اللطيف الذي لا صلابة له يمتنع أن يتحمل الأشياء الثقيلة ويقدر على الأعمال الشاقة.
ألا ترى أن الرياح العاصفة تفعل أفعالاً عجيبة لا تقدر عليها جماعة من الناس.
وقال في "بحر العلوم" : والأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالتقرين في الصفد ، يعني : أن قولهم : لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال حقيقة مسلم.
ولكن ليس الكلام محمولاً على حقيقته ؛ لأنهم لما كانوا مسخرين مذللين لطاعته عليه السلام بتسخير الله إياهم له كان قادراً على كفهم عن الإضرار بالخلق.
فشبه كفهم عن ذلك بالتقرين في الأصفاد ، فأطلق على الكف المذكور لفظ التقريب استعارة أصلية ، ثم اشتق من التقرين ؛ يعني بمعنى المجازي لفظ مقرنين ، فهو استعارة تبعية بمعنى ممنوعين عن الشرور.
"وفي الأسئلة المقحمة" : الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ولا دليل يقضي ؛ بأن تلك الأجسام لطيفة أو كثيفة ، بل يجوز أن تكون لطيفة ، وإن تكون كثيفة ، وإنما لا نراهم لا للطافتهم كما يزعمه المعتزلة.
ولكن لأن الله تعالى لا يخلق فينا إدراكاً لهم.
انتهى.
قال القاضي أبو بكر : الأصل الذي خلقوا منه هي النار ، ولسنا ننكر مع ذلك أن يكثفهم الله تعالى ويغلظ أجسامهم ويخلق لهم أعراضاً زائدة على ما في النار ، فيخرجون عن كونهم ناراً ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة ، فيجوز أن نراهم إذا قوى الله أبصارنا كما يجوز أن نراهم لو كثف الله أجسامهم.
قال القاضي عبد الجبار : إن الله تعالى كثفهم لسليمان حتى كان الناس يرونهم وقواهم حتى كانوا يعملون له الأعمال الشاقة.
والمقرّن في الأصفاد لا يكون إلا جسماً كثيقاً.
وأما إقداره عليهم وتكثيفهم في غير أزمان الأنبياء فإنه غير جائز ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون نقضاً للعادة ، كما في "آكام المرجان في أحكام الجان".
وقال بعضهم : إن الشياطين كانوا يشاهدون في زمن سليمان ، ثم إنه لما توفي أمات الله أولئك الشياطين وخلق نوعاً آخر في غاية الرقة واللطافة.
وفيه أن الشياطين منظرون ، فكيف يموتون إلا أن يختص الأنظار بإبليس أو إلا أن يحمل الشياطين على كفار الجن ، فإنهم ماردون أيضاً.
روي : أن الله تعالى أجاب دعاء سليمان بأن سخر له ما لم يسخره لأحد من الملوك ، وهو الرياح والشياطين والطير ، وسخر له من الملوك ما لم يتيسر لغيره مثل ذلك ، فإنه روي : أنه ورث ملك أبيه داود في عصر كيخسرو بن سياوش ، وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره إلى كيخسرو ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث قليلاً حتى هلك ، ثم سار إلى مرو ، ثم سار إلى بلاد الترك ، فوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى اين وافى بلاد فارس ، فنزلها أياماً ، ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء.
وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء ، وهي بلقيس ما ذكره الله تعالى كتابه الكريم وغزا بلاد المغرب ، الأندلس وطنجة وإفرنجة ونواحيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ * هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ * وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّه أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَا هَـاذَا مُغْتَسَلُ} .
{هَـاذَآ} ؛ أي : فسخرنا وقلنا له : هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم والبسطة والتسلط على ما لم يسلط
38
عليه غيرك.
{عَطَآؤُنَا} الخاص بك الذي لا يقدرعليه غيرنا {فَامْنُنْ} من قوله منّ عليه منّاً ؛ أي : أنعم ؛ أي : فأعط منه من شئت.
{أَوْ أَمْسِكْ} وامنع منه من شئت ، وأو للإباحة.
(8/28)
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} : حال من المستكن في الأمر ؛ أي : غير محاسب على منّه وإحسانه ومنعه وإمساكه ، لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق.
وفي "المفردات" : قيل تصرف فيه تصرف من لا يحاسب ؛ أي : تناول كما تحب وفي وقت ما تحب وعلى ما تحب وأنفقه كذلك.
انتهى.
قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمه إلا كان عليه تبعة إلا سليمان ؛ فإن أعطى أجر عليه وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة وإثم.
وهذا مما خص به والتبعة ما يترتب على الشيء من المضرة ، وكل حق يجب للمظلوم على الظالم بمقابلة ظلمه عليه.
قال بعض الكبار المحققين : كان سؤال سليمان ذلك عن أمر ربه ، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان امتثال أمر وعبادة ، فللطالب الأجر التام على طلبه من غير تبعة حساب ولا عقاب ، فهذا الملك والعطاء لا ينقصه من ملك آخرته شيئاً ، ولايحاسب عليه أصلاً ، كما يقع لغيره.
وأما ما روي : أن سليمان آخر الأنبياء دخولاً الجنة لمكان ملكه ، فعلى تقدير صحته لا ينافي الاستواء بهم في درجات الجنة ، ومطلق التأخر في الدخول لا يستلزم الحساب.
وقد روي : (إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة سنة).
ويجوز أن يكون بغير حساب حالاً من العطاء ؛ أي : هذا عطاؤنا ملتبساً بغير حساب لغاية كثرته كما يقال للشيء الكثير.
هذا لا يحيط به حساب أو صلة له وما بينها اعتراض على التقديرين.
{وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى} ؛ أي : لقربة في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا.
{وَحُسْنَ مَـاَابٍ} ، وهو الجنة.
وفي الحديث : "أرأيتم ما أعطي سليمان بن داود من ملكه ، فإن ذلك لم يزده إلا تخشعاً ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربه".
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
أي : ولذا وجد الزلفى ، وحسن المرجع ، فطوبى له حيث كان فقيراً في صورة الغنى.
وفي الإشارة إلى أن الإنسان إذا كمل في إنسانيته يصير قابلاً للفيض الإلهي بلا واسطة ، فيعطيه الله تعالى من آثار الفيض تسخير ما في السماوات من الملائكة كما سخر لآدم بقوله : {اسْجُدُوا لادَمَ} (البقرة : 34).
وما في الأرض كما سخر لسليمان الجن والإنس والشياطين والوحوش والطيور.
وذلك لأن كل ما في السماوات وما وفي الأرض أجزاء وجود الإنسان الكامل ، فإذا أنعم الله عليه بفيضه سخر له أجزاء وجوده في المعنى.
أما في الصورة ، فيظهر على بعض الأنبياء تسخَر بعضها إعجازاً له كما ظهر على نبينا عليه السلام تسخر القمر عند انشقاقه بإشارة أصبع ، ولذا قال : هذا عطاؤنا إلخ يشير إلى أن للأنبياء بتأييد الفيض الإلهي ولاية إفاضة الفيض على من هو أهله عند استفاضته.
ولهم إمساك الفيض عند عدم الاستفاضة من غير أهله ولا حرج عليهم في الحالتين ، وإن له عندنا لزلفى في الإفاضة والإمساك وحسن مآب ؛ لأنه كان متقرباً إلينا بالعطاء والمنع كما في "التأويلات النجمية".
روي : أن سليمان عليه السلام فتن بعدما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة ثم انتقل إلى حسن مآب : قال الشيح سعدي :
جهان اي بسر ملك جاويد نيست
ز دنيا وفادارى أميد نيست
نه بر باد رفتى سحر كاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدى كه برباد رفت
خنك آنكه باذانش وداد رفت
39
أيقظنا الله تعالى وإياكم.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} ابن آموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، وأمه من أولاد لوط بن هاران وزوجته رحمة بنت إفراييم بن يوسف عليه السلام أوليا بنت يعقوب عليه السلام.
ولذا قال في "كشف الأسرار" : كان أيوب في زمان يعقوب أوماخير بنت ميشا بن يوسف.
والأول أشهر الأقاويل.
قال القرطبي : لم يؤمن بأيوب إلا ثلاثة نفر وعمره ثلاث وتسعون.
وقوله : أيوب ، عطف بيان للعبد.
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ} بدل من عبدنا ؛ أي : دعا وتضرع بلسان الاضطرار والافتقار.
{إِنِّى} ؛ أي : بأني {مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ} أصابني.
وبالفارسية (ديو بمن رسيد) ، فتكون الباء في قوله : {بِنُصْبٍ} للتعدية ؛ أي : تعب ومشقة وكذا النصب بفتحتين {وَعَذَابٍ} العذاب : الإيجاع الشديد ؛ أي : ألم ووصب يريد مرضه وما كان يقاسيه من فنون الشدائد ، وهو المراد بالضر في قوله في سورة الأنبياء : {أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ} (الأنبياء : 83) ، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به بعبارته ، وإلا لقيل أنه مسه إلخ ، وليس هذا تمام دعائه عليه السلام ، بل من جملة قوله : {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} ، فاكتفى هاهنا عن ذكره بما في سورة الأنبياء كما ترك هناك ذكر الشيطان ثقة بما ذكر هاهنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فإن قلت : لا قدرة للشيطان البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ؛ لأنه لو قدر على ذلك لسعى في قتل الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ، فهو لا يقدر أن يضر أحداً إلا بطريق إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة.
فما معنى إسناد المس إليه.
(8/29)
قلت : إن الذي أصابه لم يصبه إلا من الله تعالى إلا أنه أسنده إلى الشيطان لسؤال الشيطان منه تعالى أن يمسه الله تعالى بذلك الضر امتحاناً لصبره ، ففي إسناده إليه دون الله تعالى مراعاة للأدب.
روي : أن أيوب عليه السلام كان له أموال كثيرة من صنوف مختلفة.
وهو مع ذلك كان مواظباً على طاعة الله محسناً للفقراء واليتامى وأرباب الحاجات ، فحسده إبليس لذلك.
وقال : إنه يذهب بالدنيا والآخرة ، فقال : إلهي عبدك أيوب قد أنعمت عليه ، فشكرك وعافيته ، فحمدك ولو ابتليته بنزع النعمة والعافية لتغير عن حاله ، فقال تعالى : إني أعلم منه أن يعبدني ويحمدني على كل حال ، فقال إبليس : يا رب سلطني عليه وعلى أولاده وأمواله ، فسلطه على ذلك ، فأحرق زرعه وأسقط الأبنية على أولاده ، فلم يزدد أيوب إلا حمداً لربه ، ثم نفخ في جسده نفخة خرجت بها فيه النفاخات ، ثن تقطرت بالدم الأسود وأكله الدود سبع سنين ، وهو على حاله في مقام الصبر والرضى والتسليم ، فكان بلاؤه امتحاناً من غير أن يكون منه ذنب يعاقب عليه ليبرز الله ما في ضميرة ، فيظهر لخلقه درجته ، أين هو من ربه كما ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول".
وعلى هذا القول اعتماد الفحول ، فدع ما عداه فإنه غير مقبول.
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {وَاذْكُرْ} إلخ إلى معاني مختلفة.
{مِنْهَا} : إن من شرط عبودية خواص عباده من الأنبياء والأولياء الصبر عند نزول البلاء والرضى بجريان أحكام القضاء.
ومنها : ليعلم أن الله تعالى لو سلط الشيطان على بعض من أوليائه وأنبيائه لا يكون لإهانتهم بل يكون لعزتهم وإعانتهم على البلوغ إلى رتبة نعم العبدية ودرجة الصابرين المحبوبين.
ومنها : أن العباد من الأنبياء لو لم يكونوا في كنف عصمة الله وحفظه لمستهم الشياطين ينصب وعذاب.
ومنها : أن من آداب العبودية إجلال الربوبية وإعظامها عن إحالة الضر والبلاء والمحن عليها لا على الشيطان ، كما قال يوسف عليه السلام :
40
{وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنا بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} (يوسف : 100).
وقال يوشع عليه السلام : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ} (الكهف : 63).
وقال موسى عليه السلام : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} (القصص : 15).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ومنها : ليعلم أنه ما بلغ مقام الرجال البالغين ؛ إلا بالصبر على البلوى وتفويض الأمور إلى المولى والرضى بما يجري عليه من القضاء.
انتهى.
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الركض الضرب والدفع القوي بالرجل ، فمتى نسب إلى الراكب ، فهو إغراء مركوبه وحثه للعدو نحو ركضت الفرس ، ومتى نسب إلى الماشي ، فوطىء الأرض كما في الآية كذا قاله الراغب.
والرجل : القدم أو من أصل الفخذ إلى رؤوس الأصابع.
والمعنى : إذ نادى فقلنا له على لسان جبريل عليه السلام حين انقضاء مدة بلائه اركض برجلك ؛ أي : من اضرب بها الأرض : وبالفارسية (بزن باي خودرا بزمين) ، وهي أرض الجابية بلد في الشام من إقطاع أبي تمام ، فضربها فنبعت عين.
فقلنا له : {هَـاذَآ} (اين جمشه).
{مُغْتَسَلُا بَارِدٌ} تغتسل به.
وقال الكاشفي : (جاي غسل كردنست يا آبيست كه بدان غسل كنند).
أشار إلى أن المغتسل هو الموضع الذي يغتسل فيه ، والماء الذي يغتسل به.
والاغتسال : غسل البدن وغسلت الشيء غسلاً أسلت عليه الماء ، فأزلت درنه.
{وَشَرَابٌ} تشرب منه فيبرأ باطنك.
والشراب : هو ما يشرب ويتناول من كل مائع ماء كان أو غيره.
والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.
وقال بعض الكبار : هذا مغتسل به ؛ أي : ماء يغتسل به وموضعه وزمانه بارد يبرد حرارة الظاهر وشراب يبرد حرارة الباطن ، يعني : إنما كان الماء بارداً لما كان عليه من إفراط حرارة الألم ، فسكن الله إفراطها الزائد المهلك ببرد الماء وأبقى الحرارة النافعة للإنسان.
وفي كلام الشيخ الشهير بافتاده البرسوي قدس سره أن المراد بالماء في هذه الآية صورة إحياء الله تعالى.
وهو المراد بماء المطر أيضاً فيما روي أنه إذا كان يوم القيامة ينزل المطر على الأموات أربعين سنة ، فيظهرون من الأرض كالنبات.
انتهى.
فاغتسل أيوب عليه السلام من ذلك الماء وشرب فذهب ما به من الداء من ظاهره وباطنه ، فإن الله تعالى إذا نظر إلى العبد بنظر الرضى يبدل مرضه بالشفاء وشدته بالرخاء وجفاءه بالوفاء ، فقام صحيحاً وكسي حلة ، وعاد إليه جماله وشبابه أحسن ما كان.
وقال ابن عباس ـ ـ رضي الله عنهما ـ ـ : مكث في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات لم يغمض فيهن ولم ينقلب من جنب إلى جنب كما في "زهرة الرياض".
(8/30)
قال حضرة الشيخ بالى الصوفي في "شرح الفصوص" : الإشارة فيه أن الله تعالى أمر نبيه بضرب الرجل على الأرض ، ليخرج منها الماء لإزالة ألم البدن ، فهو أمر لنا بالسلوك والمجاهدة ، ليخرج ماء الحياة ، وهو العلم بالله من أرض وجودنا لإزالة أمراض أرواحنا ، وهي الحجب المبعدة عن الحق.
ثم قال : وفي هذه الآية سر لطيف ، وهو أن السالكين مسلك التقوى بالمجاهدة والرياضات إذا اجتمعوا في منزل وذكروا الله كثيراً بأعلى صوت وضربوا أرجلهم على الأرض مع الحركة ، أية حركة كانت ، وكانت نيتهم بذلك إزالة الألم الروحاني.
جاز منهم ذلك إذا ضرب الرجل الصورية على الأرض الصورية مع الذكر الصوري بنية خالصة يوصل إلى الحقيقة إذ ما من حكم شرعي إلا وله حقيقة توصل عامله إلى حقيقته.
انتهى كلامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال بعض العلماء : بالله ارتفاع الأصوات في بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات حتى قال
41
أهل البصائر : إن الأنفاس البشرية هي التي تدير الأفلاك العلوية.
انتهى.
فقد شرطوا في ضرب الرجل وكذا في رفع الصوت حسن النية وصفوة الباطن من كل غرض ومرض ، فإذا كان المرء حسن النية يراعي الأدب الظاهري والباطني من كل الوجوه ، فيعرج بمعراج الخلوص على ذروة مراتب أهل الخصوص ، ويسلم من الجرح والقدح لكون حركته على ما أشار إليه النصوص.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : لا يجوز لأحد التواجد إلا بإشارة شيخ عارف بأمراض الباطن.
وفي محل آخر من شرط أهل الله في السماع أن يكونوا على قلب رجل واحد وأن لا يكون فيهم من ليس من جنسهم ، أو غير مؤمن بطريقهم ، فإن حضور مثل هؤلاء يشوش.
وفي آخر لا ينبغي للأشياخ أن يسلموا للمريد حركة الوجد الذي تبقي معه الإحساس بمن في المجلس ولا يسلم له حركته إلا إن غاب.
ومهما أحس بمن كان في المجلس تعين عليه أن يجلس إلا أن يعرف الحاضرون أنه متواجد لا صاحب وجد ، فيسلم له ذلك ؛ لأن هذه الحالة غير محمودة بالنظر إلى ما فوقها.
وفي آخر إذا كانت حركة المتواجد نفسية فليست بقدسية وعلامتها الإشارة بالأكمام والمشي إلى خلف وإلى قادم والتمايل من جانب إلى جنب ، والتفريق بين راجع وذاهب فقد أجمع الشيوخ على أن مثل هذا محروم مطرود.
انتهى.
فقد شرط الشيخ رضي الله عنه في هذا الكلمات لمن أراد الوجد والسماع ، حضور القلب والعشق والمحبة والصدق وغلبة الحال.
فقول القرطبي استدل بعض الجهال المتزهدة وطغاة المتوصفة ، بقوله تعالى لأيوب عليه السلام : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} على جواز الرقص.
وهذا احتجاج بارد ؛ لأنه تعالى إنما أمر بضرب الرجل لنبع الماء لا لغيره ؛ وإنما هو لأهل التكلف كما دل عليع صيغة التزهد والتصوف ؛ فإن أتقياء الأمة برآء من التكلف ، فهو زجر لفسقة الزمان عما هم عليه من الاجتماع المنافي لنص القرآن ؛ فإنهم لو كانوا صلحاء مستأهلين لأباحت لهم إشارة القرآن ذلك ، لكنهم بمعزل عن الركض بشرائط فهم ممنوعون جداً.
قال الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : ليس في طريق الشيخ الحاجي بيرام قدس سره : الرقص حال التوحيد وليس في طريقنا أيضاً ، بل نذكر الله قياماً وقعوداً ولا نرقص على وفق قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 191).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وقال أيضاً : ليس في طريقنا رقص ، فإن الرقص والأصوات كلها إنما وضع لدفع الخواطر ، ولا شيء في دفعها أشد تأثيراً من التوحيد فطريقنا طريق الأنبياء عليهم السلام ، فنبينا عليه السلام لم يلقن إلا التوحيد.
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَا هَـاذَا مُغْتَسَلُا بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَه أَهْلَه وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّه وَلا} .
{وَوَهَبْنَا لَه أَهْلَهُ} معطوف على مقدار ؛ أي : فاغتسل وشرب ، فكشفنا بذلك ما به من ضر كما في سورة الأنبياء ووهبنا له أهله : يعني (فرزندان ويرا زنده كرديم).
وكانوا ثلاثة عشر.
روى الحسن : أن الله تعالى أحياهم بعد هلاكهم ؛ أي : بما ذكر من أن إبليس هدم عليهم البناء فماتوا تحته.
{وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} عطف على أهله ، فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل ؛ أي : زاده على ما كان له قبل البلاء ، قال الصائب :
زفوت مطلب جزؤى مشوغمين كه فلك
ستاره ميبرد وآفتاب مى آرد
{رَحْمَةً مِّنَّا} ؛ أي : لرحمة عظيمة عليه من عندنا {وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} ، ولتذكيرهم
42
بذلك ليصبروا على الشدائد كما صبر ، ويلجؤوا إلى الله فيما ينزل بهم كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة : قال الكاشفي : (رحمت إلهي فرج را بصير ناريست).
اصبر فإن الصبر مفتاح الفرج
كليد صبر كسى راكه باشد اندردست
هرآينه در كنج مراد بكشايد
بشام تيره مخت بساز وصبر نماى
كه دمبدم سحر از برده روى بنمايد
(8/31)
(آورده أندكه درزمان مرض أيوب عليه السلام زوجه أو رحمه بهمى رفته بود وديرمى آمد أيوب سوكند خورد كه أورا صدجوب بزند جون تباشير صبح صحت أزافق رحمت روى نمود وأيوب بحالت تن درستي وجواني بازآمه خواست تاسوكند خودرا راست كند خطاب از حضرت عزت رسيدكه).
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} .
قال في "الإرشاد" : معطوف على اركض أو على وهبنا بتقدير.
وقلنا خذ بيدك إلخ والأول أقرب لفظاً.
وهذا أنسب معنى ؛ فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة.
والضغث : الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه في "المفردات" الضغث : قبضة ريحان أو حشيش.
وبه شبه الأحلام المختلطة التي لا يتبين حقائقها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
انتهى.
وقال الكاشفي : (وبكير بدست خود سته از جوب ازخر ما يا از حشائش خشك شده كه بعدد صد باشد وفي "كشف الأسرار" مفسران كفتند إبليس برصورت طبيبي برسر راه نشست وبيماران را مداوات مي كرد زن أيوب آمد وكفت بيماري كه فلان علت دارد أورا مداوات كنى إبليس كفت أورا مداوات كنم وشفادهم بشرط آنكه جون أورا شفادهم اومرا كويد "أنت شفيتني" يعني : تومرا شفا دادي ازشما جزاين نخواهم زن بيامد وآنجه ازوي شنيد بأيوب كفت أيوب بدانست كه آن شيطانست وأورا از راه مي برد وكفت "والله لئن برئت لأضربنك مائة" بس جون به شد جبريل آمد وبيام آورد ازحق تعالى كه آن زن ترا درايام بلا خدمت نيكو كرد اكنون تخفيف ويرا وتصديق سوكند خودرا دسته كياه وريحان كه بعدد صد شاخ باشد با قبضه كه ازين درخت كندم كه خوشه برسردارد آنرا بدست خويش كير).
فإنه قال في "التكملة"ـ : وقد روي : أنه أخذ مائة سنبلة في كف واحد فضربها بها.
وقيل : باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام فحلف بذلك.
قال في "فتح الرحمن" : روي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه فيتلقاها الشيطان مرة في صورة طبيب ومرة في هيئة ناصح ، فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء ، ولو ذبح عناقاً للصنم الفلاني لبرىء.
ويعرض لها وجوهاً من الكفر فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول : لقيت عدو الله في طريقك ، فلما أغضبته حلف إن عوفي ليجلدنها مائة جلدة.
انتهى.
يقول الفقير : هذه الوجوه ذكرت أيضاً في غيره من التفاسير لكنها ضعيفة ، فإن امرأة أيوب ، وهي رحمة وكانت بنت ابن يوسف الصديق عليه السلام على ما هو الأرجح ، ولا يتصور من مثل هذه المرأة المتدينة أن تحمل أيوب على ما هو كفر في دينه وفي سائر الأديان ، وبمجرد نقل كلام العدو لا يلزم الغضب والحلف ، فالوجه الأول أليق بالمقام.
{فَاضْرِب بِّهِ} ؛ أي : بذلك الضغث زوجك.
في يمينك ، فإن البر يتحقق به ، فأخذ
43
ضغثاً فضربها ضربة واحدة.
يقال : حنث في يمينه إذا لم يف بها.
وقال بعضهم : الحنث : الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه وترك ما حلف على فعله من حيث أن كل واحد منهما سبب له.
وفي "تاج المصادر" (الحنث : دروغ شدن سوكند) ويعدى بفي (وبزه مند شدن).
فإن قيل : لم قال الله تعالى لأيوب عليه السلام {وَلا تَحْنَثْ} .
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ} (التحريم : 2).
قلنا : لأن كفارة اليمين لم تكن لأحد قبلنا ، بل هي لنا مما أكرم الله به هذه الأمة بدليل قوله تعالى : لكم.
كذا في "أسئلة الحكم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي كلام بعض المفسرين : لعل التكفير لم يجز في شرعهم أو أن الأفضل الوفاء به.
انتهى.
قال الشيخ نجم الدين رحمة الله : أراد الله أن يعصم نبيه أيوب عليه السلام من الذنبين اللازمين.
أحدهما : إما الظلم وإما الحنث ، وأن لا يضيع أجر إحسان المرأة مع زوجها ، وأن لا يكافئها بالخير شراً ، وتبقى ببركتها هذه الرخصة في الأمم إلى يوم القيامة.
انتهى.
فقد شرع الله هذه الرحمة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وهي رخصة باقية في الحدود يجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب ؛ أي : بشرط أن توجد صورة الضرب ؛ ويعمل بالحيل الشرعية بالاتفاق.
روي : أن الليث بن سعد حلف أن يضرب أبا حنيفة بالسيف ، ثم ندم من هذه المقالة وطلب المخرج من يمينه ، فقال أبو حنيفة رحمه الله : خذ السيف واضربني بعرضه ، فتخرج عن يمينك كما في "مناقب الإمام" رضي الله عنه.
(8/32)
قال في "فتح الرحمن" : مذهب الشافعي إذا وجب الحد على مريض وكان جلداً أخر للمرض ، فإن لم يرج برؤه جلد بعثكال عليه مائة غصن ، فإن كان خمسين ضرب به مرتين وتمسه الأغصان ، أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم ، فإن برىء أجرأه.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله يؤخر فلا يجلد حتى يبرأ كمذهب الشافعي ، فإن كان ضعيف الخلقة يخاف عليه الهلاك لو ضرب شديداً ، يضرب مقدار ما يتحمله من الضرب.
ومذهب مالك : لا يضرب إلا بالسوط ويفرق الضرب وعدد الضربات مستحق لا يجوز تركه ، فإن كان مريضاً آخر إلى أن يبرأ كمذهب الشافعي وأبي حنيفة ومذهب أحمد : يقام الحد في الحال ولا يؤخر للمرض ، ولو رجى زواله ويضرب بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير ، فإن خشي عليه من السوط أقيم بأطراف الثياب وعثكول النخل ، فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ ، فضرب به ضربة واحدة كقول الشافعي.
وأما إذا كان الحد رجماً ، فلا يؤخر بالاتفاق ولا يقام الحد على حامل حتى تضع بغير خلاف ، فأبو حنيفة : إن كان حدها الجلد ، فحتى تتعالّ ؛ أي : تخرج من نفاسها ، وإن كان الرجم فعقيب الولادة ، وإن لم يكن للصغير من يربيه ، فحتى يستغني عنها.
والشافعي حتى ترضعه اللبان ويستغني بغيرها ، أو فطام لحولين.
ومالك وأحمد بمجرد الوضع.
{إِنَّا وَجَدْنَـاهُ} علمناه {صَابِرًا} فيما أصابه في النفس والأهل لولا أنا وجدناه صابراً ؛ أي : جعلناه يدل على هذا المعنى قوله تعالى لنبيه عليه السلام : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} (النحل : 127) ؛ أي : هو الذي صبرك وإن لم تكن تصبر.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
روي : أنه بلغ أمر أيوب عليه السلام إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان ، فجاءت دودة إلى القلب فعضته ، وأخرى إلى اللسان
44
فعضته ، فعند ذلك دعا أيوب فوقعت دودة في الماء فصار علقاً وأخرى في البر فصار نحلاً يخرج منه العسل.
وفي "زهرة الرياض" : أنه بقي على بدنه أربعة من الديدان.
واحد طار ووقع على شجرة الفرصاد ، فصار دود القز وواحد وقع في الماء فصار علقاً وواحد وقع في الحبوب فصار سوساً ، والرابع طار ووقع في الجبال والأشجار فصار نحلاً ، وهذا بعدما كشف الله عنه.
واعلم أن العلماء قالوا : إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الأمراض المنفرة ويناقش فيه بحديث أيوب عليه السلام إذ روي أنه تفرق عنه الناس حتى ارتد بعض من آمن به إلا أن يستثنى أيوب عليه السلام ، فإن ابتلاءه كان خارقاً للعادة وابتلاء الناس به أي ابتلاء.
ثم اعلم أنه ليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بصبره فإن الصبر حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله تعالى ، وفي حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي ، وهو ليس من آداب العبودية ، فلا بد من الشكاية ليصح الافتقار الذي هو حقيقتك المميزة نسبة العبودية من الربوبية.
ولذا قال أبو زيد البسطامي قدس سره :
جارجيز آورده ام شاها كه دركنج تونيست
نيستى وحاجت وعجز ونياز آورده ام
وجاع بعض العارفين فبكى فعاتبه في ذلك بعض من لا ذوق له ، فقال : إنما جوّعني لأبكي ، وأسأل {نِعْمَ الْعَبْدُ} ؛ أي : أيوب {إِنَّه أَوَّابٌ} تعليل لمدحه ؛ أي : إنما كان نعم العبد ؛ لأنه رجاع إلى الله تعالى لا إلى الأسباب مقبل بجملة وجوده إلى طاعته أو رجاع إلى الحضرة في طلب الصبر على البلاء ، والرضى بالقضاء.
ولقد سوى الله تعالى بين عبديه اللذين أحدهما أنعم عليه فشكر ، والآخر ابتلي فصبر حيث أثنى عليهما ثناء واحداً فقال في وصف سليمان : {نِعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ} (ص : 30).
وفي وصف أيوب كذلك ، ولم يلزم من الأوابية الذنب ؛ لأن بلاء أيوب كان من قبيل الامتحان على ما سبق.
واعلم أن العيش في البلاء مع الله عيش الخواص ، وعيش العافية مع الله عيش العوام.
وذلك لأن الخواص يشاهدون المبلى ، وفي البلاء وتطيب عيشتهم بخلاف العوام ؛ فإنهم بمعزل من الشهود ، فيكون البلاء لهم عين المحنة ، ولذا صبر لهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال ابن مسعود رضي الله عنه : أيوب عليه السلام رأس الصابرين إلى يوم القيامة.
قال بعضهم : (بلا ذخيرة أوليا واختيار اصفيا است هر يكنى بنوعى ممتحن بودند.
نوح بدست قوم خويش كرفتار.
إبراهيم بآتش نمرود.
إسماعيل بفتنه ذبح.
يعقوب بفراق فرزند.
زكريا ويحيى بمحنت قتل.
موسى بدست فرعون وقبطيان وعلى هذا أوليا وأصفيا.
يكى را محنت غربت بود ومذلت.
يكى راكر سنكى وفاقت.
يكى بيماري وعلت.
يكى را قتل وشهادت.
مصطفى عليه السلام كفت (إن الله ادخر البلاء لأوليائه كما ادخر الشهادة لأحبابه) جون رب عزت آن بلاها از أيوب كشفت كرد روزى بخاطروى بكذشت كه نيك صبر كردم دران بلا ندا آمدكه "أنت صبرت أم نحن صبرناك يا أيوب لولا أنا وضعنا تحت كل شعرة من البلاء جبلاً من الصبر لم تصبر" جنيد قدس سره كفت).
من شهد البلاء بالبلاء ضجّ من البلاء ، ومن شهد البلاء من المبلى حنّ إلى البلاء.
(8/33)
قال ابن عطاء : ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبلي.
واعلم أن لكل بلاء خلفاً إما في الدنيا ، وإما في الآخرة وإما في كليهما.
قال الصائب :
45
هر محنتى مقدمه راحتي بود
شد همز بان حق جو زبان كليم سوخت
يروى : أن الله تعالى لما أذهب عن أيوب ما كان به من الأذى أنزل عليه ثوبين أبيضين من السماء ، فاتزر بأحدهما ، وارتدى بالآخر.
ثم مشى إلى منزله ، فأقبلت سحابة فسحت في أندر قمحه ذهباً حتى امتلأ ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره ، فسحت فيه ورقاً حتى امتلأ وشكر الله خدمة زوجته فردها إلى شبابها وجمالها.
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّه وَلا تَحْنَثْا إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ * إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ} .
{وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ} المخصوصين من أهل العناية {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ} ابن إبراهيم {وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق.
ثم أومأ إلى وجه اختصاصهم بجنابه تعالى.
فقال : {أُوْلِى الايْدِى} ذوي الأيدي ، وهي جمع يد ، بمعنى الجارحة في الأصل أريد بها القوة مجازاً بمعونة المقام ، وذلك لكونها سبب التقوى على أكثر الأعمال.
وبها يحصل البطش والقهر ، ولم تجمع القوة لكونها مصدراً يتناول الكثير.
{وَالابْصَـارِ} جمع بصر.
حمل على بصر القلب ويسمى البصيرة ، وهي القوة التي يتمكن بها الإنسان من إدراك المعقولات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال في "المفردات" : البصر يقال للجارحة الناظرة ، وللقوة التي فيها يقال لقوة القلب المدركة : بصيرة وبصر ، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة.
وجمع البصر : أبصار.
وجمع البصيرة : بصائر.
والمعنى : ذوي القوة في الطاعة والبصيرة في أمور الدين.
ويجوز أن يراد بالأيدي الأعمال الجليلة لأن أكثر الأعمال تباشر بها ، فغلب الأعمال بالأيدي على سائر الأعمال التي تباشر بغيرها ، وأن يراد بالأبصار المعارف والعلوم الشريفة ؛ لأن البصر والنظر أقوى مباديها ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية ، والذين لا يفكرون فكر ذوي الديانات في حكم من لا استبصار لهم.
وفيه تعريض بالجهلة البطالين ، وأنهم كالزمنى والعميان حيث لا يعملون عمل الآخرة ولا يستبصرون في دين الله وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكينهم منهما.
وفي المثنوي :
أندرين ره مى تراش ومى خراش
تا دم آخر دمى فارغ مباش
{إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ} تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية وعلو الرتبة.
والتنكير للتفخيم ؛ أي : إنا جعلناهم لنا بخصلة خالصة عظيمة الشأن لا شوب فيها.
{ذِكْرَى الدَّارِ} مصدر بمعنى التذكر مضاف إلى مفعوله ، وهو خبر مبتدأ محذوف.
والجملة صفة خالصة.
والتقدير : هي تذكرهم للدار الآخرة دائماً ولا همّ لهم غيرها وإطلاق الدار يعني مراداً بها الآخرة للإشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا معبر.
فإن قيل : كيف يكونون خالصينتعالى وهم مستغرقون في الطاعة ، وفيما هو سبب لها ، وهو تذكر الآخرة.
قلت : إن استغراقهم في الطاعة إنما هو لاستغراقهم في الشوق إلى لقاء الله ، ولما لم يكن ذلك إلا في الآخرة ، استغرقوا في تذكرها وفي الآخرة : (آن ياد كردن سراى آخر تست جه مطمح نظر أنبيا جزفوز بلقاى حضرت كبريا نيست وآن در آخرت ميسر شود).
وفي "التأويلات النجمية" : إنا صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة الأنانية وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية ليس لغيرنا فيهم نصيب لا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضة لا إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهمّ آخر هي ذكرى الدار الباقية ، والمقر الأصلي ؛ أي : استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس وإعراضهم عن معدن الرجس مستشرقين لأنواره لا التفات لهم في الدنيا وظلماتها أصلاً.
46
انتهى.
يقول الفقير : أراد أن الدنيا ظلمة ؛ لأنها مظهر جلاله تعالى والآخرة نور ؛ لأنها مجلى جماله تعالى.
والتاء : للتخصيص.
والأصل : الآخر الذي هو الله تعالى ، ولذا يرجع العباد إليه بالآخرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} .
قوله : عند ظرف لمحذوف دل عليه المصطفين ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لقوله : من المصطفين ؛ لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي.
وما في حيز الصلة لا يتقدم على الموصول.
والمصطفين : بفتح التاء والنون جمع مصطفى.
أصله : مصطفيين بالياءين وبكسر الأولى.
والمعنى لمن المختارين من أمثالهم {الاخْيَارِ} المصطفين عليهم في الخير.
وفي "التأويلات النجمية" : وأنهم في الحضرة الواحدية لمن الذين اصطفيناهم لقربنا من بني نوعهم الأخيار المنزهين عن شوائب الشر والإمكان والعدم والحدثان.
انتهى.
(8/34)
وذكر العندية وقرن بها الاصطفائية إشارة إلى أن الاصطفائية في العبودية أزلية قبل وجود الكون فشرفهم خاص وموهبة خالصة بلا علل.
والأخيار : جمع خير كشر وأشرار على أنه اسم تفضيل أو خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات جمع : ميت وميت.
{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِا وَكُلٌّ مِّنَ الاخْيَارِ * هَـاذَا ذِكْرٌا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـاَابٍ * جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ * مُتَّكِـاِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ} .
{وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ} ابن إبراهيم عليهما السلام ، وليس هو بأشموئيل بن هلقاثان على ما قال قتادة.
وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالتذكر ، وذلك لأنه أسلم نفسه للذبح في سبيل الله ، أو ليكون أكثر تعظيماً ، فإنه جد أفضل الأنبياء والمرسلين.
{وَالْيَسَعَ} هو ابن أخطوب من العجوز استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل ، ثم استنبىء ودخل اللام على العلم لكونه منكراً بسبب طرو الاشتراك عليه فعرف باللام العهدية على إرادة اليسع الفلاني مثل قول الشاعر : ()
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً
{وَذَا الْكِفْلِ} : هو ابن عم يسع أو يشير بن أيوب عليه السلام بعث بعد أبيه إلى قوم في الشام.
واختلف في نبوته.
والأكثرون على أنه نبي لذكره في سلك الأنبياء ، واختلف أيضاً أنه إلياس ، أو يوشع ، أو زكريا ، أو غيرهم.
وإنما لقب بذي الكفل ؛ لأنه فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم بمعنى : أطعمهم وكساهم وكتمهم من الأعداء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي "التأويلات النجمية" : قيل : إن اليسع وذا الكفل كانا أخوين ، وذو الكفل تكفل بعمل رجل صالح مات في وقته كان يصليكل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله إليه الثناء.
{وَكُلٌّ} ؛ أي : وكلهم على أن لا يكذبوا بدلاً منهم {مِّنَ الاخْيَارِ} المشهورين بالخيرية.
والآيات تعزية وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم فإن الأنبياء عليهم السلام إذا اجتهدوا في الطاعات وقاسوا الشدائد والآفات وصبروا على البلايا والأذيات من أعدائهم مع أنهم مفضولون ، فالنبي عليه السلام أولى بذلك لكونه أفضل منهم والأفضل يقاسي ما لا يقاسي المفضول إذ به تتم رتبته وتظهر رفعته.
قال في "كشف الأسرار" : (اسما دختر صديق رضي الله عنها روايت كندكه مصطفى عليه السلام روزى در انجمن قريش بكذشت يكى از ايشان برخاست كفت تويى كه خدايان مارا بد ميكويى ودشنام مى دهى رسول خدا كفت من ميكويم كه معبود عالميان يكيست بي شريك وبي نظير شما در برستش
47
اصنام برباطليد ايشان همه بيكبار هجوم كردند ودر رسول آو يختندن واورا ميزدند اسما كفت اين ساعت يكى آمد بدر سراى أبو بكر وكفت "أدرك صاحبك" صاحب خويش را در ياب كه در زخم دشمنانى كرفتارست أبو بكر يشتاب رفت وبا ايشان كفت "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" ايشان رسول رابكذاشتند وأبو بكر را بيمحابا زدند وأبو بكر كيسوان داشت جون بخانه باز آمدد ست بكيسوان فرو مى آورد وموى بدست وبازمى آمد وميكفت "تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام" رب العالمين اين همه رنج وبلا بردوستان نهد كه از ايشان دوجيز دوست دارد جشمى كريان ودلى بريان ودوست داردكه بنده مى كريد واورا دران كريه مى ستايدكه "ترى أعينهم تقيض من الدمع" ودوست دارد كه بنده مى نالد وبردركاه او مى زارد آن مى ستايدكه).
وجلت قلوبهم.
وفي المثنوي :
باسياستهاى جاهل صبركن
خوش مدارا كن بعقل من لدن
صبر برنا اهل اهلا نراجليست
صبر صافي ميكندهر جادليست
آتش نمرود إبراهيم را
صفوت آينه آمد در جلا
جور كفر نوحيان وصبر نوح
نوح را شد صيقل مرآت نوح
أنبيا رنج خسان بس ديده اند
از جنين ماران بسى بجيده اند
روبكش خندان وخوش بار حرج
از بى الصبر مفتاح الفرج
اللهم أعنا على الصبر {هَـاذَآ} المذكور من الآيات الناطقة بمجالس الأنبياء {ذِكْرِ} ؛ أي : شرف لهم وذكر جميل يذكرون به أبداً كما يقال : يموت الرجل ويبقى اسمه وذكره ، ويموت الفرس ويبقى ميدانه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ياد كارست جون حديث بشر
ياد كارت بخير به كه بشر
وفي التفسير الفارسي : (اين خبر انبيا سبب ياد كردست ترا اي محمد وقوم ترا).
كما في قوله تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف : 44).
وعن ابن عباس رضي عنهما : هذا ذكر من مضى من الأنبياء.
وفي "التأويلات النجمية" : هذا ؛ أي : القرآن فيه ذكر ما كان ، وذكر الأنبياء وقصصهم لتعتبر بهم وتقتدي بسيرهم.
{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الله لا ما سواه وهذا لأن جنات عدن مقام أهل الخصوص {لَحُسْنَ مَـاَابٍ} ، مرجع في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من الثناء الجميل ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ؛ أي : مآباً حسناً.
(8/35)
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ} عطف بيان لحسن مآب.
وأصل العدن في اللغة : الإقامة ثم صار علماً بالغلبة.
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إن الله تعالى بنى جنة عدن بيده وبناها بلبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصباءها الياقوت ، ثم قال لها : تكلمي فقالت : قد أفلح المؤمنون.
قالت الملائكة طوبى لك منزل الملوك".
يقول الفقير : دل الحديث على أن جنة عدن مقر الخواص والمقربين الذين هم بمنزلة الملوك من الرعايا ودل عليه إطلاق في قوله أيضاً : قد أفلح المؤمنون ؛ لأن الله تعالى عقب في القرآن
48
قوله : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1)بصفات لا تتيسر إلا للخواص ، فأين السياس من منازل السلاطين.
{مُّفَتَّحَةً} ؛ أي : حال كون تلك الجنات مفتحة.
{لَّهُمُ الابْوَابُ} منها ، والأبواب : مفعول مفتحة ؛ أي : إذا وصلوا إليها وجدوها مفتوحة الأبواب لا يحتاجون إلى فتح بمعاناة ولا يلحقهم ذل الحجاب ولا كلفة الاستئذان تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب والإكرام يقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
وقيل : هذا مثل كما تقول : متى جئتني وجدت بابي مفتوحاً لا تمنع من الدخول.
فإن قيل : ما فائدة العدول عن الفتح إلى التفتيح.
قلنا : المبالغة وليست لكثرة الأبواب بل لعظمها كما ورد من المبالغة في وسعها وكثرة الداخلين ، ويحتمل أن يكون للإشارة إلى أن أسباب فتحها عظيمة شديدة ؛ لأن الجنة قد حفت بالمكاره على وجه ما رآها جبرائيل عليه السلام مع عظمة نعيمها ، قال : يا رب أنى هذه لا يدخلها أحد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ * مُتَّكِـاِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ} .
{مُتَّكِـاِينَ فِيهَا} ، حال من لهم ؛ أي : حال كونهم جالسين فيها جلسة المتنعمين للراحة ولا شك أن الاتكاء على الأرائك دليل التنعم ثم استأنف لبيان حالهم في الجنات ، فقال : {يَدْعُونَ فِيهَا} .
(مى خوانند دران بهشتها).
{بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} ؛ أي : بألوان الفاكهة ، وهي ما يؤكل للذة لا للغذاء والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي ، فإنه لتحصيل بدل المتحلل ولا تحلل فيها.
{وَشَرَابٌ} ؛ أي : ويدعون فيها أيضاً بشراب.
وقيل : تقديره : وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول ؛ أي : يدعون بشراب كثير بمعنى ألوانه.
يقال : نطق القرآن بشعرة أشربة في الجنة منها : الخمر الجارية من العيون في والأنهار.
ومنها : العسل واللبن وغيرهما.
ولا شك أن الأذواق المعنوية في الدنيا متنوعة ومقتضاه تنوع التجليات الواقعة في الجنة سواء كانت تجليات شرابية أو غيرها.
{وَعِندَهُمْ} ؛ أي : عند المتقين {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ؛ أي : زوجات قصرن طرفهن ؛ أي : نظرهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم : يعني (زنانى كه از غير شوهر جشم باز كيرند).
قال في "كشف الأسرار" : هذا كقولهم فلانة عند فلان ؛ أي : زوجته {أَتْرَابٌ} جمع : ترب بالكسرة ، وهي اللدة ؛ أي : من ولد معك والهاء في اللدة عوض عن الواو الذاهبة من أوله ؛ لأنه من الولادة.
والمعنى : لدات أقران ينشأن معاً تشبيهاً في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر ولوقوعهن على الأرض معاً ؛ أي : يمسهن التراب في وقت واحد.
قال في "كشف الأسرار" : لدات مستويات في السن لا عجوز فيهن ولا صبية.
وقال بعضهم : لدات لأزواجهن ؛ أي : هن في سن أزواجهن : يعني : (تمام زنان بهشت درسن متساوى ازواج باشند مجموع سى وسه سال) لا أصغر ولا أكبر.
وفيه : أن رغبة الرجل فيمن هي دونه في السن وأنه كان التحاب بين الأقران أرسخ ، فلا يكون كونهن لدات لأزواجهن صفة مدح في حقهن.
(وبعضى برانندكه مراد از أتراب آنست همه زنان متساوى باشند در حسن يعنى هيج يك را رديكرى فضلى نبود دران تاطبع بفاضله كشد واز مفضوله منصرف كردد).
وفي الخبر الصحيح : "يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين سنة" ، "لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها".
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{هَـاذَآ} ؛ أي : تقول لهم الملائكة : هذا المعد من الثواب والنعيم.
{مَا تُوعَدُونَ}
49
أيها المتقون على لسان النبي عليه السلام {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} ؛ أي : لأجله فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء.
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون التقدير : ما توعدون بوقوعه في يوم الحساب والجزاء.
{إِنَّ هَـاذَآ} ؛ أي : ما ذكر من ألوان النعم والكرامات.
{لَرِزْقُنَا} عطاؤنا أعطيناكموه.
{مَا لَه مِن نَّفَادٍ} ؛ أي : ليس له انقطاع أبداً وفناء وزوال.
قال في "المفردات" : النفاد : الفناء.
(8/36)
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس لشيء نفاد ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله ، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حياً.
وفي "التأويلات النجمية" : وبقوله : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ} إلى قوله : {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} يشير إلى أن هذه الجنات بهذه الصفات مفتوحة لهم الأبواب.
وأبواب الجنة بعضها مفتوحة إلى الخلق ، وبعضها مفتوحة إلى الخالق لا يغلق عليهم واحد منها ، فيدخلون من باب الخلق وينتفعون بما أعد لهم فيها ثم يخرجون من باب الخالق وينزلون في مقعد صدق عند مليك مقتدر لا يقيدهم نعيم الجنة ليكونوا من أهل الجنة كما لم يقيدهم نعيم الدنيا ليكونوا من أهل النار ، بل أخلصهم من حبس الدارين ومتعهم بنزل المنزلين وجعلهم من أهل الله وخاصته {إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَه مِن نَّفَادٍ} ؛ أي : هذا ما رزقناهم في الأزل ، فلا نفاد له إلى الأبد.
انتهى.
فعلى العاقل الإعراض عن اللذات الفانية والإقبال على الأذواق الباقية ، فالفناء يوصل إلى البقاء كما أن الفقر يوصل إلى الغنى ولكل احتياج استغناء.
(حكايت كنند مردى مال بسيار داشت درداش افتادكه بازركاني كند دران كشتى كه نشسته بود بشكست ومال او جمله غرق شد واو برلوحى بماند بجزيره افتاد حالى بى مونسى ورفيقى سالها بروى آمد دلتنك كشت وغمكين شدشبي برلب دريا نشسته بود باليده وجامها ازوى فروشداين بيت ميكفت).
()
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وهيهات الغراب متى يشيب
(آو وازى درياشنيدكه كسى ميكفت) : ()
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
يكون وراءه فرج قريب
(ديكر روز آن مردرا جشم بردريا افناد وجيزى عظيم ديد جون نزديك آمد كشتى جو عروسى بودجون اين مردرا بديد ند كفتند حال توجيست قصة اش بكفت واز شهر ش خبر داد كفتند ترا هيج بر بود كفت نعم وصفتش بيان كرد ايشان همه بروى افتادند بوسه بروى دادند وكفتند اين بسر تواست واين كشتى ازان اوست ومابند كان اوييم وهرجه ازان اوست توبود واورا موى فروكرند وجامهاى فاخر بوشيدند وبراحت باجايكاه خويش آوردند).
فظهر أن ذلك الرجل ظن أن نفسه هلك ورزقه نفد فوجد الله تعالى قد أعطاه حالاً أحسن من حاله الأولى ؛ فإن رزقه ليس له نفاد وعطاءه غير مجذوذ.
{إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَه مِن نَّفَادٍ * هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ مَـاَابٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ} .
{هَـاذَآ} ؛ أي : الأمر في حق المتقين هذا الذي ذكرناه.
وقال بعضهم : هذا من قبيل ما إذا فرغ الكاتب من فصل وأراد الشروع في فصل آخر منفصل عما قبله.
قال هذا أي : احفظ ما كان كيت وكيت وانتظر إلى ما يجيء.
{وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ} ؛ أي : للذين طغوا على الله وكذبوا الرسل ، يعني : للكافرين.
قال الراغب : الطغيان تجاوز الحد في العصيان {لَشَرَّ مَـاَابٍ} مرجع في الآخرة.
50
{جَهَنَّمَ} عطف بيان لشر مآب {يَصْلَوْنَهَا} ، حال من المنوي في للطاغين ؛ أي : حال كونهم يدخلونها ، ويجدون حرها يوم القيامة ، ولكن اليوم مهدوا لأنفسهم ، {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} ؛ أي : جهنم : وبالفارسية : (بس بد آرامكاهيست دوزخ).
وهو : المهد والفرش مستعار من فراش النائم إذ لا مهاد في جهنم ولا استراحة ، وإنما مهادها نار وغواشيها نار كما قال تعالى : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} (الأعراف : 41) ؛ أي : فراش من تحتهم ، ومن تجريدية.
{وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (الأعراف : 41) ؛ أي : أغطية : يعني : (زيروزبر ايشبان آتش باشد).
{هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ} ؛ أي : ليذوقوا هذا العذاب ، فليذوقوه.
والذوق : وجود الطعم بالفم وأصله في القليل لكنه يصلح للكثير الذي يقال له : الأكل وكثر استعماله في العذاب تهكماً.
{حَمِيمٌ} ؛ أي : هو حميم وهو الماء الذي انتهى حره : يعني (آن آب كرم است درنهايت حرارت جون بيش لب رسد ويرا بسوزد وجون بخورند دو باره شود).
{وَغَسَّاقٌ} : ما يغسق من صديد أهل النار ؛ أي : يسيل من غسقت العين سال دمعها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال الكاشفي : (مراد ريم است كه از كوشت وبوست دوزخيان واز فروج زانيان سيلان ميكند آنرا جمع كرده بديشان مى خورانند).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الزمهرير يحرقهم برده كما يحرقهم النار بحرّها.
وفي "القاموس" : الغساق كسحاب وشداد البارد المنتن فلو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق.
وعن الحسن : هو عذاب لا يعلمه إلا الله إن ناساً اخفواطاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم} (السجدة : 17).
وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.
وقيل : هو مستنقع في جهنم يسيل إليه سم كل ذي سم من عقرب وحية يغمس فيه الآدمي فيسقط جلده ولحمه عن العظام.
(8/37)
وفي "التأويلات النجمية" : الذي مهدوا اليوم {فَلْيَذُوقُوهُ} يوم القيامة ، يعني قد حصلوا اليوم معنى صورته {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} يوم القيامة ولكن مذاقهم بحيث لا يجدون ألم عذاب ما حصلوه بسوء أعمالهم فليذوقوه يوم القيامة :
هركه أونيك ميكند يابد
نيك وبدهر كه ميكند يابد
فإذا تنعم المؤمنون بالفاكهة والشراب تعذب الكافرون بالحميم والغساق.
{وَءَاخَرُ} ومذوق آخر أو عذاب آخر {مِن شَكْلِهِ} ؛ أي : من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة.
{أَزْوَاجٌ} قوله : آخر مبتدأ وأزواج : مبتدأ ثان.
ومن شكله : خبر لأزواج.
والجملة خبر المبتدأ الأول وأزواج ؛ أي : أجناس ؛ لأنه يجوز أن يكون ضروباً : يعني (اين عذاب كونا كونست أما همه متشابه يكديكرند در تعذيب وإيلام).
وفي "التأويلات النجمية" : أي فنون أخر مثل ذلك العذاب يشير به إلى أن لكل نوع من المعاصي نوعاً آخر من العذاب كما أن كل بذر يزرعونه يكون له ثمرة تناسب البذر :
همينت بسندست اكر بشنوى
كه كرخار كارى سمن ندروى
{وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ * هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبَا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ} .
{هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} : الفوج : الجماعة والقطيع من الناس.
وأفاج : أسرع وعدا وندّ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال الراغب : الفوج الجماعة المارة المسرعة ، وهو مفرد اللفظ ، ولذا قيل : مقتحم لا مقتحمون.
والاقتحام : الدخول في الشيء بشدة والقحمة : الشدة.
قال في "القاموس" : قحم في الأمر كنصر قحوماً رمى
51
بنفسه فيه فجأة بلا رؤية.
والمعنى : يقول الخزنة لرؤوساء الطاغين إذا دخلوا النار مشيرين إلى الأتباع الذين أضلوهم هذا ؛ أي : الأتباع فوج تبعكم في دخول النار بالاضطرار كما كانوا قد تبعوكم في الكفر والضلالة بالاختيار ، فانظروا إلى أتباعكم لم يحصل بينكم وبينهم تناصر ، وانقطعت مودتكم وصارت عداوة.
قيل : يضرب الزبانية المتبوعين والأتباع معاً بالمقامع ، فيسقطون في النار خوفاً من تلك المقامع ، فذلك هو الاقتحام : وبالفارسية : (اين كردهست كه در آمد كانند در دوزخ برنج وسختى باشما هركه أز روى حرص وشهوت جايى نشيندكه خواهد بجاى كشندش كه نخواهد).
{لا مَرْحَبَا بِهِمْ} مصدر بمعنى الرحب ، وهو السعة ، وبهم بيان للمدعو وانتصابه على أنه مفعول به لفعل مقدر ؛ أي : لا يصادفون رحباً وسعة أو لا يأتون رحب عيش ولا وسعة مسكن ، ولا غيره.
وحاصله : لا كرامة لهم ، أو على المصدر ؛ أي : لا رحبهم عيشهم ومنزلهم رحباً ، بل ضاق عليهم : وبالفارسية : (هيج مرحبا مباد ايشانرا).
يقول الرجل لمن يدعوه مرحباً ؛ أي : أتيت رحباً من البلاء ، وأتيت واسعاً وخيراً كثيراً.
قال الكاشفي : (مرحبا كلمه ايست براى اكرام مهمان ميكويند).
وقال غيره : يقصد به إكرام الداخل وإظهار المسرة بدخوله ، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء.
وفي بعض شروح الحديث التكلم بكلمة مرحباً سنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم حيث قال : "مرحباً يا أم هانىء" حين ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الفتح ، وهي بنت أبي طالب أسلمت يوم الفتح ، ومن أبواب الكعبة باب أم هانىء لكون بيتها في جانب ذلك الباب ، وقد صحّ أنه عليه السلام عرج به من بيتها كما قال المولى الجامي :
جو دولت شد زبد خواهان نهانى
سوى دولت سراى أم هاني
{إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} تعليل من جهة الخزنة لاستحقاقهم الدعاء عليهم ؛ أي : داخلون النار بأعمالهم السيئة وباستحقاقهم.
{قَالُوا} ؛ أي : الأتباع عند سماع ما قيل في حقهم.
{بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ} (بلكه شما مرحبا مباد شمارا بدين نفرين سزاوار تريد).
خاطبوا الرؤساء مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى الخزنة طمعاً ، بل هم لا مرحباً بهم قصداً منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة في قضائهم بتخفيف عذابهم ، أو تضعيف عذاب خصمائهم ؛ أي : بل أنتم أيها الرؤوساء أحق بما قيل لنا من جهة الخزنة لإغوائكم إيانا مع ضلالكم في أنفسكم.
{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} تعليل لأحقيتهم بذلك ؛ أي : أنتم قدمتم العذاب أو الصليّ لنا واوقعتمونا فيه بتقديم ما يؤدي إليه من العقائد الزائغة ، والأعمال السيئة وتزيينها في أعيننا وإغرائنا عليها لا أنا باشرنا من تلقاء أنفسنا.
وذلك أن سبب عذاب الأتباع هو تلك العقائد والأعمال والرؤساء لم يقدموها ، بل الذين قدموها هم الأتباع باختيارهم إياها واتصافهم بها ، والذي قدمه الرؤساء لهم ما يحملهم عليها من الإغواء والإغراء عليها ، وهذا القدر من السببية كاف في إسناد تقديم العذاب أو الصليّ إلى الرؤساء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/38)
{فَبِئْسَ الْقَرَارُ} ؛ أي : فبئس المقر جهنم قصدوا بذمها جناية الرؤساء عليهم.
{قَالُوا} ؛ أي : الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله.
{رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا} العذاب أو الصليّ.
وفي "التفسير"
52
الفارسي : (هركه فرا بيش داشت براى ما اين كفر وضلال ومارا ازراه حق بلغزانيد).
{فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ} .
(بس زياده كن أورا عذابي دوباره در آتش يعني ان مقدار عذاب كه دارد دوجندان كن).
ومن يجوز أن تكون شرطية وفزده جوابها ، وأن تكون موصولة بمعنى الذي مرفوعة المحل على الابتداء والخبر ، فزده ، والفاء : زائدة لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وضعفاً صفة لعذاباً بمعنى مضاعفاً.
وفي النار ظرف لزده ، أو نعت لعذاباً.
قال الراغب : الضعف من الأسماء المتضايفة التي يقتضي وجود أحدها وجود الآخر كالضعف والزوج ، وهو تركب قدرين مساويين ويختص بالعدد ، فإذا قيل : ضعفت الشيء وضاعفته ؛ أي : ضممت إليه مثله فصاعداً ، فمعنى عذاباً : ضعفاً ؛ أي : عذاباً مضاعفاً ؛ أي : ذا ضعف بأن يزيد عليه مثله ، ويكون ضعفين ؛ أي : مثلين ، فإن ضعف الشيء وضعفيه مثلاه كقولهم ربنا وآتهم ضعفين من العذاب.
فإن قلت : كل مقدار يعرض من العذاب ، إن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً ، وإن كان زائداً عليه كان ظلماً ، فكيف يجوز سؤاله من الله تعالى يوم القيامة.
قلت : إن المسؤول من التضعيف ما يكون بقدر الاستحقاق بأن يكون أحد الضعفين بمقابلة الضلال ، والآخر بمقابلة الإضلال.
قال عليه السلام : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
ونظيره أن الكافرين إذا قتل أحدهما وزنى دون الآخر ، فهما متساويان في وزر الكفر.
وأما القاتل والزاني ، فعذابه مضاعف لمضاعفة عمله السيىء.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : العذاب الضعف هو الحيات والأفاعي.
وذلك المضل آذى روح من أضله في الدنيا ، فسلط الله عليه المؤذي في الآخرة ، لأن الجزاء من جنس العمل.
فعلى العاقل إصلاح الباطن وتزكيته من الأخلاق الذميمة ، والأوصاف القبيحة وإصلاح الظاهر وتحليته عن الأقوال الشنيعة ، والأعمال الفظيعة ، ولا يغتر بالقرناء السوء فإنهم منقطعون غداً عن كل خلة ومودة ، ولا ينفع لأحد إلا القلب السليم والعلم النافع والعمل الصالح :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
بضاعت بجندانكه آرى برى
وكر مفلسى شر مسارى برى
اللهم اجعلنا من أهل الرحمة لا من أهل الغضب.
{قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ * أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَـارُ * إِنَّ ذَالِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .
{وَقَالُوا} ؛ أي : الطاغون مثل أبي جهل وأضرابه : وبالفارسية : (وكويند صناديد قريش دردوزخ).
{مَا لَنَا} (جيست مارا امروز).
وما : استفهامية مبتدأ ولنا خبره ، وهو مثل قوله : {مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} (النمل : 20) في أن الاستفهام محمول على التعجب لا على حقيقته إذ لا معنى لاستفهام العاقل عن نفسه.
{لا نَرَى رِجَالا} الفعل المنفي حال من معنى الفعل في ما لنا كما تقول ما لك قائماً بمعنى ما تصنع قائماً ؛ أي : ما نصنع حال كوننا غير رائين رجالاً.
والمعنى ؛ أي حال لنا لا نرى في النار رجالاً {كُنَّا} في الدنيا {نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ} يعني (از بدان ومردودان) ، جمه شر ، وهو الذي يرغب عنه الكل كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل يعنون فقراء المسلمين كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم مثل صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وحباب وضار وغيرهم من صعاليك المهاجرين الذين كانوا يقولون لهم : هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا سموهم أشراراً ، إما بمعنى الأراذل والسفلة الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، كما قال هذا من شر المتاع ، أو لأنهم
53
كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً.
{أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} بقطع الهمزة على أنها استفهام.
والأصل أاتخذناهم حذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام.
وسخرياً : بضم السين وكسرها مصدر سخر.
قال في "القاموس" : سخر ؛ أي : هزىء كاستسخر ، والاسم : السخرية ، والسخرى ويكسر.
انتهى.
زيد فيه ياء النسبة للمبالغة ، لأن في ياء النسبة زيادة قوة في الفعل كما قيل : الخصوصية في الخصوص قالوه إنكاراً على أنفسهم ، ولو مالها في الاستخبار منهم ، فمعنى الاستفهام : الإنكار والتوبيخ والتعنيف واللوم : وبالفارسية : (ما ايشانرا كرفتيم مهزوء بهم).
{أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَـارُ} .
يقال : زاغ ؛ أي : مال عن الاستقامة وزاغ البصر كل وأم متصلة معادلة لاتخذناهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
والمعنى ؛ أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم وتحقيرهم ؛ فإن زيغ البصر وعدم الالتفات إلى الشيء من لوازم تحقيره فكني به عنه.
(8/39)
قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً ، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم.
والمعنى : إنكار كل واحد من الفعلين على أنفسهم توبيخاً لهم.
ويجوز أن تكون أم منقطعة.
والمعنى : اتخذناهم سخرياً ، بل زاغت عنهم أبصارنا في الدنيا تحقيراً لهم ، وكانوا خيراً منا ونحن لا نعلم على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ، ثم الإضراب ، والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير (در آثار آمده كه حق سبحانه وتعالى آن كروه فقرارا برغرفات بهشت جلوه دهد تاكفار ايشانرا بينند وحسرت ايشان زياده شود).
{إِنَّ ذَالِكَ} الذي حكي من أحوالهم.
{لَحَقٌّ} لا بد من وقوعه البتة.
{تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} : خبر مبتدأ محذوف.
والجملة بيان لذلك ؛ أي : هو تخاصم إلخ ، يعني تخاصم القادة والأتباع : وبالفارسية : (جنك وجدل كردن أهل دوزخ وماجراى ايشان).
وهذا إخبار عما سيكون وسمي ذلك تخاصماً على تشبيه تقاولهم ، وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك.
وفي "التأويلات النجمية" وبقوله : {وَقَالُوا مَا لَنَا} إلخ ، يشير إلى تخاصم أهل النار مع أنفسهم يسخرون بأنفسهم كما كانوا يسخرون بالمؤمنين ، فيقولون : {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ * أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} ، وما كانوا من الأشرار.
{أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَـارُ} فلا نراهم معنا وهم ها هنا.
{إِنَّ ذَالِكَ} التخاصم {لَحَقٌّ} مع أنفسهم {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} من الندامة حين لا ينفعهم التخاصم ولا الندامة.
انتهى.
وفي الآية ذم ، وفي الحديث : "اتخذوا الأيادي عند الفقراء قبل أن تجيء دولتهم ، فإذا كان يوم القيامة يجمع الله الفقراء والمساكين ، فيقال : تصفحوا الوجوه ، فكل من أطعمكم لقمة أو سقاكم شربة ، أو كساكم خرقة ، أو دفع عنكم غيبة ، فخذوا بيده وأدخلوه الجنة" : قال الحافظ :
ازكر ان تابكران لشكر ظلمست ولى
از ازل تابايد فرصت دوريشانست
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي الحديث : "ملوك الجنة كل أشعث أغبر إذا استأذنوا في الدنيا لم يؤذن لهم ، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم ، ولو قسم نور أحدهم بين أهل الأرض لوسعهم" ، كذا في "أنيس المنقطعين" : قال الحافظ :
نظر كردن بدر ويشان منافى بزركى نيست
سليمان باجنان حشمت نظر هابود بامورش
اللهم اجعل حليتنا حب الفقراء واحشرنا في الدنيا والآخرة مع الفقراء.
{إِنَّ ذَالِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا مُنذِرٌا وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّـارُ * قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْما بِالْمَلا} .
{قُلْ} يا محمد لمشركي
54
مكة {إِنَّمَآ أَنَا مُنذِرٌ} رسول منذر من جهته تعالى أنذركم وأحذركم عذابه على كفركم ومعاصيكم.
وقل أيضاً : {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ} في الوجود {إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ} الذي لا يقبل الشركة والكثرة أصلاً ؛ أي : لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فلا ملجأ ولا مفر إلا إليه ، يعني من عرف أنه الواحد أفرد قلبه له ، فكان واحداً به.
وقد فسر قوله عليه السلام : "إن الله وتر يحب الوتر" ، يعني : القلب المنفرد له : ()
إذا كان ما تهواه في الحسن واحداً
فكن واحداً في الحب إن كنت تهواه
ومن خاصية هذا الاسم أن من قرأها ألف مرة خرج الخلائق من قلبه {الْقَهَّارُ} لكل شيء سواه ، ومن الأشياء آلهتهم ، فهو يغلبهم ، فكيف تكون له شركاء ، وأيضاً يقهر العباد بذنوبهم ومعاصيهم.
قال الكاشفي : (قهر كننده كه بناى آمال را بقواصف آجال درهم شكند باشركت متوهم وكثرت بي اعتبار را في نفس الأمروجود ندارد در نظر عارف مضمحل ومتلاشى سازد) :
غيرتش غير درجهان نكذاشت
وحدتشن اسم اين وآن برداشت
كم شود جمله ظلمت بندار
نزد أنوار واحد قهار
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي قدس سره ، يقول : في هذه الآية ترتيب أنيق ، فإن الذات الأحدية تدفع بوحدتها الكثرة وبقهرها الآثار ، فيضمحل الكل ، فلا يبقى سواه تعالى.
قال بعضهم : القهار الذي له الغلبة التامة على ظاهر كل أمر وباطنه ، ومن عرف قهره لعباده نسي مراد نفسه لمراده ، فكان له ، وبه لا لأحد سواه ، ولا شيء دونه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وخاصية هذا الاسم إذهاب حب الدنيا وعظمة ما سوى الله تعالى عن القلب ، ومن أكثر ذكره ظهرت له آثار القهر على عدوه ، ويذكر عند طلوع الشمس ، وجوف الليل لإهلاك الظالم بهذه الصفة : يا جبار ، يا قهار ، يا ذا البطش الشديد مرة ثم تقول : خذ حقي ممن ظلمني وعداً عليّ.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا قاهر ، ذا البطش الشديد الذي لا يطاق انتقامه يكتب على جام صيني لحل المعقود وعلى ثوب الحرب في وقته لقهر الأعداء وغلبة الخصوم.
(8/40)
{رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقات ؛ أي : مالك جميع العوالم ، فكيف يتوهم أن يكون له شريك.
{الْعَزِيزُ} الذي لا يغلب في أمر من أموره.
وأيضاً العزيز بالانتقام من المجرمين ، فالعزةتعالى.
وبه التعزز أيضاً ، كما قيل : ليكن بربك عزك تستقر وتثبت ، فإن أعززت بمن يموت ، فإن عزك يموت.
قال الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن المخلوقين.
وخاصية هذا الاسم أن من ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه ، فلم يحوجه لأحد من خلقه.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا عزيز المنيع الغالب على أمره ، فلا شيء يعادله.
قال السهروردي : من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك الله خصمه ، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ، ويشير إليهم بيده ، فإنهم ينهزمون.
{الْغَفَّـارُ} : المبالغ في المغفرة والستر والمحو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
قال بعضهم : الغفار كثير المغفرة لعباده ، والمغفرة : الستر على الذنوب وعدم المؤاخذة بها.
وما جاء على فعال فإشعار بترداد الفعل.
وفي الحديث : "إذا قال العبد يا رب اغفر لي قال الله : أذنب
55
عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ، ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت له".
وخاصية هذا الاسم وجود المغفرة ، فمن ذكره إثر صلاة الجمعة مائة مرة ظهرت له آثار المغفرة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تضوّر من الليل قال : "لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار".
ومعنى تضوّر : تلوّى إذا قام من النوم.
وفي "تاج المصادر" : (التضور : برخويشتن بجيدن ازكر سنكى يا از زخم).
وفي هذه الأوصاف الجارية على اسم الله تعالى تقرير للتوحيد ، فإن إجراء الواحد عليه يقرر وحدانيته وإجراء القهار العزيز عليه وعيد للمشركين ، وإجراء الغفار عليه وعد للموحدين وتثنية ما يشعر بالوعيد من وصفي القهر وتقديم وصف القهارية على وصف الغفارية لتوفية مقام الإنذار حقه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{قُلْ هُوَ} ؛ أي : القرآن وما أنبأكم به من أمر التوحيد والنبوة وأخبار القيامة والحشر والجنة والنار وغيرها.
{نَبَؤٌا عَظِيمٌ} وشأن جسيم ؛ لأنه كلام الرب القديم وارد من جانبه الكريم يستدل به على صدقي في دعوى النبوة.
والنبأ : ما أخبر النبي عليه السلام عن الله تعالى ، ولا يستعمل إلا في خبر ذي فائدة عظيمة.
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} لا تتفكرون فيه وتعدونه كذباً لغاية ضلالتكم وغاية جهالتكم ، فلذا لا تؤمنون به مع عظمته وكونه موجباً للإقبال الكلي عليه ، وتلقيه بحسن القبول ، فالتصديق فيه نجاة ، والكذب فيه هلكة.
{مَا كَانَ لِىَ} قرأ حفص عن عاصم بفتح الياء والباقون بإسكانها ؛ أي : ما كان لي فيما سبق.
{مِنْ عِلْم} ؛ أي : علم ما بوجه من الوجوه على ما يفيده حرف الاستغراق.
{بِالْمَلا الاعْلَى} ؛ أي : بحال الملأ الأعلى ، وهم الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة ، سموا بالملأ الأعلى ؛ لأنهم كانوا في السماء وقت التقاول.
قال الراغب : الملأ : الجماعة يجتمعون على رأي ، فيملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء.
{إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ؛ أي : بحالهم وقت اختصامهم ورجوع بعضهم إلى بعض في الكلام في شأن آدم ، فإن إخباره عن تقاول الملائكة ، وما جرى بينهم من قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} ( : ) حين قال الله لهم : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30) على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصور إلا بالوحي ؛ أي : فلو لم يكن لي نبوة ما أخبرتكم عن اختصامهم وإذ متعلق بالحال المحذوف الذي يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه بحالهم لا بذواتهم.
والحال يشمل الأقوال الجارية فيما بينهم ، والأفعال أيضاً من سجود الملائكة ، واستكبار إبليس وكفره.
{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْما بِالْمَلا الاعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلا أَنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{إِنَّ} ؛ أي : ما {يُوحَى إِلَىَّ} ؛ أي : من حال الملأ الأعلى وغيره من الأمور المغيبة.
{إِلا أَنَّمَآ} بفتح الهمزة على تقدير لأنما بإسقاط اللام.
{أَنَا نَذِيرٌ} نبي من جهته تعالى.
{مُّبِينٌ} ظاهر النظارة والنبوة بالدلائل الواضحة عبر عن النبي بالنذير ، لأنه صفته وخصص النذير مع أنه بشير أيضاً ؛ لأن المقام يقتضي ذلك.
(8/41)
قال في "كشف الأسرار" : (وكفته اند اين نبأ عظيم سه خبر ست هول مرك وحساب قيامت وآتش دوزخ يحيى بن معاذ رحمه الله كفت "لو ضربت السماوات والأرض بهذه السياط الثلاثة لانقادت خاشعة فكيف ، وقد ضرب بها ابن آدم
56
الموت والحساب والنار" مسكين فرزند آدم أورا عقبهاى عظيم دربيش است وآنجه در كمانها مى افتد بيش امادر درياى عشق دنيا بموج غفلت جنان غرق كشسته كه نه از سابقه خويش مى انديشه نه از خاتمه كار مى ترسد هر روز بامداد فرشته ندا ميكندكه "خلقتم لأمر عظيم وأنتم عنه غافلون" دركار روزكار خود جون انديشه كند كسى زبانرا بدورغ ملوث كرده ودلرا يخلف آلوده وسر از خيانت شوريده كردانيده سرى كه موضع امانت است بخيانت سبرده دلى كه معدن تقوى است زنكار خلف كرفته زبانى كه آلت تصديق است بردروغ وقف كرده لا جرم سخن جز خداع نيست ودين جز نفاق نيست) : ()
إذا ما الناس جرّبهم لبيب
فإني قد أكلتهمو وذاقا
فلم أر ودّهم إلا خداعاً
ولم أر دينهم إلا نفاقا
(اكنون اكر ميخواهى كه درد غفلت را مداوات كنى راه توآنست كه تخته نفاق را بآب جشم كه از حسرت خيزد بشويى وبر راء كذر بادى كه از مهب ندامت بر آمد بنهى وبدبيرستان شرع شوى وسوره اخلاص بنويسى كه خداوند عالم از بندكان اخلاص درخواهد ميكويد.
{وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} (البينة : 5) ومصطفى عليه السلام كفت).
اخلص العمل يجزك منه القليل.
والله الموفق.
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} بدل من إذ يختصمون.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال : إن الملائكة اختصموا بهذا القول والمخاصمة مع الله تعالى كفر.
قلت : لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب.
وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة تجوّز إطلاق اسم المشبه به على المشبه ، فحسن إطلاق المخاصمة على المقاولة الواقعة هناك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فإن قلت : إن الاختصام المذكور سابقاً مسند إلى الملأ الأعلى وواقع فيما بينهم ، وما وقع في جملة البدل ، هو التقاول الواقع بين الله تعالى وبينهم ؛ لأنه تعالى هو الذي قال لهم وقالوا له ، فكيف تجعل هذه الجملة بدلاً من قوله : إذ يختصمون مبيناً ومشتملاً له.
قلت : حيث كان تكليمه تعالى إياهم بواسطة الملك صح إسناد الاختصام إلى الله تعالى لكونه سبباً آمراً ، وقد سبق المراد بالملائكة في سورة الحجر فارجع.
{إِنِّى خَـالِقُ} ؛ أي : فيما سيأتي.
{بَشَرًا} .
قال الراغب : عبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر ، فإن البشرة هي ظاهر الجلد بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر ، أو الوبر.
وقال بعضهم : أي أرباب الحقائق سمي آدم بشراً ، لأنه باشره الحق سبحانه بيديه عند خلقه مباشرة لائقة بذلك الجناب مقدسة عن توهم التشبه ، فإن المباشرة حقيقة هي الإفضاء بالبشرتين.
ولذا كنى بها عن الجماع.
{مِّن طِينٍ} ؛ أي : من تراب مبلول.
قال بعض الكبار : من عجز وضعف كما قال الله تعالى : {الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} (الروم : 54).
قالوا : مقام التراب مقام التواضع والمسكنة ومقام التواضع الرفعة والثبات ، ولذا ورد : (من تواضعرفعه).
وكان من دعائه عليه السلام : "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} ؛ أي : صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية ، أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه كما في الجنين الذي أتى عليه أربعة أشهر ، فلا بدّ لنفخ الروح من هذه التسوية البتة ،
57
كما لا بدّ لنفخ روح الحقيقة من تسوية الشريعة والطريقة ، فليحافظ.
ولذا قال النجم في "تأويلاته" : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} تسوية تصلح لنفخ الروح والمضاف إلى الحضرة.
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} .
النفخ : إجراء الريح إلى تجويف جسم صلح لإمساكها والامتلاء بها ، وليس ثمة نفخ ، ولا منفوخ ، وإنما هو تمثيل لإضافة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها ؛ أي : فإذا أكملت استعداده ، وأفضت عليه ما يحيى به من الروح التي هي من أمري وإضافته إلى نفسه لشرفه وطهارته ، أو على سبيل التعظيم ؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم كما في بيت الله وناقة الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وبهذا ظهر فساد ما ذهب إليه الحلولية من أن من تبعيضية ، فيكون الروح جزء من الله تعالى.
وذلك أنه ليستعالى هذا الروح من أجزائه ، وإنما روحه نفسه الرحماني.
وأيضاً : إن كل ما له جزء ، فهو ممكن ومحدث ، والله تعالى منزه عنهما.
قال القاضي عياض رحمه الله في "الشفاء" من ادعى حلول الباري تعالى في أحد الأشخاص كان كافراً بإجماع المسلمين.
(8/42)
قال الراغب : الروح اسم للنفس ، وذلك لكون النفس بعض الروح ، فهو كتسمية النوع باسم الجنس كتسمية الإنسان بالحيوان وجعل اسماً للجزء الذي به تحصل الحياة والتحرك واستجلاب المنافع واستدفاع المضار ، وهو المذكور في قوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85).
وقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ، وإضافته تعالى إلى نفسه إضافة ملك وتخصيصه بالإضافة تشريف له وتعظيم كقوله : {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} (الحج : 26).
انتهى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إن الروح روحان : حيواني وهي التي تسميها الأطباء المزاج ، وهي جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة ، والقوى الجسمانية.
وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت.
وروح روحاني ، وهي التي يقال لها : النفس الناطقة ، ويقال لها : اللطيفة الربانية ، والعقل والقلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعليق بقوى النفس الحيوانية.
وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت.
يقول الفقير : قال شيخي وسندي روح الله روحه في بعض تحريراته : اعلم أن الروح من حيث جوهره وتجرده ، وكونه من عالم الأرواح المجردة مغاير للبدن متعلق به تعلق التدبير والتصرف قائم بذاته غير محتاج إليه في بقائه ودوامه ، ومن حيث أن البدن صورته ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة محتاج إليه غير منفك عنه ، بل سار فيه لا كسريان الحلول المشهور عند أهله ، بل كسريان الوجود المطلق الحق في جميع الموجودات ، فليس بينهما مغايرة من كل الوجوه بهذا الاعتبار ، ومن علم كيفية ظهور الحق في الأشياء ، وأن الأشياء من أي وجه عينه ، ومن أي وجه غيره يعلم كيفية ظهور الروح في البدن ، ومن أي وجه عينه ، ومن أي وجه غيره ؛ لأن الروح رب بدنه ، فمن تحقق له حال الرب مع المربوب تحقق له ما ذكرنا ، وهو الهادي إلى العلم والفهم.
هذا كلامه قدس سره ، فاحفظه ودع عنك القيل والقال.
قال السمرقندي في "بحر العلوم" : الظاهر أن هذا النفخ بغير وسط وسبب من ملك ويجوز أن يكون بوسط ملك نفخ فيه الروح بإذنه ، كما صرح به النبي عليه السلام في خلق بني آدم بقوله : (يرسل الله ملكاً فينفخ فيه الروح).
الحديث ، وفيه كلام.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير : لا يجوز ذلك ، لأن مقام التشريف يأبى عنه لا سيما وقد قال :
58
{وَنَفَخْتُ فِيهِ} .
وقال : {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، فإنه لا معنى لارتكاب التجوز في مثله.
وأما أولاده ، فيجوز ذلك فيهم لظهورهم بالوسائط.
ومنهم عيسى عليه السلام لظهوره بوساطة أمه ، فيجوز أن النافخ في حقه هو جبريل عليه السلام ، وإن كان الله قد أضافه إلى نفسه في قوله : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء : 91).
ثم يقول الفقير : نفخ الروح عندي عبارة عن إظهارها في محلها وعبر عنه بالنفخ ؛ لأن البدن بعد ظهور الروح فيه يكون كالمنفوخ المرتفع الممتلىء ألا ترى إلى أن الميت يبقى بعد مفارقة الروح كالخشب اليابس ، ففيه رمز آخر في سورة الحجر.
ثم في إضافة الروح إشارة إلى تقديم روح آدم على أرواح الملائكة وغيرها ؛ لأن المضاف إلى القديم قديم ، وإن كان جسد بعض الأشياء متقدماً على جسده.
{فَقَعُوا لَهُ} أمر من وقع يقع ؛ أي : اسقطوا له : وبالفارسية : (بس بروى در افتيد).
وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد انحناء كما قيل ، وكذا في قوله : {سَـاجِدِينَ} ، فإن حقيقة السجود وضع الوجه على الأرض ؛ أي : حال كونكم ساجدين لاستحقاقه للخلافة.
وهذه السجود من باب التحية والتكريم ، فإنه لا يجوز السجود لغير الله على وجه العبادة لا في هذه الأمة ولا في الأمم السابقة ، إنما شاع بطريق التحية للمتقدمين ثم أبطله الإسلام.
{فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ * قَالَ يا اإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّا أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْه خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن} .
{فَسَجَدَ الملائكة} ؛ أي : فخلقه فسواه ، فنفخ فيه الروح ، فسجد له الملائكة خلافة عن الحق تعالى إذ كان متجلياً فيه ، فوقعتت هيبته على الملائكة ، فسجدوا له وأول من سجد له إسرافيل.
ولذلك جوزي بولاية اللوح المحفوظ قاله السهيلي نقلاً عن النقاش.
{كُلُّهُمْ} بحيث لم يبق منهم أحد إلا سجد {أَجْمَعُونَ} بطريق المعية بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية ، بل يفيده التأكيد أيضاً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
جون ملك أنوار حق دوري بيافت
در سجود افتاد ودرخدمت شتافت
(8/43)
{إِلا إِبْلِيسَ} ؛ فإنه لم يسجد والاستثناء متصل ؛ لأنه من الملائكة فعلاً ومن الجن نوعاً.
ولذلك تناوله أمرهم.
وكان اسم إبليس قبل أن يبلس من رحمة الله عزازيل ، والحارث وكنيته أبو كردوس وأبو مرة ؛ كأنه سئل كيف ترك السجود هل كان ذلك للتأمل والتروي ، أو غير ذلك فقيل : {اسْتَكْبَرَ} .
(الاستكبار : كردن كشى كردن) ؛ أي : تعظم : وبالفارسية : (بزرك داشت خودرا وفرمان نبرد).
وسببه أنه كان أعور فما رأى آثار أنوار التجلي على آدم عليه السلام :
در محفلى كه خورشيد أندرشمار ذره است
خودرا بزرك ديدن شرط ادب نباشد
{وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} في علم الله أزلاً بالذات.
وفي الخارج أبداً باستقباح أمر الله ولذا كانت شقاوته ذاتية لا عارضية وسعادته في البين عارضية لا ذاتية : قال الحافظ :
من آن نكين سليمان بهيج نستانم
كه كاه كاه برودست اهر من باشد
فالعبرة لما هو بالذات.
وذلك لا يزول لا لما هو بالعرض إذ ذاك يزول ، ومن القبيل حال برصيصا وبلعام ونحوهما ، ممن هو مرزوق البداية ومحروم النهاية.
فالعصاة كلهم في خطر المشيئة بل الطائعون لا يدرون بما ذا يختم لهم.
قالوا : إن الإصرار على المعاصي يجر كثيراً من العصاة إلى الموت على الكفر والعياد بالله تعالى كما جاء في تفسير قوله تعالى :
59
{كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّواأَى أَن كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ} .
(الروم : 10) والاستهزاء بها.
وذلك هو الكفر أعاذنا الله وإياكم منه.
ومن أسبابه المؤدية إليه وأماتنا على ملة الإسلام ، وجعلنا من المقبولين لديه ، إنه السميع للدعاء في كل الحضرات والمجيب للرجاء في كل الحالات.
{قَالَ} الله تعالى لإبليس مشافهة حين امتنع من السجود.
يا اإِبْلِيسُ} ، وهذه مشافهة لا تدل على إكرام إبليس إذ يخاطب السيد عبده بطريق الغضب وتمامه في سورة الحجر.
{مَآ} ؛ أي : شيء {مَنَعَكَ} من {أَن تَسْجُدَ} ؛ أي : دعاك إلى ترك السجود {لِمَا} ؛ أي : لمن.
{خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} خصصته بخلقي إياه بيدي كرامة له ؛ أي : خلقته بالذات من غير توسط أب وأم ، فذكر اليد لنفي توهم التجوز ؛ أي : لتحقيق إضافة خلقه إليه تعالى وإسناد اليد إلى أب بعد قيام البرهان على تنزهه عن الأعضاء مجاز عن التفرد في الخلق والإيجاد تشبيهاً لتفرده بالإيجاد باختصاص ما عمل الإنسان بها ، والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة ، واختلاف الفعل ، فإن طينته خمرت أربعين صباحاً ، وكان خلقه مخالفاً لسائر أبناء جنسه المتكونة من نطفة الأبوين ، أو من نطفة الأم مميزاً عنه ببديع صنعه تعالى.
ولقد نظم الحكيم السنائي بعض التأويلات الفارسية :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
يد او قدرتست ووجه بقاش
آمدن حكمش ونزول عطاش
اصبعيش نفاذ حكم قدر
قد مينش جلال وقهر وخطر
(ودر بعضى تفسير آمده كه مراد يد قدرت ويد نعمتست ودر فتوحات فرموده كه قدرت ونعمت شاملست همه موجودات را "لأنه خلق إبليس بالقدرة التي خلق بها آدم" بس بدين منوال تأويل آدم راهيج شر في ثابت نشود بس لابداست از آنكه بيدى معنى باشدكه دلالت كند برتشريف آدم عليه السلام بر حمل نسبتين تنزيه وتشبيه كه آدم جامع هر دو صفتست مناسب مى نمايد).
وفي "بحر الحقائق" : يشير بيدي إلى ضفتي اللطف والقهر ، وهما تشتملان على جميع الصفات ، وما من صفة إلا وهي.
إما من قبيل اللطف ، وإما من قبيل القهر ، وما من مخلوق من جميع المخلوقات إلا وهو إما مظهر صفة اللطف ، أو مظهر صفة القهر ، كما أن الملك مظهر صفة لطف الحق والشيطان مظهر صفة قهر الحق إلا الآدمي ، فإنه خلق مظهر كلتا صفتي اللطف والقهر والعالم بما فيه بعضه مرآة صفة لطفه تعالى ، وبعضه مرآة صفة قهره تعالى.
والآدمي مرآة ذاته وصفاته تعالى كما قال : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) وبهذه الجامعية كان مستحقاً لمسجوديه الملائكة : (ودرين معنى كفته اند).
آمد آبينه جميله ولى
همجو آبينه نكرده جلى
كشت آدم جلاء ابن مرآت
شدعيان ذات أو بجمله صفات
مظهرى كشت كلى وجامع
سر ذات وصفات از ولامع
والحاصل : إن الله تعالى أوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه ، فهذا الخوف والرجاء أثر صفتي الغضب والرضا ، ووصف تعالى نفسه بأنه جميل وذو جلال ؛ أي : متصف بالصفات الجمالية ، وهي ما يتعلق باللطف والرحمة ومتصف بالصفات الجلالية ، وهي
60(8/44)
ما يتعلق بالقهر والغلبة ، فأوجدنا على أنس وهيبة ، فالإنس من كونه جميلاً ، والهيبة من كونه جليلاً.
وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ، ويسمى به من الأسماء المتقابلة كالهداية والإضلال والإعزاز والإذلال وغيره ، فإنه سبحانه أوجدنا بحيث نتصف بها تارة ، ويظهر فينا آثارها تارة ، فعبر عن هذين النوعين المتقابلين من الصفات باليدين لتقابلهما ، وتصرف الحق بهما في الأشياء ، وهاتان اليدان هما اللتان توجهتا من الحق سبحانه على خلق الإنسان الكامل ، لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته التي هي مظاهر لجميع الأسماء ، فلهذا السر ثنى الله اليدين.
وأما الجمع في قوله : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} (يس : 71) ، فوارد على طريق التعظيم كما هو عادة الملوك.
وأيضاً : إن العرب تسمى الاثنين جميعاً ، كما في قوله تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم : 4).
وأما الواحد في قوله تعالى : {يَدُ اللَّهِ} (الفتح : 10) فباعتبار المبدأ والمآل ، والله الملك المتعال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{أَسْتَكْبَرْتَ} بقطع الألف ، أصله : أستكبرت ، أدخلت همزة الاستفهام للتوبيخ والإنكار على همزة الوصل ، فحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام وبقيت همزة الاستفهام مفتوحة.
والمعنى : أتكبرت من غير استحقاق.
{أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} المستحقين للتفوق والعلو ، ويحتمل أن يكون المراد بالعالين ، الملائكة المهيمين الذين ما أمروا بالسجود لآدم لاستغراقهم في شهود الحق ، وهم الأرواح المجردة كما سبق بيانهم في سورة الحجر.
{قَالَ} إبليس إبداء للمانع.
قال الكاشفي : (إبليس شق ثاني اختيار كرده كفت).
{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} ؛ أي : أفضل من آدم.
وفي المثنوي :
علتى بدتر زبندار كمال
نيست اندرجان تو اى ذو دلال
علت إبليس انا خيرى بدست
وين مرض در نفس هر مخلوق هست
كرجه خودرا بس شكسته بيند او
آب صافى دان وسركين زير جو
جون بشوراند ترا در امتحان
آب سركين رنك كرد در زمان
ثم بين وجه الخيرية بقوله : {خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ} .
(بيافريدى مرا ازآتش واورا لطافت ونورانيت است).
نسب خلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب إذ الشيطان مخلوق من نار وهواء مع أنا نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلقه من نار فقط من غير اختلاط شيء آخر معها من سائر العناصر ، ولا يستحيله إلا فلسفي أو متفلسف.
{وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} .
(وبيافريدي ازكل كه در كثافت وظلمانيت است).
نسب خلقه إلى الطين باعتبار الجزء الغالب أيضاً إذ آدم مخلوق من العناصر الأربعة.
والمعنى : لو كان آدم مخلوقاً من نار لما سجدت له ؛ لأنه مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني ، لأنه من طين.
والنار تغلب الطين وتأكله ، فلا يحسن أن يسجد الفاضل للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر ظنّ أن ذلك شرف له ، ولم يعلم أن الشرف يكتسب بطاعة الله تعالى.
ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة ، والعنصر وزلّ عما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} .
وما من جهة الصورة كما نبه عليه قوله تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} .
وأما من جهة الغاية ، وهو ملاك الأمر كما قال تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ} (البقرة : 31).
ولذلك أمر الملائكة بسجوده حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره.
وفي تفسير سورة {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} يعني أن النار أقرب إلى الأشرف الذي
61
هو الفلك ، وهي خليفة الشمس والقمر في الإضاءة والحرارة ، وهي ألطف من الأرض ، وهي مشرقة ، وهي شبيه الروح ، وأشرف الأعضاء القلب والروح.
وهما على طبيعة النار ، وكل جسم أشبه النار كالذهب والياقوت ، فهو أشرف ، والشمس أشرف الأجسام.
وهي تشبه النار في الطبع والصورة.
وأيضاً : لم يتم المزاج إلا بالحرارة ومآل كل هذه إلى أن أصله خير فهو خير وهذا ممنوع.
ولذا قال من قال : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
أنفخر باتصالك من عليّ
وأصل البولة الماء القراع
وليس بنافع نسب زكي
تدنسه صنائعك القباح
فيجوز أن يكون أصل أجد الشيئين أفضل وينضم إليه ما يقتضي مرجوحيته ، كما في إبليس.
فإنه قد انضم إلى أصله عوارض رديئة كالكبر والحسد والعجب والعصيان ، فاقتضت اللعنة عليه.
وأمر آدم عليه السلام بالعكس.
وقال في آكام المرجان} : اعلم أن هذه الشبهة التي ذكرها إبليس إنما ذكرها على سبيل التعنت ، وإلا فامتناعه عن السجود لآدم إنما كان عن كبر وكفر ومجرد إباء وحسد.
ومع ذلك فما أبداه من الشبهة ، فهو داحض ؛ أي : باطل ؛ لأنه رتب على ذلك أنه خير من آدم لكونه خلق من نار ، وآدم خلق من طين.
ورتب على هذا أنه لا يحسن منه الخضوع لمن هو دونه ، وهذا باطل من وجوه :
الأول : أن النار طبعها الفساد وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب ، فإنه إذا وضع القوت فيه أخرجه أضعاف ما وضع فيه بخلاف النار ، فإنها آكلة لا تبقي ولا تذر.
(8/45)
والثاني : أن النار طبعها الخفة والطيش والحدة ، والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات.
والثالث : أن التراب يتكون فيه ، ومنه أرزاق الحيوانات وأقواتهم ولباس العباد وزينهم وآلات معايشهم ومساكنهم.
والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك.
والرابع : أن التراب ضروري للحيوان لا يستغني عنه البتة ، ولا عما يتكون فيه ومنه.
والنار يستغني عنها الحيوان مطلقاً ، وقد يستغني عنها الإنسان أياماً وشهوراً ، فلا تدعوه إليها ضرورة.
والخامس : أن النار لا تقوم بنفسها ، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به يكون حاملاً لها ، والتراب لا يفتقر إلى حامل ، فالتراب أكمل منها لغناه وافتقارها.
والسادس : أن النار مفتقرة إلى التراب ، وليس التراب فقر إليها ، فإن الذي تقوم به النار لا يكون إلا متكوناً من التراب ، أو فيه ، فهي المفتقرة إلى التراب ، وهو الغني عنها.
والسابع : أن المادة الإبليسية هي المارج من النار ، وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية فيميل معها كيفما مالت.
ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه ، فأسره وقهره.
ولما كانت المادة الآدمية هي التراب ، وهو قوي لا يذهب مع الهواء أينما ذهب ، فهو قهر هواه وأسره ورجع إلى ربه ، فاجتباه ، فكان الهواء الذي مع المادة الآدمية عارضاً سريع الزوال فزال ، فكان الثبات والرزانة أصلاً له ، فعاد إليه وكان إبليس بالعكس من ذلك ، فعاد كل منهما إلى أصله وعنصره آدم إلى أصله الطيب الشريف واللعين إلى أصله الرديء الخبيث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
والثامن : أن النار ، وإن حصل بها بعض المنفعة من الطبخ والتسخين والاستضاءة بها ، فالشر كامن فيها لا يصدها عنه إلا قسرها وحبسها ، ولولا القاسر والحابس لها ، لأفسدت الحرث والنسل.
وأما التراب ، فالخير والبركة كامن فيه
62
كلما أثير ، وقلب ظهر خيره وبركته وثمرته ، فأين أحدهما من الآخر.
التاسع : أن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه وأخبر عن منافعها ، وأنه جعلها مهاداً وفراشاً وبساطاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات.
ودعا عباده إلى التفكر فيها ، والنظر في آياتها وعجائبها ، وما أودع فيها ، ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعاً أو موضعين ، ذكرها فيه بأنها تذكرة ومتاع للمقوين تذكرة بنار الآخرة ، ومتاع لبعض أفراد الناس ، وهم المقوون النازلون بالقواء.
وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمنع بالنار في منزلة ، فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن.
والعاشر : أن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه ، وذلك عموماً كما في قوله تعالى : {وَبَـارَكَ فِيهَا} (فصلت : 10).
وخصوصاً كما في قوله : {وَنَجَّيْنَـاهُ وَلُوطًا إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا} (الأنبياء : 71).
.
الآية ونحوها.
وأما النار فلم يخبر أنه جعل فيها بركة بل المشهور أنها مذهبة للبركات ، فأين المبارك في نفسه من المزيل لها.
والحادي عشر : أن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال عموماً وبيته الحرام الذي جعله قياماً للناس مباركاً وهدى للعالمين خصوصاً ، فلو لم يكن في الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفاً وفخراً على النار.
والثاني عشر : أن الله تعالى أودع في الأرض من المعادن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الحيوانات وأمتعتها ، والجبال والرياض والمراكب البهية ، والصور البهيجة ما لم يودع في النار شيئاً من ذلك ، فأي روضة وجدت في النار أو جنة أو معدن أو صورة أو عين فوّارة أو نهر أو ثمرة لذيذة.
والثالث عشر : أن غاية النار أنها وضعت خادمة في الأرض ، فالنار إنما محلها محل الخادم لهذه الأشياء ، فهي تابعة لها خادمة فقط إذا استغنت عنها طردتها وأبعدتها عن قربها ، وإذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمه.
الرابع عشر : أن اللعين لقصور نظره وضعف بصره رأى صورة الطين تراباً ممتزجاً بماء ، فاحتقره ولم يعلم أنه مركب من أصلين الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، والتراب الذي جعله خزانة المنافع والنعم.
هذا ولم يتجاوز من الطين إلى المنافع وأنواع الأمتعة ، فلو تجاوز نظره صورة الطين إلى مادته ونهايته لرأى أنه خير من النار ، وأفضل.
ثم لو سلم بطريق الفرض الباطل أن النار خير من الطين ، لم يلزم من ذلك أن يكون المخلوق منها خيراً من المخلوق من الطين ، فإن القادر على كل شيء يخلق من المادة المفضولة من هو خير من المادة الفاضلة ، فإن الاعتبار بكمال النهاية لا ينقصان المادة ، فاللعين لم يتجاوز نظره محل المادة ، ولم يعبر منها إلى كمال الصورة ونهاية الخلقة.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/46)
ودر كشف الأسرار فرموده كه آتش سبب فرقتست وخاك وسيلة وصلت واز آتش كستن آيد واز خاك بيوستن آدم كه از خاك بود ببيوست تاخلقه {ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّهُ} (طه : 122) يافت إبليس كه از آتش بودبكسست تافرمان {فَاهْبِطْ مِنْهَا} (الأعراف : 13) مردود كشت روزى شوريده باسلطان العارفين أبو يزيد كفت جه بودى اكر اين خاك بى اك نبودى أبو يزيد بانك بروزدكه اكر اين خاك نبودى آتش عشق افروخته نشدى وسوز سينها وآب ديدها ظاهر نكشتى اكر خاك نبودى بوى مهرازل كه شنودى وآشناى قرب لم يزل كه بودى) :
63
اي خاك جه خوش طينت قابل دارى
كلهاى لطيفست كه در كل دارى
در مخزن كنت كنز هر كنج بودى
تسليم توكر دندكه در دل دارى
ثم في الآية إشارة إلى أن أهل الدعوى والإنكار لايدركون فضائل الأنبياء والأولياء إلى أبد الآبدين ولا يرون أنوار الجمال والجلال عليهم ، فلا يذوقون حلاوة برد الوصال ، بل يخاطبون من جانب رب العزة بالطرد والإبعاد إلى يوم المعاد.
مدعى خواست كه آيد بتماشا كه راز
دست غيب آمد وبرسنيه نامحرم زد
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْه خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} .
{قَالَ} الله تعالى بقهره وعزته.
{فَاخْرُجْ مِنْهَا} : الفاء : لترتيب الأمر على مخالفته وتعليلها بالباطل ؛ أي : فاخرج يا إبليس من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط لا الهبوط من السماء ، كما قال البيضاوي ، فإن وسوسته لآدم كانت بعد هذا الطرد.
يقول الفقير : عظم جناية إبليس يقتضي هبوطه من السماء إلى الأرض لا التوقف فيها إلى زمان الوسوسة ، وأما أمر الوسوسة ، فيجوز أن يكون بطريق الصعود إلى السماء ابتلاء من الله تعالى ودخوله الجنة ، وهو في السماء ليس بأهون من دخوله ، وهو في الأرض إذ هو ممنوع من الدخول مطلقاً سواء كان في الأرض ، أو في السماء إلا بطريق الامتحان.
ثم إن الحكمة الإلهية اقتضت أن يخرج إبليس من الخلقة التي كان عليها وينسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغير الله خلقته ، فاسود بعدما كان أبيض وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً ، وكذا حال العصاة مطلقاً ، فإنه كما تتغير بواطنهم بسبب العصيان تتغير ظواهرهم أيضاً بشؤمه ، فإذا رأيت أحداً منهم بنظر الفراسة ، والحقيقة وجدت عليه أثر الاسوداد.
وذلك أن المعصية ظلمة وصاحبها ظلماني ، والطاعة نور وأهلها نوراني ، فكل يكتسي بكسوة حال نفسه.
{فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليل للأمر بالخروج ؛ أي : مطرود عن كل خير وكرامة ، فإن من يطرد يرجم بالحجارة إهانة له ، أو شيطان يرجم بالشهب السماوية ، أو الأثيرية ، وإلى الثاني : ذهب بعض أهل الحقائق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} ؛ أي : إبعادي عن الرحمة ، فإن اللعن طرد وإبعاد على سبيل السخط ، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة.
وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه.
ومن الإنسان دعاء على غيره وتقييدها بالإضافة مع إطلاقها في قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} (الحجر : 35) لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضاً من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة.
يقول الفقير : اللعنة المطلقة هي لعنة الله تعالى ، فمآل الآيتين واحد ، ويجوز أن يكون المعنى ، وإن عليك لعنتي على ألسنة عبادي يلعنونك.
{إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ؛ أي : يوم الجزاء والعقوبة ، يعني أن عليك اللعنة في الدنيا ، ولا يلزم من هذا التوقيت انقطاع اللعنة عنه في الآخرة إذ من كان ملعوناً مدة الدنيا ، ولم يشم رائحة الرحمة في وقتها كان ملعوناً أبدياً في الآخرة.
ولم يجد أثر الرحمة فيها لكونها ليست وقت الرحمة للكافر ، وقد علم خلوده في النار بالنص وكذا لعنه كما قال : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُا بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} (الأعراف : 44) مع ما ينضم إليه من عذاب آخر ينسى عنده اللعنة ، والعياذ بالله تعالى.
قال بعضهم : أما طرد إبليس فلعجبه ونظره إلى نفسه ليعتبر كل مخلوق بعده.
قال : أنا خير منه.
ويقال : طرده وخذله ترهيباً للملائكة ولبني آدم كي يحذروا مما لا يرضى عنه ، ويحصل لهم العبرة :
64
اين خوديرا كن اندر خدا
تانماني همجوآن إبليس جدا
كن حذر ازسطوت قهاريش
روبسوى حضرت غفاريش
عبرت بيشينيان كير اى خلف
تا خلاصى يا بى از قهر وتلف
ومن الله العصمة والتوفيق.
(8/47)
{قَالَ} إبليس {رَبِّ} .
(اى برورد كارمن).
{فَأَنظِرْنِى} .
الإنظار : الإمهال والتأخير والفاء : فصيحة ؛ أي : إذا جعلتني رجيماً ، فأمهلني ولا تمتني.
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
من قبورهم للجزاء ، وهو يوم القيامة.
والمراد آدم وذريته.
(والبعث : مرده زارنده كردن).
وأراد بدعائه أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد يوم البعث ، فلم يجب ، ولم يوصل إلى مراده.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{قَالَ} الله تعالى {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} ؛ أي : من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً بحسب الحكمة كالملائكة ونحوهم.
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الذين قدره الله وعينه لفناء الخلائق ، وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول.
قال في "آكام المرجان" : ظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالإنظار.
وأما ولده وقبيله ، فلم يقم دليل على أنهم منظرون معه.
وقال بعضهم : الشياطين يتوالدون ولا يموتون إلى وقت النفخة الأولى بخلاف الجن ، فإنهم يتوالدون ويموتون ، ويحتمل أن بعض الجن أيضاً منظرون ، كما أن بعض الإنس ، كالخضر عليه السلام كذلك.
وفيه أن الظاهر أن يموت الخضر ، وأمثاله حين يموت المؤمنون ، ولا يبقى منهم أحد وذلك قبل الساعة بكثير من الزمان ، ثم إن قوله تعالى : {فَإِنَّكَ} إلخ.
إخبار من الله تعالى بالإنظار المقدر أزلاً لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه.
وكان استنظاره طلباً لتأخير الموت لا لتأخير العقوبة هكذا في "الإرشاد".
يقول الفقير : لا شك أن الله تعالى استجاب دعاء إبليس ليكون طول بقائه في الدنيا أجراً له في مقابلة طول عبادته قبل لعنه ودعاء الكافر مستجاب في أمور الدنيا ، فلا مانع أن يكون إنظاره بطريق الإنشاء يدل عليه ترتيبه على دعائه الحادث ، وذلك لا يمنع كونه من المنظرين أزلاً لأن كل أمر حادث في جانب الأبد ، فهو مبني على أمر قديم في الأزل ألا ترى أن كفره بإنشاء استقباح أمر الله تعالى مبني على كفره الأزلي في علم الله تعالى ثم لا مانع أن يكون الاستنظار لطلب تأخير الموت وتأخير العقوبة جميعاً ، لأن اللعن من موجبات العقوبة ، فطلب الإنظار خوفاً من العذاب المعجل ولما حصر مراده صرح بالإغواء لأجل الانتقام ؛ لأن آدم هو الذي كان سبب لعنه.
وفي الآية إشارة إلى أن من أبعده الحق وطرده قلب عليه أحواله حتى يجر إلى نفسه أسباب الشقاوة كما دعا إبليس ربه وسأله الإنظار من كمال شقاوته ليزداد إلى يوم القيامة إثمه الذي هو سبب عقوبته واغتر بالمدة الطويلة ، ولم يعلم أن ما هو آت قريب (عمر اكرجه دراز بود جون مرك روغود ازان درازى جه سود نوح عليه السلام هزار سال در جهان بسر برده است امروز جند هزار سالست كه مرده است) :
دريغا كه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دم جندنيز
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فأنظره الله تعالى وأجابه إذ سأله بربويته ليعلم أن كل من سأله باسم الرب ، فإنه يجيبه كما أجاب إبليس ، وكما أجاب آدم عليه السلام إذ قال) {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) ، فأجابه {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 122).
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .
{قَالَ}
65
إبليس عليه ما يستحق.
{فَبِعِزَّتِكَ} الباء : للقسم ؛ أي : فأقسم بعزتك ؛ أي : بقهرك وسلطانك.
وبالفارسية : (بغالبيت وقهر توسو كند).
ولا ينافيه قوله تعالى حكاية : {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى} (الأعراف : 16) ، لأن إغواء إياه أثر من آثار قدرته وعزته ، وحكم من أحكام قهره وسلطنته.
ولهذه النكتة الخفية ورد الحلف بالعزة مع أن الصفات اللائقة للحلف كثير.
وفي "التأويلات النجمية" : ثم إبليس لتمام شقاوت.
قال : فبعزتك إلخ.
ولو عرف عرته لما أقسم بها على مخالفته.
{لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لأحملنهم على الغي ، وهو ضد الرشد ولأكونن سبباً لغوايتهم ؛ أي : ذرية آدم بتزيين المعاصي لهم وإدخال الشكوك والشبهات فيهم ، والإغواء بالفارسية (كمراه كردن).
ثم صدق حيث استثنى ، فقال :
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ؛ أي : عبادك المخلصين من ذرية آدم ، وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته ، وعصمهم من الغواية.
وقرىء بالكسر على صيغة الفاعل ؛ أي : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهمتعالى من غير شائبة الرياء.
وفي "التأويلات النجمية" ، ثم لعجزه وعزة عباد الله ، قال : إلا عبادك منهم المخلصون في عبوديتك.
انتهى.
(8/48)
قال بعضهم : العبد المخلص هو الذي يكون سره بينه وبين ربه بحيث لا يعلمه ملك ، فيكتبه ولا شيطان ، فيفسده ، ولا هوى ، فيميله ، ثم لا شك أن من العباد عباداً إذا رأى الشيطان أثر سلطنة ولايتهم وعزة أحوالهم يذوب كما يذوب الملح في الإناء ، ولا يبقى له حيل ولا يطيق أن يمكر بهم ، بل ينسى في رؤيتهم جميع مكرياته ، ولا يطيق أن يرمي إليهم من أسهم وسوسته بل مكره محيط به لا بأهل الحق.
وهكذا حال ورثة الشيطان من المنكرين المفسدين مع أهل الله تعالى ، فإنهم محفوظون عما سوى الله تعالى مطلقاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} .
{قَالَ} الله تعالى {فَالْحَقُّ} بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي : فالحق قسمي على أن الحق.
إما اسمه تعالى كما في قوله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور : 25) أو نقيض لباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به ، ويحتمل أن يكون التقدير ، فالحق مني كما قال الحق من ربك.
{وَالْحَقَّ أَقُولُ} بالنصب على أنه مفعول لأقوله قدم عليه للقصر ؛ أي : لا أقول إلا الحق.
{لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ} ؛ أي : من جنسك من الشيطان {وَمِمَّن تَبِعَكَ} في الغواية والضلال بسوء اختياره {مِنْهُمْ} ؛ أي : من ذرية آدم.
{أَجْمَعِينَ} تأكيد للكاف وما عطف عليه ؛ أي : لأملأنها من المتبوعين.
والأتباع أجمعين لا أترك أحداً منهم.
وفي "التأويلات النجمية" : ولما كان تجاسره في مخاطبته الحق حيث أصر على الخلاف وأقسم عليه أقبح وأولى في استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم قال : فالحق إلخ.
انتهى.
فعلى العاقل أن يتأدب بالآداب الحسنة قولاً وفعلاً ولا يتجاسر على الله تعالى أصلاً ولا يتبع خطوات الشيطان حتى لا يرد معه النار وعن أبي موسى الأشعري ، قال : إذا أصبح إبليس بث جنوده ، فيقول : من أضل مسلماً ألبسته التاج ، قال : فيقول له القائل : لم أزل بفلان حتى طلق امرأته ، قال : يوشك أن يتزوج.
ويقول الآخر : لم أزل بفلان حتى عق ؛ أي : عصى والديه أو أحدهما.
قال : يوشك أن يبر ، قال : فيقول القائل : لم أزل بفلان حتى شرب.
قال : أنت ، أي : أنت فعلت شيئاً عظيماً أرضى عنه.
قال : ويقول الآخر : لم أزل بفلان حتى زنى ، فيقول : أنت.
قال : ويقول الآخر : لم أزل بفلان حتى قتل ، فيقول : أنت أنت ، أي : أنت صنعت شيئاً أعظم وحصلت غاية أمنيتي ، وكمال رضاي ، وذلك لأن وعيد القتل أشد وأعظم كما قال
66
تعالى ، {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ خَـالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه وَأَعَدَّ لَهُ} (النساء : 93).
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فلذلك كرر : أنت.
إشارة إلى كمال رضاه عنه وعن بعض الأشياخ أنه قال : الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات لما فاته من افتنانه إياه في الدنيا.
ويقال : لما أنظر الله إبليس وأهبطه إلى الأرض أعطاه منشور الدنيا ، فأول نظره منه وقعت على الجبال فمن شؤمه من ذلك الوقت لا تحتمل الماء للأحجار بل يرسلها إلى أسفله ، ومن كان على دينه لا يبقى على الصراط ما لم ينته إلى أسفل السافلين فيا خسارة من كان إنساناً دخل النار معه.
{قُلْ} يا محمد للمشركين {قُلْ مَآ} نيمخواهيم ازشما {عَلَيْهِ} ؛ أي : على القرآن الذي أتيتكم به ، أو على تبليغ الوحي وأداء الرسالة.
6
{مِنْ أَجْرٍ} من مال دنيوي ، ولكن أعلمكم بغير أجر ، وذلك لأن من شرط العبودية الخالصة أن لا يراد عليها الجزاء ولا الشكور ، فمن قطع رأس كافر في دار الحرب أو أسره وأحضره عند رئيس العسكر ، ليعطي له مالاً ، فقد فعله للأجر لاتعالى ، وعلى هذه جميع ما يتعلق به الأغراض الفاسدة :
فرادا كه بيشكاه حقيقت شود بديد
شرمنده رهروى كه عمل برمجاز كرد
{وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ؛ أي : المتصنعين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي حتى انتحل النبوة ؛ أي : أدعيها لنفسي كاذباً وأتقول القرآن من تلقاء نفسي وبالفارسية : (ومن نيستم از جماعتى كه بتصنع ازخود جيزى ظاهر كنند وبرسازند كه ندارند).
وحاصله : ما جئتكم باختياري دون أن أرسلت إليكم ، فكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه ، فقد تكلف له.
والتكلف في الأصل التعسف في طلب الشيء الذي لا يقتضيه إلا العقل.
وفي "تاج المصادر" : التكلف (رنج جيزى بكشيدن واز حويشتن جيزى نمودن كه آن نباشد).
والمتكلف : المتعرض لما لا يعينه.
انتهى.
(8/49)
وفي "المفردات" : تكلف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كلفة مع مشقة تناله في تعاطيه ، وصارت الكلفة في التعاريف اسماً للمشقة.
والتكلف اسم لما يفعل بمشقة أن بتصنع أو تشبع.
ولذلك صار التكليف ضربين : محموداً ، وهو ما يتحراه الإنسان ليتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه ويصبر كلفاً به ومحباً له ، وبهذا النظر استعمل التكليف في تكليف العبادات.
والثاني : ما يكون مذموماً ، وإياه عنى بقوله : {وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وصح في الحديث النهي عن التكلف كما قال عليه السلام : "أنا بريء من التكلف" ، وصالحوا أمتي.
وفي حديث آخر : "أنا والأتقياء من أمتي برأآء من التكلف".
وكذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم النهي عن السجع في الدعاء ؛ لأنه من باب التكلف والتصنع.
ومن هذا قال أهل الحقائق : لا يعين للصلاة شيئاً من القرآن بل يقرأ أول ما يقرع خاطره في أول الركعة ، فإنه المسلك الذي اختار الله تعالى له وعنه عليه السلام للمتكلف ثلاث علامات ينازع من فوقه ، يعني : (يكى آنكه نزاع كند باكسى كه بر ترازوست ، "ويتعاطى ما لا ينال" يعني : دوم آنكه ميخواهد كه فرا كيرد آنجه يافتن آن نه مقدور اوست) "ويقول ما لم يعلم" ، يعني : (سوم آنكه كويد جيزى كه نداند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يا أيها الناس من علم شيئاً ، فليقل ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من
67
العلم أن تقول لما لا تعلم.
الله أعلم.
فإنه تعالى قال لنبيه عليه السلام : {وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وفي الحديث : "من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض".
{إِنْ هُوَ} ؛ أي : ما هو يعني : (نيست اين كه من أوردم ازخدا).
يعني : القرآن والرسالة.
{قُلْ مَآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِين} .
{إِلا ذِكْرٌ} ؛ أي : عظة من الله تعالى ، وأيضاً : شرف وذكر باق {لِّلْعَالَمِينَ} للثقلين كافة.
{وَلَتَعْلَمُنَّ} أيها المشركون.
{نَبَأَهُ} ؛ أي : ما أنبأ القرآن به من الوعد والوعيد وغيرهما ، أو صحة خبره ، وأنه الحق والصدق.
{بَعْدَ حِين} .
بعد الموت ، أو يوم القيامة حين لا ينفع العلم وفيه تهديد.
قال في "المفردات" : الحين وقت بلوغ الشيء وحصوله ، وهو مبهم المعنى ويتخصص بالمضاف إليه نحو {وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص : 3).
ومن قال حين على أوجه للأجل نحو {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس : 98) وللسنة نحو {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين} (إبراهيم : 25).
وللساعة نحو {حِينَ تُمْسُونَ} ، وللزمان المطلق نحو {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} (الإنسان : 1).
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِين} ، فإنما فسر ذلك بحسب ما وجده ، وقد علق به.
انتهى.
قال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ، فينبغي للمؤمن أن يكون بحيث لو كشف الغطاء ما ازداد يقيناً ، ومن كلام سيدنا علي رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً :
حال وخلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مى بايد
كر حجاب از ميانه بركير ند
آن يقين ذره نيفزايد
(معنى اين كلمه آنست كه داردنيا سراى حجابست وأحوال آخرت مرا يقين كشته است ازحشر ونشر وثواب ونعيم وجحيم وغير آن بس اكر حجاب بردارندتا آن جمله ار مشاهده كنم يك ذره در يقين من زيادت نشود كه علم اليقين من امروز جو عين اليقين منست در فردا).
وأخبر القرآن أن الكفار يؤمنون بعد الموت بالقرآن ، وبما أخبر به ، ولكن لا يقبل إيمانهم.
وسئل أبو القاسم الحكيم ، فقيل له : العاصي يتوب من عصيانه أم كافر يرجع من الكفر إلى الإيمان ، فقال : بل عاص يتوب من عصيانه ، لأن الكافر في حال كفره أجنبي ، والعاصي في حال عصيانه عارف بربه ، والكافر إذا أسلم ينتقل من درجة الأجانب إلى درجة المعارف والعاصي إذا تاب ، ينتقل من درجة المعارف إلى درجة الأحباء ، فلا بدّ من التوبة والتوجه إلى الله تعالى قبل الموت حتى يزول التهديد والوعيد ، ويظهر الوعد والتأييد ويحصل الانبساط في جميع المواطن ، وينصب الفيض في الظاهر والباطن بلطفه تعالى وكرمه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2(8/50)
سورة الزمر
خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية مكية
جزء : 8 رقم الصفحة : 67
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} ؛ أي : القرآن ، وخصوصاً منه هذه السورة الشريفة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} لا من غيره كما يقول المشركون : إن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه.
وقيل : معناه تنزيل الكتاب من الله ، فاستمعوا له واعملوا به ، فهو كتاب عزيز.
نزل من رب عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة عزيزة ، والتعرض لوصفي العزة
68
والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب ، بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع ، وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة.
وقال الكاشفي : {الْعَزِيزِ} (خداوند غالب در تقدير {الْحَكِيمِ} دانا است در تدبير).
وفي "فتح الرحمن" : العزيز في قدرته الحكيم في إبداعه.
{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} .
شروع في بيان شأن المنزل إليه ، وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل ، وكونه من عند الله ، فلا تكرار في إظهار الكتاب في موضع الإضمار لتعظيمه ، ومزيد الاعتناء بشأنه.
والباء : إما متعلقة بالإنزال ؛ أي : بسبب الحق وإثباته وإظهاره ، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة ؛ أي : أنزلناه إليك حال كوننا محقين في ذلك ، أو حال من الكتاب ؛ أي : أنزلناه حال كونه ملتبساً بالحق والصواب ؛ أي : كل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل حتماً.
وفي "التأويلات النجمية" : أي من الحق نزل وبالحق نزل وعلى الحق نزل.
قال في "برهان القرآن" : كل موضع خاطب الله النبي عليه السلام بقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} ، ففيه تكليف ، وإذا خاطبه بقوله : {أَنزَلْنَا عَلَيْكَ} (النمل : 64) ، ففيه تخفيف.
ألا ترى إلى ما في أول السورة إليك ، فكلفه الإخلاص في العبودية ، وإلى ما في آخرها عليك ، فختم الآية بقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنفال : 107) ؛ أي : لست بمسؤول عنهم ، فخفف عنه ذلك {فَاعْبُدِ اللَّهَ} حال كونك {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} .
الإخلاص أن يقصد العبد بنيته وعمله إلى خالقه لا يجعل ذلك لغرض من الأغراض ؛ أي : ممحضاً له الطاعة من شوائب الشرك والرياء ، فإن الدين الطاعة كما في "الجلالين" وغيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "عرائس البيان" : أمر حبيبه عليه السلام بأن يعبده بنعت أن لا يرى نفسه في عبوديته ، ولا الكون وأهله ، ولا يتجاوز عن حدّ العبودية في مشاهدة الربوبية ، فإذا سقط عن العبد حظوظه من العرش إلى الثرى ، فقد سلك مسلك العبودية الخالصة :
كر نباشد نيت خالص
جه حاصل از عمل
قال بعض الكبار : العبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخضوع.
وتكون بالنفس فإخلاصها فيها التباعد عن الانتقاص.
وبالقلب فإخلاصه فيها العمى عن رؤية الأشخاص.
وبالروح فإخلاصه فيها التنقي عن طلب الاختصاص وأهل هذه العبادة موجود في كل عصر لما قال عليه السلام : "لايزال الله يغرس في هذا لدين غرساً يستعملهم في طاعته".
قال الكاشفي : (مخاطب حضرتست ومراد امت است كه مأمورند بآنكه طاعت خودرا از شرك وريا خالص سازند).
وفي "كشف الأسرار" : (فرموده رسول خدا عليه السلام باين خطاب جنان ادب كرفت كه جبريل وكفت "يا محمد أتختار أن تكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً" كفت خداوندا بندكى مارا مسلم اكر ملك اختيار كنم با ملك بنا نم وآنكه افتخار من يملك باشد ليكن بندكى خواهم وملكي نخواهم ملكى ترا مسلم است وبندكى اختيار كنم تا مملوك تو باشم وافتخار من بملك توباشد ازنيجا كفت "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" يعني مار بهيج جيز فخر نيست فخر ما بخالقست زيراكه برماكس نيست جزاوا كر بغير او فخر كنم بعير او نكر سته باشم وفرمان {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} بكذاشته باشم وبكذاشته فرمان نيست وبغيراو نكر ستن شرط نيست لا جرم بغير أو فخر نيست).
قال الحافظ :
69
كدايى درجانا بسلطنت مفروش
كسى زسايه اين در بآفتاب رود
{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا} .(8/51)
{أَلا} بدانيد كه ؛ أي : من حقه وواجباته {الدِّينُ الْخَالِصُ} من الشرك ؛ أي : إلا هو الذي يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له : (يعني او سزاوار آنست كه طاعة او خالص باشد) لتفرده بصفات الألوهية واطلاعه على الغيوب والأسرار ، وخلوص نعمته عن استجرار النفع.
وفي "الكواشي" : ألا لدين الخالص من الهوى والشك والشرك ، فيتقرب به إليه رحمة لا أن له حاجة إلى إخلاص عبادته.
وفي "التأويلات النجمية" : الدين الخالص ما يكون جملته ، وما للعبد فيه نصيب والمخلص من خلصه الله من حبس الوجود بجوده لا بجهده.
وعن الحسن : الدين الخالص الإسلام ، لأن غيره من الأديان ليس بخالص من الشرك ، فليس بدين الله الذي أمر به فالله تعالى لا يقبل إلا دين الإسلام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، إني أتصدق بالشيء وأضع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس ، فقال عليه السلام : والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا لدين الخالص.
وقال عليه السلام ، قال الله سبحانه : "من عمل لي عملاً أشرك فيه معي غيري ، فهو له كله ، وأنا بريء منه ، وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك" ، وقال عليه السلام : "لا يقبل الله عملاً فيه مقدار ذرة من رياء" :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
زعمرو اى بسر جشم اجرت مدار
جو درخانه زيد باشى بكار
(سزاى الله تعالى عبادت باكست بي نفاق وطاعت خالصة بى ريا وكوهر إخلاص كه يابنددر صدق دل يا بند يادر درياى سينه واز انيجاست كه حذيقه كويد رضي الله عنه ازان مهتر كائنات عليه السلام بر سيدم كه اخلاص جيست كفت ازجبريل برسيدم إخلاص جيست كفت از رب العزة برسيدم كه إخلاص جيست كفت سر من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي كفت كوهر ست كه از خزينه أسرار خويش بيرون آوردم ودرسو يداى دل دوستان خويش وديعت نهادم اين إخلاص نتجه دوستى است واثر بندكى هركه لباس محبت بوشيد وخلقت بندكى برافكند هر كاركه كند ازميان دل كند دوستى حق تعالى بآرزوهاى برا كنده دريك دل جمع نشود وفريضه تن نماز وروزه است وفريضه دل دوستى حق نشان دوستى آنست كه هر مكروه طبيعت ونهاد كه) :
از دوست بتو آيد ديده نهى
ولو بيد الحبيب سقيت سما
لكل السم من يده يطيب
زهرى كه بيادتو خورم نوش آيد
ديوانه ترا بيند وباهوش آيد
آن دل كه توسوختى تراشكر كند
(وآن خون كه توريختى بتو فخر كند).
{وَالَّذِينَ} عبارة عن المشركين {اتَّخَذُوا} : يعني عبدوا.
{مِن دُونِهِ} ؛ أي : حال كونهم متجاوزين الله وعبادته.
{أَوْلِيَآءَ} : أرباباً أوثاناً كالملائكة وعيسى وعزير والأصنام لم يخلصوا العبادةتعالى ، بل شابوها بعبادة غيره حال كونهم قائلين.
{مَا نَعْبُدُهُمْ} ؛ أي : الأولياء لشيء من الأشياء.
{إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}
70
أي : تقريباً ، فهو مصدر مؤكد على غير لفظ مصدر ملاق له في المعنى ، وكانوا إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض.
قالوا الله ، فإذا قيل لهم : لم تعبدون الأصنام.
قالوا : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله.
وفي "تفسير الكاشفي" : (درخواست كنند تا بشفاعت ايشان ميزلت يا بيم).
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني : أن أصل وضع الأصنام إنما كان من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين ، فإنهم نزهوا الله عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم ، فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلي والجواهر وعظموها بالسجود وغيره ، ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم.
وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ} إلخ.
خبر للموصول : {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ؛ أي : بين المتخذين بالكسر غير المخلصين ، وبين خصمائهم المخلصين للدين ، وقد حذف لدلالة الحال عليه {فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين الذي اختلفوا فيه بالتوحيد والإشراك وادعى كل فريق صحة ما انتحله وحكمه تعالى في ذلك إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار ، فالضمير للفريقين.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى} لا يوفق إلى الاهتداء إلى الحق الذي هو طريق النجاة من المكروه.
والفوز بالمطلوب.
{مَنْ هُوَ كَـاذِبٌ كَفَّارٌ} ؛ أي : راسخ في الكذب مبالغ في الكفر كما يعرب عنه قراءة كذاب وكذوب ؛ فإنهما فاقدان للبصيرة غير قابلين للاهتداء لتغييرهما : الفطرة الأصلية بالتمرن في الضلالة والتمادي في الغيّ ، قال في "الوسيط" : هذا فيمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية ، فلا يهتدي إلى الصدق والإيمان البتة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كرجان بدهد سنك سيه لعل نكردده
باطينت أصلى جه كند بدكهر افتاد
(8/52)
وكذبهم قولهم في بعض أوليائهم بنات الله وولده.
قولهم : إن الآلهة تشفع لهم وتقربهم إلى الله وكفرهم عبادتهم تلك الأولياء وكفرانهم النعمة بنسيان المنعم الحقيقي.
وفي "التأويلات النجمية" : أن الإنسان مجبول على معرفة صانعه ، وصانع العالم ومقتضى طبعه عبادة صانعه ، والتقرب إليه من خصوصية فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ولكن لا عبرة بالمعرفة الفطرية والعبادة الطبيعية ؛ لأنها مشوبة بالشركة لغير الله ؛ ولأنها تصدر من نشاط النفس واتباع هواها ، وإنما تعتبر المعرفة الصادرة عن التوحيد الخالص ومن أماراتها قبول دعوة الأنبياء والإيمان بهم ، وبما أنزل عليهم من الكتب ومخالفة الهوى والعبادة على وفق الشرع لا على وفق الطبع ، والتقرب إلى الله بأداء ما افترض الله عليهم ونافلة قد استن النبي صلى الله عليه وسلّم بها ، أو بمثلها ، فإنه كان من طبع إبليس السجودولما أمر بالسجود على خلاف طبعه أبى واستكبر ، وكان من الكافرين بعد أن كان من الملائكة المقربين.
وكذلك حال الفلاسفة ممن لا يتابع الأنبياء منهم ويدعي معرفة الله ويتقرب إلى الله بأنواع العلوم ، وأصناف الطاعات والعبادات بالطبع لا بالشرع ، ومتابعة الهوى لا بأمر المولى ، فيكون حاصل أمره ما قاله تعالى ، {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23) ، فاليوم كل مدع يدعي حقيقة ما عنده من الدين والمذهب على اختلاف طبقاتهم ، فالله تعالى يحكم بينهم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فيحق الحق باتساع صدور أهل الحق بنور الإسلام وبكتابة الإيمان في قلوبهم وتأييدهم بروح منه ، وكشف شواهد الحق عن أسرارهم وتجلي صفات جماله وجلاله لأرواحهم ، ويبطل الباطل
71
بتضييق صدور أهل الأهواء والبدع وقسوة قلوبهم وعمى أسرارهم وبصائرهم وغشاوة أرواحهم بالحجب.
وأما في الآخرة فتبييض وجوه أهل الحق وإعطاء كتابهم باليمين وتثقيل موازينهم وجوازهم على الصراط وسعي نورهم بين أيديهم وإيمانهم ودخول الجنة ورفعتهم في الدرجات ، وبتسويد وجوه أهل الباطل ، وإيتاء كتبهم بالشمال ومن وراء ظهورهم ، وتخفيف موازينهم ، وزلة أقدامهم على الصراط ، ودخول النار ونزولهم في الدركات ، وبقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـاذِبٌ كَفَّارٌ} .
يشير إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي رتبة ليس بصادق فيها ، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده وعقوبته أن يحرمه تلك الرتبة التي تصدى لها بدعواه قبل تحققه بوجودها.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كرانكشست سليماني نباشد
جه خاصيت دهد نقش نكينى
خدازان خرقه بيزارست صدبار
كه صد بت ماندش در آستينى
ومن الله العصمة من الدعوى قبل التحقق بحقيقة الحال ، وهو المنعم المتعال.
{لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} .
كما زعم المشركون بأنتعالى اتخذ ولداً.
{اصْطَفَى} لاتخذ واختار.
{مِمَّا يَخْلُقُ} ؛ أي : من جنس مخلوقاته.
{مَا يَشَآءُ} .
ولم يخص مريم ولا عيسى ولا عزيراً بذلك ولخلق جنساً آخر أعز وأكرم مما خلق ، واتخذه ولداً لكنه لا يفعله لامتناعه والممتنع لا تتعلق به القدرة والإرادة ، وإنما أمره اصطفاء من شاء من عباده وتقريبهم منه ، وقد فعل ذلك الملائكة وبعض الناس كما قال الله تعالى : {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} (الحج : 75) ، ولذا وضع الاصطفاء مكان الاتخاذ.
وقال بعضهم : معناه لو اتخذ من خلقه ولداً لم يتخذه باختيارخم ، بل يصطفي من خلقه من يشاء.
وقال الكاشفي : (هر آينه اختيار كردى از آنجه مى آفريند آنجه خواستى از اعزاشيا واحسن آن واكمل كه بنون اندنه از نقص كه بتانند اما مخلوق مماثل خالق نيست وميان والد ومولود مجانست شرط است بس اورا فرزند نبود).
{سُبْحَـانَهُ} مصدر من سبح إذا بعد ؛ أي : تنزه تعالى بالذات عن ذلك الاتخاذ وعما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء وعلم للتسبيح مقول على ألسنة العباد ؛ أي : أسبحه تسبيحاً لائقاً به أو سبحوه تسبيحاً حقيقياً بشأنه.
{هُوَ} : مبتدأ خبره.
قوله : {اللَّهَ} المتصف بالألوهية.
{الْوَاحِدُ} الذي لا ثاني له والولد ثاني والده وجنسه وشبهه.
وفي "بحر العلوم" : واحد ؛ أي : موجود جلّ عن التركيب والمماثلة ذاتاً وصفة ، فلا يكون له ولد ؛ لأنه يماثل الوالد في الذات والصفات.
{الْقَهَّارُ} الذي بقهاريته لا يقبل الجنس والشبه بنوع ما.
وفي "الإرشاد" : قهار لكل الكائنات كيف يتصور أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه.
(8/53)
{لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا سُبْحَـانَه هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَا كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّـارُ * خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا يَخْلُقُكُمْ فِى} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ، وما بينهما من الموجودات حال كونها ملتبسة.
{بِالْحَقِّ} .
والصواب مشتملة على الحكم والمصالح لا باطلاً وعبثاً.
قال الكاشفي : (بيافريد آسمان وزمين را براستى نه بباطل وازى بلكه در آفرينش هريك ازان صد هزار آثار قدرت وأطوار حكمت است نعميه تاديده وران از روى اعتبار ارقام معرفت آفريد كار بر صفحات آن دلائل مطالعه نمايند) :
نوشته براوراق آسمان وزمين
خطى كه فاعتبروا منه يا أولي الأبصار
72
{يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ} .
قال في "تاج المصادر" : تكوير الليل على النهار تغشيته إياه ، ويقال : زيادته من هذا في ذاك ، كما قال الراغب في "المفردات" : تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة.
وقوله تعالى : {يُكَوِّرُ الَّيْلَ} إلخ.
إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها ، وانتقاص الليل والنهار وازديادهما.
انتهى.
والمعنى : يغشى كل واحد منهما الآخر ، كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس.
وبالفارسية : (برمى بيجد ودر مى آرد شب بروز وبه برده ظلمت آت نور اين مى بوشد ودر مى آرد روزرا برشت وشعله روشنى آن تاريكى اين را مختفى سازد).
وذلك أن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك كما في "الكبير" أو يغيب كل واحد منهما بالآخر ، كما يغيب الملفوف باللفافة عن مطامح الأبصار ، أو يجعله كارّاً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة بعضها على بعض.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : جعلهما منقادين لأمره تعالى.
{كُلِّ} منهما {يَجْرِى} يسير في بروجه {لاجَلٍ مُّسَمًّى} لمدة معينة ، هي منتهى دورته في كل يوم أو شهر ، أو منقطع حركته ؛ أي : وقت انقطاع سيره ، وهو يوم القيامة ، وإنما ذلك لمنافع بني آدم.
وفي الحديث : "وكل بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج ولولا ذلك ما أصابت شيئاً إلا أحرقته".
(وكفته اند ستاركان آسمان دو قسم اند قسمي بر آفتاب كذر كنند وازوى روشنايى كيرند وقسمى آفتاب برايشان كذر كند وايشانرا روشنايى دهد ازروى اشارت ميكويد مؤمنان ذو كروهند كروهى بدركاه شوند بجهد واجتهاد تانور هدايت يابند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69).
(وكروهى آنند كه عنايت ازلى برايشان كذر كند وايشانرا نور معرفت دهد).
كما قال تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22).
{أَلا} اعلموا {هُوَ} وحده {الْعَزِيزِ} الغالب القادر على كل شيء ، فيقدر على عقاب العصاة {الْغَفَّـارُ} المبالغ في المغفرة.
ولذلك لا يعاجل بالعقوبة ، وسلب ما في هذه الصنائع البديعة من آثار الرحمة ، وعموم المنفعة.
وبالفارسية : (سلب اين نعمتها نمى كند از آدميان باوجود وقوع شرك ومعصيت ازايشان).
قال الإمام الغزالي رحمه الله : هو الغفار هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التي سترها بإسبال الستر عليها في الدنيا ، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة.
والغفر : هو الستر.
وأول ستره على عبده أن جعل مقابح بدنه التي تستقبحها الأعين مستورة في باطنه مغطاة بجمال ظاهره فكم بين باطن العبد وظاهره في النظافة والقذارة.
وفي القبح والجمال ، فانظر ما الذي أظهره ، وما الذي ستره.
وستره الثاني أن جعل مستقر خواطره المذمومة وإرادته القبيحة سر قلبه حتى لا يطلع أحد على سر قلبه ، ولو انكشفت للخلق ما يخطر بباله في مجاري وسواسه ، وما ينطوي عليه ضميره من الغش والخيانة ، وسوء الظن بالناس لمقتوه ، بل سعوا في تلف روحه وإهلاكه ، فانظر كيف ستر عن غيره أسراره وعوارفه.
والثالث : مغفرة ذنوبه التي كان يستحق الافتضاح بها على ملأ من الخلق ، وقد وعد أن يبدل من سيئاته حسنات ليستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته إذا مات على الإيمان.
وحظ العبد من هذا الاسم أن يستر
73
(8/54)
من غيره ما يحب أن يستر منه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم "من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة".
والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الإساءة بمعزل ، وعن هذا الوصف ، وإنما المتصف به من لا يفشي من خلق الله إلا أحسن ما فيهم ، ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص وعن قبح وحسن ، فمن تغافل عن المقابح ، وذكر المحاسن ، فهو ذو نصيب من هذا الاسم والوصف كما روي عن عيسى عليه السلام أنه مر مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنه ، فقالوا : ما أنتن هذه الجيفة ، فقال عيسى عليه السلام : ما أحسن بياض أسنانها تنبيهاً على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هوأحسنه.
قال الشيخ سعدي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
مكن عيب خلق اي خردمند فاش
بعيب خود از خلق مشغول باش
جو باطل سرايند نمكمار كوش
جو بى ستر بينى نظر رابيوش
{خَلَقَكُم} ؛ أي : الله تعالى أيها الناس جميعاً {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي نفس آدم عليه السلام.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} ؛ أي : خلق من جنس تلك النفس واحدة ، أو من قصيراها ، وهي الضلع التي تلي الخاصرة ، أو هي آخر الأضلاع.
وبالفارسية : (ازاستخوان بهلوى جب) ، أو {زَوْجَهَا} حواء عليها السلام ، وثم عطف على محذوف هو صفة لنفس ؛ أي : من نفس واحدة خلقها ، ثم جعل منها زوجها ، فشفعها وذلك ، فإن ظاهر الآية يفيدان خلق حواء بعد خلق ذرية آدم ، وليس كذلك.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق الإنسان من نفس واحدة هي الروح ، وخلق منها زوجها وهو القلب ، فإنه خلق من الروح كما خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام ، فالله تعالى متفرد بهذا الخلق مطلقاً ، فينبغي أن يعرف ويعبد بلا إشراك.
{وَأَنزَلَ لَكُم} ؛ أي : قضى وقسم لكم ، فإن قضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث تكتب في اللوح المحفوظ ، أو أحدث لكم وأنشأ بأسباب نازلة من السماء كالأمطار وأشعة الكواكب.
وهذا كقوله : قد أنزلنا عليكم لباساً ، ولم ينزل اللباس نفسه ، ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف واللباس منهما.
{مِّنَ الانْعَـامِ} (از جهار بايان).
{ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ذكراً وأنثى ، هي الإبل والبقر والضأن والمعز والأنعام جمع نعم بفتحتين ، وهي جماعة الإبل في الأصل لا واحد لها من لفظها.
قال ابن الشيخ في أول المائدة : الأنعام مخصوص بالأنواع الأربعة ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ، ويقال لها : الأزواج الثمانية ؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه وأنثاه زوج بذكره ، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين والخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام.
قال في "بحر العلوم" الواحد إذا كان وحده ، فهو فرد ، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً ، فهي زوجان بدليل قوله تعالى : خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وعند الحساب الزوج خلاف الفرد كالأربعة والثمانية في خلاف الثلاثة والسبعة.
وخصصت هذه الأنواع الأربعة بالذكر لكثرة الانتفاع بها من اللحم والجلد والشعر والوبر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ؛ أي : خلق فيكم من صفات الأنعام ثماني صفات ، وهي الأكل والشرب والتغوط والتبول والشهوة والحرص والشره
74
والغضب.
وأصل جميع هذه الصفات الصفتان الاثنتان : الشهوة والغضب ، فإنه لا بدّ لكل حيوان من هاتين الصفتين لبقاء وجوده بهما فبالشهوة يجلب المنافع إلى نفسه وبالغضب يدفع المضرات.
{يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ} ؛ أي : في أرحامهن جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق.
{خَلْقًا} كائناً {مِّنا بَعْدِ خَلْقٍ} ؛ أي : خلقاً مدرجاً حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ مخلقة من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة ونظيره قوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح : 14).
{فِى ظُلُمَـاتٍ ثَلَـاثٍ} متعلق بيخلقكم ، وهي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، وهي بالفتح محل الولد ؛ أي : الجلد الرقيق المشتمل على الجنين ، أو ظلمة الصلب أو البطن والرحم.
وفيه إشارة إلى ظلمة الخلقية وظلمة وجود الروح وظلمة البشرية ، وإن شئت قلت : ظلمة الجسد وظلمة الطبيعة وظلمة النفس ، فكما أن الجنين يخرج في الولادة الأولى من الظلمات المذكورة إلى نور عالم الملك والشهادة ، فكذا السالك يخرج في الولادة الثانية من الظلمات المسطورة إلى نور عالم الملكوت والغيب في مقام القلب والروح.
قال الحافظ :
بال بكشا وصفير از شجر طوبى زن
حيف باشد جو تومر غى كه اسير قفسى
{ذَالِكُمُ} إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة ومحله الرفع على الابتداء ؛ أي : ذلكم العظيم الشأن الذي عدت أفعاله.
{اللَّهَ} خبره.
وقوله تعالى : {رَبِّكُمْ} خبر آخر له ؛ أي : مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به.
(8/55)
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : أنا خلقتكم وأنا صورتكم ، وأنا الذي أسبغت عليكم إنعامي وخصصتكم بجميع إكرامي وغرقتكم في بحار أفضالي وعرفتكم استحقاق شهود جمالي وجلالي وهديتكم إلى توحيدي وأدعوكم إلى وحدانيتي ، فما لكم لا تنطقون إلي بالكلية وما لكم لا تطلبون مني ولا تطلبونني ، وقد بشرتكم بقولي ألا من طلبني وجدني ومن كان لي كنت له ومن كنت له يكون له ما كان لي.
{لَهُ الْمُلْكُ} على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه.
وبالفارسية : (مرورا بادشاهى مطلق كه زوال وفنا بدوراه نيابد).
وقال بعض الكبار : له ملك القدرة على تبليغ العباد إلى المقامات العلية والكرامات السنية ، فينبغي للعبد أن لا يقنط ، فإن الله تعالى قادر ليس بعاجز وبالجملة خبر آخر وكذا قوله تعالى : {لا إله إِلا هُوَ} (نيست معبودى بسزا مكرا) وفكما أن لا معبود إلا هو ، فكذا لا مقصود ، بل لا موجود إلا هو ، فهو الوجود المطلق والهوية المطلقة والواحدة الذاتية.
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ؛ أي : فكيف ، ومن أي وجه تصرفون وتردون عن ملازمة بابه بالعبودية إلى باب عاجز مثلكم من الخلق ؛ أي : عن عبادته تعالى إلى عبادة الأوثان مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره من غير داع إليها من كثرة الصوارف عنها.
قال علي كرم الله وجهه : قيل للنبي عليه السلام : هل عبدت وثناً قط.
قال : لا ، قيل : هل شربت خمراً.
قال : لا وما زلت أعرف أن الذي هم ؛ أي : الكفار عليه من عبادة الأوثان ونحوها ، كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان" ، فأدلة العقل وحدها كافية في الحكم ببطلان عبادة غير الله ، فكيف وقد انضم إليها أدلة الشرع ، فلا بد من الرجوع إلى باب الله تعالى ، فإنه المنعم الحقيقي والعبودية له ؛ لأنه
75
الخالق.
قال أبو سعيد الخراز قدس سره : العبودية ثلاثة : الوفاءعلى الحقيقة ومتابعة الرسول في الشريعة والنصيحة لجماعة الأمة.
واعلم أن العبادة ، هي المقصود من خلق الأشياء كما قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) سواء فسرت العبادة بالمعرفة أم لا إذ لا يتكون المعرفة الحقيقية إلا من طريق العبادة.
وعن معاذ رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الحنة ويباعدني من النار.
قال : "لقد سألت عن عظيم ، وإنه يسير على من يسر الله تعالى تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما تطفأ النار بالماء ، وصلاة الرجل في جوف الليل".
ثم تلا : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (السجدة : 16) الآية.
ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذورة سنامه : الجهاد".
ثم قال : "ألا أخبرك بملاك ذلك كله".
قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه.
وقال : "كف عليك هذا".
قلت : يا نبي الله وإنا المؤاخذون بما نتكلم به فقال : "ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
تراديده درسر نهادند وكوش
دهن جاى كفتار ودل جاى هوش
مكر بازدانى نشيب ازفراز
نكويى كه اين كوته است آن دراز
{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَا وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّه مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ} .
{إِن تَكْفُرُوا} به تعالى بعد مشاهدة ما ذكر من فنون نعمائه ومعرفة شؤونه العظيمة الموجبة للإيمان والشكر.
والخطاب لأهل مكة كما في "الوسيط".
والظاهر التعميم لكل الناس كما في قوله تعالى : {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا} (إبراهيم : 8).
{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ} وعن العالمين ؛ أي : فاعلموا أنه تعالى غني عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما ، والغني هو الذي يستغني عن كل شيء لا يحتاج إليه لا في ذاته ولا في صفاته ؛ لأنه الواجب من جميع جهاته.
{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ، وإن تعلقت به إرادته تعالى من بعضهم ؛ أي : عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم رحمة عليهم لا لتضرره به تعالى.
وإنما قيل لعباده لا لكم لتعميم الحكم للمؤمنين والكافرين وتعليله بكونهم عباده.
(8/56)
واعلم أن الرضا ترك السخط ، والله تعالى لا يترك السخط في حق الكافر ، لأنه لسخطه عليه أعدَّ له جهنم ، ولا يلزم منه عدم الإرادة إذ ليس في الإرادة ما في الرضا من نوع استحسان ، فالله تعالى مريد الخير والشر ، ولكن لا يرضى بالكفر والفسوق ، فإن الرضا إنما يتعلق بالحسن من الأفعال دون القبيح ، وعليه أهل السنة ، وكذا أهل الاعتزال.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : والذي لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين ذكرهم في قوله : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) ، فيكون عاماً مخصوصاً كقوله : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6) ، يريد بعض العباد ، وعليه بعض الماتريدية حيث قالوا : إن الله يرضى بكفر الكافر ومعصية العاصي ، كما أنه يريدهما صرح بذلك الخصاف في "أحكام القرآن".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
ونقل أن هشام بن عبد الملك إنما قتل غيلان القدري بإشارة علماء الشام بقوله : إن الله لا يرضى ، فلا يكون إلهاً ، وإن قدر فلم يدفع يكون راضياً فأفحم غيلان.
وفي "الأسئلة المقحمة" : فإن قيل : هل يقولون بأن كفر الكافر قد رضيه الله تعالى للكافر.
قلنا : إن الله تعالى خلق كفر الكافر ورضيه له
76
وخلق إيمان المؤمن ، ورضيه له وهو مالك الملك على الإطلاق.
وتكلف بعض أهل الأصول ، فقال : إن الله تعالى لا يرضى بكون الكفر حسناً وديناً ، لأنه تعالى يرضى وجوده ، وهو حسن ، ولا يخلقه ، وهو حسن ، وعلى هذا معنى قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة : 205).
والأليق بأهل الزمان ، والأبعد عن التشنيع ، والأقرب أن لا يرضى من عباده الكفر مؤمناً كان أو كافراً.
يقول الفقير : إن رضى الله بكفر الكافر ومعصية العاصي اختياره وإرادته له في الأزل ، فلذا لم يتغير حكمه في الأبد لا مدحه وثناؤه وترك السخط عليه فارتفع النزاع ، ومن تعمق في إشارة قوله تعالى : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآا إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (هود : 56).
انكشف له حقيقة الحال.
{وَإِن تَشْكُرُوا} تؤمنوا به تعالى وتوحدوه يدل عليه ذكره في مقابلة الكفر.
{يَرْضَهُ لَكُمْ} أصله يرضاه على أن الضمير عائد إلى الشكر حذف الألف علامة للجزم ، وهو باختلاس ضمة الهاء عند أهل المدينة وعاصم وحمزة ، وبإسكان الهاء عند أبي عمرو ، وبإشباع ضمة الهاء عند الباقين ، لأنها صارت بخلاف الألف موصولة بمتحرك.
والمعنى : يرضى الشكر والإيمان لأجلكم ومنفعتكم ؛ لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني : لا يرضى لكفركم ؛ لأنه موجب للعذاب الشديد ويرضى لشكركم ؛ لأنه موجب لمزيد النعمة ، وذلك لأن رحمته سبقت غضبه يقول : يا مسكين أنا لا أرضى لك أن لا تكون لي يا قليل الوفاء كثير التجني ، فإن أطعتني شكرتك وإن ذكرتني ذكرتك.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلاً.
والوزر : الحمل الثقيل ووزره ؛ أي : حمله.
والمعنى : ولا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى من الذنب والمعصية (بلكه هريك بردارنده وزر خود بردارد جنانكه كناه كسى دردفتر ديكر نمى نويسند) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كه كناه دكران
برتو نخواهند نوشت
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} ؛ أي : رجوعكم بالبعث بعد الموت لا إلى غيره.
{فَيُنَبِّئُكُم} عند ذلك.
وبالفارسية : (بس خبر دهد شمارا).
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي : بما كنتم تعملونه في الدنيا من أعمال الكفر والإيمان ؛ أي : يجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً كما قال الكاشفي.
(واخبار از آن بمحاسبه ومجازات باشد).
وفي "تفسير أبي السعود" في غير هذا المحل عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم ، تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته ؛ أي : يظهر لكم على رؤوس الأشهاد ويعلمكم ؛ أي شيء شنيع كنتم تفعلونه في الدنيا على الاستمرار ، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء.
{إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
تعليل للتنبئة ؛ أي : مبالغ في العلم بمضمرات القلوب ، فكيف بالأعمال الظاهرة ، وأصله عليم بمضمرات صاحبة الصدور.
وفي الآية دليل على أن ضرر الكفر والطغيان يعود إلى نفس الكافر ، كما أن نفع الشكر والإيمان يعود إلى نفس الشاكر ، والله غني عن العالمين كما وقع في الكلمات القدسية : "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم" ؛ أي : على تقوى أتقى قلب رجل "ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
وفي آخر الحديث ، فمن وجد خيراً ، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه.
77
(8/57)
واعلم أن الشكر سبب الرضوان ألا ترى إلى قوله تعالى {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ، ولشرف الشكر أمر أنبياءه ، فقال لموسى فخذ ما آتيتك ، وكن من الشاكرين.
روي : أنه أخذ التوراة ، وهي خمسة ألواح أو تسعة من الياقوت ، وفيها مكتوب يا موسى من لم يصبر على قضائي ، ولم يشكر نعمائي ، فليطلب رباً سواي.
وكان الأنبياء لمعرفتهم لفضل الشكر يبادرون إليه.
روي : أنه عليه السلام لما تورمت قدماه من قيام الليل ؛ أي : انتفختا من الوجع الحاصل من طول القيام في الصلاة.
قالت عائشة ـ ـ رضي الله عنها ـ ـ.
.
أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال عليه السلام : أفلا أكون عبداً شكوراً ؛ أي : مبالغاً في شكر ربي.
وفي ذلك تنبيهه على كمال فضل قيام الليل حيث جعله النبي عليه السلام شكراً لنعمته تعالى ، ولا يخفى أن نعمه عظيمة وشكره أيضاً عظيم ، فإذا جعل النبي عليه السلام قيام الليل شكراً لمثل هذه نعم الجليلة ثبت أنه من أعظم الطاعات ، وأفضل العبادات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الحديث صلاة في مسجدي هذا أفضل من عشرة آلاف في غيره إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره ، ثم قال : "ألا أدلكم على ما هو أفضل من ذلك" ، قالوا : نعم.
قال : "رجل قام في سواد الليل فأحسن الوضوء وصلى ركعتين يريد بهما وجه الله تعالى".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا فاته قيام الليل بعذر قضاه ضحوة ؛ أي : من غير وجوب عليه ، بل على طريق الاحتياط ، فإن الورد الملتزم إذا فات عن محله يلزم أن يتدارك في وقت آخر حتى يتصل الأجر ولا ينقطع الفيض ، فإنه بدوام التوجه يحصل دوام العطاء وشرط عليه السلام إرادة وجه الله تعالى ، فإنه تعالى لا يقبل ما كان لغيره ولذا وعدوا وعداً بقوله : إنه عليم بذات الصدور ، فمن اشتمل صدره على الخلوص تخلص من يد ، ومن اشتمل على الشرك والرياء وجد الله عند عمله فوفاه حسابه :
اكر جز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
اكر جانب حق ندارى نكاه
بكويى بروز اجل آه آه
جه وزن آورد جايى ابنان باد
كه ميزان عدلست وديوان داد
مرايى كه جندان عمل مى نمود
بديدند هيجش در انبان نبوت
منه آب روى ريارا محل
كه اين آب در زير دارد وحل
جعلنا الله وإياكم من الصالحين الصادقين والمخلصين في الأقوال والأفعال والأحوال دون الفاسقين الكاذبين المرائين آمين يا كريم العفو كثير النوال.
{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَا وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّه مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَا إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
{وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ} أصابه ووصل إليه سوء حال من فقر أو مرض أو غيرهما.
وبالفارسية : (وجون آنكاه كه برسيد ايشانرا سختى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الراغب : المس ، يقال : في كل ما ينال الإنسان من أذى والضر يقابل بالسراء والنعماء والضرر وبالنفع {دَعَا رَبَّهُ} في كشف ذلك الضر حال كونه {مُنِيبًا إِلَيْهِ} راجعاً إليه مما كان يدعوه في حالة الإنابة إلى الله ، والرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل والنوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى.
وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم : 34) ، وفيه إشارة إلى أن من طبيعة الإنسان أنه إذا مسه ضر
78
خشع وخضع ، وإلى ربه فزع وتملق بين يديه وتضرع.
وفي المثنوي :
بندمى نالد بحق ازدر دونيش
صد شكايت ميكند از رنج خويش
حق همى كويد كه آخر رنج ودرد
مر ترا لابه كان او راست كرد
در حقيقت هر عدد را روى تست
كيميا ونافع دلجوى تست
كه از واندر كريزى درخلا
استعانت جويى از لطف خدا
در حقيقت دوستان دشمن اند
كه زحضرت دور مشغولت كنند
(8/58)
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ} ؛ أي : أعطاه نعمة عظيمة من جنابه تعالى ، وأزال عنه ضره وكفاه أمره وأصلح باله ، وأحسن حاله من التخول ، وهو التعهذ ؛ أي : المحافظة والمراعاة ؛ أي : جعله خائل مال من قولهم فلان خائل ماله إذا كان متعهداً له حسن القيام به ، ومن شأن الغني الجواد أن يراعي أحوال الفقراء أو من الخول ، وهو الافتخار ، لأن الغني يكون متكبراً طويل الذيل ؛ أي : جعله يخول ؛ أي : يختال ويفتخر بالنعمة.
{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ} ؛ أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه.
{مِن قَبْلِ} ؛ أي : من قبل التخويل كقوله تعالى : مر كألم يدعنا إلى ضر مسه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضره إليه إما بناء على أن ما بمعنى من كما في قوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى} (الليل : 3) ، وإما إيذاناً بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلاً عن أن يعرفه من هو ، فيعود إلى رأس كفرانه وينهمك في كبائر عصيانه ويشرك بمعبوده ويصر على جحوده ، وذلك لكون دعائه المحسوس معلولاً بالضرالممسوس لا ناشئاً عن الشوق إلى الله المأنوس.
وفي المثنوي :
آن ندامت از نتيجه رنج بود
نى زعقل روشن جون كنج بود
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جونكه شد ربح آن ندامت شد عدم
مى نيرز دخاك آن توبه ندم
ميكند او توبه وبير خرد
بابك لو ردوا لعادوامى زند
وفي "عرائس البقلي" : وصف الله أهل الضعف من اليقين إذا مسه ألم امتحانه دعاه بغير معرفته ، وإذا وصل إليه نعمته احتجب بالنعمة عن المنعم ، فبقي جاهلاً من كلا الطريقين لا يكون صابراً في البلاء ولا شاكراً في النعماء ، وذلك من جهله بربه ولو أدركه بنعت المعرفة وحلاوة المحبة لبذل له نفسه حتى يفعل به ما يشاء.
وقال بعضهم : أقل العبيد علماً ومعرفة أن يكون دعاؤه لربه عند نزول ضر به ، فإن من دعاه بسبب أو لسبب فذلك دعاء معلول مدخول حتى يدعوه رغبة في ذكره وشوقاً إليه.
وقال الحسين : من سني الحق عند العوافي لم يجب الله دعاءه عند المحن والاضطرار ، ولذلك قال النبي عليه السلام لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
وقال النهر جوري : لا تكون النعمة التي تحمل صاحبها إلى نسيان المنعم نعمة ، بل هي إلى النقم أقرب.
اين كله زان نعمتي كن كنت زند
ازدرما دور مطر ودت كند
شركاء في العبادة ؛ أي : رجع إلى عبادة الأوثان جمع ند ، وهو يقال : لما يشارك في الجوهر فقط كما في "المفردات".
وقال في "بحر العلوم" : هو المثل المخالف ؛ أي : أمثالاً يعتقد أنها قادرة على مخالفة الله ومضادته.
{لِّيُضِلَّ} الناس بذلك يعني : (تاكمراه كندمر دمانرا).
79
{عَن سَبِيلِهِ} الذي هو التوحيد.
والسبيل : من الطرق ما هو معتاد السلوك استعين للتوحيد ، لأنه موصل إلى الله تعالى ورضاه قرى ليضل بفتح الياء ؛ أي : ليزداد ضلالاً ، أو يثبت عليه ، وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور.
واللام : لام العاقبة ، فإن النتيجة قد تكون غرضاً في الفعل ، وقد تكون غير غرض والضلال والإضلال ليسا بغرضين ، بل نتيجة الجعل وعاقبته.
{قُلْ} الأمر الآتي للتهديد كقوله : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت : 40) ، فالمعنى : قل يامحمد تهديداً لذلك الضال المضل وبياناً لحاله ومآله.
وفي "التأويلات النجمية" : قل للإنسان الذي هذه طبيعته في السراء والضراء.
{تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا} ؛ أي : تمتعاً قليلاً ، فهو صفة مصدر محذوف ، أو زماناً قليلاً ، فهو صفة زمان محذوف يعني : (ازمتمتعات بهرجه خواهى اشتغال كن در دنيا تاوقت مرك والتمتع برخوردارى كرفتن) ، يعني : الانتفاع.
{إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ} في الآخرة ؛ أي : من ملازميها والمعذبين فيها على الدوام : (ولذتهاى دنيا درجنب شدت عذاب دوزخ بغايت محقراست).
وهو تعليل لقلة التمتع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى كأنه قيل ، وإذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.
وفيه إشارة إلى أن من صاحب في الدنيا أهل النار وسلك على إقدام مخالفات المولى وموافقات الهوى طريق الدركات السفلى ، وهو صاحب النار وأهلها ، وإلى أن عمر الدنيا قليل ، فكيف بعمر الإنسان ، وأن التمتع بمشتهيات الدنيا لا يغني عن الإنسان شيئاً ، فلا بد من الانتباه قبل نداء الأجل.
وصلى أبو الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق ، ثم قال : يا أهل دمشق ألا تستحيون إلى متى تؤمّلون ما لا تبلغون وتجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون إن من كان قبلكم أمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً وجمعوا كثيراً ، فأصبح أملهم غروراً وجمعهم بوراً ومساكنهم قبوراً.
(8/59)
وذكر في "الأخبار" : أن رجلاً قال لموسى عليه السلام : ادعو الله أن يرزقني مالاً فدعا ربه ، فأوحى الله إليه يا موسى أقليلاً سألت أم كثيراً.
قال : يا رب ، كثيراً ، قال : فأصبح الرجل أعمى فغدا على موسى ، فتلقاه سبع فقتله ، فقال موسى : يا رب سألتك أن ترزقه كثيراً ، وأكله السبع ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، إنك سألت له كثيراً ، وكل ما كان في الدنيا ، فهو قليل ، فأعطيته الكثير في الآخرة ، فطوبى لمن أبغض الدنيا وما فيها وعمل للآخرة والمولى قبل دنو الأجل وظهور الكسل ، جعلنا الله وإياكم من المتيقظين آمين.
{أَمَّنْ} بالتشديد على أن أصله أم من ، والاستفهام بمعنى التقرير ، والمعنى الكافر القاسي الناسي خير حالاً وأحسن مالاً أم من ، وهو عثمان رضي الله عنه على الأشهر ، ويدخل فيه كل من كان على صفة التزكية ، ومن خفف الميم تبع المصحف ، لأن فيه ميماً واحدة ، فالألف للاستفهام دخلت على من ومعناه أم من.
{هُوَ قَـانِتٌ} كمن ليس بقانت.
القنوت : يجيء على معاني : منها : الدعاء فقنوت الوتر دعاؤه ، وأما دعاء القنوت ، فالإضافة فيه بيانية كما في "حواشي أخي جلبي".
ومنها : الطاعة كما في قوله تعالى : {وَالْقَـانِتَـاتِ} (الأحزاب : 35).
ومنها : القيام ، فالمصلي قانت ؛ أي : قائم.
وفي الفروع وطول القيام أولى من كثرة السجود لقوله عليه السلام : "أفضل الصلاة طول القنوت" ؛ أي : القيام كما في "الدرر".
وفي الحديث : "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم".
يعني المصلي الصائم كما في "كشف الأسرار".
والتعقيب : بآناء الليل وبساجداً
80
وقائماً يخصصه ؛ أي : القنوت بالقيام ، فالمعنى : أم من هو قائم.
{أَمَّنْ هُوَ} ؛ أي : في ساعاته واحده أنى بكسر الهمزة وفتحها مع فتح النون ، وهو الساعة وكذا الإنى والإنو بالكسر وسكون النون.
يقال : مضى إنوان وإنيان من الليل ؛ أي : ساعتان.
{سَاجِدًا} : حال من ضمير قانت ؛ أي : حال كونه ساجداً.
{وَقَآاـاِمًا} : تقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة.
والواو : للجمع بين الصفتين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والمراد بالسجود والقيام : الصلاة عبر عنها بهما لكونها من أعظم أركانها.
فالمعنى : قانت ؛ أي : قائم طويل القيام في الصلاة كما يشعر به آناء الليل ، لأنه إذا قام في ساعات الليل فقد أطال القيام بخلاف من قام في جزء من الليل.
{يَحْذَرُ الاخِرَةَ} : حال أخرى على الترادف أو التداخل أو استئناف ؛ كأنه قيل : ما باله يفعل القنوت في الصلاة ، فقيل : يحذر عذاب الآخرة لإيمانه بالبعث.
{رَحْمَةَ رَبِّهِ} ؛ أي : المغفرة أو الجنة ، لا أنه يحذر ضرّ الدنيا ويرجو خيرها فقط كالكافر.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القيام بأداء العبودية ظاهراً أو باطناً من غير فتور ولا تقصير.
{يَحْذَرُ الاخِرَةَ} ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها.
{رَحْمَةَ رَبِّهِ} لا نعمة ربه.
انتهى.
ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء يرجو رحمة ربه لعمله ويحذر عذابه لتقصيره في عمله.
ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً ، والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً ، وكل منهما كفر ، فوجب أن يعتدل كما قال عليه السلام : "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا".
كرجه دارى طاعتى ازهيبتش ايمن مباش
وركنه دارى زفيض رحمتش دل برمدار
نيك ترسان شوكه قهر اوست بيرون از قياس
باش بس خوش دل كه لطف اوست افزون ازشمار
ثم في الآية تحريض على صلاة الليل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من أحب أن يهوّن الله عليه الموقف يوم القيامة ، فليره الله في سواد الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ، ويرجو رحمة ربه كما في "تفسير الحدادي".
قال ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتيت بوضوئه وحاجته ، فقال : "سل" ، فقالت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال : "أو غير ذلك" ، فقلت : هو ذلك.
قال : "فأعن نفسك على كثرة السجود" ؛ أي : بكثرة الصلاة.
قال بعض العارفين : إن الله يطلع على قلوب المستيقظين في الأسحار فيملؤها نوراً ، فترد الفوائد على قلوبهم ، فتستنير ثم تنتشر العوافي من قلوبهم إلى قلوب الغافلين.
خروسان در سحر كويد كه قم يا أيها الغافل
سعادت آنكسى داردكه وقت صبح بيدارست
{قُلْ} بياناً للحق وتنبيهاً على شرف العلم والعمل.
{هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} حقائق الأعمال ، فيعملون بموجب علمهم كالقانت المذكور.
{وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ما ذكر ، فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كالكافر.
والاستفهام : للتنبيه على كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/60)
وفي "بحر العلوم" : الفعل منزل منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول ، لأن المقدر كالمذكور.
والمعنى : لا يستوي من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لا يوجد.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} كلام مستقل غير داخل في الكلام المأمور به وارد من جهته تعالى ؛ أي : إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل والوهم.
وهؤلاء
81
بمعزل عن ذلك.
قيل : قضية اللب الاتعاظ بالآيات ، ومن لم يتعظ ، فكأنه لا لب له ومثله مثل البهائم.
وفي "المفردات" : اللب العقل الخالص من الشوائب وسمي بذلك ، لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء.
وقيل : هو ما زكا من العقل ، فكل لب عقل ، وليس كل عقل لباً.
ولذا علق الله تعالى الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب نحو قوله : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
ونحو ذلك من الآيات.
انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : {هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} قدر جوار الله وقربته ويختارونه على الجنة ونعيمها.
{وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قدر جوار الله وقربته ويختارونه على الجنة ونعيمها ، {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قدره.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} حقيقة هذا المعنى {أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
وهم الذين انسخلوا من جلد وجودهم بالكلية ، وقد ماتوا عن أنانيتهم وعاشوا بهويته ، انتهى.
وفي الآية بيان لفضل العلم وتحقير للعلماء الغير العاملين فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء.
قال الشيخ السهروردي في عوارف المعارف : أرباب الهمة أهل العلم الذين حكم الله تعالى لهم بالعلم في قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ} إلى قوله : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى} إلخ.
حكم لهؤلاء الذين قاموا بالليل بالعلم فهم لموضع علمهم أزعجوا النفوس عن مقار طبيعتها ورقوها بالنظر إلى اللذات الروحانية إلى ذرى حقيقتها ، فتجافت جنوبهم عن المضاجع وخرجوا من صفة الغافل الهاجع.
انتهى.
وفي الحديث : "يشفع يوم القيامة ثلاث : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك.
وفي الخبر "إن الله تعالى أرسل جبرائيل إلى آدم عليهما السلام بالعقل والحياء والإيمان ، فخيره بينهن ، فاختار العقل ، فتبعاه.
وفي بعض الروايات أرسل بالعلم والحياء والعقل ، فاستقر العلم في القلب ، والحياء في العين والعقل في الدماغ.
وفي الحديث : "من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار ، فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العلم.
إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض تستغفر له ، ويستغفر له كل من يمشي على الأرض ويمسي ويصبح مغفور الذنب وشهدت الملائكة هؤلاء عتقاء الله من النار".
وذكر أن شرف العلم فوق شرف النسب ، ولذا قيل : إن عائشة رضي الله عنها أفضل من فاطمة رضي الله عنها ، ولعله المراد بقول الأمالي : ()
وللصدّيقة الرجحان فاعلم
على الزهراء في بعض الخصال
لأن النبي عليه السلام ، قال : "خذوا ثلثي دينكم من عائشة".
وأما أكثر الخصال ، فالرجحان للزهراء على الصدّيقة كما دل عليه قوله عليه السلام : "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد".
وفي الحديث : "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
قال في "الإحياء" : اختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم.
فقال المتكلمون : هو علم الكلام إذ به يدرك التوحيد ويعلم ذات الله وصفاته.
وقال الفقهاء : هو علم الفقه إذ به يعرف العبادات والحلال والحرام.
وقال المفسرون والمحدثون : هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل العلوم كلها.
وقال المتصوفة : هو علم التصوّف إذ به يعرف العبد مقامه من الله تعالى.
وحاصله : إن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده قوله : "على كل مسلم" ؛
82
أي : مكلف ذكراً كان أو أنثى.
قال في "شرح الترغيب" مراده علم ما لا يسع الإنسان جهله كالشهادة.
باللسان والإقرار بالقلب واعتقاد أن البعث بعد الموت ونحوه حق وعلم ما يجب عليه من العبادات ، وأمر معايشه كالبيع والشراء ، فكل من اشتغل بأمر شرعيّ يجب طلب علمه عليه مثلاً إذا دخل وقت الصلاة تعين عليه أن يعرف الطهارة وما يتيسر من القرآن ، ثم تعلم الصلاة وإن أدركه رمضان وجب عليه أن ينظر في علم الصيام ، وإن أخذه الحج وجب عليه حينئذ علمه ، وإن كان له مال.
وحال عليه الحول تعين عليه علم زكاة ذلك الصنف من المال لا غير ، وإن باع أو اشترى وجب عليه علم البيوع والمصارفة.
وهكذا سائر الأحكام لا يجب عليه إلا عند ما يتعلق به الخطاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/61)
فإن قيل : يضيق الوقت على نيل علم ما خوطب به في ذلك الوقت.
قلنا : لسنا نريد عند حلول الوقت المعين ، وإنما نريد بقربه بحيث أن يكون له من الزمان بقدر ما يحصل ذلك العلم المخاطب به وليدخل عقيبه وقت العمل وهذا المذكور هو المراد بعلم الحال ، فعلم الحال بمنزلة الطعام لا بدّ لكل أحد منه وعلم ما يقع في بعض الأحايين بمنزلة الدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات.
وقال في "عين العلم" : المراد المكاشفة فيما ورد : "فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي" ، إذ غيره وهو علم المعاملة تبع للعمل لثبوته شرطاً له ، وكذا المراد المعاملة القلبية الواجبة فيما ورد : "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ؛ أي : يفترض عليه علم أحوال القلب من التوكل والإنابة والخشية والرضا ، فإنه واقع في جميع الأحوال وكذلك في سائر الأخلاق نحو الجود والبخل والجبن والجراءة والتكبر والتواضع والعفة والشره والإسراف والتقتير وغيرها.
ويمتنع أن يراد غير هذه المعاملات ، أما التوحيد فللحصول ، وأما الصلاة فلجواز أن يتأهلها شخص وقت الضحى بالإسلام ، أو البلوغ ، ومات قبل الظهر ، فلا يفترض عليه طلب علم تلك الصلاة ، فلا يستقيم العموم المستفاد من لفظه كل ، وكذا المراد علم الآخرة مطلقاً ؛ أي : مع قطع النظر عن المعاملة والمكاشفة فيما ورد : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ، لئلا يفضل علماء الزمان على الصحابة ، فمجادلة الكلام والتعمق في فتاوى ندر وقوعها محدث.
وبالجملة علم التوحيد أشرف العلوم لشرف معلومه ، وكل علم نافع ، وإن كان له مدخل في التقرب إلى الله تعالى إلا أن القربة التامة ، إنما هي بالعلم الذي اختاره الصوفية المحققون على ما اعترف به الإمام الغزالي رحمه الله في "منقذ الضلال".
وكان المتورعون من علماء الظاهر يعترفون بفضل أرباب القلوب ويختلفون إلى مجالسهم.
وسأل بعض الفقهاء أبا بكر الشبلي قدس سره اختباراً لعلمه.
وقال كم في خمس من الإبل ، فقال : أما الواجب فشاة وأما عندنا فكلها ، فقال : وما دليلك فيه.
قال أبو بكر رضي الله عنه : حين خرج عن جميع مالهولرسوله ، فمن خرج عن ماله كله فإمامه أبو بكر رضي الله عنه ، ومن ترك بعض فإمامه عمر رضي الله عنه ، ومن أعطىومنعفإمامه عثمان رضي الله عنه ، ومن ترك الدنيا لأهلها ، فإمامه علي رضي الله عنه ، فكل علم لا يدل على ترك الدنيا ، فليس بعلم ، وقد قال عليه السلام : "أعوذ بك من علم لا ينفع" ، وهو العلم الذي يمنع صاحبه عن المنهي ولا يجره إلى المأمور به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "كشف الأسرار" : (علم سه است علم خبري وعلم الهامي وعلم غيبي.
علم خبرى كشها شنود.
وعلم الهامى دلها شنود.
وعلم غيبي جانها شنود.
علم خبري
83
بروايت است.
علم الهامى بهدايت است.
علم غيبى بعنايت است.
علم خبرى را كفت {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إله إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) "فقدم العلم لأنه إمام العمل" علم الهامى راكفت {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} (الإسراء : 107) علم غيبي راكفت {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (الكهف : 65) ووراى ابن همه است كه وهم آدمي بدان نرسد وفهم ازان درماند).
وذلك علم الله عز وجل بنفسه على حقيقته.
قال الله تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} (الكهف : 110).
قال الشبلي قدس سره : العلم خبر والخبر جحود وحقيقة العلم عندي بعد أقوال المشايخ الاتصاف بصفة الحق من حيث علمه حتى يعرف ما في الحق.
وقال بعض الكبار : المقامات كلها علم والعلم حجاب ؛ أي : ما لم يتصل بالمعلوم ويفنى فيه ، وكذا الاشتغال بالقوانين والعلوم الرسمية حجاب مانع عن الوصول ، وذلك لأن العلم الإلهي الذي يتعلق بالحقائق الإلهية لا يحصل إلا بالتوجه والافتقار التام وتفريغ القلب وتعريته بالكلية عن جميع المتعلقات الكونية بالعلوم والقوانين السمية ، وأما علم الحال فمن مقدمات السلوك فحجبه مانع لا هو نفسه وعينه ، ولا يدعي أحد أن العلم مطلقاً حجاب ، وكيف يكون حجاباً ، وهو سبب الكشف والعيان لا بد من فنائه في وجود العالم وفناء ما يقتضيه من الافتخار والتكبر والازدراء بالغير ونحوها ، ولكون بقائه حجاباً قلما سلك العلماء بالرسوم نسأل الله سبحانه أن يزين ظواهرنا بالشرائع والأحكام وينور بواطننا بأنواع العلوم والإلهام ، ويجعلنا من الذين يعلمون وهم الممدوحون لا من الذين لايعلمون وهم المذمومون آمين ، وهو المعين.
(8/62)
{أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَا إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ * قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌا وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌا إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} ؛ أي : قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ، فإن أصله يا عبادي بالياء حذفت اكتفاء بالكسرة.
وفي "كشف الأسرار" : (اين خطاب يا قومي است كه مراد نفس خويش بموافقت حق بدادند ورضاى الله برهواى نفس بركزيدند تاصفت عبوديت ايشان درست كشت ورب العالمين رقم اضافت بر ايشان كشيدكه {عِبَادِ} ومصطفى عليه السلام كفت "من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من عذاب يوم القيامة" ، وأبو يزيد بسطامى قدس سره ميكويد اكر فرادى قيامت مرا كويندكه آرزويى كن آرزوى من آنست بدوزخ انذر آيم واين نفس بر آتش عرض كنم كه دردنيا ازوبسيار بيجيدم ورنج وى كشيدم).
انتهى.
وأيضاً : إن أخص الخواص هم العباد الذين خلصوا من عبودية الغير من الدنيا والآخرة لكونهما مخلوقتين وآمنوا بالله الخالق إيمان الطلب شوقاً ومحبة.
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} ؛ أي : اثبتوا على تقوى ربكم ، لأن الإيمان حصول التقوى عن الكفر والشرك أو اتقوا عذابه وغضبه باكتساب طاعته ، واجتناب معصيته ، أو اتقوا به عما سواه حتى تتخلصوا من نار القطيعة وتفوزوا بوصاله ونعيم جماله.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} ؛ أي : عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص ورأسها كلمة الشهادة ، فإنها أحسن الحسنات.
{حَسَنَةٌ} : مبتدأ وخبره للذين.
وفي هذه الدنيا متعلق بأحسنوا.
وفيه إشارة إلى قوله : "الدنيا مزرعة الآخرة" ؛ أي : حسنة ومثوبة عظيمة في الآخرة لا يعرف كنهها ، وهي الجنة والشهود ؛ لأن جزاء الإحسان الإحسان ، والإحسان أن تعبد الله ، كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك فالمحسن هو المشاهد وبمشاهدة الله يغيب ما سوى الله ،
84
فلا يبقى إلا هو وذلك حقيقة الإخلاص ، وأما غير المحسن ، فعلى خطر لبقائه مع ما سوى الله تعالى ، فلا يأمن من الشرك والرياء القبيح ومن كان عمله قبيحاً لم يكن جزاؤه حسناً.
وفي "التأويلات النجمية" : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} في طلبي {فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} ، ولا يطلبون من غيري حسنة ؛ أي : أي لهم حسنة وجداني يعني : حسن الوجدان مودع في حسن الطلب : قال الخجندي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
بكوش تابكف آرى كليد كنج وجود
كه بى طلب نتوان يافت كوهر مقصود
توجاكر در سلطان عشق شو جواياز
كه هست عاقبت كار عاشقان محمود
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} ، فمن تعسر عليه التوفر على التقوى والإحسان ، وفي وطنه ، فليهاجر إلى حيث يتمكن فيه من ذلك ، كما هو سنة الأنبياء والصالحين ، فإنه لا عذر له في التفريط أصلاً.
وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي ، وقد ورد : "إن من فر بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة" ، وإنما قال : بدينه احترازاً عن الفرار بسبب الدنيا ولأجلها خصوصاً إذا كان المهاجر إليه أعصى من المهاجر منه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى حضرة جلاله أنه لا نهاية لها فلا يغتر طالب بما يفتح عليه من أبواب المشاهدات والمكاشفات ، فيظن أنه قد بلغ المقصد الأعلى والمحل الأقصى ، فإنه لا نهاية لمقامات القرب ، ولا غاية لمراتب الوصول.
وفي المثنوي :
اى برادر بى نهايت دركهيست
هر كجاكه ميرسى بالله مأيست
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ} الذين صبروا على دينهم ، فلم يتركوه للأذى وحافظوا على حدوده ، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فنون الآلام والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل ومفارقة الأوطان (والتوفية : تمام بدادن).
قال في "المفردات" : توفية الشيء بذله وافياً كاملاً واستيفاؤه تناوله وافياً.
والمعنى : يعطون {أَجْرَهُم} بمقابلة ما كابدوا من الصبر {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ أي : بحيث لا يحصى ويحصر.
وفي الحديث : "أنه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج ، فيوفون بها أجورهم ولا تنصب لأهل البلاء ، بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل المعافاة في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل".
تو مبين رنجورى غمديدكان
كاندران رنجيده ازبكزيد كان
هراكرا از زخمها غم بيشتر
لطف يارش داده مرهم بيشتر
(8/63)
قال سفيان : لما نزل {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) قال عليه السلام : "رب زد لأمتي" ، فنزل : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ} (البقرة : 261) ، فقال عليه السلام : "رب زد لأمتي" ، فنزل : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسئل النبي عليه السلام ؛ أي : الناس أشد بلاء ، قال : "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه" ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه ذا رقة هون عليه ، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض كمن ليس له ذنب.
وقال صلى الله عليه
85
وسلّم "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله ، أو في ولده ، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله" ، "وإن أعظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط ، فله السخط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "عرائس البقلي" وصف الله القوم بأربع خصال : بالإيمان والتقوى والإحسان والصبر.
فأما إيمانهم فهو المعرفة بذاته وصفاته من غير استدلال بالحدثان ، بل عرفوا الله بالله ، وأما تقواهم فتجريدهم أنفسهم عن الكون حتى قاموا بلا احتجاب عنه ، وأما إحسانهم فإدراكهم رؤيته تعالى بقلوبهم وأرواحهم بنعت كشف جماله ، وأما صبرهم فاستقامتهم في مواظبة الأحوال وكتمان الكشف الكلي.
وحقيقة الصبر أن لا يدعي الديمومة بعد الاتصاف بها ومعنى {أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} أرض القلوب ووسعها بوسع الحق ، فإذا كان العارف بهذه الأوصاف ، فله أجران : أجر الدنيا وهو المواجيد والواردات الغريبة وأجر الآخرة ، وهو غوصه في بحار الآزال والآباد ، والفناء في الذات والبقاء في الصفات.
قال الحارث المحاسبي : الصبر التهدّف لسهام البلاء.
وقال طاهر المقدسي : الصبر على وجوه صبر منه وصبر له وصبر عليه وصبرفيه أهونه الصبر على أوامر الله ، وهو الذي بين الله ثوابه ، فقال : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ} إلخ.
وقال يوسف بن الحسين : ليس بصابر من يتجرع المصيبة ويبدي فيها الكراهة ، بل الصابر من يتلذذ بصبره حتى يبلغ به إلى مقام الرضا.
{قُلْ} : روي أن كفار قريش قالوا للنبي عليه السلام : ما يحملك على الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة آبائك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى ، فتأخذ بتلك الملّة ، فقال تعالى : قل يا محمد للمشركين : {إِنِّى أُمِرْتُ} من جانبه تعالى : {إِنْ} ؛ أي : بأن.
{أَعْبُدَ اللَّهَ} حال كوني {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} ؛ أي : العبادة من الشرك والرياء بأن يكون المقصد من العبادة هو المعبود بالحق لا غير كما في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} (الرعد : 36).
{وَأُمِرْتُ} بذلك.
{لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة ؛ أي : لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ؛ لأن السبق في الدين إنما هو بالإخلاص فيه ، فمن أخلص عدّ سابقاً ، فإذا كان الرسول عليه السلام متصفاً بالإخلاص قبل إخلاص أمته فقد سبقهم في الدارين إذ لا يدرك المسبوق مرتبة السابق ألا ترى إلى الأصحاب مع من جاء بعدهم والظاهر أن اللام مزيدة ، فيكون كقوله تعالى : {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} (الأنعام : 14) ، فالمعنى : وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل زماني ؛ لأن كل نبي يتقدم أهل زمانه في الإسلام والدعاء إلى خلاف دين الآباء ، وإن كان قبله مسلمون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال بعضهم : الإخلاص أن يكون جميع الحركات في السر والعلانيةتعالى وحده لا يمازجه شيء.
وقال الجنيد قدس سره : أمر جميع الخلق بالعبادة وأمر النبي عليه السلام بالإخلاص فيها إشارة إلى أن أحداً لا يطيق تمام مقام الإخلاص سواه.
{وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِى * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِه قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا أَلا ذَالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ} .
{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ؛ أي : أخاف من عذاب يوم القيامة ، وهو يوم عظيم لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال بحسب عظم المعصية وسوء الحال.
وفيه زجر عن المعصية بطريق المبالغة ؛ لأنه عليه السلام مع جلالة قدره إذا
86
خاف على تقدير العصيان فغيره من الأمة أولى بذلك.
(8/64)
ودلت الآية على أن المترتب على المعصية ليس حصول العقاب ، بل الخوف من العقاب ، فيجوز العفو عن الصغائر والكبائر.
قال الصائب :
محيط از جهره سيلاب كرده راه ميشويد
جه اند يشد كسى باعفو حق از كرد زلتها
{قُلِ اللَّهَ} نصب بقوله : {أَعْبُدَ} على ما أمرت لا غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً.
{مُخْلِصًا لَّه دِينِى} من كل شوب ، وهو بالإضافة ؛ لأن قوله : أعبد إخبار عن المتكلم بخلاف ما في قوله مخلصاً له الدين ؛ لأن الإخبار فيه أمرت وما بعده صلته ومفعوله ، فظهر الفرقان كما في "برهان القرآن".
وقال الكاشفي : (باك كننده براى أوكيش خودرا از شرك يا خالص سازنده عمل خودرا ازريا).
وفي "التأويلات النجمية" : قل الله أعبد لا الدنيا ولا العقبى وأطلب بعبادتي المولى مخلصاً له ديني : ()
وكل له سؤل ودين ومذهب
فلي أنتمو سؤلي وديني هوا كمو
زبشت آينه روى مراد نتوان ديد
تراكه روى بخلق است ازخداجه خبر
{فَاعْبُدُوا} ؛ أي : قد امتثلت ما أمرت به ، فاعبدوا يا معشر الكفار {مَا شِئْتُم} أن تعبدوه {مِن دُونِهِ} تعالى.
والأمر للتحديد كما في قوله تعالى : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت : 40).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "الإرشاد" : وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب ، ولما قال المشركون خسرت يا محمد حيث خالفت دين آبائك.
قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ} ؛ أي : الكاملين في الخسران الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه وإتلاف ما لا بد منه.
وفي "المفردات" : الخسران انتقاص رأس المال يستعمل في المال والجاه والصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعل الله الخسران المبين ، وهو بالفارسية : (زيان : والخاسر زيانكار بكو بدرستى كه زيانكاران).
{الَّذِينَ} .
(آنانندكه) ، فالجملة من الموصول والصلة خبر إن.
{خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} بالضلال واختيار الكفر لها ؛ أي : أضاعوها وأتلفوها إتلاف البضاعة ، فقوله : أنفسهم مفعول خسروا.
وقال الكاشفي : (زيان كردند در نفسهاى خودكه كمراه كشتند).
{وَأَهْلِيهِمْ} بالضلال واختيار الكفر لهم أيضاً أصله أهلين جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذو قرابته كما في "القاموس" ويفسر بالأزواج والأولاد وبالعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} حين يدخلون النار بدل الجنة حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها.
{أَلا ذَالِكَ} الخسران.
{هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} حيث استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي : (بدانيد وآكاه باشيدكه آنست آن زيان هويدا كه برهيجكس ازهل موقف بوشيده نماند).
وفي "التأويلات النجمية" : الخاسر في الحقيقة من خسر دنياه بمتابعة الهوى وخسر عقباه بارتكاب ما نهى عنه وخسر مولاه بتولي غيره ، ثم شرح خسرانهم بنوع بيان ، فقال :
{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ} لهم خبر الظلل والضمير للخاسرين ومن فوقهم حال من ظلل ، والظلل جمع ظلة كغرف جمع غرفة وهي سحابة تظل وشيء كهيئة الصفة.
بالفارسية : (سايبان).
وفي "كشف الأسرار" : ما أظلك من فوقك.
والمعنى : للخاسرين ظل من النار كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض حال كون تلك الظل من فوقهم.
والمراد : طباق وسرادقات من النار ودخانها وسمي النار ظلة لغلظها وكثافتها ،
87
ولأنها تمنع من النظر إلى ما فوقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه إشعار بشدة حالهم في النار وتهكم بهم ؛ لأن الظلة إنما هي للاستظلال والتبرد خصوصاً في الأراضي الحارة كأرض الحجاز ، فإذا كانت من النار نفسها كانت أحرّ ومن تحتها أغمّ.
{وَمِن تَحْتِهِمْ} أيضاً.
{ظُلَلٌ} .
والمراد : إحاطة النار بهم من جميع جوانبهم كما قال تعالى : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (الكهف : 29) ؛ أي : فسطاطها ، وهو الخيمة شبه به ما يحيط بهم من النار كما سبق في الكهف ، ونظير الآية قوله تعالى : {يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (العنكبوت : 55).
وقوله : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (الأعراف : 41).
وقال بعضهم : ومن تحتهم ظلل ؛ أي : طباق من النار ودركات كثيرة بعضها تحت بعض هي ظلل للآخرين ، بل لهم أيضاً عند تردّيهم في دركاتها كما قال السدي هي لمن تحتهم ظلل.
وهكذا حتى ينتهي إلى القعر والدرك الأسفل الذي هو للمنافقين فالظلل لمن تحتهم ، وهي فرش لهم ، وكما قال في "الأسئلة المقحمة" كيف سمى ما هو الأسفل ظللاً ، والظلال ما يكون فوقاً ، والجواب : لأنها تظلل من تحتها ، فأضاف السبب إلى حكمه.
{ذَالِكَ} العذاب الفظيع هو الذي {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَهُ} في القرآن ليؤمنوا ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليجتنبوا ما يوقعهم فيه.
(8/65)
وفي "الوسيط" يخوف الله به عباده المؤمنين يعني أن ما ذكر من العذاب معد للكفار ، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوه فيتقوه بالطاعة والتوحيد.
يا عِبَادِ} .
(اي بندكان من).
وأصله : يا عبادي بالياء.
{فَاتَّقُونِ} ، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.
وهذه عظة من الله تعالى بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق جهنم سوطاً يسوق به عباده إلى الجنة إذ ليس تحت الوجود إلا ما هو مشتمل للحكمة والمصلحة ، فمن خاف بتخويف الله إياه من هذا الخسران ، فهو عبده عبداً حقيقياً ، ومستأهل لشرف الإضافة إليه.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره : أن الخلق يفرون من الحساب ، وأنا أقبل عليه ، فإن الله تعالى : لو قال لي أثناء الحساب عبدي لكفاني ، فعلى العاقل تحصيل العبودية وتكميلها كي يليق يخطاب الله تعالى ، ويكون من أهل الحرمة عند الله تعالى ألا ترى أن من خدم ملكاً من الملوك يستحق الكرامة ، ويصير محترماً عنده ، وهو مخلوق ، فكيف خدمة الخالق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
نقل في آخر "فتاوى الظهيرية" : أن الإمام الأعظم أبا حنيفة رحمه الله لما حج الحجة الأخيرة.
قال في نفسه لعلي لا أقدر أن أحجّ مرة أخرى فسأل حجاب البيت أن يفتحوا له باب الكعبة ، ويأذنوا له في الدخول ليلاً ، ليقوم ، فقالوا : إن هذا لم يكن لأحد قبلك ولكنا نفعل ذلك لسبقك وتقدمك في علمك واقتداء الناس كلهم بك ، ففتحوا له الباب ، فدخل فقام بين العمودين على رجل اليمنى حتى قرأ القرآن إلى النصف وركع وسجد ثم قام على رجل اليسرى وقد وضع قدمه اليمنى على ظهر رجله اليسرى حتى ختم القرآن ، فلما سلم بكى وناجى وقال : إلهي ما عبدك هذا العبد الضعيف حق عبادتك ، ولكن عرفك حق معرفتك ، فهب نقصان خدمته لكمال معرفته ، فهتف هاتف من جانب البيت يا أبا حنيفة ، قد عرفت وأخلصت المعرفة ، وخدمت فأحسنت الخدمة ، فقد غفرنا لك ، ولمن اتبعك وكان على مذهبك إلى قيام الساعة.
ثم إن مثل هذه العبودية ناشئة عن التقوى والخوف من الله تعالى ومطالعة هيبته وجلاله ، وكان عليه السلام يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
والأزيز : الغليان.
وقيل : صوته والمرجل
88
قدر من نحاس.
كذا نقل مثل ذلك عن إبراهيم عليه السلام ، فحرارة هذا الخوف إذا أحاطب بظاهر الجسم ، وباطنه سلم الإنسان من الاحتراق ، وإذا مضى الوقت تعذر تدارك الحال ، فليحافظ على زمان الفرصة :
وحشى فرصت جوتير از جشم بيرون جسته است
تاتوزه مى سازى اى غافل كمان خويش را
{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌا ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَأُولَئكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ} .
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ} .
(الاجتناب : بايك سو شدن).
يقال : اجتنبه بعد عنه.
والطاغوت : البالغ أقصى غاية الظغيان ، وهو تجاوز الحدّ في العصيان ، فلعوت من الطغيان بتقديم اللام على العين ، لأن أصله طغيوت بني للمبالغة كالرحموت والعظموت.
ثم وصف به للمبالغة في النعت كأن عين الشيطان طغيان ؛ لأن المراد به هو الشيطان وتاؤه زائدة دون التأنيث كما قال في "كشف الأسرار" : التاء ليست بأصلية ، هي في الطاغوت كهي في الملكوت والجبروت واللاهوت والناسوت والرحموت والرهبوت.
ويذكر ؛ أي : الطاغوت ويؤنث كما في "الكواشي" ، ويستعمل في الواحد والجمع كما في "المفردات" و"القاموس" قال الراغب : وهو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "القاموس" : الطاغوت اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومرده أهل الكتاب.
وقال في "كشف الأسرار" : كل من عبد شيئاً غير الله ، فهو طاغغٍ ومعبوده : طاغوت.
وفي "التأويلات النجمية" : طاغوت كل أحد نفسه وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه وعانق رضا مولاه ورجع إليه بالخروج عما سواه رجوعاً بالكلية.
وقال سهل : الطاغوت : الدنيا وأصلها الجهل وفرعها المآكل والمشارب وزينتها التفاخر وثمرتها المعاصي وميراثها القسوة والعقوبة : والمعنى بالفارسية : (و آنانكه بيكسو رفتند ازشيطان يابتان يا كهنه يعني از هرجه بدون خداى تعالى برستند ايشان بر طرف شدند).
{أَن يَعْبُدُوهَا} بدل اشتمال منه ، فإن عبادة غير الله عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها.
قال في "بحر العلوم" : وفيها إشارة إلى أن المراد بالطاغوت ها هنا الجمع.
{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} وأقبلوا عليه معرضين عما سواه إقبالاً كلياً.(8/66)
قال في "البحر" : واعلم أن المراد باجتناب الطاغوت الكفر بها وبالإنابة إلى الله الإيمان بالله كما قال تعالى : {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة : 256).
وقدم اجتناب الطاغوت على الإنابة إلى الله كما قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله على وفق كلمة التوحيد لا اله إلا الله حيث قدم نفي وجود الإلهية على إثبات الألوهيةتعالى.
{لَهُمُ الْبُشْرَى} بالثواب والرضوان الأكبر على ألسنة الرسل بالوحي في الدنيا ، أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون ، وبعد ذلك.
وقال بعض الكبار : لهم البشرى بأنهم من أهل الهداية والفضل من الله ، وهي الكرامة الكبرى.
{فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} .
فيه تصريح بكون التبشير من لسان الرسول عليه السلام ، وهو تبشير في الدنيا.
وأما تبشيرالملك فتبشير في الآخرة ، كما قال تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ} (يونس : 64).
وبالجملة تبشير الآخرة مرتب على تبشير الدنيا ، فمن استأهل الثاني استأهل الأول.
والأصل : عبادي بالباء فحذفت.
قيل : إن الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير حين سألوا
89
أبا بكر رضي الله عنه ، فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
حكاه المهدوي في "التكملة" ، فيكون المعنى : يستمعون القول من أبي بكر ، فيتبعون أحسنه ، وهو قول لا إله إلا الله ، كما في "كشف الأسرار".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال في "الإرشاد" ونحوه ؛ أي : فبشر ، فوضع الظاهر موضع ضميرهم تشريفاً لهم بالإضافة ودلالة على أن مدار اتصافهم بالاجتناب والإنابة كونهم نقاداً في الدين يميزون الحق من الباطل ، ويؤثرون الأفضل فالأفضل.
انتهى.
وهذا مبني على إطلاق القول وتعميمه جرياً على الأصل.
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون المعنى : يستمعون القول مطلقاً قرآناً كان ، أو غيره ، فيتبعون أحسنه بالإيمان والعمل الصالح ، وهو القرآن ؛ لأنه تعالى قال في حقه : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23).
كما سيأتي في هذه السورة.
وقال الراغب في "المفردات" : فيتبعون أحسنه ؛ أي : الأبعد من الشبهة : (ودر بحر الحقائق فرموده كه قول اعم است ازسخن خدا وملك وانسان وشيطان ونفس.
اما انسان حق وباطل ونيك وبد كويد.
وشيطان بمعاصى خواند.
ونفس بآرزوها ترغيب كند.
وملك بطاعت نمايد.
وحضرت عزت بخود خواند كما قال : {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} (المزمل : 8) بس بندكان خالص آنانندكه احسن خطاب راكه خطاب رب الأرباب لست اززبان حضرت رسول استماع نموده اند بيروى كنند).
وأيضاً : إن الألف واللام في القول للعموم ، فيقتضي أن لهم حسن الاستماع في كل قول من القرآن وغيره ولهم أن يتبعوا أحسن معنى يحتمل كل قول اتباع درايته والعمل به ، وأحسن كل قول ما كان من الله ، أو يهدي إلى الله ، وعلى هذا يكون استماع قول القوّال من هذا القبيل كما في "التأويلات النجمية".
وقال الكلبي : يجلس الرجل مع القوم فيستمع الأحاديث محاسن ومساوىء فيتبع أحسنها ، فيأخذ المحاسن ويحدث بها ويدع مساوئها : (ودر لباب كفته كه مراد ازقول سخنانست كه در مجالس ومحافل كذرد وأهل متابعت احسن آن اقوال اختيار ميكنند در ايشان ودر امثال آمده).
خذ ما صفا دع ما كدر
قول كس جون بشنوى دورى تأمل كن تمام
صاف را بردار ودردى را رها كن والسلام
(وكفته اند استماع قول واتباع احسن آن عمومي دارد ومرد ازقول قرآنست واحسن ، أو محكم باشد دون منسوخ وعزيمت دون رخصت.
وكفته أند كه در قرآن مقابح اعدا وممادح أوليا ست ايشان متابعت أحسن مينما يند كه مثلا طريقه موسى است عليه السلام دون سيرت فرعون).
وعلى هذا.
وفي "كشف الأسرار" : مثال هذا الأحسن في الدين أن ولي القتيل إذا طالب بالدم ، فهو حسن وإذا عفا ورضي بالدية ، فهو أحسن.
ومن جزى بالسيئة السيئة مثلها ، فهو حسن وإن عفا وغفر ، فهو أحسن.
وإن وزن أو كال ، فهو حسن وإن أرجح ، فهو أحسن.
وإن اتزن وعدل ، فهو حسن وإن طفف على نفسه ، فهو أحسن.
وإن رد السلام فقال : وعليكم السلام ، فهو حسن ، وإن قال : وعليكم السلام ورحمة الله ، فهو أحسن.
وإن حج راكباً ، فهو حسن ، وإن فعله راجلاً ، فهو أحسن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وإن غسل أعضاءه في الوضوء مرة مرة ، فهو حسن ، وإن غسلها ثلاثاً ثلاثاً ، فهو أحسن.
وإن جزي من ظلمه بمثل مظلمته ، فهو حسن وإن جازاه بحسنة ، فهو أحسن.
وإن سجد ، أو رجع ساكتاً ، فهو جائز ، والجائز حسن ، وإن فعلهما مسبحاً ، فهو أحسن.
ونظير هذه
90
الآية قوله عز وجلّ لموسى عليه السلام : {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (الأعراف : 145).
وقوله : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} .
انتهى ما في "الكشف".
(8/67)
وهذا معنى ما قال بعضهم : يستمعون قول الله ، فيتبعون أحسنه ويعملون بأفضله ، وهو ما في القرآن من عفو وصفح واحتمال على أذى ، ونحو ذلك فالقرآن كله حسن ، وإنما الأحسن بالنسبة إلى الآخذ والعامل.
قال الإمام السيوطي رحمه الله في "الاتقان" : اختلف الناس هل في القرآن شيء أفضل من شيء ، فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله وبعض الأئمة الأعلام إلى المنع ؛ لأن الجميع كلام الله ، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه.
وذهب آخرون من المحققين ، وهو الحق كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره ، فقل هو الله أحد أفضل من تبت يدا أبي لهب ؛ لأن فيه فضيلة الذكر ، وهو كلام الله وفضيلة المذكور ، وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته الإيجابية والسلبية.
وسورة {تُبْتُ} فيها فضيلة الذكر فقط ، وهو كلام الله تعالى.
والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في "جوهر القرآن" : كيف يكون بعض الآيات والسور أشرف من بعض مع أن الكل كلام الله ، فاعلم نوّرك الله بنور البصيرة وقلد صاحب الرسالة عليه السلام ، فهو الذي أنزل عليه القرآن.
وقال : "يس قلب القرآن" ، وفاتحة الكتاب سور القرآن ، وآية الكرسي سيدة القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن".
ومن توقف في تعديل الآيات أول قوله عليه السلام أفضل سورة وأعظم سورة أراد في الأجر والثواب ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض ، فالكل في فضل الكلام واحد ، والتفاوت في الأجر لا في كلام الله من حيث هو كلام الله القديم القائم بذاته.
واعلم أن استماع القول عند العارفين يجري في كل الأشياء ، فالحق تعالى يتكلم بكل لسان من العرش إلى الثرى ، ولا يتحقق بحقيقة سماعه إلا أهل الحقيقة وعلامة سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله من جهة التكليف المتوجه على الإذن من أمر أو نهي كسماعه للعلم ، والذكر والثناء على الحق تعالى ، والموعظة الحسنة والقول والتصامم عن سماع الغيبة والبهتان والسوء من القول والخوض في آيات الله والرفث والجدال ، وسماع القيان ، وكل محرم حجر الشارع عليه سماعه ، فإذا كان كذلك كان مفتوح الأذن إلى الله تعالى ، وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
بنيه آن كوش سر كوش سراست
تانكردد اين كران باطن كراست
وللفقير :
بنيه بيرون آر از كوش دلت
ميرسد تا صوت از هر بلبلت
{أولئك} المنعوتون بالمحاسن الجميلة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّهُ} للدين الحق والاتصاف بمحاسنه.
{وَأُولَئكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ} أصحاب العقول السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم.
وفي الكلام دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها ، يعني أن لكسب العبد مدخلاً فيها بحسب جري العادة.
وفيه إشارة إلى أن أولئك القوم هم الذين عبروا عن قشور الأشياء ، ووصلوا إلى الباب حقائقها.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ} .
بيان لأحوال عبدة الطاغوت
91
بعد بيان أحوال المجتنبين عنها.
والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء للعطف على محذوف دل عليه الكلام ، ومن شرطية والمفهوم من "كشف الأسرار" و"تفسير الكاشفي" كونها موصولة وحق بمعنى وجب وثبت ، وكلمة العذاب قوله تعالى لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85).
وكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار.
والفاء فيه فاء الجزاء.
ثم وضع موضع الضمير من في النار لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار ، وأن اجتهاده عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار ؛ أي : تخليصهم ، فإن الأنقاذ التخليص من ورطة كما في "المفردات".
والمعنى : أنت يا محمد مالك أمر الناس ، فمن حق ؛ أي : وجب وثبت عليه من الكفار عدلاً في علم الله تعالى كلمة العذاب ، فأنت تنقذه فالآية جملة واحدة من شرط وجزاء.
وبالفارسية : (آيا هركسى يا آنكسى كه واجب شد برو كلمة وعيد آيا توا اي محمد مى رهانى آنرا كه در دوزخ باشد يعنى ميتوانى كه أورا مؤمن سازى واز عذاب باز رهانى يعنى اين كار بدست تو نيست كه دوز خيانرا بازر هانى همجو ابو لهب وبسرش عقبه وغير آن).
وفيه إشارة إلى أن من حق عليه في القسمة الأولى أن يكون مظهراً لصفات قهره إلى الأبد لا ينفعه شفاعة الشافعين ، ولا يخرجه من جهنم سخط الله وطرده وبعده جميع الأنبياء والمرسلين ، وإنما الشفاعة للمؤمنين بدليل قوله تعالى : {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (الأعراف : 103).
وحيث كان المراد بمن في النار الذين قيل في حقهم : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} استدرك بقوله تعالى :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68(8/68)
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ * لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُا وَعْدَ اللَّه لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ} .
{لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ} .
(ليكن آنانكه بترسيدند از عذاب بروردكار خويش وبإيمان وطاعت متصف شدند).
وفي "التأويلات النجمية" : {لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ} اليوم عن الشرك والمعاصي والزلات والشهوات وعبادة الهوى والركون إلى غير المولى فقد أنقذهم الله تعالى في القسمة الأولى من أن يحق عليهم كلمة العذاب وحق عليهم أن يكونوا مظهر صفات لطفه إلى الأبد.
{لَهُمْ غُرَفٌ} .
(منزلهاى بلندتر دربهشت) ؛ أي : بحسب مقاماتهم في التقوى جمع غرفة ، وهي علية من البناء وسمى منازل الجنة غرفاً كما في "المفردات".
{مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} ؛ أي : لهم علالي بعضها فوق بعض بين أن لهم درجات عالية في جنات النعيم بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم.
{مَّبْنِيَّةٌ} .
تلك الغرف الموصوفة بناء المنازل على الأرض في الرصانة والإحكام.
قال سعدي المفتي : الظاهر أن فائدة هذا الوصف تحقيق الحقيقة وبيان كون الغرف كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية.
وفي "بحر العلوم" مبنية بنيت من زبرجد وياقوت ودرّ وغير ذلك من الجوهر.
وفي "كشف الأسرار" مبنية ، يعني : (يخشت زرين وسيمين بر آورده).
وفيه إشارة بأنها مبنية بأيدي أعمال العاملين وأحوال السالكين.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} ؛ أي : من تحت تلك الغرف المنخفضة والمرتفعة.
{الانْهَـارُ} الأربعة من غير تفاوت بين العلو والسفل.
{وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد ؛ لأن قوله لهم : غرف في معنى الوعد ؛ أي : وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعداً {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} ؛ لأن الخلف نقص ، وهو على الله محال.
(والإخلاف : وعده خلاف دادن).
والميعاد بمعنى الوعد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : وعد الله الذي وعد التائبين بالمغفرة والمطيعين بالجنة
92
والمشتاقين بالرؤية والعابثين الصادقين بالقربة ، والوصلة لا يخلف الله الميعاد.
يعني : إذا لم يقع لهم فترة فلا محالة يصدق وعده ، وإذا وقع لهم ذلك ، فلا يلومن إلا أنفسهم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "إن أهل الجنة ليتراأون أهل الغرف من فوقهم".
المراد : من أهلها أصحاب المنازل الرفيعة وتراءى القوم الهلال رأوه بأجمعهم ومنه الحديث : "كما يتراأون الكوكب الدرّي الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب".
الغابر الباقي يعني : يرى التباعد بين أهل الغرف وسائر أصحاب الجنة كالتباعد المرئي بين الكوكب ومن في الأرض ، وأنهم يضيئون لأهل الجنة إضاءة الكوكب الدري : "لتفاضل ما بينهم".
يعني يرى أهل الغرف كذلك لتزايد درجاتهم على من سواهم.
قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.
قال : "بلى والذي نفسي بيده رجال" يعني : يبلغها رجال ، وإنما قرن القسم ببلوغ غيرهم لما في وصول المؤمنين لمنازل الأنبياء من استبعاد السامعين : "آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
وفيه بشارة وإشارة إلى أن الداخلين مداخل الأنبياء من مؤمني هذه الأمة ، لأنه قال : وصدقوا المرسلين وتصديق جميع الرسل إنما صدر منهم لا ممن قبلهم من الأمم.
وفي الحديث : "من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" ، قوله : ينعم بفتح الياء والعين ؛ أي : يصيب نعمة وقولة : ولا ييأس بفتح الهمزة ؛ أي : لا يفتقر.
وفي بعض النسخ بضمها ؛ أي : لا يرى شدة قوله : لا تبلى بفتح حرف المضارعة واللام.
(8/69)
{أَلَمْ تَرَ} .
(آيا نمى بينى يا محمد) ، أو يا أيها الناظر.
{أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ} من تحت العرش {مَآءً} هو المطر.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "المياه العذبة والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس" ، يعني : كل ماء في الأرض نهراً ، أو غيره ، فهو من السماء ينزل منها إلى الغيم ، ثم منه إلى الصخرة يقسمه الله بين البقاع ، {فَسَلَكَهُ} .
يقال : سلك المكان وسلك غيره فيه ، وأسلكه : أدخله فيه ؛ أي : فأدخل ذلك الماء ونظمه.
{يَنَـابِيعَ فِى الأرْضِ} ؛ أي : عيوناً ومجاري كالعروق في الأجساد فقوله : {يَنَـابِيعَ} نصب بنزع الخافض.
وقد ذكر الخافض في قوله : {اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} (القصص : 32).
وقوله : {فِى الأرْضِ} بيان لمكان الينابيع كقولك لصاحبك : أدخل الماء في جدول المبطخة في البستان ، وفيه أن ماء العين هو المطر يحبسه في الأرض ، ثم يخرجه شيئاً فشيئاً ، فالينابيع جمع ينبوع ، وهو يفعول من نبع الماء ينبع مثلثة ونبوعاً خرج من العين.
والينبوع : العين التي يخرج منها الماء.
والينابيع : الأمكنة التي ينبع ويخرج منها الماء.
{ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} .
(بس بيرون مى آرد بدان آب) ، {زَرْعًا} هو في الأصل مصدر بمعنى الإنبات عبر به عن المزروع ؛ أي : مزروعاً.
{مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أصنافه إضافة من بر وشعير وغيرهما ، وكيفاته من الألوان والطعوم وغيرهما.
وكلمة ثم للتراخي في الرتبة أو الزمان ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "المفردات" : اللون معروف وينطوي على الأبيض والأسود وما يركب منهما.
ويقال : تلوّن إذا اكتسى لوناً غير اللون الذي كان له ويعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع.
يقال : فلان أتى بألوان من الأحاديث ، وتناول كذا لوناً من الطعام.
انتهى.
{ثُمَّ يَهِيجُ} ؛ أي : يتم جفافه حين حان له أن يثور عن منبته يقال : هاج يهيج هيجاً وهيجاناً وهياجاً بالكسر : ثار وهاج النبت
93
يبس ، كما في القاموس.
وبالفارسية : (بس خشك ميشود آن مزروع).
{فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا} من يبسه بعد خضرته ونضرته.
وبالفارسية : (بس مى بينى آنرا زرد شده بعد ازتازه كى وسبزى).
قال الراغب : الصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض ، وهي إلى البياض أقرب ، ولذلك قد يعبر بها عن السواد.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ} ؛ أي : الله تعالى {حُطَـامًا} ، فتاتاً متكسراً كأن لم يغن بالأمس.
وبالفارسية : (ريزه ريزه ودرهم شكسته) يقال : تحطم العود إذا تفتت من اليبس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور مفصلاً.
{لَذِكْرَى} لتذكيراً عظيماً.
(والتذكير : ياد دادن).
{لاوْلِى الالْبَـابِ} : أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل وتنبيهاً لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنها :
بود حال دنيا جو آن سبزه زار
كه بس تازه بينى بفصل بهار
جو بروى وزد تند باد خزان
يكى برك سبزى نيابى ازان
قال في "كشف الأسرار" : الإشارة في هذه الآية إلى أن الإنسان يكون طفلاً ، ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ، ثم يصير إلى أرذل العمر ، ثم آخره يخترم ، ويقال : إن الزرع ما لم يؤخذ منه الحب الذي هو المقصود منه لا يكون له قيمة كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه لا يكون له قدر ولا قيمة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : {أَلَمْ تَرَ} إلخ ، إلى إنزال ماء الفيض الروحاني من سماء القلب.
{فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ} الحكمة {فِى الأرْضِ} البشرية.
{ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا} ، من الأعمال البدنية.
{مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد.
{ثُمَّ يَهِيجُ} إلخ.
يشير إلى أعمال المرائي تراها مخضرة على وفق الشرع ، ثم تجف من آفة العجب والرياء.
{فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا} لا نور له.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ} من رياح القهر أذهبت عليه {حُطَـامًا} لا حاصل له إلا الحسرة.
وقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ} إلخ.
إشارة إلى أن السالك إذا جرى على مقتضى عقله وعلمه يظهر منه آثار الاجتهاد ، ثم إذا ترقى إلى مقام المعرفة تضمحل منه حالته الأولى ، ثم إذا بدت أنوار التوحيد استهلكت الجملة كما قالوا : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه
بأنواره أنوار تلك الكواكب
فالتوحيد كالشمس ونورها ، فكما أنه بنور الشمس تضمحل أنوار الكواكب ، فكذا بنور التوحيد تتلاشى أنوار العلوم والمعارف ويصير حالها إلى الأفول والفناء ، ويظهر حال أخرى من عالم البقاء.
(8/70)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُه ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُه حُطَـامًا إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا} .
{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} .
الهمزة : للاستفهام الإنكاري ، والفاء : للعطف على محذوف.
ومن شرطية أو موصولة وخبرها محذوف دل عليه ما بعده.
وأصل الشرح بسط اللحم.
ونحوه يقال : شرحت اللحم وشرحته.
ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهته تعالى وروح منه ، كما في "المفردات".
قال في "الإرشاد" : شرح الصدر للإسلام عبارة عن تكميل الاستعداد له ، فإن الصدر بالفارسية : (سينه) محل القلب الذي هو منبع للروح التي تتعلق بها النفس القابلة للإسلام ، فانشراحه مستدع لاتساع القلب
94
واستضاءته بنوره ، فهذا شرح قبل الإسلام لا بعده.
والمعنى : أكل الناس سواء فمن بالفارسية : (بس هركسى ويا آنكس كه).
{شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} ؛ أي : خلقه متسع الصدر مستعداً للإسلام ، فبقي على الفطرة الأصلية ، ولم يتغير بالعوارض المكتسبة القادمة فيها.
{فَهُوَ} بموجب ذلك مستقر {عَلَى نُورٍ} عظيم {مِّن رَّبِّهِ} ، وهو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية ، والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختياره واستولت عليه ظلمات الغيّ والضلالة ، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها كقوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا} (الأنعام : 135) ، يعني : ليس من هو على نور كمن هو على ظلمة ، فلا يستويان كما لا يستوي النور والظلمة والعلم والجهل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
واعلم أنه لا نور ولا سعادة لمسلم إلا بالعلم والمعرفة ، ولكل واحد من المؤمنين معرفة تختص به ، وإنما تتفاوت درجاتهم بحسب تفاوت معارفهم.
والإيمان والمعارف أنوار ، فمنهم من يضيء نوره جميع الجهات ، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه.
فإيمان آحاد العوام نوره كنور الشمع وبعضهم نوره كنور السراج وإيمان الصديقين نوره كنور القمر والنجوم على تفاوتها وأما الأنبياء فنور إيمانهم كنور الشمس وأزيد فكما ينكشف في نورها كل الآفاق مع اتساعها ، ولا ينكشف في نور الشمع إلا زاوية ضيقة من البيت كذلك يتفاوت انشراح الصدور بالمعارف ، وانكشاف سعة الملكوت لقلوب المؤمنين.
ولهذا جاء في الحديث : "إنه يقال يوم القيامة أخرجوا من النار من في قلبه مثقال من الإيمان ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة".
ففيه تنبيه على تفاوت درجات الإيمان وبقدره تظهر الأنوار يوم القيامة في المواقف خصوصاً عند المرور على الصراط.
{فَوَيْلٌ} (بس شدت عذاب).
{لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} : القسوة غلظ القلب وأصله من حجر قاس والمقاساة معالجة ذلك ومن أجلية وسببية كما في قوله تعالى : {مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نوح : 25).
والمعنى : من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب ؛ أي : إذا ذكر الله تعالى عندهم وآياته اشمأزوا من أجله وازدادت قلوبهم قساوة كقوله تعالى : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} (التوبة : 125).
وقرىء عن ذكر الله ؛ أي : فويل للذين غلظت قلوبهم عن قبول ذكر الله.
وعن مالك بن دينار رحمه الله ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه ، وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وقال الله تعالى لموسى عليه السلام في مناجاته يا موسى : لا تطل في الدنيا أملك ، فيقسو قلبك ، والقلب القاسي مني بعيد ، وكن خلق الثياب جديد القلب تخف على أهل الأرض وتعرف في أهل السماء.
وفي الحديث : "تورث القسوة في القلب ثلاث خصال : حب الطعام وحب النوم وحب الراحة".
وفي "كشف الأسرار" : (بدانكه ابن قسوة دل از بسيارى معصيت خيزد عائشة صديقه رضي الله عنها كويد أول بدعتى كه بعد از رسول خدا درميان خلق بديد آمد سيرى بود.
ذون مصرى رحمه الله كويد هركز سير نخوردم كه نه معصيتى كردم.
شبلي رحمه الله كفت هيج وقت كرسنه نه نشستم كه دردل خود حكمتى وعبرتى تازه يافتم).
وفي الحديث : "أفضلكم عند الله أطولكم جوعاً وتفكراً وأبغضكم إلى الله كل أكول شروب نؤوم.
كلوا
95
(8/71)
واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة".
قال الشيخ سعدي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
باندازه خورزاد اكر آدمى
جنين برشكم آدمى يا خمى
درون جاى قوتست وذكر نفس
تو بندارى از بهر ناتست وبس
ندارند تن بروران آكهى
كه برمعده باشد زحكمت تهى
{أولئك} : البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلب.
وبالفارسية : (آن كروه غافلان وسنكدلان).
{فِى ضَلَـالٍ} بعيد عن الحق {مُّبِينٍ} : ظاهر كونه ضلالاً للناظر بأدنى نظر ، يعني : (ضلالت ايشان برهركه اندك فهمى دارد ظاهر است).
واعلم أن الآية عامة فيمن شرح صدره للإسلام بخلق الإيمان فيه.
وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبي لهب وولده.
فحمزة وعلى ممن شرح الله صدره للإسلام.
وأبو لهب وولده من الذين قست قلوبهم ، فالرحمة للمشروح صدره والغضب للقاسي قلبه.
روي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية ، قالوا : كيف ذلك يا رسول الله ، يعني : ما معنى شرح الصدر ، قال : "إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح" ، فقيل : ما علامة ذلك ، قال : "الإنابة إلى دار الخلود" ، يعني التوجه للآخرة.
"والتجافي عن دار الغرور".
(يعني : برهيز كردن از دنيا).
"والتأهب للموت قبل نزوله".
(وعزيزى درين معنا فرموده است).
نشان آن دلى كز فيض إيمانست نوراني
توجه باشد اول سوى دار الملك روحاني
زدنيا روى كردانيدن وفكر اجل كردن
كه جون مرك اندر آيدخوش توان مردن بآساني
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإيمان نور ينوّر الله به مصباح قلوب عباده المؤمنين والإسلام ضوء نور الإيمان تستضيء به مشكاة صدورهم ، ففي الحقيقة من شرح الله صدره بضوء نور الإسلام ، فهو على نور من نظر عناية ربه.
ومن أمارات ذلك النور محو آثار ظلمات الصفات الذميمة النفسانية من حب الدنيا وزينتها وشهواتها وإثبات حب الآخرة والأعمال الصالحة ، والتحلية بالأخلاق الكريمة الحميدة.
قال تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39) ، ومن أماراته أن تلين قلوبهم لذكر الله فتزداد أشواقهم إلى لقاء الله تعالى وجواره ، فيسأمون من محن الدنيا وحمل أثقال أوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية ، فيفرون إلى الله ويتنورون بأنوار صفاته منها نور اللوائح بنور العلم ، ثم نور اللوامع ببيان الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ثم أنوار جلال الصمدية بحقائق التوحيد ، فعند ذلك لا وجد ولا وجود ولا قصد ولا مقصود ولا قرب ولا بعد ولا وصال ولا هجران أن كل شيء هالك إلا وجهه كلا بل هو الله الواحد القهار :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جامى مكن انديشه زنز ديكى ودورى
لا قرب ولا بعد ولا وصل ولا بين
قال الواسطي : نور الشرح منحة عظيمة لا يحتمله أحد إلا المؤيدون بالعناية والرعاية ، فإن العناية تصون الجوارح والأشباح والرعاية تصون الحقائق والأرواح.
وفي "كشف الأسرار" : (بدان كه دل آدمى را جهارا برده است.
برده أول صدر است مستقر عهد إسلام كقوله تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} .
برده دوم قلب است محل نور إيمان نور إيمان كقوله تعالى :
96
{أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) ، برده سوم فؤادست سرابرده مشاهده حق كقوله تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم : 11).
برده جهارم شفافست محط رحل عشق كقوله تعالى : {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (يوسف : 30) رب العالمين جون خواهد كه رميده را بكمند لطف درراه دين خويش كشد اول نظرى كند بصد روى تاسينه وى از هوى وبدعتها باك كردد وقدم وى برجاده سنت مستقيم شود بس نظر كند بقلب وى تا از آلايش دنيا وأخلاق نكوهيده جون عجب وحسد وكبر وريا وحرص وعداوت ورعونت باك كردد ودر راه ورع روان شود بش نظرى كند بفؤاد وى واورا از خلائق وعلائق بازبرده جشمه علم وحكمت در دل وى كشايد نور هدايت تحفه نطفه وى كرداند جنانكه كفت {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} بس نظرى كند بشغاف وى واورا از آب وكل بازبرد قدم در كوى فنا نهد ونور برسه قسم است يكى برزبان ويكى دردل ويكى درتن.
نور زبان توحيد است وشهادت.
ونورتن خدمت است وطاعت.
ونوردل شوق است ومحبت.
نور زبان بجنت رساند لقوله تعالى : {فَأَثَـابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّـاتٍ} (المائدة : 85).
نورتن بفردوس رساند.
لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} (الكهف : 107).
نوردل بلقاى دوست رساند) لقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 22 ـ ـ 23).
وفي الحديث : "إن لأهل النعم أعداء فاحذروهم".
قال بعضهم : وأجل النعم على العبد نعمة الإسلام وعدوها إبليس ، فاحفظ هذه النعمة وسائر النعم واحذر من النسيان والقسوة والكفران.
(8/72)
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الحسين النوري رحمه الله : قسوة القلب بالنعم أشد من قسوته بالشدة ، فإنه بالنعمة يسكن وبالشدة يذكر.
وقال : من همّ بشيء مما أباحه العلم تلذذاً عوقت بتضييع العمر وقسوة القلب ، فليبك على نفسه من صرف عمره وضيع وقته ، ولم يدرك مراتب المنشرحين صدورهم ، وبقي مع القاسين قلوبهم نسألك اللهم الحفظ والعصمة.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} .
هو القرآن الكريم الذي لا نهاية لحسنه ولا غاية لجمال نظمه وملاحة معانيه ، وهو أحسن مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين وأكمله وأكثره إحكاماً.
وأيضاً : أحسن الحديث لفصاحته وإعجازه.
وأيضاً : لأنه كلام الله ، وهو قديم وكلام غيره مخلوق محدث.
وأيضاً : لكونه صدقاً كله إلى غير ذلك.
سمي حديثاً ؛ لأن النبي عليه السلام كان يحدّث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه ، فلا يدل على حدوث القرآن ، فإن الحديث في عرف العامة الخبر والكلام.
قال في "المفردات" كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه ، يقال له حديث.
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ملوا ملة ، فقالوا له عليه السلام : حدثنا حديثاً أو لو حدثتنا : يعني : (جه شودكه براى ماسخنى فرمايند وكام طوطيان أرواح مستمعان را بحديث ازل شكر بار وشيرين كردانند سرمايه حيات ابد اهل ذوق را دريك حكايت ازلب شكر فشان يست).
فنزلت هذه الآية.
والمعنى : أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
{كِتَـابًا} بدل من أحسن الحديث.
{مُّتَشَـابِهًا} معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز.
{مَّثَانِيَ} صفة أخرى لكتاباً ووصف الواحد ، وهو
97
الكتاب بالجمع ، وهو المثاني باعتبار تفاصيله كما يقال القرآن سور وآيات والإنسان عروق وعظام وأعصاب ، وهو جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه ، أو لأنه ثنى في التلاوة ، فلا يمل كما جاء في نعته لا يخلق على كثرة الترداد ؛ أي : لا يزول رونقه ولذة قراءته واستماعه من كثرة ترداده على ألسنة التالين وتكراره على آذان المستمعين وأذهان المتفكرين على خلاف ما عليه كلام المخلوق ، وفي القصيدة البردية : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فلا تعد ولا تحصى عجائبها
ولا تسام على الإكثار بالسأم
أي لا تقابل آيات القرآن مع الإكثار بالملال.
وفي "المفردات" وسمي سور القرآن مثاني ؛ لأنها تثنى على مرور الأيام وتكرر ، فلا تدرس ولا تنقطع دروس سائر الأشياء التي تضمحل وتبطل على مرور الأيام ، وإنما تدرس الأوراق.
كما روي أن عثمان رضي الله عنه حرق مصحفين لكثرة قراءته فيهما.
ويصح أن يقال للقرآن : مثاني لما يثنى ويتجدد حالاً فحالاً من فوائده ، كما جاء في نعته ، ولا تنقضي عجائبه.
ويجوز أن يكون ذلك من الثناء تنبيهاً على أنه أبداً يظهر منه ما يدعو إلى الثناء عليه ، وعلى من يتلوه ويعلمه ويعمل به ، وعلى هذا الوجه وصفه بالكرم في قوله : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} ()وبالمجد في قوله : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} (البروج : 21) ، أو هو جمع مثنى بفتح الميم وإسكان الثاء مفعل من الثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى : {ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (الملك : 4) ؛ أي : كرة بعد كرة أو جمع مثنى بضم الميم وسكون الثاء ، وفتح النون ؛ أي : مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز حتى قال بعضهم لبعض : ألا سجدت لفصاحته ، ويجوز أن يكون بكسر النون ؛ أي : مثن عليّ بما هو أهله من صفاته العظمى.
قال ابن بحر : لما كان القرآن مخالفاً لنظم البشر ونثرهم حول أسمائه بخلاف ما سموا به كلامهم على الجملة والتفصيل ، فسمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً ، وكما قالوا : قصيدة وخطبة ورسالة.
قال : سورة ، وكما قالوا : بيت.
قال : آية وكما سميت الأبيات لاتفاق أواخرها قوافي سمى الله القرآن لاتفاق خواتيم الآي فيه مثاني.
وفي "التأويلات النجمية" : القرآن كتاب متشابه في اللفظ مثاني في المعنى من وجهين :
أحدهما : أن لكل لفظ منه معاني مختلفة بعضها يتعلق بلغة العرب وبعضها يتعلق بإشارات الحق وبعضها يتعلق بأحكام الشرع كمثل الصلاة ، فإن معناها في اللغة الدعاء.
وفي أحكام الشرع عبارة عن هيئات وأركان وشرائط وحركات مخصوصة بها.
وفي إشارة الحق تعالى هي الرجوع إلى الله كما جاء روحه من الحضرة بالنفخة الخاصة إلى القالب ، فإنه عبر على القيام الذي يتعلق بالسماوات ، ثم على الركوع الذي يتعلق بالحيوانات ثم على السجود الذي يتعلق بالنباتات ، ثم على التشهد الذي يتعلق بالمعادن ، فبالصلاة يشير الله عز وجلّ إلى رجوع الروح إلى حضرة ربه على طريق جاء منها ، ولهذا قال النبي عليه السلام : "الصلاة معراج المؤمن".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/73)
والوجه الثاني : أن لكل آية تشبهاً بآية أخرى من حيث صورة الألفاظ ، ولكن المعاني والإشارات والأسرار والحقائق مثاني فيها إلى ما لا ينتهي وإلى هذا يشير بقوله : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} (الكهف : 109) الآية.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ، استئناف مسوق
98
لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه وتقرير كونه أحسن الحديث ، يقال : اقشعر جلده أخذته قشعريرة ؛ أي : رعدة كما في "القاموس".
والجلد : قشر البدن كما في "المفردات".
وقال بعضهم : أصل الاقشعرار تغير كالرعدة يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف.
وفي "الإرشاد" : الاقشعرار التقبض يقال : اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً وتركيبه من القشع ، وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون باعثاً ودالاً على معنى زائد يقال : اقشعر جلده ووقف شعره إذا عرض له خوف شديد من منكر حائل دهمه بغتة.
والمراد : إما بيان إفراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق ، وهو الظاهر إذ هو موجود عند الخشية محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو يحصل من التأثر القلبي ، فلا ينكر.
والمعنى : أنهم إذا سمعوا بالقرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منها جلودهم ؛ أي : يعلوها قشعريرة ورعدة.
وبالفارسية : (لرزد ازو يعنى از خوف وعيد كه در قرآنست بوستها برتنهاى آنانكه مى ترسند از برود كار خود).
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اللين ضد الخشونة ، ويستعمل ذلك في الأجسام ، ثم يستعار للخلق ولغيره من المعاني.
والجلود عبارة عن الأبدان والقلوب عن النفوس كما في "المفردات" ؛ أي : ثم إذا ذكروا رحمة الله وعموم مغفرته لانت أبدانهم ونفوسهم ، وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة ، بأن تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة.
وبالفارسية : (بس نرم ميشود وآرام ميكيرد بوستها ودلهاى ايشان بسوى يادكردن رحمت ومغفرت).
وتعدية اللين بإلى لتضمنه معنى السكون والاطمئنان ؛ كأنه قيل : تسكن وتطمئن إلى ذكر الله لينة غير منقبضة راجية غير خاشعة أو تلين ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله على أن المتضمن بالكسر يقع حالاً من المتضمن بالفتح.
وإنما أطلق ذكر الله ولم يصرح بالرحمة إيذاناً بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً.
قلت : لتقدم الخشية التي هي من عوارض القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم من أول وهلة ، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة واستبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم.
فالجملتان إشارة إلى الخوف والرجاء أو القبض والبسط أو الهيبة والأنس ، أو التجلي والاستتار.
قال النهرجوري رحمه الله : وصف الله بهذه الآية سماع المريدين وسماع العارفين.
وقال : سماع المريدين بإظهار الحال عليهم وسماع العارفين بالاطمئنان والسكون فالاقشعرار صفة أهل البداية واللين صفة أهل النهاية.
وعن شهر بن حوشب قالت أم الدرداء : رضي الله عنها : إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة أما تجد الاقشعريرة قلت : بلى.
قالت : فادع الله ، فإن الدعاء عند ذلك مستجاب ، وذلك لانجذاب القلب إلى الملكوت وعالم القدس واتصاله بمقام الأنس.
{ذَالِكَ} الكتاب الذي شرح أحواله {هُدَى اللَّهِ} .
(راه نمودن خداست يعن ارشاديست مر خلق را از خداى).
{يَهْدِى بِهِ} (راه بنمايد بوى).
{مَن يَشَآءُ} أن يهديه من المؤمنين المتقين كما قال : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) لصرف مقدوره إلى الاهتداء بتأمله فيما في تضاعيفه من الشواهد الخفية ودلائل كونه من عند الله {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ}
99
أي : يخلق فيه الضلالة لصرف قدرته إلى مباديها وأعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية وعدم تأثره بوعده ووعيده أصلاً.
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} يخلصه من ورطة الضلال.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} بأن يكله إلى نفسه وعقله ويحرمه من الإيمان بالأنبياء ومتابعتهم.
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} من براهين الفلاسفة والدلائل العقلية.
قال المولى الجامي قدس سره :
خواهى بصوب كعبه تحقيق ره برى
بى برده مقلد كم كرده ره مرو
وفي "كشف الأسرار" : (يكى ازصحابه روزى بآن مهتر عالم عليه السلام كفت يا رسول الله جرا رخساره ما در استماع قرآن سرخ ميكردد وآن منافقان سياه كفت زيراكه قرآن نوريست مارا مى افروزد وايشانرا ميسوزد) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً.
قال الخجندي قدس سره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
جو باطلان زكلام حقت ملولي جيست
وفي الآية لطائف.
(8/74)
منها : أنه لما عقب أحسنية القرآن بكونه متشابهاً ومثاني رتب عليه اقشعرار جلود المؤمنين إيماء إلى أن ذلك إنما يحصل بكونه مردداً ومكرراً ؛ لأن النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة وأكثر جموداً وإباء عنه فلا تلين شكيمتهاولا تنقاد طبيعتها إلا أن يلقى إليها النصائح عوداً بعد بدء ولهذا كان عليه السلام يكرر وعظه ثلاثاً أو سبعاً.
ومنها : أن الاقشعرار أمر مستجلب للرحمة قال عليه السلام : "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه" ؛ أي : تساقطت : "كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" وعنه عليه السلام : "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار" ، ولما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى إن خفقان قلبه يسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.
قال مسروق : إن المخافة قبل الرجاء ، فإن الله تعالى خلق جنة وناراً ، فلن تخلصوا إلى الجنة حتى تمروا بالنار.
ومنها : أن غاية ما يحصل للعابدين من الأحوال المذكورة في هذه الآية من الاقشعرار والخشية والاطمئنان.
قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم ولم ينعتهم بذهاب عقلهم ، والغشيان عليهم ، وإنما ذلك في أهل البدع ، وهو من الشيطان.
وعن عبد الله بن عبد الله بن الزبير.
قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه : كيف كان أصحاب رسول الله يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن ، قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
قال : فقلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروي : أن ابن عمر رضي الله عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط ، فقال : ما بال هذا.
قالوا : أنه إذا قرىء عليه القرآن ، أو سمع ذكر الله سقط ، فقال ابن عمر رضي الله عنه إنا لنخشى الله ، وما نسقط.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كذا في التفاسير نحو "كشف الأسرار" و"المعالم" و"الوسيط" و"الكواشي" وغيرها.
يقول الفقير : لا شك أن القدح والجرح ، إنما هو في حق أهل الرياء والدعوى ، وفي حق من يقدر على ضبط نفسه كما أشار عليه السلام بقوله : "من عشق وعف وكتم ثم مات مات شهيداً".
فإن من غلب على حاله كان الأدب له أن لا يتحرك بشيء لم يؤذن فيه ، وأما من غلب عليه الحال وكان في أمره محقاً لا مبطلاً ، فيكون كالمجنون ، حيث يسقط عنه القلم
100
فبأي حركة تحرك كان معذوراً فيها ، فليس حال أهل البداية والتوسط كحال أهل النهاية ، فإن ما يقدر عليه أهل النهاية لا يقدر عليه من دونهم ، وكأن الأصحاب رضي الله عنهم ، ومن في حكمهم ممن جاء بعدهم راعوا الأدب في كل حال ومقام بقوة تمكينهم ، بل لشدة تلوينهم في تمكينهم ، فلا يقاس عليهم من ليس له هذا التمكين ، فرب أهل تلوين يفعل ما لا يفعله أهل التمكين ، وهو معذور في ذلك لكونه مغلوب الحال ومسلوب الاختيار ، فليجتهد العاقل في طريق الحق بلا رياء ودعوى وليلازم الأدب في كل أمر متعلق بفتوى أو تقوى ، وليحافظ على ظاهره وباطنه من الشين ومما يورث الرين والغين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِه سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} الهمزة : للإنكار والفاء : للعطف على محذوف.
ومن شرطية ، والخبر محذوف.
والاتقاء بالفارسية : (حذر كردن وخودرا نكاه داشتن).
يقال : اتقى فلان بكذا إذا جعله وقاية لنفسه والتركيب يدل على دفع شيء عن شيء يضره ، وتقدير الكلام أكل الناس سواء فمن شأنه ، وهو الكافر أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه.
{سُواءِ الْعَذَابِ} ؛ أي : العذاب السيِّىء الشديد : يعني (زبانه آتش) ، كما في "تفسير الفارسي" للكاشفي.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} لكون يده التي بها كان يتقي المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن ، وهو المؤمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه.
(8/75)
وفي "التأويلات النجمية" : {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} توجه {وَجْهَهُ} {سُواءِ الْعَذَابِ} ؛ أي : عذاب السيىء {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ، ويدفعه به عن نفسه كمن لا يتقي ويظلم على نفسه.
{وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ} الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان والتكذيب موضع التصديق والعصيان موضع الطاعة ، وهو عطف على يتقي ؛ أي : ويقال لهم : من جهة خزنة النار.
وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله : {ذُوقُوا} (بجشيد).
{مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ؛ أي : وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا على الدوام من الكفر والتكذيب والمعاصي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : ذوقوا ما كسبتم بأفعالكم الرديئة وأخلاقكم الدنيئة يعني كنتم في عين العذاب ، ولكن ما كنتم تجدون ذوقه لغلبة نوم الغفلة فإذا متم انتبهتم.
{كَذَّبَ الَّذِينَ} من الأمم السابقة الذين جاؤوا.
{مِن قَبْلِهِمْ} ؛ أي : من قبل كفار مكة ، يعني كذبوا أنبياءهم كما كذبك قومك.
{فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} المقدر لكل أمة منهم.
وبالفارسية : (بس آمد بديشان عذاب إلهي).
{مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيان العذاب والشر منها بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم ، فمعنى : من حيث لا يشعرون أتاهم العذاب ، وهم آمنون في أنفسهم غافلون عن العذاب.
وقيل : معناه لا يعرفون له مدفعاً ولا مرداً ، وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : أتاهم العذاب في صورة الصحة والنعمة والسرور وهم لا يشعرون أنه العذاب وأشد العذاب ما يكون غير متوقع.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ} ؛ أي : الذل والصغار : وبالفارسية : (بس بجشانيده ايشانرا خداي تعالى خوراى ورسوايى).
يعني : أحسوا به إحساس الذائق المطعوم.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ} بيان لمكان إذاقة الخزي.
وذلك الخزي كالمسخ والخسف والغرق والقتل والسبي والإجلاء ونحو ذلك من فنون النكال ، وهو العذاب الأدنى.
{وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ} المعد لهم {أَكْبَرُ} من العذاب الدنيا لشدته ودوامه.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ؛ أي : لو كان من شأنهم أن
101
يعلموا لعلموا ذلك واعتبروا به ، وما عصوا الله ورسوله ، وخلصوا أنفسهم من العذاب.
فعلى العاقل أن يرجع إلى ربه بالتوبة والإنابة كي يتخلص من عذاب الدنيا والآخرة.
وعن الشبلي قدس سره أنه قال : قرأت أربعة آلاف حديث ، ثم اخترت منها واحداً ، وعملت به وخليت ما سواه ، لأني تأملته ، فوجدت خلاصي ونجاتي فيه ، وكان علم الأولين والآخرين مندرجاً فيه.
وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لبعض أصحابه : "اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعملبقدر حاجتك إليه واعمل للنار بقدر صبرك عليها".
فإذا كان الصبر على النار غير ممكن للإنسان الضعيف فليسلك طريق النجاة المبعدة عن النار الموصلة إلى الجنات وأعلى الدرجات.
وفي الحديث : "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا قيام ، ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للمسلمين".
وأصل الكل هو التوحيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "مات رجل من قوم موسى ، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي شيئاً من الأعمال ، فيقولون لا نجد سوى نقش خاتمه لا إله إلا الله ، فيقول الله تعالى لملائكته أدخلوا عبدي الجنة قد غفرت له" ، فإذا كان التوحيد منجياً بنقشه الظاهري ، فما ظنك بنقشه الباطني ، فلا بد من الاجتهاد لإصلاح النفس وتقوية اليقين ، والحمدعلى نعمة الإسلام والدين.
وحكي عن ابن النسفي أنه قال : فقد مسلم حماراً ، فخرج في طلبه فاستقبله مجوسي فانصرف المؤمن.
وقال : إلهي أنا فقدت الدابة ، وهذا فقد الدين فمصيبته أكبر من مصيبتي.
الحمدالذي لم يجعل مصيبتي كمصيبته.
وهذا بالنسبة إلى الوقت والحال ، وأما أمر المآل فعلى الإشكال ، كما قال المثنوي :
هيج كافررا بخوارى منكريد
كه مسلمان مردتش باشداميد
جه خبر دارى زختم عمر او
تابكر دانى ازو يكباره رو
ومن الله التوفيق.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} .
(8/76)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} .
يحتاج إليه الناظر في أمور دينه.
قال السمرقندي : ولقد بينا لهم فيه كل صفة هي في الغرابة ؛ أي : في غرابتها وحسنها ، كالمثل السائر ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كقصة الأولين وقصة المبعوثين يوم القيامة وغير ذلك.
والمراد بالناس أهل مكة كما في "الوسيط" ويعضده ما قال بعضهم من أن الخطاب بقوله : يا اأَيُّهَا النَّاسُ} في كل ما وقع في القرآن لأهل مكة ، والظاهر التعميم لهم ولمن جاء بعدهم.
{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتذكرون به ويتعظون به {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ؛ أي : بلغة العرب ، وهو حال مؤكدة من هذا على أن مدار التأكيد هو الوصف ؛ أي : التأكيد في الحقيقة هو الصفة ومفهومها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وبعضهم جعل القرآن توطئة للحال التي هي عربياً.
والحال الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، ويجوز أن ينتصب على المدح ؛ أي : أريد بهذا القرآن قرآناً عربياً.
{غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} .
لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، ولا تناقض ولا عيب ولا خلل.
والفرق بينه بالفتح ، وبينه بالكسر أن كل ما ينتصب كالحائط والجدار والعود ، فهو عوج بفتح العين ، وكل ما كان في المعاني والأعيان الغير المنتصبة وبفتحها في المنتصبة كالرمح والجدار ،
102
ولذا قال أهل التفسير : لم يقل مستقيماً أو غير معوج مع أنه أحضر لفائدتين :
إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج ما بوجه من الوجوه كما قال : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا} (الكهف : 1).
والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ، وهو بالفارسية : (كجى).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} ؛ أي : غير مخلوق ، وذلك لأن كونه مقروءاً بالألسنة ومسموعاً بالآذان ومكتوباً في الأوراق ومحفوظاً في الصدور لا يقتضي مخلوقيته إذ المراد كلام الله القديم القائم بذاته.
وفي "حقائق البقلي" : قرآناً قديماً ظهر من الحق على لسان حبيبه لا يتغير بتغير الزمان ولا يرهقه غبار الحدثان لا تعوجه الحروف ، ولا تحيط به الظرف.
وفي "بحر الحقائق" : صراطاً مستقيماً إلى حضرتنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة أخرى مترتبة على الأولى ، فإن المصلحة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها أولاً ، ثم تحصيل التقوى.
والمعنى : لعلهم يعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على حدود الله في القرآن والاعتبار بأمثاله.
وبالفارسية : (شايدكه ايشان بسبب تأمل در معاني آن بيرهيزند ازكفر وتكذيب).
ثم أورد مثلاً من تلك الأمثال ، فقال :
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـاكِسُونَ} .
المراد بضرب المثل هنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها كما مر في أوائل سورة يس ومثلاً مفعول ثان لضرب ورجلاً مفعوله الأول آخر عن الثاني للتشويق إليه ، وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل.
وفيه خبر مقدم لقوله شركاء ، والجملة في حيز النصب على الوصفية لرجلاً : (والتشاكس : بايكديكر بدخويى كردن).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "المفردات" : الشكس السيِّىء الخلق ومتشاكسون ومتشاجرون بشكاسة خلقهم.
وفي "القاموس" : وكندس الصعب الخلق ككتف البخيل ومتشاكسون مختلفون عسرون وتشاكسوا تخالفوا.
والمعنى : جعل الله تعالى للمشرك مثلاً حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه عبوديته عبداً يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحسره.
وتوزع قلبه.
{وَرَجُلا} ؛ أي : وجعل للموحد مثلاً {سَلَمًا} خالصاً الرجل فرد ليس لغيره عليه سبيل أصلاً فالتنكير في كل منهما للإفراد ؛ أي : فرداً من الأشخاص لفرد من الأشخاص.
والسلم : بفتحتين وكقتل وفسق مصدر من سلم له كذا ؛ أي : خلص نعت به مبالغة كقبولك رجل عدل ، أو حذف منه ذو بمعنى ذا سلامة لرجل ؛ أي : ذا خلوص له من الشرك.
والرجل ذكر من بني آدم جاوز حاد الصغر وتخصيص الرجل ، لأنه انطق لما يجري عليه من الضر والنفع ، لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك.
{هَلْ} استفهام إنكار {يَسْتَوِيَانِ} .
(آيا مساوى باشد اين دوبنده).
{مَثَلا} من جهة الصفة والحال نصب على التمييز والوحدة حيث لم يقل مثلين لبيان الجنس وإرادته ، فيعم ؛ أي : هل يستوي حالهما وصفاتهما يعني : لا يستويان.
والحاصل : أن الكافر كالعبد الأول في كونه حيران متفرق البال ؛ لأنه يعبد آلهة مختلفة ؛ أي : أصناماً لا يجيء منها خير بل تكون سبباً لوقوعه في أسفل سافلين كما أن العبد يخدم ملاكاً متعاسرين مختلفي الأهوية لا يصل إليه منهم منفعة أصلاً ، والمؤمن كالعبد الثاني في انضباط أحواله ، واجتماع باله حيث يعبد رباً واحداً ، يوصله إلى أعلى عليين كما أن العبد يخدم سيداً واحداً يرضى عنه ، ويصل إليه بالعطاء الجزيل :
103
يك يار بسنده كن
جويك دل دارى
(8/77)
{الْحَمْدُ} حيث خصمهم كما قال مقاتل ؛ أي : قطعهم بالخصومة وغلبهم ، وأظهر الحجة عليهم ببيان عدم الاستواء بطريق ضرب المثل.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون بذلك مع كمال ظهوره ، فيبقون في ورطة الشرك والضلال من فرط جهلهم.
وفي الآية إشارة إلى بيان عدم الاستواء بين الذي يتجاذبه شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشياء المختلفة ، والخواطر المتفرقة ، وبين الذي هو خالصليس للخلق فيه نصيب ولا الدنيا نسيب ، وهو من الآخرة غريب وإلى الله قريب منيب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والحاصل : أن الراغب في الدنيا شغلته أمور مختلفة ، فلا يتفرغ لعبادة ربه ، وإذا كان في العبادة يكون قلبه مشغولاً بالدنيا.
والزاهد : قد تفرغ من جميع أشغال الدنيا ، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً.
والعارف : قد تفرغ من الكونين ، فهو يعبد ربه شوقاً إلى لقائه ، فلا استواء بين البطالين والطالبين وبين المنقطعين والواصلين الحمد ، يعني الثناء له ، وهو مستحق لصفات الجلال ، بل أكثرهم لا يعلمون كمال جماله ، ولا يطلعون على حسن استعدادهم بمرآتية صفات جماله وجلاله ، وإلا لعطلوا الأمور الدنيوية بأسرها وخربت الدنيا التي هي مزرعة الآخرة.
وفي المثنوي :
استن اين عالم اي جان غفلتست
هو شيارى اين جهانرا آفتست
هو شيارى زان جهانست وجو آن
غالب آيد بست كردد اين جهان
هو شيارى آفتاب وحرص يخ
هو شيارى آب واين عالم وسخ
زان جهان اندك ترشح مى رسد
تانلغزد در جهان حرص وحسد
كر ترشح بيشتر كردد زغيب
نى هنر ماند درين عالم نه عيب
فعلى العاقل الرجوع إلى الله والعمل بما في القرآن والاعتبار بأمثاله حتى يكون من الذين يعلمون حقيقة الحال.
وفي المثنوي :
هست قرآن حالهاى أنبيا
ماهيان بحر باك كبريا
ور بخوانى ونه قرآن بذير
أنبيا وأوليا را ديده كير
وربذيرايى جوبر خوانى قصص
مرغ جانت تنك آيد در قفص
مرغ كواندر قفص زندانيست
مى نجويد رستن ازناد انيست
روحهايى كز قثصها رسته اند
انبياى رهبر شايسته اند
كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي ، فأعجب بهما ، فأتاه جبرائيل عليه السلام بقارورة وكاغدة.
وفي القارورة الدم وفي الكاغدة السم ، فقال : أتحبهما يا محمد ، فاعلم أن أحدهما يقتل بالسيف فهذا دمه والآخر يسقى السم ، وهذا سمة ، فقطع القلب عن الأولاد ، وعلق قلبه بالله تعالى من قال الله ، ولم يفر من غير الله إلى الله لم يقل الله دع روحك وقلبك ، ثم قل الله كما قال الله تعالى لحبيبه عليه السلام : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) ؛ أي : ذرهم ، ثم قل الله ، فسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنقطعين إليه ، والحاضرين لديه إنه هو المسؤول :
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}
104
تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة إذ كان كفار قريش يتربصون برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
يعني : (كفار مكه ميكفتند جشم ميداريم كه محمد بميرد واز وبازر هيم).
والموت : صفة وجودية خلقت ضداً للحياة.
وفي "المفردات" : الموت زوال القوة الحساسية الحيوانية ، وإبانة الروح عن الجسد.
والتأكيد بالنون لتنزيل المخاطب منزلة المتردد فيه تنبيهاً له على ظهور أدلته وحثاً على النظر فيها.
والمعنى : أنكم جميعاً بصدد الموت ، فالموت يعمكم ولامعنى للتربص والشماتة ، بل هو عين الجهالة :
مكن شادمانى بمرك كسى
كه دهرت نماند بس ازوى بسى
فمعنى قوله : ميت وميتون.
بالفارسية : (مرده خواهى شد وزود بميرند) ؛ أي : ستموت ، وسيموتون.
والشيء إذا قرب من الشيء يسمى باسمه ، فلا بد لكل من الموت قريباً وبعيداً ، وكل آتتٍ فهو قريب.
روي أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض قيل له : لد للفناء ، وابن للخراب.
قرأ بعضهم إنك مائت وأنهم مائتون ؛ لأنه مما سيحدث وتوضيحه أن المائت صفة حادثة في الحال ، أو في المستقبل بدليل صحة قولك : زيد مائت الآن ، أو غداً بخلاف الميت ، فإنه صفة لازمة كالسيد للعريق في السؤدد والسائد لمن حدث له السؤدد.
وقيل : الموت ليس ما أسند إلى إبانة كالروح عن الجسد ، بل هو إشارة إلى ما يعتري الإنسان في كل حال من الخلل والنقص وأن البشر ما دام في الدنيا يموت جزءاً فجزءاً ، وقد عبر قوم عن هذا المعنى ، وفصلوا بين الميت والمائت ، فقالوا : المائت هو المتخلل.
قال القاضي علي ابن عبد العزيز ليس في لغتنا مائت على حسب ما قالوه ، وإنما يقال : موت مائت كقولنا : شعر شاعر وسيل سائل.
(8/78)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لما دنا فراق رسول الله جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها ، ثم نظر إلينا ، فدمعت عيناه.
وقال : "مرحباً بكم حياكم الله رحمكم الله أوصيكم بتقوى الله وطاعته قد دنا الفراق ، وحان المنقلب إلى الله تعالى وإلى سدرة المنتهى ، وجنة المأوى يغسلني رجال أهل بيتي ويكفنونني في ثيابي هذه إن شاؤوا أو في حلة يمانية ، فإذا غسلتموني وكفنتموني ضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير لحدي ، ثم اخرجوا عني ساعة فأول من يصلي عليّ حبيبي جبرائيل ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنودهم ، ثم ادخلوا عليّ فوجاً فصلوا عليّ".
فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا وقالوا : يا رسول الله أنت رسول ربنا وشمع جمعنا ، وبرهان أمرنا إذا ذهبت عنا فإلى من نرجع في أمورنا ، قال : "تركتكم على المحجة البيضاء" ؛ أي : على الطريق الواضح الواسع ليلها كنهارها ؛ أي : في الوضوح ، ولا يزيغ بعدها إلا هالك وتركت لكم واعظين ناطقاً وصامتاً ، فالناطق القرآن والصامت الموت ، فإذا أشكل عليكم أمر ، فارجعوا إلى القرآن والسنة ، وإذا قست قلوبكم فلينوها بالاعتبار في أحوال الأموات" ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من يومه ذلك من صداع عرض له ، وكان مريضاً ثمانية عشر يوماً يعوده الناس ، ثم مات يوم الإثنين كما بعثه الله فيه ، فغسله علي رضي الله عنه وصب الماء ؛ أي : ماء بئر غرس الفضل بن العباس رضي الله عنهما ودفنوه ليلة الأربعاء وسط الليل ، وقيل : ليلة الثلاثاء ، في حجرة عائشة رضي الله عنها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الحديث : "من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أفظع المصائب".
وأنشد بعضهم :
105
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا اعترتك وساوس بمصيبة
فاذكر مصابك بالنبي محمد
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} إلخ إلى نعيه عليه السلام ونعي المسلمين إليهم ليفرغوا بأجمعهم عن مأتمهم ولا تعزية في العادة بعد ثلاث ، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع همومه ، فليس له من هذا الحديث شمة ، فإذا فرغ قلبه عن حديث نفسه ، وعن الكونين بالكلية ، فحينئذٍ يجد الخير من ربه ، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم ، ولهذا أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام ، فقال : "يا داود فرغ لي بيتاً أسكن فيه ، قال : يا رب أنت منزه عن البيت كله ، قال : فرغ لي قلبك".
وقال لنبينا عليه السلام : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الإنشراح : 1)يعني قلبك.
وقال : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدير : 4) ؛ أي : قلبك عن لوث تعلقات الكونين :
سالك باك رو نخوانندش
آنكه ازماسوى منزه نيست
وقال المولى الجامي قدس سره :
روز شب در نظرت موج زنان بحر قدم
حيف باشد كه بلوث حدث آلوده شوى
{ثُمَّ إِنَّكُمْ} ؛ أي : إنك وإياهم على تغليب ضمير المخاطب على ضمير الغائب وأكد بالنون ، وإن كان الاختصام مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الاختصام ؛ لانهماكهم في الغفلة عنه.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ} ؛ أي : مالك أمركم.
{تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم ، بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ ، واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد ، وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ، ويعتذرون بما لا طائل تحته مثل أطعنا سادتنا وكبراءنا وجدنا آباءنا.
وفي "بحر العلوم" : الوجه الوجيه أن يراد الاختصام العام ، وأن يخاصم الناس بعضهم بعضاً مؤمناً ، أو كافراً ، فيما جرى بينهم في الدنيا بدلائل :
منها : قول النبي عليه السلام : "أول من يختصم يوم القيامة الرجل والمرأة ، والله ما يتكلم لسانها ، ولكن يداها تشهدان ورجلاها عليها بما كانت تعيب لزوجها وتشهد عليه يداه ورجلاه بما كان يؤذيها".
ومنها : قوله عليه السلام : "أنا خصم عثمان بن عفان بين يدي الرب تعالى".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة رضي الله عنهم : ما خصومتنا ونحن إخوان ، فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كنا نقول : ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ، فما هذه الخصومة ، فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا : نعم هو هذا.
ومنها : قوله عليه السلام : "من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه ، فحمل عليه".
قال ابن الملك : يحتمل أن يكون المأخوذ نفس الأعمال بأن تتجسد ، فتصير كالجواهر ، وأن يكون ما أعد لها من النعم والنقم إطلاقاً للسبب على المسبب.
(8/79)
وعن الزبير بن العوّام رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم {ثُمَّ إِنَّكُمْ} إلخ.
قلت : أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؛ أي : الذنوب المخصوصة بنا سوى المخاصمات قال : "نعم ليكتررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه".
قال الزبير :
106
إن الأمر إذاً الشديد.
وفي الحديث : "لا تزال الخصومة بين الناس حتى تخاصم الروح الجسد ، فيقول الجسد : إنما كنت بمنزلة جذع ملقى لا أستطيع شيئاً ، ويقول : الروح إنما كنت ريحاً لا أستطيع أن أعمل شيئاً ، فضرب لهما مثل الأعمى والمقعد يحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد ببصره ويحمله الأعمى برجليه".
وفي الحديث : "أتدرون من المفلس" ، قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
قال : "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، وكان قد شتم هذا وقذف هذا ، وأكل مال هذا وسفك دم هذا ، فيقضي هذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ثم طرح في النار".
فإن قيل : قال في آية أخرى : {لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} (ق : 28).
قيل : إن في يوم القيامة ساعات كثيرة وأحوالها مختلفة مرة يختصمون ومرة لا يختصمون كما أنه قال : {فَهُمْ لا يَتَسَآءَلُونَ} (القصص : 66).
وقال في آية أخرى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} (الصافات : 27).
يعني في حال لا يتساءلون ، وفي حال يتساءلون ، وكما أنه قال : {فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} (الرحمن : 39).
وفي موضع آخر : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92).
ونحو هذا كثير في القرآن.
قال بعض الكبار : يوم القيامة يوم عظيم شديد يتجلى الحق فيه أولاً بصفة القهر بحيث يسكت الأنبياء والأولياء ، ثم يتجلى باللطف ، فيحصل لهم انبساط ، فعند ذلك يشفعون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "التأويلات النجمية" : {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ؛ أي : تراجعون الحق تعالى بشفاعة أقربائكم وأهاليكم وأصدقائكم بعد فراغكم من خويصة أنفسكم نسأل الله سبحانه وتعالى العناية.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَه ا أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ * وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ} .
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} .
في "الإرشاد" : المعنى الأول ليختصمون هو الأظهر الأنسب بهذا القول ، فإنه مسوق لبيان حال كل من طرفي الاختصام الجاري في شأن الكفر والإيمان لا غيره.
وفي "بحر العلوم" : فيه دلالة بينة على أن الاختصام يوم القيامة بين الظالمين والمظلومين.
والمعنى : أظلم من كل ظالم من افترى على الله بأن أضاف إليه الشرك والولد.
{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} ؛ أي : بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق ، وهو ما جاء به النبي عليه السلام : {إِذْ جَآءَه} ؛ أي : في مجيئه على لسان الرسول عليه السلام ، يعني : فاجأه بالتكذيب ساعة أتاه وأول ما سمعه من غير تدبر فيه ولا تأمل.
وفيه إشارة إلى من يكذب على الله بادعاء أنه أعطاه رتبة وحالاً ومقاماً ، وإذا وجد صديقاً جاء بالصديق في المقال والأحوال كذبه ، وينكر على صدقه ، فيكون حاصل أمره يوم القيامة ، قوله : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (الزمر : 60) ، ولهذا قال تعالى : {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ} استفهام إنكاري وإنكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات.
والثواء : هو الإقامة والاستقرار والمثوى المقام والمستقر.
والمعنى : أن جهنم منزل ومقام للكاذبين المكذبين المذكورين وغيرهم من الكفار جزاء لكفرهم وتكذيبهم.
107
{وَالَّذِى جَآءَ} : (وانكه آمد ويا آرد).
{بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} : الموصول عبارة عن رسول الله عليه السلام ، ومن تبعه من المؤمنين كما في قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (المؤمنون : 49) ، فإن المراد : موسى عليه السلام وقومه.
{أولئك} : الموصوفون بالصدق والتصديق.
{هُمُ الْمُتَّقُونَ} المنعوتون بالتقوى التي هي أجلّ الرغائب.
وقال الإمام السهيلي رحمه الله.
{وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ} : هو رسول الله.
الذي {وَصَدَّقَ بِهِ} .
هو الصديق رضي الله عنه ، ودخل في الآية بالمعنى كل من صدق ، ولذلك قال : {وَأُولَئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه على ما قال أهل التفسير : أنه يلزم إضمار الذي بأن يقال : والذي صدق به وذا غير جائز.(8/80)
ودلت الآية على أن النبي عليه السلام يصدق أيضاً بما جاء به من عند الله ويتلقاه بالقبول كما قال الله تعالى : {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة : 285).
ومن هنا قال بعضهم : إن النبي عليه السلام مرسل إلى نفسه أيضاً ، وهكذا وارث الرسول ، فإنه لا يتردد في صدق حاله وتصديق الخبر الذي يأتيه من الله تعالى ، فيفيض بركة حاله إلى وجوده كله ، وإلى من يعتقده ويصدقه ألا ترى أن النبي عليه السلام أتى بالصدق وأفاض من بركات صدقه على أبي بكر رضي الله عنه ، فسمي صديقاً ، وهكذا حال سائر الصديقين.
قال الحافظ :
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست
يعني : أن الصادق الصديق يتولد من نفسه نفس الشمس المعنوية فتنور الأنفس كما أن الصبح الصادق تطلع بعده الشمس الصورية فتنورالآفاق بخلاف حال الكاذب ، فإنه كالصبح الكاذب حيث تعقبه الظلمة.
{لَهُمُ} ؛ أي : للمتقين بمقابلة محاسن أعمالهم في الدنيا.
{مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ؛ أي : كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات ، والأمن من الفزع وسائر أهوال القيامة ، إنما يقع قبل دخول الجنة.
يقال : أجمع العبارات لنعيم الجنة.
{وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} (النحل : 57)وأجمع العبارات لعذاب الآخرة.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (سبأ : 54).
وفي "التأويلات النجمية" : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ، لأنهم تقربوا إلى الله تعالى بالاتقاء به عما سواه فأوجب الله في ذمة كرمه أن يتقرب إليهم بإعطاء ما يشاؤون من عنده بحسب حسن استعدادهم.
{ذَالِكَ} ؛ أي : حصول ما يشاؤونه.
{جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} ثواب الذين أحسنوا أعمالهم بأن عملوها على مشاهدة الحق
{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّا أَلَيْسَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا} .
قال الراغب : الكفارة ما يغطي الإثم.
ومنه كفارة اليمين والقتل والظهار.
والتكفير : ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل ، ويجوز أن يكون بمعنى إزالة الكفر والكفران كالتمريض ، بمعنى إزالة المرض ، واللام متصل بالمحسنين ، يعني الذين أحسنوا رجاء أن يكفر الله ، إلخ.
أو بالجزاء ، يعني : جزاهم كي يكفر عنهم كذا في "كشف الأسرار".
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : اللام متعلق بقوله : لهم ما يشاؤون باعتبار فحواه الذي هو الوعد ؛ أي : وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار ، وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا دفعاً لمضارهم.
{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم} ، ويعطيهم ثوابهم {بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ أي : إعطاؤنا لمنافعهم وإضافة الأسوأ والأحسن إلى ما بعدهما ليست
108
من قبيل إضافة المفضل إلى المفضل عليه ، بل من إضافة الشيء إلى بعضه للقصد إلى التحقيق والتوضيح من غير اعتبار تفضيله عليه ، وإنما المعتبر فيهما مطلق الفضل والزيادة لا على المضاف إليه المعين بخصوصه خلا أن الزيادة المعتبرة فيها ليست بطريق الحقيقة ، بل هي في الأول بالنظر إلى ما يليق بحالهم من استعظام سيئاتهم.
وإن قلت : واستصغار حسناتهم ، وإن جلت.
والثاني : بالنظر إلى لطف كرم أكرم الأكرمين من استكثار الحسنة اليسيرة ومقابلتها بالمثوبات الكثيرة وحمل الزيادة على الحقيقة ، وإن أمكن في الأول بناء على أن تخصيص الأسوأ بالذكر لسان تكفير ما دونه بطريق الأولوية ضرورة استلزام تكفير الأسوأ لتكفير السَّيِّىء لكن لما لم يكن ذلك في الأحسن ، كان الأحسن نظمها في سلك واحد من الاعتبار.
والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة ، كذا في "الإرشاد".
واعلم أن سبب التكفير والأجر الأحسن هو الصدق ، وهو من المواهب لا من المكاسب في الحقيقة ، وإن كان حصول أثره منوطاً بفعل العبد ، ويجري في القول والفعل والوعد والعزم.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : أوقفني الحق سبحانه بين يديه ألف موقف ، في كل موقف عرض عليّ مملكة الدارين ، فقلت : لا أريدها ، فقال لي : في آخر موقف : يا أبا يزيد ما تريد ، قلت : أريد أن لا أريد.
قال : أنت عبدي حقاً وصدقاً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
من كه باشم كه مرا خواست بود
(8/81)
(داود طائى رحمه الله عالم وقت بود ودر فقه فريد عصر بود ودر مقام صدق جنان بود كه آن شب كه ازدنيا بيرون رفت از آسمان ندا آمدكه "يا أهل الأرض إن داود الطائي رحمه الله قدم على ربه ، وهو غير راضٍ" واين منزلت ومنقب در صدق عمل جنان بودكه أبو بكر عياش حكايت كندكه در حجره وى شدم أورا ديدم تشته وباره نان خشك دردست داشت ومى كريست كفتم).
ما لك يا داود ، فقال : هذه الكسرة آكلها ولا أدري أمن حلال هي أم من حرام.
(وشيخ أبو سعيد أبو الخير قدس سره را در مجلس سؤال كردندكه).
يا الشيخ ما الصدق؟ وكيف السبيل إلى الله شيخ كفت.
الصدق : وديعة الله في عباده ليس للنفس فيه نصيب ؛ لأن الصدق سبيل إلى الحق ، وأبى الله أن يكون لصاحب النفس إليه سبيل.
قال عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه : "يا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل".
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي ، فأفادت معنى إثبات الكفاية وتقريرها.
والكفاية ما فيه سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر ؛ أي : هو تعالى كاف عبده محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم أمر من يعاديه وناصره عليه ، وفيه تسلية له عليه السلام ، ويحتمل الجنس ، ففيه تسلية لكل من تحقق بمقام العبودية.
وعن بعض الكبار أليس بكاف عبده أن يعبده ، ويؤمن به وأيضاً عبده المتحقق بحقيقة هويته التي هي مبدأ الألوهية ؛ أي : ألوهيته وإلهيته.
وفي "التأويلات النجمية" : أن الله كاففٍ عبده عن كل شيء ، ولا يكفي له كل شيء عن الله.
ولهذا المعنى إذ يغشى السدرة ما يغشى من نفائس الملك والملكوت لتكون للنبي عليه السلام تلك النفائس كافية عن رؤية ما زاغ البصر ، وما طغى بنظر القبول إليها حتى رأى من آيات ربه الكبرى.
وفي "عرائس البقلي" : فيه نبذة من
109
العتاب ، عاتب الحق عباده بلفظ الاستفهام ؛ أي : هل يجري على قلوبهم أني أتركهم من رعايتي وحفظي كلا ، ومن يجترىء أن يقوم بمخاصمة من هو في نظري من الأزل إلى الأبد.
وفي "كشف الأسرار" : من تبرأ من اختياره واحتياله وصدق رجوعه إلى الله من أحواله ولا يستعين بغير الله من أشكاله وأمثاله آواه الله إلى كنف إقباله وكفاه جميع أشغاله.
وفي الحديث : "من أصبح وهمومه هم واحد كفاه الله هموم الدنيا والآخرة".
(عبد الواحد زيدرا كفتند هيج كس را دانى كه در مراقبت خالق جنان مستغرق بودكه أورا برواى خلق نباشد كفت يكى را دانم كه همين ساعت درآيد عتبة الغلام در آمد عبد الواحد كفت اى عتبه درراه كراديدى كفت هيج كس را وراه وى بازار بود انجمن خلق).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال السيد جعفر الصادق رضي الله عنه : ما رأيت أحسن من تواضع الأغنياء للفقراء ، وأحسن من ذلك إعراض الفقير عن الغني استغناء بالله تعالى ورعايته وكفايته.
قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله : من لم يكف بربه بعد قوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ، فهو من درجة الهالكين.
وقال ابن عطاء رحمه الله : رفع جلاجل العبودية من عنقه من نظر بعد هذه الآية إلى أحد من الخلق ، أو رجاهم ، أو خافهم ، أو طمع فيهم :
بس ترا از ما سوى امداد هو
كفت أليس الله بكاف عبده
{وَيُخَوِّفُونَكَ} ؛ أي : المشركون {بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} ؛ أي : بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دون الله تعالى ، ويقولون : إنك تعيبها ، وإنها لتصيبك بسوء كالهلاك ، أو الجنون ، أو فساد الأعضاء.
وقال بعض أهل التفسير : إن هذه الآية ؛ أي : قوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} نزلت مرة في حق النبي عليه السلام ، ومرة في شأن خالد بن الوليد رضي الله عنه كسورة الفاتحة حيث نزلت مرة بمكة ، ومرة بالمدينة.
(ونزولش در حق خالد بن الوليد آنست كه قومى از مشركان عرب درختى را بمعبودى كرفته بودند ودر وى ديوى در زير بيخ آن درخت قرار كدره بود نام آن ديو عزى ورب العزة آنرا سبب ضلالت ايشان كرده بود مصطفى عليه السلام خالد وليدرا فرموده تا آن درخت را ازبيخ بر آورد وآن ديورا بكشد مشركان كرد آمدند وخالد را بترسانيد ند كه عزى ترا هلاك كند يا ديوانه كند خالد از مقالت ايشان مصطفى را خبر كرد ورب العزة در حق وى اين آيت فرستادكه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} خالد باز كشت وآن درخت را از بيج بكند وزير آن درخت شخصى يافت عظيم سياه كريه المنظر واورا بكشت بس مصطفى عليه السلام كفت).
تلك عزى ولن تعبد أبداً.
كذا في "كشف الأسرار" : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} ؛ أي : ومن يجعله دالاً عن الطريق القويم والفهم المستقيم حتى غفل عن كفايته تعالى وعصمته له عليه السلام وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلاً.
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} يهديه إلى خير ما.
{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ} ؛ أي : ومن يرشده إلى الصراط المستقيم.
{فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّ} يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ، ولا معارض لإرادته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/82)
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن رؤية الخير والشر من غير الله ضلالة والتخويف بمن دون الله غاية الضلالة ولهذا قال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} ، ولأن الهادي في الحقيقة هو الله ، فمن يضلل الله كيف يهديه غيره ، وكذلك من يهد الله فما له من مضل ؛ لأن المضل على الحقيقة هو الله ، فمن يهده الله كيف يضله.
110
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} غالب منيع يعز من يعبده.
{ذِى انتِقَامٍ} من أعدائه لأوليائه ؛ أي : هو عزيز ذو انتقام ؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً وتقريراً كما مرّ.
والانتقام بالفارسية : (كينه كشيدن).
وفي "بحر العلوم" : من النقمة ، وهي الشدة والعقوبة.
{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّا أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِه قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ * قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَـامِلٌا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} ؛ أي : هؤلاء المشركين الذين يخوفونك بآلهتهم ، فقلت لهم : {مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} من اخترع هذين الجنسين المعبر عنهما بالعالم.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ؛ أي : خلقهن الله لوضوح الدليل على اختصاصه بالخالقية واللام الأولى توطئة وتمهيد للقسم ، والثانية : جواب له ، وهو سادّ مسدّ جوابين.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإيمان الفطري مركوز في جبلة الإنسان من يوم الميثاق إذا شهدهم الله على أنفسهم ، فقال : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف : 172) ، كما قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} (الروم : 30).
وقال عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" ، فلا يزال يوجد في الإنسان ، وإن كان كافراً أثر ذلك الإقرار ، ولكنه غير نافع إلا مع الإيمان الكسبي بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاؤوا به.
{قُلْ} تبكيتاً لهم.
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ} .
أرأيتم بمعنى : أخبروني.
جعل الرؤية ، وهو العلم الذي هو سبب الإخبار مجازاً عن الإخبار ، وتدعون بمعنى : تعبدون ، وما عبارة عن الآلهة والضر سوء الحال أياً كان من مرض وضيق معيشة وشدة ، والاستفهام للإنكار وضميرهنّ راجع إلى ما باعتبار الآلهة.
والكشف : الإظهار والإزالة ، ورفع شيء عما يواريه ويعطيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والمعنى : بعد ما تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى ، فأخبروني أن آلهتكم إن أرادني الله بضر ، هل هن يكشفن عني ذلك الضرر والبلاء ويدفعنه؟ أي : لا تقدر على دفعه وإزالته.
{أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} ؛ أي : أو إن أرادني بنفع من صحة أو غنى أو غير ذلك من المنافع.
{هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِهِ} .
فيمنعنها عني ؛ أي : لا تقدر على إمساك تلك الرحمة ، ومنعها وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه عليه السلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه مضرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصح ، وإنما قال : كاشفات وممسكات إبانة لكمال ضعفها وإشعاراً بأنوثتها كما قال : {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِه إِلا إِنَـاثًا} (النساء : 117) ، وهم كانوا يصفونها بالأنوثة مثل العزى واللات ومناة ، فكأنه قال : كيف أشركتم به تعالى هذه الأشياء الجمادية البعيدة من الحياة والعلم والقدرة والقوة والتمكن من الخلق ، هلا استحييتم من ذلك؟.
{قُلْ} يا محمد : {حَسْبِىَ اللَّهُ} حسب مستعمل في معنى الكفاية ؛ أي : الله كافيّ في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر.
وبالفارسية : (بسست مرا خداى تعالى در رسانيدن خيروباز داشتن شر).
روي : أنه عليه السلام لما سألهم سكتوا ، فنزل : {عَلَيْهِ} تعالى لا على غيره أصلاً.
{يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} لعلمهم بأن ما سواه تحت ملكوته تعالى :
توبا خداى اندازكار ودل خوش دار
كه رحم اكر نكند مدعى بكند
وفيه إشارة إلى من تحول عن الكافي إلى غير الكافي لم يتم أمره ، فلا بد من التوكل على رب العباد والتسليم له والانقياد.
(در كليله ودمنه كويد باسلطان قوى كسى طاقت ندارد وكس با او نستيزد مكر بكردن دادن ويرا مثل آن خشيش كه هركاه كه باد غلبه كيرد خودرا فراباد دهد تادر زمين همين كرداندش آخر نجات يابد وآن درخت رفته راكه كردن ننهد
111
(8/83)
از بيخ بركندن وجون شرار بينى وازو بترسى بيش أود زمين بغلظ تواضع كن تابرهى كه شيرا كرجه عظيم بود اما كريم بود).
فالعصمة من الله تعالى.
حكي : أن سفينة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخطأ الجيش بأرض الروم وأسر ، فانطلق هارباً يلتمس الجيش ، فإذا بأسد ، فقال له : يا أبا الحارث ، أنا سفينة مولى رسول الله ، فكان مرادي كيت وكيت ، فأقبل الأسد يتبصبص حتى قام إلى جنبه ، فركب عليه ، فكان كلما سمع صوتاً أهوى إليه ، فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ، ثم رجع الأسد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي إشارات منها أن الحيوان المفترس لا يقدر على الإضرار إذا كان المرء في عصمة الله ، فكيف الجماد.
ومنها : أن طاعة الله تعالى والتوكل عليه سبب النجاة من المهالك.
ومنها : أن الاستشفاع برسول الله والتقرب إليه بالإيمان والتوحيد والعمل بسنته يهدي إلى سواء الصراط ، كما هدى سفينة رضي الله عنه.
فعلى العاقل إخلاص التوحيد والإعراض عما سوى الله تعالى ، فإنه تعالى كاف لعبده في كل حال من الأحوال والأمور.
{قُلْ يا قَوْمِ} ؛ أي : قوم من.
{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها ، فإن المكانة تستعار من العين للمعنى كما يستعار هنا ، وحيث للزمان مع كونهما للمكان.
{إِنِّى عَـامِلٌ} ؛ أي : على مكانتي ما استطعت ولا يزيد حالي إلا قوّة ونصرة.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} ، بسوء أعماله ، ومن مفعول تعلمون.
والإخزاء : (دون كردن وخوار كردن ورسوا كردن وهلاك كردن).
ومعاني هذه الكلمة يقرب بعضها من بعض.
ومنه الحديث : "لا تخزوا الحور" ؛ أي : لا تجعلوهن يستحيين من فعلكم كما في "تاج المصادر".
والمعنى بالفارسية : (بس زود باشدكه بدانيد آنكس راكه ازماوشما بيابد بدو عذابى كه اورا رسواكند).
وهو عذاب الدنيا وخزي أعدائه دليل على غلبته فقد نصره الله وعذب أعداءه وأخزاهم يوم بدر.
يعني : (حق سبحانه رسوا كرد دشمنان آن حضرت رادر روز بدركه جمعى از ايشان بدست مؤمنان كشته كشتند وكروهى بقيد مذلت وسلسلة نكبت كرفتار شدند) :
اين سربباد داده وآن دستها بنيد
آن كشته خوار وزار وكرفتار ومستمند
{وَيَحِلُّ} : ينزل من أفعاله من الحلول ، وهو النزول.
{عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} إلى الأبد لا يفارقه دائم لا ينقطع عنه ، وهو عذاب الآخرة يعني : أنتم الهالكون بسبب كونكم على البطلان.
ونحن الناجون بسبب كوننا على الحق ، فسوف ينكشف ربحنا وخسرانكم وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم وسوف يطالبكم الله ولا جواب لكم ويعذبكم ، ولا شفيع لكم ويدمر عليكم ولا صريخ لكم :
إيمان رسد بفرياد قرآن رسد بامداد
{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّا فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِه وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَا قُلْ أَوَلَوْ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} ؛ أي : القرآن.
{لِلنَّاسِ} ؛ أي : لأجلهم فإنه مناط لمصالحهم في المعاش والمعاد ، وقد سبق الفرق بين إليك وعليك في أول السورة.
{بِالْحَقِّ} حال من فاعل أنزلنا.
حال كوننا محقين في إنزاله أو من مفعوله كون ذلك الكتاب ملتبساً بالحق والصدق ؛ أي : كل ما فيه حق وصواب لا ريب فيه موجب للعمل به حتماً.
{فَمَنِ اهْتَدَى} ، بأن عمل بما فيه.
{فَلِنَفْسِهِ} ؛ أي : إنما نفع به نفسه.
{وَمَن ضَلَّ} ، بأن لم يعمل بموجبه ، {فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ، لما أن وبال ضلالة مقصور عليها.
112
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} .
الوكيل : القائم على الأمر حتى يكمله ؛ أي : وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى ، وما وظيفتك إلا البلاغ.
وقد بلغت أي بلاغ.
وفي الآية إشارة إلى أن القرآن مذكر جوار الحق للناس الذين نسوا الله وجواره ، فمن تذكر بتذكيره واتعظ بوعظه ، واهتدى بهدايته كانت فوائد الهداية راجعة إلى نفسه ، بأن تنورت بنور الهداية ، فانمحى عنها آثار ظلمات صفاتها الحيوانية السبعية الشيطانية الموجبة لدخول النار.
{وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ، فإنه يوكله إلى نفسه وطبيعته ، فتغلب عليه الصفات الذميمة ، فيكون حطب النار.
{وَمَآ أَنتَ} يا محمد {عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} ، تحفظهم من النار إذا كان في استعدادهم الوقوع فيها.
(8/84)
وفي الحديث : "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها وأنا آخذ بحجزكم تقحمون فيه"(1).
والحجز : جمع الحجزة ، كالكدرة ، وهي معقد الإزار خصه بالذكر ، لأن أخذ الوسط أقوى في المنع وأصل تقحمون بالتشديد تتقحمون وفيه ؛ أي : في النار على تأويل المذكور ، يعني : أنا آخذكم حتى أبعدكم عن النار وأنتم تدخلون فيها بشدة.
ومعنى التمثيل : أن النبي عليه السلام في منعهم عن المعاصي والشهوات المؤدية إلى النار وكونهم متقحمين متكلفين في وقوعها مشبه بشخص مشفق يمنع الدواب عنهم وهن يغلبنه.
وفي الحديث إخبار عن فرط شفقته على أمته وحفظهم من العذاب ، ولا شك فيه لأن الأمم في حجر الأنبياء كالصبيان الأغبياء في أكناف الآباء صلوات الله عليهم وسلامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الحديث : "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به ، فعلم وعلم ومثل من لم يرفع لذلك رأساً" ؛ أي : لم يلتفت إليه بالعمل ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
انتهى ، فعلم العالم العامل المعلم كالمطر الواقع على التربة الطيبة ، وعلم العالم المعلم الغير العامل كالمطر الواقع على الأجادب ، وأما الذي لا يقبل الهدى أصلاً ، فكان كالأرض التي لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فكما أنها ليس فيها ماء ولا كلأ ، فكذا الكافر والجاهل ليس فيه علم ولا عمل ، فلا لنفسه نفع ولا لغيره.
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} .
يقال : توفاه الله ، قبض روحه.
كما في "القاموس".
والأنفس : جمع نفس بسكون الفاء ، وهي النفس الناطقة المسماة عند أهل الشرع بالروح الإضافي الإنساني السلطاني ، فسميت نفساً باعتبار تعلقها بالبدن وانصياعها بأحكامه ، والتلبس بغواشيه وروحاً باعتبار تجردها في نفسها ورجوعها إلى الله تعالى.
فالنفس ناسوتية سفلية والروح لاهوتية علوية.
قالوا : الروح الإنساني جوهر بسيط محرك للجسم ، وليس هو حالاً في البدن كالحلول السرياني ولا كالحلول الجواري ، ولكن له تعلق به تعلق التدبير والتصرف والروح الحيواني أثر من آثار هذا الروح على ما سبق مني تحقيقه في سورة الإسراء عند قوله تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) ، فهو من الروح الإنساني كالقمر من الشمس في استفاضة النور والبهائم تشارك فيه الإنسان وهو الروح الذي يتصرف في تعديله وتقويته علم الطب ولا يحمل الأمانة والمعرفة والتراب يأكل محله ، وهو البدن العامي ، لأن الله تعالى حرم على الأرض
113
أن تأكل أجساد الأنبياء والصديقين والشهداء بخلاف الروح الإنساني ، فإنه حامل الأمانة والمعرفة والإيمان ويتصرف فيه علم الشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة بتوسط الحكماء الإلهيين ، ولا يأكله التراب ، وهو باعتبار كونه نفساً هو النبي والولي والمشار إليه بأنا ، والمدرج في الخرقة بعد مفارقته عن البدن ، والمسؤول في القبر والمثاب والعقاب ، وليس له علاقة مع البدن سوى أن يستعمله في كسب المعارف بواسطة شبكة الحواس ، فإن البدن آلته ومركبه وشبكته ، وبطلان الآلة والمركب والشبكة لا يوجب بطلان الصياد.
نعم بطلت الشبكة بعد الفراغ من الصيد ، فبطلانها غنيمة إذ يتخلص من حملها وثقلها.
ولذا قال عليه السلام : "الموت تحفة المؤمن".
أما لو بطلت الشبكة قبل الصيد ، فقد عظمت فيه الحسرة والندامة ، ولذا يقول المقصرون : {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} (المؤمنون : 99 ـ ـ 100) الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والموت : زوال القوة الحساسة كما أن الحياة وجود هذه القوة ، ومنه سمي الحيوان حيواناً ومبدأ هذه القوة هو الروح الحيواني الذي محله الدماغ كما أن محل الروح الإنساني : القلب الصنوبري ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه ، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة.
ثم إن الإنسان ما دام حياً ، فهو إنسان بالحقيقة ، فإذا مات فهو إنسان بالمجاز ؛ لأن إنسانيته في الحقيقة إنما كانت بتعلق الروح الإنساني ، وقد فارقه.
وفي المثنوي :
جان زريش وسبلت تن فارغست
ليك تن بى جان بود مرداريست
ومعنى الآية : يقبض الله الأرواح الإنسانية عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها ظاهراً وباطناً ، وذلك عند الموت ، فيزول الحس والحركة عن الأبدان ، وتبقى كالخشب اليابس ويذهب العقل والإيمان والمعرفة مع الأرواح.
وفي "الوسيط" : {حِينَ مَوْتِهَا} ؛ أي : حين موت أبدانها وأجسادها على حذف المضاف.
(8/85)
يقول الفقير : ظاهره يخالف قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185) ، فإن المفهوم منه أن الموت يطرأ على النفوس لا على البدن ، اللهم إلا أن يقال : المراد أن الله يتوفى الأرواح حين موت أبدانها بمفارقة أرواحها عنها وأسند القبض إليه تعالى ، لأنه الآمر للملائكة القابضين.
وفي "زهرة الرياض" : التوفي من الله الأمر بخروج الروح من البدن لو اجتمعت الملائكة لم يقدروا على إخراجه ، فالله يأمره بالخروج كما أمره بالدخول ، ومن الملائكة المعالجة ، وإذا بلغت الحنجرة يأخذها ملك الموت على الإيمان ، أو الكفر.
انتهى.
على أن من خواص العباد من يتولى الله قبض روحه ، كما روي أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها لما نزل عليها ملك الموت لم ترض بقبضه ، فقبض الله روحها ، وأما النبي عليه السلام ، فإنما قبضه ملك الموت لكونه مقدم الأمة ، وكما قال ذو النون المصري قدس سره : إلهي لا تكلني إلى ملك الموت ، ولكن اقبض روحي أنت ولا تكلني إلى رضوان ، وأكرمني أنت ولا تكلني إلى مالك ، وعذبني أنت ، نسأل الله الفضل على كل حال.
{وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} قوله : {فِى مَنَامِهَا} متعلق بيتوفى المقدر.
المنام والنوم واحد ، وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه.
وقيل : هو أن يتوفى الله النفس من غير موت كما في الآية.
وقيل : النوم موت خفيف والموت : نوم ثقيل.
وهذه التعريفات كلها صحيح بنظرات مختلفة.
والمعنى :
114
ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ؛ أي : يتوفاها حين نومها بأن يقطع تعلقها عن الأبدان ، وتصرفها فيها ظاهراً لا باطناً ، فالنائم يتنفس ويتحرك ببقاء الروح الحيواني ، ولا يعقل ولا يميز بزوال الروح الإنساني ومثل النوم حال الانسلاخ عند الصوفية إلا أن المنسلخ حال اليقظة أقوى حالاً وشهوداً من المنسلخ حال النوم ، وهو النائم وعبر عن الموت ، والنوم بالتوفي تشبيهاً للنائمين بالموتى لعدم تميزهم ، ولذا ورد : النوم أخو الموت".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن علي رضي الله عنه أن الروح يخرج عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد ، فلذلك يرى الرؤيا ، فإذا انتبه عاد روحه إلى جسده بأسرع من لحظة.
ويروى : أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم إلى السماء ، فمن كان منهم طاهراً ؛ أي : على وضوء أذن له في السجودتعالى تحت العرش ، ومن لم يكن منهم طاهراً ، لم يؤذن له فيه ، فلذلك يستحب أن ينام الرجل على الوضوء لتصدق رؤياه ، ويكون له مع الله معاملات ومخاطبات.
قال بعضهم : خلق الله الأرواح على اللطافة والأجساد على الكثافة ، فلما أمرت بالتعلق بالأجساد انقبضت من الاحتجاب بها ، فجعل الله النوم والانسلاخ سبباً لسيرها في عالم الملكوت ، حتى يتجدد لها المشاهدة ، وتزيد الرغبة في قرب المولى ؛ وإنما يستريح العبد ويجد اللذة في النوم ؛ لأنه في يد الله ، وهو أرحم الراحمين ، ويضطرب ويجد الألم في الموت ؛ لأنه في يد ملك الموت ، وهو أشد الخلائق أجمعين.
{فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} إمساك شيء تعلق به وحفظه ، والقضاء الحكم ؛ أي : يمسك أنفس الأموات عنده ولا يردها إلى البدن ، وذلك الإمساك إنما هو عالم البرزخ الذي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية ، وهو غير البرزخ بين الأرواح المجردة والأجسام ؛ أي : غير عالم المثال الذي كان النوم أو الانسلاخ سبباً للدخول فيه ؛ لأن مراتب تنزلات الوجود ومعارجه دورية والمرتبة التي قبل النشأة الدنيوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية والتي بعدها هي من مراتب المعارج ، ولها الآخرية ، وأيضاً : الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير ؛ إنما هي صور الأعمال ونتائج الأفعال السابقة في النشأة الدنيوية بخلاف صور البرزخ الأول ، فلا يكون شيء منهما عين الآخرة ، لكنهما يشتركان في كونهما عالماً روحانياً وجوهراً نورانياً غير مادي مشتملاً على مثال صور العالم.
{وَيُرْسِلُ الاخْرَى} ؛ أي : ويرسل أنفس الأحياء ، وهي النائمة إلى أبدانها عند اليقظة والنزول في عالم المثال المقيد ، والعالم المثال شبه بالجوهر الجسماني في كونه محسوساً مقدارياً ، وبالجوهر العقلي المجرد في كونه نورانياً ، فجعل الله عالم المثال وسطاً شبيهاً بكل من الطرفين حتى يتجسد أولاً ، ثم يتكاثف.
ألا ترى أن حقيقة العلم الذي هو مجرد يتجسد بالصورة التي في عالم المثال.
{إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} : هو الوقت المضروب لموتها ، وهو غاية لجنس الإرسال ؛ أي : لا لشخصه حتى يرد لزوم أن لا يقع بعد اليقظة الأولى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن سعيد بن جبير أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام ، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها.
وفي "الأسئلة المقحمة" : يقبض الروح حال النوم ، ثم يمسك الروح التي قضى الموت على صاحبها ، ووافق نومه أجله.
انتهى.
(8/86)
فيكون قوله : فيمسك متفرعاً على قوله : والتي
115
لم تمت ، ويؤيده قوله عليه السلام : "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلف عليه ، ثم يقول : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي ، فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
وفيه إشارة إلى أن المقصود من الحياة هو : الصلاح.
وما عداه ينبغي أن يكون وسيلة إليه.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} ؛ أي : فيما ذكر من التوفي على الوجهين والإمساك في أحدهما ، والإرسال في الآخر.
{لايَـاتٍ} عجيبة دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته.
{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية كما عند الموت ، وإمساكها باقية بعد الموت ، لا تفنى بفناء الأبدان ، وما يقربها من السعادة والشقاوة.
وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حيناً بعد حين إلى انقضاء آجالها وانقطاع أنفاسها.
وفي "الكواشي" : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، فيستدلون على أن القادر على ذلك قادر على البعث كما قال الكاشفي : (براى كروهى كه تفكر كنند در امراماته كشابه نوم است ودر احياكه مما ثلتست به يقظه ودرتورات مذكور است كه اى فرزند آدم جنانجه در خواب ميروى بميرد وجنانجه بيدار ميكردى برانكيخته شوى) : ()
فالموت باب وكل الناس داخله
وفي الحديث القدسي : "ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن".
لما كان التردد ، وهو التحير بين الشيئين لعدم العلم بأن الأصلح أيهما محالاً في حق الله تعالى حمل على منتهاه ، وهو التوقف.
يعني : ما توقفت فيما أفعله مثل توقفي في قبض نفس المؤمن ، فإني أتوقف فيه وأريه ما أعددت له من النعم والكرامات حتى يميل قلبه إلى الموت شوقاً إلى لقائي.
ويجوز أن يراد من تردده تعالى إرسال أسباب الهلاك إلى المؤمن من الجوع والمرض وغيرهما.
وعدم إهلاكه بها ثم إرسالها مرة أخرى حتى يستطيب الموت ويستحلي لقاءه ، كذا في "شرح السنة" : "يكره الموت" ، استئناف جواب عمن قال : ما سبب ترددك أراد به شدة الموت ؛ لأن الموت نفسه يوصل المؤمن إلى لقاء الله ، فكيف يكرهه المؤمن.
وفي الحديث : "إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت" :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
تانميرد بنده ازهستى تمام
أو نبيند حق تعالى والسلام
مرك بيش از مرك امنست اى فتى
اين جنين فرمود مارا مصطفى
قال بعضهم : (واز موت كراهت داشتن بنده را سبب آنست كه محجوبست از ادراك لذت وصال وكمال عزتى كه اورا بعد از موت حاصل خواهد شد).
"وأنا أكره مساءته" ؛ أي : إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه.
"ولا بد له منه" ؛ أي : للعبد من الموت ؛ لأنه مقدر لكل نفس.
قال بعضهم : (واكرجه حق تعالى كراهت داردكه روح جنان بنده قبض كند اماجون وقت آيد ازغايت محبت كه بابنده دارد حجاب جسم كه نقاب رخساره روح است برا ندازد) :
حجاب جهره جان ميشود غبار تنم
خوشا دمى كه ازين جهره برده بر فكنم
فعلى العاقل أن يتهيأ للموت بتحصيل حضور القلب وصفاء البال ، فإن كثيراً من أرباب الحال والمقال وقعوا في الاضطراب عند الحال.
وفي المثنوي :
116
آن هنر هاى دقيق وقال وقيل
قوم فرعونند أجل جون آب نيل
سحر هاى ساحران دان جمله را
مرك جوبى دانكه آن شد ازدها
جاد ويهارا همه يك لقمه كرد
يك جهان برشت بد آن را اصبح خورد
آتش ابراهيم را دندان نزد
جون كزيده حق بود جونش كزد
همجنين باد اجل برعارفان
نرم وخوش همجو نسيم يوسفان
{أَمِ اتَّخَذُوا} : تزلت في أهل مكة حيث زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، فقال الله تعالى منكراً عليهم ، أم اتخذوا ؛ أي : بل اتخذ قريش.
فأم منقطعة بمعنى : بل والهمزة.
{مِن دُونِ اللَّهِ} : من دون إذنه تعالى.
{شُفَعَآءَ} : تشفع لهم عنده تعالى ، وهي الأصنام ، جمع : شفيع.
والشفع : ضم الشيء إلى مثله ، والشفاعة : الانضمام إلى آخر مسائلاً عنه ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى رتبة إلى من هو أدنى ، ومنه الشفاعة يوم القيامة.
{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْـاًا وَلا يَعْقِلُونَ} : الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه.
والواو : للحال عند الجمهور.
والمعنى : قل يا محمد للمشركين أفتتخذون الأصنام شفعاء ، ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ، ولا يعقلونه فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله ، ويعقلوا أنكم تعبدونهم.
يعني : (توتع شفاعت مكنيد از جمادات وحال آنكه ايشان ازقدرت وعلم بى بهره اند).
(8/87)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن اتخاذ الأشياء للعبادة أو للشفاعة بالهوى ، والطبع لا بأمر الله ، ووفق الشرع يكون ضلالة على ضلالة ، وأن المقبول من العبادة والشفاعة ، ما يكون بأمر الله ومتابعة نبيه عليه السلام على وفق الشرع ، وذلك لأن حجاب العبد هو الهوى والطبع ، وإنما أرسل الأنبياء لنفي الهوى ، لتكون حركات العباد وسكناتهم بأمر الحق تعالى ومتابعة الأنبياء لا بأمر الهوى ، ومتابعة النفس ، لأن النفس وهواها ظلمانية ، والأمر ومتابعة الأنبياء نورانية ، والشهوات ظلمانية.
ولكن العبد إذا عبد الله بالهوى والطبع تصير عبادته ظلمانية ، فإذا جامع زوجته بالأمر على وفق الشرع تصير شهوته نورانية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{قُلْ} بعد تبكيتهم وتجهيلهم بما ذكر تحقيقاً للحق.
{الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا} نصب على الحال من الشفاعة ؛ أي : هو الله تعالى مالك الشفاعة لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع له مرتضى.
والشفيع مأذوناً له ، وكلاهما مفقود ها هنا.
قال البقلي : بين أنه تعالى مرجح الكل ، الشافع والمشفع فيه حتى يرجع العبد العارف إليه بالكلية ، ولا يلتفت إلى أحد سواه ، فلا يصل إليه أحد إلا به.
قال الله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} (البقرة : 255).
ونعم ما قالت رابعة رحمها الله : محبة الله تعالى ما أبقت محبة غيره.
ففيه إشارة إلى أن محبة الرسول عليه السلام مندرجة في محبة الله تعالى ، فمن أحب الله حباً حقيقياً ، أحب الله أن يأذن لحبيبه في شفاعته ، ومن أحب رسول الله من غير محبة الله لم يؤذن له في الشفاعة ، ألا ترى أن قوماً أفرطوا في حب عليّ رضي الله عنه ، ونسوا محبة الله فنفاهم عليّ بل أحرق بعضهم.
{لَّهُ} تعالى وحده {مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وما فيهما من المخلوقات لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه.
وأشار إلى أن الله تعالى هو المالك حقيقة ، فإن ما سواه عبد ولا ملك للعبد ، ولو ملكه مولاه ، وإنما
117
هو عارية عنده ، والعارية مردودة إلى مالكها.
{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة لا إلى أحد سواه لا ستقلالاً ولا اشتراكاً ، فيفعل يومئذٍ ما يريد.
وفي "الكواشي" : يحصي أعمالكم ثم إلى حسابه ترجعون ؛ أي : تردون ، فيجازيكم فاحذروا سخطه ، واتقوا عذابه ، فيا ربح الموحدين يومئذٍ ويا خسارة المشركين.
وفي الحديث : "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
والمراد : أمة الإجابة ، فالكفر أكبر الكبائر وصاحبه مخلد في النار لا شفاعة له.
فإن قلت : الحكم في المكروه أن يستحق مرتكبه حرمان الشفاعة كما ذكر في "التلويح" ، فيكون حرمان أهل الكبائر أولى.
قلت : استحقاق حرمانها لا يوجب الحرمان بالفعل.
(شفيع علاء الدولة در عروه كويد جميع فرق إسلامية أهل نجاتند ومراد از ناحيه در حديث "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة والناجية منها واحدة".
ناجية بي شفاعتيست).
واعلم أن افتخار الخلق في الدنيا بعشرة ، ولا ينفع ذلك يوم القيامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
الأول : المال ، فلو نفع المال لأحد لنفع قارون.
قال الله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} (القصص : 81).
والثاني : الولد ، فلو نفع الولد لأحد لنفع إبراهيم عليه السلام أباه آزر.
قال تعالى : يا اإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ} (هود : 76).
والثالث : الجمال ، فلو نفع الجمال لنفع أهل الروم ؛ لأن لهم تسعة أعشار الجمال.
قال الله تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران : 106).
والرابع : الشفاعة ، فلو نفعت الشفاعة لنفع الرسول من أحب إيمانه.
قال تعالى : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص : 56) ؛ كأنه قال : أنت شفيعي في الجنايات لا شريكي في الهدايات.
والخامس : الحيلة ، فلو نفعت الحيلة لنفع الكفار مكرهم.
قال تعالى : {وَمَكْرُ أولئك هُوَ يَبُورُ} (فاطر : 10).
والسادس : الفصاحة ، فلو نفعت الفصاحة لنفعت العرب.
قال تعالى : {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} (النبأ : 38).
والسابع : العز ، فلو نفع العز لنفع أبا جهل.
قال تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49).
والثامن : الأصدقاء ، فلو نفع الأصدقاء لنفعوا الفساق.
قال الله تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67).
والتاسع : الأتباع ، فلو نفع التبع لنفع الرؤساء.
قال تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} (البقرة : 166).
(8/88)
والعاشر : الحسب ، فلو نفع الحسب لنفع يعقوب اليهود ؛ لأنهم أولاد يعقوب.
قال تعالى : {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 3).
وقال الشيح سعدي : (خاكسترا كرجه نسب عالى داردكه آتش جوهر علويست وليكن جون بنفس خود هنرى ندارد باخاك برابراست قيمت شكر نه ازنى است كه آن خاصيت ويست) :
جو كنعانرا طبيعت بى هنر بود
بيمبر زادكى قدرس نيفزود
هنر بنماى اكر دارى نه كوهر
كل ازخارست وابراهيم از آزر
فإذا عرفت هذه الجملة ، فارجع إلى الله تعالى من الأسباب الغير النافعة ، وذلك بكمال الإيمان والتقوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{قُل لِّلَّهِ الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا لَّه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِا وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِه إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ} .
{وَإِذَا} (وجون وآنكاه كه).
{ذِكْرِ اللَّهِ} حال كونه {وَحْدَهُ} ؛ أي : منفرداً دون آلهة المشركين.
والعامل في إذا قوله : {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} انقبضت ونفرت قلوب الذين لا يصدقون بيوم القيامة.
والشمز : نفور النفس مما تكره وتشمز وجهه تقبض.
والاشمئزاز : هو أن يمتلىء القلب غيظاً وغماً ينقبض منه أديم الوجه ، وهو غاية ما يمكن من الانقباض ، ففيه مبالغة في بيان حالهم القبيحة.
{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}
118
أي : من دون الله ، يعني : الأوثان فرادى ، أو مع ذكر الله.
{إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون ويظهر في وجوههم البشر ، وهو أثر السرور لفرط افتتانهم بها ونسيانهم الحق.
والاستبشار : هو أن يمتلىء القلب سروراً حتى تنبسط له بشرة الوجه ، وهو نهاية ما يمكن من الانبساط ، ففيه مبالغة أيضاً في بيان حالهم القبيحة والعامل في إذا هو العامل في إذا المفاجأة ، تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجاؤوا وقت الاستبشار.
والمعنى بالفارسية : (آنكاه ايشان تازه وفرحناك شوند بجهت فراموسى از جق ومشغولي بباطل اما كار مؤمن بر عكس اينست ازياد خدى تعالى شادان وبذكر ما سوى غمكين است) :
نامت شنوم دل از فرح زنده شود
قال من از اقبال تو فرخنده شود
از غير توهر جاسخن آيد بميان
خاطر بهزاران غم براكنده شود
حكي أن بعض الصلحاء ذكر عند رابعة العدوية الدنيا وذمها ، فقالت : من أحب شيئاً أكثر ذكره.
واعلم أن هؤلاء المشركين كأمثال الصبيان فكما أنهم يفرحون بالأفراس الطينية.
والأسود الخشبية ، وبمذاكرة ما هو لهب ولعب ، فكذا أهل الأوثان لكون نظرهم مقصوراً على الصور والأشباح ، فكل قلب لا يعرف الله ، فإنه لا يأنس بذكر الله ، ولا يسكن إليه ، ولا يفرح به ، فلا يكون مسكن الحق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى أتحب أن نسكن معك بيتك فخرساجداً ، ثم قال : يا رب وكيف تسكن معي في بيتي ، فقال : يا موسى أما علمت أني جليس من ذكرني ، وحيث ما التمسني عبدي وجدني.
كما في "المقاصد الحسنة" ، فعلم أن من ذكر الله ، فالله تعالى جليسه ومن ذكر غير الله ، فالشيطان جليسه.
قال الشيخ :
اكر مرده مسكين زبان داشتى
بفرياد وزارى فغان داشتى
كه اى زنده جون هست امكان كفت
لب از ذكر جون مرده برهم مخفت
جو مارا بغفلت بشد روزكار
توبارى دمى جند فرصت شمار
وفي الحديث : "إذا كان يوم حار ، فقال الرجل : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم.
اللهم أجرني من حر جهنم.
قال الله تعالى لجهنم : إن عبداً من عبيدي استجارني من حرك ، فإني أشهدك أني قد أجرته ، وإن كان يوم شديد البرد ، فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم ، اللهم أجرني من زمهرير جهنم.
قال الله تعالى لجهنم : إن عبداً من عبادي استجارني من رمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته".
قالوا : وما زمهرير جهنم.
قال : "بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده بعضه من بعض".
وفي المثنوي :
در حديث آمدكه مؤمن دردعا
جون امان خواهد دوزح ازخدا
دوزخ ازوى هم امان خواهد بجان
كه خدايا دور دارم از فلان
فعلى العاقل أن لا ينقطع عن الذكر ويستبشر به ، فالله تعالى معه معينه.
{قُلِ اللَّهُمَّ} : الميم بدل من حرف النداء.
والمعنى : قل يا محمد ، يا الله {فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} نصب بالنداء ؛ أي : يا خالق السماوات والأرض على أسلوب بديع.
{عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} يا عالم كل ما غاب عن العباد ، وكل ما شهدوه ؛ أي : التجىء يا محمد إليه تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمر الدعوة ، وضجرت
119
(8/89)
من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد ، فإنه القادر على الأشياء بجملتها ، والعالم بأحوالها برمّتها.
{أَنتَ} وحدك {تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ؛ أي : بيني وبين قومي ، وكذا بين سائر العباد.
{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ؛ أي : يختلفون فيه من أمر الدين ؛ أي : تحكم حكماً يسلمه كل مكابر ، ويخضع له كل معاند ، وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي.
والثاني أنسب بما بعد الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه إشارة إلى اختلاف بين الموحدين والمشركين ، فإن الموحدين باشروا الأمور بالشرع على ما اقتضاه الأمر والمشركين بالطبع على ما استدعاه الشهوة والهوى ، والله تعالى يحكم بينهم في الدنيا وفي الآخرة.
أما في الدينا ، فبالعفو والفضل والكرم ، وتوفيق التوبة والإنابة وإصلاح ذات البين.
وأما في الآخرة ، فبالعدل والنصفة وانتقام بعضهم من بعض.
كان الربيع بكسر الباء من المحدثين لا يتكلم إلا فيما يعنيه ، فلما قتل الحسين رضي الله عنه.
قيل : الآن يتكلم ، فقرأ : قل اللهم إلى قوله : يختلفون.
وروي : أنه قال : قتل من كان يجلسه النبي عليه السلام في حجره ويضع فاه على فيه.
وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا افتتح صلاته من الليل يقول : "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بأمرك إنك تهدي من شئت إلى صراط مستقيم".
وفي الآية إشارة إلى أن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى ، وكل حكمه وقضائه عدل محض وحكمة بخلاف حكم غيره تعالى.
وفي الحديث : "ليس أحد يحكم بين الناس إلا جيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكفه العدل واسلمه الجور".
وقال في "روضة الأخيار" : كان عمر بن هبيرة أمير العراق وخراسان في أيام مروان بن محمد ، فدعا أبا حنيفة إلى القضاء ثلاث مرات فأبى فحلف ليضربنه بالسياط وليسجننه وفعل حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب ، فقال : الضرب بالسياط في الدنيا أهون عليّ من مقامع الحديد في الآخرة ، ونعم ما قال من قال :
بو حنيفة قضانكرد وبمرد
توبميرى اكر قضانكنى
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه افْتَدَوْا بِه مِن سُواءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} .
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا} حال ما ؛ أي : لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر.
{وَمِثْلَه مَعَهُ} .
(وما نندن آن همه مالها بآن).
{افْتَدَوْا بِه مِن سُواءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} .
يقال : افتدى إذا بذل المال عن نفسه ، فإن الفداء حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه ؛ أي : لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد لكن لا مال يوم القيامة ، ولو كان لا يقبل الافتداء به ، وهذا وعيد شديد وإقناط لهم من الخلاص.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن هذه الجملة لا يقبل يوم القيامة لدفع العذاب ، واليوم ها هنا تقبل ذرة من الخير ولقمة من الصدقة ، وكلمة من التوبة والاستغفار كما أنهم لو تابوا وبكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم ويدمعة واحدة اليوم يمحى كثير من ذنوبهم.
وفي المثنوي :
آخر هركريه آخر خنده ايست
مرد آخر بين مبارك بنده ايست
اشك كان ازبهر أو بارند خلق
كوهراست واشك بندار ند خلق
ألا ترى إلى دموع آدم وحواء عليهما السلام ، حيث صارت جواهر في الدنيا ، فكيف في العقبى.
120
{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
يقال : بدا الشيء بدوّاً وبداء ؛ أي : ظهر ظهوراً بيناً.
والاحتساب : الاعتداد بالشيء من جهة دخوله فيما يحسبه ؛ أي : ظهر لهم يوم القيامة من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم في الدنيا وفي ظنهم أنه نازل بهم يومئذٍ.
قال الكاشفي : (بنداشت ايشان آن بودكه بوسيله شفاعت بتان رتبة قرب يابند).
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا} سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم.
{وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ؛ أي : نزل وأصاب وأحاط بهم وبال استهزائهم ، وجزاء مكرهم ، وكانوا يستهزؤون بالكتاب والمسلمين والبعث والعذاب ونحو ذلك.
وهذه الآية ؛ أي : قوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} إلخ.
غاية في الوعيد لا غاية وراءها ، ونظيره في الوعد قوله تعالى : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17).
(8/90)
وفي "التأويلات النجمية" : وفي سماع هذه الآية حسرة لأصحاب الانتباه.
وفي بعض الأخبار : أن قوماً من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار ، فإذا وافوها يقول لهم مالك من أنتم؟ فإن الذين جاؤوا قبلكم من أهل النار وجوههم مسودة وعيونهم زرق وإنكم لستم بتلك الصفة ، فيقولون : نحن لم نتوقع أن نلقاك ، وإنما انتظرنا شيئاً آخر.
قال الله تعالى : وبدا لهم من الله إلى يستهزؤون.
وقال أبو الليث : يعملون أعمالاً يظنون أن لهم ثواباً فيها ، فلم تنفعهم مع شركهم ، فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب.
وفي "كشف الأسرار" : (از حضرت رسالت عليه السلام تفسير آيت.
{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} إلخ برسيدند فر مود).
هي الأعمال حسبوها حسنات فوجدوها في كفة السيئات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال بعضهم : ظاهر الآية يتعلق بأهل الرياء والسمعة افتضحوا يوم القيامة عند المخلصين.
وعن سفيان الثوري رحمه الله أنه قرأها ، فقال : ويل لأهل الرياء ثلاثاً :
بنداشت مرايى كه عملهاى نكوست
مغزى كه بود خلاصه كاز زدوست
جون برده زروى كار برداشته كشت
بر خلق عيان شدكه نبود الابوست
(يكى ازمشايخ يعنى محمد بن المنكدر بوقت حلول أجل جزع ميكرد برسيدند كه سبب جيست فرمود كه مى ترسم جيزى ظاهر كردد كه من آنرا در حساب نمى داشتم).
قال سهل : أثبتوا لأنفسهم أعمالاً فاعتمدوا عليها ، فلما بلغوا إلى المشهد الأعلى رأوها هباء منثوراً ، فمن اعتمد على الفضل نجا ، ومن اعتمد على أفعاله بدا له منها الهلاك.
وفي "عرائس البقلي" رحمه الله : هذه الآية خير من الله للذين فرحوا بما وجدوا في البدايات مما يغترّ به المغترون ، وقاموا به وظنوا أن لا مقام فوق مقامهم ، فلما رأوا بخلاف ظنونهم ما لأهل معارفه وأحبابه وعشاقه من درجات المعرفة وحقائق التوحيد ولطائف المكاشفات وغرائب المشاهدات ماتوا حسرة.
فانظر إلى هذه المعاني الشريفة في هذا المقام ، فإن كلاً منها يحتمله الكلام ، بل وأزيد منها على ما لا يخفى عى ذوي الأفهام ، واجتهد في أن يبدو لك من الثواب ما لم يكن يخطر ببالك أن تكون مثاباً به ، وذلك بالإخلاص والفناء التام حتى يكون الله عندك عوضاً عن كل شيء.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * فَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْما بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـاؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا} .
{فَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَانَا} إخبار عن الجنس بما يفعله غالب أفراده.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ أي : أن المشركين ليشمئزون عن ذكر الله وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم ضر ؛ أي : أصابهم سوء حال من مرض وفقر ونحوهما دعوا لدفعه من اشمأزوا عن ذكره ، وهو الله تعالى لمناقضتهم وتعكيسهم
121
في التسبب حيث جعلوا الكفر سبباً في الالتجاء إلى الله بأن أقاموه مقام الإيمان مع أن الواجب أن يجعل الإيمان سبباً فيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـاهُ نِعْمَةً مِّنَّا} أعطيناه إياها تفضلاً ، فإن التخويل مختص بما كان بطريق التفضل لا يطلق على ما أعطي بطريق الجزاء.
{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْم} ؛ أي : على علم مني بوجوه كسبه.
يعني : (وجوه كسب وتحصيل آنرا دانستم وبكياست وكفايت من حاصل شد).
أو بأني سأعطاه لما لي من الفضل والاستحقاق ، أو على علم من الله باستحقاقي.
يعني : (خدا دانست كه من مستحق اين نعمتم).
والهاء : لما أن جعلت موصولة بمعنى أن الذي أوتيته ، وللنعمة إن جاءت كافة ، والتذكير لما أن المراد شيء من النعمة وقسم منها ، ثم قال تعالى : رداً لما قاله : {بَلْ} (نه جنين است ميكويد).
{هِىَ} ؛ أي : النعمة ، ويجوز أن يكون تأنيث الضمير باعتبار الخبر ، وهو قوله : {فِتْنَةٌ} للإنسان ؛ أي : محنة وابتلاء له أيشكر أم يكفر تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته وتختبره.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} ؛ أي : أكثر الناس.
{لا يَعْلَمُونَ} أن التخويل استدراج وامتحان.
{قَدْ قَالَهَا} ؛ أي : تلك الكلمة ، أو الجملة ، وهي قوله : {إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْم} .
{الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} .
وهم قارون وقومه حيث قال : إنما أوتيته على علم عندي ، وهم راضون به يعني لما رضي قومه بمقالته جمعوا معه.
(8/91)
وقال بعضهم : يجوز أن يكون جميع من تقدمنا من الخيار والشرار ، فيجوز أن يوجد في الأمم المتقدمة من يقول تلك الكلمة غير قارون أيضاً ، ممن أبطرته واغتر بظاهرها.
{فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا ، ويجمعون منه يعني : أن النعمة لم تدفع عنهم النقمة والعذاب ، ولم ينفعهم ذلك ، يقال : أغنى عنه.
كذا إذا كفاه كما في "المفردات".
{فَأَصَابَهُمْ} (بس رسيد ايشانرا).
{سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا} جزاء سيئات أعمالهم وأجزية ما كسبوا وتسميتها سيئات ؛ لأنها في مقابلة سيئاتهم وجزاء سيئة سيئة مثلها.
ففيه رمز إلى أن جميع أعمالهم من قبيل السيئات.
والمعنى : أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا ، ولم يكن كذلك ؛ لأنهم وقعوا في العذاب ولم تنفعهم أموالهم ، وهذا كما قال اليهود : {نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ} (المائدة : 18).
فقال تعالى خطاباً لحبيبه عليه السلام : {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة : 18).
يعني : أن المكرم المقرب عند الله لا يعذبه الله ، وإنما يعذب الخائن المهين المهان.
ثم أوعد كفار مكة ، فقال : {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـاؤُلاءِ} المشركين المعاصرين لك يا محمد ، ومن للبيان وللتبعيض ؛ أي : أفرطوا في الظلم والعتوّ.
{سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا} من الكفر والمعاصي كما أصاب أولئك والسين للتأكيد وقد أصابهم ؛ أي : أصابهم حيث قحطوا سبع سنين وقتل أكابرهم يوم بدر.
{وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} الله تعالى عن تخلي ذاتهم بحسب أعمالهم وأخلاقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال الكاشفي : (عاجز كنند كان مارا از تعذيب يا بيشي كيرند كان برعذاب).
يعني : يدركهم العذاب ولا ينجون منه بالهرب.
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـاؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} .
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} .
أقالوا ذلك ، ولم يعلموا أو أغفلوا ، ولم يعلموا.
{أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} أن يبسط له ؛ أي : يوسعه ، فإن بسط الشيء نشره وتوسيعه.
يعني : (نه براى رفعت قدر او بلكه بمحض مشيت).
{وَيَقْدِرُ} لمن يشاء أن يقدره له ؛ أي : يقتر ويضيق له من غير أن يكون لأحد مدخل ما في ذلك ، حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً.
وقال الكاشفي : (وننك ميكند
122
برهركه ميخواهد نه براى خوارى وبى مقدارى أو بلكه از روى حكمت).
روي : أنهم أكلوا في سني القحط الجيف والجلود والعظام والعلهز ، وهو الوبر بأن يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار ، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء ، كالدخان من الجوع ، فلم ينفعهم ذلك ، حيث أصروا على الكفر والعناد.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر من القبض والبسط.
{لايَـاتٍ} دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى بوسط عادي أو غيره.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ هم المستدلون بتلك الآيات على مدلولاتها.
وفي الآيات فوائد :
منها : إن من خصوصية نفس الإنسان أن تضطرّ إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع في الشدة والضر والبلاء ، فلا عبرة بهذا الرجوع بالاضطرار إلى الله تعالى ؛ لأنه إذا أنعم الله عليه بالخلاص والعافية من تلك الشدة والبلاء أعرض عن الله ، ويكفر بالنعمة ، ويقول : إن ما أوتيته عن علم عندي ، وإنما العبرة بالرجوع إلى الله والتعرف إليه في الرخاء كما قال عليه السلام : "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
ومنها : أن المدعين يقولون : نحن أهل الله ، فإذا وصل إليهم بلاؤه فزعوا إليه ليرفع عنهم البلاء طلباً لراحة أنفسهم ، ولا يرون المبلى في البلاء ، وهم مشركون في طريق المعرفة ، فإذا وصل إليهم نعمة ظاهرة احتجوا بها ، فإذا هم أهل الحجاب من كلا الطرفين احتجبوا بالبلاء عن المبلى وبالنعمة عن المنعم.
قال الجنيد رضي الله عنه : من يرى البلاء ضراً ، فليس بعارف ، فإن العارف من يرى الضر على نفسه رحمة والضر على الحقيقة ما يصيب القلوب من القسوة والرين والنعمة إقبال القلوب على الله تعالى ، ومن رأى النعمة على نفسه من حيث الاستحقاق فقد جحد النعمة.
ومنها : إن أكثر أهل النعمة لا يعلمون فتنة النعمة وسوء عاقبتها وببطر النعمة والاغترار بها تقسو قلوبهم ، وتستولي عليهم الغفلة ، وتطمئن نفوسهم بها وتنسى الآخرة والمولى.
(8/92)
ومنها : إن نعمة الدنيا والآخرة وسعادتهما ، وكذا نقمتهما وشقاوتهما مبنية على مشيئة الله تعالى لا على مشيئة العباد ، فالأوجب للمؤمنين أن يخرجوا عن مشيئتهم ويستسلموا لمشيئة الله وحكمه وقضائه :
كليد قدر نيست دردست كس
تواناى مطلق خدايست وبس
قال بعضهم :
هرجه بايد بهر كه ميشايد
تودهى آنجنا نكه مى بايد
توشناسى صلاح كار همه
كه تويى آفريد كار همه
ومنها : أن ضيق حال اللبيب وسعة حال الأبله دليل على الرزاق وتقديره.
ويرد بهذه الآية على من يرى الغنى من الكيس والفقر من العجز أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أتدري لم رزقت الأحمق قال : يا رب لا ، قال : ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال ، فالكل بيد الله ألا إلى الله تصير الأمور ، وبه ظهر فساد قول ابن الراوندي : ()
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
أي : كافراً نافياً للصانع العدل الحكيم قائلاً : ) لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك ، ولقد أحسن من قال : ()
123
كم من أديب فهم عقله
مستكمل العقل مقل عديم
ومن جهول مكثر ماله
ذلك تقدير العزيز العليم
يعني : أن من نظر إلى التقدير علم أن الأمور الجارية على أهل العالم كلها على وفق الحكمة ، وعلى مقتضى المصلحة.
ففيه إرشاد إلى إثبات الصانع الحكيم لا إلى نفي وجوده.
{قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الراغب : السرف تجاوز الحدّ في كل ما يفعله الإنسان ، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ، وقوله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} .
يتناول الإسراف في الأموال ، وفي غيرها.
انتهى.
وتعدية الإسراف بعلى لتضمين معنى الجناية ، والمعنى : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وارتكاب الكبائر والفواحش.
قال البيضاوي ومن تبعه : إضافة العباد تخصصه بالمؤمن على ما هو عرف القرآن.
يقول الفقير : قوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} (الإسراء : 5).
ينادى على خلافه ؛ لأن العباد ، فسر ها هنا ببخت نصر وقومه ، وكانوا كفاراً بالإتفاق إلا أن يدعي الفرق بين الإضافة بالواسطة وبغيرها.
وقال في "الوسيط" : المفسرون كلهم.
قالوا : إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر بهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس والزنا ، ومعاداة النبي عليه السلام ، والقتال معه ، فأنزل الله هذه الآية ، وفرح النبي عليه السلام بهذه الآية ، ورآها أصحابه من أوسع الآيات في مغفرة الذنوب ، انتهى.
وقال في "التكملة" روي : أن وحشياً قاتل حمزة رضي الله عنه كتب إلى النبي عليه السلام يسأله : هل له من توبة؟ وكتب أنه كان قد سمع فيما أنزل الله بمكة من القرآن آيتين أيأستاه من كل خير ، وهما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} إلى قوله : {مُهَانًا} (الفرقان : 68 ـ ـ 69) فنزلت {إِلا مَن تَابَ} (مريم : 60) إلخ ، فكتب بها رسول الله عليه السلام ، فخاف وحشي.
وقال العلي لا أبقى حتى أعمل صالحاً ، فأنزل الله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ} (النساء : 48) الخ.
فقال وحشي : إني أخاف أن لا أكون من مشيئة الله ، فأنزل الله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} إلخ ، فأقبل وحشي وأسلم.
انتهى.
وعلى كل تقدير فخصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ ، فدخل فيه كل مسرف.
{لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} .
القنوط : أعظم اليأس.
وفي "المفردات" : اليأس من الخير.
وبالفارسية : (نوميدشدن از خير).
والرحمة من الله تعالى الإنعام والإعطاء والتفضل.
وبالفارسية : (بخشايش) ، وهو لا يكون في الترتيب الوجودي إلا بعد المغفرة التي هي أن يصون الله عبده من أن يمسه العذاب دل عليه قوله : {إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
ولذا قالوا في المعنى : لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
نوميد مشوكه نا اميدى كفراست
(در معالم التنزيل آورده كه ابن مسعود رضي الله عنه در مسجد در آمد ديد كه واعظى ذكر آتش دوزخ وسلاسل وأغلال ميكند فرمود كه ا مذكر جرا نوميد مى كردانى مردمانرا مكر نخواندى آنرا كه ميفرمايد).
{قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ} الخ.
واعلم أن القنوط من رحمة الله علامة زوال الاستعداد ، والسقوط عن الفطرة بانقطاع الوصلة بين الحق والعبد إذ لو بقي شيء في العبد من نوره الأصلي لأدرك أثر رحمته الواسعة السابقة على غضبه ، فرجاء وصول
124
(8/93)
ذلك الأثر إليه لاتصاله بعالم النور بتلك البقية ، وإن أسرف وفرط في جنب الله.
وأما اليأس ، فدليل الاحتجاب الكلي واسوداد الوجه ، فالله تعالى يغفر الذنوب جميعاً بشرط بقاء نور التوحيد في القلب ، فإذا لم يبق دخل في قوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ( : ).
فالقنوط : من أعظم المصائب.
وقد أمهل تعالى عباده تفضلاً منه إلى وقت الغرغرة ، فلو رجع العبد إلى الله قبل آخر نفس يتنفسه قبل.
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} حال كونها {جَمِيعًا} ؛ كأنه قيل : ما سبب النهي عن القنوط من الرحمة فأجيب بأن سبب النهي هو {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عفواً لمن يشاء ، ولو بعد حين بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء ، فهو وعد بغفران الذنوب ، وإن كثرت ، وكانت صغائر ، أو كبائر بعدد الرمال والأوراق والنجوم ونحوها.
والعموم بمعنى الخصوص ؛ لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعاً ، وهي أيضاً في العاصي مقيدة بالمشيئة ؛ لأن المطلق محمول على المقيد وسيجيء بقية الكلام على الآية.
قال عليه السلام : "إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم".
وقال عليه السلام : "إن تغفر اللهم ، فاغفر جماً ، وأي عبد لك لا ألما".
يعني : (جون آمر زى خداوندا همه بيامرز وآن كدام بنده است كه او كناه نكرده است).
والفرق بين العفو والمغفرة هو أن حقيقة العفو هو المحو كما إشير إليه بقوله تعالى : {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ} (هود : 114).
والتبديل الذي أشير إليه بقوله : {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} (الفرقان : 70) هو من مقام المغفرة قاله الشيخ الكبير رضي الله عنه في "شرح الأربعين" حديثاً ثم قال في مقام التعليل.
{إِنَّهُ} تعالى {هُوَ} وحده {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
الأول : إشارة إلى محو ما يوجب العقاب.
والثاني : إلى التفضل بالثواب وصيغة المبالغة راجعة إلى كثرة الذنوب ، وكثرة المغفور والمرحوم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الأستاذ القشيري قدس سره : التسمية بيا عبادي مدح.
والوصف بأنهم أسرفوا ذم ، فلما قال : يا عبادي طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين بالآية ، فرفعوا رؤوسهم ونكس العاصي رأسه وقال : من أنا ، حتى يقول لي هذا ، فقال الله تعالى : {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} ، فانقلب الحال ، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت زلتهم ، والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم ، ثم قوي رجاؤهم بقوله على أنفسهم.
يعني : إن أسرفت لا تقنط من رحمة الله ، بعدما قطعت اختلافك إلى بابنا ، فلا ترفع قلبك عناء ، والألف واللام في الذنوب للاستغراق ، والعموم جميعاً تأكيد له ؛ فكأنه قال : أغفر ولا أترك وأعفو ولا أبقي ، فإن كانت لكم جناية كثيرة عميمة ، فلي بشأنكم عناية قديمة.
وفي "كشف الأسرار" : (بدانكه از آفريد كان حق تعالى كمال كرامت دوكروه راست يكى فرشتكان وديكر آدميان "ولهذا جعل الأنبياء والرسل منهم دون غيرهم" وغايت شرف إنساني دردو جيزاست در عبوديت ودرمحبت عبوديت محض صفت فرشتكانست وعبوديت ومحبت هر دوصفت آدميان است فرشتكانرا عبوديت محض دادكه صفت خلق است وآدميانرا بعد از عبوديت خلعت محبت داد كه صفت حق است تا از بهر اين امت ميكويد {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) ودر عبوديت نيز آدميانرا فضل داد برفر شتكانكه عبوديت فرشتكان بى اضافت كفت {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} (الأنبياء : 46) وعبوديت آدميان باضافت كفت يا عِبَادِىَ} آنكه بر مقتضاى محبت فضل خود برايشان تمام
125
كرد وعيبها ومعصيتهاى ايشان بأنوار محبت بيوشيد وبرده ايشان ندريد نه بينى كه زلت برايشان قضا كرد وبآن همه زلات نام عبوديت از ايشان نيفكند وباذ كرزلت ومعصيت تشريف اضافت از ايشان باز تستد كفت {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} وآنكه برده ايشان نكاه داشت كه عين كناهان اظهار نكرد بلكه مجمل ياد كرد سربسته وعين آن بوشيده كفت {أَسْرَفُوا} إسراف كردند كزاف كردند از بهر آنكه دارارادت وى مغفرت ايشان بودنه برده دريد نه اسم عبوديت بيفكد "سبحانه ما أرافه بعباده" موسى عليه السلام كفت "إلهي تريد المعصية من العباد وتبغضها" كفت "يا موسى ذاك تأسيس لعفوي" يعني : معصيت بندكان بارادت تست آنكه آنرا دشمن ميدارى وبنده را بمعصيت دشمن ميكيرى حق جل جلاله كفت آن بنياد عفو وكرم خويش است كه مى نهم خزينه رحمت ما براست اكر عاصيان نباشند ضايع ماند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الكاشفي : (بيمارستان جرم وعصيا نرا شربت راحت جز درين دار الشفا حاصل نشود وسر كردانان بيابان نفس وهوارا زاد طريق نجات جز بمدد آن آيت ميسر نكردد) :
ندارم هيج كونه توشه راه
بجز لا تقنطوا من رحمة الله
تو فر مودى كه نوميدى مياريد
زمن لطف وعنايت جشم داريد
يدين معنى بسى اميد واريم
(8/94)
ببخشا زانكه بس اميد داريم
اميد دردمندانرا دوا كن
دل اميد وارنرا روا كن
وقال المولى الجامي قدس سره :
بلى نبود درين ره نا اميدى
سياهى را بود رو در سفيدى
زصد دردى كراميدت نيابد
بنو ميدى جكر خوردن نشايد
درديكر ببايد زدكه نا كاه
ازان در سوى مقصود آورى راه
قال عليه السلام : "ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها" ؛ أي : ما أحب أن أملك الدنيا وما فيها ، بدل هذه الآية ، فالباء في بها للبدلية والمقابلة.
وبالفارسية : (دوست نمى دارم كه دنيا وما فيها مرا باشد بعوض اين آيت جه اين آيت ازدنيا وهرجه دردنيا بهتر است).
وذلك لأن الله تعالى منّ على من أسرف من عباده ، ووعد لهم مغفرة دنوبهم جميعاً ونهاهم أن يقنطوا من رحمته الواسعة.
واعلم أن الآية لا تدل على غفران جميع الذنوب لجميع الناس ، بل على غفران جميع ذنوب من شاء الله غفران ذنوبه ، فلا تنافي الأمر بالتوبة وسبق تعذيب العصاة ، والأمر بالإخلاص في العمل والوعيد بالعذاب ، فالله تعالى لا يغفر الشرك إلا بالتوبة والرجوع عنه ، ويغفر ما دون ذلك من الصغائر والكبائر بالتوبة وبدونها لمن يشاء لا لكل أحد من أهل الذنوب.
روي : أن ابن مسعود رضي الله عنه.
قرأ هذه الآية إن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء ، فحمل المطلق على المقيد ، وذلك لأنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.
يقول الفقير : إن أهل السنة لم يشترطوا التوبة في غفران الذنوب مطلقاً ؛ أي : سواء كانت صغائر أو كبائر سوى الشرك ودل عليه آثار كثيرة.
روي : أن الله تعالى يقول يوم القيامة لبعض عصاة المؤمنين : سترتها عليك في الدنيا ؛ أي : الذنوب وأنا أغفرها لك اليوم ، فهذا وأمثاله
126
يدل على المغفرة بلا توبة.
والفرق بين الشرك وسائر المعصية هو أن الكافر لا يطلب العفو والمغفرة لمعاصيه.
وقوله تعالى : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء : 17).
إنما هو بالنسبة إلى حال الغرغرة ، فالشرك وسائر المعاصي لا يغفر في تلك الحال ، وإن وجدت التوبة.
وهذا لا ينافي المغفرة بدون التوبة بالنسبة إلى المعاصي سوى الشرك ، فإن مغفرته مخالفة للحكمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها ، وهو يمص أن تصيبه" ، فهذا مما يدل على كمال الرجاء والبشارة للمسلمين ؛ لأنه حصل في هذه الدار من رحمة واحدة ما حصل من النعم الظاهرة والباطنة ، فما ظنك بمائة رحمة في الدار الآخرة.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : في كتاب الله كنوز موجبة للعفو عن جميع المؤمنين.
منها : قوله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ} إلخ.
ولذا قال العلماء : أرجى آية في القرآن لأهل التوحيد هذه الآية.
وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء : 48).
وقوله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى : 5) ، وذلك أن كل نبي مرسل مظهر لبعض أحكام الرحمة ، ولذا كانت رسالته مقيدة ومقصورة على طائفة مخصوصة ، ولما كان نبينا عليه السلام مظهر حقيقة الرحمة كانت بعثته عامة.
وقيل فيه : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
وتم ظهور حكم رحمانيته بالشفاعة التي تظهر سيادته على جميع الناس حتى أن من يكون له درجة الشفاعة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين لايشفعون إلا بعده ، فلا تقنطوا أيتها الأمة المرحومة من رحمة الله المطلقة ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً بشفاعة من هو مظهر تلك الرحمة.
قال الجامي :
رمهجورى بر آمد جان عالم
ترحم يا نبي الله ترحم
اكرجه غرق درياى كناهم
فتاده خشك لب برخاك راهيم
توابر رحمتى آن به كه كناهى
كنى درحال لب خشكان نكاهى
{قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/95)
{وَأَنِيبُوا} يا عبادي {إِلَى رَبِّكُم} ؛ أي : ارجعوا إلى ربكم بالتوبة من المعاصي.
{وَأَسْلِمُوا لَهُ} ؛ أي : أخلصوا العمل لوجهه ، فإن السالم بمعنى الخالص.
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} في الدنيا والآخرة.
{ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} لا تمنعون من عذاب الله إن لم تتوبوا قبل نزوله.
يعني : (هيجكس دردفع عذاب شما نصرت ندهد).
والظاهر من آخر الآية أن الخطاب للكفار ، فالمعنى : فارجعوا أيها الناس من الشرك إلى الإيمان وأخلصوا له تعالى التوحيد.
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : انقطعوا عن الكل بالكلية ، فما يرجع إلينا بالحقيقة أحد وللغير عليه أثر ، وللأكوان على سره خطر ، ومن كان لنا حراً مما سوانا.
وفي "الأسئلة المقحمة" : الفرق بين التوبة والإنابة أن التائب يرجع إلى الله خوفاً من العقوبة والمنيب يرجع حياء منه وشوقاً إليه.
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره : إذا صدق العبد في توبته صار منيباً ؛ لأن الإنابة ثانى درجة التوبة.
وفي "التأويلات النجمية" : التوبة لأهل البداية ، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة ، ومن الأوبة للمتوسط ، وهي الرجوع من الدنيا إلى الآخرة.
ومن الإنابة لأهل النهاية ، وهي الرجوع
127
مما سوى الله إلى الله بالفناء في الله.
قال في "كشف الأسرار".
(انابت برسه قسم است.
يكى انابت بيغمبران كه نشانش سه جيزاست بيم داشتن با بشارت آزادى وخدمت كردن باشرف بيغمبرى وباز بلاكشيدن باد لهاى برشادى وجز از بيغمبران كس را طاقت اين انابت نيست.
دون انابت عارفا نست كه نشانش سه جيزاست از معصيت بدر بودن واز طاعت خجل بودن ودرخلوت باحق انس داشتن رابعة عدوية درحالت انس بجايى رسيدكه ميكفت "حسبي من الدنيا ذكرك ومن الآخرة رؤيتك" عزيزى كفت از سرحالت آتش خويش وديكرا نرا بندمى داد) :
اكر در قصر مشتاقان ترا يك روز بارستى
ترابا اند هان عشق اين جاد وجه كارستى
وكر رنكى زكلزار حديث أوبديدى
بجشم توهمه كلها كه درباغست خارستى
(سوم انابت توحيداست دشمنانرا وبيكا نكانرا با آن خواند كفت {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ونشان اين انابت آنست كه باقرار زبان وإخلاص دل خدايرا يكى داند ودر ذات بى شيبه ودر قدر بى نظير ودر صفات بيهمتا.
كفته اند توحيد دوبابست توحيد اقراركه عامة مؤمنا نراست بظاهر آيد تازبان ازو خبر دهد واهل اين توحيدرا دنيا منزل وبهشت مطلوب ودوم توحيد معرفت عارفان وصديقا تراست بجان آيد تاوقت وحال ازو خبر دهد واهل اين توحيدرا بهشت منزل ومولى مقصود) : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وأسكر القوم دور كأس
وكان سكرى من المدير
(آن كس راكه كاربا كل افتد كل بويد وآنكس كه كارش باباغيان افتد بوسه برخار زند جنانكه جوانمرد كفت).
از براى آنكه كل شاكر درنك روى اوست
كر هزارت بوسه شد بر شريك خارزن
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} ؛ أي : القرآن كقوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23) ، أو العزائم دون الرخص.
قال البيضاوي ومن تبعه : ولعله ما هو أنجى وأسلم ، كالإنابة والمواظبة على الطاعة.
وقال الحسن : الزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن الذي أنزل عليكم من ثلاثة أوجه : ذكر القبيح لتجتنبوه ، وذكر الأحسن لتؤثروه ، وذكر الأوسط لئلا يكون عليكم جناح في الإقبال عليه ، أو الإعراض عنه ، وهو المباحات.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن ما أنزل الله منه ما يكون حسناً ، وهو ما يدعو به إلى الله.
قال الله تعالى : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب : 46).
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} ؛ أي : البلاء والعقوبة.
{بَغْتَةً} .
(ناكهان).
قال الراغب : البغتة مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب ، ويجوز أن يكون المراد بالعذاب الآتي بغتة هو الموت ؛ لأنه مفتاح العذاب الأخروي ، وطريقه ومتصل به.
{وَأَنتُمْ} لغفلتكم.
{لا تَشْعُرُونَ} لا تدركون بالحواس مجيئه لتتداركوا وتتأهبوا.
وبالفارسية : (وشما نمى دانيد آمدن اورا تادر مقام تدارك وتأهب آبيد).
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} .
مفعول له للأفعال السابقة التي هي الإنابة والإخلاص ، واتباع القرآن والتنكير ؛ لأن القائل بعض الأنفس ، أو للتكثير والتعميم ليشيع في كل النفوس.
والمعنى : افعلوا ما ذكر من المأمورات ، يعني : أمرتكم به كراهة أن تقول كل نفس.
وبالفارسية : (ومباداكه هركس كويا فردا ازشما).
يا حَسْرَتَى} بالألف بدلاً من ياء الإضافة إذ أصله :
128
يا حسرتي.
تقول العرب : يا حسرتي ، يا لهفي ، ويا حسرتا ، ويا لهفا ، ويا حسرتاي ، ويا لهفاي بالجمع بين العوضين.
تقول هذه الكلمة في نداء الاستغاثة كما في "كشف الأسرار".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والحسرة : الغم على ما فاته والندم عليه ؛ كأنه انحسر الجهل عنه الذي حمله على ما ارتكبه.
(8/96)
وقال بعضهم : الحسرة أن تأسف النفس أسفاً تبقى منه حسيراً ؛ أي : منقطعة.
والمعنى : يا حسرتي وندامتي احضري ، فهذا أوان حضورك.
وبالفارسية : (اى بشيمانى من).
{عَلَى مَا فَرَّطتُ} ؛ أي : على تفريطي وتقصيري ، فما مصدرية.
قال الراغب : الإفراط أن يسرف في التقدم.
والتفريط أن يقصر فإن الفرط المتقدم.
{فِى جَنابِ اللَّهِ} في جانبه ، وهو طاعته وإقامة حقه وسلوك طريقه.
قال في "كشف الأسرار" العرب تسمي الجانب جنباً.
(اين كلمه برزبان عرب بسيار بود وجنانست كه مردمان كويند در جنب فلان توانكر شدم از بهلوى فلان مال بدست آوردم).
وقال الراغب : أصل الجنب الجارحة جمعه جنوب ، ثم استعير في الناحية التي تليها كاستعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال.
وقيل : جنب الحائط وجانبه.
وقوله : في جنب الله ؛ أي : في أمره وحده الذي حده لنا.
انتهى.
{وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ} : إن هي المخففة واللام هي الفارقة.
والسخر : الاستهزاء ، ومحل الجملة النصب على الحال.
والمعنى فرطت ، والحال : أني كنت في الدنيا من المستهزئين بدين الله وأهله.
قال قتادة : لم يكفهم ما ضيعوا من طاعة الله حتى سخروا بأهل طاعته.
در سلسلة الذهب فرمود :
روز آخر كه مرك مردم خوار
كند از خواب غفلتش بيدار
يادش آيدكه در جوار خداى
سالها زد بجرم وعصيان واى
هرجه درشصت سال يا هفتاد
كرده از خير وشربيش افتاد
يك بيك بيش جشم او آرند
آشكارا بروى اودارند
بكذراند زكنبد والا
بانك واحسرتا ووا ويلا
حسرت ازجان اوبر آرد دود
وان زمان حسرتش تدارد سود
قال الفارسي : يقول الله تعالى : من هرب مني أحرقته ؛ أي : من هرب مني إلى نفسه أحرقته بالتأسف على فوتي إذا شهد غداً مقامات أرباب معارفي يدل عليه قوله : يا حسرتا إلخ إذ لا يقوله إلا متحرق.
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} بالإرشاد إلى الحق.
{لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} من الشرك والمعاصي.
وفي الخبر : "ما من أحد من أهل النار يدخل النار حتى يرى مقعده من الجنة ، فيقول : لو أن الله هداني لكنت من المتقين".
فيكون عليه حسرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} .
عياناً ومشاهدة.
{لَوْ أَنَّ لِى} .
لو : للتمني (اى كاشكى مرابودى).
{كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا يقال : كر عليه عطف ، وعنه رجع.
والكره المرة.
والجملة كما في "القاموس".
{فَأَكُونَ} بالنصب جواب التمني ، يعني : (تاباشم آنجا).
{مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
في العقيدة والعمل واو للدلالة على أنها لا تخلو عن هذه الأقوال تحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته وندماً ، حيث لا ينفع.
وقيل : إن قوماً يقولون : هذا.
وقوماً يقولون : ذاك.
{بَلَى} يعني : (ترا ارشاد كردند).
إن قلت : كلمة بلى مختصة بإيجاب النفي ، ولا نفي في واحدة من تلك المقالات.
129
قلت : إنها رد للثانية ، وكلمة لو تتضمن النفي ، لأنها لامتناع الثاني لامتناع الأول ؛ أي : لو أن الله هداني لكنت من المتقين ، ولكن ما هداني ، فقال تعالى : بلى ، قد هديتك و{قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى} : آيات القرآن ، وهي سبب الهداية ، وفصله عن قوله : {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} لما أن تقديمه على الثالث يفرق القرائن الثلاث التي دخلها ، أو تأخير لو أن الله هداني.
إلخ.
يخل بالترتيب الوجودي ؛ لأنه يتحسر بالتفريط عند تطاير الكتب ، ثم يتعلل بفقد الهداية عند مشاهدة أحوال المتقين واغتباطهم ، ثم يتمنى الرجعة عند الاطلاع على النار ، ورؤية العذاب ، وتذكير الخطاب باعتبار المعنى ، وهو الإنسان.
وروي : أن النبي عليه السلام قرأ قد جاءتك بالتأنيث ، وكذا ما بعدها خطاباً للنفس.
{فَكَذَّبْتَ بِهَا} .
قلت : إنها ليست من الله.
{وَاسْتَكْبَرْتَ} تعظمت عن الإيمان بها.
{وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} بها.
وفي "التأويلات النجمية" : {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى} من الأنبياء ومعجزاتهم والكتب وحكمها ومواعظها وأسرارها وحقائقها ودقائقها وإشاراتها.
{فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عن اتباعها والقيام بشرائطها.
{وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} ؛ أي : كافري النعمة بما أنعم الله به عليك من نعمة وجود الأنبياء ، وإنزال الكتب وإظهار المعجزات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قالت المعتزلة : هذه الآيات الثلاث تدل على أن العبد مستقل بفعله من وجوه :
الأول : أن المرء لا يتحسر بما سبق منه إلا إذا كان يقدر على أن يفعل.
والثاني : أن من لا يكون الإيمان بفعله لا يكون مفرطا فيه.
والثالث : أنه لا يستحق الذم بما ليس من فعله.
والجواب : أن هذه الآيات لا تمنع تأثير قدرة الله تعالى في فعل العبد ولا ما فيه إسناد الفعل إلى العبد حيث قال : {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ} إلخ.
ونحو قوله تعالى : {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} (النحل : 93) يدل على بطلان مذهبهم.
(8/97)
{بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌا أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍا وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ * لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللَّهِ أولئك هُمُ} .
{وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} ؛ بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه كاتخاذ الولد والصاحبة والشريك.
{وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} مبتدأ وخبر.
والجملة حال قد اكتفي فيها بالضمير عن الواو على أن الرؤية بصرية ، أو مفعول ثان لها على أنها عرفانية.
والمعنى : تراهم حال كونهم أو تراهم مسودة الوجوه بما ينالهم من الشدة ، أو بما يتخيل من ظلمة الجهل.
وبالفارسية : (رويهاى ايشان سياه كرده شد بيش از دخول دوزخ وآن علامت دوز خيانست كه).
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41).
سئل الحسن عن هذه الآية.
{وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ} إلخ.
فقال : هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن يوم القيامة تكون الوجوه بلون القلب ، فالقلوب الكاذبة لما كانت مسودة بسواد الكذب وظلمته تلونت وجوههم بلون القلوب.
قال يوسف بن الحسين رحمه الله : أشد الناس عذاباً يوم القيامة من ادعى في الله ما لم يكن له ذلك ، أو أظهر من أحواله ما هو خال عنها.
{أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ} .
(آيانيست در دوزخ يعنى هست).
{مَثْوَى} مقام.
{لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان والطاعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : الذين تكبروا على أولياء الله ، وامتنعوا عن قبول النصح والموعظة.
{وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والمعاصي ؛ أي : من جنهم.
{بِمَفَازَتِهِمْ} مصدر ميمي بمعنى الفوز : من فاز بالمطلوب ؛ أي : ظفر به.
قال الراغب : الفوز الظفر مع حصول السلامة.
والباء : متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول
130
مفيدة لمفازة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب ؛ أي : ينجيهم من مثوى المتكبرين حال كونهم ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة.
{لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
حال أخرى من الموصول مفيدة لكون نجاتهم وفوزهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن.
قال في "كشف الأسرار" لا يمس أبدانهم أذى.
وقلوبهم حزن ، ويجوز أن تكون المفازة من فاز منه ؛ أي : نجا منه.
والباء للملابسة.
وقوله تعالى : {لا يَمَسُّهُمُ} إلخ.
تفسير وبيان لمفازتهم ؛ أي : ينجيهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم ، كما يشعر به إبراده في حيز الصلة ، وإما على إطلاق المفازة على سببها الذي هو التقوى ، فليس المراد نفي دوام المساس ، والحزن بل دوام نفيهما.
وفي الآية إشارة إلى أن الذين اتقوا بالله عما سوى الله لا يمسهم سوء القطيعة والهجران ولا هم يحزنون على ما فاتهم من نعيم الدنيا والآخرة ، إذ فازوا بقربة المولى ، وهو فوز فوق كل فوز ، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين اليوم عصمة وغداً رؤية واليوم عناية وغداً كفاية وولاية.
نسأل الله سبحانه أن يعصمنا مما يؤدي إلى الحجاب ، ويجعلنا في حمايته في كل باب.
وفي الآية ترغيب للتقوى ؛ فإنها سبب للنجاة وبها تقول جهنم : جز يا مؤمن ، فإن نورك أطفأ ناري ، وبها يخاف الخلائق من المتقى.
ألا ترى أن رسول الروم لما دخل على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أخذته الرعدة والخوف.
قال في المثنوي :
هيبت حقست اين از خلق نيست
هيبت اين مرد صاحب دلق نيست
هركه ترسيد ازحق وتقوى كزيد
ترسد ازوى جن وانس وهركه ديد
وفي "البستان" :
توهم كردن از حكم داور مبيج
كه كردن نبيجد زحكم توهيج
محالست جون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذار دترا
وجاء إلى ذي النون المصري رحمه الله بعض الوزراء وطلب الهمة ، وأظهر الخشية من السلطان ، فقال له : لو خشيت أنا من الله كما تخشى أنت من السلطان ، لكنت من جملة الصديقين :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كرنبودى اميد راحت ورنج
باى درويش بر فلك بودى
ور وزير از خدا بترسيدى
همجنان كز ملك ملك بودى
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا مخلصين له.
{اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} .
من خير وشر وإيمان وكفر ، لكن لا بالجبر ، بل بمباشرة الكاسب لأسبابها.
(8/98)
قال في "التأويلات النجمية" : دخل أفعال العباد وأكسابهم في هذه الجملة ، ولا يدخل هو ، وكلامه فيها ، لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ، ولأنه تعالى يخلق الأشياء بكلامه ، وهو كلمة كن.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} يتولى التصرف فيه كيفما يشاء.
والوكيل : القائم على الأمر الزعيم بإكماله ، والله تعالى هو المتكفل بمصالح عباده ، والكافي لهم في كل أمر ، ومن عرف أنه الوكيل اكتفى به في كل أمره ، فلم يدبر معه ، ولم يعتمد إلا عليه.
وخاصية هذا الاسم نفي الحوائج والمصائب ، فمن خاف ريحاً ، أو صاعقة ، أو نحوهما ، فليكثر منه ، فإنه يصرف عنه ، ويفتح له أبواب الخير والرزق.
{لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} .
جمع مقليد أو مقلاد ، وهو المفتاح ، أو جمع إقليد على
131
الشذوذ كالمذاكير جمع : ذكر ، وإلا ينبغي أن يجمع على أقاليد.
والإقليد : بالكسر معرب كليد ، وهو في الفارسي بمعنى : المفتاح في العربي ، وإن كان شائعاً بين الناس ، بمعنى الفعل.
والمعنى : له تعالى وحده مفاتيح خزائن العالم العلوي والسفلي لا يتمكن من التصرف فيها غيره.
وبالفارسية : (مرور است كليدهاى خزائن آسمان وزمين يعني مالك أمور علوى وسلفى است وغير اورا تصر في در آمن ممكن نيست همجنانكه دخل در خزينها متصور نيست مكر كسى راكه مفاتيح آن بدست اوست).
وعن عثمان رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن المقاليد ، فقال : "تفسيرها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت ، وهوعلى كل شيء قدير".
والمعنى : على هذا أنهذه الكلمات يوحد بها ويمجد بها ، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها أصابة.
يعني : (اين كلمات مفاتيح خيرات آسمان وزمينست هركه بدان تكلم كند بنقود فيوض آن خزائن برسد وكفته اند خزائن آسمان بارانست وخزائن زمين كياه وكليد اين خزينها بدست تصرف اوست هركاه خواهد باران فرستد وهرجه خواهد ازنباتات بروياند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الخبر أن رسول الله عليه السلام ، قال : أتيت بمفاتيح خزائن الأرض ، فعرضت عليّ ، فقلت : لا بل أجوع يوماً وأشبع يوماً".
قال الصائب :
افتد هماى دولت اكر در كمندما
از همت بلند رها ميكنيم ما
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن له مفاتيح خزائن لطفه ، وهي مكنونة في سماوات القلوب ، وله مفاتيح خزائن قهره ، وهي مودعة في أرض النفوس ، يعني : لا يملك أحد مفاتيح خزائن لطفه وقهره ، إلا هو ، وهو الفتاح ، وبيده المفتاح يفتح على من يشاء خزائن لطفه في قلبه ، فيخرج ينابيع الحكمة منه ، وجواهر الأخلاق الحسنة ، ويفتح على من يشاء أبواب خزائن قهره في نفسه ، فيخرج عيون المكر والخدع والحيل منها ، وفنون الأوصاف الذميمة ، ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلّم "مفتاح القلوب لا إله إلا الله".
ولما سأله عثمان رضي الله عنه عن تفسير مقاليد السماوات والأرض ، قال : "لا إله إلا الله ، والله أكبر" إلخ.
{لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} التنزيلية والتكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس.
{أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} ، خسراناً لا خسار وراءه ؛ لأنهم اختاروا العقوبة على الثواب وفتحوا أبواب نفوسهم بمفتاح الكفر والنفاق ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن ربحت تجارته لا ممن خسرت صفقته.
{لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} .
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ} ؛ أي : أبعد مشاهدة هذه الآيات ، فغير الله أعبد تأمرونني بذلك أيها الجاهلون ، وتأمروني اعتراض للدلالة على أنهم أمروه عقيب ذلك ، بأن يعبد غير الله وقالوا : استلم آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ، وأصله تأمرونني بإظهار النونين ، ثم أدغمت أولاهما ، وهي علم الرفع في الثانية ، وهي للوقاية.
وقد قرأ ابن عامر على الأصل ؛ أي : بإظهارها ، ونافع بحذف الثانية ؛ فإنها تحذف كثيراً.
{وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} ؛ أي : من الرسل عليهم السلام.
{لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ} فرضاً.
وبالفارسية : (اكر شرك آرى) وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ؛ أي : ليبطلن ثواب عملك وإن كنت كريماً عليَّ
132
(8/99)
{وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} في صفقتك بسبب حبوط عملك واللام الأولى موطئة للقسم ، والأخريان للجواب ، وهو كلام وارد على طريقة الفرض لتهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه ، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره ، فكيف بمن عداه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال التفتازاني : فالمخاطب هو النبي عليه السلام ، وعدم إشراكه مقطوع به لكن جيء بلفظ الماضي إبرازاً للإشراك في معرض الحاصل على سبيل الفرض ، والتقدير : تعريضاً لمن صدر عنهم الإشراك بأنه قد حبطت أعمالهم ، وكانوا من الخاسرين.
وقال في "كشف الأسرار" هذا خطاب مع الرسول عليه السلام ، والمراد به غيره.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا أدب من الله لنبيه عليه السلام وتهديد لغيره ؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار.
وقال الكاشفي : (واصح آنست كه مخاطب بحسب ظاهر بيغمبر انند وازروى حقيقت افراد مسلمانان امت ايشان هريك رامى فرمايد كه اكر شرك أرى هر آينه تباه كردد كردار توكه دروقت ايمان واقع شده وهر آينه باشى از زيانكاران كه بعد ازوقت دولت دين بنكبت شرك مبتلى كردد).
قال ابن عطاء : هذا شرك الملاحظة والالتفات إلى غيره ، وإطلاق الأحباط من غير تقييد بالموت عن الكفر يحتمل أن يكون من خصائصهم ؛ لأن الإشراك منهم أشد وأقبح ، وأن يكون مقيداً بالموت كما صرح به في قوله تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوالَـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} (البقرة : 217) () ، فيكون حملاً للمطلق على المقيد ، فمذهب الشافعي أن نفس الكفر غير محبط عنده ، بل المحبط الموت على الكفر.
وأما عند غيره ، فنفس الكفر محبط سواء مات عليه أم لم يمت.
وفي "المفردات" : حبط العمل على أضرب :
أحدها : أن تكون الأعمال دنيوية ، فلا تغني عن الآخرة غناء كما أشار إليه تعالى بقوله : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23).
والثاني : أن تكون أعمالاً أخروية لكن لم يقصد صاحبها بها وجه الله تعالى كما روي : "يؤتى برجل يوم القيامة ، فيقال له : بم كان اشتغالك ، فيقول بقراءة القرآن ، فيقال له : كنت تقرأ ليقال : فلان قارىء.
وقد قيل ذلك ، فيؤمر به إلى النار".
والثالث : أن تكون أعمالاً صالحة ، لكن بإزائها سيئات تربى عليها.
وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان.
انتهى.
وعطف الخسران على الحبوط من عطف المسبب على السبب.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإنسان ، ولو كان نبياً لئن وكل إلى نفسه ليفتحن بمفتاح الشرك والرياء أبواب خزائن قهر الله على نفسه ، وليحبطن عمله بأن يلاحظ غير الله بنظر المحبة ، ويثبت معه في الإبداع سواه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} .
رد لما أمروه ، ولولا دلالة التقديم على القصر ، لم يكن كذلك ، والفاء : جواب الشرط المحذوف ، تقديره : لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته ، بل إن عبدت ، فاعبد الله ، فحذف الشرط وأقيم المفعول مقامه.
{وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} إنعامه عليك.
ومن جملته التوحيد والعبادة ، وكذا النبوة والرسالة الحاصلتان بفضله وكرمه لا بسعيك وعملك.
واعلم أن الشكر على ثلاث درجات :
الأولى : الشكر على المحاب ، وقد شاركت المسلمين في هذا الشكر اليهود والنصارى والمجوس.
والثانية : الشكر على المكاره.
وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة ؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.
والثالثة : أن لا يشهد غير المنعم ، فلا يشهد النعمة والشدة.
وهذا الشهود والتلذذ به أعلى اللذات ؛ لأنه في مقام السر.
فالعاقل يجتهد في الإقبال على الله ،
133
والتوجه إليه من غير التفات إلى يمين وشمال.
روي : أن ذا النون المصري قدس سره : أراد التوضؤ من نهر فرأى جارية حسناء ، فقالت لذي النون : ظننتك أولاً عاقلاً ، ثم عالماً ، ثم عارفاً ، ولم تكن كذلك ؛ أي : لا عاقلاً ولا عالماً ولا عارفاً.
قال ذو النون : ولم قالت : فإن العاقل لا يكون بغير وضوء لعلمه بفضائله ، والعالم لا ينظر إلى الحرام ، فإن العالم لا بد وأن يكون عاملاً ، والعارف لا يميل إلى غير الله ، فإن مقتضى العرفان أن لا يختار على المحبوب الحقيقي سواه لكون حسنه من ذاته ، وحسن ما سواه مستفاداً منه ، والغير وإن كان مظهراً لتجليه ، ولكن النظر إليه قيد والحضور في عالم الإطلاق هو التفريد الذي هو تقطيع الموحد عن الأنفس والآفاق :
خداست درد وجهان هست جاودان جامى
وما سواه خيال مزخرف باطل
نسأل الله سبحانه هذا التوحيد الحقيقي.
(8/100)
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال : يا محمد أشعرت أن الله يضع يوم القيامة السماوات على أصبع والأرضين على أصبع.
والجبال على أصبع.
والماء والثرى والشجر على أصبع وجميع الخلائق على أصبع ثم يهزهنّ.
ويقول : أنا الملك ابن الملوك ، فضحك رسول الله عليه السلام تعجباً منه وتصديقاً له ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي قوله تعالى :
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
القدر بمعنى : التعظيم ، كما في "القاموس".
فالمعنى : ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكاً بما لا يليق بشأنه العظيم.
ويقال : قدر الشيء قدره من التقدير كما في "المختار".
فالمعنى : ما قدروا عظمته تعالى في أنفسهم حق عظمته.
وقال الراغب في "المفردات" : ما عرفوا كنهه.
يقول الفقير : هذا ليس في محله ، فإن الله تعالى ، وإن كان لا يعرف حق المعرفة بحسب كنهه ، ولكن تتعلق به تلك المعرفة بحسبنا.
فالمعنى ها هنا : ما عرفوا الله حق معرفته بحسبهم لا بحسب الله إذ لو عرفوه بحسبهم ما أضافوا إليه الشريك ونحوه فافهم.
وفي "التأويلات النجمية" : ما عرفوا الله حق معرفته وما وصفوه حق وصفه ، وما عظموه حق تعظيمه ، فمن اتصف بتمثيل أو جنح إلى تعطيل حاد عن ألسنة المثلى ، وانحرف عن الطريقة الحسنى وصفوا الحق بالأعضاء ، وتوهموا في نعته الأجزاء ، فما قدروا الله حق قدره ، انتهى.
{وَالارْضُ جَمِيعًا} : حال لفظاً وتأكيد معنى ، ولذا قال أهل التفسير : تأكيد الأرض بالجميع ؛ لأن المراد بها : الأرضون السبع ، أو جميع أبعاضها البادية.
والغائرة ؛ أي : الظاهرة وغير الظاهرة من باطنها وظاهرها ووسطها.
قوله : والأرض مبتدأ خبره قوله : {قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} .
القبضة المرة من القبض ، أطلقت بمعنى القبضة ، وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضته.
وفي "المفردات" : القبض التناول بجمع الكف نحو قبض السيف ، وغيره ويستعار القبض لتحصيل الشيء ، وإن لم يكن فيه مراعاة الكف ، كقولك : قبضت الدار من فلان ؛ أي : حزتها.
قال الله تعالى : {وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} ؛ أي : في حوزه حيث لا تمليك للعبد.
انتهى.
تقول للرجل : هذا في يدك ، وفي قبضتك ؛ أي : في ملكك ، وإن لم يقبض عليه بيده.
والمعنى : والأرض جميعاً مقبوضة يوم القيامة ؛ أي : في ملكه وتصرفه من غير منازع يتصرف فيها تصرف الملاك في ملكهم ؛ وأنها ؛ أي : جميع الأرضين ، وإن عظمن ، فما هن بالنسبة إلى قدرته تعالى إلا قبضة واحدة.
ففيه تنبيه على غاية عظمته ، وكمال
134
قدرته وحقارة الأفعال بالنسبة إلى قدرته ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة حقيقة ، ولا مجازاً على ما في "الإرشاد" ونحوه.
وعلى هذه الطريقة قوله تعالى : {وَالسَّمَـاوَاتُ} مبتدأ {مَطْوِيَّـاتُ} خبره {بِيَمِينِهِ} متعلق بمطويات ؛ أي : مجموعات ومدرجات من طويت الشيء طياً ؛ أي : أدرجته إدراجاً ، أو مهلكات من الطي بمعنى مضى العمر ، يقال : طوى الله عمره.
وقوله : بيمينه ؛ أي : بقوته واقتداره ، فإنه يعبر بها عن المبالغة في الاقتدار ؛ لأنها أقوى من الشمال في عادة الناس كما في "الأسئلة المقحمة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم.
قال بعضهم : الآية من المتشابهات ، فلا مساغ لتأويلها وتفسيرها غير الإيمان بها كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ} (آل عمران : 7).
وقال أهل الحقيقة : المراد بهذه القبضة ، هي : قبضة الشمال المضاف إليها القهر والغضب ولوازمهما وعالم العناصر ، وما يتركب ويتولد منها.
ومن جملة ذلك صورة آدم العنصرية ، وأما روحانيته ، فمضافة إلى القبضة المسماة باليمين.
ودل على ما ذكر ذكر اليمين في مقابل الأرض ، وصح عن النبي عليه السلام إطلاق الشمال على إحدى اليدين اللتين خلق الله بهما آدم عليه السلام ، كما في "شرح الأربعين" حديثاً للشيخ الكبير قدس سره الخطير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بيده الأخرى ثم يهزهنّ ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض".
كما في "كشف الأسرار".
وفيه إشعار بإطلاق الشمال على اليد الأخرى ، فالشمال في حديثه عليه السلام ، والقبضة في هذه الآية واحدة.
(8/101)
فإن قلت : كيف التوفيق بينه وبين قوله عليه السلام : "كلتا يدي ربي يمين مباركة".
وقول الشاعر :
له يمينان عدلاً لا شمال له
وفي يمينه آجال وأرزاق
قلت : كون كل من اليدين يميناً مباركة بالإضافة إليه تعالى ، ومن حيث الآثار فيمين وشمال إذ لا تخلو الدنيا والآخرة من اللطف والقهر والجمال والجلال والبسط والقبض والروح والجسم والطبيعة والعنصر ، ونحو ذلك.
وظهر مما ذكرنا كون السماوات خارجة عن حدّ الدنيا لإضافتها إلى اليمين ، وإن كانت من عالم الكون والفساد ، اللهم إلا أن يقال : العناصر مطلقاً مضافة إلى الأرض المقبوضة بالشمال ، وأما ملكونها ، وهو باطنها كباطن آدم ، وباطن السماوات كالأرواح العلوية ، فمضاف إلى السماوات المقبوضة باليمين ، فالسماوات من حيث عناصرها داخلة في حدّ الدنيا.
{سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم ما يشركونه من الشركاء ، فما على الأول مصدرية ، وعلى الثاني موصولة.
سئل الجنيد قدس سره عن قوله : {وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ} ، فقال : متى كانت منشورة حتى صارت مطوية سبحانه نفى عن نفسه ما يقع في العقول من طيها ، ونشرها إذ كل الكون عنده كالخردلة ، أو كجناح بعوضة ، أو أقل منها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الزروقي رحمه الله : إذا أردت استعمال حزب البحر للسلامة من عطبه فقدم عند ركوبه : {اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (هود : 41) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله : {عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر : 67).
إذ قد جاء في الحديث : "إنه أمان من الغرق" ، ومن الله الخلاص.
يقول الفقير :
135
التخصيص : هو أن من عرف الله حق معرفته ، قد لا يحتاج إلى ركوب السفينة بأن يمشي على الماء ، كما وقع لكثير من أهل التصرف ، ففيه تنبيه على العجز وتعريف للقصور.
وأيضاً : أن الأرض إذا كانت في قبضته ، فالبحر الذي فوقها متصلاً بها يكون أيضاً في قبضته فينبغي أن يخاف من سطوته في كل مكان ، ويشتغل بذكره في كل آن بخلوص الجنان وصدق الإيقان.
يقال : إن الشرك جلي وخفي ، فالجلي من العوام الكفر والخفي منهم التوحيد باللسان مع اشتغال القلب بغير الله تعالى ، وهو شرك جلي من الخواص ، والخفي منهم الالتفات إلى الدنيا وأسبابها ، وهو جلي من أخص الخواص والخفي منهم الالتفات إلى الآخرة.
يقال : إن السبب لانشقاق زكريا عليه السلام في الشجرة كان التفاته إلى الشجرة حيث قال : اكتميني أيتها الشجرة كما أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ، فلبث في السجن بضع سنين ، فاقطع نظرك عما سوى الله ، وانظر إلى حال الخليل عليه السلام ؛ فإنه لما ألقي في النار أتاه جبرائيل.
وقال : ألك حاجة يا إبراهيم؟ فقال : أما إليك ، فلا فجعل الله له النار برداً وسلاماً ، وكان قطباً وإماماً :
نكر تاقضا ازكجا سير كرد
كه كورى بود تكيه برغير كرد
قال عبد الواحد بن زيد لأبي عاصم البصري رحمه الله : كيف صنعت حين طلبك الحجاج.
قال : كنت في غرفتي ، فدقوا عليَّ الباب ودخلوا ، فدفعت بي دفعة ، فإذا أنا على أبي قبيس بمكة ، فقال عبد الواحد : من أين كنت تأكل.
قال : كانت تأتي إليّ عجوز وقت إفطاري بالرغيفين الذين كنت آكلهما بالبصرة.
قال عبد الواحد : تلك الدنيا أمرها الله أن تخدم أبا عاصم هكذا حال من توكل على الله وانقطع إليه عما سواه ، فالله لا يخيب عبداً لا يرجو إلا إياه.
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} .
المراد : النفخة الأولى التي هي للإماتة بقرينة النفخة الآتية التي هي للبعث والنفخ نفخ الريح في الشيء.
وبالفارسية : (دميدن).
يقال : نفخ بفمه ، أخرج منه الريح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والنفخ في القرآن على خمسة أوجه :
الأول : نفخ جبريل عليه السلام في جيب مريم عليها السلام كما قال تعالى : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء : 91) ؛ أي : نفخ جبرائيل في الجيب بأمرنا فسبحان من أحبل رحم امرأة وأوجد فيها ولداً بنفخ جبرائيل.
والثاني : نفخ عيسى عليه السلام في الطين كما قال تعالى : {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران : 49).
وهو الخفاش ، فسبحان من حول الطين طيراً بنفخ عيسى.
والثالث : نفخ الله تعالى في طين آدم عليه السلام كما قال تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ؛ أي : أمرت الروح بالدخول فيه ، والتعلق به فسبحان من أنطق لحماً وأبصر شحماً ، واسمع عظماً وأحيا جسداً بروح منه.
والرابع : نفخ ذي القرنين الحديد في النار كما قال تعالى حكاية عنه.
{قَالَ انفُخُوا} (الكهف : 96) الآية ، فسبحان من حول قطعة حديد ناراً بنفخ ذي القرنين.
(8/102)
والخامس : نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور ، كما قال تعالى : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} ، فسبحان من أخرج الأرواح من الأبدان بنفخ واحد كما يطفأ السراج بنفخ واحد ، وتوقد النار بنفخ واحد وسبحان من رد الأرواح إلى الأبدان بنفخ واحد.
وهذا كله دليل على قدرته التامة العامة.
والصور : قرن من نور ألقمه الله إسرافيل ، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى ، وله جناج بالمشرق وجناح بالمغرب ، والعرش على كاهله ، وإن قدميه قد خرجنا من الأرض السفلى حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام على ما رواه وهب وعظم دائرة القرن مثل ما بين السماء والأرض.
وفي "الدرة الفاخرة" للإمام الغزالي
136
رحمه الله : الصور قرن من نور له أربع عشرة دائرة.
الدائرة الواحدة كاستدارة السماء والأرض فيه ثقب بعدد أرواح البرية وباقي ما يتعلق بالنفخ.
والصور قد سبق في سورة الكهف والنمل فارجع.
{فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} .
يقال : صعق الرجل إذا أصابه فزع ، فأغمي عليه وربما مات منه ، ثم استعمل في الموت كثيراً كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال في "المختار" صعق الرجل بالكسر صعقة غشي عليه.
وقوله تعالى : {فَصَعِقَ مَن} إلخ.
أي : مات.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فالمعنى : خروا أمواتاً من الفزع وشدة الصوت.
{إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ} جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ، فإنهم يموتون من بعد.
قال السدي : وضم بعضهم إليهم ثمانية من حملة العرش ، فيكون المجموع اثني عشر ملكاً وآخرهم موتاً ملك الموت.
وروى النقاش : إنه جبرائيل كما جاء في الخبر أن الله تعالى يقول حينئذٍ : يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل.
ثم يقول : من بقي؟ ، فيقول : بقي جبرائيل وميكائيل وملك الموت.
فيقول : خد نفس ميكائيل حتى يبقى ملك الموت وجبرائيل ، فيقول : تعالى مت يا ملك الموت ، فيموت.
ثم يقول : يا جبرائيل من بقي؟ فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الدائم الباقي ، وجبرائيل الميت الفاني ، فيقول : يا جبرائيل لابد من موتك ، فيقع ساجداً يخفق بجناحيه ، فيموت ، فلا يبقى في الملك حي من إنس وجن وملك غيرهم ، إلا الله الواحد القهار.
وقال بعض المفسرين : المستثنى الحور والولدان وخزنة الجنة والنار وما فيهما ؛ لأنهما وما فيهما خلقاً للبقاء والموت لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار ، ولا تكليف على أهل الجنة ، فتركوا على حالهم بلا موت.
وهذا الخطاب بالصعق متعلق بعالم الدنيا والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقاً للبقاء فهما بمعزل عما خلق للفناء ، فلم يدخل أهلهما في الآية ، فتكون آية الاستثناء مفسرة لقوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88) : و{كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185) ، وغيرهما من الآيات فلا تناقض.
يقول الفقير : يرد عليه أنه كيف يكون هذا الخطاب بالصعق متعلقاً بعالم الدنيا ، وقد قال الله تعالى : {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ} ، وهي أي : السماوات خارجة عن حدّ الدنيا ، ولئم سلم بناء على أن السماوات السبع كالأرض من عالم الكون والفساد ، فيبقى الفلك الثامن الذي هو الكرسي والتاسع الذي هو العرش خارجين عن حدّ الآية ، فيلزم أن لا يفنى أهلهما عموماً وخصوصاً من الملائكة الذين لا يحصي عددهم إلا الله على أنهم من أهل التكليف أيضاً.
قال الإمام النسفي في "بحر الكلام" : قال أهل الحق ؛ أي : أهل السنة والجماعة سبعة لا تفنى العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وأهلهما من ملائكة الرحمة والعذاب والأرواح ؛ أي : بدلالة هذه الآية.
وقال شيخ العلماء الحسن البصري قدس سره : المراد بالمستثنى هو الله تعالى وحده ، ويؤيده ما قاله الغزالي رحمه الله : حدثني من لا أشك في علمه أن الاستثناء واقع عليه سبحانه خاصة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
يقول الفقير : فيه بعد من حيث الظاهر ؛ لأنه يلزم أن يشاء الله نفسه ، فيكون شائياً ومشيئاً ، وقد أخرجوه في نحو قوله تعالى : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة : 284) : و{اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الرعد : 16) ، وغيرهما.
والله ليس من أهل السماوات والأرض ، وإن كان إلهاً ، فهي كما قال : {وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ} (الزخرف : 84).
وقال بعض المحققين : الصعق أعم من الموت ، فلمن لم يمت الموت ، ولمن مات الغشية ، فإذا نفخ الثانية ، فمن مات حي ومن غشي عليه أفاق ، وهو القول المعوّل عليه عند ذوي التحقيق.
يقول الفقير :
137
فيدخل إدريس عليه السلام ، فإنه مات ثم أحيي وأدخل الجنة ، فتعمه الغشية دون الموت إلا أن يكون ممن شاء الله ، وأما موسى عليه السلام ، فقد جزي بصعقته وغشيته في الطور ، فالموت عام لكل أحد إذ لو بقي أحد لأجاب الله تعالى ، حيث يقول : لمن الملك اليوم ، فقال : الواحد القهار.
(8/103)
قال في "أسئلة الحكم" ، وأما قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88) ، فمعناه عند المحققين قابل للهلاك ، فكل محدث قابل لذلك ، بل هالك دائم وعدم محض بالنسبة إلى وجه نفسه إذ لكل شيء وجهان : وجه إلى نفسه ، ووجه إلى ربه.
)
فالوجه الأول هالك ، وعدم والثاني عين ثابت في علمه قائم بربه ، وإن كان له ظل ظاهر ، فكل محدث قابل للهلاك ، والعدم ، وإن لم يهلك وينعدم بخلاف القديم الأزلي.
ويؤيد ذلك المعنى أن العرش لم يرو فيه خبر بأنه يهلك ، فلتكن الجنة مثله.
يقول الفقير : أما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم.
قال : هم الشهداء المتقلدون أسيافهم حول العرش" ، كما في "كشف الأسرار" ، وكذا ما قال جعفر الصادق رضي الله عنه أهل الاستثناء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأهل بيته وأهل المعرفة.
وما قال بعضهم : هم أهل التمكين والاستقامة.
كل ذلك وما شاكله ، فمبني على تفسير الصعق بالغشي إذ الشهداء ونحوهم من الصديقين ، وإن كانوا أحياء عند ربهم لكنهم لا يذوقون الموت مرة أخرى ، وإلا لتحققوا بالعدم الأصلي ، وهو مخالف لحكمة الله تعالى ، وإنما شأنهم الفزع والغشيان ، فيحفظهم الله تعالى عن ذلك ، فالأرواح والأحياء مشتركون في ذلك إلا من شاء الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
حكي أن واحداً رؤي في المنام ذا شيب ، وكان قد مات وهو شاب ، فقيل له في ذلك ، فقال : لما قبر المرسي القائل بخلق القرآن في قبره في هذه المقبرة هجمت عليه جهنم بغيظ وزفير ، فشاب شعري من ذلك الفزع والهول ، وله نظائر كثيرة ، ودخل في الأرواح من يقال لهم : الأرواح العالية المهيمة ، فإنهم لا يموتون لكونهم أرواحاً ، ولا يغشى عليهم ، إذ ليس لهم خبر عما سوى الله تعالى ، بل هم المستغرقون في بحر الشهود ، فعلى هذا يكون المراد بالنفخة في الآية نفخة غير نفخة الإماتة ، وسيأتي البيان في النفخات.
فإن قلت : فما الفرق بين الصعق الذي في هذه الآية ، وبين الفزع الذي في آية النمل ، وهي قوله تعالى : {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} (النمل : 87).
قلت : لا شك أن الصعق بمعنى الموت غير الفزع ، وكذا بمعنى الغشي إذ ليس كل من له فزع مغشياً عليه ، هذا ما تيسر لي في هذا المقام ، وحقيقة العلم عند الله الملك العلام.
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} نفخة أخرى هي النفخة الثانية على الوجه الأول وأخرى.
يحتمل النصب على أن يكون الظرف قائماً مقام الفاعل ، وأخرى صفة لمصدر منصوب على المفعول المطلق والرفع على أن يكون المصدر المقدر قائماً مقام الفاعل.
{فَإِذَا هُمْ} ؛ أي : جميع الخلائق.
{قِيَامٌ} جمع : قائم ؛ أي : قائمون من قبورهم على أرجلهم أو متوقفون ، فالقيام بمعنى الوقوف والجمود في مكانهم لتحيرهم.
{يَنظُرُونَ} يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين ، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، ويقال : ينظرون إلى السماء كيف غيرت ، وإلى الأرض كيف بدلت ، وإلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب ، وإلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم ، واشتغلوا بأنفسهم ، وإلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.
وفي الحديث : "أنا أول من ينشق عنه القبر" ، وأول من يحيا من
138
الملائكة إسرافيل لينفخ في الصور".
"وأول من يحيا من الدواب براق النبي عليه السلام".
"وأول من يستظل في ظلّ العرش رجل أنظر معسراً ومحا عنه".
"وأول من يرد الحوض فقراء الأمة والمتحابون في الله" ، "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه السلام ؛ لأنه ألقي في النار عرياناً".
"وأول من يكسى حلة من النار إبليس" ، "وأول من يحاسب جبرائيل ؛ لأنه كان أمين الله إلى رسله" ، "وأول ما يقضى بين النار في الدماء".
"وأول ما يحاسب به الرجل صلاته" ، "وأول ما تسأل المرأة عن صلاتها ، ثم بعلها" ، "وأول ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم ؛ بأن يقال له : ألم أصحح جسمك وأروك من الماء البارد".
"وأول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن" ، "وأول ما يوضع في الميزان العبد نفقته على أهله" ، "وأول ما يتكلم من الآدمي ، فخذه وكفه".
"وأول خصمين جاران" ، "وأول من يشفع يوم القيامة الأنبياء" ، ثم العلماء ، ثم الشهداء ، "وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه" ، "وأول من يسلم عليه الحق ، ويصافحه عمر رضي الله عنه" ، "وأول من يدخل من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "المدارك" : دلت الآية على أن النفخة اثنتان : الأولى للموت ، والثانية : للبعث.
والجمهور على ثلاث :
الأولى : للفزع كما قال : {يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ} (النمل : 87).
والثانية : للموت.
والثالثة : للإعادة.
انتهى.
فإن كانت النفخة اثنتين يكون معنى صعق خروا أمواتاً ، وإن كانت ثلاثاً ، يكون معناه مغشياً عليهم ، فتكون هذه النفخة ؛ أي : الثالثة بعد نفخة الإحياء يوم القيامة كما ذهب إليه البعض.
(8/104)
وقال سعد المفتي : دل ظاهر الأحاديث على أن النفخات أربع المذكورتان في سورة يس للإماتة ، ثم الإحياء.
ونفخة للإرعاب والإرهاب ، فيغشى عليهم ، ثم للإفاقة والإيقاظ ، والذي يفهم من خريدة العجائب : أن نفخة الفزع هي أولى النفخات ، فإنه إذا وقعت أشراط الساعة ، ومضت أمر الله صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع ، ويديمها ويطولها ، فلا يبرح كذا عاماً يزداد الصوت كل يوم شدة ، فيفزع الخلائق وينحازون إلى أمهات الأمصار ، وتعطل الرعاة السوائم ، وتأتي الوحوش والسباع ، وهي مذعورة من هول الصيحة ، فتختلط بالناس ، ويؤول الأمر إلى تغير الأرض والسماء عما هما عليه ، وبين نفخة الفزع.
والنفخة الثانية : أربعون سنة ، ثم تقع نفخة الثانية ، والثالثة : وبينهما أربعون سنة ، أو شهراً ، أو يوماً ، أو ساعة.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : اختلف الناس في أمد المدة الكائنة بين النفختين ، فاستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة.
وحدثني من لا أشك في علمه : أن أمد ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى ؛ لأنه من أسرار الربوبية ، فإذا أراد الله إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة ، فتمطر به الأرض ، فإذا هو كمنيّ الرجال بعد أن كانت عطشى فتحيا وتهتز ، ولا يزال المطر عليها حتى يعمها ، ويكون الماء فوقها أربعين ذراعاً ، فإذا الأجسام تنبت من عجب الذنب ، وهو أول ما يخلق من الإنسان بدىء منه.
ومنه يعود وهو عظم على قدر الحمصة ، وليس له مخ ، فإذا نبت كما نبت البقل تشتبك بعضها في بعض ، فإذا رأس هذا على منكب هذا ، ويد هذا على جنب هذا ، وفخذ هذا على حجر هذا لكثرة البشر ، والصبي صبي ، والكهل كهل ، والشيخ شيخ ، والشاب شاب ، ثم تهب ريح من تحت العرش فيها نار ، فتنسف ذلك عن الأرض ، وتبقى الأرض بارزة مستوية ؛ كأنها صحيفة واحدة ، ثم يحيي الله إسرافيل ، فينفخ
139
في الصور من صخرة بيت المقدس ، فتخرج الأرواح لها دويّ كدويّ النحل ، فتملأ الخافقين ، ثم تذهب كل نفس إلى جثتها بإعلام الله تعالى حتى الوحش والطير ، وكل ذي روح ، فإذا الكل قيام ينظرون ، ثم يفعل الله بهم ما يشاء.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جودرخا كدان لحد خفت مرد
قيامت بيفشاند از موى كرد
سرازجيب غفلت برآور كنون
كه فردا نماند بحسرت نكون
بران ازدوسر جشمه ديده جوى
ور آلايشي دارى ازخود بشوى
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـابُ وَجِا ىاءَ بِالنَّبِيِّـانَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
{وَأَشْرَقَتِ الارْضُ} : صارت عرصات القيامة مشرقة ومضيئة.
وذلك حين ينزل الله على كرسيه لفصل القضاء بين عباده.
{بِنُورِ رَبِّهَا} : النور : الضوء المنتشر المعين على الإبصار ؛ أي : بما أقام فيها من العدل.
استعير له النور ؛ لأنه يزين البقاع ، ويظهر الحقوق كما يسمى الظلم ظلمة.
وفي الحديث : "الظلم ظلمات يوم القيامة" يعني : شدائده يعني : الظلم سبب لشدائد صاحبه ، أو الظلم سبب لبقاء الظالم في الظلمة حقيقة ، فلا يهتدي إلى السبيل حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم ، ولكون المراد بالنور العدل أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض ، فإن تلك الإضافة إنما تحسن إذا أريد به تزين الأرض بما ينشر فيها من الحكم والعدل ، أو المعنى : أشرقت بنور خلقه الله في الأرض يوم القيامة بلا توسط أجسام مضيئة كما في الدنيا ، يعني : يشرق بذلك النور وجه الأرض المبدلة بلا شمس ولا قمر ، ولا غيرهما من الأجرام المنيرة ، ولذلك ؛ أي : ولكون المعنى ذلك.
أضيف ؛ أي : النور إلى الاسم الجليل.
وقال سهل : قلوب المؤمنين يوم القيامة تشرق بتوحيد سيدهم والاقتداء بسنة نبيهم.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ} : أرض الوجود {بِنُورِ رَبِّهَا} إذا تجلى لها.
وقال بعضهم : هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، كما في "تفسير أبي الليث".
{وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} ؛ أي : الحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال في الإيمان والشمائل ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع إذ لكل أحد كتاب على حدة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والكتاب في الأصل : اسم للصحيفة مع المكتوب فيه.
وقيل : وضع الكتاب في الأرض بعدما كان في السماء.
يقول الفقير : هذا على إطلاقه غير صحيح ؛ لأن كتاب الأبرار في عليين ، وكتاب الفجار في سجين ، فالذي في السماء يوضع في الأرض حتى اللوح المحفوظ ، وأما ما في الأرض فعلى حاله.
{وَجِا ىاءَ بِالنَّبِيِّـانَ} : الباء للتعدية.
{وَالشُّهَدَآءِ} للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين.
(8/105)
وفيه إشارة إلى أن النبيين والشهداء ، إذا دعوا للقضاء والحكومة والمحاسبة ، فكيف يكون حال الأمم وأهل المعاصي والذنوب.
دران روز كز فعل برسند وقول
أولوا العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
تو عذر كنه را جه دارى بيا
{وَقُضِىَ} .
(حكم كرده شود).
{بَيْنَهُم} ؛ أي : بين العباد.
{بِالْحَقِّ} : بالعدل.
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب ، وزيادة عقاب على ما جرى به الوعد ، وكما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم.
{وَوُفِّيَتْ} (وتمام داده شود).
{كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس المكلفة.
{مَّا عَمِلَتْ} ؛ أي : جزاء ما عملت من الخير والشر والطاعة والمعصية.
{وَهُوَ} تعالى {أَعْلَمُ}
140
منهم ومن الشهداء {بِمَا يَفْعَلُونَ} إذ هو خالق الأفعال ، فلا يفوته شيء من أفعالهم ، وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة عليهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا كان يوم القيامة بدل الله الأرض غير الأرض ، وزاد في عرضها وطولها كذا وكذا ، فإذا استقر عليها أقدام الخلائق برّهم وفاجرهم أسمعهم الله كلامه يقول : إن كتابي كانوا يكتبون ما أظهرتم ، ولم يكن لهم علم بما أسررتم ، فأنا عالم بما أظهرتم وبما أسررتم ، ومحاسبكم اليوم على ما أظهرتم ، وعلى ما أسررتم ، ثم أغفر لمن شاء منكم.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الملك لا سبيل له إلى معرفة باطن العبد في قول أكثرهم.
وقال في "ريحان القلوب" : الذكر الخفي ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت ، وهو خاص به صلى الله عليه وسلّم ومن له به أسوة حسنة.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
يقول الفقير : لا شك أن الحفظة تستملي من خزنة اللوح المحفوظ ، فيعرفون كل ما وقع من العبد من فعل ظاهر وعزم باطن ، ولكن يجوز أن يكون من الأسرار ما لا يطلع عليه غيره سبحانه وتعالى.
واعلم أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى : أين اللوح المحفوظ؟ فيؤتى به وله صوت شديد ، فيقول الله : أين ما سطرت فيك من توراة وزبور وإنجيل وفرقان؟ فيقول : يا رب ، نقله مني الروح الأمين ، فيؤتى به ، وهو يرعد وتصطك ركبتاه ، فيقول الله تعالى : يا جبريل ، هذا اللوح يزعم أنك نقلت منه كلامي ووحيي أصدق؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول : فما فعلت فيه؟ فيقول : أنهيت التوراة إلى موسى والزبور إلى داود والإنجيل إلى عيسى والقرآن إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وأنهيت إلى كل رسول رسالته ، وإلى أهل الصحف صحائفهم ، فإذا النداء : يا نوح ، فيؤتى به ترعد فرائصه وتصطك ركبتاه ، فيقول : يا نوح زعم جبرائيل أنك من المرسلين.
قال : صدق يا رب ، فقال : فما فعلت مع قومك؟ قال : دعوتهم ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، فإذا النداء : يا قوم نوح ، فيؤتى بهم زمرة واحدة ، فيقول لهم : هذا نوح زعم أنه بلغكم الرسالة ، فيقولون : يا رب كذب ما بلغنا شيئاً ، ثم ينكرون الرسالة ، ثم يقول الله تعالى : يا نوح ألك بينة عليهم؟ فيقول : نعم يا رب ، بيّنتي عليهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته ، فيقولون : كيف ذلك ونحن أول الأمم وهم آخر الأمم ، فيؤتى بالنبي عليه السلام ، فيقول الله تعالى : يا محمد هذا نوح يستشهد بك ، فيشهد له بتبليغ الرسالة ، ويتلو : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (نوح : 1) إلى آخر السورة ، فيقول الله تعالى : قد وجب عليكم الحق وحقت كلمة العذاب على الكافرين ، فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن أعمال ووضع حساب ، وهكذا يفعل بسائر الأمم أجمعين ، فإن القرآن نطق بهم وبأحوالهم.
وقد جاء : أن رجلاً يقف بين يدي الله ، فيقول : يا عبد السوء كنت مجرماً عاصياً ، فيقول : لا ، والله ما فعلت فيقال له : عليك بينة ، فيؤمر بحفظته ، فيقول : كذبوا عليّ ، فتشهد جوارحه عليه ويؤمر به إلى النار ، فيجعل يلوم جوارحه ، فيقولون : ليس من اختيارنا ، أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
وهكذا يشهد الزمان والمكان ونحوهما ، فطريق الخلاص أن لا تشهد اليوم غير الله وتشتغل بذكره وطاعته عما سواه.
قال الشيخ سعدي :
دريغست كه فر موده ديو زشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
روا دارى از جهل ونا باكيت
كه باكان نويسند ناباكيت
141
طريقي بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد امان
جو بيمانه برشد بدور زمان
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا قَالُوا بَلَى وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
(8/106)
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} مع إمامهم حال كونهم {زُمَرًا} : جماعة جماعة ، وبالفارسية : (كروه كروه) ، جمع زمرة ، وهي الجمع القليل.
ومنه قيل : شاة زمرة قليلة الشعر ، واشتقاقها من الزمر ، وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه.
والسوق بالفارسية : (راندن) ؛ أي : سيقوا إليها بعد إقامة الحساب بأمر يسير من قبلنا.
وذلك بالعنف والإهانة حال كونهم أفواجاً متفرقة بعضها في إثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة وتتلقاهم جهنم بالعبوسة ، كما تلقوا الأوامر والنواهي والآمرين والناهين بمثل ذلك.
{حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} حتى هي التي تحكى بعد الجملة.
يعني : (تاجون بيايند بدوزخ بر صفت دلت وخوارى).
وجواب إذا قوله : {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} السبعة ليدخلوها كما قال تعالى : {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} () ، وفائدة إغلاقها إلى وقت مجيئهم تهويل شأنها ، وإيقاد حرها.
قال في "أسئلة الحكم" : أهل النار يجدونها مغلقة الأبواب كما هي حال السجون ، فيقفون هناك حتى يفتح لهم إهانة لهم وتوبيخاً.
يقول الفقير : هذا من قبيل العذاب الروحاني ، وهو أشد من العذاب الجسماني ، فليس وقوفهم عند الأبواب أولى لهم من تعجيل العذاب يؤيده أن الكافر حين يطول قيامه في شدة وزحمة وهول ، يقول : يا رب أرحني ولو كان بالنار.
وفيه إشارة إلى الأوصاف الذميمة النفسانية السبعة : وهي الكبر والبخل والحرص والشهوة والحسد والغضب والحقد ، فإنها أبواب جهنم وكل من يدخل فيها لا بد له من أن يدخل من باب من أبوابها ، فلا بد من تزكيتها وتخلية النفس عنها.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ} تقريعاً وتوبيخاً في الإيلام والتوجيع واحدها خازن ، وهو حافظ الخزانة وما فيها.
والمراد : حفظة جهنم وزبانيتها وهم : الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} من جنسكم آدميون مثلكم ليسهل عليكم مراجعتهم وفهم كلامهم.
{يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ} ، وهو ما أنزل الله على الأنبياء.
{وَيُنذِرُونَكُمْ} يخوفونكم.
{لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا} ؛ أي : وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة.
وذلك لأن الإضافة اللامية تفيد الاختصاص ، ولا اختصاص ليوم القيامة بالكفار.
وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة ، فلذلك حمل على الوقت.
وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث أنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب.
{قَالُوا بَلَى} .
قد أتونا وتلوا علينا.
وأنذرونا فأقرّوا في وقت لا ينفعهم الإقرار والاعتراف.
{وَلَـاكِنْ حَقَّتْ} : وجبت {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} ، وهي قوله تعالى لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85).
{عَلَى الْكَـافِرِينَ} : وقد كنا ممن تبع إبليس ، فكذبنا الرسل.
وقلنا : ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا تكذبون.
امروز قدر بد عزيزان شناختيم
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا} ؛ أي : مقدراً خلودكم فيها وإبهام القائل لتهويل المقول.
وفيه إشارة إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إظهاراً لصفة القهر أن يخلق النار ، ويخلق
142
لها أهلاً ، كما أنه تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً إظهاراً لصفة اللطف ، فلهذه الحكمة.
قيل في الأزل قهراً وقسراً : ادخلوا أبواب جهنم.
وهي الصفات الذميمة السبع التي مرّ ذكرها خالدين فيها بحيث لا يمكن الخروج من هذه الصفات الذميمة بتبديلها كما يخرج المتقون منها.
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ؛ أي : بئس منزل المتكبرين عن الإيمان والطاعة والحق جهنم.
وبالفارسية : (بد آرا مكاهست متكبرا نرا دوزخ).
واللام : للجنس ، ولا يقدح ما فيه من الإشعار بأن كونهم مثواهم جهنم لتكبرهم عن الحق في أن دخولهم النار بسبق كلمة العذاب عليهم ، فإنها إنما حقت عليهم بناء على تكبرهم وكفرهم فتكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عن ذلك السبق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه إشارة إلى أن العصاة صنفان : صنف منهم متكبرون ، وهم المصرون متابعوا إبليس فلهم الخلود في النار.
وصنف منهم متواضعون ، وهم التائبون متابعوا آدم ، فلهم النجاة.
وبهذا الدليل ثبت أن ليس ذنب أكبر بعد الشرك من الكبر ، بل الشرك أيضاً يتولد من الكبر كما قال تعالى : {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 34).
وهذا تحقيق قوله تعالى : (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما ألقيته في النار).
ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلّم "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر" ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً.
قال : "إن الله جميل يحب الجمال".
الكبر : بطر الحق وغمط الناس ؛ أي : تضييع الحق في أوامر الله ونواهيه ، وعدم تقاته واستحقار الناس وتعييبهم.
ذكر الخطابي في تأويل الحديث وجهين :
(8/107)
أحدهما : أن المراد التكبر عن الإيمان.
والثاني : أن ينزع عنه الكبر بالتعذيب ، أو بالعفو ، فلا يدخل الجنة مع أن يكون في قلبه مثقال ذرة منه كما قال تعالى : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (الأعراف : 43) ، ويمكن أن يقال : معناه أن الكبر مما لو جازى الله بأدنى مقداره لكان جزاؤه عدم دخول الجنة ، ولكن تكرم بأن لا يجازي به ، بل يدخل كل موحد الجنة كذا في "شرح المشارق" لابن الملك.
يقول الفقير : إن الحديث واقع بطريق التغليظ والتشديد.
والوجه الثاني للخطابي بعيد لكون جميع الخطايا كذلك ، فلا معنى حينئذٍ للتخصيص.
قال المولى الجامي :
جمعست خيرها همه درخانه ونيست
آن خانه راكليد بغير از فروتنى
شرها بدين قياس بيك خانه است جمع
وانرا كليد نيست بجز مائى ومنى
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ} .
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} حال كونهم.
{زُمَرًا} جماعات متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة ، وذلك قبل الحساب أو بعده يسيراً ، أو شديداً ، وهو الموافق لما قبل الآية من قوله : {وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} والسائقون : هم الملائكة بأمر الله تعالى يسوقونهم مساق إعزاز وتشريف بلا تعب ولا نصب ، بل بروح وطرب للإسراع بهم إلى دار الكرامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والمراد : المتقون عن الشرك ، فهؤلاء عوام أهل الجنة وفوق هؤلاء من قال الله تعالى فيهم : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الشعراء : 90).
وفوقهم من قال فيهم : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْدًا} (مريم : 85).
وفرق بين من يساق إلى الجنة وبين من قرب إليه الجنة.
وفي الحقيقة أهل السوق هم الظالمون وأهل الزلفة المقتصدون ، وأهل الوفاء السابقون.
واعلم أنه إذا نفخ في الصور نفخة الإعادة واستوى كل واحد من الناس على قبره يأتي كل منهم عمله ، فيقول له : قم وانهض إلى المحشر ،
143
فمن كان له عمل جيد يشخص له عمله بغلاً.
ومنهم من يشخص له عمله حماراً.
ومنهم من يشخص له عمله كبشاً تارة يحمله وتارة يلقيه ، وبين يدي كل واحد منهم نور شعشعاني كالمصباح وكالنجم وكالقمر وكالشمس بقدر قوة إيمانهم وصلاح حالهم ، وعن يمينه مثل ذلك النور ، وليس عن شمائلهم نور ، بل ظلمة شديدة يقع فيها الكفار والمرتابون والمؤمن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور ، ويهتدي به في تلك الظلمة.
ومن الناس من يسعى على قدميه وعلى طرف بنانه.
قيل لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يحشر الناس يا رسول الله ، قال : "اثنان على بغير وخمسة على بغير وعشرة على بعير".
وذلك أنهم إذا اشتركوا في عمل يخلق الله لهم من أعمالهم بعيراً يركبون عليه كما يبتاع جماعة مطية يتعاقبون عليها في الطريق ، فاعمل هداك الله عملاً يكون لك بعيراً خالصاً من الشرك.
ومنه يعلم حال التشريك في ثواب العمل ، فالأولى أن يهدى من المولى لكل ثواب على حدة من غير تشريك الآخر فيه.
روي : أن رجلاً من بني إسرائيل ورث من أبيه مالاً كثيراً ، فابتاع بستاناً ، فحبسه على المساكين.
وقال : هذا بستاني عند الله وفرق دراهم عديدة في الضعفاء.
وقال : اشترى بها من الله جواري وعبيداً وأعتق رقاباً كثيرة ، وقال : هؤلاء خدمي عند الله والتفت يوماً إلى رجل أعمى يمشي تارة ويكب أخرى ، فابتاع له مطية يسير عليها.
وقال : هذه مطيتي عند الله أركبها.
قال عليه السلام في حقه : "والذي نفسي بيده لكأنني أنظر إليها ، وقد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها ويسير بها إلى الموقف" :
در خير بازست وطاعت وليك
نه هركس تواناست بر فعل نيك
{حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} .
(تاجون بيايند به بهشت).
{وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ؛ أي : والحال أنه قد فتحت أبوابها الثمانية لئلا يصيبهم وصب الانتظار مع أن دار الفرح والسرور لا تغلق للأضياف والوافدين باب الكرم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فإن قلت : يرد على كون أبواب الجنان مفتحة لهم عند مجيئهم إليها قوله عليه السلام : "أنا أول من يستفتح باب الجنة".
قلت : قد حصل الفتح المقدم على الوصول بدعوته عليه السلام بالاستقتاح ، ولو لم يكن دعاؤه قد سبق لما فتحت ، ثم تبقى الأبواب بدعائه مفتوحة إلى أن يفرغ من الحساب ، فإذا جاء أهل الجنة بعد الحساب والصراط يجدونها مفتوحة ببركة دعائه المقدم على ذلك.
وفي الحديث : "أنا أول من يقرع باب الجنة ، "والجنة محرمة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي الأول ، فالأول".
(8/108)
يقول الفقير : أولية الاستفتاح والقرع تمثيل لأولية الدخول ، فلا حاجة إلى توجيه آخر.
وعرف كون أبواب الجنة ثمانية بالأخبار كما قال عليه السلام : "إن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلا بينهما سير الراكب سبعين عاماً وما بين كل مصراعين من مصارع الجنة مسيرة سبع سنين".
وفي رواية : "مسيرة أربعين سنة".
وفي رواية : "كما بين مكة وبصرى".
وقيل : عرف بواو الثنانية ، وفيه أن واو الثمانية غير مطردة.
وقد سبق ما يتعلق بهذه الواو في آخر سورة التوبة.
قال بعضهم : كون أبواب النار سبعة وأبواب الجنة ثمانية ؛ لأن الجنة منه تعالى فضل ، والنار عد والفضل أكثر من العدل ، والجنة من الرحمة والنار من الغضب والرحمة سابقة وغالبة على الغضب.
وقيل : ليس في النار إلا الجزاء ،
144
والزيادة في العذاب جور ، وفي الثواب كرم.
وقيل : لأن الأذان سبع كلمات ، والإقامة ثمان.
كذلك أبواب جهنم سبعة وأبواب الجنة ثمانية ، فمن أذن وأقام غلقت عنه أبواب النيران السبعة ، وفتحت له أبواب الجنة الثمانية.
وجواب إذا محذوف ؛ أي : كان ما كان مما يقصر عنه البيان.
وقال بعضهم : وفتحت جواب إذا ، والواو زائدة للإيذان بأنها كانت مفتحة عند مجيئهم.
{وَقَالَ لَهُمْ} ؛ أي : للمتقين عند دخولهم الجنة.
{خَزَنَتُهَآ} حفظة الجنة رضوان وغيره من الملائكة.
{سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} من جميع المكاره والآلام ، فهو خبر لا تحية.
وقال الكاشفي : (درود برشما باسلامتى وايمنى لازم حال شما).
وهذا لعوام أهل الجنة وأما لخواصهم ، فيقول الله : سلام قولاً من رب رحيم ، فإن السلام في الجنة من وجوه : فالسلام الأول ، وإن كان سلام الله ، ولكن بالواسطة.
والثاني : سلام خاص بلا واسطة بعد دخولهم في الحضرة.
{طِبْتُمْ} طهرتم من دنس المعاصي أو طبتم نفساً ، بما أتيح لكم من النعيم (واز حضرت مرتضى كرم الله وجه منقولست جون بهشتيان بدير بهشت رسند انجادر ختى بينندكه ارزيران دو جشمه بيرن مى أيدبس دريك جشمه غسل كنند ظاهر ايشان يا كيزه شود واز ديكرى بياشامند باطن ايشان منور ومطهر كردد ودرين حال ملائكة كويند باك شديد بظاهر وباطن) {فَادْخُلُوهَا} ؛ أي : الجنة {خَـالِدِينَ} .
والفاء : للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم سواء كان طيباً بعفو وبتعذيب إذ كل منهما مطهر ، وإنما طهر ظاهرهم لحسن إقرارهم وأعمالهم البدنية وباطنهم لحسن نياتهم وعقائدهم ، وفي "عرائس البقلي" : ذكر الله وصف غبطة الملائكة على منازل الأولياء والصديقين.
وذلك قوله سلام عليكم طبتم ؛ أي : أنتم في مشاهدة جماله أبداً طيبين بلذة وصاله سالمين عن الحجاب ، وذلك أن الله تعالى قد أحسن إلى النبيين والمرسلين وأفاضل المؤمنين بالمعارف والأحوال والطاعات والإذعان ونعيم الجنان ورضى الرحمن ، والنظر إلى الديان مع سماع تسليمه وكلامه وتبشيره بتأييد الرضوان ، ولم يثبت للملائكة مثل ذلك :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
ملائك راجه سوداز حسن طاعت
جو فيض عشق بر آدم فروريخت
ومن آثار العشق كونه مأموراً بالجهاد والصبر على البلايا والمحن والرزايا ؛ أي : المصائب وتحمل مشاق العبادات لأجل الله تعالى ، وليس للملائكة العشق ولا الابتلاء الذي هو من أحكامه ، وإن كانوا يسبحون الليل والنهار لا يفترون فرب عمل يسير أفضل من تسبيح كثير ، وكم من نائم أفضل من قائم وكون أجسادهم من نور ، وأجساد البشر من لحم وشحم ودم لا يفضلهم عليهم في الحقيقة ، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور فرب ماء حياة في ظلمات.
قال الصائب :
فروغ كوهر من از نزاد حورشيد ست
بتيركى نتوان كرد بايمال مراد
وقال :
بر بساط بوريا سير دو عالم ميكنيم
با وجودنى سوارى برق جولا نيم ما
{وَقَالُوا} : (وكويند مؤمنان جون به بهشت داريند).
{الْحَمْدُ} : جميع المحامد مخصوص به تعالى.
{الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (راست كرد باما وعده خود رابه بعث وثواب).
قال جعفر
145
الصادق رضي اللهعنه : هو حمد العارفين الذين استقروا في دار القرار مع الله.
وقوله : الحمدالذي أذهب عنا الحزن حمد الواصلين ، قال سهل رضي الله عنه : منهم من حمد الله على تصديق وعده.
ومنهم : من حمد الله لأنه يستوجب الحمد في كل الأحوال لما عرف من نعمه وما لا يعرفه وهو أبلغ لكونه حال الخواص.
{وَأَوْرَثَنَا الارْضَ} يريدون المكان الذي استقروا فيه من أرض الجنة على الاستعارة وإيراثها إعطاؤها وتمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم ، أو تمكينهم من التصرف فيما فيها تمكين الوارث فيما يرثه.
وفي "التأويلات النجمية" : صدق وعده للعوام بقوله : وأورثنا الأرض إلى آخره وصدق وعده للخواص بقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس : 26) وصدق وعده لأخص الخواص بقوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} () فنعم أجر العاملين العاشقين.
(8/109)
{نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} .
قال في "تاج المصادر" : (التبوؤ كرفتن جاى).
أخذ من المباءة ، وهي المحلة ويتعدى إلى مفعول واحد ، وقال أبو علي : يتعدى إلى مفعولين أيضاً.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وبوأت له مكاناً سويته وهيأته.
والمعنى بالفارسية : (جاي ميكريم از بهشت هركجامى خواهيم ونزول وقرار ميكنيم) ؛ أي : يتبوأ كل واحد منا في أي مكان أراده من جنة الواسعة لا من جنة غيره على أن فيها مقامات معنوية لا يتمانع واردوها كما قال في "التفسير الكبير".
قال حكماء الإسلام : الجنة نوعان : الجنات الجسمانية والجنات الروحانية.
فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة.
وأما الروحانية ، فحصولها لواحد لا يمنع لها لآخرين.
وفي تفسير الفاتحة للفناري رحمه الله : اعلم أن الجنة جنتان : جنة محسوسة ، وجنة معنوية.
والعقل يعقلهما معاً ، كما أن العالم عالمان : لطيف وكثيف وغيب وشهادة ، والنفس الناطقة المخاطبة المكلفة لها نعيم بما تحمله من العلوم والمعارف من طريق نظرها ، ونعيم بما تحمله من اللذات والشهوات ، مما تناله بالنفس الحيوانية من طريق قواها الحسية من أكل وشرب ونكاح ولباس وروائح ونغمات طيبة وجمال حسي في نساء كاعبات ووجوه حسان ، وألوان متنوعة وأشجار وأنهار.
كل ذلك تنقله الحواس إلى النفس الناطقة ، فتلتذ به ، ولو لم يتلذ إلا الروح الحساس الحيواني لا النفس الناطقة ، لكان الحيوان يلتذ بالوجه الجميل من المرأة ، أو الغلام بالألوان.
واعلم أن الله خلق هذه الجنة المحسوسة بطالع الأسد الذي هو الإقليد وبرجه ، وهو الأسد.
وخلق الجنة المعنوية التي هي روح هذه الجنة المحسوسة من الفرح الإلهي من صفة الكمال والابتهاج والسرور ، فكانت الجنة المحسوسة كالجسم والمعقولة كالروح وقواه.
ولهذا سماها الحق الدار الحيوان لحياتها وأهلها يتنعمون فيها حساً.
ومعنى الجنة أيضاً ، أشد تنعماً بأهلها الداخلين فيها ، وكذا تطلب ملئها من الساكنين.
وقد ورد خبر عن النبي عليه السلام : "إن الجنة اشتاقت إلى بلال وعلي وعمار وسليمان".
انتهى ما في "التفسير" المذكور.
وفي الخبر : "إن الجنان تستقبل إلى أربعة نفر : صائمي رمضان ، وتالي القرآن وحافظي اللسان ومطعمي الجيران".
يقول الفقير : على هذا السر يدور قوله عليه السلام في حق جبل أحد بالمدينة : "أحد يحبنا ونحبه".
وذلك لأنه ملحق بالجنان كسائر المواضع الشريفة ، فله الحياة والإدراك ، وإن كان خارجاً عن دائرة العقل الجزئي.
وقال في "الأسئلة المقحمة" : كيف قال : حيث نشاء ، ومعلوم أن بعضهم لا ينزل مكان غيره
146
إلا بإذن صاحبه.
والجواب : أن هذا وأمثاله مبالغات يعبر بها عن أحوال السعة والرفاهية ، ثم قد قيل : لا يخلق الله في قلوب أهل الجنة خاطراً يخالف أحكامهم التي كانوا مكلفين بها في دار الدنيا.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "الكواشي" : هذه إشارة إلى السعة والزيادة على قدر الحاجة ؛ لا أن أحداً ينزل في غير منزله.
وفي "فتح الرحمن" روي : أن أمة محمد تدخل أولاً الجنة ، فتنزل حيث تشاء منها ، ثم يدخل سائر الأمم.
{فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} : الجنة يعني : (بس نيكوست ثواب فرمان برندكان).
قال بعض الكبار : ما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ، ولا ترك محرم ، ولا مكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ، وما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها.
والتفاضل على مراتب ، فمنها بالسن ، ولكن في الطاعة والإسلام ، فيفضل كبير السن على صغير السن إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل.
ومنها : بالزمان ، فإن العمل في رمضان.
وفي يوم الجمعة ، وفي ليلة القدر.
وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر الزمان.
ومنها : بالمكان ، فالصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد المدينة ، وهي من الصلاة في المسجد الأقصى ، وهي منها في سائر المساجد.
ومنها : بالأحوال ، فإن الصلاة بالجماعة أفضل من صلاة الشخص وحده.
ومنها : بنفس الأعمال ، فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى.
ومنها : في العمل الواحد ، فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة ، وكذا من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل من أن يهدي لغيره ، أو أحسن إليه.
ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة ، فيصرف سمعه وبصره ويده ، فيما ينبغي في زمان صومه وصدقته ، بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك ، فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة ، فيفضل غيره ممن ليس له ذلك نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الجامعين بين صالحات الأعمال والمسارعين إلى حسنات الأفعال :
جواز جايكاه دويدن كرو
نبردى هم افتان وحيران برو
كران باد بابان بر فتندتيز
تولى دست وبا از نشتن بخيز
(8/110)
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُا فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ} .
{وَتَرَى الملائكة} يا محمد يوم القيامة بعد أن أحياهم الله.
وقال الكاشفي : يعني : (وقتى كه در مقعد صدق ورتبة قرب باشى بينى ملائكة را) {حَآفِّينَ} : محدقين {مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} ؛ أي : حوله.
ومن مزيدة أو لابتداء الحفوف.
يقال : حفوا حوله حفوفاً طافوا به واستداروا.
ومنه الآية ؛ أي : محيطين بأحفة العرش ؛ أي : جوانبه بالفارسية : (حلقه كرفته كرد عرش وطواف كنند كان بجوانب آن).
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .
الجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ؛ أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق به حال كونهم ملتبسين بحمده ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به يعني : يقولون : سبحان الله وبحمده.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
به تسبيح نفي ناسرا ميكنند ازذات إلهي وبحمد إثبات صفات سزا ميكنند ويرا وفيه اشعار بان اعلى اللذائذ).
هو الاستغراق في شؤون الحق وصفاته.
يقول الفقير : كما أن العرش يطوفه الملائكة مسبحين حامدين.
كذلك الكعبة يطوفها المؤمنون ذاكرين شاكرين ، وسر الدوران : أن عالم الوحدة لا قيد فيه ولا جهات كقلب العارف.
147
ولما كانت الكعبة صورة الذات الأحدية أمر بطوافها ودورانها ، فالفرق بين الطواف وبين الصلاة ، أن الطواف : إطلاق ظاهراً والصلاة قيد ظاهراً وباطناً ، وإطلاق باطناً ، وإنما قلنا بكونها قيداً في الظاهر ، لأنه لا بد فيها من التقييد بجهة من جهات الكعبة.
{وَقُضِىَ بَيْنَهُم} ؛ أي : بين الخلق.
{بِالْحَقِّ} بالعدل بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم.
وفي "آكام المرجان" : الملائكة ، وإن كانوا معصومين جميعاً ، فبينهم تفاضل في الثواب حسب تفاضل أعمالهم ، وكما أن رسل البشر يفضلون على أفراد الأمة في المراتب.
كذلك رسل الملائكة على سائرهم.
{حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} ؛ أي : على ما قضي بيننا بالحق ، وأنزل كلامنا منزلته التي هي حقه.
والقائلون : هم المؤمنون ممن قضي بينهم ، أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.
وفي "التأويلات النجمية" : وقضي بينهم بالحق ، يعني : بين الملائكة وبين الأنبياء والأولياء بما أعطى كل فرقة منهم من المراتب والمنازل ما أعطى.
وقيل : يعني : وقال كل فريق منهم الحمدرب العالمين على ما أنعم علينا به.
وقال الكاشفي : (همجنانكه درابتدآى خلق آسمان زمين شتايش خود فرمودكه) الحمد الله الذي خلق السماوات والأرض بوقت استقرار أهل آسمان وزمين درمنازل خويش همان ستايش كرد تادانندكه در فاتحه وخاتمه مستحق حمدوثنا اوست) ، يعني : ينبغي أن يحمد في أول كل أمر وخاتمته :
درخور ستايش نبود غير توكس
جامه ثنا بيست ترازيبد وبس
فإذا كان كل شيء يسبح بحمده ، فالإنسان أولى بذلك ، لأنه أفضل.
قال بعض العارفين :
ثنا كونا ثنا يابى شكر كونا عطايابى
رضاده تارضايابى وراجونا ورايابى
وقال عليه السلام : إذا أنعم الله على عبده نعمة ، فيقول العبد الحمد ، فيقول : الله انظروا إلى عبدي أعطيته ما قدر له ، فأعطاني ما لا قيمة له معناه أن الإنعام أحد الأشياء المعتادة كإطعام الجائع وإرواء العطشان وكسوة العاري.
وقوله : الحمدمعناه : أن كل حمد أتى به أحد ، فهو ، فيدخل فيه محامد ملائكة العرش والكرسي وأطباق السماء والأنبياء والأولياء ، وما سيذكرونه إلى وقت قوله.
وآخر دعواهم أن الحمدرب العالمين ، وهي بأسرها متناهية ، وما لا نهاية له مما سيأتونها أبد الآباد.
ولذلك قال : أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها ، فأعطاني من الشكر ما لا حد له.
قال كعب الأحبار : عوالم الله تعالى لا تحصى لقوله تعالى ، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} (المدثر : 31) ، فهو تعالى مربي الكل بما يناسب لحاله ظاهراً وباطناً نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لحمده على نعمه الظاهرة والباطنة أولاً وآخراً.
تمت سورة الزمر بعون الله الخالق القوي والقدر في يوم السبت السابع والعشرين من شعبان المنتظم في شهور سنة 1112.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68(8/111)
سورة غافر
مكية وآيها خمس أو ثمان وثمانون
جزء : 8 رقم الصفحة : 147
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{حم} : اسم للسورة ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي : هذه السورة مسماة
148
بـ{حم} : نزلت منزلة الحاضر المشار إليه لكونها على شرف الذكر ، والحضور.
وقال صلى الله عليه وسلّم "حم ، اسم من أسماء الله تعالى ، وكل اسم من أسماء الله تعالى مفتاح من مفاتيح خزائنه تعالى" ، فمن اشتغل باسم من الأسماء الإلهية يحصل بينه وبين هذا الاسم ؛ أي : بين سره وروحه مناسبة بقدر الاشتغال ، ومتى قويت تلك المناسبة بحسب قوة الاشتغال يحصل بينه وبين مدلوله الحقيقي مناسبة أخرى ، فحينئذٍ يتجلى له الحق سبحانه من مرتبة ذلك الاسم ، ويفيض عليه ما شاء بقدر استعداده ، وكل أسمائه تعالى أعظم عند الحقيقة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة في سور.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القسم بسر بينه وبين حبيبه محمد عليه السلام لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وذلك أن الحاء والميم هما : حرفان من وسط اسم الله ، وهو رحمن وحرفان من وسط اسم نبيه وحبيبه محمد عليه السلام ، فكما أن الحرفين سر اسميهما ، فهما يشيران أن القسم بسر كان بينهما أن تنزيل الكتاب إلخ.
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله في {حم} : الحي الملك.
وزاد بعضهم : بأن قال : {حم} فواتح أسمائه : الحليم الحميد الحق الحي الحنان الحكيم الملك المنان المجيد.
وقال الكاشفي : (حا اشارت بحكم حق كه خط ومنع ورد بروكشيده نشودوميم اما نيست بملك او كه كرد زوال وفنا كرد سر اوقات آن راه نيابد).
وقال البقلي : الحاء حياة الأزل ، والميم : منهل المحبة ، فمن خصه الله تعالى بقربه سقاه من عين حياته ، حتى يكون حياً بحياته لا يعتريه الفناء بعد ذلك ، وينطق من حاء الحياة بعبارة الحكمة ، ومن ميم المحبة من إشارات العلوم المجهولة ما لا يعرفها إلا الواردون على مناهل القدم والبقاء.
وفي "شرح حزب البحر" : {حم} : إشارة إلى الحماية ، ولذلك قال عليه السلام يوم أحد : "ليكن شعاركم حم لا ينصرون" ؛ أي : بحماية الله لا ينصرون ؛ أي : الأعداء ؛ لأن الله تعالى مولى الذين آمنوا ولا مولى للكافرين ، فتحصل العناية بالحماية ، والحماية من حضرة الأفعال.
ويقال : {حم} الأمر بضم الحاء وتشديد الميم ؛ أي : قضي وقدر ، وتم ما هو كائن أو {حم} : أمر الله ؛ أي : قرب أو يوم القيامة.
قال : قد حم يومي فسر قوم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قوم بهم غفلة ونوم.
قال في "كشف الأسرار" : (حا اشارتست بمحبت وميم اشارتست بمنت ميكويد اى بحاى محبت من دوست كشته نه به هنر خود اى بميم منت من مرا يافته نه بطاعت خود اى من ترا دوست كرفته وتومرا نشاخته اى من ترا خواسته وتومرا نادانسته اى من ترابوده وتومرا بوده صد هزار كس بردر كاه ما ايستاده مارا خواستند ودعاها كردند بايشان التفات نكرديم وشمارا اى امت أحمد بى خواست شما كفت).
أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وأجبتكم قبل أن تدعوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني.
(آن رغبت وشوق أنبياء كذشته بتوتا خليل مى كفت).
واجعل لي لسان صدق في الآخرين.
(وكليم ميكفت).
اجعلني من أمة محمد.
(نه ازان بودكه افعال توبا ايشان شرح داديم كه اكر افعال شما با ايشان كفتيم همه دامن ازشما درجيدندى ليكن أزان بود كه افضال وانعام خود باشما ايشانرا شرح داديم بيش از شما وهركرا بر كزيديم يكان يكان بركزيديم جنانكه اصطفى آدم ونوحاً وإبراهيم وآل عمران جون نوبت شمارا رسيد على العموم والشمول كفتيم كنتم خير أمة همه بركزيد
149
كان ما آيد جاى ديكر كفت اصطفينا من عبادنا در تحت اين خطاب هم زاهد وهم عابداست هم ظالم وهم مظلوم).
روي : موسى عليه السلام قال : يا رب هل أكرمت أحداً أمثل ما أكرمتني ، أسمعتني كلامك ، فقال تعالى : إن لي عباداً أخرجهم في آخر الزمان وأكرمهم بشهر رمضان ، وأنا أكون أقرب إليهم منك ، فإني كلمتك بيني وبينك سبعون ألف حجاب ، فإذا صامت أمة محمد وابيضت شفاههم واصفرت ألوانهم أرفع تلك الحجب وقت إفطارهم :
روزى كه سراز برده برون خواهى كرد
دانم كه زمانه رازبون خواهى كرد
كرزيب وجمال ازين فزون خواهى كرد
يا رب جه جكر عاست كه خون خواهى كرد
يا موسى طوبى لمن عطش كبده وجاع بطنه في رمضان ، فإني لا أجازيهم دون لقائي ، وخلوف فمهم عندي أطيب من ريح المسك ، ومن صام يوماً استوجب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
قال موسى : أكرمني بشهر رمضان.
قال تعالى : هذه الأمة محمد عليه السلام ، فانظر لإكرامه تعالى وحمايته لهذه الأمة المرحومة ، فإنها بين الأمم بهذه الكرامة موسومة ، بل كلها منها محرومة.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} : خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول ؛ أي : المنزل مبالغة.
{مِنَ اللَّهِ} : صلة للتنزيل.
والأظهر أن تنزيل مبتدأ ، ومن الله خبره ، فيكون المصدر على معناه.
وقوله : من الله ؛ أي : لا كما يقوله الكفار من أنه اختلقه محمد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} : لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز وأنواع العلم الدالين على القدرة الكاملة والعلم البالغ.(8/112)
وفي "فتح الرحمن" : الذي لا مثل له العليم بكل المعلومات.
وقال الكاشفي : (العزيز خداى تعالى غالب كه قادر است به تنزيل آن العليم دانا بهر جه فرستاد بهركس در هر وقت).
{غَافِرِ الذَّنابِ} : صفة أخرى للجلالة والإضافة حقيقية ؛ لأنه لم يرد به زمان مخصوص ؛ لأن صفات الله أزلية منزهة عن التجدد والتقيد بزمان دون زمان ، وإن كان تعلقها حادثاً بحسب حدوث المتعلقات كالذنب في هذا المقام ، واسم الفاعل يجوز أن يراد به الاستمرار بخلاف الصفة المشبهة.
والغافر : الساتر والذنب : الإثم.
يستعمل في كل فعل يضر في عقباه اعتباراً بذنب الشيء ؛ أي : آخره.
ولم يقل غافر الذنوب بالجمع إرادة للجنس ، كما في الحمد .
والمعنى : سائر جمع الذنوب صغائرها وكبائرها بتوبة وبدونها ، ولا يفضح صاحبها يوم القيامة ، كما يقتضيه مقام المدح العظيم.
{وَقَابِلِ التَّوْبِ} : (القبول بذير فتن).
والقابل : الذي يستقبل الدلو من البئر ، فيأخذها.
والقابلة : التي تقبل الولد عند الولادة.
وقبلت عذره وتوبه وغير ذلك.
والتوب : مصدر كالتوبة ، وهو ترك الذنب على أحد الوجوه ، وهو أبلغ وجوه الاعتذار ، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه : أما أن يقول المعتذر : لم أفعل أو يقول : فعلت لأجل كذا ، أو فعلت وأسأت.
وقد أقلعت ولا رابع لذلك.
وهذا الثالث : هو التوبة.
والتوبة في الشرع : هو ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة ، فمتى اجتمعت هذه الأربعة ، فقد كملت شرائط التوبة ، فالتوبة : هي الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود في الدين.
والاستغفار : عبارة عن طلب المغفرة بعد رؤية قبح المعصية ، والإعراض عنها ، فالتوبة : مقدمة على الاستغفار.
والاستغفار
150
لا يكون توبة بالإجماع ما لم يقل معه : تبت وأسأت ، ولا أعود إليه أبداً ، فاغفر لي يا رب ، وتوسيط الواو بين الغافر والقابل ، لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة في موصوف واحد بالنسبة إلى طائفة هي طائفة المذنبين التائبين ، فالمغفرة بمحو الذنوب بالتوبة والقبول بجعل تلك التوبة طاعة مقبولة يثاب عليها ، فقبول التوبة كناية عن أنه تعالى يكتب تلك التوبة للتائب طاعته من الطاعات ، وإلا لما قبلها ؛ لأنه لا يقبل إلا ما كان طاعة ، أو لتغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، بأن يذكر الثاني لمجرد الإيضاح والتفسير ، والتغاير : موقع الفعلين ومتعلقهما ؛ لأن الغفر هو الستر مع بقاء الذنب ، وذلك لمن لم يتب من أصحاب الكبائر ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والقبول بالنسبة للتائبين عنها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الأسئلة المقحمة" : قدم المغفرة على التوبة رداً على المعتزلة ، ليعلم أنه تعالى ربما يغفر من غير توبة.
وفي "كشف الأسرار" : توبه مؤخر آمد وغفران مقدم بر مقتضاى فضل وكرم اكر من كفتى توبه بذيرم بس كناه آمر زم خلق بنداشتنديكه تا از بنده توبة نبود از الله مغفرت نيايد نخست بيا مرزم وآنكه توبه بذيرم تا عالميان دانند جنامكه بنوبه آمرزم اكر توبه مقدم غفرن بودى توبه علت غفران بودى وغفران مارا علت نيست وفعل ما بحيلة بيامرزم نخست بيامرزم وبزلال افضال بنده را باك كردانم تا جون قدم بربساط ما نهد برباكى نهد جون كر ما آيد بصفت باكى آيدهما نست كه جاى ديكر كفت "ثم تاب عليهم ليتوبوا" غافرم آن عاصى راكه توبه نكرد قابلم آنراكه توبه كرد مراد از غفران ذنب درين موضع غفران ذنب غير تأنست بدليل آنكه واو عطف درميان آورد ومعطوف ديكر باشد ومعطوف عليه ديكر ليكن هردورا حكم يكسان باشد جنانكه كويى جاءني زيد وعمرو زيد ديكرست وعمرو ديكرست لكن هر دورا حكم يكيست در آمدن اكر حكم مخالف بودى عطف خطا بودى واكر هر دويكى بودى هر دو غلط بودى {شَدِيدُ الْعِقَابِ} ).
اسم فاعل كما قبله مشدد العقاب كأن ذين بمعنى مؤذن ، فصحّ جعله نعتاً للمعرفة حيث يراد به الدوام والثبوت ، وليس بصفة مشبهة حتى تكون الإضافة لفظية بأن يكون من إضافة الصفة إلى فاعلها ، ولئن سلم ، فالمراد : الشديد عقابه باللام ، فحذفت للازدواج مع غافر الذنب وقابل التوب في الخلو عن الألف واللام.
قال في "كشف الأسرار" : (أول صفت خود كرد وكفت غافر الذنب وقابل التوب وصفت أو محل تصرف نيست بذيرنده تغيير وتبديل نيست بس جون حديث عقوبت كرد شديد العقاب كفت شديد صفت عقوبت نهاد وعقوبت محل تصرف هشت وبذيرنده تبديل وتغيير هست كفت سخت عقوبتهم لكن اكر خواهم سست كنم وآنرا بكر دانم كه دران تصرف كنجد تغيير وتبديل بزيرد).
(8/113)
{ذِى الطَّوْلِ} : الطول بالفتح : الفضل يقال : لفلان على فلان طول ؛ أي : زيادة وفضل.
وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر ؛ لأنه إذا كان طويلاً ، ففيه كمال وزيادة ، كما أنه إذا كان قصيراً ، ففيه قصور ونقصان وسمي الغنى أيضاً طولاً ؛ لأنه ينال به من المرادات ما لا ينال عند الفقر ، كما أنه بالطول ينال ما لا ينال بالقصر كذا في تفسير الإمام في سورة النساء.
والمراد ها هنا الفضل بترك العقاب المستحق ، وإيراد صفة واحدة في جانب الغضب بين صفات
151
الرحمة دليل سبقها ورجحانها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "عرائس البقلي" : غافر الذنب يستر ذنوب المؤمنين بحيث ترفع عن أبصارهم حتى ينسوها ، ويقبل عذرهم حين افتقروا إليه بنعت الاعتذار بين يديه شديد العقاب لمن لا يرجع إلا المآب ؛ بأن عذبه بذل الحجاب ذي الطول ، لأهل الفناء بكشف الجمال.
وفي "الوسيط" : نقلاً عن ابن عباس رضي الله عنهما : الذنب لمن يقول : لا إله إلا الله ، وهم أولياؤه وأهل طاعته ، وقابل التوب من الشرك ، شديد العقاب لمن لا يوحده ذي الطول ذي الغنى عما لا يوحده ، ولا يقول : لا إله إلا الله.
وفي "كشف الأسرار" : (سنت خداوندست رابآيت وعيد ترساند تابنده دران شكسته وكوفته كردد سوزى وكذا رى بندكى بنمايد زارى وخوارى برخود نهد آنكه رب العزة بنعت رأفت ورحمت بآيت وعد تدارك دل وى كند وبفضل ورحمت خود اورا بشارت دهد بنده در سماع شديد العقاب بسوزد وبكدازد وبزبان انكسار كويد) :
برز آب دو يده وبر آتش جكرم
برباد دو دستم وبر از خاك سرم
(باز در سماع ذي الطول بنازد ودل بيفر وزد بزبان افتخار كويد) :
جه كند عرش كه اوغاشيه من نكشد
جون بدل غاشيه حكم قضاى تو كشم
(أبو بكر الشبلي قدس سره يكروز جون مبارزان دست أندازان همى رفت ومى كفت) ، لو كان بيني وبينك بحار من نار لخضتها (اكر درين راه صدر هزار درياى آتشست همه بديده كذاره كنم وباك ندارم ديكر روز أورا ديدند كه آمد سر فرو افكنده جون محرومى درمانده نرم ميكفت المستغاث منك بك فرياد از حكم توزنهار از قهر تونه باتو امر آرام نه بى توكارم بنظام نه روى آنكه باز آيم نه زهره آنكه بكريزم) :
وكرباز آيم همى نه بينم جاهى
وربكر يزم همى نه دانم راهى
(كفتند اى شبلى آن دى جه بود امر وزجيست كفت آرى جغدكه طاوس رانه بيندلاف جمال زند لكن جغد جغدست وطاوس طاوس {لا إله إِلا هُوَ} هيج خداى نيست كه مستحق برستش باشد مكروا).
فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه.
{إِلَيْهِ} تعالى فحسب لا إلى غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً.
{الْمَصِيرُ} ؛ أي : رجوع الخلق في الآخرة ، فيجازي كلاً من المطيع والعاصي.
وفي "التأويلات النجمية"غافر الذنب لأوليائه بأن يتوب عليهم وقابل التوب ؛ بأن يوفقهم للإخلاص في التوبة ؛ لأنهم مظاهر صفات لطفه شديد العقاب لمن لا يؤمن ولا يتوب ؛ لأنهم مظاهر صفات قهره ذي الطول لعموم خلقه بالإيجاد من العدم وإعطاء الحياة والرزق.
وأيضاً : غافر الذنب لظالمهم وقابل التوب لمقتصدهم شديد العقاب لمشركهم ذي الطول لسابقهم.
ولما كان من سنة كرمه أن سبقت رحمته غضبه غلبت ها هنا أسامي صفات لطفه على اسم صفة قهره ، بل من عواطف إحسانه ومراحم طوله وإنعامه جعل اسم صفة قهره بين ثلاثة أسماء من صفات لطفه ، فصار مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ، فإذا هبت رياح العناية من مهب الهداية وتموج البحران ، فيتلاشى البرزخ باصطكاك البحرين ، ويصير الكل بحراً واحداً ، وهو بحر : لا إله إلا هو ، إليه المصير ، فإذا كان إليه المصير ، فقد طاب المسير.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
عمر بن الخطاب رضي الله عنه دوستى داشت باوى برادر كفته
152
دردين مردى عاقل بارسا ومتعبد رفتى آن دوست بشام بودوكسى از نزديك وى آمده بود عمر رضي الله عنه حال آن دوست ازوى برسيد كفت جه ميكندان برادرما وحال وى جيست اين مرد كفت أو برادر إبليس است نه برادر تو يعنى كه فترنى درراه وى آمده وسر نهاده در خمر وزمرو انواع فساد عمر كفت جون باز كردى مرا خبر كن تابوى نامة نويسم بس اين نامه نوشت).
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى فلان ابن فلان سلام عليك إني أحمد إليك الله الذي لا إله ، إلا هو غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب ذا الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
(جون آن نامه بوى رسيد صدق الله ونصح عمر كلام خدارا ستست ونصيحت عمر نيكو بسيار بكريست وتوبه كرد وحال وى نيكوشد بعد ازان عمر ميكفت هكذا افعلوا بأخيكم إذا زاغ سددوه).
ولا تكونوا عليه عوناً للشيطان.
وفيه إشارة إلى أنه لا يهجر الأخ بذنب واحد بل ينصح.
(8/114)
{غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِا لا إله إِلا هُوَا إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاحْزَابُ مِنا بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةا بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوه وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} .
{مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ} .
الجدال : المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، ومعنى المفاوضة بالفارسية (كارى راندن باكسى).
وأصله من جدلت الحبل أحكمت فتله فكأنه المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه.
قال أبو العالية : نزلت في الحارث بن قيس أحد المستهزئين.
(يعنى از جمله مستهزيان بود وسخت خصومت بباطل درانكار وتكذيب قرآن).
والمعنى : ما يخاصم في آيات الله بالطعن فيها بأن يقول في حقها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ، أو نحو ذلك وباستعمال المقدمات الباطلة لادحاضه وإزالته وإبطاله لقوله تعالى : {وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (الكهف : 56) ، فحمل المطلق على المقيد وأريد الجدال بالباطل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} بها ، وأما الذين آمنوا ، فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها فضلاً عن الطعن فيها ، وأما الجدال فيها لحلّ مشكلاتها واستنباط حقائقها ، وإبطال شبه أهل الزيغ والضلال ، فمن أعظم الطاعات كجهاد في سبيل الله.
ولذلك قال عليه السلام : إن جدالاً في القرآن كفر بتنكير جدالاً.
الدال على التنويع للفرق بين جدال وجدال.
ومما حرره حضرة شيخي وسندي في مجموعة من مجموعات هذا الفقير في ذيل هذه الآية ، قوله : فكفار الشريعة يجادلون في آيات القرآن الرسمي ، فيكون جدالهم رسمياً لكونه في الآيات الرسمية ، فهم كفار الرسوم كما أنهم كفار الحقائق وكفار الحقيقة يجادلون في آيات القرآن الحقيقي.
فيكون جدالهم حقيقياً لكونه في الآيات الحقيقية ، فهم كفار الحقائق فقط لا كفار الرسوم ، فعليك يا ولدي الحقي سمي الذبيح بترك الكفر والجدال مطلقاً حتى تكون عند الله ، وعند الناس مؤمناً حقاً ومسلماً صدقاً هذا سبيل الصواب والرشاد ، وإليه الدعوة والإرشاد وعلينا وعليكم القبول والاسترشاد ، وهو الفرض الواجب على جميع العباد.
انتهى.
{فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ} .
الفاء : جواب شرط محذوف والغرة غفلة في اليقظة والتقلب بالفارسية : (كرديدن).
قال في "المفردات" التقلب : التصرف والبلاد أشهرها.
قال الراغب : البلد المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه وجمعه بلاد وبلدان.
والمعنى : فإذا علمت أنهم محكوم عليهم بالكفر فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن للتجارات المربحة ، وهي رحلة الشتاء والصيف.
يعني : (بدل مبارك ايشانرا
153
فرصتى ومهلتى هست).
فإنهم مأخوذون عما قريب بسبب كفرهم أخذ من قبلهم من الأمم ، كما قال : كذبت.
إلخ.
قال في "عين المعاني" : فلا يغررك أيها المغرور.
والمراد : غيره صلى الله تعالى عليه وسلم خطاب للمقلدين من المسلمين.
انتهى.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الحرمان من كرامات أولياء الله وذوق مشاربهم ومقاماتهم يصرون على إنكارهم تخصيص الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيجادلون في جحد الكرامات ، وسيفتضحون كثيراً ، ولكنهم لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم ، فلا يغررك تقلبهم في البلاد لتحصيل العلوم ، فإن تحصيل العلوم ، إذا كان مبنياً على الهوى والميل إلى الدنيا ، فلا يكون له نور يهتدى به إلى ما خصص به عباده المخلصين.
قال المولى الجامي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
بيجاره مدعى كند اظهار علم وفضل
نشاخته قبول ودرجيـ ازردى
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ؛ أي : قبل قريش.
{قَوْمُ نُوحٍ وَالاحْزَابُ مِنا بَعْدِهِمْ} ؛ أي : الذين تحزبوا على الرسل وعادوهم وحاربوهم بعد قوم نوح مثل عاد وأضرابهم.
وبدأ بقوم نوح إذ كان أول رسول في الأرض ؛ لأن آدم إنما أرسل إلى أولاده.
{وَهَمَّتْ} قصدت عند الدعاء والهم عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر.
{كُلُّ أُمَّة} من تلك الأمم المعاتبة.
{بِرَسُولِهِمْ} .
قال في "الأسئلة المقحمة" : لم يقل برسولها ؛ لأنه أراد بالأمة ها هنا الرجال دون النساء وبذلك فسروه.
وقال في "عين المعاني" : برسولهم تغليب للرجال {لِيَأْخُذُوهُ} من الأخذ بمعنى الأسر.
والأخيذ : الأسير ؛ أي : ليأسروه ويحبسوه ليعذبوه أو يقتلوه.
بالفارسية : (تانكيرند اورا وهر آزاركه خواهند بوى رسانند).
(8/115)
وفيه إشارة إلى أن كل عصر يكون فيه صاحب ولاية لا بد له من أرباب الجحود والإنكار وأهل الاعتراض كما كانوا في عهد كل نبي ورسول.
{وَجَـادَلُوا} : (وخصومت كردند با بيغمبران خود).
{بِالْبَـاطِلِ} : الذي لا أصل ولا حقيقة له أصلاً.
قال في "فتح الرحمن" : الباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة ، إما لانعدام الأهلية ، أو لانعدام المحلية كبيع الخمر وبيع الصبي.
{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} ؛ أي : ليزيلوا بذلك الباطل الحق الذي لا محيد عنه كما فعل هؤلاء.
{فَأَخَذْتُهُمْ} بالإهلاك جزاء لهمهم بالأخذ.
{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} ؛ أي : عقابي الذي عاقبتهم به فإن آثار دمارهم كما ترونها حين تمرون على ديارهم عبرة للناظرين ، ولآخذن هؤلاء أيضاً لاتحادهم في الطريقة واشتراكهم في الجريمة كما ينبىء عنه قوله :
{وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ؛ أي : كما وجب وثبت حكمه تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذبة المتحزبة على رسلهم المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به وجب أيضاً.
{عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : كفروا ربك وتحزبوا عليك وهموا بما لم ينالوا ، فالمقصود عبارة عن كفار قومه عليه السلام ، وهم قريش لا عن الأمم المهلكة.
{أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} في حيز النصب بحذف لام التعليل ، وإيصال الفعل ؛ أي : لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها التي هي عذاب النار وملازموها أبداً لكونهم كفاراً معاندين متحزبين على الرسول عليه السلام كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة ، فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقاً وأحق استيجاباً فعلة واحدة
154
تجمعهم ، وهي أنهم أصحاب النار.
وقيل : في محل الرفع على أنه بدل من كلمة ربك بدل الكل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والمعنى : مثل ذلك الوجوب ، وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار ؛ أي : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك.
وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة.
فالتشبيه واقع حالتيهم ، والجامع للطرفين إيجاب العذاب ومحل الكاف على التقديرين النصب على أنه نعت لمصدر محذوف في الآية إشارة إلى أن الإصرار مؤدي إلى الأخذ والانتقام في الدنيا والآخرة ، فعلى العاقل أن يرجع إلى الله ويتوب ويتعظ بغيره قبل أن يتعظ الغير به :
جو بر كشته بختى درافتد به بند
ازونيك بختان بكير ند بند
تو بيتش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زيرجوب
عصمنا الله وإياكم من أسباب سخطه.
{وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ} .
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} .
العرش : هو الجسم المحيط بجميع الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك في ممكنه عليه عند الحكم لنزول أحكام قضائه وقدره منه ، ولا صورة ولا جسم ثمة ، وهو الفلك التاسع خلقه الله من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.
والمراد : أن حملة العرش أفضل كما أن خادم أشرف الكائنات مطلقاً ، وهو جبرائيل الخادم للنبي عليه السلام أشرف.
وفي الحديث : "إن الله أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائرهم.
وهم : أربعة من الملائكة يسترزق أحدهم لبني آدم ، وهو في صورة رجل.
والثاني : للطيور ، وهو في صورة نسر.
والثالث : للبهائم ، وهو في صورة ثور.
والرابع : للسباع ، وهو في صورة أسد وبينهم وبين العرش سبعون حجاباً من نور ، وإذا كان يوم القيامة يكون حملته ثمانية ، دل عليه قوله تعالى ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} .
وفي بعض الروايات : كلهم في صورة الأوعال ، والعرش على قرونهم أو على ظهورهم ، لما أخرجه الترمذي وأبو داود في حديث طويل آخره ، ثم فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء إلى السماء وفوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء وفي الحديث : "أذن لي ربي أن أحدث عن ملك من حملة أرجلهم عرشه ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام.
وروي : أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة.
وكل أهل سماء أشد خوفاً من أهل السماء التي دونها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/116)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خلق الله تعالى حملة العرش قال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فخلق كل ملك من أعوانهم مثل جنود من في السماوات والأرض من الملائكة والخلق ، فلم يطيقوا ، فخلق مثل ما خلق عدد الحصى والثرى ، فلم يطيقوا ، فقال جلّ جلاله : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما قالوا : استقلوا العرش فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا تتفكروا في عظمة ربكم ولكن تفكروا في خلقه ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، فإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كالوضع ـ وهو بالصاد المهملة
155
الساكنة ـ وتحرك طائر أصغر من العصفور" ، كما في القاموس.
وإن الله خلق العرش من جوهرة خضراء له ألف ألف رأس وستمائة ألف رأس ، في كل رأس ألف ألف وستمائة ألف لسان يسبح بألف ألف لغة ، ويخلق الله بكل لغة من لغات العرش خلقاً في ملكوته يسبحه ويقدسه بتلك اللغة ، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من نور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من حلق الله ، والأشياء كلها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة ، واحتجب الله بين العرش وحامليه سبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من درّ أبيض وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر ، وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر ، وسبعين من نور ، وسبعين من ظلمة ، ولا ينظر أحدهم إلى العرش مخافة أن يصعق.
يقول الفقير : دل ما ذكر من الروايات على أن حملهم إياه ؛ أي : العرش محمول على حقيقته ، وليس بمجاز عن حفظهم وتدبيرهم كما ذهب إليه بعض المفسرين ، ولعمري كونه مع سعة دائرته ، وعظم محله على قرون الملائكة ، أو على ظهورهم أو على كواهلهم أدل على كمال عظمة الله وجلال شأنه ، فالملائكة الأربعة اليوم ، والثمانية يوم القيامة ، كالأسطوانات له ، فكما أن القصر محمول على الأسطوانات ، فكذا العرش محمول على الملائكة ، فلا ينافي ذلك ما صحّ من قوائمه ، وكونه بحيث يحيط الأجسام ؛ لأنه يجوز أن يكون معلقاً في الحقيقة وأن الملائكة تحمله بالكلية.
{وَمَنْ حَوْلَهُ} : في محل الرفع بالعطف على قوله : الذين.
وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبره.
قوله : {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ؛ أي : ينزهونه عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "فتح الرحمن" : يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الملك الحي الذي لا يموت ، سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح.
وجعل التسبيح أصلاً والحمد حالاً ؛ لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح ؛ لأنه إنما يحتاج إليه لعارض الرد على من يصفه بما لا يليق به.
قيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قياماً ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا أيمانهم على شمائلهم ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر.
وما وراءهم من الملائكة لا يعلم حدهم إلا الله ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام.
(در معالم از شهر بن حوشب نقل ميكند كه حملة عرش هشت اند جهار ميكويند سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وجهار ديكر ميكويند سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وكوييا ايشان بنسبت كرم الهى با ذنوب بني آدم ابن كلمات ميكويند).
وفي بعض التفاسير : كأنهم يرون ذنوب بني آدم وفي هذه الكلمات فوائد كثيرة : (بير طريقت أبو القاسم بشر ياسين از جملة مشاهير علما ومشايخ دهر بود شيخ أبو السعيد الخير راكفت اين كلمات از ما ياد كيرو بيوسته ميكوى أبو سعيد كفت اين كلمات يا دكر فتم وبيوسته ميكفتم وازان منتفع شدم).
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ؛ أي : بربهم إيماناً حقيقياً بحالهم ، والتصريح به مع إغناء ما قبله عن ذكره لإظهار فضيلة الإيمان ، وإبراز شرف
156
أهله.
وقد قيل : أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف.
يقول الفقير : أشار بالإيمان إلى أنهم في مرتبة الإدراك بالبصائر محجوبون عن إدراكه تعالى بالأبصار ؛ كحال البشر ما داموا في موطن الدنيا.
وأما في الجنة ، فقيل : لا يراه الملائكة.
وقيل : يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة ، ويراه المؤمنون من البشر في الدنيا بالبصائر.
وفي الآخرة بالأبصار ؛ لأن قوله : لا تدركه الأبصار قد استثني منه المؤمنون فبقي على عمومه في الملائكة والجن ، وذلك لأن استعداد الرؤية إنما هو لمؤمني البشر لكمالهم الجامع.
(8/117)
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} : استغفارهم ، شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة ، وفيه إشعار بأنهم يطلعون على ذنوب بني آدم وتنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة ، وإن تخالفت الأجناس ؛ لأنها أقوى المناسبات وأتمها كما قال تعالى : إنما {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) ولذلك قال الفقهاء : قتل الأعوان والسعاة والظلمة في الفترة مباح ، وقاتلهم مثاب وإن كانوا مسلمين ؛ لأن من شرط الإسلام الشفقة على خلق الله ، والفرح بفرحهم والحزن بحزنهم ، وهم على عكس ذلك ، وقلما يندفع شرهم بالحبس.
ونحوه قال الإمام : قد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله.
ويجب أن يكون الأول مقدماً على الثاني ، فقوله : يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به مشعر بالتعظيم لأمر الله ويستغفرون للذين آمنوا بالشفقة على خلق الله.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال مجاهد : يسألون ربهم مغفرة ذنوب المؤمنين من حين علموا أمر هاروت وماروت ، أو لقولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30).
قال الراغب : المغفرة من الله أن يصون العبد عن أن يمسه العذاب ، والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال ، فإن الاستغفار بالمقال فقط فعل الكاذبين ، ثم لا يلزم من الآية أفضلية الملائكة على البشر حيث اشتغلوا بالاستغفار للمؤمنين من غير أن يتقدم الاستغفار لأنفسهم لاستغنائهم وذلك لأن هذا بالنسبة إلى عوام المؤمنين ، وأما خواصهم ، وهم الرسل فهم أفضل منهم على الإطلاق ، وإنما يصلون عليهم بدل الاستغفار لهم تعظيماً لشأنهم ، ونعم ما قال أبو الليث رحمه الله في الآية بيان فضل المؤمنين ؛ لأن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الملائكة كما أمروا بالتسبيح والتحميد والتمجيدتعالى ، فكذلك أمروا بالاستغفار والدعاء لمذنبي المؤمنين ؛ لأن الاستغفار للمذنب ، ويجتهدون في الدعاء لهم ، فيدعون لهم بالنجاة ، ثم برفع الدرجات كما قال : {رَبَّنَآ} على إرادة القول ؛ أي : يقولون : ربنا على أنه بيان لاستغفارهم أو حال ؛ أي : قائلين : {وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} نصب على التمييز.
والأصل : وسعت رحمتك وعلمك لا ذاتك لامتناع المكان في حقه ، فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم ، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء وتقديم الرحمة ، وإن كان العلم أشمل وأقدم تعلقاً من الرحمة ؛ لأنها المقصودة بالذات ها هنا.
وفي "عين المعاني" : ملأت كل شيء نعمة وعلماً به.
يقول الفقير : دخل في عموم الآية الشيطان ونحوه ؛ لأن كل موجود فله رحمة دنيوية البتة وأقلها الوجود وللشيطان إنظار إلى يوم الدين ، ويكون من الرحمة الدنيوية إلى غير ذلك.
{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} : الفاء : لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم ، فما بعد الفاء
157
مسبب عن كل واحد من الرحمة والعلم ، إذ المعنى ، فاغفر للذين علمت منهم التوبة من الكفر والمعاصي واتباع سبيل الإيمان والطاعة.
وفيه إشارة إلى أن الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن اتباع الهوى ، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الأسئلة المقحمة" قوله : فاغفر إلخ.
صيغة دالة على أن الشفاعة للتائبين.
والجواب : أن الشفاعة للجميع ، ولكن لما كانت حاجة التائب إليها أظهر قرنوه بالذكر ، ثم لا يجب على الله قبول توبة التائب ، عندنا انتهى والأظهر أن التخصيص للحث على التوبة والاتباع ، وهو اللائح بالبال ، ومن أعجب ما قيل في هذا المقام قول البقلي في "تأويلاته" : عجبت من رحمة الملائكة كيف تركوا المصرين على الذنوب عن استغفارهم هذه قطعة زهد وقعت في مسالكهم أين هم من قول سيد البشر عليه السلام حين آذاه قومه ، اللهم اهد قومي ؛ فإنهم لا يعلمون عمموا الأشياء بالرحمة ، ثم خصوا منها التائبين ، يا ليت لو بقوا على القول الأول ، وسألوا الغفران لمجموع التائبين والعاصين.
انتهى.
يقول الفقير : العاصي إما مؤمن أو كافر ، والثاني : لا تتعلق به المغفرة ؛ لأنها خاصة بالمؤمنين مطلقاً ، فلما علم الملائكة أن الله لا يغفر أن يشرك به خصوها بالتائبين ليخرج المشركون.
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} : أمر من وقى يقي وقاية ، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره ؛ أي : واحفظهم من عذاب جهنم ، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد ، وذلك لأن معنى الغفران إسقاط العذاب ، وفيه إشارة إلى أنه بمجرد التوبة لا تحصل النجاة ، فلا بد من الثبات عليها وتخليص العمل من شوب الرياء والسمعة وتصفية القلب عن الأهواء والبدع.
(8/118)
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} : عطف على قهم وتوسيط النداء بينهما للمبالغة في الجؤار ، وهو رفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة.
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ} : (در بوستانهاى اقامت).
{الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ} ؛ أي : وعدتهم إياها وقد وعد الله بأن يدخل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، جنات عدن ، إما ابتداء أو بعد أن يعذبهم بقدر عصيانهم.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار : ما جنات عدن.
قال : قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون وأئمة العدل ، فعلى هذا يكون جنات عدن.
موضع أهل الخصوص لا أهل العموم ومثلها الفردوس ، إذ لكل مقام عمل يخص به ، فإذا كان العمل أخص وأرفع كان المقام أرقى وأعلى.
{وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ} : في محل النصب عطف على الضمير في وأدخلهم.
والمعنى : وأدخل معهم من صلح من هؤلاء صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة ، وإن كان دون صلاح أصولهم وذلك ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم ، وفيه إشارة إلى أن بركة الرجل التائب تصل إلى آبائه وأزواجه وذرياته لينالوا بها الجنة ونعيمها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال سعيد بن جبير : يدخل المؤمن الجنة ، فيقول : أين أبي ، أين ولدي ، أين زوجي ، فيقال : إنهم لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة :
اميد است از آنان كه طاعت كنند
كه بى طاعتا نرا شفاعت كنند
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين أن اخرجوا من قبوركم ، فيخرجون من قبورهم ، فينادى فيهم : أن
158
امضوا إلى الجنة زمراً ، فيقولون : يا ربنا ووالدينا معنا ، فينادى فيهم.
الثانية : أن امضوا إلى الجنة زمراً ، فيقولون : ووالدينا معنا ، فيبتسم الرب تعالى ، فيقول : ووالديكم معكم ، فيثب كل طفل إلى أبويه ، فيأخذون بأيديهم ، فيدخلونهم الجنة ، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذٍ من أولادكم الذين في بيوتكم".
وفي "الواقعات المحمودية" : نقلاً عن حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : من كان أهل الجنة وزوجته لم تكن كذلك يخلق الله تعالى مثل زوجته في الجنة ، فيتسلى بها ، فإن قلت : كيف يكون التسلي بمثلها.
قلت : لا يعلم أنها مثلها ، فلو ظن أنها مثلها لا عينها لا يتسلى ، بل يحزن ، والجنة دار السرور لا دار الحزن ، ولذلك أرسل آدم عليه السلام إلى الدنيا لئلا يحزن في الجنة.
{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدوره.
يعني : (از هيج مقدور عاجز نشوى).
{الْحَكِيمُ} : الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إنجاز الوعد والوفاء به.
وفي "التأويلات النجمية" : أنت العزيز تعز التائبين وتحبهم ، وإن أذنبوا الحكيم فيما لم تعصم محبيك عن الذنوب ثم تتوب عليهم :
زمن سر زحكمت بدرمى برم
كه حكمت جنين ميرود بر سرم
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِا وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَـاـاِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَه وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الايمَـانِ فَتَكْفُرُونَ} .
{وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ} ؛ أي : احفظهم عما يسوؤهم يوم القيامة وادفع عنهم العقوبات ؛ لأن جزاء السيئة سيئة ، فتسميتها سيئة إما لأن السيئة اسم للملزوم ، وهو الأعمال السيئة ، فأطلق على اللازم وهو جزاؤها أو المعنى فهم جزاء السيئات على حذف المضاف على أن السيئات ، بمعنى الأعمال السيئة ، وهو تعميم بعد تخصيص لقوله : وقهم عذاب الجحيم وعذاب القبر ، وموقف القيامة والحساب والسؤال والصراط ونحوها ، أو مخصوص بمن صلح من الأتباع.
والأول دعاء للأصول.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَـاـاِذٍ} ؛ أي : يوم القيامة.
{فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ؛ لأن المعافى من العذاب مرحوم ، ويجوز أن يكون المراد بالسيئات الأول : المعاصي في الدنيا ، فمعنى قوله : ومن تق إلخ.
ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة ؛ كأنهم طلبوا لهم السبب بعدما سألوا المسبب.
وفي "التأويلات النجمية" : وقهم السيئات يعني بعد أن تابوا لئلا يرجوا إلى المعاصي والذنوب ، ومن تق السيئات يومئذٍ ، فقد رحمته يحيلون الأمر فيه على رحمته وبرحمته لم يسلط على المؤمن أراذل خلقه ، وهم الشياطين ، وقد قيض لشفاعته أفاضل من خلقه وهم الملائكة المقربون.
قال مطرف : أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق للمؤمنين الشياطين.
(8/119)
{وَذَالِكَ} : المذكور من الرحمة والوقاية.
{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : الفوز : الظفر مع حصول السلامة ؛ أي : هو الظفر العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.
وبالفارسية : (آن بيروزى برز كست جه هركه امروز دربناه عصمت الهيست فردا درساية رحمت نامتناهى خواهد بود ودرين باب كفته اند) :
امروز كسى را در آرى به بناه
فردا بمقام فريتش بخشى راه
وانراكه رهش ندادة بر دركاه
فردا جه كند كه نكند ناله وآه
يقول الفقير : ظهر من الآيات العظام ومن استغفار الملائكة الكرام أن بناء الإنسان محتاج إلى المعاونة لكونه تحت ثقل حمل الأمانة العظمى ، وهو المنور بنور لطفه وجماله تعالى ، وهو المحترق بنار قهره وجلاله سبحانه ، فطريقه طريق صعب ، وليس مثله أحد وما أشبه حاله مع الملائكة بحال الديك مع البازي ، قال للديك : ما أعرف أقل وفاء منك ، لأن أهلك يربونك
159
من البيضة ، ثم إذا كبرت لا يدنو منك أحد إلا طرأت ها هنا وها هنا ، وأنا أؤخذ من الجبال ، فيحبسون عيني ويجيعونني ويجعلونني في بيت مظلم ، وإذا أطلقوني على الصيد فآخذه ، وأعود إليهم ، فقال الديك : لأنك ما رأيت بازياً في سفود ، وهي الحديدة التي يشوى بها اللحم ، وكم قد رأيت ديوكاً في سفافيد ، ثم يجيب على من يطلب الفوز أن يناله من طريقه ، فكل سعادة في الآخرة ، فبذرها مزروع في الدنيا ، ولا بد للعاقل من التقديم لنفسه.
قال لقمان رحمه الله : يا بني لا تكن الذرة أيسر منك تجمع في صيفها لشتائها قبل اشتداد الشتاء ، وطلب ضفدع من الذرة ذخيرة ، فقالت : لم ترنمت في الصيف في أطراف الأنهار وتركت الادخار للشتاء.
قال الشيخ سعدي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
كنون باخرد بايد انباز كشت
كه فردا نما ندره باز كشت
أي : لا يبقى يوم القيامة طريق للرجوع إلى الدنيا.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} : المناداة والنداء : الدعوة ورفع الصوت ، وذلك أن الكفار يمقتون في جهنم أنفسهم الإمارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا من العذاب المخلد باتباع هواها ؛ أي : يغضبون عليها حتى يأكلون أناملهم ويبغضونها أشد البغض وينكرونها أشد الإنكار ، ويظهرون ذلك على رؤوس الأشهاد ، فعند ذلك تناديهم الملائكة ، وهم خزنة جهنم من مكان بعيد تنبيهاً على بعدهم عن الحق.
وبالفارسية : (بوقتى كه كفار بدوزخ درايند وبانفسها دشمن آغار كرده روبان عتاب وملامت بكشايند كه جرادر زمان اختيار ايمان نياوردند ملائكه آواز ميدهند ايشانرا وكويند).
{لَمَقْتُ اللَّهِ} : جواب قسم محذوف والمقت البغض الشديد لمن يراه متعاطياً والبغض : نفار النفس من الشيء ترغب عنه ، وهو ضد الحب ، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه ومقت الله غضبه وسخطه ، وهو مصدر مضاف إلى فاعله وحذف مفعوله لدلالة المقت الثاني عليه.
والمعنى : والله لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء.
{أَكْبَرُ} (بزركترست).
{مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} : اذكروا.
{إِذْ تُدْعَوْنَ} في الدنيا من جهة الأنبياء {إِلَى الايمَـانِ} ، فتأبون قبوله {فَتَكْفُرُونَ} بالله تعالى وتوحيده اتباعاً لأنفسكم ومسارعة إلى هواها ، ويجوز أن يتعلق إذ بالمقت الأول ، ولا يقدح فيه وجود الخبر في البين ، لأن في الظروف اتساعاً ، فالمعنى : غضب الله تعالى حين أغضبتموه في الدنيا حين كفرتم أكبر مقتكم أنفسكم اليوم.
يقول الفقير : دل قوله : إذ تدعون إلخ على أن سبب المقت هو الكفر ؛ كأنه قال : اذكروا ذلك ، فهو سبب المقت في الدنيا والآخرة.
والدخول في النار المحرقة القاهرة ، كما قال فيما سيأتي ذلكم بأنه إذا دعي الله إلخ وحقيقته أن الله تعالى أحب المحبين في الحقيقة ، كما أن النفس أعدى الأعداء ، فمن صرف محبة أحب المحبين إلى أعدى الأعداء ، وجرى على حكمه صرف الله نظره عنه وأبغضه.
كما قال الشيح سعدي :
نظر دوست نادر كند سوى تو
جودر روى دشمن بود روى تو
كرت دوست بايد كزو برخورى
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
نبايدكه فرمان دشمن برى
ندانى كه كمتر نهد دوست باى
جوبيند كه دشمن بود در سراى
ومقت الله على الكفر أزلي حفي لم يظهر أثره إلا في وقت وجود الكفر من الكافر وأبدي ؛
160
لأنه لا ينقطع بانقطاع الدنيا ، فالكافر مغضوب في الدنيا والآخرة ، وإنما كان مقت الله أكبر من مقت العبد ، لأن مقت العبد مأخوذ من مقت الله إذ لو لم يأخذه الله بجريمته لما وقع في مقت نفسه ، ولأن أشد العقوبات آثار سخط الله وغضبه على العباد ، كما أن أجل النعم آثار رضاه عنهم ، فإذا عرف الكافر في الآخرة أن ربه عليه غضبان ، فلا شيء أصعب على قلبه منه على أنه لا بكاء ينفعه ولاغناء يزيل عنه ما هو فيه ، ويدفعه ، ولا يسمع منه تضرع ولا يرجى له حيلة.
نسأل الله عفوه وعظاه ، وهو حسبنا مما سواه.
(8/120)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الايمَـانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَالِكُم بِأَنَّه إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِه تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} .
{قَالُوا} ؛ أي : الكفرة حين خوطبوا بهذا الخطاب.
{رَبَّنَآ} ؛ أي : (برور دكار مارا).
{أَمَتَّنَا} : إماتتين.
{اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا} إحياءتين.
{اثْنَتَيْنِ} : فهما صفتان لمصدر الفعلين المذكورين.
وفي الإماتتين والإحياءتين وجوه :
الأول : ما قال الكاشفي نقلاً من "التبيان" : (ذريت آدم راكه از ظهر از بيرون آورد وميثاق ازايشان فرا كرفت بميرانيد إماتة تخستين آنست ودر رحم كه نطفه بودند زنده كرد بس دردنيا بميرانيد ودر آخرت زنده كردانيد).
{فَاعْتَرَفْنَا} : أقررنا بسبب ذلك.
{بِذُنُوبِنَا} : لا سيما إنكار البعث يعني الأنبياء دعونا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وكنا نعتقد كالدهرية أن لا حياة بعد الموت ، فلم نلتفت إلى دعوتهم ودمنا على الاعتقاد الباطل حتى متنا وبعثنا ، فشاهدنا ما نحن ننكره في الدنيا ، وهو الحياة بعد الموت ، فالآن نعترف بذنوبنا.
{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} : نوع خروج من النار سريع أو بطيء أو نوع من الأعمال.
{مِّن سَبِيلٍ} : من طريق فنسلكه ، ونتخلص من العذاب أو هل إلى خروج إلى الدنيا من سبيل ، فنعمل غير الذي كنا نعمل كما قال : هل إلى مرد من سبيل ، فيقال : فحذف الجواب ، كما في "عين المعاني" ، أو الجواب ما بعده من قوله : ذلكم إلخ ، كما في غيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والثاني : أنهم أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتاً ، وذلك في الرحم قبل نفخ الروح كما قال تعالى : {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ} (البقرة : 124) ، وبالثانية : إماتتهم عند انقضاء آجالهم على أن الإماتة : جعل الشيء عادم الحياة ، وأرادوا بالإحياء الأول : الإحياء قبل الخروج من البطن ، وبالثاني : إحياء البعث ، ولا يلزم منه أن لا عذاب في القبر ، ولا حياة ولا موت ؛ فإنهم إنما لم يذكروها ؛ لأن حياة القبر ليست كحياة الدنيا ، ولا كحياة الآخرة ، كما في "الأسئلة المقحمة".
وقد ثبت بالتواتر أن النبي عليه السلام استعاذ من عذاب القبر ، وأجمع السلف على ذلك قبل ظهور أهل البدع ، حتى قال بعضهم في قوله تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنكًا} ، أنه أراد في القبر لأنا نشاهد كثيراً منهم عيشهم أرغد في الدنيا من عيش كثير من المؤمنين.
والثالث : أنهم أرادوا بالإماتة الأولى ما بعد حياة الدنيا.
وبالثانية : ما بعد حياة القبر.
وبالإحياءتين ما في القبر ، وما عند البعث ، قال في "الإرشاد" : وهو الأنسب بحالهم.
وأما حديث لزوم الزيادة على النص ضرورة تحقق حياة الدنيا ، فمدفوع لكن لا بما قيل من عدم اعتدادهم بها ، لزوالها وانقضائها وانقطاع آثارها وأحكامها ، بل بأن مقصودهم إحداث الاعتراف بما كانوا ينكرونه في الدنيا والتزام العمل بموجب ذلك الاعتراف ليتوسلوا بذلك إلى الرجوع إلى الدنيا ، وهو الذي أرادوه بقولهم ، فهل إلى خروج من سبيل مع نوع استبعاد له واستشعار يأس منه لا أنهم قالوه بطريق القنوط المحض ، ولا ريب في أن الذي كانوا ينكرونه ويفرعون عليه فنون الكفر والمعاصي ليس إلا
161
الإحياء بعد الموت ، وأما الإحياء الأول ، فلم يكونوا لينظموه في سلك ما اعترفوا به ، وزعموا أن الاعتراف يجديهم نفعاً ، وإنما ذكروا الموتة الأولى لترتبها عليهما ذكراً حسب ترتيبها عليهما وجوداً.
والرابع : على ما في "التأويلات النجمية" : أنهم أرادوا إماتة القلوب وإحياء النفوس ، ثم إماتة الأبدان وإحياءها بالبعث.
{ذَالِكُمُ} : قال في "الإرشاد" : جواب لهم باستحالة حصول ما يرجونه ببيان ما يوجبها من أعمالهم السيئة ؛ أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وهو مبتدأ خبره.
قوله : {بِأَنَّهُ} ؛ أي : بسبب أن الشأن {إِذَا دُعِىَ اللَّهُ} في الدنيا ؛ أي : عبد {وَحْدَهُ} ؛ أي : حال كونه منفرداً ، فهو في موضع الحال من الجلالة.
{كَفَرْتُمْ} ؛ أي : بتوحيده.
{وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} ؛ أي : إن يجعل له شريك.
{تُؤْمِنُوا} ؛ أي : بالإشراك به وتصدقوه وتسارعوا فيه.
ولفظ الاستقبال تنبيه على أنهم لو ردوا لعادوا إلى الشرك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الإرشاد" في إيراد إذا.
وصيغة الماضي في الشرطية الأولى ، وإن وصيغة المضارع في الثانية : ما لا يخفى من الدلالة على كمال سوء حالهم ، وحيث كان حالكم كذلك.
(8/121)
{فَالْحُكْمُ} : الذي لا يحكم إلا بالحق.
{الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} عن أن يشرك به إذ ليس كمثله شيء في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله.
وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ، ولا نهاية لعقوبته ، فلا سبيل لكم إلى الخروج أبداً.
قيل : كأن الحرورية أخذوا قولهم : لا حكم إلامن هذا.
وقيل : للخوارج حرورية لتجليتهم بحروراء واجتماعهم فيها ، وهي كحلولاء.
وقد تقصر قرية بالكوفة.
والخوارج قوم من زهاد الكوفة خرجوا عن طاعة عليّ رضي الله عنه عند التحكيم بينه وبين معاوية ، وذلك أنه لما طالت محاربة عليّ ، ومعاوية اتفق الفريقان على التحكيم إلى أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في أمر الخلافة ، وعلي ارتضى بما يريانه ، فقال القوم : المذكور إن الحكم إلا ، فقال عليّ رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل.
وكانوا اثني عشر ألف رجل أنكروا الخلافة ، واجتمعوا ونصبوا راية الخلاف ، وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل ، فخرج إليهم علي رضي الله عنه وأمرهم بالرجوع ، فأبوا إلا القتال ، فقاتلهم بالنهروان ، هي كزعفران بليدة قديمة بالقرب من بغداد ، فقتلهم واستأصلهم ، ولم ينج منهم إلا قليل.
وهم الذين قال عليه السلام في حقهم : يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وصومه في جنب صومهم ، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم".
وقال عليه السلام : الخوارج كلاب النار".
والحاصل : أن الخوارج من الفرق الضلالة لفسادهم في الاعتقاد وبإنكار الحق وفساد الاعتقاد ساء حال أكثر العباد في أكثر البلاد ، خصوصاً في هذه الأعصار ، فعلى العاقل أن يجيب دعوة الله ودعوة رسوله ، قولاً وعملاً وحالاً واعتقاداً ، حتى يفوز بالمرام ويدخل دار السلام ، ولا يكون كالذين أرادوا أن يتداركوا الحال بعد مضي الفرصة :
ملوث مكن دامن از كرد شوى
كه ناكه زبالا بيندند جوى
مكو مرغ دولت زقيدم بجست
هنوزش سر رشته دارى بدست
وكردير شد كرم روباش وجست
زدير آمدن غم ندارد درست
المراد : الترغيب في التوبة ، ولو في الشيب وقرب الموت.
{ذَالِكُم بِأَنَّه إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِه تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{هُوَ} : تعالى وحده {هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ} .
دلائل قدرته وشواهد وحدته في الأنفس والآفاق رعاية لمصالح أديانكم.
وفيه
162
إشارة إلى أنه ليس للإنسان أن يرى ببصيرته حقائق الأشياء إلا بإراءة الحق تعالى إياه.
{وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقًا} ؛ أي : سبب رزق ، وهو المطر مراعاة لمصالح أبدانكم ، فإن آيات الحق بالنسبة إلى حياة الأديان بمنزلة الأرزاق بالنسبة إلى حياة الأبدان.
{وَمَا يَتَذَكَّرُ} : التذكير : (بند كرفتن) ؛ أي : ما يتعظ وما يعتبر بتلك الآيات الباهرة ، ولا يعمل بمقتضاها {إِلا مَن يُنِيبُ} : يرجع إلى الله تعالى عن الإنكار ، ويتفكر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ونعمته الشاملة الظاهرة والباطنة الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى ، ومن ليس كذلك ، وهو المعاند ، فهو بمعزل عن التذكر والاتعاظ ، فإذا كان الأمر كذلك ؛ أي : كما ذكر من اختصاص التذكر بمن ينيب.
{فَادْعُوا اللَّهَ} : فاعبدوه أيها المؤمنون.
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ؛ أي : حال كونكم مخلصين له دينكم وطاعتكم من الشرك والالتفات إلى ما سواه بموجب إنابتكم إليه وإيمانكم به.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} : ذلك وغاظهم إخلاصكم.
قال الكاشفي : (واكرجه كار عند كافران واخلاص شمادر توحيد اوزيرا كه ايشان بنعمت ايمان كافر ند وشما بران نعمت شاكر بس ميان شما منافر تست واعمال واقوال شما مرغوب ومحبوب ايشان نيست جنانجه كردار وكفتار ايشان نيز در نزدشما مكروه ومبغوض است) :
زاهدى در سماع رندان بود
زان ميان كفت شاهد بلخى
كر ملولى زما ترش منشين
كه توهم درميان ما تلخى
وفي الآية إشارة إلى أن المدعو من الله تعالى ينبغي أن يكون لذاته تعالى مخلصاً غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة ، ولو كان على كراهة النفس ، فإنها تميل إلى مشاربها :
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
(8/122)
فلا بد من الإخلاص مطلقاً ، فاعمل لربك خالصاً طيباً ، فإنه طيب لا يقبل إلا الطيب وفي الحديث : "يؤجر ابن آدم في نفقته كلها إلا شيئاً وضعه في الماء والطين".
قال حضرت الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره في كشف سر هذا الحديث ، وإيضاح معناه : اعلم أن صور الأعمال أعراض جواهرها مقاصد العمال وعلومهم واعتقاداتهم ومتعلقات هممهم.
وهذا الحديث وإن كان من حيث الصيغة مطلقاً ، فالأحوال والقرائن تخصصه وذلك ، أن بناء المساجد والرباطات ومواضع العبادات يؤجر الباني لها عليها بلا خلاف :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
جون بود قصدش از ريا منفك
مزديابد بران عمل بيشك
فالمراد بالمذكور هنا إنما هو البناء الذي لم يقصد صاحبه التنزه.
والانفساح والاستراحة والرياء والسمعة ، وإذا كان كذلك ، فمطمح همة الباني ومقصده لا يتجاوز هذا العلم ، فلا يكون لبناءه ثمرة ونتيجة في الآخرة ؛ لأنه لم يقصد أمراً وراء هذه الدار ، فأفعاله أعراض زائلة لا موجب لتعديها من هنا إلى الآخرة ، فلا إثمار لها ، فلا أجر.
وبالفارسية :
هر كه ميخواهد از عمارت كل
فسحت دار ونزهت منزل
يا تفاخر ميانة أقران
كه بنا كرد مسجدى ويران
163
جون باخلاص همت عامل
متجاوز نشد ز عالم كل
نفقاتش درآب وكل موضوع
ماند واوزا جران بود مقطوع
بلكه در حج وعمره وصلوات
جون بود بهر عاجلت نفقات
همه ماند درآب وكل مرهون
ندهد اجر صانع بيجون
هر كرا از عمارت كل وآب
هست مقصود كسب قرب وثواب
جون زكل در كذشت همت وى
نفقاتش همه رود دربى
نفقاتش جو قطع كرد اين راه
عندكم بود كشت عند الله
كل ما كان عندكم ينفد
دام ما عنده إلى السرمد
قال تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل : 96).
والمرجو من الله تعالى أن يجعلنا من أهل الاختصاص بفيض كمال الإخلاص.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَـارِزُونَا لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ} .
{رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} : خبر آخر لقوله : هو والرفيع صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم كما هو المشهور ، وتفسيره بالرفع ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول بعيد في الاستعمال ، كما في "الإرشاد" والدرجة : مثل المنزلة ، لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على نحو درجة السطح والسلم ، قاله الراغب.
وفي "أنوار المشارق" : الدرجة إن كانت بمعنى المرقاة فجمعها درج وإن كانت بمعنى المرتبة ، والطبقة ، فجمعها درجات.
واختلف العلماء في تفسير هذه الآية ، ففي "الإرشاد" : هو تعالى رفيع الدرجات ملائكته ؛ أي : مرتفعة معارجهم ومقاعدهم إلى العرش.
وفي "تفسير أبي الليث" : خالق السماوات ورافعها مطلقاً بعضها فوق بعض من طبق إلى طبق خمسمائة عام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "كشف الأسرار" : (بر دارندة درجهاى بند كانست وبريكديكر جه دردنيا جه در در دنيا آنست كه كفت).
{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـاـاكُمْ} (الأنعام : 165) يعني : (بر داشت شمارا زير يكديكر درجهاى افزونى يكى را بدانش يكى راينسب يكى را بمال يكى را بشرف يكى را بصورت يكى را بقوت جاى ديكر كفت).
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} (الزخرف : 32) ، يعني : (برداشتيم ايشانرا بريكديكر در عز ومال در رزق ومعيشت يكى مالك يكى مملوك يكى خادم يكى مخدوم يكى فرمانده يكى فرمانبرا اما درجات آنست كفت).
وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً (هركه دردنيا بمعرفت وطاعت افزو نتردر عقبى بحق نزد يكتر وكرامت وى بيشتر).
فهو رافع الدرجات في الدنيا بتفاوت الطبقات.
وفي العقبى بتباين المراتب والمقامات.
روي أن أسفل أهل الجنة درجة ليعطى مثل ملك الدنيا كلها عشر مرات ؛ وأنه ليقول : أي رب لو أذنت لي أطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص ذلك ، مما عندي شيئاً ، وإن له من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا.
وقال بعضهم : رافع درجات (انبياست عليهم السلام درجة آدم را بصفوت بر داشت ونوح را بدعوت وإبراهيم رابخلت وموسى را بقربت وعيسى رابزهادت ومحمد را بشفاعت).
وقال بعضهم : رافع درجات العصاة بالنجاة والمطيعين بالمثوبات وذي الحاجات بالكفايات والأولياء بالكرامات ، والعارفين بالارتقاء عن الكونين ، والمحبين بالفناء عن المحبية ، والبقاء بالمحبوبية.
164
(عزيزى فرموده كه).
لا يوجد البقاء إلا بالفناء (تا شربت فنا ننوشى) :
بنوش درد فنا كر بقاهمى خواهى
كه زاد راه بقاى دردى خراباتست
زحال خويش فنا شود درين ره اى عطار
كه باقى ره عشاق فانى الذاتست
(8/123)
يقول الفقير : حقيقة الآية عند السادات الصوفية قدس الله أسرارهم أنه تعالى رفيع درجات أسمائه وصفاته ، وطبقات ظهوراته في تنزلاته واسترسالاته ، فإنه تعالى خلق العقل الأول ، وهو أول ما وجد من الكائنات ، وهو آدم الحقيقي الأول ، والروح الكلي المحمدي ، والعلم الأعلى ، وهو أول موجود تحقق بالنعم الإلهية وآخر الموجودات تحققاً بهذه النعم هو عيسى عليه السلام ؛ لأنه لا خليفةبعده إلى يوم القيامة ، بل لا يبقى بعد انتقاله ، وانتقال من معه مؤمن على وجه الأرض فضلاً عن ولي كامل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي الحديث : "لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول : الله ، الله" ؛ أي : الملازم الذكر لا الذاكر في الجملة ، فلا بدّ للمصلي من أن يستحضر عند قوله : صراط الذين أنعمت عليهم جميع من أنعم الله عليه من العلم الأعلى إلى عيسى ، ثم خلق الله النفس الكلية التي منها وجدت النفوس الناطقة كلها ، وهي حواء الحقيقية الأولى ، ثم أوجد الطبيعة الكلية التي في الأجسام الجزئية وبواسطتها ظهر الفعل ، والانفعال في الأشياء ، ثم الهباء ، ثم الشكل الكلي ، وهو الهيولى الجسمية ، ثم جسم الكلي ، ثم الفلك الأطلس الذي هو العرش الكريم ، ثم الكرسي على ما ذكره داود القيصري ، وأما حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره ، فلم يجعل الفلك الأطلس هو العرش بعينه ، فالترتيب عنده العرش ثم الكرسي ، ثم فلك الأطلس سمي به لخلوه عن الكواكب ، كخلو الأطلس عن النقش ، ثم المنازل ، ثم سماء كيوان ، ثم سماء المشتري ، ثم سماء المريخ ، ثم سماء الشمس ، ثم سماء الزهرة ، ثم سماء عطارد ، ثم سماء القمر ، ثم عنصر النار ، ثم عنصر الهواء ، ثم عنصر الماء ، ثم عنصر التراب ، ثم المعدن ، ثم النبات ، ثم الحيوان ، ثم الملك ، ثم الجن ، ثم الإنسان الذي هو مظهر الاسم الجامع ، ثم ظهر في مرتبته التي هي مظهر الاسم الرفيع ، فتم الملك والملكوت.
وهذه الحقائق كلها درجات إلهية ومراتب رحمانية دلعليها قوله تعالى : رفيع الدرجات.
{ذُو الْعَرْشِ} : خبر آخر لقوله : هو ؛ أي : هو تعالى مالك العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي.
وله أربعمائة ركن من الركن إلى الركن أربعمائة ألف سنة خلقه فوق السماوات السبع وفوق الكرسي إظهاراً لعظمته وقدرته لا مكاناً لذاته ، فإنه الآن على ما كان عليه ، وإنما ذكره على حدّ العقول ؛ لأن المعقول لا تصل إلا إلى مثله ، وإلا فهو أقل من خردلة في جنب جلاله تعالى وعظمته أيضاً خلقه ليكون مضافاً لملائكته ، وليكون قبلة الدعاء ، ومحل نزول البركات ؛ لأنه مظهر لاستواء الرحمة الكلية ، ولذا ترفع الأيدي إلى السماء وقت الدعاء ؛ لأنه بمنزلة أن يشير سائل إلى الخزانة السلطانية ، ثم يطلب من السلطان أن يفيض عليه سجال العطاء من هذه الخزانة.
قال العلماء : يكره النظر إلى السماء وفي الصلاة ، وأما في غيرها فكرهه بعض ، ولم يكرهه الأكثرون ؛ لأن السماء قبلة الدعاء ، وأيضاً خلقه ليكون موضع كتاب الأبرار.
كما قال تعالى : {إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) ، وليكون مرآة للملائكة ، فإنهم يرون الآدميين من تلك المرآة ، ويطلعون على
165
أحوالهم ، كي يشهدوا عليهم يوم القيامة ، وليكون ظلة لأهل المحشر من الأبرار والمقربين يوم تبدل السماوات والأرض ، وليكون محلاً لإظهار شرف محمد صلىتعالى عليه وسلم ، كما قال تعالى : {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء : 79) ، وهو مقام تحت العرش فيه يظهر أثر الشفاعة العظمى للمؤمنين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
ويقال : إن الله تعالى رفع من كل شيء شيئاً ، المسك من الطيب ، والعرش من الأماكن ، والياقوت من الجواهر ، والشمس من الأنوار ، والقرآن من الكتب ، والعسل من الحلوى ، والحرير من اللباس ، والزيتون من الأشجار ، والأسد من السباع ، وشهر رمضان من الشهور ، والجمعة من الأيام ، وليلة القدر من الليالي ، والتوحيد من المقال ، والصلاة من الفعال ، ومحمداً عليه السلام من الرسل ، وأمته من الأمم.
هذا إذا كان العرش بمعنى الجسم المحيط ، ويقال : العرش الملك ، والبسطة ، والعز.
يقال : فلان ثل عرشه ؛ أي : زالت قوته ومكنته.
(8/124)
وروي أن عمر رضي الله عنه : رؤي في المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك قال : لولا أن تداركني الله لثل عرشي ، فيكون معنى ذو العرش على ما في "التأويلات النجمية" : ذو الملك العظيم ؛ لأنه تعالى خلقه أرفع الموجودات وأعظمها جثة إظهاراً للعظمة ، وأيضاً : ذو عرش القلوب ، فإنها العرش الحقيقي ؛ لأن الله تعالى استوى على العرش بصفة الرحمانية ، ولا شعور للعرش به ، واستوى على قلوب أوليائه بجميع الصفات ، وهم العلماء بالله مستغرقين في بحر معرفته ، فإذا كان العرش الصوري ، والمعنوي في قبضة قدرته ، وهو مستوللٍ عليه ، ومتصرف فيه لا مالك ولا متصرف له غيره ، لا يصح أن يشرك به مطلقاً ، بل يجب أن يعبد ظاهراً وباطناً حقاً وصدقاً.
{يُلْقِى الرُّوحَ} : بيان لإنزال الرزق المعنوي الروحاني من الجانب العلوي بعد إنزال بيان الرزق الجسماني منه ، ولذا وصف نفسه بكونه رفيع الدرجات وذا العرش ؛ لأن آثار الرحمة مطلقاً ، إنما تظهر من جانب السماء خصوصاً العرش مبدأ جميع الحركات.
والمعنى : ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد ، فكما أن الروح سبب لحياة الأحسام ، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب ، فإن حياة القلوب إنما هي بالعارف الإلهية الحاصلة بالوحي ، فاستعير الروح للوحي ؛ لأنه يحيا به القلب بخروجه من الجهل والحيرة إلى المعرفة والطمأنينة ، وسمي جبرائيل روحاً ؛ لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب وسمي عيسى روح الله ؛ لأنه كان من نفخ جبرائيل وأضيف إلى الله تعظيماً.
واعلم أن ما سوى الله تعالى إما جسماني ، وإما روحاني.
والقسمان مسخران تحت تسخيره تعالى.
أما الجسماني ، فأعظمه العرش ، فقوله : ذو العرش يدل على استيلائه على جميع عالم الأجسام كله ، وقوله : يلقي الروح يدل على أن الروحانيات أيضاً مسخرات لأمره ، فإن جبرائيل إذا كان مسخراً له في تبليغ الوحي إلى الأنبياء ، وهو من أفاضل الملائكة ، فما طنك بغيره.
وأما الوحي نفسه ، فهو من الأمور المعنوية ، وإنما يتصور بصورة اللفظ عند الإلقاء {مِنْ أَمْرِهِ} : بيان للروح الذي أريد به الوحي ، فإنه أمر بالوحي وبعث للمكلف عليه ، فيما يأتيه ويذره ، فليس المراد بالأمر هنا ما هو بمعنى الشأن ، أو حال كونه ناشئاً ، ومبتدأ من أمره تعالى : {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وهو الذي اصطفاه لرسالته وتبليغ الأحكام إليهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال الضحاك : الروح جبرائيل ؛ أي : يرسله إلى من يشاء من أجل أمره يخاطب بهذا
166
من كره نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي "التأويلات النجمية" : روح الدراية للمؤمنين ، وروح الولاية للعارفين ، وروح النبوة للنبيين.
وفي الآية دليل على أن النبوة عطائية لا كسبية.
وكذا الولاية في الحقيقة إذ لا ينظر إلى الأسباب الخارجة بل إلى الاختصاص الإلهي.
{لِيُنذِرَ} غاية للإلقاء ؛ أي : لينذر الله تعالى أو الملقى عليه ، أو الروح.
والإنذار : دعوة إبلاغ مع تخويف {يَوْمَ التَّلاقِ} .
إما ظرف للمفعول الثاني ؛ أي : لينذر الناس العذاب يوم التلاق ، وهو يوم القيامة ، أو هو المفعول الثاني اتساعاً ، أو أصالة ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار أصالة.
وسمي يوم القيامة يوم التلاق ؛ لأنه تتلاقى فيه الأرواح والأجساد ، وأهل السماوات والأرض والعابدون والمعبودون والعاملون والأعمال والأولون والآخرون والظالمون والمظلومون ، وأهل النار مع الزبانية.
{يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ} : بدل من يوم التلاق يقال : برز بروزاً : خرج إلى البراز ؛ أي : الفضاء كتبرز وظهر بعد الخفاء كبرز بالكسر ؛ أي : خارجون من قبورهم ، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل ، أو أكمة ، أو بناء لكون الأرض يومئذٍ مستوية ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما في الحديث : "يحشرون حفاة عراة غرلاً جمع حاففٍ وهو من لا نعل له ، وجمع عارٍ ، وهو من لا لباس عليه ، وجمع أغرل ، وهو الأقلف الذي لم يختن ؛ أي : غير مختونين إلا قوماً ماتوا في الغربة مؤمنين لم يزنوا ؛ فإنهم يحشرون ، وقد كسوا ثياباً من الجنة ، وقوماً أيضاً من أمة محمد عليه السلام ، فإنه عليه السلام ، قال : يوماً بالغوا في أكفان موتاكم ؛ فإن أمتي يحشر بأكفانها وسائر الأمم حفاة عراة".
(8/125)
{لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ} ما من أعيانهم وأعمالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة مع كثرتهم كما قال تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة : 18) ، وكانوا في الدنيا يتوهمون إنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب فإن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم يومئذٍ لا يتوهمون ذلك أصلاً.
{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؛ أي : يقال : حين بروزهم وظهور أحوالهم ؛ أي : ينادي منادٍ لمن الملك اليوم ، فيجيب ؛ أي : ذلك المنادي بعينه ، ويقول : {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، أو يجيبه أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم لحصول العلم الضروري بالوحدانية للكافر أيضاً ، لكن الكافر يقوله : صغاراً ، وهو أنا وعلى سبيل التحسر والندامة والمؤمن ابتهاجاً وتلذذاً إذ كان يقوله في الدنيا أيضاً ، وهذا يسمى سؤال التقرير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقيل : إن المجيب إدريس عليه السلام ، فإن قلت : كيف خص ذلك بيوم مخصوص ، والملكفي جميع الأوقات.
قلت : هو وإن كانفي جميع الأيام إلا أنه سبحانه ملك عباده في الدنيا ، ثم تكون دعاويهم منقطعة يوم القيامة ، لا يدعي مدع ملكاً ، ولا ملكاً ، يومئذٍ ، ولذا قال : لمن الملك اليوم.
قال في "كشف الأسرار" : (دران روز رازها آشكار شود بردهاى متواريان درند توانكران بى شكررا در مقام حساب بدارند ودرويشان بى صبر را جامة نفاق از سر بركشند آتش فضيحت در طيلسان عالمان بى عمل زنند خاك ندامت بر فرق قراء مرائى ريزند يكى از خاك وحشت بيرون مى آيد جنانكه خا كستر ازمياق آتش يكى جنانكه درازميان صدف يكى ميكويد اين الفرار من الله يكى ميكويد).
أين الطريق إلى الله؟.
(يكى ميكويد).
{مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا} (الكهف : 49) : (يكى ميكويد).
167
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (فاطر : 34) : (آن روز بادشاهان روى زمين رامى آرند ودست سلطنت ايشان برشتة عزل بربسته ندا آيد كه بادشاهى كراسز دمكرس واحد قهار راكه برهمه شاهان بادشاهست وى نه بحشم وسباهست سلطان جهان بملك ومال وبنعمت وسوار وبياده ودركاه فخر كنند وملك إلهي بر خلاف اينست كه او جل جلاله رسوم كون را آتش بينيازى درزند وعالم را هباء منثور كرداند وتيغ قهر برهيا كل أفلاك زند نداد هد كه لمن الملك اليوم كراز هرة آن بود كه اين خطاب را جواب دهد جزاو اى مسكين قيامت كه سران وسر هنكان دين را دربناه كرم إلهي جاى دهد ندانم كه ترابان سينة آلوده وعمل شوريده كجانسانند ورخت كجا نهند اي مسكين اكر بى مارى آخر ناله كو وا كر درباطنت آتشيست دودى كو واكر مرد بازركانى سالها برا مد سودى كو طيلسان موسى ونعلين هارونت جه سود جون بزير رداء فرعون دارى صد هزار).
ويجوز أن يكون قوله : لمن الملك اليوم.
إلخ.
حكاية لما دل عليه ظاهر الحال في ذلك اليوم من زوال الأسباب ، وارتفاع الوسائط إذ لولا الأسباب لما ارتاب المرتاب ، وأما حقيقة الحال ، فناطقة بذلك دائماً ، وقيل : السائل ، والمجيب هو الله تعالى وحده ، وذلك بعد فناء الخلق ، فيكون ابتداء كلام من الله تعالى.
وها هنا لطيفة ، وهي أن سورة الفاتحة نصفها ثناءونصفها دعاء للعبد ، فإذا دعا واحد يجب على الآخر التأمين ، فإذا قلت : ولا الضالين ؛ كأنه يقول : ينبغي أن أقول : آمين.
فكن أنت يا عبدي نائباً عني ، وقل آمين ، وإذا كان يوم القيامة ، وأقول : أنا لمن الملك اليوم ، يجب عليك أن تقول : الواحد القهار ، وأنت في القبر ، فأكون أنا نائباً عنك ، وأقول : الواحد القهار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال ابن عطاء : لولا سوء طبائع الجهالة وقلة معرفتهم لما ذكر الله قوله : لمن الملك اليوم ، فإن الملك لم يزل ولا يزال له ، وهو الملك على الحقيقة ، وذلك لما جهلوا حقه وحجبوا عن معرفته وشاهدوا الملك وحقيقته في الآخرة ألجأهم الاضطرار إلى أن قالوا : الواحد القهار ، فالواحد الذي بطل به الأعداد.
والقهار : الذي قهر الكلّ على العجز بالإقرار له بالعبودية طوعاً وكرهاً.
قال شيخي وسندي روح الله روحه في قوله : الواحد القهار ، ترتيب أنيق ، فإن الذات الأحدية تدفع بوحدتها الكثرة وبقهرها الآثار ، فيضمحل الكل ، فلا يبقى سوى الله تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" : يومهم بارزون ؛ أي : خارجون من وجودهم بالفناء لا يخفى على الله منهم شيء من وجودهم عند إفنائه حتى لا يبقى له غير الله ، فيقول الله تعالى : لمن الملك اليوم ، يعني : ملك الوجود.
وهذا المقام الذي أشار إليه الجنيد قدس سره بقوله : ما في الوجود سوى الله ، فإذا لم يكن لغير الله ملك الوجود يكون هو الداعي ، والمجيب ، فيقول : الواحد القهار ؛ لأنه تعالى تجلى بصفة القهارية ، فما بقي الداعي ولا المجيب غير الله :
جامى معاد ومبدأ ما وحدتست وبس
ما درميانه كثرت موهوم والسلام
(8/126)
{يَوْمَ هُم بَـارِزُونَا لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌا لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْا لا ظُلْمَ الْيَوْمَا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَا مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} .
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ} : إما من تتمة الجواب ، أو حكاية لما سيقوله تعالى يومئذٍ عقيب السؤال.
والجواب : أي : تجزى كل نفس من النفوس البرة والفاجرة من خير أو شر.
{لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} ، بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، يعني : (نه از ثواب كسى كم كنند ونه بر عقاب
168
كسى افزايند ونه كسى رابكناه كسى بكير ند ونه نيكى راباداش بدى دهند).
{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ؛ أي : سريع حسابه تماماً إذ لا يشغله تعالى شأن عن شأن ، فيحاسب الخلائق مع كثرتهم في أقرب زمان ، ويصل إليهم ما يستحقونه سريعاً ، فيكون تعليلاً لقوله تعالى : اليوم تجزى.
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاق ، ويوم البروز ربما يودهم استبعاد وقوع الكل فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : إذا أخذ في حسابهم لم يقل : أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها ، قوله : لم يقل من قال يقيل قيلولة ، وهي النوم في نصف النهار.
قال في "كشف الأسرار" : (هركه اعتقاد كرد كه اورا روزى دربيش است كه دران روز باوى سؤالي وجوابي وحسابي وعتابي هست وروز بيقرار بود دمبدم مشغول ومستغرق كار بود ميزان تصرف ازدست فرونهد بعيب كس ننكرد همه عيب خودرا مطالعه كند همه حساب خود كند در خبر است).
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتهيؤوا للعرض الأكبر.
(يكى از بزركان دين روزى نامة نوشت ودرخانة عاريتى بود كفتا خواستم كه آن راخاك بر كنم تاخشك شود بر خاطرم كذشت نبايدكه فردا از عهدة اين مظلمه بيرون نتوانم آمدها نفى آو از داد) ، سيعلم المستخف بترتيب الكتاب ما يلقى عند الله غداً من طول الحساب.
(آرى فردا روز عرض وحساب بداندكه جه كرد آنكس كه نامة خويش بخاك خانة كسان خشمك كرد).
وفي الحديث : يقول الله : "أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وعنده مظلمة حتى أقتص منه" ، وتلا عليه السلام هذه الآية.
وفي بعض الروايات لأقتص من القرناء للجماء ؛ أي : قصاص مقابلة لا تكليف :
در وعده أهل ظلم حالى عجبست
ورزيدن ظلم را وبالى عجبست
از ظلم برهيز كه درروز جزا
لا ظلم اليوم كو شمالى عجبست
{وَأَنذِرْهُمْ} : خوفهم يا محمد ، يعني أهل مكة.
{يَوْمَ الازِفَةِ} : منصوب على أنه مفعول به لأنذرهم ؛ لأنه المنذر به والآزفة : فاعلة من أزف الأمر على حدّ علم إذا قرب.
والمراد : القيامة ولذا أنث ونظيره : أزفت الآزفة ؛ أي : قربت القيامة ، وسميت بالآزفة لأزوفها ، وهو القرب لأن كل آتتٍ قريب ، وإن استبعد اليائس أمده.
وفي الحديث : "بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني".
والإشارة بهاتين إلى السبابة والوسطى ، يعني : أن ما بيني وبين الساعة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان مقدار فضل الوسطى على السبابة شبه القرب الزماني بالقرب المساحي ، لتصوير غاية قرب الساعة ، ثم في الأزوف إشعار بضيق الوقت ، ولذا عبّر عن القيامة بالساعة.
وقيل : أتى أمر الله ، فعبر عنها بلفظ الماضي تنبيهاً على قربها ، وضيق وقتها كما في "المفردات".
وقال بعضهم : أنذرهم يوم الخطة الآزفة ؛ أي : وقتها ، وهي مشارقة أهل النار دخولها والخطة بالضم الأمر ، والقصة وأكثر ما يستعمل في الأمور العصبة التي تستحق أن تخط وتكتب لغرابتها ، كما في حواشي سعدي المفتي : {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} : جمع حنجرة ، وهي الحلقوم ، وهي بالفارسية : (كلو).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والجملة : بدل من يوم الآزفة ، فإن القلوب ترتفع عن أماكنها من شدة الفزع ،
169
فتلتصق بحلوقهم فلا تعود فيستروحوا ويتنفسوا ، ولا تخرج فيستريحوا بالموت.
وقيل : يلتفح السحر خوفاً ؛ أي : الرئة ، فيرتفع القلب إلى الحنجرة.
{كَـاظِمِينَ} : حال من أصحاب القلوب على المعنى إذ الأصل : إذ قلوبهم لدى حناجرهم بناء على أن التعريف اللامي بدل من التعريف الإضافي يقال : كظم غيظه ؛ أي : رد غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر.
والمعنى : كاظمين على الغم والكربة ساكتين حال امتلائهم بهما يعني : لا يمكنهم أن ينطقوا ويصرحوا بما عندهم من الحزن والخوف من شدة الكربة ، وغلبة الغم عليهم ، فقوله : إذ القلوب لدى الحناجر تقرير للخوف الشديد.
وقوله : كاظمين تقرير للعجز عن الكلام ، فإن الملهوف إذا قدر على الكلام وبث الشكوى حصل له نوع خفة وسكون ، وإذا لم يقدر عظم اضطرابه واشتد حاله.
(8/127)
{مَا لِلظَّـالِمِينَ} ؛ أي : الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} ؛ أي : قريب مشفق ، يعني : (هيج خويشى مشفق ويار مهربان عذاب ايشان را دفع كند).
{وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} : وشفيع مشفع على معنى نفي الشفاعة والطاعة معاً ، وعلى أن يطاع مجاز عن يجاب وتقبل شفاعته ؛ لأن المطيع في الحقيقة يكون أسفل حالاً من المطاع ، وليس في الوجود من هوأعلى حالاً من الله تعالى حتى يكون مطاعاً له تعالى.
وفي الآية بيان أن لا شفاعة في حق الكفار ؛ لأنها وردت في ذمهم ، وإنما قيل للظالمين موضع للكافرين ، وإن كان أعم منهم ومن غيرهم من العصاة ، بحسب لظاهر تسجيلاً لهم بالظلم ، ودلالة على اختصاص انتفاء كل واحد من الحميم والشفيع المشفع بهم فثبت أن لعصاة المسلمين حميماً وشفيعاً ومشفعاً ، وهو النبي عليه السلام ، وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين والملائكة أجمعين.
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَا مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّا وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍا إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
{يَعْلَمُ} : (ميداند خداى تعالى).
{خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ} ؛ أي : النظرة الخائنة للأعين وإسناد الخيانة إلى النظرة مجاز لأن الخائن هو الناظر أو يعلم خائنة الأعين على أنها مصدر كالعافية كقوله تعالى : {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآاـاِنَةٍ مِّنْهُمْ} (المائدة : 13).
والخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيضها الأمانة.
والمراد هنا : استراق النظر إلى غير المحرم كفعل أهل الريب.
والنظرة الثانية إليه.
وفي الخبر "يا ابن آدم لك النظرة الأولى" معفوة لوقوعها مفاجأة دون الثانية لكونها مقارنة للقصد ، وهي من قبيل زنا النظر.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
كرزناى جشم حظى مى برى
نى كباب از بهلوى خود ميخورى
وذلك لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس.
والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة.
قال الكاشفي :
جشم نظر بانجة حرامست
يا غمز كرده بمعايب مردم
أي : الرمز بالعين على وجه العيب :
دو جشم از بى صنع باري نكوست
زعيب برادر فروكير ودوست
(يا كذب در رؤيت وعدم رؤيت).
يعني : يدعي الرؤية كذاباً ، أو ينكرها.
وفي "التأويلات النجمية" : خائنة أعين المحبين استحسانهم شيئاً غير المحبوب ، والنظر إلى غير المحبوب.
وفي معناها قيل : ()
فعيني إذا استحسنت غيركم
أمرت الدموع بتأديبها
حكي : أن بعضهم مرَّ بدكان.
وفيه نطاق معلق فتعلق به نظره ، فاستحسنه ، ثم لما تباعد عن الدكان.
170
فقد النطاق من محله ، فاتبعه صاحب الدكان ، ففتش عنه ، فوجده على وسطه.
وكان ذلك عقوبة من الله عليه لاستحسانه ذلك النطاق حتى اتهم بسرقته وعوقب عليه.
قال أبو عثمان : خيانة العين ، هو أن لا يغضها عن المحارم ويرسلها إلى الهوى والشهوات.
وقال أبو بكر الوارق : يعلم من يمد عينيه إلى الشيء معتبراً ، ومن يمد عينيه لإرادة الشهوة.
وقال أبو جعفر النيسابوري : زنا العارف نظره بالشهوة إمام قشيري : (فر مود كه خيانت جشمهاى محبان آنست كه در أوقات مناجات خواب را بيرا من آن كذا رند خيانكه در زبور آمده كه دروغ كويد هركه دعوى محبت من كند وجون شب در آيد جشم از بخواب رود (ع) ومن نام عينا نام عنه وصالنا) :
خواب رابا ديده عاشق جه كار
جشم او جون شمع باشد اشكبار
جشمهاى عاشقا نرا خواب نيست
بك نفس ان جشمهابى آب نيست
{وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} : من الضمائر والأسرار مطلقاً خيراً كانت أو شراً ، ثبت بهذا أن أفعال القلوب معلومةتعالى.
وكذا أفعال الجوارح تكون ؛ لأن أخفاها ، وهي خائنة الأعين إذا كانت معلومةتعالى ، فعلمه تعالى سائر أفعال الجوارح يكون أولى ، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد ، ويجب أن يكون خوف المجرم منه أشد وأقوى ، فقوله تعالى : يعلم.
إلخ.
في قوة التعليل للأمر بالإنذار.
وفي "التأويلات النجمية" : وما تخفي الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح ، فالحق به خبير ، ويكون السالك موقوفاً بها ، حتى يخرج من تعلقها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/128)
وقال بعضهم : خيانته في الصدور أن لا يصير في مقام القبض ليجري عليه أحكام الحقيقة ، ثم ينكشف له عالم البسط ، فقد وصف الله خيانة العيون وخفايا الصدور.
وقال : لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وذلك أن العين باب من أبواب القلب ، فإذا رأت شيئاً يكون حظ القلب منه يعلم ذلك نفسه ، فيطلب الحظ منه ، ومن القلب إلى العين باب يجري عليها حركة هواجس النفس تحثها على النظر إلى شيء فيه لها نصيب ، فإذا تحققت ذلك علمت أن خيانة الأعين متعلقة بما تخفي الصدور ، وإذا كان العارف عارفاً بنفسه وراضها برياضات طويلة وطهرها بمجاهدات كثيرة وزمها بزمام الخوف وآداب الشريعة ، صارت صافية من حظوظها ، ولكن بقيت في سرها جبلتها على الشهوات ، ففي كل لحظة يجري في سرها طلب حظوظها ، ولكنها سترتها عن العقل وأخفتها عن الروح من خوفها ، فإذا وجدت الفرصة خرجت إلى رؤية العين ، فتنظر إلى مرادها ، فتسرق حظها من النظر إلى المحارم ، وذلك النظر خفي ، وتلك الشهوة خفية وصفهما الله سبحانه في هذه الآية ، واستعاذ منهما النبي عليه السلام ، حيث قال : أعوذ بك من شهوة خفية ، ثم إن الروح العاشق إذا احتجب عن مشاهدة جمال الأزل ينقبض ويطلب حظه ، ولا يقدر أن ينظر إلى الحق ، فيطلب ذلك من الصورة الإنسانية التي فيها آثار الروحانية ، فينظر من منظره إلى منظر العقل ، ومن منظر العقل إلى منظر القلب ، ومن منظر القلب إلى منظر النفس ، ومن منظر النفس إلى منظر الصورة ، وينظر من العين إلى جمال المستحسنات ، لينكشف له ما استتر
171
عنه من شواهد الحق ، فتذهب النفس معه وتسرق بحثه حظها ، من النظر بالشهوة ، فذلك النظر منها غير مرضي في الشرع ، والطريقة والحقيقة ، وكذا نظر الروح إلى الحق بالوسائط خيانة ، فيلزم عليه أن يصبر على الانقباض إلى أن يتجلى له جمال الحق بغير واسطة.
قال الشيخ سعدي :
جرا طفل يك روزه هو شش نبرد
كه در صنع ديدن جه بالغ جه بلغ جه خرد
محقق همي بيند اندر ابل
كه درخو برويان جبن وجكل
ومن الله التوفيق لنظر التحقيق.
{وَاللَّهُ يَقْضِى} يحكم.
{بِالْحَقِّ} ؛ أي : بالصدق والعدل في حق كل محسن ومسيء ؛ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق ، فلا يقضي بشيء إلا وهو حق وعدل يستحقه المكلف ، ويليق به ففيه تشديد لخوف المكلف.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} ؛ أي : يعبدونهم.
{مِن دُونِهِ} تعالى ، وهم : الأصنام.
وبالفارسية : (وآنانهم را كه مى برستند مشركان بدون خدا).
{لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ} : (حكمى نمى كنند ايشان بجيزى زيرا كه اكر جماداند ايشانرا قدرت بدان نيست واكر حيوانند مخلوق ومملوك اند ومخلوق راقوت حكم وفرمان نيست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الإرشاد" : هذا تهكم بهم ؛ لأن جماداً ، لا يقال في حقه يقضي ولا يقضى.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ، فإن من يسمع ما يقولون ، ويبصر ما يفعلون إذا قضى قضى بالحق ووعيد لهم على ما يفعلون ، ويقولون وتعريض بحال ما يدعون من دونه ، فإنهم عريانون عن التلبس بهاتين الصفتين ، فكيف يكونون معبودين.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يقضي للأجانب بالبعاد والوصال لأهل الوداد ، ويخرج السالكين من تعلقات أوصافهم على ما قضى به ، وقدر في الأزل ، وإن كان بواسطة إيمانهم وأعمالهم الصالحة ، أن الله قد سمع سؤال الحوائج في الأزل ، وهم بعد في العدم ، وكذا سمع أنين نفوس المذنبين وحنين قلوب المحبين وأبصر بحاجاتهم ، ثم إنه لما بالغ في تخويف الكفار بأحوال الآخرة أردفه بالتخويف بأحوال الدنيا ، فقال :
{وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّا وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍا إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّه إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأرْضِ} : (آيا سفر نميكنند مشركان مكه درزمين ويمن براى تجارت).
{فَيَنظُرُوا} : يجوز أن يكون منصوباً بالعطف على أن يسيروا ، وأن يكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام.
{كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ} ؛ أي : مآل حال من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم كعاد وثمود وأضرابهم ، وكانت ديارهم ممر تجار قريش.
{كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، قدرة وتمكناً من التصرفات ، وإنما جيء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين كقوله : أولئك هم المفلحون لمضاهاة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه.
(8/129)
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى} : مثل القلاع الحصينة والمدن المتينة.
{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} عاقبهم وأهلكهم بسبب كفرهم وتكذيبهم.
{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ} من عذاب الله {مِن وَاقٍ} يقيهم ويحفظهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{ذَالِكَ} ؛ أي : ما ذكر من الأخذ.
{بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أنهم {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} ؛ أي : بالمعجزات أو بالأحكام الظاهرة.
{فَكَفَرُوا} بها وكذبوا رسلهم ، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أخذاً عاجلاً.
{إِنَّه قَوِىٌّ} متمكن مما يريد غاية التمكن.
{شَدِيدُ الْعِقَابِ} لأهل الشرك لا يعتبر عقاب دون عقابه ، فهؤلاء قد شاهدوا مصارعهم وآثار هلاكهم ، فبأي وجه آمنوا أن يصيبهم مثل
172
ما أصابهم من العذاب.
واعلم أن أهل السعادة قد شكروا الله على نعمة الوجود ، فزادهم نعمة الإيمان ، فشكروا نعمة الإيمان ، فزادهم نعمة الولاية ، فشكروا نعمة الولاية ، فزادهم نعمة القرب والمعرفة في الدنيا ونعمة الجوار في الآخرة ، وأهل الشقاوة قد كفروا نعمة الوجود ، فعذبهم الله بالكفر والبعاد والطرد واللعن في الدنيا وعذبهم في الآخرة بالنار وأنواع التعذيبات.
وفي قوله : ذلك بأنهم.
إلخ.
إشارة إلى بعض السالكين والقاصدين إلى الله تعالى إن لم يصل إلى مقصوده يعلم أن موجب حجابه وحرمانه اعتراض خامر قلبه على شيخه ، أو على غيره من المشايخ في بعض أوقاته ، ولم يتداركه بالتوبة والإنابة ، فإن الشيوخ بمحل الأنبياء للمريدين.
وفي الخبر : الشيخ في قومه كالنبي في أمته".
.
وفي المثنوي :
كفت بيغمبر كه شيخي رفته بيش
جو نبي باشد ميان قوم خويش
إنه قوي على الانتقام من الأعداء للأولياء شديد العقاب في الانتقام من الأعداء.
وفي "شرح الأسماء" للزروقي القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فلا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبرام ، ومن عرف أن الله تعالى هو القوي ، رجع إليه عن حوله وقوته وخاصيته ظهور القوة في الوجود ، فما تلاه ذو همة ضعفة إلا وجد القوة ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك ، ولو ذكره مظلوم يقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك وكفى أمره.
{ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّه إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآياتنا وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَقَـارُونَ فَقَالُوا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} ملتبساً {بآياتنا} ، وهي المعجزات التسع.
{وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} ؛ أي : وحجة قاهرة ظاهرة كالعصا أفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات تفخيماً لشأنها ، فهو من قبيل عطف الخاص على العام.
{إِلَى فِرْعَوْنَ} : (بسوى فرعون كه أعظم عمالقة مصر بود ودعواى ربوبيت ميكرد).
{وَهَـامَـانَ} : (وزير او بود).
وخصهما بالذكر ؛ لأن الإرسال إليهما إرسال إلى القوم كلهم لكونهم تحت تصرف الملك ، والوزير تابعين لهما ، والناس على دين ملوكهم.
{وَقَـارُونَ} : خصّ بالذكر لكونه بمنزلة الملك من حيث كثرة أمواله وكنوزه ، ولا شك أن الإرسال إلى قارون متأخر عن الإرسال إلى فرعون وهامان ؛ لأنه كان إسرائيلياً ابن عم موسى مؤمناً في الأوائل أعلم بني إسرائيل حافظاً للتوراة ، ثم تغير حاله بسبب الغنى ، فنافق كالسامري ، فصار ملحقاً بفرعون وهامان في الكفر والهلاك ، فاحفظ هذا ودع ما قاله أكثر أهل التفسير في هذا المقام.
{فَقَالُوا} في حق ما أظهره من المعجزات خصوصاً في أمر العصا أنه {سَـاحِرٌ} : (او ساحرست كه خارق عادت مى نمايد ازروى سحر) ، وقالوا فيما ادعاه في رسالة رب العالمين أنه {كَذَّابٌ} : (دروغ كويست درانكه مى كويد خداى خست ومن رسول اويم) ، والكذاب الذي عادته الكذب بأن يكذب مرة بعد أخرى ، ولم يقولوا : سحار ؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر ، وأن سحرتهم أسحر منه كما قالوا : يأتوك بكل سحار عليم.
وفيه تسلية لرسول الله عليه السلام ، وبيان عاقبة من هو أشد من قريش بطشاً وأقربهم زماناً.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : ولقد أرسلنا.
إلخ.
إلى أنه تعالى من عواطف إحسانهم يرسل أفضل خلقه في وقته إلى من هو أرذل خلقه ويبعث أخص عباده إلى أخس عباده ليدعوه إلى حضرة جلاله لإصلاح حاله بفضله ونواله ،
173
والعبد من خسة طبعه وركاكة عقله يقابله بالتكذيب وينسبه إلى السحر ، والله تعالى إظهاراً لحكمه وكرمه لا يعجل عقوبته ويمهله إلى أوان ظهور شقوته ، فيجعله مظهر صفة قهره ويبلغ موسى كمال سعادته ، فيجعله مظهر صفة لطفه :
نر دبان خلق اين ما ومنيست
عاقبت زين نردبان افتاد نيست
(8/130)
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
هر كه سر كش بود او مقهور شد
هركه خالى بود او منصور شد
{فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا} ، وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة.
{قَالُوا} : لاستكمال شقاوتهم.
{اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} ؛ أي : تابعوه في الإيمان ، والقائل : فرعون وذوو الرأي من قومه أو فرعون وحده ؛ لأنه بمنزلة الكل ، كما قال : سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم.
{وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ} ؛ أي : أبقوا بناتهم أحياء ، فلا تقتلوهن وبالفارسية : (وزنده بكذارد دختران ايشابرا تا خدمت زنان قبط كنند).
والمعنى : أعيدوا عليهم القتل ، وذلك أنه قد أمر بالقتل قبيل ولادة موسى عليه السلام بإخبار المنجمين بقرب ولادته ، ففعله زماناً طويلاً ثم كف عنه مخافة أن تفني بنو إسرائيل ، وتقع الأعمال الشاقة على القبط ، فلما بعث موسى وأحس فرعون بنبوته أعاد القتل غيظاً وحنقاً (وتادلهاى بني إسرائيل بشكند وموسى را يارى ندهند).
ظناً منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده.
{وَمَا كَيْدُ الْكَـافِرِينَ} فرعون وقومه ، أو غيرهم ؛ أي : وما مكرهم وسوء صنيعهم.
وبالفارسية : (بنسبت انبيا ومؤمنان) ، {إِلا فِى ضَلَـالٍ} : (مكر دركم راهى وبيهود كى) ؛ أي : في ضياع وبطلان لا يغني عنهم شيئاً وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم.
وفي "التأويلات النجمية" : عزم على إهلاك موسى وقومه واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله إتماماً لاستحقاقهم العذاب ، ولكن من حفظ الحق تعالى كان كما قال : وما كيد الكافرين إلا في ضلال ؛ أي : في ازدياد ضلالتهم بربهم.
يشير إلى أن من حفر بئر الولي من أوليائه ما يقع فيه إلا حافره ، ولذلك أجرى الحق سنته.
انتهى.
حكي أن مفتي الشام أفتى بقتل الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره ، فدخل الحوض للغسل ، فظهرت يد فخنقته ، فأخرج من الحوض ، وهو ميت ، وحكي : أن شاباً كان يأمر وينهى فحبسه الرشيد في بيت وسدّ المنافذ ليهلك فيه ، فبعد أيام رؤي في بستان يتفرج ، فأحضره الرشيد ، فقال : من أخرجك؟ قال : الذي أدخلني البستان ، فقال : من أدخلك البستان؟ قال : الذي أخرجني من البيت ، فتعجب الرشيد ، فبكى وأمر له بالإحسان وبأن يركب فرساً وينادى بين يديه : هذا رجل أعزه الله وأراد الرشيد إهانته ، فلم يقدر إلا على إكرامه واحترامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} : لملئة {ذَرُونِى} : خلوا عني واتركوني يقال : ذره ؛ أي : دعه.
يذره تركاً ولا تقل وذرا وأصله وذره يذره كوسعه يسعه ، لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل كما في "القاموس".
{أَقْتُلْ مُوسَى} ، فإني أعلم أن صلاح ملكي في قتله ، وكان إذا هم بقتل موسى عليه السلام كفه ملأه بقولهم : ليس هذا بالذي تخافه ، فإنه أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة وبقولهم : إذا قتلته أدخلت على الناس شبهة ، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، وعدلت إلى المقارعة بالسيف ، وأوهم اللعين أنهم
174
هم الكافون له عن قتله ولولاهم لقتله ، وما كان الذي يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل.
وذلك أنه تيقن نبوة موسى ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك.
{وَلْيَدْعُ رَبَّه} : الذي يزعم أنه أرسله كي يمنعه مني ، يعني : (تا قتل من ازوبازدارد).
وهو يخاف منه ظاهراً ويخاف من دعاء ربه باطناً ، وإلا فما له يقيم له وزناً ويتكلم بذلك.
{إِنِّى أَخَافُ} : إن لم أقتله {أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} ؛ أي : بغير ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادته وعبادة الأصنام لتقربهم إليه.
{أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ} ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية ، فمعنى أو وقوع أحد الشيئين.
وفي الآية إشارة إلى أن فرعون من عمى قلبه ظن أن الله يذره أن يقتل موسى بحوله وقوته أو يذره قومه ، ولم يعلم أن الله يهلكه ويهلك قومه وينجي موسى وقومه.
وقد خاف من تبديل الدين ، أو الفساد في الأرض ، ولم يخاف هلاك نفسه وهلاك قومه وفساد حالهم في الدارين.
(8/131)
{وَقَالَ مُوسَى} ؛ أي : لقومه حين سمع بما يقوله اللعين من حديث قتله عليه السلام.
{إِنِّى عُذْتُ} : (من بناه كرفتم وفرياد وزنهار خواستم).
والعوذ : الالتجاء إلى الغير والتعلق به.
{بِرَبِّى وَرَبِّكُم} : خص اسم الرب ؛ لأن المطلوب هو الحفظ والتربية وإضافته إليه وإليهم للحث على موافقته في العياذ به تعالى ، والتوكل عليه ، فإن في تظاهر النفوس تأثيراً قوياً ، وفي استجلاب الإجابة ، وهو السبب الأصلي في اجتماع الناس لأداء الصلوات الخمس والجمعة والأعياد والاستسقاء ونحوها.
{مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} متعظم عن الإيمان.
وبالفارسية : (از هر كردن كشى).
ولم يسم فرعون ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من جبابرة أركانه وغيرهم لتعميم الاستعاذة والإشعار بعلة القساوة والجراءة على الله ، وهي التكبر وما يليه من عدم الإيمان بالبعث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
يقول الفقير : وأما قول الرازي وتبعه القاضي لم يسم فرعون رعاية لحق التربية التي كانت من فرعون له عليه السلام في صغره ، فمدخول بأن موسى عليه السلام قد شافهه باسمه في غير هذا الموضع ، كما قال : وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً وهذا أشد من قوله : من فرعون على تقدير التسمية من حيث صدوره مشافهة وصدوره من فرعون مغايبة.
{لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} صفة لما قبله عقبه به ؛ لأن طبع المتكبر القاسي وشأنه إبطال الحق وتحقير الخلق لكنه ، قد ينزجر إذا كان مقراً بالجزاء وخائفاً من الحساب.
وأما إذا اجتمع التكبر ، والتكذيب بالبعث كان أظلم وأطغى ، فلا عظيمة إلا ارتكبها ، فيكون بالاستعاذة أولى وأحرى.
وسئل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ؛ أي ذنب أخوف على سلب الإيمان.
قال : ترك الشكر على الإيمان وترك خوف الخاتمة ، وظلم العباد فإن من كان فيه هذه الخصال الثلاث ، فالأغلب أن يخرج من الدنيا كافراً إلا من أدركته السعادة.
وفي الخبر : "إن الله تعالى سخر الريح لسليمان عليه السلام ، فحملته وقومه على السرير حتى سمعوا كلام أهل السماء ، فقال ملك لآخر إلى جنبه : لو علم الله في قلب سليمان مثقال ذرة من كبر لأسفله في الأرض مقدار ما رفعه من الأرض إلى السماء".
وفي الحديث : "ما من أحد إلا وفي رأسه سلسلتان : إحداهما : إلى السماء السابعة ، والأخرى إلى الأرض السابعة ، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التي في السماء السابعة" ، وإذا تكبر وضعه الله بالسلسلة التي في الأرض السابعة ،
175
فالمتكبر أياً كان مقهور لا محالة كما يقال : أول ما خلق الله درة بيضاء ، فنظر إليها بالهيبة ، فذابت وصارت ماء وارتفع زبدها ، فخلق منه الأرض ، فافتخرت الأرض.
وقالت : من مثلي ، فخلق الله الجبال ، فجعلها أوتاداً في الأرض ، فقهر الأرض بالجبال ، فتكبرت الجبال ، فخلق الحديد ، وقهر الجبال به ، فتكبر الحديد فقهره بالنار ، فتكبرت النار ، فخلق الماء ، فقهرها به ، فتكبر الماء فخلق السحاب ، ففرق الماء في الدنيا ، فتكبر السحاب ، فخلق الرياح ، ففرقت السحاب ، فتكبرت الرياح ، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتاً وكناً من الحر والبرد والرياح ، فتكبر الآدمي ، فخلق النوم ، فقهره به ، فتكبر النوم ، فخلق المرض ، فقهره به فتكبر المرض ، فخلق الموت ، فتكبر فقهره بالذبح يوم القيامة ، حيث يذبح بين الجنة والنار ، كما قال تعالى : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الامْرُ} (مريم : 39).
يعني : إذ ذبح الموت فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى ، كما قال.
{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ} (الأعراف : 127) ، ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة ، فلا بد من إزالته.
قال المولى الجامي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
لاف بى كبرى مزن كان از نشان باى مور
درشت تاريك برسنك سيه بنهان ترسب
وزدرون كردن برون آسان مكيرانرا كزان
كوه را كندن بسوزن از زمين آسان ترست
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَه أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ} .
(8/132)
{وَقَالَ رَجُلٌ} : (جون خبر قتل موسى فاش شد ودستان اندو هكير ودشمنان شادمان كشتند).
ولكن لما استعاذ موسى عليه السلام بالله واعتمد على فضله ورحمته ، فلا جرم صانه الله من كل بلية وأوصله إلى كل أمنية وقيض له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة كما حكى الله عنه بقوله : وقال رجل : {مُؤْمِنٌ} كائن {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} ، فهو صفة ثانية لرجل ، وقوله : {يَكْتُمُ إِيمَـانَهُ} صفة ثالثة قدم الأول أعني مؤمن لكونه أشرف الأوصاف ، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود ، وذلك لأنه لو أخر عن يكتم إيمانه لتوهم أن من صلته ، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة ، أو الصحبة ، أو الموافقة في الدين.
وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون ؛ أي : ابن عمه ، وهو منذر موسى بقوله : {إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ} (القصص : 20) بك ليقتلوك كما سبق في سورة القصص واسمه شمعان بالشين المعجمة ، وهو أصح ما قيل فيه.
قاله الإمام السهيلي.
وفي "تاريخ الطبري" : اسمه جبر.
وفيل : حبيب النجار ، وهو الذي عمل تابوت موسى حين أرادت أمه أن تلقيه في اليم ، وهو غير حبيب النجار صاحب يس.
وقيل : خربيل بن نوحائيل أو حزقيل.
ويدل عليه قوله عليه السلام سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وهو رضي الله عنه أفضلهم كما في إنسان العيون نقلاً عن "العرائس".
وقال ابن الشيخ في "حواشيه" روي عن النبي عليه السلام : أنه قال الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله.
والثالث : أبو بكر الصديق ، وهو أفضلهم".
انتهى.
يقول الفقير : يمكن أن يقال : لا مخالفة بين هاتين الروايتين لما أن المراد تفضيل أبي بكر في الصديقية ، وتفضيل علي في السبق وعدم صدور الكفر عنه ، ولو لحظة فأفضلية كل منهما من جهة أخرى ، ثم إن الروايتين دلتا على كون ذلك الرجل قبطياً ، وأيضاً أن فرعون
176
أصغى إلى كلامه ، واستمع منه ، ولو كان إسرائيلياً لكان عدواً له ، فلم يكن ليصغي إليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "التكملة" : فإن قلت : الآل قد يكون في غير القرابة بدليل قوله تعالى : أ{أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر : 46) ، ولم يرد إلا كل من كان على دينه من ذوي قرابته وغيرهم.
فالجواب : أن هذا الرجل لم يكن من أهل دين فرعون ، وإنما كان مؤمناً ، فإذا لم يكن من أهل دينه ، فلم يبق لوصفه بأنه من آله إلا أن يكون من عشيرته.
انتهى.
وقيل : كان إسرائيلياً ، ابن عم قارون أو أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل فيكون من آل فرعون صلة يكتم وفيه أنه لا مقتضى هنا لتقديم المتعلق وأيضاً أن فرعون كان يعلم أن فرعون كان يعلم إيمان بني إسرائيل ألا ترى إلى قوله : {أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} (غافر : 25) ، فكيف يمكنهم أن يفعلوا كذلك مع فرعون؟ وقيل : كان عربياً موحداً ينافقهم لأجل المصلحة.
{يَكْتُمُ إِيمَـانَهُ} ؛ أي : يستره ويخفيه من فرعون وملئه لا خوفاً بل ليكون كلامه بمحل من القبول ، وكان قد آمن بعد مجيء موسى أو قبله بمائة سنة وكتمه ، فلما بلغه خبر قصد فرعون بموسى.
قال : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا} أتقصدون قتله ظلماً بلا دليل.
والاستفهام إنكاري.
{أَن يَقُولَ} ؛ أي : لأن يقول أو كراهة أن يقول : {رَبِّىَ اللَّهُ} وحده لا شريك له ، والحصر مستفاد من تعريف طرفي الجملة مثل صديقي زيد لا غير.
{وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ} ؛ أي : والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها.
{مِن رَّبِّكُمْ} لم يقل من ربه لأنهم إذا سمعوا أنه جاءهم بالبينات من ربهم دعاهم ذلك إلى التأمل في أمره ، والاعتراف به وترك المكابرة معه ، لأن ما كان من قبل رب الجميع يجب اتباعه وإنصاف مبلغه.
وعن عروة بن الزبير ، قال : قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : حدثني : بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله عليه السلام.
قال : أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله يصلي عند الكعبة ، أو لقيه في الطواف ، فأخذ بمجامع ردائه عليه السلام ، فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقاً شديداً.
وقال له : أنت التي تنهانا عما يعبد آباؤنا ، فقال عليه السلام : أنا ذاك ، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه ، فأخذ بمنكبيه عليه السلام ، والتزمه من ورائه ودفعه عن رسول الله.
وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم رافعاً صوته وعيناه تسفحان دمعاً ؛ أي : تجريان حتى أرسلوه.
وفيه بيان أن ما تولى أبو بكر من رسول الله كان أشد مما تولاه الرجل المؤمن من موسى ؛ لأنه كان يظهر إيمانه.
وكان بمجمع طغاة قريش.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/133)
وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه : أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر يقول : وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه ، فقال : ()
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه وخصهم بمشاهدته وتلقي الروح.
وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره فجعله في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جرد سيفه بمكة.
وقال : والله لا أعبد الله سراً بعد اليوم ، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط بإيراده في صورة الاحتمال من الظن
177
بعد القطع بكون قتله منكراً ، فقال : {وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطاه وبال كذبه وضرره ، فيحتاح في دفعه إلى قتله ، يعني : أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره كالزنديق الذي يدعو الناس والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته.
وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين لكون طباع الناس آبية عن قبوله ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} في قوله : فكذبتموه وقصدتم له بسوء ، {يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ} ؛ أي : إن لم يصبكم كله ، فلا أقل من إصابة بعضه.
وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم ، فذكر البعض ليوجب الكل ، لا أن البعض هو الكل ، وهذا كلام ، وهذا صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذباً وصرح بإصابة البعض دون الجميع مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله : وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون ، ويجوز أن يكون المعنى : يصيبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا ، وهو بعض ما يعدهم ؛ لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة ؛ كأنه خوفهم بما هو ظهر احتمالاً عندهم.
وفي "عين المعاني" : لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر ، وقد يكون البعض بمعنى الكل كما في قوله : ()
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله تعالى : {وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (الزخرف : 63) ؛ أي : جميعه.
وفي قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} (المائدة : 49) ؛ أي : بكلها كما في "كشف الأسرار".
وقال أبو الليث : بعض هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} ، وهو الذي يتجاوز الحد في المعصية ، أو هو السفاك للدم بغير حق.
{كَذَّابٌ} ، وهو الذي يكذب مرة بعد أخرى.
وقيل : كذاب على الله ؛ لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره ، وهو احتجاج آخر ذو وجهين :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً ، لما هداه الله تعالى إلى البينات ، ولما أيده بتلك المعجزات.
وثانيهما : أنه إن كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، ولعله أراهم وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم.
وقد عرض به لفرعون ؛ لأنه مسرف حيث قتل الأبناء بلا جرم كذاب حيث ادعى الألوهية لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة ، بل يفضحه ويهدم أمره.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَه أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُه وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ فِى الارْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلا مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} .
{قَوْمُ} ؛ أي : كروه من {لَكُمُ الْمُلْكُ} والسلطنة {الْيَوْمَ} : حال كونكم {ظَـاهِرِينَ} غالبين عالين على بني إسرائيل ، والعامل في الحال.
وفي قوله : اليوم ما تعلق به لكم.
{فِى الأرْضِ} ؛ أي : أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت.
{فَمَن} : (بس كيست كه).
{يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ} من أخذه وعذابه.
{إِن جَآءَنَا} ؛ أي : فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله ، فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوءهم من مجيء بأس الله تطميناً لقلوبهم وإيذاناً بأنه مناصح لهم ساععٍ في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/134)
{قَالَ فِرْعَوْنُ} : بعدما سمع نصحه إضراباً عن المجادلة.
وبالفارسية : (كفت فرعون مرآن مومن راكه از قتل موسى نهى كرد وجمعى ديكر را كه نزدوى حاضر بودند).
{مَآ أُرِيكُمْ} ؛ أي : ما أشير عليكم.
{إِلا مَآ أَرَى} واستصوبه من قتله قطعاً لمادة الفتنة.
{وَمَآ أَهْدِيكُمْ}
178
بهذا الرأي.
{إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ؛ أي : الصواب ، فهو من الرأي يقال رأى فيه رأياً اعتقد فيه اعتقاداً وراءيته شاورته.
ولما نقل رأى من الرأي إلى باب أفعل عدي إلى الضمير المنصوب ، ثم استثني استثناء مفرغاً ، فقيل : إلا ما أرى ، ويجوز أن يكون من الرؤية بمعنى العلم.
يقال : رآه بعينه ؛ أي : أبصره ورآه بقلبه ؛ أي : علمه ، فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما إلا ما أرى.
والمعنى : لا أعلمكم إلا ما أعلم ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره.
ولقد كذب حيث كان مستشعراً للخوف الشديد ، ولكنه كان يظهر الجلادة وعدم المبالاة ولولاه لما استشار أحداً أبداً.
وفي المثنوي : إن استشارة كانت من عادته حتى أنه كان يلين قلبه في بعض الأوقات من تأثير كلام موسى عليه السلام ، فيميل إلى الإيمان ويستشير امرأته آسية ، فتشير عليه بالإيمان ، ومتابعة موسى ويستشير وزيره هامان ، فيصده عن ذلك.
وفي المثنوي :
بس بكفتى تا كنون بودى خديو
بند كردى زنده بوشى را بريو
همجو سنك منجنيقى آمدى
آن سخن برشيشه خانة أوزدى
هر جه صدور ز آن كليم خوش خصاب
ساختى دريكدم أو كردى خراب
عقل تود ستور مغلوب هواست
درو جودت زهزن راه خداست
واى آن شه كه وزير شن اين بود
جاى هردو دوزخ بركين بود
مرهوا را تو وزير خود مساز
كه برارد جان باكت ازنماز
شاد آن شاهى كه اوراد ستكير
باسداندر كارجون آصف وزير
شاه عادل جون قرين اوشود
نام او نور على نور بود
شاه جون فرعون وهامانش وزير
نى خرد يارونى دولت روز عرض
نسأل الله زكاء الروح وصفاء القلب.
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ فِى الارْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلا مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَـاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ} من آل فرعون مخاطباً لقومه واعظاً لهم.
وفي الحديث : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائز".
وذلك من أجل علة الخوف والقهر ؛ ولأن الجهاد بالحجة والبرهان أكبر من الجهاد بالسيف والسنان.
{قَوْمُ} ؛ أي : كروه من {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم} ، في تكذيب موسى عليه السلام ، والتعرض له بسوء كالقتل والأذى.
{مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} : مثل أيام الأمم الماضية ، يعني : وقائعهم العظيمة وعقوباتهم الهائلة على طريق ذكر المحل وإرادة الحال فإن قلت : الظاهر أن يقال : مثل أيام الأحزاب إذ لكل حزب يوم على حدة قلت : جمع الأحزاب مع "تفسيره" بالطوائف المختلفة المتباينة الأزمان والأماكن أغنى عن جمع اليوم إذ بذلك ارتفع الالتباس ، وتبين أن المراد : الأيام.
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} : الدأب : العادة المستمر عليها ، والشأن ومثل بدل من الأول.
والمراد : بالدأب ، واليوم واحد إذ المعنى مثل حال قوم نوح وشأنهم في العذاب.
وبالفارسية : (ما نند حال كروه نوح كه بطوفان هلاك شدند).
{وَعَادٍ} : (وكروه عاد كه بباد صرصر مستأصل كشتند).
{وَثَمُودَ} : (وقوم ثمود كه بيك صيحه مردند).
{وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِمْ} : (وما نند حال آنانكه از بس ايشان بودند جون أهل مؤتفكه كه شهر ايشان زود بركشت وجون أصحاب أيكه كه بعذاب يوم
179
الظلة كرفتار شدند).
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} ، فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم ، ولا يعاقبهم بغير ذنب ، ولا يخلى الظالم منهم بغير انتقام (بس شماهم ظلم مكنيد تا معذب نكرديد).
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} .
أصله : يوم التنادي بالياء على أنه مصدر تنادى القوم بعضهم بعضاً تنادياً بضم الدال ، ثم كسر لأجل الياء وحذف الياء حسن في الفواصل ، وهو بالفارسية : (يكديكررا آو ازدادن).
(8/135)
ويوم : نصب على الظرف ؛ أي : من ذلك اليوم لما فيه من العذاب على المصرين والمؤذين ، أو على المفعول به ؛ أي : عذاب يوم التناد حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فاعرف فإعرابه.
والمراد بيوم التناد يوم القيامة ؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضاً للاستغاثة كقولهم : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا.
(وهيج كس بفرياد كس نمى رسد).
أو يتصايحون بالويل والثبور بنحو قولهم : يا ويلنا من بعثنا ، وما لهذا الكتاب ، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار ، يعني : أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الجنة والنعيم المقيم حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم من عذاب النار حقاً ، قالوا : نعم ، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال الكاشفي : (يا بعداز ذبح موت ندا كنند كه يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت يا در آنروز منادى ندا كنند كه فلان ينك بخت شدكه هر كزبد بخت نشودو فلان بد بختى كشت كه تا ابد نيك بختى نيابد).
{يَوْمَ تُوَلُّونَ} : بدل من يوم التناد ، يعني : (روزى كه بركردانيده شويد از موقف حساب وبرويد).
{مُدْبِرِينَ} : حال كونكم منصرفين عنه إلى النار ، يعني : (باز كتشكان ازانجا بسوى دوزخ) ، وحال كونكم.
{مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ؛ أي : ما لكم من عاصم يعصمكم من عذابه تعالى ، ويحفظكم.
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} : (وهر كرا خدا فرود كذا رد ضلالت).
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} : يهديه إلى طريق النجاة.
قاله لما آيس من قبولهم.
وفي الآيات إشارة إلى أن الله تعالى إذا شاء بكمال قدرته إظهاراً لفضله ومنته ، يخرج الحي من الميت كما أخرج من آل فرعون مؤمناً حياً قلبه بالإيمان من بين كفار أموات قلوبهم بالكفر ليتحقق قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا} (السجدة : 13) ، وإذا شاء إظهاراً لعزته وجبروته يعمى ويصم الملوك والعقلاء مثل : فرعون وقومه ، لئلا يبصروا آيات الله الظاهرة ، ولا يسمعوا الحجج الباهرة مثل ما نصحهم بها مؤمن آلهم ليتحقق قوله تعالى : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} .
وقوله : {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} (السجدة : 13) الآية كما في "التأويلات النجمية".
وأسند الإضلال إلى الله تعالى ؛ لأنه خالق الضلالة ، وإنما الشيطان ونحوه من الوسائط ، فالجاهل يرى القلم مسخر للكاتب والعارف يعلم أنه مسخر في يدهتعالى ؛ لأنه خالق الكاتب والقلم ، وكذا فعل الكاتب.
وفي قوله تعالى : {فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} إشارة إلى أن التوفيق والاختيار للواحد القهار ، فلو كان لآدم لاختار قابيل ، ولو كان لنوح لاختار كنعان ، ولو كان لإبراهيم لاختار آزر ، ولو كان لموسى لاختار فرعون ، ولو كان لمحمد عليه وعليهم السلام لاختار عمه أبا طالب.
يقال : سبعة عام وسبعة في جنبها خاص الأمر عام ، والتوفيق خاص والنهي عام ، والعصمة خاص والدعوة عام ، والهداية خاص ، والموت عام والبشارة خاص ، والحشر يوم القياة عام ، والسعادة خاص ، وورود النار عام ، والنجاة منها خاص ، والتخليق
180
عام ، والاختيار خاص ، يعني ليس كل من خلقه الله اختاره ، بل خاص منه قوماً ، وكذا خلق أموراً وأشياء فخص منها البعض ببعض الخواص ، ثم العجب أن مثل موسى عليه السلام يكون وسط قومه لا يهتدون به ، وذلك لأن صاحب المرة لا يجد حلاوة العسل ، والضرير لا يرى الشمس ، وليس ذلك إلا من سوء المزاج ، وفساد الحال ، وفقدان الاستعداد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
عنكبوت از طبع عنقا داشتى
از لعا بى خيمه كى افرا شتى
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِه حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنا بَعْدِه رَسُولا كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَالِكَ} .
ثم قال مؤمن آل فرعون بطريق التوبيخ.
(8/136)
{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ} يا أهل مصر {يُوسُفُ} بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.
{مِن قَبْلُ} ؛ أي : من قبل موسى {بِالْبَيِّنَـاتِ} بالمعجزات الواضحة التي من جملتها تعبير الرؤيا وشهادة الطفل على براءة ذمته ، وقد كان بعث إلى القبط قبل موسى بعد موت الملك.
وكان فرعون هو فرعون موسى عاش إلى زمانه.
وذلك لأن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة ، وكان بين إبراهيم وموسى تسعمائة سنة على ما رواه ابن قتيبة في كتاب "المعارف" ، فيجوز أن يكون بين يوسف وموسى مدة عمر فرعون تقريباً ، فيكون الخطاب لفرعون وجمع لأن المجيء إليه بمنزلة المجيء إلى قومه ، وإلا فأهل عصر موسى لم يروا يوسف بن يعقوب.
والأظهر على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وتوبيخ المعاصرين بحال الماضين ؛ أي : ولقد جاء أيها القبط آباءكم الأقدمين.
وهذا كما قال الله تعالى : {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنابِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} (البقرة : 91) ، وإنما أراد به آباءهم ؛ لأنهم هم القاتلون ، ثم لا يلزم من هذا أن يكون فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف على ما ذهب إليه البعض.
وقيل : المراد يوسف بن إفرائيم بن يوسف الصديق أقام نبياً عشرين سنة.
{فَمَا زِلْتُمْ} من زال ضد ثبت ؛ أي : دمتم.
{فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ} من الدين الحق.
{حَتَّى إِذَا هَلَكَ} بالموت ، يعني : (تا آنكاه كه بمرد).
{قُلْتُمْ} : ضماً إلى تكذيب رسالته ، تكذيب رسالة من بعده.
{لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنا بَعْدِه رَسُولا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال الكاشفي : (جون سخن اين رسول نشنيديم ديكرى نخو اهد آمد از ترس آنكه در قول او تردد كنيم).
وفي الآية إشارة إلى أن في الإنسان ظلومية وجهولية لو خلي وطبعه لا يؤمن بنبي من أنبيائه ولا بمعجزاتهم أنها آيات الحق تعالى ، وهذه طبيعة المتقدمين والمتأخرين منهم ، وإنما المهتدي من يهديه الله بفضله وكرمه ومن إنكارهم الطبيعي أنهم ما آمنوا بنبوة يوسف ، فلما هلك أنكروا أن يكون بعده رسول الله ، وذلك من زيادة شقاوة الكافرين ، كما أن من كمال سعادة المؤمنين أن يؤمنوا بالأنبياء قبل نبيهم.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإضلال الفظيع.
{يُضِلُّ اللَّهُ} : (كمراه سازد خداى تعالى در بوادى طغيان).
{مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في عصيانه.
{مُّرْتَابٌ} : في دينه ، شاكّ في معجزات أنبيائه لغلبة الوهم والتقليد.
{الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ} بدل من الموصول الأول ؛ لأنه بمعنى الجمع إذ لا يريد مسرفاً واحداً ، بل كل مسرف.
والمراد بالمجادلة رد الآيات.
والطعن فيها {بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ} متعلق بيجادلون ؛ أي : بغير حجة وبرهان صالحة للتمسك بها في الجملة.
{أَتَـاـاهُمْ} صفة سلطان {كِبْرٌ} عظم من هو مسرف مرتاب ، أو الجدال.
{مَقْتًا} ؛ أي : من جهة البغض الشديد والنفور القوي {عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} .
قال ابن عباس رضي الله عنه : بمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الطبع الفظيع.
{يَطْبَعُ اللَّهُ} : (مهر
181
مى نهد خداى تعالى واز هدى محجوب ميكند).
{عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} : (برهردل شخص متكبر كه سر كش انداز فرمان بردارى خو دكامه كه خودرا ازديكران بر ترداننده).
فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بالباطل.
قال الراغب : الجبار في صفة الإنسان.
يقال : لمن جبر نقيصته ؛ أي : أصلحها بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
وهذا لا يقال إلا على طريقة الدم ويسمى السلطان جبار لقهره الناس على ما يريده ، أو لإصلاح أمورهم ، فالجبر تارة ، يقال في الإصلاح المجرد وتارة في القهر المجرد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال أبو الليث : على قلب كل متكبر جبار ومثله في "كشف الأسرار" حيث.
قال بالفارسية : (بردل هر كردن كشى).
فقوله : قلب بغير تنوين بإضافته إلى متكبر ؛ لأن المتكبر هو الإنسان.
وقرأ بعضهم بالتنوين بنسبة الكبر إلى القلب على أن المراد صاحبه ؛ لأنه متى تكبر القلب تكبر صاحبه ، وبالعكس والخبر زنا العينين النظر يعني زنا صاحبهما.
قال في "الكواشي" ، وكل على القراءتين لعموم الطبع جميع القلب لا لعموم جميع القلوب.
يقول الفقير : اعلم أن الطابع هو الله تعالى ، والمطبوع هو القلب وسبب الطبع هو التكبر والجبارية وحكمه أن لا يخرج من القلب ما فيه من الكفر والنفاق والزيغ والضلال ، فلا يدخل فيه ما في الخارج من الإيمان والإخلاص والسداد والهدي ، وهو أعظم عقوبة من الله عليه ، فعلى العاقل أن يتشبث بالأسباب المؤدية إلى شرح الصدر لا إلى طبع القلب.
قال إبراهيم الخواص قدس سره : دواء القلب خمسة : قراءة القرآن بالتدبر وخلاء البطن وقيام الليل ، والتضرع إلى الله عند السحر ، ومجالسة الصالحين.
(8/137)
وقال الحسن البصري : حادثوا هذه القلوب بذكر الله ، فإنها سريعة الدثور ، وهو بالفارسية : (زنك أفكندن كارد وشمشير والمحادثة بزدودن).
وهذا بالنسبة إلى القلب القابل للمحادثة إذ رب قلب لا يقبل ذلك :
آهنى راكه موريانه بخورد
نتوان برد ازو بصبقل زنك
باسيه دل جه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
وفي الحديث : "إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة".
وقد تكلموا في تأويله عن الجنيد البغدادي قدس سره أن العبد ، قد ينتقل من حال إلى أرفع منها.
وقد يبقى من الأولى بقية يشرف عليها من الثانية ، فيصححها.
ويقال : بين العبد والحق ألف مقام أو مائة من نور وظلمة ، فعلى هذا كان عليه السلام ، كلما جاز عن مقام استغفر ، فهو يقطع جميع الحجب كل يوم ، وذلك يدل على نهاية بلوغه إلى حد الكمال وجلالة قدره عند الملك المتعال.
يقول الفقير : لعل الغين إشارة إلى لباس البشرية والماهية الإمكانية الساتر للقلب عن شهود حضرة الأحدية ، ولما كان عليه السلام بحيث يحصل له الانكشاف العظيم كل يوم من مائة مرتبة.
وهي مراتب الأسماء الحسنى بأحديتها لم يكن على قلبه اللطيف غين أصلاً.
وأشار بالاستغفار إلى مرتبة التبديل ؛ أي : تبديل الغين بالمعجمة عيناً بالمهملة والعلم شهوداً ، فصار المقام بحيث كان له غين فأزاله بالاستغفار إرشاداً للأمة ، وإلا فلا غين في هذا المقام.
والاستغفار : وإن وهمه العامي قليل الاستبصار.
وفي الآية ذم للمتكبر والجبار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال عليه السلام : "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذر يطأهم الناس لهوانهم على الله ، وذلك لأن الصورة المناسبة لحال المتكبر الجبار صورة الذر ، كما لا يخفى على أهل القلب".
182
{الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا هَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ * أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِا وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ} .
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لوزيره قصداً إلى صعود السماوات لغاية تكبره وتجبره.
قال الكاشفي : (بس در اثناى مواعظ خربيل فرعون انديشه كردكه ناكاه سخن در مستمعان اثر نكند وزير خود را طلبيد وخودرا ومردم يجيز ديكر مشغول كردانيد).
يا هَـامَـانُ} : قال في "كشف الأسرار" : كان هامان وزير فرعون ، ولم يكن من القبط ، ولا من بني إسرائيل.
يقال : إنه لم يغرق مع فرعون وعاش بعده زماناً شقياً محزوناً يتكفف الناس.
{ابْنِ} أمر من بنى يبني ، يعني : بنا كن {لِى} : (براى من).
{صَرْحًا} ؛ أي : بناء مكشوفاً ظاهراً على الناظر عالياً مشيداً بالآجر ، كما قال في القصص : {فَأَوْقِدْ لِى يا هَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحًا} (القصص : 38) ، ولهذا كره الآجر في القبور كما في "عين المعاني" ؛ أي لأن فرعون أول من اتخذه وهو من صرح الشيء بالتشديد إذا ظهر ، فإنه يكون لازماً أيضاً.
{لَّعَلِّى} : (شايدكه).
من {أَبْلُغُ} : (برسم وصعود مينكم).
{الاسْبَـابَ} ؛ أي : الطرق.
{أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ} بيان لها ، يعني : (راهها از آسمانى بآسمانى).
وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى} بقطع الهمزة ونصب العين على جواب الترجي ؛ أي : أنظر إليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "تاج المصادر" : الاطلاع ديده ورشدن.
وفي "عين المعاني" : الاستعلاء على شيء لرؤيته.
{وَإِنِّى لاظُنُّهُ} ؛ أي : موسى.
{كَـاذِبًا} فيما يدعيه من الرسالة.
يقول الفقير : لم يقل كذاباً كما قال عند إرساله إليه ؛ لأن القائل هنا هو فرعون وحده ، وحيث قال : كذاب.
رجع المبالغة إلى فرعون وهارون وقارون ، فافهم.
(8/138)
اعلم أن أكثر المفسرين حملوا هذا الكلام على ظاهره ، وذكروا في كيفية بناء ذلك الصرح حكاية سبقت في القصص.
وقال بعضهم : إن هذا بعيد جداً من حيث أن فرعون إن كان مجنوناً لم يجز حكاية كلامه ولا إرسال رسول يدعوه ، وإن كان عاقلاً ، فكل عاقل يعلم بديهة أنه ليس في قوة البشر وضع بناء أرفع من الجبل ، وأنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر من أسفل الجبل ، ومن أعلاه ، فامتنع إسناده إلى فرعون ، فذكروا لهذا الكلام توجهين يقربان من العقل الأول ، وأنه أراد أن يبني له هامان رصداً في موضع عال ليرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه ، والثاني : أن يرى فساد قول موسى عليه السلام ؛ بأن إخباره من إله السماء ، ويتوقف على اطلاعه عليه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء ، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وإن كان أقدر أهل الأرض كالملوك ، فإذا لم يكن طريق إلى رؤيته وإحساسه وجب نفيه وتكذيب من ادعى أنه رسول من قبله ، وهو موسى فعلى هذا التوجيه الثاني يكون فرعون من الدهرية الزنادقة ، وشبهته فاسدة ؛ لأنه لا يلزم من امتناع كون الحس طريقاً إلى معرفة الله امتناع معرفته مطلقاً ، إذ يجوز أن يعرف بطريق النظر والاستدلال بالآثار ، كما قال ربكم : آبائكم الأولين.
وقال : رب المشرق والمغرب وما بينهما ، ولكمال جهل اللعين بالله ، وكيفية استنبائه أورد الوهم المزخرف في صورة الدليل.
وقال الكلبي : اشتغل فرعون بموسى ، ولم يتفرغ لبنائه.
وقال بعضهم : قال فرعون : ذلك تمويهاً.
وبعضهم قال : لغلبة جهله.
والظاهر أن الله تعالى إذا شاء يعمي ويصم من شاء فخلى فرعون ونفسه ليتفرغ لبناء الصرح ليرى منه آية
183
أخرى له ، وتتأكد العقوبة ، وذلك لأن الله تعالى هدمه بعد بنائه على ما سبق في القصص ، وأيضاً هذا من مقتضى التكبر والتجبر الذي نقل عنه ، كما مثله عن بخت نصر ؛ فإنه أيضاً لغاية عتوه واستكباره ، بنى صرحاً ببابل على ما سبقت قصته ، وأيضاً : كيف يكون من الدهرية والمنقول المتواتر عنه أنه كان يتضرع إلى الله تعالى في خلوته لحصول مهامه ، ومن الله الفهم والعناية ، ويدل على ما ذكرنا أيضاً ، قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ} ؛ أي : ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط.
{زُيِّنَ} : (آرايش داده شد).
{لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِهِ} ؛ أي : عمله السيِّىء ، فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَصُدَّ} : صرف ومنع.
{عَنِ السَّبِيلِ} ؛ أي : سبيل الرشاد ، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى ، وبالتوسط هو الشيطان.
ولذا قال : زين لهم الشيطان أعمالهم ، وهذا عند أهل السنة.
وأما عند المعتزلة ، فالمزين والصاد هو الشيطان.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} : (ونبود مكر فرعون درساختن قصر ودر ابطال آيات).
{إِلا فِى تَبَابٍ} ؛ أي : خسار وهلاك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من ظن أن الله سبحانه وتعالى في السماء كما ظن فرعون ؛ فإنه فرعون وقته ولو لم يكن من المضاهاة بين من يعتقد أن الله سبحانه في السماء ، وبين الكافر إلاهذا لكفى به في زيغ مذهبه ، وغلط اعتقاده ؛ فإن فرعون غلط إذ توهم أن الله في السماء ، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيباً في طلبه من السماء.
وقوله : وكذلك.
إلخ.
يدل على أن اعتقاده بأن الله في السماء خطأ ، وأنه بذلك مصدود عن سبيل الله ، وما كيد فرعون في طلب الله من السماء إلا في تباب ؛ أي : خسران وضلال.
انتهى.
وعن النبي عليه السلام : "أن الله تعالى احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار ، وأن الملأ إلا على يطلبونه كما تطلبونه أنتم" ، يعني : لو كان في السماء لما طلبه أهل السماء ، ولو كان في الأرض لما طلبه أهل الأرض ، فإذا هوالآن على ما كان عليه قبل من التنزه عن المكان ، وفي "هدية المهديين" : إذا قال الله في السماء وأراد به المكان يكفر اتفاقاً ؛ لأنه ظاهر في التجسم ، وإن لم يكن له نية يكفر عند أكثرهم ، وإن أراد به الحكاية عن ظاهر الإخبار لا يكفر ، وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : أنه قال : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنماً لي فجئتها ، وفقدت شاة من الغنم فسألتها عنها ، فقالت : أكلها الذئب ، فأسفت عليها ، وكنت من بني آدم فلطمتها ؛ أي : على وجهها وعلى رقبتها ، أفأعتقها عنها ، فقال لها رسول الله : "أين الله؟" ، فقالت : في السماء ، فقال : "من أنا؟" ، فقالت : أنت رسول الله ، فقال عليه السلام : "أعتقها فإنها مؤمنة".
(8/139)
اعلم أنه قد دل الدليلي العقلي على استحالة حصر الحق في أينية ، والشارع لما علم أن الجارية المذكورة ليس في قوتها أن تتعقل موجدها إلا على تصوير في نفسها خاطبها بذلك ، ولو أنه خاطبها بغير ما تصورته في نفسها لارتفعت الفائدة المطلوبة ، ولم يحصل القبول فكان من حكمته عليه السلام ؛ أن سأل مثل هذه الجارية بمثل هذا السؤال ، وبمثل هذه العبارة ، ولذلك لما أشارت إلى السماء.
قال فيها : "إنها مؤمنة" يعني : مصدقة بوجود الله تعالى ، ولم يقل أنها عالمة ؛ لأنها صدقت قول الله ، وهو الله في السماوات ، ولو كانت عالمة لم تقيده بالسماء ، فعلم أن للعالم أن يصحب الجاهل في جهله تنزلاً لعقله ، والجاهل لا يقدر على صحبته العالم بغير تنزل.
كذا في "الفتوحات
184
المكية".
وفيه أيضاً : أنه لا يلزم من الإيمان بالفوقية الجهة ، فقد ثبتت ، فانظر ماذا ترى وكن أهل السنة من الورى.
انتهى.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قرب نى بالانه يستى رفتن است
قرب حق از حبس هستى رستن است
نيست راجه جاى بالا است وزير
نيست را زود ونه دورست ونه دير
يقول الفقير : يعرف من هذا الكلام أن وجود الأشياء وماهياتها الممكنة اعتباري.
والاعتباري لا وجود له حقيقة ، وإنما يقوم بوجود الله تعالى لقيام الظل بذي الظل ، فإذا كان وجود الموجودات في حكم العدم ، فما معنى كون وجود الله تعالى متقيداً بالعدم ؛ بأن يظهر في أينية مخصوصة دون غيرها سبحانه ، فافهم.
{أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِا وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ} .
{وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ} ؛ أي : مؤمن آل فرعون.
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} فيما دللتكم عليه أصله يا قومي اتبعوني.
{أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ؛ أي : سبيلاً يصل سالكه إلى المقصود والرشد والرشاد الاهتداء لمصالح الدين والدنيا.
وفيه تعريض بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغي والضلال.
وفيه إشارة إلى أن الهداية مودعة في اتباع الأنبياء والأولياء وللولي أن يهدي سبيل الرشاد بتبعية النبي عليه السلام كما يهدي النبي إليه ، ومن الهداية قوله : يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ} : اسم بمعنى المتعة ، وهي التمتع والانتفاع لا بمعنى السلعة ؛ لأن وقوعه خبراً عن الحياة الدنيا يمنع منه ؛ أي : تمتع يسير ، وانتفاع قليل لسرعة زوالها ؛ لأن الدنيا بأسرها ساعة ، فكيف عمر إنسان واحد.
وبالفارسية : (بساط عيش او باندك فرصتى در نور دند ونامة معاشرت أورا رقم ابطال درسر كشند) :
بباغ دهر كه بس تازه رنك وخوش بويست
مباش غره كه رنج خزان زبى دارد
زمان زمان بد مدريح نكبت وادبار
جه رنك وبوكه نشانى ازان نكذارد
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم ، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية ، وما قام داع في أمة إلا حذر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها ، ألا ترى إلى مؤمن آل فرعون كيف قال : اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ؛ كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد ، قال : إنما هذه.
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
يعني : لن تصل إلى سبيل الرشاد ، وفي قلبك محبة للدنيا وطلب لها.
{وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ} .
لخلودها ودوام ما فيها فالدائم خير من المنقضي.
قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً ، والآخرة خزفاً باقياً ، لكانب الآخرة خيراً من الدنيا ، فكيف والدنيا خزف فاننٍ ، والآخرة ذهب باققٍ.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نام على حصير ، فقام وقد أثر في جسده ، فقال ابن مسعود رضي الله عنه : يا رسول الله لو أمرتنا أن نبسط لك لنفعل ، فقال : ما لي وللدنيا وأنا لنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي عليه السلام.
قال : "يا بني أكثر ذكر الموت ، فإنك إذا أكثرت ذكر الموت زهدت في الدنيا ، ورغبت في الآخرة ، وإن الآخرة دار قرار والدنيا غرارة ، والمغرور من اغتر بها" :
تو غافل در انديشة سود مال
كه سرماية عمر شد بايمال
جه خوش كفت باكودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روزكار
185
(8/140)
يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَـاقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} .
{مِنْ} : (هر كه).
{عَمِلَ} في الدنيا {سَيِّئَةً} : (كردارى بد).
{فَلا يُجْزَى} في الآخرة {إِلا مِثْلَهَا} عدلاً من الله سبحانه ، فخلود الكافر في النار مثل لكفره ، ولو ساعة لأبدية اعتقاده.
وأما المؤمن الفاسق ، فعقابه منقطع إذ ليس على عزم أن يبقى مصراً على المعصية.
وفي الآية دليل على أن الجنايات سواء كانت في النفوس أو الأعضاء أو الأموال تغرم بأمثالها ، والزائد على الأمثال غير مشروع.
{وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا} ، وهو ما طلب به رضا الله تعالى ؛ أي عمل كان من الأعمال المشروعة.
{مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} ذكرهما ترغيباً لهما في الصالحات.
{وَهُوَ} ؛ أي : والحال أنه {مُؤْمِنٌ} بالله واليوم الآخر جعل العمل عمدة ، والإيمان حالاً للإيذان ؛ بأنه لا عبرة بالعمل بدون الإيمان إذ الأحوال مشروطة على ما تقرر في علم الأصول.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فأولئك الذين عملوا ذلك {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا} : (روزى داده شو نداز فواكه با كيزه ومطاعم لذيذه).
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ أي : بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله ورحمة.
وفي "التأويلات النجمية" : بغير حساب ؛ أي : مما لم يكن في حساب العبد أن يرزق مثله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : أخبرني رسول الله عليه السلام : أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ؛ أي : بأعمالهم الفاضلة ، ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا ، فيبرزون ويبرز لهم عرشه ، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ، فتوضع لهم منابر من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت ، ومنابر من زبرجد ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ، ويجلس أدناهم ، وما هو دني على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً.
قال أبو هريرة رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، وهل يرى ربنا؟ قال : "نعم ، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر" ، قلت : لا ، قال : كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم : يا فلان بن فلان : أتذكر يوم قلت كذا وكذا ، فيذكره بعض عثراته في الدنيا ، فيقول : أو لم تغفر لي ، فيقول : بلى.
فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه ، فبينما هم على ذلك إذ غشيهم سحابة ، فأمطرت عليهم طيباً ، لم يجدوا مثل ريحه قط.
ويقول : ربنا قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة ، فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقاً قد حفت بالملائكة ، لم تنظر العيون إلى مثلها ، ولم تسمع الأذان ، ولم يخطر على القلوب ، فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولايشترى.
وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً.
قال : فيقبل الرجل ذو المنة المرتفعة ، فيلقى من هو دونه ، وما فيهم دني فيروعه ما عليه من اللباس ، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه.
وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ، ثم ينصرف إلى منازلنا ، فيتلقانا أزواجنا ، فيقلن مرحباً وأهلاً ، لقد جئت وإن ربك من الجمال ما هو أفضل مما فارقتنا عليه ، فيقول : إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ، ويحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا".
{وَيَـاقَوْمِ} : قال الكاشفي : (آل فرعون از سختان خربيل فهم كردند كه ايما آورده است زبان ملامت بكشادندكه شرم ندارى كه از برستش فرعون روى بعبادت ديكرى مى آرى خربيل تكرار ندا كرداز روى تنبيه تا شايد از خواب غفلت بيدار شوند بس
186
كفت اى كروه من).
{مَا لِى} : الاستفهام للتوبيخ.
{وَيَـاقَوْمِ مَا لِى} من النار بالتوحيد.
{وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} بالإشراك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قوله : أدعوكم في موضع الحال من المنوي في الخبر وتدعونني عطف عليه ومدار التعجب دعوتهم إياه إلى النار لا دعوته إياهم إلى النجاة ؛ كأنه قيل : أخبروني كيف هذا الحال أدعوكم إلى الخير ، وتدعونني إلى الشر ، وقد جعله بعضهم من قبيل ما لي أراك حزيناً ؛ أي : ما لك تكون حزيناً ، فيكون المعنى : ما لكم أدعوكم.
إلخ.
{وَيَـاقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِى لاكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِه مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّـارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى} .
(8/141)
{تَدْعُونَنِى لاكْفُرَ بِاللَّهِ} بدل والدعاء كالهداية بإلى ، واللام.
{وَأُشْرِكَ بِه مَا لَيْسَ لِى بِهِ} ؛ أي : بشركته له تعالى في المعبودية.
{عِلْمٌ} .
والمراد : نفي المعلوم ، وهو ربوبية ما يزعمون إياه شريكاً بطريق الكناية ، وهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه ، وفيه إشعار ، بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها.
{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} الذي لم يكن له كفواً أحد ، وأما المخلوقات ، فبعضها أكفاء بعض.
وأيضاً : إلى القادر على تعذيب المشركين.
{الْغَفَّـارِ} لمن تاب ورجع إليه القادر على غفران المذنبين.
{لا جَرَمَ} : (هر آينه).
قاله الكاشفي ، وقال غيره كلمة لا رد لما دعوه إليه من الكفر والإشراك وجرم فعل ماض بمعنى حق وفاعله قوله تعالى : {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} ؛ أي : إلى عبادته وإشراكه.
{لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ} ؛ أي : حق ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادة نفسها أصلاً ، ومن حق المعبود أن يدعو الناس إلى عبادته بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب.
وهذا الشأن منتف عن الأصنام بالكلية ؛ لأنها في الدنيا جمادات لا تستطيع دعاء غيرها.
وفي الآخرة إذا أنشأها الله حيواناً ناطقاً تبرأ من عبدتها ، أو المعنى حق وثبت عدم استجابة دعوة لها ؛ أي : ليس لها استجابة دعوة لا في الدنيا بالبقاء ، والصحة والغنى ونحوها ، ولا في الآخرة بالنجاة ورفعة الدرجات وغيرهما ، كما قال تعالى : {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} () ، فكيف تكون الأصنام رباً ، وليس لها قدرة على إجابة دعاء الداعين ، ومن شأن الرب استجابة الدعوات وقضاء الحاجات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقيل : جرم بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه ؛ أي : كسب ذلك الدعاء إلى الكفر والإشراك بطلان دعوته ؛ أي : بطلان دعوة المدعو إليه بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ؛ كأنه قيل : أنكم تزعمون أن دعاءكم إلى الإشراك يبعثني على الإقبال عليه ، وأنه سبب الإعراض وظهور بطلانه.
وقيل : جرم فعل من الجرم ، وهو القطع كما أن بد من لا بد فعل من التبديد.
والمعنى : لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام ؛ أي : لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقاً ، فيكون جرم اسم لا مبنياً على الفتح لا فعلاً ماضياً ، كما هو على الوجهين الأولين.
وفي "القاموس" : لا جرم ؛ أي : لا بد أو حقاً أو لا محالة ، أو هذا أصله ، ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم ، فذلك يجاب عنه باللام.
يقال : لا جرم لآتينك.
{وَأَنَّ مَرَدَّنَآ} مرجعنا {إِلَى اللَّهِ} ؛ أي : بالموت ومفارقة الأرواح.
(الأجساد ومارا جزا خواهد داد) ، وهو عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه ، وكذا قوله تعالى : {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} ؛ أي : في الضلال والطغيان كالإشراك وسفك الدماء.
{هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} ؛ أي : ملازموها.
{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ * فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِـاَالِ فِرْعَوْنَ سُواءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
{فَسَتَذْكُرُونَ} ؛ أي : فسيذكر بعضكم بعضاً عند معاينة العذاب.
{مَآ أَقُولُ لَكُمْ} من النصائح ، ولكن لا ينفعكم الذكر حينئذ.
187
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ} : أرده إليه ليعصمني من كل سوء قاله لما أنهم كانوا توعدوه بالقتل.
قال في "القاموس" : فوض إليه الأمر رده إليه ، انتهى.
وحقيقة التفويض تعطيل الإرادة في تدبير الله تعالى كما في "عين المعاني" ، وكمال التفويض أن لا يرى لنفسه ولا للخلق جميعاً قدرة على النفع والضر ، كما في "عرائس البقلي".
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال بعضهم : التفويض قبل نزول القضاء والتسليم بعد نزوله.
{إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} يعلم المحق من المبطل ، فيحرس من يلوذ به من المكاره ، ويتوكل عليه.
وفي "كشف الأسرار" : معنى تفويض : (كار باخداوندكار كذا شتن اسن درسه جيز دردين ودر قسم ودر حساب خلق اما تفويض دردين آنست كه بتكلف خود در هرجه الله ساخته نياميزى وجنانكه ساخته وى ميكردد با آن ميسازى وتفويض در قسم آنست كه بهانة دعا باحكم او معارضه نكنى وباستقصاى طلب تعيين خودرا متهم نكنى وتفويض در حساب آنست كه اكر ايشانرا بدى بينى آنرا شقاوت نشمرى وبترسى واكر برنيكى بينى آنرا سعادت نشمرى واميد دارى وبر ظاهر هر كس فرو آيى وبصدق ايشانرا مطالبت نكنى).
(8/142)
ويقرب من هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر كان يقول : مذنب ، فجعل المجتهد يقول : أقصر أقصر ، عن ما أنت فيه.
قال : فيقول : خلني وربي ، فإنما على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيباً ، فقال : والله لا يغفر الله لك أبداً ، ولا يدخلك الجنة أبداً.
قال : فبعث الله إليهما ملكاً ، فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ، فقال : لا يا رب.
قال : اذهبوا به إلى النار".
قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت بدنياه وآخرته.
ودلت الآية على أن الله تعالى مطلع على العباد وأحوالهم ، فلا بد من تصحيح الحال ، ومراقبة الأحوال.
روي أن ابن مسعود رضي الله عنه : خرج مع بعض الأصحاب رضي الله عنهم إلى الصحراء ، فطبخوا الطعام ، فلما تهيؤوا للأكل رأوا هنالك راعياً يرعى أغناماً ، فدعوه إلى الطعام ، فقال الراعي : كلوا أنتم ، فإني صائم ، فقالوا له بطريق التجربة : كيف تصوم في مثل هذا اليوم الشديد الحرارة ، فقال لهم : إن نار جهنم أشد حراً منه ، فأعجبهم كلامه ، فقالوا له : بع لنا غنماً من هذه الأغنام نعطك ثمنه مع حصة من لحمه ، فقال لهم : هذه الأغنام ليست لي ، وإنما هي لسيدي ومالكي ، فكيف أبيع لكم مال الغير ، فقالوا له : قل لسيدك إنه أكله الذئب أو ضاع.
فقال الراعي : أين الله ، فأعجبهم كلامه زيادة الإعجاب ، ثم لما عادوا إلى المدينة اشتراه ابن مسعود مع مالكه مع الأغنام ، فأعتقه ووهب الأغنام له ، فكان ابن مسعود يقول له في بعض الأحيان بطريق الملاطفة : أين الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وروي : أن نبياً من الأنبياء كان يتعبد في جبل ، وكان في قربه عين جارية ، فجاز بها فارس وشرب منها ونسي عندها صرة فيها ألف دينار ، فجاء آخر فأخذ الصرة ، ثم جاء رجل فقير على ظهره حزمة حطب ، فشرب واستلقى ليستريح فرجع الفارس لطلب الصرة ، فلم يرها ، فأخذ الفقير ، فطلبها منه ، فلم يجدها عنده ، فعذبه حتى قتله ، فقال ذلك النبي : إلهي ما هذا أخذ الصرة ، بل أخذها ظالم آخر وسلطت هذا الظالم عليه حتى قتله ، فأوحى الله تعالى
188
إليه أن اشتغل بعبادتك ، فليس معرفة مثل هذا من شأنك ، إن هذا الفقير قد قتل أبا الفارس ، فمكنته من القصاص ، وإن أبا الفارس قد كان أخذ ألف دينار من مال آخذ الصرة ، فرددته إليه من تركته.
ذكره الغزالي رحمه الله.
قال الحافظ :
دركاه خانة كه ره عقل وفضل نيست
فهم ضعيف وراى فضولي جرا كنند
{فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ} : (آورده اندكه فرعون فرمود تاخربيل رابكشندوى كريخته روى بكو هى نهاد وبنماز مشغول شد حق سبحانه تعالى لشكر سباع را برانكيخت تابكر دوى در آمده آغازبا سبانى كردند نتيجة تفويض بزودى دروى رسيد).
يعني : فوض أمره إلى الله فكفاه الله (در كشف الأسرار آمده كه فرعون از خواص خود جمعى را از عقب او فر ستاد جون بوى رسيدند ونمازوى ونكهبانى سباع مشاهده كرده بترسيدند ونزد فرعون آمده صورت حال باز كفتند همه راسياست كرد تا ان سخن فاش نكردد).
قال بعضهم : منهم من أكلته السباع ، ومنهم من رجع إلى فرعون ، فاتهمه وصلبه ، فأخبر الله عن الحال خربيل بقوله : فوقاه الله ؛ أي : حفظه من {سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا} : شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم.
وبالفارسية : (بس نكاه داشت اوراخداى از بديهاى آنجه اند يشيد ند درراه او).
وقيل : نجا خربيل مع موسى عليه السلام.
{وَحَاقَ} نزل وأصاب {فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ} ؛ أي : بفرعون وقومه ، وعدم التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك من حيث كونه متبوعاً لهم ورئيساً ضالاً مضلاً.
{سُواءُ الْعَذَابِ} ؛ أي : الغرق.
وهذا في الدنيا ثم بيّن عذابهم في البرزخ بقوله :
{النَّارُ يُعْرَضُونَ} ؛ أي : فرعون وآله.
{عَلَيْهَا} ؛ أي : على النار.
ومعنى عرضهم على النار إحراق أرواحهم وتعذيبهم بها من قولهم عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "القاموس" : عرض القوم على السيف قتلهم وعلى السوط ضربهم.
{غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ؛ أي : في أول النهار وآخره.
وذكر الوقتين إما للتخصيص ، وإما فيما بينهما ، فالله تعالى أعلم بحالهم.
إما أن يعذبوا بجنس آخر ، أو ينفس عنهم ، وإما للتأبيد كما في قوله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم : 62) ؛ أي : على الدوام.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار مرتين ، فيقال : يا آل فرعون هذه داركم.
(8/143)
قال ابن الشيخ في "حواشيه" هذا يؤذن بأن العرض ليس بمعنى التعذيب والإحراق ، بل بمعنى الإظهار والإبراز ، وأن الكلام على القلب كما في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، فإن أصله عرضت الحوض على الناقة بسوقها إليه وإيرادها عليه ، فكذا هنا أصل الكلام تعرض عليهم ؛ أي : على أرواحهم بأن يساق الطير التي أرواحهم فيها ؛ أي : في أجوافها إلى النار.
وفي الحديث : "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة ، فمن الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فمن النار.
يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
يعني : (اينست جاى توتا كه برانكيز دترا خداى بسوى وى دررورز قيامت).
يقول الفقير : أما كون أرواحهم في أجواف طير سود ، فليس المراد ظرفية الأجواف للأرواح حتى لا يلزم التناسخ ، بل هو تصوير لصور أرواحهم البرزخية.
وأما العرض بمعنى الإظهار ، فلا يقتضي عدم التعذيب ، فكل روح.
إما معذب ، أو منعم وللتعذيب والتنعيم مراتب ، ولأمر ما
189
ذكرالله تعالى عرض أرواح آل فرعون على النار ، فإن عرضها ليس كعرض سائر الأرواح الخبيثة.
قال في "عين المعاني" : قال رجل للأوزاعي رأيت طيراً لا يعلم عددها إلا الله تخرج من البحر بيضاء ، ثم ترجع عشياً سوداء ، فما هي قال : أرواح آل فرعون تعرض وتعود والسواد من الإحراق هذا ما دامت الدنيا.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} : وتعود الأرواح إلى الأبدان يقال للملائكة : {أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ؛ أي : عذاب جهنم ، فإنه أشد مما كانوا فيه ؛ فإنه للروح والجسد جميعاً ، وهو أشد مما كان للروح فقط كما في البرزخ.
وذلك أن الأرواح بعد الموت ليس لها نعيم ، ولا عذاب حسي جسماني.
ولكن ذلك نعيم ، أو عذاب معنوي روحاني حتى تبعث أجسادها ، فترد إليها ، فتعذب عند ذلك حساً ، ومعنى ، أو تنعم ألا ترى إلى بشر الحافي قدس سره لما رؤي في المنام.
قيل له : ما فعل الله بك.
قال : غفر لي وأباح لي نصف الجنة ؛ أي : نعيم الروح.
وأما النصف الآخر الذي هو نعيم الجسد ، فيحصل بعد الحشر ببدنه والأكل الذي يراه الميت بعد موته في البرزخ هو كالأكل الذي يراه النائم في النوم ، فكما أنه تتفاوت درجات الرؤيا حتى أن منهم من يستيقظ ، ويجد أثر الشبع ، أو الري ، فكذا تختلف أحوال الموتى ، فالشهداء أحياء عند ربهم ، كحياة الدنيا ونعيمهم قريب من نعيم الحس ، فافهم جداً ، ويجوز أن يكون المعنى : أدخلوا آل فرعون أشد عذاب جهنم ، فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي الحديث : "أهون أهل النار عذاباً رجل في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
وفي "التأويلات النجمية" : ويوم تقوم الساعة يشير إلى مفارقة الروح البدن بالموت ، فإن من مات فقد قامت قيامته أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، وذلك فإن أشد عذاب فرعون النفس ساعة المفارقة ؛ لأنه يفطم عن جميع مألوفات الطبع دفعة واحدة.
والفطام عن المألوف شديد ، وقد يكون الألم بقدر شدة التعلق به.
انتهى.
قال الحافظ :
غلام همت آنم كه زير جرخ كبود
زهر جه رنك تعلق بدير آزا دست
وقال غيره :
الفت مكير همجوالف هيج باكسى
تابسته الم نشوى وقت انقطاع
ثم في الآية دليل على بقاء النفس وعذاب القبر ؛ لأن المراد بالعرض التعذيب في الجملة ، وليس المراد : أنهم يعرضون عليها يوم القيامة لقوله بعده ويوم تقوم الساعة.
إلخ.
وإذا ثبت في حق آل فرعون ثبت في حق غيرهم إذ لا قائل بالفصل.
وكان عليه السلام لا يصلي صلاة إلا وتعوذ بعدها من عذاب القبر.
قال عليه السلام : "من كف أذاه عن الناس كان حقاً على الله أن يكف عنه أذى القبر".
وروي عن سالم بن عبد الله : أنه قال : سمعت أبي يقول : أقبلت من مكة على ناقة لي وخلفي شيء من الماء حتى إذا مررت بهذه المقبرة مشيراً إلى مقبرة مخصوصة بين مكة والمدينة.
خرج رجل من المقبرة يشتعل من قرنه إلى قدمه ناراً ، وإذا في عنقه سلسلة تشتعل ناراً ، فوجهت الدابة نحوه.
أنظر إلى العجب ، فجعل يقول : يا عبد الله صب علي من الماء ، فخرج رجل من القبر أخذ بطرف السلسلة ، فقال : لا تصب عليه الماء ، ولا كرامة ، فمد يده حتى انتهى به إلى القبر ، فإذا معه سوط يشتعل ناراً ، فضربه حتى دخل القبر.
قال وهب بن منبه : من قرأ
190
باسم الله ، وبالله وعلى ملة رسول الله ، رفع الله العذاب عن صاحب القبر أربعين سنة.
كذا في "زهرة الرياض" : قال العلماء : عذاب القبر هو عذاب البرزخ أضيف إلى القبر ؛ لأنه الغالب ، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه ناله ما أراد به قبر ، أو لم يقبر بأن صلب أو غرق في "البحر" ، أو أحرق حتى صار رماداً وذري في الجو.
قال إمام الحرمين : من تفرقت أجزاؤه يخلق الله الحياة في بعضها ، أو كلها ، ويوجه السؤال عليها ، ومحل العذاب والنعيم ؛ أي : في القبر هو الروح والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة.
قال اليافعي : وتختص الأرواح دون الأجساد بالنعيم والعذاب ما دامت في عليين أو سجين.
وفي القبر : يشترك الروح والجسد.
(8/144)
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال الفقيه أبو الليث : الصحيح ، عندي أن يقر الإنسان بعذاب القبر ، ولا يشتغل بكيفيته.
وفي "الأخبار الصحاح" : أن بعض الموتى لا ينالهم فتنة القبر كالأنبياء والأولياء والشهداء.
قال الحكيم الترمذي : إذا كان الشهيد لا يسأل ، فالصديق أولى بأن لا يفتن هو المنخلع عن صفات النفس ، والشهيد هوأهل الحضور.
والصحيح : هو أهل الاستقامة في الدين ، ورؤي بعضهم بعد موته على حال حسنة فسئل عن سببها ، فقال : كنت أكثر قول : لا إله إلا الله ، فأكثر منها ؛ أي : من هذه المقالة الحسنة ، والكلمة الطيبة اللهم اختم لنا بالخير والحسنى.
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَـاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـاتِا قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ} .
{وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ} : التحاج بالتشديد التخاصم ، كالمحاجة ؛ أي : واذكر يا محمد لقومك وقت تخاصم أهل النار في النار سواء كانوا آل فرعون ، أو غيرهم ، ثم شرح خصومتهم بقوله : {فَيَقُولُ الضُّعَفَـاؤُا} : منهم في القدر والمنزلة والحال في الدنيا ، يعني : (بيجاركان وزبونان قوم).
{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} ؛ أي : أظهروا الكبر باطلاً وهم رؤساؤهم ولذا لم يقل للكبراء ؛ لأنه ليس الكبرياء صفتهم في نفس الأمر.
{إِنَّا كُنَّا لَكُمْ} في الدنيا {تَبَعًا} : جمع تابع كخدم في جمع خادم.
قال في "القاموس" : التبع محركة التابع يكون واحد ، أو جمعاً ؛ أي : إتباعاً في كل حال خصوصاً فيما دعوتمونا إليه من الشرك والتكذيب ، يعني : (سبب دخول مادر دوزخ بيدى شما).
{فَهَلْ أَنتُم} : (بس آياهستيد شما).
{مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} ، بالدفع أو بالحمل ، يقال : ما يغني عنك هذا ؛ أي : ما يجزيك وما ينفعك ونصيباً ، وهو الحظ المنصوب ؛ أي : المعين كما في "المفردات" : منصوب بمضمر يدل عليه مغنون ، فإن أغنى إذا عدي بكلمة عن لا يتعدى إلى مفعول آخر بنفسه ؛ أي : رافعون عنا نصيباً ؛ أي : بعضاً وجزءاً من النار باتباعنا إياكم ، فقد كنا ندفع المؤونة عنكم في الدنيا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : (جه جاى اين سخن است).
{إِنَّا كُلٌّ} ؛ أي : كلنا نحن وأنتم.
وبهذا صحّ وقوعه مبتدأ.
{فِيهَآ} : خبر ؛ أي : في النار ، فكيف نغني عنكم ، ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا.
{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ، بماهية كل أحد فأدخل المؤمنين الجنة على تفاوتهم في الدرجات ، والكافرين النار على طبقاتهم في الدركات ، ولا معقب لحكمه.
{وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ} من الضعفاء والمستكبرين جميعاً ، لما ذاقوا شدة العذاب وضاقت حيلهم.
{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} ؛ أي : القوام بتعذيب أهل النار.
جمع خازن.
والخزن : حفظ الشيء في الخزانة ، ثم يعبر به عن كل حفظ كحفظ السر ونحوه.
قاله الراغب : ووضع جهنم موضع الضمير للتهويل والتفظيع.
وهم اسم لنار الله الموقدة.
{ادْعُوا رَبَّكُمْ} شافعين لنا.
{يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا} ؛ أي : في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا.
{مِّنَ الْعَذَابِ} ؛ أي : شيئاً منه ، فقوله : يوماً ، ظرف ليخفف ، ومفعوله محذوف.
ومن العذاب بيان لذلك المحذوف ،
191
واقتصارهم في الاستدعاء على تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان دون رفعه رأساً ، أو تخفيف قدر كثير منه في زمان مديد لعلمهم بعدم كونه في حيز الإمكان.
{قَالُوا} : أي الخزنة بعد مدة.
{أَوَلَمْ تَكُ} : الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف على مقداري ألم تنبهوا على هذا ولم تك {تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم} في الدنيا على الاستمرار.
{بِالْبَيِّنَـاتِ} بالحجج الواضحة الدالة على سوء عاقبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي ، أرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء ، وتعطيل أسباب الإجابة.
{قَالُوا بَلَى} ؛ أي : أتونا بها ، فكذبناهم كما في سورة الملك.
{قَالُوا} : إذا كان الأمر كذلك ، يعني : (جون كاربرين منوالست).
{فَادْعُوا} : أنتم ، فإن الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستخيل صدوره عنا ، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء أطماعهم في الإجابة ، بل إقناطهم منها ، وإظهار حقيقتهم حسبما صرحوا به في قولهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/145)
{وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ} لأنفسهم ، فالمصدر مضاف إلى فاعله ، أو وما دعاء غيرهم لهم بتخفيف العذاب عنهم ، فالمصدر مضاف إلى مفعوله.
{إِلا فِى ضَلَـالٍ} ؛ أي : في ضياع وبطلان الإيجاب ؛ لأنهم دعوا في غير وقته.
اختلف العلماء في أنه هل يجوز أن يقال : يستجاب دعاء الكافرين ، فمنعه الجمهور لقوله تعالى : {وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} ؛ ولأن الكافر لا يدعو الله ؛ لأنه لا يعرفه ؛ لأنه وإن أقر به لما وصفه بما لا يليق به نقض إقراره.
وما روي في الحديث "أن دعوة المظلوم وإن كان كافراً تستجاب" ، فمحمول على كفران النعمة وجوزه بعضهم لقوله تعالى حكاية عن إبليس : رب أنظرني ؛ أي : أمهلني ولا تمتني سريعاً ، فقال الله تعالى : إنك من المنظرين ، فهذه إجابة وبالجواز يفتى.
قال الشيخ سعدي :
مغى در بروى از جهان بسته بود
بتى را بخدمت ميان بسه بود
بس از جند سال آن نكوهيده كيش
قضا حالتى صعبش آورد بيش
بباى بت آمد باميد خبر
بغلطيد بيجاره برخاك دير
كه درما نده ام دست كيراى صنم
بجان آمدم رحم كن برتنم
بزاريد در خدمتش بارها
كه هيجش بسامان نشد كارها
بتى جون برارد مهمات كس
كه نتواند از خود براند مكس
برآشفت كاى باى بند ضلال
بباطل برستيدمت جند سال
مهمى كه دربيش دارم برآر
وكرنه نخواهم زبرور دكار
هنوز ازبت آلوده رويش بخاك
كه كامش برآورد يزدان باك
حقائق شناسى درين خيره شد
سرو قت صافى بروتيره شد
كه سر كشته دون باطل برست
هنوزش سراز خمر تبخانه مست
دل از كفر ودست از خيانت نشست
خدايش برآورد كامى كه جشد
فرورفت خاطر درين مشكلش
كه بيغامى آمد درون دلش
كه بيش صنم بير ناقص عقول
بسى كفت وقولش نيامد قبول
كرازدركه ما شود نيرزد
بس آنكه جه فرن از صنم تا صمد
دل اندر صمد بايداى دوست بست
كه عاجز ترنداز صنم هر كه هست
192
محالست اكر سر برين درنهى
كه باز آيدت دست حاجت تهى
فإذا ثبت أن الله تعالى يجيب الدعوات لا ما سواه من الأصنام ونحوها ، فلا بد من توحيده ، وإخلاص الطاعة والعبادة له ، وعرض الافتقار إليه إذ لا ينفع الغير لا في الدنيا ، ولا في الآخرة جعلنا الله ، وإياكم من التابعين للهدى والمحفوظين من الهوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـاتِا قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ * إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} .
{إِنَّا} : نون العظمة ، أو باعتبار الصفات ، أو المظاهر.
{لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} النصر : العون.
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : أتباعهم.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي.
وغير ذلك من العقوبات ، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق لهم من صورة المغلوبية امتحاناً إذ العبرة إنما هي بالعواقب ، وغالب الأمر.
وأيضاً : ما يقع في بعض الأحيان من الانهزام ، إنما كان بعارض كمخالفة أمر الحاكم ، كما في غزوة أحد ، وكمطلب الدنيا والعجب والغرور ، كما في بعض وقائع المؤمنين.
وأيضاً : إن الله تعالى ينتقم من الأعداء ، ولو بعد حين كما بعد الموت ، ألا ترى أن الله تعالى انتقم ليحيى عليه السلام بعد استشهاده من بنى إسرائيل بتسليط بخت نصر حتى قتل به سبعون ألفاً.
قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما قتلت أمة نبياً إلا قتل به منهم سبعون ألفاً ، ولا قتلوا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً.
وأما قصة الحسنين رضي الله عنهما ، فكثرة القتلى لهما باعتبار جدهما عليه السلام.
وحاصله : أن علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل ، فإذا انضم إلى شرفهم شرف الانتساب إلى النبي عليه السلام بالسيادة الصورية قرباً ، أو بعداً تضاعف قدرهم ، فكان الإكرام إليهم بمنزلة الإكرام إلى النبي عليه السلام.
وكذا الإهانة.
والظاهر : في دفع التعارض بين قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا وبين قوله : ويقتلون النبيين بغير الحق ما قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن رضي الله عنه : من أنه لم يقتل من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر ، كما في "تفسير القرطبي" في البقرة.
وكان زكريا ويحيى وشعيب ونحوهم عليهم السلام ممن لم يؤمر بالقتال.
يقول الفقير : حقيقة النصرة للخواص إنما هي بالإمداد الملكوتي.
وقد يجيء الإمداد من جهة البلاء الصوري ، فالقتل ونحوه كله من قبيل الإمداد بالترقي.
والحمدالذي بيده الخير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال شيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : كان النبي عليه السلام قادراً على تخليص الحسنين رضي الله عنهما بالشفاعة من الله تعالى ، لكنه رأى كمالهما بالشهادة راجحاً على الخلاص.
(8/146)
وفي "التأويلات النجمية" : كمال النصرة في الظفر على أعدى عدوك ، وهي نفسك التي بين جنبيك هو الجهاد الأكبر ، ولا يمكن الظفر على النفس إلا بنصرة الحق تعالى للقلب إذا تحقق عند العبد أن الخلق أشباح يجري عليهم أحكام القدر ، فالولي لا عدو له ، ولا صديق إلا الله.
ولهذا قال عليه السلام أعوذ بك منك.
{وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ} : جمع شاهد كصاحب وأصحاب ؛ أي : لننصرنهم في الدنيا والآخرة ، وعبر عن يوم القيامة بذلك للإشعار بكيفية النصرة ، وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين بشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ ، وعلى الكفرة بالتكذيب ، وهم الملائكة والمؤمنون من أمة محمد عليه السلام.
قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143).
{يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} .
بدل من اليوم الأول والمعذرة بمعنى العذر ، وقد سبق معناه في أول السورة ؛ أي : لا ينفعهم عذرهم عن كفرهم لو اعتذروا في بعض الأوقات ؛ لأن معذرتهم باطلة ، فيقال
193
لهم : اخسؤوا ولا تكلمون.
ويجوز أن يكون عدم نفع المعذرة ؛ لأنه لا يؤذن لهم ، فيعتذرون ، فيكون من نفي المقيد والقيد لا معذرة ولا نفع يومئذٍ.
وفي "عرائس البيان" : ظلمهم عدولهم عن الحق إلى الخلق واعتذارهم في الآخرة لا في الدنيا.
وفيه إشارة إلى المؤثر هو سوابق العنايات لا الأوقات.
{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} ؛ أي : البعد عن الرحمة.
{وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} ؛ أي : جهنم بخلاف المؤمنين العارفين ؛ فإنها تنفعهم لتنصلهم.
يعني : (از كناه بيرازى نمودن).
لكونه في وقته ولهم من الله الرحمة ، ولهم حسن الدار ، وإنما قال : سوء الدار ، فإن جهنم حرها شديد وقعرها بعيد وحليها حديد وشرابها صديد ، وكلامها هل من مزيد؟ وأسوأ الظالمين المشركون كما قال تعالى حكاية عن لقمان : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) وأسوأ المشركين المنافقون كما قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145) لاستهزائهم بالمؤمنين ، فليحذر العاقل عن الظلم سواء كان لنفسه بالإشراك والمعصية أو لغيره ، بكسر العرض وأخذ المال ، ونحوهما.
وليتذكر الإنسان يوماً يقول فيه الظالمون : ربنا أخرجنا منها نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ، فيجيبهم الله تعالى : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُا فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (فاطر : 37).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وروي أن أهل النار يبكون بكاء شديداً حتى الدم ، فيقول مالك : ما أحسن هذا البكاء لو كان في الدنيا.
قال الشيخ سعدي :
كنونت كه جشمست اشكى بيار
زبان دردهانست عذرى بيار
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه جون نفس ناطق زكفتن بخفت
كنون بايداى خفته بيدار بود
جو مرك اندر آيدز خوابت جه سود
كنون وقت تخمست اكر بدروى
كراميد دارى كه خر من برى
فعلم أنه لا تنفع المعذرة والبكاء في الآخرة ، فليتدارك العاقل تقصيره في الدنيا بالندامة والصلاح والتقوى ، ليستريح في الآخرة ، ويصل إلى الدرجات العلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصلحاء ، فمن أراد اللحوق بزمرتهم ، فليكن على حالهم وسيرتهم ، فإن الله ينصرهم في دنياهم وآخرتهم ، فإن طاعة الله وطاعة الرسول توصل العبد إلى المرام ، وإلى حيز القبول.
روي : أن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال النبي عليه السلام : "كيف نراك بالجنة وأنت في الدرجات العلى ، فأنزل الله تعالى ، ومن يطع الله والرسول ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، فلا بد من الإطاعة ، وعلى تقدير المخالفة ، فباب التوبة مفتوح.
عن كعب الأحبار : أن رجلاً من بني إسرائيل أراد الاغتسال من فاحشة في نهر فناداه النهر : أما تستحي من الله تعالى ، فتاب الرجل ثم عبد الله تعالى مع اثني عشر رجلاً ، فبعد زمان أرادوا العبور عن النهر المذكور ، فتخلف صاحب الاغتسال استحياء.
فقال النهر : إن أحدكم إذا غضب على ولده ، فتاب هو قبل توبته ، فاعبدوا الله على شاطىء ، فأقاموا هناك زماناً ، فمات صاحب الاغتسال ، فناداهم النهر : أن ادفنوه على شاطىء ، فدفنوه ، وأصبحوا وقد أنبت الله على قبره اثني عشر سرواً على عدد العابدين.
وكان ذلك أول سرو أنبت الله في الأرض ، وكل من مات دفنوه هناك ، وكان بنو إسرائيل يزورون قبورهم.
{يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ * هُدًى وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} .
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا} بمحض فضلنا
194
(8/147)
{مُوسَى} ابن عمران {الْهُدَى} ما يهتدي به من المعجزات والصحف والشرائع.
{وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ} : (الا يراث ميراث دادن).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والمراد بالكتاب : التوراة ، ولما كان الإيراث الحقيقي إنما يتعلق بالمال تعذر حمله على معناه هنا ، فأريد التبرك مجازاً إشعاراً بأن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي في باب الدين.
والمعنى : وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة إذ سائر ما اهتدي به في أمر الدين قد ارتفع بموت موسى عليه السلام.
وبالفارسية : (ميراث داديم بني إسرائيل را يغني فرزندان يعقوب راتورات يعنى باقى كذاشتيم درميان ايشان تورات را).
فهم ورثوا التوراة بعضهم من بعض قرناً بعد قرن.
{هُدًى} : مفعوله ؛ أي : هداية وبياناً من الضلالة ، أو مصدر بمعنى اسم الفاعل على أنه حال ؛ أي : هادياً.
يعني : (راه نما ينده).
{وَذِكْرَى} تذكرة وعظة أو حال كونه مذكراً.
يعني : (بند دهنده).
{لاوْلِى الالْبَـابِ} لذوي العقول السليمة العاملين بما في تضاعيفه دون الذين لا يعقلون.
والفرق بين الهدى والذكرى : أن الهدى ما يكون دليلاً على شيء آخر ، وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ، ثم صار منسياً ، وأما الذكرى ، فليس من ذلك.
وكتب الأنبياء مشتملة على هذين القسمين ، فإن بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة.
{فَاصْبِرْ} مترتب على قوله : إنا لننصر رسلنا ، وقوله : ولقد آتينا.
إلخ.
فالجملة المعترضة للبيان والتأكيد لنصرة الرسل ؛ كأنه قيل : إذا سمعت ما وعدت به من نصرة الرسل ، وما فعلناه بموسى ، فاصبر على ما أصابك من أذية المشركين ، فهو غير منسوخ بآية السيف إذ الصبر محمود في كل المواطن.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالنصرة وظهور الإسلام على الأديان كلها ، وفتح مكة ونحوها.
{حَقٌّ} لا يحتمل الإخلاف أصلاً واستشهد بحال موسى وفرعون.
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} تداركاً لما فرط منك من ترك الأولى في بعض الأحيان ؛ فإنه تعالى كافيك في نصرة دينك وإظهاره على الدين كله.
وفي "عين المعاني" : واستغفر من ذنب إن كان منك.
وقيل : هذا تعبد من الله لرسوله ليزيد به درجة وليصير ذلك سنة ، لمن بعده.
وفي "عرائس البقلي" : فإن كون الحادث في كون القديم ذنب.
وقيل : واستغفر لذنب أمتك.
وفيه أن هذا لا يجري في قوله تعالى : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، كما سيأتي في سورة محمد.
وقال ابن الشيخ في "حواشيه".
والظاهر أنه تعالى يقول : ما أراد أن يقوله ، وإن لم يجر لنا أن نضيف إليه عليه السلام ذنباً ، انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
يقول الفقير : كلام ابن الشيخ شيخ الكلمات ، وذلك لأن مرتبة النبوة أرفع من مرتبة الولاية ، فإن أحداً من الأمة ، وإن كان أصلاً إلى أقصى الغايات بحسب مرتبته ، فهو لا يدري حال النبي فوقه إذ لا ذوق له من مرتبته ، فكيف يضيف إليه ذنباً لا يعرفه ، فلا يطيع على حقيقة الذنب المضاف إليه عليه السلام إلا الله كالتصلية في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ} (الأحزاب : 56) ؛ فإنها سر غامض بينه تعالى وبين رسوله ، فليس لأحد سبيل إلى معرفته.
ومن هذا القبيل سهوه عليه السلام في بعض المواضع ، فإنه ليس من قبيل السهو الذي تعرفه الأمة :
تدانم كدامين سخن كويمت
كه وألا ترى زانجه من كويمت
195
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ} ؛ أي : ودم على التسبيح ملتبساً مقروناً وبحمده تعالى ، أو على قوله : سبحان الله وبحمده.
فالمقصود من ذكر العشي والإبكار الدلالة على المداومة عليهما في جميع الأوقات بناء على أن الإبكار عبارة عن أول النهار إلى نصفه ، والعشي عبارة عن نصف النهار إلى أول النهار من اليوم الثاني.
فيدخل فيهما كل الأوقات.(8/148)
وفي الآية إشارة إلى قلب الطالب الصادق بالتصبر على أذى النفس والهوى والشيطان ، إن وعد الله حق في نصرة القلب المجاهد مع كافر النفس وظفره عليها ، واستغفر لذنبك أيها القلب ؛ أي : مما سرى إليك من صفات النفس وتخلقت بأخلاقها ، فاستغفر لهذا الذنب ، فإنه صد أمرآة القلب ودم على الطاعات ، وملازمة الأذكار ؛ فإنه تصفو مرآة القلب عن صدأ الأخلاق الذميمة.
قالوا : ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار الجوارح كذلك ، قد يرتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب ، فإذاً لا بد من الاشتغال بظواهر الأعمال إصلاحاً للحال ، وتنويراً وتصفية للبال ، فمن ليس له في الدنيا شغل ، وقد ترك الدنيا على أهلها ، فما له لا يتنعم بخدمة الله تعالى فيلزم أن يديم العملمن غير فتور إما ظاهراً أو باطناً قلباً وقالباً وإلا فباطناً ، وترتيب ذلك أنه يصلي ما دام منشرحاً ، والنفس مجيبة ؛ فإن سئم تنزل من الصلاة إلى التلاوة ، فإن مجرد التلاوة أخف على النفس من الصلاة ، فإن سئم التلاوة أيضاً ، يذكر الله بالقلب واللسان ، فهو أخف من القراءة ، فإن سئم الذكر أيضاً.
يدع ذكر اللسان ، ويلازم المراقبة ، والمراقبة علم القلب بنظر الله تعالى إليه ، فما دام هذا العلم ملازماً للقلب ، فهو مراقب والمراقبة عين الذكر ، وأفضله وإن عجز عن ذلك أيضاً ، وتملكته الوساوس وتزاحم في باطنه حديث النفس ، فلينم.
وفي النون السلام ، وإلا فكثرة حديث النفس تقسي القلب ككثرة الكلام ؛ لأنه كلام من غير لسان ، فيحترز من ذلك فيقيد الباطن بالمراقبة والرعاية ، كما يقيد الظاهر بالعمل ، وأنواع الذكر والتسبيح ، وبدوام الإقبال على الله ودوام الذكر بالقلب واللسان يرتقي القلب إلى ذكر الذات ، ويصير حينئذٍ بمثابة العرش ، فالعرش قلب الكائنات في عالم الخلق والحكمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والقلب : عرش في عالم الأمر والقدرة ، فإذا اكتحل القلب بنور ذكر الذات وصار بحراً مواجاً من نسيمات القرب جرى في جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات.
وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى :
غير ذكر خداجه سرجه جهر
نيست دلرا نصيب وجانرا نهر
نور حق جون زدل ظهور كند
ظلمت تن جه شر وشور كند
وفي الحديث : "رأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها عن وجهه بيده ، فجاءته صدقته ، فصارت ستراً على وجه.
ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب ، فجاء حسن خلقه وأخذ بيده وأدخله على الله.
ورأيت رجلاً من أمتي غلقت أبواب الجنة له ، فجاءت شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة".
جعلنا الله وإياكم من أهل الأخلاق والأحوال وصالحات الأعمال.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ * إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـالِغِيه فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ} : (أورده اندكه كفار مكه درباب قرآن وبعث مجادله مبكر دندكه قرآن سخن خدانيست نعوذ بالله وبعث محالست حق
196
سبحانه وتعالى آيت فرستادكه).
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ} ويجحدون بها.
{بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ} حجة قاهرة.
{أَتَـاـاهُمْ} في ذلك من جهته تعالى وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيانه للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بدّ من استناده إلى سلطان مبين البتة.
{أَنْ} نافية.
{فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} خبر لأن عبر بالصدر عن القلب لكونه موضع القلب.
وفي الحصر إشعار بأن قلوبهم قد خلت عن كل شيء سوى الكبر ؛ أي : ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم أو إلا إرادة الرياسة والتقدم على النبي والمؤمنين ، أو إلا إرادة أن تكون النبوة لهم دونك يا محمد حسداً وبغياً.
ولذلك يجادلون فيها ؛ لأن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئاً يتوهم أن يصلح مداراً لمجادلتهم في الجملة.
واعتبرت الإرادة في هذين الوجهين ؛ لأن نفس الرياسة والنبوة ليستا في قلوبهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{مَّا هُم بِبَـالِغِيهِ} : صفة كبر ، فالضمير راجع إلى الكبر بتقدير المضاف ؛ أي : ما هم ببالغي مقتضى كبرهم ، وهو دفع الآيات ، فإني أنشر أنوارها في الآفاق ، وأعلي قدرك أو ما هم بمدركي مقتضى ذلك الكبر ، وهو ما أرادوه من الرياسة والنبوة.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ؛ أي : التجىء إليه في السلامة من كيد من يحسد ويبغي عليك.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْبَصِيرُ} لأفعالكم.
(8/149)
وقيل : المجادلون هم اليهود ، وكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام لست صاحبنا المذكور في التوراة ، بل هو المسيح بن داود.
وفي "تفسير الكاشفي" : (بلكه او ابو يوسف بن مسيح بن داود است).
يريدون : أن الدجال يخرج في آخر الزمان ، ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا الملك ، فسمى الله تمنيهم ذلك كبراً ونفى أن يبلغوا متمناهم ، فإن الدجال ، وإن كان يخرج في آخر الزمان لكنه ، ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون بحيث لا ينجو منهم واحد ، فمعنى قوله : فاستعذ بالله ؛ أي : من فتنة الدجال ؛ فإنه ليس فتنة أعظم من فتنته.
قال عليه السلام تعوذوا بالله من عذاب النار ، فقالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، ثم قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر ، فقالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر ، ثم قال : تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها ، وما بطن ، فقالوا : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها ، وما بطن ، ثم قال : تعوذوا بالله من فتنة الدجال ، فقالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال".
وقال الكاشفي : (بيايد دانست كه دجال آدمى است زآدميان ديكر بقد بلندتر وبحثه بزر كتر ويك جشم است وظهور او يكى از علامات قيامتست وبيغمبرامارات ظهور او بيان كرد كه مردم بسه سال بيش از خروج وى بقحط وغلا مبتلا شوند سال اول آسمان از آنجه باريدى ثلثي باز كيرد يعنى امساك ميكند وزمين از آنجه ازو روييدى ثلثى نكاه دارد سال دوم دو ثلث باز كيرند ودرسال سوم نه از آسمان باران آيد ونه از زمين كياه رويد ويكون غذاء المؤمنين يومئذ التسبيح والتقديس كأهل السماء بس دجال بيرون آيد وباوى سحر وتمويه بسيار بود وبيشتر خلق متابعت وى كنند إلا من عصمة الله تعالى وديوان دارد كه متمثل شوند بصورت آدميان بسى يكى را كويد اكر بدر ومادر ترازنده كنم اقرار كنى بربو بيت من كويد آرى في الحال ديوان بصورت ابوين أو متشكل شوند واورا كويند اى فرزند متابعت وى كن كه آفريد كارتست
197
القصة همه شهر هارا بكيرد الا مكة ومدينة راكه ملائكه باسبانى كنند وجون كار بر مؤمنان به تنك آيد حق سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام را از آسمان فرو فرستد تاد جال را بكشد ولشكر او كه اغلب يهود باشند بتمامى مستأصل كرداند وشمة از نزول عيسى در سورة زخرف مذكور خواهد شد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي الحديث : "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه لرسول الله".
وقال عليه السلام : "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" كما في "المصابيح" وهم الأئمة المضلون نعوذ بالله من فتنة الدجاجلة ، ومن كل فتنة مضلة".
قال المفسرون : قوله : إن الذين يجادلون الآية ، وإن نزل في مشركي مكة ، لكنه عام لكل مجادل مبطل ، فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ففيه إشارة إلى مدعي أهل الطلب ومجادلتهم مع أرباب الحقائق فيما آتاهم الله من فضله بغير حجة وبرهان ، بل حسداً من عند أنفسهم ، وليس مانعهم في قبول الحق وتصديق الصديقين وتسليمهم فيما يشيرون إليه من الحقائق والمعاني الأكبر ، مما كان من وصف إبليس إذ أبى واستكبر.
وقال : أنا خير منه.
وهذه الصفة مركوزة في النفوس كلها.
ولهذا المعنى بعض الجهلة المغترين بالعلوم ينكرون على بعض مقالات المشايخ الراسخين في العلوم ، فهؤلاء المدعون المنكرون لا يصلون إلى مرادهم ، ولا يدركون رتبة أهل الحقائق.
ولهذا قال بعضهم : لا تنكر ، فإن الإنكار شؤم ، والمنكر من هذا الحديث محروم فيها أيها الطالب المحق استعذ بالله من شر نفسك ، والنفوس المتمردة وجميع آفات تعوقك عن الحق وتقطع عليك طريق الحق.
قال في "كشف الأسرار" : (كفته اند اين مجادلان داعيان بدعت اند ومنكر ان صفات حق واين مجادلت اقتحام مكلفاً نست وخوض معترضان وجدال مبتدعان وتأويل جمهيان وساخته اشعريان وتزوير فلسفيان وقانون طبايعيان در هر عصرى قوم فراديد آمدند جون غيلان قدرى وبشر مرسى وشيطان الطاق وابن أبي داود وجهم صفوان وعمر وعبيد وأمثال ايشان كه صفات حق را منكر شدند ودين قديم بكذا شتند وكتاب وسنت سست ديدند وراى وقياس محكم داشتد مقصود ايشان آنتس كه كتاب وسنت باز بس دارند ومعقول فرا بيش اين آرزوى بزر كست كه دردل دارند وهر عز نخوا هند رسيد بآن آرزوى خويش).
وفي المثنوي :
شمع حق رابف كنى تواى عجوز
هم تو سوزى هم سرت اى كنده بوز
كى شود در باز بوسك نجس
كى شود خورشيد از بف منطمس
هر كه بر شمع خدا آرد تفو
شمع كى ميرد بسوزد بوز او
جون تو خفا شن بسى بينند خواب
كين جهان ماند يتيم از آفتاب
اى بريده آن لب وحلق ودهان
كى كند تف سوى معايا آسمان
تف بر ويش باز كردد بى شكى
تف سوى كردون نيابد مسلكى
همجو تبت بر روان بو لهب
تاقيامت تف برو باردزرب.
.
{لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : تحقيقاً للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه ، وهو أمر
198
(8/150)
البعث.
{أَكْبَرُ} أعظم من القدرة.
{مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} مرة ثانية ، وهي الإعادة ، فمن قدر على خلق الأعظم الأقوى بلا أصل ولا مادة وجب أن يقدر على خلق الأذل ، الأضعف من الأصل والمادة بطريق الأولى ، فكيف يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض ، وينكرون الخلق الجديد يوم البعث.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني : الكفار.
{لا يَعْلَمُونَ} أن الإعادة أهون من البداية لقصورهم في النظر والتأمل لفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِىاءُا قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} .
{وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} ؛ أي : الغافل والمستبصر ، فالمراد بالأعمى من عمي قلبه عن رؤية الآيات والاستدلال بها والبصير من أبصرها.
قال الشاعر : ()
أيها المنكح الثريا سهيلاً
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
أي : فكما لا تساوي بينهما ، فكذلك بين المؤمن والكافر ، والعالم والجاهل.
{وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} : قدمه لمجاورة البصير ، وهو باب من أبواب البلاغة.
والمراد بهن المحسنون.
{وَلا الْمُسِىاءُ} اسم جنس يعم المسيئين.
والمعنى : وما يستوي المحسن والمسيء ؛ أي : الصالح والطالح ، فلا بد أن يكون لهم حالة أخرى يظهر ما بين الفريقين من التفاوت ، وهي فيما بعد البعث ، وهو احتجاج آخر على حقيقة البعث والجزاء وزيادة ولا في المسيء لتأكيد النفي لطول الكلام بالصلة ؛ لأن المقصود نفي مساواته للمحسن ؛ لأنه كما لا يساوي المحسن المسيء فيما يستحقه المسيء من الحقارة والهوان ، كذلك لا يساوي المسيء المحسن فيما يستحقه المحسن من الفضل والكرامة والعاطف في قوله : والذين : عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى والبصير مع أن المجموع ؛ أي : مجموع الغافل والمستبصر هو مجموع المسيء والمحسن لتغاير الوصفين.
يعني : أن المقصود في الأولين إلى العلم ، فإن العمى والبصيرة في القلب.
وفي الآخرين إلى العمل ؛ لأن الإيمان والأعمال في الجوارح ، وإلا في الحقيقة المراد : بالبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات واحد وبالأعمى والمسيء واحد ، ويجوز أن يراد الدلالة بالصراحة والتمثيل على أن يتحد الوصفان في المقصود ؛ بأن يكون المراد بالأولين أيضاً المحسن والمسيء ، فالصراحة بالنسبة إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والتمثيل بالنسبة إلى ما قبله ؛ فإن الأعمى والبصير من قبيل التمثيل.
{قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} .
قوله : قليلاً صفة مصدر محذوف.
وما تأكيد معنى القلة ، وتذكرون على الخطاب بطريق الالتفات على أن يكون الضمير للكفار وفائدة الالتفات في مقام التوبيخ هو إظهار العنف الشديد ، والإنكار البليغ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والمعنى : تذكراً قليلاً تتذكرون أيها الكفار المجادلون ، يعني : وإن كنتم تعلمون أن التبصر خير من الغفلة ، ولا يستويان ، وكذا العمل الصالح خير من العمل الفاسد لكنكم لا تتذكرون إلا تذكراً قليلاً ، أو تتذكرون أصلاً ، فإنه قد يعبر بقلة الشيء عن عدمه مثل : أن يقال فلان قليل الحياء ؛ أي : لا حياء له.
قال في "تاج المصادر" : (التذكر ياد كردن ويا ياد آوردن وبند كرفتن).
{إِنَّ السَّاعَةَ} : إن القيامة ومر وجه التسمية بها مراراً.
{لاتِيَةٌ} أكد باللام ؛ لأن المخاطبين هم الكفار وجرد في طه حيث قال : إن الساعة آتية لكون المخبر ليس بشاك في الخبر.
كذا في "برهان القرآن".
{لا رَيْبَ فِيهَا} ؛ أي :
199
في مجيئها لوضوح شواهدها.
ومنها ما ذكر بقوله : لخلق السماوات.
إلخ.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} ، يعني : الكفار {لا يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون بها لقصور أنظارهم على الظواهر وقوة الفهم بالمحسوسات.
وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس إلا من عصمه الله تعالى ، ونظر إلى قلبه بنظر العناية.
روي : أن الصراط سبع قناطر ، فيسأل العبد عند القنطرة الأولى عن الإيمان ، وهو أصعب القناطر وأهواها قراراً فإن أتى بالإيمان نجا ، وإن لم يأت به تردى إلى أسفل السافلين ، ويسأل في الثانية عن الصلاة ، وفي الثالثة عن الزكاة ، وفي الرابعة عن صيام شهر رمضان ، وفي الخامسة عن الحج ، وفي السادسة عن الأمر بالمعروف ، وفي السابعة عن النهي عن المنكر ، فإن أجاب في الكل نجا ، وإلا تردى في النار :
كرد بعث محمد عربي
تابود خلق رارسول ونبي
هر جه ثابت شود بقول ثقات
كه محمد عليه ألف صلات
دادمارا خبر بموجت آن
واجب آمد بان زما ايمان
(8/151)
فالأساس هو الإيمان والتوحيد ، ثم يبنى عليه سائر الواجبات.
قال مالك بن دينار رحمه الله : رأيت جماعة في البصرة يحملون جنازة ، وليس معهم أحد ممن يشيع الجنازة ، فسألتهم عنه ، فقالوا : هذا من كبار المذنبين ، قال : فصليت عليه وأنزلته في قبره ، ثم انصرفت إلى الظل ، فنمت ، فرأيت ملكين نزلا من السماء ، فشقا قبره ونزل أحدهما في القبر ، وقال : اكتبه من أهل النار ؛ لأنه لم تسلم جارحة منه عن الذنب ، فقال الآخر : لا تعجل ، ثم نزل هو ، فقال لصاحبه : قد اختبرت قلبه ، فوجدته مملوءاً بالإيمان ، فاكتبه مرحوماً ، فإذا صلح القلب بالتوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر يرجى أن يتجاوز الله عن سيئاته ، ثم إن الساعة ارتاب فيها المرتابون مع وضوح شواهدها ، وأما أهل الإيمان والعيان فرأوها كأنها حاضرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
روي : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سأل حارثة كيف أصبحت يا حارثة.
قال : أصبحت مؤمناً حقاً ، قال : يا حارثة إن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك.
قال : عزفت نفسي عن الدنيا ؛ أي : زهدت وانصرفت ، فأظمأت نهارها وأسهرت ليلها واستوى عندي حجرها وذهبها ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ، وإلى أهل النار يتضاغون ؛ أي : يصوتون باكين ؛ وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، فقال عليه السلام : أصبت فالزم.
ومن كلمات أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه : "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" :
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بر كيرند
آن يقين ذرة نيفزايد
فظهر أن هذا حال أهل العيان فأين المحجوب على هذا ، فلما كانا لا يستويان في الدنيا علماً ومعرفة وشهوداً ، كذلك لا يستويان في الآخرة درجة وقربة وجوداً نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الصالحين المحسنين الفائزين بمطالب الدنيا والدين والآخرة.
{إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ} .
{قَالَ رَبُّكُمْ} أيها الناس.
{ادْعُونِى} وحدوني واعبدوني.
{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ؛ أي : أثبكم بقرينة قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} يتعظمون عن طاعتي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} حال كونهم {دَاخِرِينَ} ؛ أي : صاغرين أذلاء فإن الدخو بالفارسية : (خوارشدن.
من دخر كمنع
200
وفرح صغر وذل).
وإن فسر بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة ، فأقيم الثاني مقام الأول للمبالغة.
أو المراد بالعبادة الدعاء ، فإنه من أفضل أبوابها ، فأطلق العام على الخاص مجازاً.
قال الكاشفي : (مرد از دعا سؤالست يعني بخواهيد كه خزانة من مالا مالست وكرم من بخشدة آمال كدام كداست نياز بيش آورده كه نقد مراد بركف اميدش ننهادم وكدام محتاج زبان سؤال كشاد كه رقعة حاجنش رابتو قيع اجابت موشح نساحتم) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
برآستان ارادت كه سر نهادشبى
كه لطف دوست برويش دريجة نكشود
يقال : ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة ادعوني بلا خفاء أستجب لكم بالوفاء ادعوني بلا خطأ ، أستجب لكم بالعطاء ، ادعوني بشرط الدعاء ، وهو الأكل من الحلال.
قيل : الدعاء مفتاح الحاجة وأسنانه لقمة الحلال.
قال الحكيم الترمذي قدس سره : من دعا الله ، ولم يعمر قبل ذلك سبيل الدعاء بالتوبة والإنابة وأكل الحلال واتباع السنن ومراعاة السر ، كان دعاؤه مردوداً ، وأخشى أن يكون جوابه الطرد واللعن.
يقال : كان من دعاه استجاب له إما بما سأله ، أو بشيء آخر هو خير له منه.
ويقال : الكافر ليس يدعوه حقيقة ؛ لأنه إنما يدعو من له شريك ، والله تعالى لا شريك له.
وكذا المعطلة ؛ لأنهم إنما يعبدون إلهاً لا صفات له في الحياة والسمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة بزعمهم ، فهم لا يعبدون الله تعالى ، وكذا المشبهة إنما يدعون إلهاً له جوارح وأعضاء ، والله تعالى منزه عن ذلك ؛ فإنه ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير.
(8/152)
قال الشافعي رحمه الله : من انتهض لطلب مدبره ؛ فإن اطمأن إلى موجود ينتهي إليه فكره ، فهو مشبه ، وإن اطمأن إلى نفي محض ، فهو معطل ، وإن اطمأن إلى موجود واعتراف بالعجز عن إدراكه ، فهو موحد ، فأهل السنة يثبتونتعالى صفات ثبوتية وينزهونه عما لا يليق به ، فهم إنما يدعون الله تعالى ، فما من مؤمن يدعو الله ويسأله شيئاً إلا أعطاه إما في الدنيا وإما في الآخرة.
ويقول : هذا ما طلبت في الدنيا ، وقد ادخرته لك إلى هذا اليوم حتى يتمنى العبد أنه ليته لم يعط شيئاً في الدنيا.
ويقال : لم يوفق العبد للدعاء إلا لإرادة الله إجابته ، لكن وقوع الإجابة حقيقة ، إنما يكون في الزمان المتعين للدعاء كالسلطان إذا كان في وقت الفرح والاستبشار لا يرد السائل البتة.
قال الفضل بن عياض والناس وقوف بعرفات : ما تقولون لو قصد هؤلاء الوفد بعض الكرماء يطلبون منه دانقاً أكان يردهم ، فقالوا : لا.
فقال : والله للمغفرة في جنة كرم الله أهون على الله من الدانق في جنة كرم ذلك الرجل ، فعرفات وزمان الوقوف من مظان الإجابة.
وكذا جميع أمكنة العبادات وأوقات الطاعات ؛ لأن الله تعالى إذا رأى عبده حيث أمر رضي عنه واستجاب دعاءه ، ونعم ما قال سفيان حيث قال بعضهم : ادع الله ، فقال : ترك الذنوب هو الدعاء.
قال بعض العارفين بالله : الصلاة أفضل الحركات والصوم أفضل السكنات والتضرع في هياكل العبادات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات.
ولا بد من حسن الظن بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
حكي عن بعض البله ، وهو في طواف الوداع أنه قال له رجل وهو يمازحه : هل أخذت من الله براءتك من النار ، فقال الأبله له : وهل أخذ الناس ذلك ، فقال : نعم ، فبكى ذلك الأبله ، ودخل الحجر وتعلق بأستار الكعبة ، وجعل يبكي ويطلب من الله أن يعطيه كتابه بعتقه من النار ، فجعل أصحابه والناس يطوفون يعرفونه أن فلاناً مزح معك ، وهو لا يصدقهم ،
201
بل بقي مستمراً على حاله ، فبينما هو كذلك سقطت عليه ورقة من طرف الميزاب فيها براءته وعتقه من النار فسر بها وأوقت الناس عليها ، وكان من آية ذلك الكتاب أنه يقرأ من كا ناحية على السواء ، لا يتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها ، فعلم الناس أنه من عند الله.
(وكفته اند دعا لفظي جامع است بيست خصلت از خصال حسنات در ضمن آن مجتمع همجون معجوني ساخته ازا خلاط متفرق وآن عبادتست واخلاص وحمد وشكر وثنا تهليل وتوحيد وسؤال ورغبت ورهبت وندا وطلب مناجات وافتقار وخضوع وتذلل ومسكنت واستعانت واستكانت والتجاء رب العالمين باين كلمات مختصر جه كفت) ادعوني أستجب لكم.
(ترابا اين بيست خصلت تراميد هد تايدانى كه اين قرآن جوامع الكلم است).
قال في "ترويح القلوب" : الأدب في ابتداء كل توجه أو دعاء أو اسم التوبة.
وذكر محامد الله ، والثناء عليه والتشفع بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصلاة عليه ، وهو مفتاح باب السعادة ، وأكل الحلال ، وهو الترياق المجرب والتبري من الحول والقوة وترك الالتجاء لغير الله وحسن الظن بالله ، وجمع الهمة وحضور القلب وغاية الدعاء ، إظهار الفاقة ، وإلا فالله يفعل ما يريد :
جز خضوع وبندكى واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبار
في الحديث : "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ، وإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم" ، "وما سئل الله شيئاً أحب إليه من أن يسأل العافية".
كما في "كشف الأسرار" : ومنه عرف أن مسح اليدين على الوجه عقيب الدعاء سنة ، وهو الأصح كما في "القنية".
قال في "الأسرار المحمدية" : كان عليه السلام يأمر أصحابه بمسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء ، ويحرض عليه.
وسر ذلك أن الإنسان حال دعائه متوجه إلى الله تعالى بظاهره وباطنه ، ولذا يشترط حضور القلب فيه ، وصحة الاستحضار فسر الرفع والمسح أن اليد الواحدة تترجم عن توجهه بظاهره ، واليد الأخرى عن توجهه بباطنه ، واللسان مترجم عن جملته ومسح الوجه هو التبرك ، والتنبيه على الرجوع إلى الحقيقة الجامعة بين الروح والبدن ؛ لأن وجه الشيء حقيقة ، والوجه الظاهر مظهرها ، والمستحب أن يرفع يديه عند الدعاء إلى حذاء صدره.
كذا فعله النبي عليه السلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
كما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، والأفضل أن يبسط كفيه ويكون بينهما فرجة ، وإن قلت : ولا يضع إحدى يديه على الأخرى ، فإن كان وقت عذر أو برد ، فأشار بالمسبحة قام مقام بسط كفيه ، والسنة أن يخرج بدنه حين الدعاء من كميه.
(8/153)
قال سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي قدس سره : دعوت الله ليلة ، فأخرجت إحدى يدي ، والأخرى ما قدرت على إخراجها من شدة البرد ، فنعست ، فرأيت في منامي أن يدي الظاهر مملوءة نوراً ، والأخرى فارغة ، فقلت : ولم ذلك يا رب ، فنوديت : أن اليد التي خرجت للطلب ملأناها ، والتي توارت حرمت.
ثم إن قوله : ادعوني أستجب لكم.
يشير إلى أن معنى ادعوني : اطلبوا مني ؛ أي : لا تطلبوا من غيري ، فإن من كنت له يكون له ما كان لي.
وإن من يطلبني يجدني.
كما قال : إن من طلبني وجدني.
قال الشيخ سعدي :
خلاف طريقت بودكا وليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الداعين العابدين له بالإخلاص.
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ} : (بيا فريد).
{لَكُمُ} :
202
(براى منفعت شما).
{الَّيْلَ} : (شب تيره را).
{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ولتستريحوا ، فإن الليل لكونه بارداً رطباً تضعف فيه القوى المحركة ، ولكونه مظلماً يؤدي إلى سكون الحواس ، فتستريح النفس والقوى والحواس بقلة أشغالها وأعمالها ، كما قال ابن هيصم : جعل الليل مناسباً للسكون من الحركة ؛ لأن الحركة على وجهين : حركة طبع من الحرارة ، وحركة اختيار من الخطرات المتتابعة بسبب الحواس ، فخلق الليل مظلماً لتنسد الحواس وبارداً لتسكن الحركة ، ولذا قيل للبرد القر ؛ لأجل أن البرد يقتضي السكون والحر الحركة.
{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} ؛ أي : مبصراً فيه أو به ، يعني : يبصر به المبصرون الأشياء ، ولكونه حاراً يقوي الحركات في اكتساب المعاش ، فإسناد الإبصار إلى النهار مجاز فيه مبالغة ، ولقصد المبالغة عدل به عن التعليل إلى الحال ؛ بأن قال : مبصراً دون لتبصروا فيه أو به ، يعني : أن نفس النهار لما جعل مبصراً فهم أن النهار لكمال سببيته للإبصار وكثرة آثار القوة الباصرة فيه ، جعل كأنه هو المبصر ، فإن قيل : فلم يسلك هناك سبيل المبالغة.
قلنا : لأن نعمة النهار لشبهها بالحياة أتم ، وأولى من نعمة الليل التي تشبه الموت ، فكانت أحق بالمبالغة إذ المقام مقام الامتنان ؛ ولأن الليل يوصف بالسكون لسكون هوائه وصفا مجازياً متعارفاً ، فسلوك سبيل المبالغة فيه يوقع الاشتباه ، كما أشير إليه في "الكشاف" ، ثم إذا حملت الآية على الاحتباك.
وقيل : المراد جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله ، فحذف من الأول بقرينة الثاني.
ومن الثاني بقرينة الأول ، لم يحتج إلى ما ذكر.
كذا أفاده سعدي المفتي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال بعضهم : جعل الليل لتسكنوا فيه إلى روح المناجاة والنهار مبصراً لتبصروا فيه بوادي القدرة.
وفيه إشارة إلى ليل البشرية ليسكن أهل الرياضات والمجاهدات فيه إلى استرواح القلوب ساعة فساعة ، لئلا يمل من مداومة الذكر.
والتعبد وحمل أعباء الأمانة ، وإلى نهار الروحانية لجعله مظهراً للجد والاجتهاد في الطلب والتصبر على التعب ، وسكون الناس في الليل على أقسام.
أهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان.
وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم من الرجال والنسوان.
وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وبسطهم واستقلالهم وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب ، وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بنار الشوق ، وهم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم ، أولئك أصحاب الاشتياق أبداً في الاحتراق :
هر كه از درد خدا آكاه شد
ذكر وفكرش دائما الله شد
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} عظيم.
{عَلَى النَّاسِ} بخلق الليل والنهار لا يوازيه فضل ولا يدانيه.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} : تكرير الناس لتنصيص الكفر أن بهم بإيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أن ذلك كان شأن الإنسان ، وخاصته في الغالب ؛ أي : لا يشكرون فضل الله وإحسانه لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواضع النعم ؛ أي : رفعة شأنها وعلو قدرها ، وإذا فقدوا شيئاً منها يعرفون قدرها مثل أن يتفق لبعض.
والعياذ بالله أن يحسبه بعض الظلمة في بئر عميق مظلم مدة مديدة ؛ فإنه حينئذ يعرف قدر نعمة الهواء بالصافي وقدر نعمة الضوء :
203
يكى راعسس دست بريسته بود
همه شب بريشان ودلخسته بود
بكوش آمدش درشب تيره رنك
كه شخصى همى نالد ازدست تنك
شنيد اين سخن دزد مسكين وكفت
زبيجاركى جند نالى بخفت
بروشكر يزدان كن اى تنك دست
كه دستت عسس تنك برهم بنست
يعني فلك القدرة على الكسب :
نداند كسى قدر روز خوشى
مكر روزى افتد بسختى كشى
زمستان درويش بس تنك سال
جه سهلست بيش خداوند مال
جه دانند جيحو نيان قدر آب
زواماند كان برس در آفتاب
كسى قيمت تندرستى شناخت
كه بكجند بيجاره در تب كداخت
ببانك دهل خواجه بيدار كشت
جه داند شب باسبان جون كذشت
(8/154)
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إله إِلا هُوَا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{ذَالِكُمُ} المتفرد بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية.
{اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إله إِلا هُوَ} : أخبار مترادفة تخصص السابقة منها اللاحقة وتقررها.
قال في "كشف الأسرار" : كل ها هنا بمعنى البعض.
وقيل : عام خص منه ما لا يدخل في الخلق.
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته خاصة إلى عبادة غيره.
{كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ؛ أي : مثل ذلك الإفك للعجب الذي لا وجه له ، ولا مصحح ، أصلاً ؛ أي : كما صرف قومك ، وهم قريش عن الحق وحرموا من التحلي به مع قيام الدلائل يؤفك ، ويصرف عنه كل جاحد قبلهم ، أو بعدهم بآياته ؛ أي آية كانت لا إفكاً آخر له وجه ، ومصحح في الجملة.
قال الراغب : الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب المؤتفكات.
وقوله : أنى تؤفكون ؛ أي : تصرفون من الحق في الاعتقاد إلى الباطل ، ومن الصدق في المقال إلى الكذب ، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح.
ورجل مأفوك ؛ أي : مصروف عن الحق إلى الباطل والجحود نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه وتجحد تخصص بفعل ذلك ، فعلى العبد أن يقر بمولاه ، وبآياته ، فإنه خالقه ورازقه.
وجاء في أحاديث المعراج : قل لأمتك إن أحببتم أحداً لإحسانه إليكم ، فأنا أولى به لكثرة نعمي عليكم ، وإن خفتم أحداً من أهل السماء والأرض ، فأنا أولى بذلك لكمال قدرتي ، وإن أنتم رجوتم أحداً ، فأنا أولى به ؛ لأني أحب عبادي ، وإن أنتم استحييتم من أحد لجفائكم إياه ، فأنا أولى بذلك ؛ لأن منكم الجفاء ، ومني الوفاء ، وإن أنتم آثرتم أحداً بأموالكم وأنفسكم ، فأنا أولى به ؛ لأني معبودكم ، وإن صدقتم أحداً وعده ، فأنا أولى بذلك ؛ لأني أنا الصادق ، ففي العبودية والمعرفة شرف عظيم.
قال علي رضي الله عنه : ما يسرني أن لو مت طفلاً وأدخلت الجنة ، ولم أكبر ، فأعرف ، وذلك لأن الإنسان خلق للعبادة والمعرفة ، فإذا ساعده العمر والوقت يجب عليه أن يجتهد إلى أن يترقى إلى ذروة المطالب ، ويصل إلى مرتبة استعداده ، فإذا أهمل وتكاسل ، فمات كان كالصبي الذي مات في صباه خالياً عن حلية الكمالات والسعادات نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المجتهدين.
{كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِا ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ * هُوَ الْحَىُّ لا إله إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ} لمصالحكم وحوائجكم.
{الارْضَ قَرَارًا} مستقراً ؛ أي : موضع
204
قرار ومكان ثبات وسكون ، فإن القرار كما يجيء بمعنى الثبات والسكون يجيء بمعنى ما قر فيه ، وبمعنى المطمئن من الأرض كما في "القاموس".
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قراراً ؛ أي : منزلاً في حال الحياة وبعد الممات.
{وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} : البناء بمعنى المبنى ؛ أي : قبة مبنية مرفوعة فوقكم ، ومنه أبنية العرب لمضاربهم ، وذلك لأن السماء في نظر العين كقبة مضروبة على فضاء الأرض.
وفي "التأويلات النجمية" : خلق الأرض لكم استقلالاً ولغيركم طفيلياً ، وتبعاً لتكون مقركم ، والسماء أيضاً خلق لكم لتكون سقفكم مستقلين به ، وغيركم تبع لكم فيه.
وقال بعضهم : جعل الأرض قراراً لأوليائه ، والسماء بناء لملائكته.
وفيه إشارة إلى قوله : أوليائي تحت قبابي ؛ أي : مستورون تحت قباب الملكوت ، لا تنكشف أحوالهم إلا لمن عرفه الله تعالى.
وفي الآية بيان لفضله تعلق المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان.
وقوله تعالى : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} : بيان لفضله المتعلق بأنفسهم ، والفاء : في فأحسن تفسيرية ، فإن الإحسان عين التصوير ، كما قوله عليه السلام : "إنأدبني فأحسن تأديبي" ، فإن الإحسان عين التأديب ، فإن تأديب الله لمثله لا يكون إلا حسناً ، بل أحسن.
والمعنى : صوركم أحسن تصوير حيث خلقكم منتصبي القامة بادي البشرة متناسبي الأعضاء والتخطيطات متهيئين لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات.
(8/155)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ، ويتناول بيده وغير ابن آدم بفيه.
وفيه إشارة إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقراً للروح وجمع سماء الروحانية في عالم صوركم ، ولم يجمعها في صورة شيء آخر من الملائكة والجن والشياطين والحيوانات.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4).
وأيضاً : فأحسن صوركم إذ جعلها مرآة جماله ، كما قال عليه السلام : "كل جميل من جمال الله" ، وإنما جعلكم جميلاً ليحبكم ، كما قال عليه السلام : "إن الله جميل يحب الجمال".
وبالفارسية : (حسن صورت انساني در آنست كه از مرآت جهان نماست بهمه حقائق علوى وسفلى ومجموع دقائق صورى ومعنوى را جامعست وأنوار معرفت ذات آثار شناخت صفات ازآينة جامعة أو لا مع) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
اى صورت تو آينة سر وجود
روشن زرخت برتو انوار شهود
مجموعة هر دو كونى ونيست جوتو
در مملكت صورت ومعنى موجود
وفيه إشارة إلى تخطئة الملائكة فيما قبحوا الإنسان ، وقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، فإن الحسن ليس ما يستحسنه الناس ، بل ما يستحسنه الحبيب ؛ كأن الله يقول : إن الواشين قبحوا صورتكم عندنا ، بل الملائكة كتبوا في صحيفتكم قبيح ما ارتكبتم ومولاكم أحسن صوركم عنده بأن محا من ديوانكم الزلات ، وأثبت في ذلك الحسنات ، كما قال تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39).
وقال : {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} (الفرقان : 70) ، فحسن الصورة ، والمعنى : مخصوص بالإنسان ، وهو المدار ، وما سواه دائر عليه.
قال الصائب :
اسرار جار دفتر ومضمون نه كتاب
در نقطة تو ساخته ايزد نهان همه
وزبهر خدمت تو فلكها جو بندكان
زا خلاص بسته اند كمر برميان همه
بيش تو سر بخاك مذلت نهاده اند
با آن علوم ومر تيه روحانيان همه
205
{وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} : من المأكولات اللذيذة.
(ومتميز كر دانيد روزى شما از روزى حيوانات).
قال في "التأويلات النجمية" : ليس الطيب ما يستطيبه الخلق ، بل الطيب ما يستطيبه الحق ، فإنه طيب لا يقبل إلا طيباً ، فالطيب الذي يقبله الله من العبد ، وهو من مكاسبه الكلم الطيب ، وهي كلمة لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) ، والطيب الذي هو من مواهب الله تعالى هو تجلى صفات جماله وجلاله.
وإليهما أشار بقوله : ورزقكم من الطيبات.
والحاصل : أن الطيب أنواع طيب الأرزاق ، وطيب الأذكار وطيب الحالات.
{ذَالِكُمُ} الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة.
{اللَّهِ} خبر لذلكم ، {رَبُّكُمْ} الذي يستوجب منكم العبادة خبر آخر.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ} صفة خاصة بالله تعالى ؛ أي : تقدس وتنزه وتعالى بذاته عن أن يكون له شريك في العبادة إذ لا شريك له في شيء من تلك النعم.
{رَبُّ الْعَـالَمِينَ} : (برور دكار عالميان از انس وجن وجزآن) ؛ أي : مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكونه مفتقر إليه في ذاته ، ووجوده وسائر أحواله جميعاً ، بحيث لو انقطع فيضه عنه آناً لانعدم بالكلية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{هُوَ الْحَىُّ} : (اوست زنده).
أي : المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية لا يموت ويميت الخلق.
{لا إله إِلا هُوَ} إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله.
{فَـادْعُوهُ} : فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجبه به تعالى : {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ؛ أي : الطاعة من الشرك الجلي والخفي ، قائلين : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
عن ابن عباس رضي الله عنهما : "من قال : لا إله إلا الله ، فليقل على أثرها : الحمدرب العالمين".
وفي "التأويلات النجمية" : هو الحي ؛ أي : له الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية ، ومن هو حي بإحيائه من نور صفاته ، كما قال تعالى : {فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا} (الأنعام : 122) ، ويشير بقوله : لا إله إلا هو بعد قوله : هو الحي إلى أن الذي يحيا بحياته ونور صفاته لن يبلغ رتبة الإلهية ، فادعوه بالإلهية مخلصين له الدين ؛ أي : مقرين له بالعبودية من غير دعوى بالربوبية كمن ادعى بها بقوله : أنا الحق ، وقول من قال : سبحاني ما أعظم شاني ، الحمد الله رب العالمين ، يعني : فيما أنزلكم وبلغكم مقام الوحدة بفضله ورحمته ؛ لأنها مقام لا يسع للإنسان بلوغه بمجرد سعيه من دون فضل ربه.
قال الصائب :
نيستم از كشش جذبة رحمت نوميد
كر جه از قلزم وحدت بكنار افتادم
واعلم أنه كما لا يصل العبد إلى مقام الوحدة إلا بفضل الله ، كذلك لا ينجو من دعوى هذا المقام إلا بفضله تعالى ، إما بتربية من عنده بلا سبب صوري ، وإما بإرشاد مرشد كامل قد وصل إلى غاية الغايات ، فإذا لم يساعده شيء من ذلك ، بقي سكران ، ووقع فيما وقع كما ثقل عن بعض أهل الوله من السلف.
(8/156)
{هُوَ الْحَىُّ لا إله إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِىَ الْبَيِّنَـاتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} .
{قُلْ} : روي : أن كفار قريش قالوا : يا محمد ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب ، فتأخذ بهما ، فأنزل الله تعالى : يا محمد {إِنِّى نُهِيتُ} : النهي الزجر عن الشيء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ؛ أي : الأصنام.
{لَمَّا جَآءَنِىَ الْبَيِّنَـاتُ مِن رَّبِّى} ؛ أي : وقت مجيء الآيات القرآنية من ربي ، وذلك لأنه لا نهي ولا وجوب عند أهل السنة إلا بعد ورود الشرع.
ويجوز أن يقال : كان منهياً عن عبادتها عقلاً بحسب دلالة الشواهد على التوحيد ، فأكد النهي بالشرع ، ويجوز أنه نهي له عليه السلام والمراد غيره.
وفي قوله : من ربي إشارة إلى أن دلائل التوحيد وشواهد أنوار الحقيقة لا تطلع إلا مع مطلع الهداية الأزلية ، ولكن ينبغي للملتمسين أن يتوجهوا إلى ذلك الجانب بالإعراض عن السوي وترك أصنام البدع والهوى :
206
در كعبة ولست شب وروز روى دل
جون آفتاب سجده بهر در نميكنم
{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} : بأن أنقاد له وأخلص له ديني.
قال ابن الشيخ : يقال : أسلم أمره ؛ أي : أسلم وذلك إنما يكون بالرضا والانقياد لحكمه وأسلمت له الشيء إذا جعلته سالماً خالصاً له ، وعلى التقديرين يكون مفعول أسلم محذوفاً ؛ أي : أن أسلم أمري وأخلص توحيدي وطاعتي له.
قال في "برهان القرآن" : مدح سبحانه نفسه وختم ثلاث آيات على التوالي بقوله : رب العالمين ، وليس له في القرآن نظير.
وفي الإشارة إلى أنه عليه السلام مع كمال نبوته ورسالته وقربه بربه وعظم قدره عنده وريه من أصفى الشراب الطهور الذي هو تجلي ذاته وصفاته ، لو لم يسلم لرب العالمين بالعبودية وترك الربوبية له ، لم يكن مسلماً ، فعلى العاشق أن يضبط نفسه القدسية عن إثبات الإلهية لغيره تعالى في مقام الوحدة عند غلبات السكر من لذاذة شراب التجلي ، فإن الرب رب ، والعبد عبد والأدب مع الله مقبول.
(بزركى كفت اى اهل معنى بنكر يدكه با منصور حلاج جه كردند تابا مدعيان جه خواهند كردن بزركى كفت جون منصور أنا الحق كفت واورا در بغداد بردار مى كردند آن شب تا روز بزير آن دار بودم نماز ميكر دم جون روز شد هاتفي آواز دادكه).
أطلعناه على سر من أسرارنا ، فأفشى سرنا ، فهذا جزاء من يفشي سر الملوك.
قال بعض العارفين الملوك لا يعفون عمن تعرض لمملكتهم أو لحرمهم ، أو أفشى سرهم.
قال الجامي :
رسيد جان بلب ودم نميتوانم زد
كه سر عشق همى ترسم آشكار شود
قيل للشيخ أبي سعيد قدس سره : أن فلاناً يمشي على الماء.
قال : إن السمك والضفدع كذلك ، فقيل : إن فلاناً يطير في الهواء ، فقال : إن الطيور كذلك ، فقيل : فلاناً يصل إلى الشرق والغرب في آن واحد ، فقال : إن إبليس كذلك ، فقيل : فما الكمال عندك.
قال : أن تكون في الظاهر مع الخلق وفي الباطن مع الحق.
وهذا مقام الاستقامة ، فإن أهله راسخ في التمكين ، بل وفي تلوين التمكين ، فلا يصدر عنه إفشاء الأسرار ودعوى ما يقع به الفتنة بين الناس ، فطوبى لمن وقف عند الأدب وعامل جميعاً ، مع الرب.
قال : حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندي قدس سره ، في حق السيد نسيمي قد فهم فهماً حسناً ، ولكنه أظهر بعض شيء كان للستر.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقد جعله الشيخ بالي الصوفي من زمرة الزنادقة والملاحدة ، فلا بدّ من رعاية الشرع المطهر في كل مقام.
{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم} يا بني آدم.
{مِّن تُرَابٍ} ؛ أي : من ضمن خلق أبيكم آدم.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} ؛ أي : ثم خلقكم خلقاً تفصيلياً من مني.
قال الراغب : النطفة الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماء الرجل ؛ أي : ماء الصلب يوضع في الرحم كما قال ابن سينا : ()
لا تكثرن من الجماع فإنه
ماء الحياة يصب في الأرحام
والمعنى : خلق أصلكم آدم من تراب ، ثم خلقكم من نطفة نسلاً بعد نسل ، أو خلق كل واحد منكم من التراب ، بمعنى أن كل إنسان مخلوق من المني ، وهو من الدم ، وهو من الأغذية الحيوانية والنباتية والحيوانية لا بد أن تنتهي إلى النباتية ، وإلا لزم أن يتسلسل الحيوانات إلى غير النهاية ، والنبات إنما يتولد من الماء والتراب ، أو خلق قالبكم في بدء أمركم من الذرة الترابية التي استخرجها من صلب آدم ، ثم أودعها في قطرة نطفة بنيه.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} ، وهي الدم الجامد ؛ لأن المني
207
(8/157)
يصير على هذا الشكل بعد أربعين يوماً في بطن الأم.
{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} : الطفل الولد ما دام ناعماً كما في "المفردات" والصغير من كل شيء أو المولود ما في "القاموس" : وحد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام كما في تفسير الفاتحة للفناري ، والطفل مفرد لا جمع ، كما وهم.
وقوله : {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} () الآية محمول على الجنس ، وكذا هو في هذا المقام جنس وضع موضع الجمع ؛ أي : الأطفال ، أو المعنى ، ثم يخرج كل واحد منكم من رحم الأم حال كونه طفلاً لتكبروا شيئاً فشيئاً.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} ، كمالكم في القوة والعقل.
وبالفارسية : (بغايت قوت خود كه منتهاى شبابست).
قال في "القاموس" : الأشد واحد جاء على بناء الجمع ، بمعنى القوة ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين.
وفي "كشف الأسرار" : يقال : إذا بلغ الإنسان إحدى وعشرين سنة دخل في الأشد ، وذلك حين اشتد عظامه وقويت أعضاؤه.
{ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} ؛ أي : تصيروا إلى حالة الشيخوخة ، والشيح يقال لمن طعن في السن واستبانت فيه ، أو من خمسين ، أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره ، وإلى ثمانين ، كما في "القاموس".
قال في "كشف الأسرار" : يقال : إذا ظهر البياض الإنسان فقد شاب ، وإذا دخل في الهرم ، فقد شاخ.
قال الشاعر : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فمن عاش شب ومن شب شاب
ومن شاب شاخ ومن شاخ مات
روي : أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، قد شبت فقال : "شيبتني هود وأخواتها" ، يعني : سورة هود ، وكان الشيب برسول الله صلى الله عليه وسلّم قليلاً ، يقال : كان شاب منه إحدى وعشرون شعرة بيضاء ، ويقال : سبع عشرة شعرة.
وقال أنس رضي الله عنه : لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء وقال بعض الصحابة : ما شاب رسول الله وسئل آخر منهم فأشار إلى عنفقته يعني كان مكان البياض في عنفقته ؛ أي : في شعيرات بين الشفة السفلى والذقن ، وإنما اختلفوا لقلتها.
يقال : كان إذا ادهن خفي شيبه.
{وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} : يقبض روحه ويموت.
{مِن قَبْلُ} ؛ أي : من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد ، أو قبله أيضاً.
{وَلِتَبْلُغُوا} : متعلق بفعل مقدر بعده ؛ أي : ولتبلغوا.
{أَجَلا مُّسَمًّى} وقتاً محدوداً معيناً لا تتجاوزونه هو وقت الموت ، أو يوم القيامة يفعل ذلك ؛ أي : ما ذكر من خلقكم من تراب ، وما بعده من الأطوار المختلفة ، ولكون المعنى على هذا لم يعطف على ما قبله من لتبلغوا ولتكونوا ، وإنما قلنا ، أو يوم القيامة ؛ لأن الآية تحتوي على جميع مراتب الإنسان من مبدأ فطرته إلى منتهى أمره فجاز أن يراد أيضاً : يوم الجزاء ؛ لأنه المقصد الأقصى ، وإليه كمية الأحوال.
{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولكي تعقلوا ما في ذلك الانتقال من طور إلى طور من فنون الحكم والعبر وتستدلوا به على وجود خالق القوى والقدر.
{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُا وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِى يُحْى وَيُمِيتُا فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
{هُوَ الَّذِى يُحْىِ} الأموات كما في الأرحام وعند البعث.
{وَيُمِيتُ} : الأحياء كما عند انقضاء الأجل.
وفي القبر بعد السؤال ، وأيضاً : يحيي القلوب الميتة بنور ربوبيته ولطفه ، ويميت القلوب بنار قهره ، فإذا حيي القلب مات النفس ، وإذا مات القلب حيي النفس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال الحسين النوري قدس سره : هو الذي أحيا العالم بنظره ، فمن لم يكن به وبنظره حياً ، فهو ميت ، وإن نطق تحرك (ع) : (خوشادلى كه زنور خدابود روشن).
{فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} : القضاء بمعنى التقدير عبر به عن لازمه الذي هو إرادة التكوين ؛ كأنه قيل : إذا قدر شيئاً من الأشياء ، وأراد كونه.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} من غير توقف على شيء من
208
الأشياء أصلاً : يعني : (تكوين اورا احتياج بآلتى وعدتى وفرصتى نيست) :
فعل اوراكه عيب وعلت نيست
متوقف بهيج آلت نيست
ازخم زلف كاف وطره نون
هزرمان شكلى آورد بيرون
وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته بها ، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك أمر أو مأمور حقيقة.
(8/158)
وذهب بعضهم : إلى أنه حقيقة ، وأن الله تعالى مكون الأشياء بهذه الكلمة ، فيقول بكلامه الأزلي لا بالكلام الحادث الذي هو المركب من الأصوات والحروف كن ؛ أي : احدث فيكون ؛ أي : فيحدث ، ولما لم يتعلق خطاب التكوين بالفهم ، واشتمل على أعظم الفوائد ، وهو الوجود جاز تعلقه بالمعدوم.
وفي "كشف الأسرار" : فيكون مرة واحدة لا يثنى قوله.
وفي "التكملة" قوله : كن لا يخلو إما أن يكون قبل وجود المأمور ، أو بعد وجوده ، فإن قيل : قبل وجوده أدى ذلك إلى مخاطبة المعدوم ، ولا يصح في العقل ، وإن قيل : بعد وجوده أدى ذلك إلى إبطال معنى : كن ؛ لأن المأمور إذا كان موجوداً قبل الأمر ، فلا معنى للأمر بالكون.
والجواب : أن الأمر مقارن للمأمور لا يتقدم ولا يتأخر عنه ، فمع قوله : كن ، يوجد المأمور ، وهذه كمسألة الحركة والسكون في الجوهر ، فإنه إذا قدرنا جوهراً ساكناً بمحل ، ثم انتقل إلى محل آخر ، فإنما انتقل بحركة ، فلا تخلو الحركة من أن تطرأ عليه في المحل الأول ، أو في الثاني ، فإن قيل في الأول ، فقد اجتمعت مع السكون ، وإن قيل في الثاني ، فقد انتقل بغير حركة ، وإن قيل : لم تطرأ في هذا ، ولا في هذا فقد طرأت عليه في غير محل ، وكل هذا محال.
والجواب : أن الحركة هي معنى خصصه بالمحل الثاني ، فنفس إخلائه للمحل الأول ، هي نفس شغله للمحل الثاني.
واعلم أن الله تعالى أنزل الحروف الثمانية والعشرين ، وجعل حقائقها الثمانية والعشرين منزلاً لا على ما فصل عند قوله تعالى : {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} ، وجعل مفاصل اليدين أيضاً ثمانية وعشرين.
أربعة عشر في يد واحدة وأخرى في أخرى على أن يكون لكل أصبع ثلاثة مفاصل إلا الإبهام وجعل كل أصبع مظهر الأصل من الأصول الخمسة ، فالإبهام مظهر القدرة والمسبحة مظهر الحياة والوسطى مظهر العلم ، والبنصر مظهر الإرادة ، والخنصر مظهر القول ، ولما كان العلم أعم حيطة جعل متوسطاً بين الأصلين اللذين في يمينه ، وهي الحياة والقدرة ، وبين الأصلين اللذين في يساره ، وهي الإرادة والقول ، وإنما سقط عن أصل القدرة المفصل الثالث ؛ لأن كل واحد من الأربعة عام التعلق بخلاف القدرة ؛ فإنها محجورة الحكم غير مطلقة ؛ لأنه لا يتعلق حكمها إلا بالممكن ، فلم يعم نفوذه ، ولعدم عموم حكم القدرة جعل مظهرها الذي هو الإبهام ذا مفصلين ، ولكون أمر القدرة مبهماً وكيفية تعلقها بالمقدور شيئاً غامضاً سمي المظهر بالإبهام ، فلا يجوز البحث عن كيفية تعلق القدرة بالمقدور ، كما لا يجوز البحث عن كيفية وجود الباري ، وعن كيفية العذاب بعد الموت ، ونحو ذلك ، مما هو من الغوامض.
قال المولى الجامي في الإرادة والقدرة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فعلهايى كه از همه اشيا
نوبنو درجهان شود بيدا
كرارادى بود جو فعل بشر
ور طبيعي بود جوميل بشر
منبعث جمله از مشيت اوست
مبتنى بر كمال حكمت اوست
209
نخلد بى ارادتش خارى
نكساد بى مشيتش تارى
في المثل كرجهانيان خواهند
كه سرمويى از جهان كاهند
كر نباشد جنان ارادت او
نتوان كاستن سريك مو
ور همه در مقام آن آيند
كر برآن دره بيفزايند
ندهد بى ارادت او سود
نتوانند ذره افزود
بعد ازان قدرتش بود كامل
مر مرادات را همه شامل
اثر آن بهر عدم كه رسيد
رخت باخطة وجود كشيد
وحقيقة الإحياء والإماتة ترجع إلى الإيجاد ، ولكن الوجود إذا كان هو الحياة سمي فعله إحياء ، وإذا كان هو الموت سمي فعله إماتة ، ولا خالق للموت والحياة إلا الله ، ولا مميت ولا محيي إلا الله تعالى ، فهو خالق الحياة ومعطيها لكل من شاء حياته على وجه يريده ومديمها ، لمن أراد دوامها له كما شاء بسبب ، وبلا سبب ، وكذا خالق الموت ومسلطة على من شاء من الأحياء متى شاء ، وكيف شاء بسبب ، وبلا سبب ، ومن عرف أنه المحيي المميت لم يهتم بحياة ، ولا موت ، بل يكون مفوضاً مستسلماً في جميع أحواله لمن بيده الحياة والموت ، كما قال إبراهيم عليه السلام : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) الآية.
وخاصية المحيي وجود الألفة ، فمن خاف الفراق ، أو الحبس ، فليقرأه على جسده عدده.
وخاصية الاسم المميت أن يكثر منه المسرف الذي لم تطاوعه نفسه على الطاعة ، فإنها تفعلها عن أوصافها المانعة عن القيام بأمر الله تعالى ، ثم إن الماء مظهر الاسم المحيي ، والتراب مظهر الاسم المميت ، وهكذا الموجودات مع أسماء الله تعالى.
{أَلَمْ تَرَ} : (آيانمى نكرى).
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى} في دفعها وإبطالها.
{أَنَّى يُصْرَفُونَ} ؛ أي : انظر يا محمد إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها ، وتعجب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة كيف يصرفون عن تلك الآيات القرآنية ، والتصديق بها إلى تكذيبها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها بالإيمان ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
(8/159)
وتكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع في هذه السورة ، إما لتعدد المجادل بأن يكون في أقوام مختلفة ، أو المجادل بأن يكون في آيات مختلفة ، أو للتأكيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ} ؛ أي : بكل القرآن.
والجملة في محل الجر على أنها بدل من الموصول.
قال في "الإرشاد" : إنما وصل الموصول الثاني ، بالتكذيب دون المجادلة ؛ لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها.
{وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا} من سائر الكتب.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته ، وهي جملة مستأنفة مسوقة للتهديد.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن} .
{إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ} : ظرف ليعلمون ، وهو اسم للزمن الماضي ويعلمون مستقبل لفظاً ، ومعنى : وأما المكان ، فظاهر مثل قولك : سوف أصوم أمس ، وذا لا يجوز.
وجوابه : إن وقت العلم مستقبل تحقيقاً وماضضٍ تنزيلاً وتأويلاً ؛ لأن ما سيعلمونه يوم القيامة ؛ فكأنهم علموه في الزمن الماضي لتحقق وقوعه ، فسوف بالنظر إلى الاستقبال التحقيقي وإذ بالنظر إلى المضي التأويلي.
والأغلال : جمع غلّ
210
بالضم ، وهو ما يقيد به ، فيجعل الأعضاء وسطه.
وغل فلان : قيد به ؛ أي : وضع في عنقه ، أو يده الغل والأعناق جمع عنق وبالفارسية : (كردن).
والمعنى : على ما في "كشف الأسرار" : (آنكاه كه غلها كه دردستهاى ايشان كرد كدرنهاى ايشان كنند).
يعني : تغل أيديهم إلى أعناقهم مضمومة إليها.
{وَالسَّلَـاسِلُ} : عطف على الأغلال والجار في نية التأخير ، وهو جمع سلسلة بالكسر.
بالفارسية : (زنجير).
وذلك لأن السلسلة بالفتح : إيصال الشيء بالشيء ، ولما كان في السلسلة بالكسر : إيصال بعض الخلق بالبعض سميت بها.
{يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ} : السحب : الجر بعنف ، ومنه السحاب ؛ لأن الريح تجره وسحبه كمنعه ، جره على وجه الأرض ، فانسحب.
والحميم : الماء الذي تناهى حره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "القاموس" : الحميم الماء الحار والماء البارد ضد.
والقيظ : والعرق ؛ أي : على التشبيه كما في "المفردات".
والجملة حال من فاعل يعلمون ، أو من ضمير أعناقهم ؛ أي : حال كونهم مسحوبين ؛ أي : مجرورين تجرهم على وجوههم خزنة جهنم بالسلاسل إلى الحميم ؛ أي : الماء المسخن بنار جهنم ، ولا يكون إلا شديد الحرارة جداً ؛ لأن ما سخن بنار الدنيا التي هي جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم إذا كان لا يطاق ، فكيف ما يسخن بنار جهنم.
وفي كلمة في إشعار بإحاطة حرارة الماء الجميع جوانبهم كالظرف للمظروف ، حتى كأنهم في عين الحميم ويسحبون فيها.
وقال مقاتل : يسحبون في الحميم ؛ أي : في حر النار كما في قوله تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 48).
والظاهر أن معنى يسحبون في النار ؛ أي : يجرون إلى النار على وجوههم كما في هذا المقام.
حكي : أنه توفيت النوار امرأة الفرزدق ، فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة ، وخرج فيها الحسن البصري.
فقال الحسن للفرزدق : يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم قال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة ، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها ، وأنشد هذه الأبيات : ()
أخاف وراء القبر إن لم يعافني
أشد من القبرالتهاباً وأضيقا
إذ جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يسوق فرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة أزرقا
فبكى وأبكى الحاضرين.
{ثُمَّ} ؛ أي : بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم.
{فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} : يحرقون بالنار ، وهي محيطة بهم من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومن كانوا في النار ، وكانت هي محيطة بهم وصارت أجوافهم مملوءة بها لزم أن يحرقوا بها على أبلغ الوجوه ، فهم يملؤون بالنار كائنين فيها ويحرقون.
والمراد : بيان أنهم يعذبون بأنواع العذاب ، وينقلون من لون إلى لون.
قال في "كشف الأسرار" : (عذاب دوزخيان انوا عست يكى ازآن سلاسل است دردست زبانيه زنجيرهاى آتشين كه دوز خيانرا بدان ببندند هر زنجيرى هفتاد كز هر كزى هفتاد حلقه اكريك حلقه آن بركوههاى دنيا نهند جون از زير بكذارد آن زنجيرها بدن كافران فرو كنند وبزيرش بيرون كشد زنجير ايشانرا در حميم كشند حميم آب كرمست جوشان اكريك قدح ازآن بدرياهاى دنيا فرو ريزند همه زهر شود قدحى ازآن بدست كافران دهند هرجه برورى ويست ازبوست وكوست وجشم وبينى همه اندران قدح افتد اينست
211
(8/160)
كه رب العزة كفت).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{يَشْوِى الْوُجُوهَ} (الكهف : 29) : (جون حميم بشكم رسد هرجه اندرشكم بود بزير بيرون شود).
فذلك قوله : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} (محمد : 15).
(وازآن حميم برسر ايشان مير يزند تابوست وكوشت وبى ورك ازايشان فرو ريزند استخوان بماند سوخته ندا آيدكه).
يا مالك جدد لهم العذاب فإني مجدد لهم الأبدان.
(كفته اند كه عاصيان مؤمنا نرا ده جيز نباشد روى ايشان سياه نبود جشم ايشان ازرق نبود در كردن غل نبود دردست ايشان زنجير نبود نوميدى نبود جاويد فرقت وقطعت ولغت نبود جون حرارت وزبانة آتش بايشان رسد ندا آيدكه).
يا نار كفي عن وجوه من سجد لي فلا سبيل لك على مساجدهم.
اللهم أجرنا من نارك إنا عائدون بجوارك.
{ثُمَّ} ؛ أي : بعد الإحراق.
{قِيلَ لَهُمْ} ؛ أي : يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق.
{أَيْنَ} : (كجا ند).
{مَآ} : (آنا نكه).
يعني : أصنام.
{كُنتُمْ} في الدنيا على الاستمرار.
{تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} : (انباز آورديد وكرفتيد بجز الله معبود بحق) ؛ أي : رجاء شفاعتهم ادعوهم ليشفعوا لكم ويعينوكم ، وهو نوع آخر من تعذيبهم.
{قَالُوا} ؛ أي : يقولون : {ضَلُّوا} غابوا ؛ أي : الشركاء {عَنَّا} عن أعيننا ، وإن كانوا قائمين ؛ أي : غير هالكين من قول العرب ضل المسجد والدار ؛ أي : لم يعرف موضعهما ، وكذلك كل شيء قائم ، أو غيرها لك لكنك لا تهتدي إليه ، وذلك قبل أن يقرن بهم آلهتهم ، فإن النار فيها أمكنة متعددة ، وطبقات مختلفة ، فلا مخالفة بينه وبين قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 8 ـ ـ 9) ، أو ضاعوا عنا ، فلم نجد ما كنا نتوقع منهم على أن يكون ضل بمعنى : ضاع وهلك تنزيلاً لوجودهم منزلة الضياع والهلاك لفقدهم النفع الذي يتوقعونه منهم ، وإن كانوا مع المشركين في جميع الأوقات.
{بَل} تبين لنا أنا {لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا} نعبد {مِن قَبْلُ} ؛ أي : في الدنيا بعبادتهم {شَيْئًا} ، لما ظهر لنا اليوم أنهم لم يكونوا شيئاً يعتد به كقولك : حسبته شيئاً ، فلم يكن.
وبالفارسية : (يعنى برماروشن شد كه جيزى را نمى برستيده ايم بلكه ايشانرا كه عبادت مى كرديم هيج جيزى نبوده اند معتبر وما ايشانرا جيزى نمى نبداشتيم).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الضلال الفظيع ، وهو ضلال آلهتهم عنهم على التفسيرين المذكورين لقوله : ضلوا.
{يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} ، حيث لا يهتدون في الدنيا إلى شيء من العقائد والأعمال ينفعهم في الآخرة ، فهو ناظر إلى التفسير الثاني ، أو كما ضل عنهم آلهتهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يصادفوا ؛ أي : لم يجد أحدهم الآخر ، فهو ناظر إلى التفسير الأول ، وإضلال الحق عبده هو عدم عصمته إياه مما نهاه عنه ، وعدم معونته وإمداده بما يتمكن به من الإتيان بما أمره به ، أو الانتهاء عما نهاه عنه ، كما في تفسير الفاتحة للشيخ صدر الدين القنوي قدس سره.
وفي نسخة الطيبي : {كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإضلال ، وهو الأوفق لما عرف من العادة القرآنية ، وهو أن تكون الإشارة إلى مصدر الفعل المتأخر.
قال سعدي المفتي ، قلت : بل الآية ؛ أي : بل لم نكن إلخ.
كقوله : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) يفرغون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم ومعنى قوله : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} أنه تعالى يحيزهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم ؛ بأنه لا ينفعهم.
{مِن دُونِ اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ * ذَالِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .
{ذَالِكُمُ} الإضلال أيها الكفار ، والالتفات للمبالغة في التوبيخ.
وفي "تفسير الجلالين" ؛ أي :
212
العذاب الذي نزل بكم ، وهو العذاب المذكور بقوله : {إِذِ الاغْلَـالُ} .
إلخ.
قال ابن الشيخ : ولا يخلو عن بعد {بِمَا} الباء : للسببية.
{كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرْضِ} في الدنيا.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، وهو الشرك والطغيان.
والباء : صلة الفرح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "القاموس" : الفرح والسرور والبطر.
انتهى.
والبطر : النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والأشر شدة البطر ، وهو بلغ من البطر.
والبطر أبلغ من الفرح.
(8/161)
وفي "المفردات" : الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة ، ولم يرخص إلا في الفرح بفضل الله وبرحمته ، وبنصر الله والبطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة ، وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها.
{وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} : المرح شدة الفرح والنشاط والتوسع فيه ؛ أي : تتوسعون في البطر والأشر.
وبالفارسية : (مى نازيديد از خود وبتكبر مى خراميديد).
قال أرسطو من افتخر ارتطم يعني : (دركل افاد).
قال الصائب :
بسم وبلند بيش سموم فنا يكيست
جون تاك بردرخت دويدن جه فائدة
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ؛ أي : أبوابها السبعة المقسومة لكم : يعني : (هرطائفة بدركه درآييد).
{خَـالِدِينَ فِيهَا} مقدار خلودكم في الآخرة.
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ؛ أي : عن الحق جهنم.
بالفارسية : (بس بد آرامكاهيست كردن كشانرا دوزخ).
وكان مقتضى النظم ، فبئس مدخل المتكبرين ليناسب عجز الكلام صدره كما يقال : زر بيت الله ، فنعم المزار ، فصل في المسجد الحرام ، فنعم المصلى ، لكن لما كان الدخول المقصود بالخلود سبب الثواء ؛ أي : الإقامة عبر بالمثوى الذي هو محل الإقامة فاتحد آخر الكلام بأوله.
وفي الآية إشارة إلى أن كل شهوة من شهوات الدنيا وزينة من زينها باب من أبواب جهنم ، النفس في الدنيا وباب من أبواب جهنم النار في العقبى وجب ترك الشهوات والزين ، والافتخار بالدنيا وبزخارفها حتى تغلق أبواب جهنم مطلقاً ، وهكذا يضل الله من ليس له استعداد للهداية حيث يريهم شيئاً مجازياً في صورة وجود حقيقي وزينته ، فيضلون به عن الصراط المستقيم ، ولا يدرون أن الدنيا سراب وخيال ومنام :
غافل مشو زبرده روزكار
سير خزان در آينية نو بهار كن
وفي الآية ذم الكبر ، فلا بد من علاجه بضده ، وهو التواضع.
وعن بعض الحكماء افتخر الكلأ في المفازة على الشجر ، فقال : أنا خير منه يرعاني البهائم التي لا تعصي الله طرفة عين ، فقال : أنا خير منك يخرج مني الثمار ويأكلها المؤمنون ، وتواضع القصب ، قال : لا خير فيّ لا أصلح للمؤمنين ولا للبهائم ، فلما تواضع رفعه الله وخلق فيه السكر الذي هو أحلى شيء ، فلما نظر إلى ما وضع الله فيه من الحلاوة تكبر ، فأخرج الله منه رأس القصب حتى اتخذ منه الآدميون المكنسات ، فكنسوا بها القاذورات ، فهذا حال كبر غير المكلف ، فكيف حال المكلف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
واعلم أن فرعون علا في الأرض حتى ادعى الربوبية ، فأخذه الله نكال الآخرة ، والأولى ؛ أي : بالغرق في الدنيا والإحراق في الآخرة ، وعلا قارون بكثرة ماله ، فخسف الله به وبداره وعلا إبليس حين امتنع عن السجدة فلعنه الله لعنة أبدية ، وعلا قريش على المؤمنين حتى قتلوا وألقى جيفهم في بئر ذليلين ، وهكذا حال كل متكبر بغير الحق إلى يوم القيامة ، فإنه ما نجا أحد من المتكبرين ولا ينجو.
وفي المثنوي :
213
آنجه در فرعون بود اندرو توهست
ليك ازدرهات محبوس جهست
نفس ازدر هاست اوكى مرده است
از غم بى آلتى افسر ده است
كر بيابد آلت فرعون او
كه بامر او همى رفت آب جو
آنكه او بنياد فرعوني كند
راه صد موسى وصد هارون زند
كرمكست آن ازدها ازدست فقر
بشة كردد ز جاه ومال صقر
هر خسى را اين تمناكى رسد
موسى بايدكه ازدرها كشد
صد هزاران خلق ز ازدرهاى او
در هزيمت كشته شد از راى او
يعني : أن النفس كثعبان عظيم وقتلها عن أوصافها ليس بسهل ، بل يحتاج إلى همة عالية ، وإلى جهاد كثير بلا فتور.
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذية قومك لك بسبب تلك المجادلات وغيرها إلى أن يلاقوا ما أعد لهم من العذاب.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ؛ أي : وعده بتعذيبهم حق كائن لا محالة.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} ؛ أي : فإن نرك.
وبالفارسية : (بس اكر بنماييم بتو).
وما مزيدة لتأكيد الشرطية ، ولذا ألحقت النون الفعل ولا تلحقه مع أن وحدها فلا تقول : إن تكرمني أكرمك بنون التأكيد ، بل أما تكرمني أكرمك.
{بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} : وهو القتل والأسر وجوابه محذوف ؛ أي : فذاك.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن تراه.
وبالفارسية : (اكر بميرانيم ترابيش از ظهور آن عذاب).
{فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ، وهو جواب نتوفينك ؛ أي : يردون إلينا يوم القيامة لا إلى غيرنا ، فنجازيهم بأعمالهم.
(بس هيج وجه ايشانرا فرو نخواهيم كذاشت وحق سبحانه وتعالى درين دنيا بعضى ازعذاب كفار بسيد إبرار عليه السلام نمود از قتل واسر وقحط وجزآن وباقى عقوبات ايشان در عقبى خواهد بود) :
دوستان هر دو عالم شاد وخرم مى زيند
دشمنان در مخت وغم اين سر او آن سرا
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/162)
أما سرور الأولياء في الآخرة ، فظاهر ، وأما سرورهم في الدنيا ، فإن الحق بأيديهم ، وهم راضون عن الله على كل حال في الفقر والغنى والصحة والمرض ، فلا يكدّرهم شيء من الأكدار لشهودهم المبلى في البلاء وتهيئهم لنعيم الآخرة ، وأما غم الأعداء في الدنيا ، فمما لا حاجة إلى بيانه إذ من كان مع النفس في الدنيا كيف يستريح ، ومن كان مع سخط الله في الآخرة كيف يضحك.
وفي الآية إشارة إلى كيفية القدوم على الله ، فإن كان العبد عاصياً ، فيقدم على مولاه ، وهو عليه غضبان ، وإن كان مطيعاً ، فيقدم عليه قدوم الحبيب المشتاق على الحبيب :
بهار عمر ملاقات دوستان باشد
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَا وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـاَايَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الانْعَـامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} .
روي : أن الذين كانوا يجادلون في آيات الله اقترحوا معجزات زائدة على ما أظهره الله على يده عليه السلام من تفجير العيون وإظهار البساتين وصعود السماوات ونحوها مع كون ما أظهره من المعجزات كافية في الدلالة على صدقه ، فأنزل الله تعالى قوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا} ذوي عدد كثير إلى قومهم.
{مِّن قَبْلِكَ} ؛ أي : من قبل بعثتك يا محمد ، أو من قبل زمانك.
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} .
قوله : منهم خبر مقدم لقوله : من قصصنا عليك.
والجملة صفة لرسلاً ، وقص عليه بين ؛ أي : بيناهم وسميناهم لك في القرآن ، فأنت تعرفهم.
{وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} :
214
لم نسمعهم ولم نخبرك بهم.
قال الكاشفي : (بعضى از ايشان آنها اندكه خوانده اسم قصهاى ايشان برتوكه آن بيست ونه بيغمبراند).
وفي "عين المعاني" : هم ثمانية عشر : (وبعضى آنا نندكه قصة ايشان نخوانده ايم برتو اما نام ايشان دانسته وغير او وبعضى آنست كه نه نام ايشان دانسته ونه قصة ايشان شنيده ودرايمان بديشان تعيين عدد ومعرفت ايشان بانساب واسامى شرط نيست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وعن عليّ رضي الله عنه : "إن الله بعث نبياً أسود".
وفي "التكملة" : عبداً حبشياً ، وهو ممن لم يقصص الله عليه.
يقول الفقير : "لعل معناه أن الله بعث نبياً أسود إلى السودان" ، فلا يخالف ما ورد "من أن الله تعالى ما بعث نبياً إلا حسن الاسم حسن الصورة حسن الصوت" ، وذلك لأن في كل جنس حسناً بالنسبة إلى جنسه.
والحاصل : أن المذكور قصصهم من الأنبياء أفراد معدودة ، وقد قيل : عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً.
قال في "شرح المقاصد" : روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : قلت لرسول الله عليه السلام : كم عدد الأنبياء؟.
فقال : "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً".
فقلت : فكم الرسل ، فقال : "ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً".
لكن ذكر بعض العلماء أن الأولى أن لا يقتصر على عددهم ؛ لأن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط لا يفيد إلا الظن ، ولا يعتبر إلا في العمليات دون الاعتقاديات وها هنا حصر عددهم يخالف ظاهر.
قوله تعالى : {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا} إلخ.
ويحتمل أيضاً مخالفة الواقع وإثبات من ليس بنبي إن كان عددهم في الواقع أقل مما يذكر ونفي النبوة عمن هو نبي إن كان أكثر ، فالأولى عدم التنصيص على عدد.
وفي رواية : مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
كما في "شرح العقائد" للتفتازاني.
قال ابن أبي شريف في "حاشيته" : لم أر هذه الرواية.
(8/163)
وقال المولى محمد الرومي في "المجالس" : ومما يجب الإيمان به الرسل.
والمراد من الإيمان بهم العلم بكونهم صادقين فيما أخبروا به عن الله ؛ فإنه تعالى بعثهم إلى عباده ليبلغوهم أمره ونهيه ووعده ووعيده ، وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم أولهم آدم وآخرهم محمد عليه السلام ، فإذا آمن بالأنبياء السابقة ، فالظاهر أنه يؤمن بأنهم كانوا أنبياء في الزمان الماضي لا في الحال إذ ليست شرائعهم بباقية ، وأما الإيمان بسيدنا محمد عليه السلام ، فيجب بأنه رسولنا في الحال ، وخاتم الأنبياء والرسل فإذا آمن بأنه رسول ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً ، ومن قال : آمنت بجميع الأنبياء ، ولا أعلم آدم نبي أم لا ، فقد كفر ثم إنه لم يبين في القرآن عدد الأنبياء ، كم هم ، وإنما المذكور فيه باسم العلم على ما ذكر بعض المفسرين ثمانية وعشرون وهم : آدم ونوح وإدريس وصالح وهود وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويوسف ولوط ويعقوب وموسى وهارون وشعيب وزكريا ويحيى وعيسى وداود وسليمان وإلياس واليسع وذو الكفل وأيوب ويونس ومحمد وذو القرنين وعزير ولقمان على القول بنبوة هذه الثلاثة الأخيرة.
وفي "الأمالي" : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وذو القرنين لم يعرف نبيا
كذا لقمان فاحذر عن جدال
وذلك لأن ظاهر الأدلة يشير إلى نفي النبوة عن الأنثى وعن ذي القرنين ولقمان ونحوهما ، كتبع فإنه عليه السلام : قال : "لا أدري أهو نبي أم ملك" ، وكالخضر فإنه قيل : نبي ، وقيل : ولي ، وقيل : رسول.
فلا ينبغي أن يقطع بنفي أو إثبات ؛ فإن اعتقاد نبوة من ليس بنبي كفر كاعتقاد نفي نبوة
215
نبي من الأنبياء ، يعني : إذا كان متفقاً على نبوته ، أو عدم نبوته.
وأما إذا كان فيه خلاف ، فلا يكفر ؛ لأنه كالدليل الظني والكفر في القطعي.
وفي "فتح الرحمن" : في سورة البقرة والمذكورون في القرآن باسم العلم ستة وعشرون نبياً ، وهم : آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وذو الكفل وشعيب وموسى وهارون وداود وسليمان وعزير ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس واليسع صلوات الله عليهم أجمعين.
وأشير إلى أشمويل بقوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} (البقرة : 247) ، وأشير إلى أرميا بقوله : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (البقرة : 259) وأشير إلى يوشع بقوله : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَـاـاهُ} (الكهف : 60).
وأشير إلى أخوة يوسف بقوله : {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} (يوسف : 7).
والأسباط ذكروا إجمالاً وهم من ذرية أولاد يعقوب الاثني عشر نبياً ، وكان فيهم أنبياء ، وفي لقمان وذي القرنين خلاف كالخضر ، انتهى.
قال بعض الحكماء : يجب على المؤمن أن يعلم صبيانه ونساءه وخدمه أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه حتى يؤمنوا بهم ، ويصدقوا بجميعهم ، ولا يظنوا أن الواجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام فقط لا غير ، فإن الإيمان بجميع الأنبياء سواء ذكر اسمه في القرآن ، أو لم يذكر واجب على المكلف ، فمن ثبت تعينه باسمه يجب الإيمان به تفصيلاً ، ومن لم يعرف اسمه يجب الإيمان به إجمالاً.
وحكى ابن قتيبة في "المعارف" أن الأنبياء مائة ألف أوأربعة وعشرون ألفاً الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر ، منهم خمسة عبرانيون ، وهم : آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم.
وخمسة من العرب : هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليه السلام.
قال في "التكملة" : هذا الذي ذكر ابن قتيبة لا يصح ؛ لأنه قد روي : أنه كان من العرب نبي آخر ، وهو خالد بن سنان بن غيث ، وهو من عبس بن بغيض.
روي : عن النبي عليه السلام أنه قال فيه : "ذلك نبي أضاعه قومه".
وردت ابنته على رسول الله عليه السلام ، فسمعته يقرأ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
فقالت : كان أبي يقول هذا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال ابن قتيبة : وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى.
قال في "التكملة" : صاحبها ، وهذا عندي غير صحيح ؛ لأنه إن أراد أول الرسل فقد قال الله تعالى حكاية عن قول الرجل المؤمن من آل فرعون : {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ} (غافر : 34) ، فقد أخبر أنه أرسل إليهم يوسف ، وهو إما ابن يعقوب ، أو ابن إفراييم بن يوسف بن يعقوب على الخلاف المتقدم ، وإن أراد النبوة خاصة ، فيوسف وإخوته أنبياء ، وهم : بنو إسرائيل ؛ لأن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ، وأول الأنبياء آدم وآخرهم محمد عليهم السلام.
وروى ابن سلام وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "لا تقولوا : لانبي بعد محمد.
وقولوا : خاتم النبيين" ؛ لأنه ينزل عيسى بن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً ، فيقتل الدجال ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها.
(8/164)
قال في "التكملة" : وقول عائشة : لا تقولوا لا نبي بعد محمد إنما ذكر ، والله أعلم لئلا يتوهم المتوهم رفع ما روي من نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان ، وعلى الحقيقة ، فلا نبي بعد رسول الله عليه السلام ؛ لأن عيسى وإن نزل بعده ، فهو موجود قبله حي إلى أن ينزل ، وإذا نزل ، فهو متبع لشريعته مقاتل عليها ، فلا يخلق نبي بعد محمد ، ولا تجدد شريعة بعد شريعته ، فعلى هذا يصح ولا نبي بعده.
وقد روي في أسماء النبي عليه السلام في كتاب "الشمائل" وغيره والعاقب الذي ليس بعده
216
نبي" ، فهذه زيادة وإن لم يذكرها مالك ، فهي موجودة في غير "الموطأ" ، ويحتمل أن تكون من قبل النبي ، أو من قبل الراوي ، فإن كانت من قبل النبي عليه السلام ، فحسبك بها حجة ، وإن كانت من قبل الراوي ، فقد صح بها أن إطلاق هذا اللفظ غير ممتنع ولا معارضة بينه وبين حديث عائشة كما ذكرنا.
والمراد به : لا تقولوا : لا نبي بعده يعني : لا يوجد في الدنيا نبي ، فإن عيسى ينزل إلى الدنيا ويقاتل على شريعة النبي عليه السلام.
والمراد بقوله عليه السلام في الحديث ، والعاقب الذي ليس بعده نبي ، ولا يبعث بعده نبي ينسخ شريعته.
وهذا معنى قوله : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} (الأحزاب : 40) ؛ أي : الذي ختمت النبوة والرسالة به ؛ لأن نبوة عيسى قبله فنبوته عليه السلام ختمت النبوات وشريعته ختمت الشرائع.
انتهى ما في "التكملة".
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى أن الحكمة البالغة الأزلية اقتضت أنا نبعث قبلك رسلاً ، ونجزي عليهم وعلى أممهم أحوالاً ، ثم نقص عليك من أنبائهم ما نثبت به فؤادك ونؤدبك بتأدبهم لتتعظ بهم ، ولا نقدمك بالرسالة عليهم ليتعظوا بك فإن السعيد من يتعظ بغيره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
هر طبيدن قاصدى باشد دل آكاهرا
{وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} لاستغنائك عن ذلك تخفيفاً لك عما لا يعنيك.
وهذا أمارة كمال العناية فيما قص عليه وفيما لم يقصص عليه.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} ؛ أي : وما صح وما استقام لرسول منهم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا} تقترح عليه.
(يعنى بيارد معجزة كه نشأنة نبوت أو باشد).
{إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فإن المعجزات تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها ولا ستبداد بإتيان المقترح بها.
وفيه تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ كأنه قيل : ما من رسول من قبلك سواء كان مذكوراً أو غير مذكور أعطاه الله آيات معجزات إلا جادله قومه فيها وكذبوه عناداً وعبثاً ، فصبروا وظفروا ، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا.
وفي المثنوي :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همجو صبر آدم نديد
{فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} بالعذاب في الدنيا والآخرة.
{قُضِىَ بِالْحَقِّ} حكم بين الرسل ومكذبيهم بإنجاء المحق وإهلاك المبطل وتعذيبه.
{وَخَسِرَ} : هلك ، أو تحقق وتبين أنه خسر {هُنَالِكَ} أي : وقت مجيء أمر الله وهو اسم مكان استعير للزمان.
{الْمُبْطِلُونَ} أي : المتمسكون بالباطل على الإطلاق ، فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولاً أولياً.
قال في "القاموس" : الباطل ضد الحق وأبطل جاء بالباطل ، فالمبطل صاحب الباطل والمتمسك به كما أن المحق صاحب الحق والعامل به ولم يقل ، وخسر هنالك الكافرون لما سبق من نقيض الباطل الذي هو الحق كما في "برهان القرآن".
وفي الآية إشارة إلى أنه يجب الرجوع إلى الله قبل أن يجيء أمره وقضاؤه بالموت والعذاب ، فإنه ليس بعده إلا الأحزان :
تو بيش از عقوبت در عفو كوب
كه سوى ندارد فغان زير جوب
جه سود از بشيمانى آيد بكف
جو سرماية عمر كردى تلف
كسى كرجه بد كردهم بدنكرد
كه بيش از قيامت غم خويش خورد
217
يعني : (بيش از قيامت موت زيراكه مرد قيامت او برخاست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الانْعَـامَ} ؛ أي : خلق الإبل لأجلكم ومصلحتكم جمع نعم بفتحتين ، وهو في الأصل الراعية والكثير استعماله في الإبل.
{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} من لابتداء الغاية ومعناها ابتداء الركوب والأكل منها ؛ أي : تعلقهما بها ، أو للتبعيض ؛ أي : لتركبوا وتأكلوا بعضها لا على أن كلاً من الركوب ، والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر ، بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما ، وتغيير النظم في الجملة الثانية لمراعاة الفواصل مع الإشعار بأصالة الركوب ؛ لأن الغرض إنما يكون في المنافع والركوب متعلق بالمنفعة ؛ لأنه إتلاف المنفعة بخلاف الأكل ؛ فإنه متعلق بالعين ؛ لأنه إتلاف العين لا يقدح في ذلك كون الأكل أيضاً من المنافع ، ولهذا جاء : {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (النحل : 14).
(8/165)
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الانْعَـامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} .
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ} آخر غير الركوب والأكل ؛ كألبانها وأوبارها وجلودها.
{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} ؛ أي : في قلوبكم بحمل أثقالكم عليها من بلد إلى بلد.
وقال الكاشفي : (تابر سيد بمسافرت برآن بحاجتى كه در سينهاى شماست از سود ومعامله).
وهو عطف على قوله : لتركبوا منها وحاجة مفعول لتبلغوا.
{وَعَلَيْهَا} ؛ أي : في الإبل في البر.
{وَعَلَى الْفُلْكِ} ؛ أي : السفن في البحر.
{تُحْمَلُونَ} نظيره.
{وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70).
قال في "الإرشاد" : ولعل المراد به حمل النساء والولدان عليها بالهودج ، وهو السر في فصله عن الركوب والجمع بينهما وبين الفلك لما بينهما من المناسبة التامة حتى تسمت سفائن البر ، وإنما قال : وعلى الفلك ، ولم يقل : في الملك.
كما قال : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} (هود : 40) للمزاوجة ؛ أي : ليزاوج ويطابق قوله : {وَعَلَيْهَا} ، فإن محمولات الأنعام مستعلية عليها ، فذكرت كلمة الاستعلاء في الفلك أيضاً للمشاكلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "المدارك" : الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم ؛ لأن الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها ، فلما صح المعنيان صحت العبارتان.
وقال بعض المفسرين : المراد بالأنعام في هذا المقام : الأزواج الثمانية ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز باعتبار ذكورتها وأنوثتها ، فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل ، لكن لا على أن كلاً منهما يجوز تعلقه بكل منها ، ولا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم ، وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل والبقر والمنافع تعمّ الكل وبلوغ الحاجة عليها يعم البقر.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى خلق النفس البهيمية الحيوانية لتكون مركباً لروحكم العلوي.
{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} من مشاهدة الحق ومقامات القرب ، ولكم في صفاتها منافع ، وهي الشهوة الحيوانية ومنفعتها إنها مركب العشق والغضب ، وأن مركب الصلابة في الدين والحرص مركب الهمة ، وبهذه المركب يصل السالك إلى المراتب العلية كما قال.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} ؛ أي : صفات القلب {تُحْمَلُونَ} إلى جوار الحق تعالى.
جون بيخبر ان دامن فرصت مده از دست
تاهست بروبال زعالم سفرى كن
{وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} : دلائله الدالة على كمال قدرته وفور رحمته.
{وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ} .
فإن كلاً منها من الظهور بحيث لا يكاد يجرؤ على إنكارها من له عقل في الجملة ، وهو ناصب لأي.
وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها.
فإن قلت : كان الظاهر أن
218
يقال : فأية آيات الله بتاء التأنيث لكون ؛ أي : عبارة عن المؤنث لإضافته إليها.
قلت : تذكير ؛ أي : هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة ، وإنسان وإنسانة غريب ، وهي في أي أغرب لإبهامه ، فإن قصد التمييز والتفرقة ينافي الإبهام.
وهذا في غير النداء ، فإن اللغة الفصيحة الشائعة أن تؤنث أياً الواقعة في نداء المؤنث كما في قوله تعالى : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ} (الفجر : 27) ، ولم يسمع أن يقال : يا أيها المرأة بالتذكير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
اعلم أن جميع أجزاء العالم آيات بينات وحجج واضحات ترشدك إلى وحدانية الله تعالى وكمال قدرته ، لكن هداية الله تعالى إلى جهة الإرشاد وكيفية أصل الأصول.
قال بعض الكبار في سبب توبته : كنت مستلقياً على ظهري ، فسمعت طيوراً يسبحن ، فأعرضت عن الدنيا وأقبلت على المولى وخرجت في طلب المرشد ، فلقيت أبا العباس الخضر ، فقال لي : اذهب إلى الشيخ عبد القادر ، فإني كنت في مجلسه ، فقال : إن الله جذب عبداً إليه ، فأرسله إليّ إذا لقيته ، قال : فلما جئت إليه ، قال : مرحباً بمن جذبه الرب بألسنة الطير ، جمع له كثيراً من الخير ، فإذا أراد الله بعبده خيراً يجذبه إليه بماء شاء ، ولا تفرقة بين شيء وشيء ، فمن له بصيرة يرى في مرائي الأشياء جمال الوحدة.
محقق همى بيند اندر ابل
كه در خوب رويان جين وجكل
ثم إن أعظم الآيات أنبياء الله وأولياؤه إذ تجلى الحق من وجوههم بنعت العزة والكبرياء للعالمين ، وأي منكر أعطم ممن ينكر على هذه الآيات الساطعة والبراهين الواضحة.
(8/166)
قال سهل : أظهر آياته في أوليائه ، وجعل السعيد من عباده من صدقهم في كراماتهم وأعمى أعين الأشقياء عن ذلك ، وصرف قلوبهم عنهم ، ومن أنكر آيات أوليائه ، فإنه ينكر قدرة الله ، فإن القدرة الإلهية أظهر على الأولياء الأمارات لا هم بأنفسهم يظهرونها ، والله تعالى يقول : {وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} ، ثم إن الإنكار بعد التعريف والإعلام أشد منه قبله ، فطوبى لمن أخذ بإشارة المرشد وإرشاده ، ولا يكون في زمرة المنكرين الضالين.
قال حجة الإسلام : العجب منك أنك تدخل بين غني فتراه مزيناً بأنواع الزين ، فلا ينقطع تعجبك منه ، ولا تزال تذكره وتصف حسنه طول عمرك ، وأنت تنظر إلى بيت عظيم ، وهو العالم لم يخلق مثله لا تتحدث فيه ولا تلتفت بقلبك ، ولا تتفكر في عجائبه وذلك لعمى القلب المانع عن الشهود والرؤية ونعم ما قيل :
برك درختان سبز در نظر هو شيار
هر ورقى دفتريست معرفت كردكار
ولا بد لتحصيل هذه المرتبة من التوسل بالأسباب وأعظمها الذكر في جميع الأوقات.
وقال : إلى أن يفتح مفتح الأبواب.
{وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} : الهمزة للاستفهام التوبيخي ، والفاء : للعطف على مقدر ؛ أي : أقعدوا ؛ أي : قومك ، وهم قريش ، فلم يسيروا ولم يسافروا {فِى الأرْضِ} .
(در زمين عاد وثمود).
{فَيَنظُرُوا} ويعتبروا جواب الاستفهام.
وبالفارسية : (تابنكر ندكه).
{كَيْفَ كَانَ} : (جه كونه بود).
{عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المهلكة ، يعني : أنهم قد ساروا في أطراف الأرض ، وسافروا إلى جانب الشام واليمن وشاهدوا مصارع المكذبين من الأمم السالفة وآثارهم ، فليحذروا من مثل عذابهم ، فلا يكذبوك يا محمد.
ثم بين مبادىء أحوال الأمم المتقدمة وعواقبها ، فقال : {كَانُوا} ؛ أي : تلك الأمم.
{أَكْثَرَ} عدداً {مِنْهُمْ} ؛ أي : من قومك.
219
{وَأَشَدَّ قُوَّةً} في الأبدان والعدد.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى} باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمصانع ، وهي جمع مصنعة بفتح النون وضمها شيء كالحوض يجمع فيها ماء المطر ، ويقال : الصهريج أيضاً ، وتغلط فيه العامة من الأتراك ، فيقولون صارنج ، وأكثر بلاد العرب محتاجة إلى هذا لقلة الماء الجاري والآبار.
وفي "التأويلات النجمية" : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى} بطول الأعمار.
وقيل : هي آثار أقدامهم في الأرض بعظم إجرامهم.
وحكي عن الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره : أنه قال : قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس عليه السلام سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه ، وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض ، فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر.
{فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم} : يقال : أغنى عنه كذا إذا كفاه ونفعه ، وهو إذا استعمل بعن يتعدى إلى مفعول كما سبق ؛ أي : لم يغن عنهم لم يدفع ولم ينفع.
{مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} كسبهم أو مكسوبهم من الأموال والأولاد وترتيب العساكر ، فإذا لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخيبة والخسار ، فكيف هؤلاء الفقراء والمساكين.
ويجوز أن تكون ما الأولى استفهامية بمعنى ؛ أي شيء أغنى عنهم ذلك ، وما الثانية على التقديرين ، فاعل أغنى.
وهذه الفاء : بيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم ، وما كانوا يكسبون بذلك زعماً منهم أن ذلك يغني عنهم ، فلم يترتب عليه إلا عدم الإغناء ، فهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة ، وإن كان عكس الغرض ونقيض المطلوب كما في قولك وعظته ، فلم يتعظ ؛ أي : لم يترتب عليه إلا عدم الاتعاظ مع أنه عكس المتوقع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/167)
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} بالمعجزات والدلالات الواضحة.
وهذه الفاء : تفسير وتفصيل لما أبهم وأجمل من عدم الإغناء ، فهي تعقيبية وتفسيرية ، إذ التفسير يعقب المفسر ، وقد كثر في الكلام مثل هذه الفاء ومبناها على التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال.
{فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} ، لقوله : {كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم : 32) ؛ أي : أظهروا الفرح بذلك واستحقروا علم الرسل.
والمراد بالعلم : ما لهم من العقائد الزائغة والشبه الباطلة كما قالوا لا نبعث ولا نعذب وما أظن الساعة قائمة ونحو ذلك وتسميتها علماً مع أن الاعتقاد الغير المطابق للواقع حقه أن يسمى جهلاً للتهكم بهم ، فهي علم على زعمهم لا في الحقيقة.
أو المراد علم الصنائع والتنجيم والطبائع ، وهو أي علم الطبائع علم الفلاسفة ، فإن الحكماء كانوا يصغرون علوم الأنبياء ويكتفون بما يكسبونه بنظر العقل ، ويقولون : نحن قوم مهتدون ، فلا حاجة بنا إلى من يهدينا كما قال سقراط لما ظهر موسى عليه السلام : نحن قوم مهذبون لا حاجة بنا إلى تهذيب غيرنا.
قال المغربي :
علم بى دينان رها كن جهل راحكمت مخوان
از خيالات وظنون اهل يونان دم مزن
وكان يكنى في الجاهلية بأبي الحكم لأنهم يزعمون أنه عالم ذو حكمة فكناه النبي في الإسلام بأبي جهل ؛ لأنه لو كان له علم حقيقة لآمن بالرسول عليه السلام.
قال الحافظ :
سراى ومدرسه وبحث علم وطاق ورواق
جه سود جون دل دانا وجشم بينا نيست
وفي "التأويلات النجمية" : من العلم ؛ أي : من شبه المعقولات والمخيلات والموهومات ، ويجوز أن يرجع عندهم للرسل على أن المراد هو العلم الذي أظهره رسلهم وبفرح الكفار به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده قوله تعالى : {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ؛ أي : نزل
220
بالكفار وأصابهم وبال استهزائهم بالأنبياء واستحقارهم لعلومهم وما أخبروا به من العذاب ونحوه ، فلم يعجزوا الله في مراده منهم.
وفي المثنوي :
آن دهان كز كرد وزتسخر بخواند
مر محمد را دهانش كز بماند
باز آمد كاى محمد عفو كن
اي ترا الطاف وعلم من لدن
من ترا افسوس ميكردم زجهل
من بدم افسوس را منسوب واهل
جون خداخواهدكه برده كس درد
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
ميلش اندر طعنة باكان برد
بس سباس اوراكه مارا درجهان
كرد بيدا اوبس بيشسينيان
تا شنيدم آن سياستهاى حق
بر قرون ماضيه اندر سبق
تاكه ما از حال آن كركان بيش
همجو روبه باس خود داريم بيش
امت مرحومه زين رو خواند مان
آن رسول حق وصادق دربيان
استخوان وبشم آن كركان عيان
بنكريد وبند كيريد اى مهان
عاقل از سر بنهد اين هستى وباد
جون شنيد آنجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتى كيرند از اضلال او
نسأل الله التوفيق للعلم الذي يوصل إلى التحقيق :
نتوان بقيل وقال زارباب حال شد
منعم نمى شود كسى از كفت وكوى كنج
فلا بد من الانقياد للحق والاجتهاد في العمل.
قال الخجندي :
در علم محققان جدل نيست
از علم مراد جز عمل نيست
قال في "الروضة" : صلى الحجاج في جنب ابن المسيب فرآه يرفع قبل الإمام ، ويضع رأسه ، فلما سلم أخذ بثوبه حتى فرغ من صلاته ودعائه ، ثم رفع نعله على الحجاج ، فقال : يا سارق ويا خائن تصلي على هذه الصفة ، لقد هممت أن أضرب بها وجهك.
وكان الحجاج حاجاً ، فرجع إلى الشام وجاء والياً على المدينة ، ودخل من فوره المسجد قاصداً مجلس سعيد بن المسيب ، فقال له : أنت صاحب الكلمات.
قال : نعم أنا صاحبها.
قال : جزاك الله من معلم ومؤدب خيراً ما صليت بعدك إلا ذاكراً قولك ، فلا بد من الحركة بمقتضى العلم.
{فَلَمَّا رَأَوْا} ؛ أي : الأمم السالفة المكذبة.
{بَأْسَنَا} : شدة عذابنا في الدنيا ووقعوا في مذلة الخيبة ، ومنه قوله تعالى : {بِعَذَابا بَئِيس} (الأعراف : 165) ؛ أي : شديد.
{قَالُوا} : مضطرين {بِاللَّهِ وَحْدَه وَكَفَرْنَا} : (بخداى يكبتا).
{وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ} ؛ أي : بسبب الإيمان به يعنون الأصنام.
{مُشْرِكِينَ} .
يعني : (ازانباز كه ميكفتيم بيزار وبرى كشتيم).
وهذه الفاء لمجرد التعقيب وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه ؛ لأن مضمون قوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ} .
إلخ.
هو أنهم كفروا ، فصار مجموع الكلام بمنزلة أن يقال : فكفروا ثم لما رأوا بأسنا آمنوا.
{فَلَمْ يَكُ} أصله : لم يكن حذفت النون لكيرة استعماله.
{يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ} ؛ أي : تصديقهم بالوحدانية اضطراراً.
وقوله : إيمانهم.
يجوز أن يكون اسم كان وينفعهم خبره مقدماً عليه ، وأن يكون فاعل ينفعهم واسم كان ضمير الشأن المستتر فيه.
{لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ؛ أي : عند رؤية عذابنا والوقوع فيه لامتناع قبوله حينئذ امتناعاً عادياً ، كما يدل عليه قوله : {فَلَمْ يَكُ} .
221
إلخ.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/168)
زيرا دروقت معاينة عذاب تكليف مرتفع ميشود وايمان در زمان تكليف مقبولست نه دروقت يأس).
فامتنع القبول ؛ لأنهم لم يأتوا به في الوقت المأمور به ، ولذلك قيل : فلم يك بمعنى لم يصح ولم يستقم ، فإنه أبلغ في نفي النفع من لم ينفعهم إيمانهم.
وهذه الفاء : للعطف على آمنوا كأنه قيل : فآمنوا ، فلم ينفعهم ؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري الواقع مع القدرة على خلافه ، ومن عاين نزول العذاب لم يبق له القدرة على خلاف الإيمان ، فلم ينفعه وعدم نفعه في الدنيا دليل على عدم نفعه في الآخرة.
{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} .
قوله : سنة من المصادر المؤكدة ، وخلت من الخلوّ يستعمل في الزمان والمكان ، ولكن لما تصور في الزمان المضي فسر أهل اللغة قولهم : خلا الزمان بقولهم : مضى وذهب ؛ أي : سن الله عدم قبول إيمان من آمن وقت رؤية البأس ومعاينته سنة ماضية في عباده مطردة ؛ أي : في الأمم السالفة المكذبة كلها ، ويجوز أن ينتصب سنة على التحذير ؛ أي : احذروا سنة الله المطردة في المكذبين السابقين.
والسنة : الطريقة والعادة المسلوكة وسنة الله طريقة حكمته.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـافِرُونَ} قوله : هنالك اسم مكان في الأصل موضوع للإشارة إلى المكان قد استعير في هذا المقام للزمان ؛ لأنه لما أشير به إلى مدلول.
قوله : {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، ولما للزمان تعين أن يراد به الزمان تشبيهاً له بالمكان في كونه ظرفاً للفعل كالمكان.
والمعنى على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : هلك الكافرون بوحدانية الله المكذبون وقت رؤيتهم البأس والعذاب.
وقال الزجاج : الكافر خاسر في كل وقت ، ولكنه تبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب ، ولم يرج فلاحهم ، ولم يقل : وخسر هنالك المبلطلون كما فيما سبق ؛ لأنه متصل بإيمان غير مجدد ونقيض الإيمان الكفر كما في "برهان القرآن" ؛ أي : فحسن موقعه كما حسن موقع قوله المبطلون على ما عرف سره في موقعه.
اعلم أن في إيمان البأس واليأس وتفاصيل أقررها لك ، فانظر ماذا ترى قال في "الأمالي" : ()
وما إيمان شخص حال بأس
بمقبول لفقد الامتثال
قوله : بأس بالباء الموحدة وبسكون الهمزة لم يقل : يأس بالياء المثناة لموافقة قوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، فاشتمل على ما بالموحدة والمثناة ، وأصل البأس الشدة والمضرة ، وحال البأس ، هو وقت معاينة العذاب وانكشاف ما جاءت به الأخبار الإلهية من الوعد والوعيد.
وحال اليأس هو وقت الغرغرة التي تظهر عندها أحكام الدار الآخرة عليه بعد تعطيل قواه الحسية ، ويستوي في حال البأس بالموحدة الإيمان والتوبة لقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ} .
الآية ورجاء الرحمة إنما يكون في وقته وبظهور الوعيد خرج الوقت من اليد ، ولم يتصور الامتثال ووقع الإيمان ضرورياً خارجاً عن الاختيار ، ألا ترى أن إيمان الناس لا يقبل عند طلوع الشمس من مغربها ؛ لأنه إيمان ضروري ، فلا يعتبر ؛ لأنه يجوز أن يكون إيمان المضطر لغرض النجاة من الهلاك بحيث لو تخلص لعاد لما اعتاد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقد قال العلماء : الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة.
وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب ، فغير مفيد كما في "حواشي الشيخ" في سورة الأنعام.
وفي المثنوي :
آن ندامت از نتيجه رنج بود
بى زعقل روشن جون كنج بود
222
جونكه شد رنج آن ندامت شد عدم
مى نير زد خاك آن توبه ندم
ميكند او توبه وبير خرد
بانك لوردوا لعادوا ميزند
فيكون الإيمان والندم وقت ظهور الوعيد الدنيوي كالإيمان والندم وقت وجود الوعيد الأخروي بلا فرق ، فكما لا ينفع هذا كذلك لا ينفع ذاك لأن الآخرة وما في حكمها من مقدماتها في الحكم سواء ولذلك ورد من مات فقد قامت قيامته ، وذلك لأن زمان الموت آخر زمان من أزمنة الدنيا ، وأول من أزمنة الآخرة ، فباتصال زمان الموت بزمان القيامة كان في حكمه فإيمان فرعون وأمثاله عند الغرق أو نحوه من قبيل ما ذكر من الإيمان الاضطراري الواقع عند وقوع الوعيد الذي ظهوره في حكم ظهور أحوال الآخرة ومشاهدته في حكم مشاهدة العذاب الأخروي.
فحال البأس بالموحدة كحال الغرغرة من غير فرق فكما لا يقبل الإيمان حال الغرغرة ، فكذا حال البأس ففرعون مثلاً لم يقبل إيمانه حال الغرق ، لكونه حال البأس ، وإن كان قبل الغرغرة ، فافهم جداً ، فإنه من مزالق الأقدام.
(8/169)
وأما إيمان اليأس بالياء المثناة التحتية ، وهو الإيمان بعد مشاهدة أحوال الآخرة ، ولا تكون إلا عند الغرغرة ووقت نزع الروح من الجسد ، ففي كتاب "الفتاوى" : أنه غير مقبول بخلاف توبة اليأس فإنها مقبولة على المختار على ما في "هداية المهديين" ؛ لأن الكافر أجنبي غير عارف بالله وابتدأ إيماناً ، والفاسق عارف وحاله حال البقاء ، والبقاء أسهل من الابتداء.
فمثل إيمان اليأس شجر غرس في وقت لا يمكن فيه النماء ، ومثل توبة اليأس شجر نابت أثمر في الشتاء عند ملاءمة الهواء.
والدليل على قبول التوبة مطلقاً قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى : 25) ، هكذا قالوا ، وهو يخالف قوله تعالى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّاَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْاَانَ} (النساء : 18).
قال البغوي في "تفسيره" : لا تقبل توبة عاصصٍ ولا إيمان كافر إذا تيقن بالموت.
انتهى.
ومراده عند الإشراف على الموت والصيرورة إلى حال الغرغرة ، وإلا فقد قال المحققون : قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة ، بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار على ما في "حواشي ابن الشيخ" في سورة النساء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقرب الموت لا ينافي التيقن بالموت بظهور أسبابه وإماراته دل عليه قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (البقرة : 180) الآية ؛ أي : حضور أماراته وظهور آثاره من العلل والأمراض إذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت.
ومن هذا القبيل ما في "روضة الأخبار" من أنه قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عند احتضاره لابنه عبد الله : يا بنيّ من يأخذ المال بما فيه من التبعات ، فقال : من جدع الله أنفه ، ثم قال : احملوه إلى بيت مال المسلمين ، ثم دعا بالغل ، والقيد فلبسهما ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه".
ثم استقبل القبلة ، فقال : "اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك ، فإن تعف ، فأهل العفو أنت وإن تعاقب فبما قدمت يداي لاإله إلا أنت سبحانك ، إني كنت من الظالمين".
فمات وهو مغلول مقيد ، فبلغ الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فقال : استسلم حين أيقن بالموت.
.
ولعله ينفعه.
انتهى.
وأتي بصيغة الترجي ؛
223
لأنه لا قطع ، وهو من باب الإرشاد أيضاً على ما حكي : أنه لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، وهو أخوه عليه السلام من الرضاعة وغسل وكفن قبل النبي عليه السلام بين عينيه وبكى.
وقالت امرأته : خولة بنت حكيم رضي الله عنها : طبت هنيئاً لك الجنة يا أبا السائب ، فنظر إليها النبي عليه السلام نظرة غضب وقال : "وما يدريك" ، فقالت : يا رسول مارسك وصاحبك ، فقال عليه السلام : "وما أدري ما يفعل بي" ، فاشفق الناس على عثمان رضي الله عنه.
ثم إن السبب في عدم قبول التوبة عند الاحتضار أنا مكلفون بالإيمان الغيبي لقوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3).
وفي ذلك الوقت يكون الغيب عياناً فلا تصح.
وأيضاً لا شبهة في أن كل مؤمن عاصصٍ يندم عند الإشراف على الموت.
وقد ورد : "إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ، فيلزم منه أن لا يدخل أحد من المؤمنين النار ، وقد ثبت أن بعضهم يدخلونها.
وأما قولهم : إن من شرط التوبة عن الذنب العزم على أن لا يعود إليه.
وذلك إنما يتحقق مع ظن التائب التمكن من العود ، فيخالفه ما قال الآمدي أنه إذا أشرف على الموت ؛ أي : قرب من الاحتضار ، فندم على فعله صحت توبته بإجماع السلف ، وإن لم يتصور منه العزم على ترك الفعل لعدم تصور الفعل ، فهو مستثنى من عموم معنى التوبة ، وهو الندم على الماضي والترك في الحال ، والعزم على أن لا يعود في المستقبل كما في "شرح العقائد" للمولى رمضان.
وأما إطلاق الآية التي هي قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى : 25) ، فمقيد بالآية السابقة ، وهي قوله : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} (النساء : 18) ، الآية.
وبقوله عليه السلام : "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وهو يشمل توبة المؤمن والكافر ، فالإيمان وكذا التوبة لا يعتبر حالة اليأس بالمثناة بخلافهما قبل هذه الحالة ، ولو بقليل من الزمان رحمة من الله تعالى لعباده المذنبين.
فمعنى الاحتضار هو وقت الغرغرة ، وقرب مفارقة الروح من البدن لا حضور أوائل الموت ، وظهور مقدماته مطلقاً ، وقس عليه حال البأس بالموحدة.
بقي أنه لما قتل علي رضي الله عنه : من قال : لا إله إلا الله.
قال عليه السلام : "لم قتلته يا علي".
قال علي : علمت أنه ما قال بقلبه ، فقال عليه السلام : "هل شققت قلبه" ، فهذا يدل على أن إيمان المضطر والمكره صحيح مقبول ، ولعله عليه السلام : اطلع بنور النبوة على إيمان ذلك المقتول بخصوصه ، فقال في حقه ، ما قال.
والعلم عند الله المتعال هذا.
وذهب الإمام مالك إلى أن الإيمان عند اليأس بالمثناة مقبول صحيح ، فقالوا : إن الإيمان عند التيقن صحيح عنده لو لم يرد الدليل ذلك الإيمان فإيمان فرعون مثلاً مردود عنده بدليل قوله : {ءَآلَْاانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس : 91) ، الآية.
وإنما لم يرده مالك مطلقاً لعدم النصوص الدالة عنده على عدم صحة الإيمان في تلك الساعة.
هكذا قالوا ، وفيه ضعف تام ظاهر وإسناده إلى مالك لا يخلو عن سماحة ، كما لا يخفى هذا ما تيسر لي في هذا المقام من الجمع والترتيب والترجيح والتهذيب ، ثم أسأل الله لي ، ولكم أن يشد عضدنا بقوة الإيمان ويحلينا بحلية العيان والإيقان.
ويختم لنا بالخير والحسنى ويبشرنا بالرضوان والزلفى ويجعلنا من الطائرين إلى جنابه والنازلين عند بابه واللائقين بخطابه بحرمة الحواميم وما اشتملت عليه من السر العظيم.
224
تمت {حم} المؤمن يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الشريف من شهور سنة اثنتي عشرة ومائة وألف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148(8/170)
سورة فصلت
وآياتها ثلاث أو أربع وخمسون
جزء : 8 رقم الصفحة : 224
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{حم} : خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ{حم} فيكون إطلاق الكتاب عليها في قوله : كتاب.
إلخ.
باعتبار أنها من الكتاب وجزء من أجزائه.
وقيل : {حم} اسم للقرآن ، فيكون إطلاق الكتاب عليه حقيقة ، وإنما افتتح السورة بـ{حم} ؛ لأن معنى {حم} : بضم الحاء وتشديد الميم على ما قاله سهل قدس سره ، قضى ما هو كائن.
يعني : (بودنى همه بودم كردنى همه كردم راندنى همه راندم كزيدنى همه كزيدم بدير فتنى همه بذير فتم برادشتنى همه برداشتم افكندنى همه افكندم آنجه خواستم كردم آيخه خواهم كنم آنراكه بذير فتم بدان ننكرم كه از وجفا ديدم بلكه عفو كنم ودر كذارم واز كفته او باز نيايم).
ما يبدل القول.
ولما كانت هذه السورة مصدرة بذكر الكتاب الذي قدرت فيه الأحكام وبينت ناسب أن تفتح بـ{حم} رعاية لبراعة الاستهلال.
وإنما سميت هذه السورة السبع بـ{حم} لاشتراكها في الاشتمال على ذكر الكتاب والرد على المجادلين في آيات الله والحث على الإيمان بها ، والعمل بمقتضاها ونحو ذلك.
قال بعض العرفاء معنى الحاء والميم ؛ أي : هذا الخطاب والتنزيل من الحبيب الأعظم إلى المحبوب المعظم.
وأيضاً هو قسم ؛ أي : بحياتي ومجدي.
هذا تنزيل ، أو بحياتك ومشاهدتك يا حبيبي ويا محبوبي ، أو بالحجر الأسود والمقام ، فإنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة وسران عظيمان من أسرار الله ، فناسب أن يقسم بهما.
أو هذه الحروف تنزيل إلخ نزل بها جبرائيل عليه السلام من عند الله : (ميكويد اين حروف تهجى آموزى يا كويى در لوح جه نوشته كيد الف وباء نه خود اين دو حرف خواهد بلكه جمله حروف تهجى كه حاوميم ازان جمله است فرو فرستادخ رحمانست جنانكه كودك راكويي جومى خواهد اين همجنان است وحروف تهجى بر آدم عليه السلام نازل بوده وقر آن مشتمل شده برآن جمله).
فهي أصل كل منزل.
وفي الحديث : من قرأ القرآن فأعربه يعني (هركه خواند قرآنرا ولحن نكند دروي) فله بكل خرف خمسون حسنة و"من قرأ ولحن فيه ، فله بكل حرف عشر حسنات أما أني لا أقول ألم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف".
يقول الفقير : لعل سر العدد أن القراءة في الأصل للصلاة ، وكان أصل الصلوات الخمس خمسين ، فلذا أجرى الله تعالى على القارىء الفصيح بمقابلة كل حرف خمسين أجراً ، وأما العشر ، فهي أدنى الحسنات كما قال الله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 16).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (اسم اعظم الهى در حروف مقطعة مخفيست وهر كس در استخراج اين قادر نيست).
قال الكمال الخجندي قدس سره :
كرت دانستن علم حروفست آرزو صوفي
نخست افعال نيكو كن جه سوداز خواندن اسما
{تَنزِيلٌ} : خبر بعد خبر ؛ أي : منزلة ؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ؛ كقولهم :
225
هذا الدرهم ضرب الأمير ؛ أي : مضروبه ومعنى كونها منزلة أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبرائيل أن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على رسول الله عليه السلام ويؤديها إليه فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبرائيل سمي ذلك تنزيلاً وإلا ، فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل.(8/171)
{مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} متعلق بتنزيل مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة لا بد وأن يكون مداراً للمصالح كلها.
وقال الكاشفي : {مِّنَ الرَّحْمَـانِ} : (ازخداى بخشنده بهداية نفوس عوام) {الرَّحِيمِ} : (مهربان برعايت قلوب خواص).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالحاء في حم إلى الحكمة وبالميم إلى المنة ؛ أي : منّ على عباده بتنزيل حكمة من الرحمن الأزلي الذي سبقت رحمته غضبه ، فخلق الموجودات برحمانية الرحيم الأبدي الذي وسعت رحمته كل شيء إلى الأبد ، وهي كتاب.
قال بعض العارفين : إذا فاض بحر الرحمة تلاشي كل زلة ؛ لأن الرحمة لم تزل ، ولا تزال والزلة لم تكن ، ثم كانت ، وما لم يكن ثم كان كيف يقاوم ما لم يزل ولا يزال.
قال الصائب :
محيط از جهرة سيلاب كرد راه ميشويد
جه انديشه كسى با عفو حق از كرد زلتها
وقال الشيح سعدي قدس سره :
همى شرم دارم ز لطف كريم
كه خوانم كنه بيش عفوش عظيم
{كِتَـابٌ} : خبر آخر مشتق من الكتب ، وهو الجمع فسمي كتاباً ؛ لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين.
{فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} : بينت الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد والقصص والتوحيد.
قال الراغب في قوله : {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُهُ} (هود : 1) : هو إشارة إلى ما قال : {تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (النحل : 89) ، فمن اتصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل القرآن.
{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} نصب على المدح ؛ أي : أريد بهذا الكتاب المفصل آياته قرآناً عربياً أو على الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة.
ويقال لها : الحال الموطئة ، وهو اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، وقد سبق غير مرة.
والمعنى بالفارسية : (در حالتى كه قرآنيست تازى يعنى بلغت عرب تا بسهولت خوانند وفهم كنند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (اسم اعظم الهى در حروف مقطعة مخفيست وهر كس در استخراج اين قادر نيست).
قال الكمال الخجندي قدس سره :
كرت دانستن علم حروفست آرزو صوفي
نخست افعال نيكو كن جه سوداز خواندن اسما
{تَنزِيلٌ} : خبر بعد خبر ؛ أي : منزلة ؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ؛ كقولهم :
225
هذا الدرهم ضرب الأمير ؛ أي : مضروبه ومعنى كونها منزلة أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبرائيل أن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على رسول الله عليه السلام ويؤديها إليه فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبرائيل سمي ذلك تنزيلاً وإلا ، فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل.
{مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} متعلق بتنزيل مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة لا بد وأن يكون مداراً للمصالح كلها.
وقال الكاشفي : {مِّنَ الرَّحْمَـانِ} : (ازخداى بخشنده بهداية نفوس عوام) {الرَّحِيمِ} : (مهربان برعايت قلوب خواص).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالحاء في حم إلى الحكمة وبالميم إلى المنة ؛ أي : منّ على عباده بتنزيل حكمة من الرحمن الأزلي الذي سبقت رحمته غضبه ، فخلق الموجودات برحمانية الرحيم الأبدي الذي وسعت رحمته كل شيء إلى الأبد ، وهي كتاب.
قال بعض العارفين : إذا فاض بحر الرحمة تلاشي كل زلة ؛ لأن الرحمة لم تزل ، ولا تزال والزلة لم تكن ، ثم كانت ، وما لم يكن ثم كان كيف يقاوم ما لم يزل ولا يزال.
قال الصائب :
محيط از جهرة سيلاب كرد راه ميشويد
جه انديشه كسى با عفو حق از كرد زلتها
وقال الشيح سعدي قدس سره :
همى شرم دارم ز لطف كريم
كه خوانم كنه بيش عفوش عظيم
{كِتَـابٌ} : خبر آخر مشتق من الكتب ، وهو الجمع فسمي كتاباً ؛ لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين.
{فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} : بينت الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد والقصص والتوحيد.
قال الراغب في قوله : {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُهُ} (هود : 1) : هو إشارة إلى ما قال : {تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (النحل : 89) ، فمن اتصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل القرآن.
{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} نصب على المدح ؛ أي : أريد بهذا الكتاب المفصل آياته قرآناً عربياً أو على الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة.
ويقال لها : الحال الموطئة ، وهو اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، وقد سبق غير مرة.
والمعنى بالفارسية : (در حالتى كه قرآنيست تازى يعنى بلغت عرب تا بسهولت خوانند وفهم كنند).
(8/172)
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن القرآن قديم من حيث أنه كلام الله وصنعته والعربية كسوة مخلقة كساها الله تعالى ومن قال أن القرآن أعجمي يكفر ؛ لأنه معارضة لقوله تعالى : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ، وبوجود كلمة عجمية فيه معربة لا يخرج عن كونه عربياً ؛ لأن العبرة للأكثر.
وذلك كالقسطاس ، فإنه رومي معرب بمعنى الميزان والسجيل ، فإنه فارسي معرب سنك ، وكل والصلوات ، فإنه عبراني معرب صلوتا بمعنى المصلى والرقيم ، فإنه رومي بمعنى الكلب والطور ، فإنه الجبل بالسرياني.
{لِّقَوْمٍ} ؛ أي : عرب.
{يَعْلَمُونَ} ؛ أي : كائناً لقوم يعلمون معانيه لكونه على لسانهم ، فهو صفة أخرى لقرآناً.
وفي "التأويلات النجمية" : {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} العربية والعربية بحروفها مخلوقة والقرآن منزه عنها.
{بَشِيرًا} : صفة أخرى لقرآناً ؛ أي : بشيراً لمن صدقه وعرف قدره وأدى
226
حقه بالجنة والوصول.
{نَذِيرًا} لمن كذبه ، ولم يعرف قدره ، ولم يؤد حقه بالنار والفراق ، أو بشيراً لمن أقبل إلى الله بنعت الشوق.
ونذيراً لمن أقبل إلى نفسه ونظر إلى طاعته ، أو بشيراً لأوليائه بنيل المقامات ، ونذيراً لهم يحذرهم من المخالفات لئلا يسقطوا من الدرجات ، أو بشيراً بمطالعة الرجاء ونذيراً بمطالعة الخوف ، أو بشيراً للعاصين بالشفاعة والغفران ، ونذيراً للمطيعين ليستعملوا الأدب والأركان في طاعة الرحمن ، أو بشيراً لمن اخترناهم واصطفيناهم ، ونذيراً لمن أغويناهم.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن تدبره مع كونه على لغتهم ، والضمير لأهل مكة أو العرب أو المشركين دال عليه ما سيجيء من قوله : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} .
{فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} سماع تفكر وتأمل حتى يفهموا جلالة قدره ، فيؤمنوا به.
وفي "التأويلات النجمية" : فأعرض أكثرهم عن أداء حقه فهم لا يسمعون بسمع القبول والانقياد.
وفيه إشارة إلى أن الأقل هم أهل السماع ، وإنما سمعوا بأن أزال الله تعالى بلطفه ثقل الآذان ، فامتلأت الأذهان بمعاني القرآن.
سئل عبد الله بن المبارك عن بدء حاله ، فقال : كنت في بستان ، فأكلت مع إخواني وكنت مولعاً ؛ أي : حريصاً بضرب العود والطنبور ، فقمت في جوف الليل والعود بيدي وطائر فوق رأسي يصيح على شجرة ، فسمعت الطير يقول : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد : 16) ، الآية.
فقلت : بلى ، وكسرت العود ، فكان هذا أول زهدي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقد ورد في التوراة أنه تعالى قال : "يا عبدي أما تستحي مني إذ يأتيك كتاب من بعض أخوانك ، وأنت في الطريق تمشي ، فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً ، حتى لا يفوتك منه شيء.
وهذا كتابي أنزلته إليك انظره كم فصلت لك فيه من القول ، وكم كررت فيه عليك لتتأمل طوله وعرضه ، ثم أنت معرض عنه أو كنت أهون عليك من بعض إخوانك.
يا عبدي يعقد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك ، وتصغي إلى حديثه بكل قلبك ، فإن تكلم متكلم ، أو شغلك شاغل عن حديثه ، أو مال إليه أن كف وها أنا مقبل عليك ، ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني ، أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك".
كذا في "الإحياء".
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ} .
{وَقَالُوا} ؛ أي : المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن.
{قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} جمع كنان ، وهو الغطاء الذي يكنّ فيه الشيء ؛ أي : يحفظ ويستر ؛ أي : في أغطية متكاثفة.
{مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} ؛ أي : تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه وتورده علينا ، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وحذف متعلق حرف الجر أيضاً شبهوا قلوبهم بالشيء المحوي المحاط بالغطاء المحيط له ، بحيث لا يصيبه شيء من حيث تباعدها عن إدراك الحق واعتقاده.
قال سعدي المفتي : ورد هنا كلمة في.
وفي الكهف على ؛ لأن القصد هنا إلى المبالغة في عدم القبول.
والأكنة إذا احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف لا يمكن أن يصل إليها شيء ، وليست تلك المبالغة في على ، والسياق في الكهف للعظمة ، فيناسبه أداة الاستعلاء.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى} ؛ أي : صمم.
قال في "القاموس" : الوقر : ثقل الأذن ، أو ذهاب السمع كله شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث أنها تمج الحق ، ولا تميل إلى استماعه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/173)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى} : ما ينفعنا كلامك قالوه حقاً ، وإن قالوا على سبيل الاستهانة والاستهزاء ؛ لأن قلوبهم في أكنة حب الدنيا وزينتها مقفولة
227
بقفل الشهوات والأوصاف البشرية ، ولو قالوا ذلك على بصيرة لكان ذلك منهم توحيداً ، فتعرضوا للمقت لما فقدوا من صدق القلب.
{وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} ستر عظيم وغطاء غليظ يمنعنا عن التواصل والتوافق.
ومن للدلالة عن أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة المعبر عنها بالبين ، ولم يبق ثمة فراغ أصلاً ، فيكون حجاباً قوياً عريضاً مانعاً من التواصل بخلاف ما لو قيل : بيننا وبينك حجاب ، فإنه يدل على مجرد حصول الحجاب في المسافة المتوسطة بينهم وبينه من غير دلالة على ابتدائه من الطرفين ، فيكون حجاباً في الجملة لا كما ذكر.
شبهوا حال أنفسهم مع رسول الله عليه السلام بحال شيئين بينهما حجاب عظيم يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ، ويراه ويوافقه ، وإنما اقتصروا على ذكر هذه الأعضاء الثلاثة ؛ لأن القلب محل المعرفة والسمع والبصر أقوى ما يتوسل به إلى تحصيل المعارف ، فإذا كانت هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقوى ما يكون من الحجاب نعوذ بالله تعالى.
قال بعضهم : قلوبهم في حجاب من دعوة الحق وأسماعهم في صمم من نداء الحق ، وهواتفه وجعل بينهم وبين الحق حجاب من الوحشة والإبانة ، ولذا وقعوا في الإنكار ومنعوا من رؤية الآثار :
در جشم اين سياه دلان صبح كاذبست
در روشنى اكريد بيضا شود كسى
{فَاعْمَلْ} على دينك.
{إِنَّنَا عَـامِلُونَ} على ديننا.
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} ؛ أي : ما إلهكم إلا إله واحد لا غيره ، وهذا تلقين للجواب عما ذكره المشركون ؛ أي : لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب ، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبىء عنه قولكم ، فاعمل إننا عاملون ، بل إنما أنا بشر وآدمي مثلكم مأمور بما أمرتم به حيث أخبرنا جميعاً بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم ، فإن الخطاب في إلهكم محكيّ منتظم للكل ، لا أنه خطاب منه عليه السلام للكفرة كما في مثلكم.
وفي الآية إشارة إلى أن البشر كلهم متساوون في البشرية مسدود دونهم باب المعرفة ؛ أي : معرفة الله بالوحدانية بالآلات البشرية من العقل وغيره ، وإنما فتح هذا الباب على قلوب الأنبياء بالوحي ، وعلى قلوب الأولياء بالشواهد والكشوف وعلى قلوب المؤمنين بالإلهام والشرح كما قال تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22) ، كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الحسن رضي الله عنه علمه الله التواضع بقوله : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} .
ولهذا كان يعود المريض ويشيع الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف : (عجب كاريست كه كاه مركب وى براق بهشتى وكاه مركب خركى آرى مركب مختلف بود اما درهر دوحالت راكب يك صفت ويك همت ويك ارادت بود اكر بر براق بود درسرش نخوت نبوت واكر بر حمار بود برخسار عز نبوتش غبار مذلت نبود) :
خلق خوش عود بود انجمن مردم را
جون زنان خود مفكن برسر مجمر دامن
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} : من جملة المقول.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها من إيحاء الوحدانية ، فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد والإخلاص في الأعمال ، وعدّي فعل
228
الاستقامة بإلى لما فيه من معنى الاستواء ؛ أي : فاستووا إليه بذلك.
والاستقامة : الاستمرار على جهة واحدة.
{وَاسْتَغْفِرُوهُ} مما كنتم عليه من سوء العقيدة والعمل.
وفي "المقاصد الحسنة" قال صلى الله عليه وسلّم "استقيموا ولن تحصوا" ؛ أي : لن تستطيعوا أن تستقيموا في كل شيء حتى لا تميلوا.
وقال : "شيبتني هود وأخواتها".
لما فيها من قوله : فاستقم.
قال بعضهم : إذا وقع العلم والمعرفة ، فاستغفروه من علمكم وإدراككم به ومعاملتكم له ووجودكم في وجوده ، فإنه تعالى أعظم من إدراك الخليقة وتلاصق الحدثان بجناب جلاله.
وقال بعضهم : الاستقامة مساواة الأحوال مع الأفعال والأقوال ، وهو أن يخالف الظاهر والباطن ، والباطن الظاهر ، فإذا استقمت استقامت أحوالك ، واستغفر من رؤية استقامتك.
واعلم أن الله تعالى هو الذي قومك لا أنك استقمت.
{وَوَيْلٌ} : (وسختى عذاب) {لِّلْمُشْرِكِينَ} : ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد.
(8/174)
{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} : لا يؤمنون بوجوبها ولا يؤتونها.
{وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ} أعاد الضمير تأكيداً.
{كَـافِرُونَ} ؛ أي : بالبعث بعد الموت والثوات والعقاب.
(وبدان جهتى نفقه نمى كنند كه مكافات آن سراريرا باور ندارند) ، وهو عطف على لا يؤتون داخل في خير الصلة.
واختلافهما بالفعلية والاسمية لما أن عدم إيتائها متجدد والكفر أمر مستمر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قالت الشافعية : في تهديد المشرك على شركه وعدم إيتائه الزكاة دليل على أن المشرك حال شركه مخاطب بإيتاء الزكاة إذ لولاه لما استحق بعدم إيتائها الوعيد المذكور ، وإذا كان مخاطباً بإيتاء الزكاة يكون مخاطباً بسائر فروع الإسلام ، إذ لا قائل بالفصل ، فيعذب على ترك الكل ، وإليه ذهب مشايخنا العراقيون.
وذهب غيرهم إلى أنهم مخاطبون باعتقاد وجوبها لا بإيقاعها ، فيعاقبون على تركهم اعتقاد الوجوب على ما فصل في الأصول.
ومن أصحابنا من قال : إنهم مخاطبون بالفروع بشرط تقديم الإسلام كما أن المسلم مخاطب بالصلاة بشرط تقديم الوضوء.
وقال المولى أبو السعود في "تفسيره" : وصف الله المشركين بأنهم لا يؤتون الزكاة لزيادة التحذير والتخويف من منع الزكاة حيث جعل من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة حيث قيل : وهم بالآخرة هم كافرون.
يقال : الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك.
قال ابن السائب : كان المشركون يحجون ويعتمرون ولا يزكون أموالهم ، وهم كافرون.
قال الكاشفي : (وجه تخصيص منع زكات از سائر اوصاف مشركان آنست كه مال محبوب انسانست وبذل او نفس را سخت تر باشد از اعمال ديكر بس درايراد اين صفت اشارتيست بيخل ايشان وعدم شفقت بر خلق ويخل اعظم رذائل واكبر ذمايم است وكفته اند توانكرى اورا سخا نبود جون تنست كه جان ندارد ويا جون درختى كه برندهد).
قال الشيخ سعدي قدس سره :
زر ونعمت اكنون بده كان تست
كه بعد ازتو بيرون زفرمان تست
كسى كوى دولت زدنيا برد
كه باخود نصيبي بعقبى برد
مسلم كسى را بود روزه داشت
كه در مانده را دهد نان جاشت
وكرنه جه حاجت كه زحمت برى
زخود باز كيرى وهم خود خورى
229
نه بخشنده بر حال بروانه شمع
نكه كن كه جون سوخت دربيش جمع
ببخش اى بسر كآدمى زاده صيد
باحسان توان كرد ووحشى بقيد
كرامت جوا نمردى ونان دهيست
مقالات بيهوده طبل تهيست
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله : لا يقولون لا إله إلا الله ، فإنها زكاة الأنفس.
والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد ، فإنما المشركون نجس.
قال في "كشف الأسرار" : (ذكر زكات درقر آن بردو وجهست يا درنماز بيوسته يا منفرد كفته آنجه درنماز بيوسته جنانست كه).
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه وَالَّذِينَ} (المائدة : 55).
هذا وأشباهه (مراد باين زكات مالست كه الله فرض كرده برخداوندان مال وآنجه منفرد كفته جنانست كه وحناناً من لدنا وزكاة) : خيراً منه زكاة : وما أوتيتم من زكاة : قد أفلح من تزكى : (مراد باين باكى است وزيادتى وديندارى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} .
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ؛ أي : غير ممنون عليهم على طريق الحذف والإيصال.
والمعنى : لا يمن به عليهم فيتكدر بالمنة ، يقال : من عليه مناً أنعم ومنة أمتن.
والمنة في الأصل : النعمة الثقيلة التي لا يطلب معطيها أجراً ممن أعطاها إليه ، ثم استعملت بمعنى الامتنان ؛ أي : عد النعمة.
وبالفارسية : (منت نهادن) ، وجميع ما يعطيه الله عباده في الآخرة تفضل منه وكرم ، وليس شيء منه بواجب عند أهل السنة والجماعة ، وما كان بطريق التفضل ، وإن صح الامتنان عليه ، لكنه تعالى لا يفعله فضلاً منه وكرماً ، أو غير ممنون بمعنى لا ينقطع أجرهم وثوابهم في الآخرة ، بل دائم أبدي من مننت الحبل قطعته ، أو غير محسوب كما قال تعالى : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة : 212).
قال في "القاموس" : و{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} محسوب أو مقطوع.
وفي الآية إشارة إلى أن من آمن ، ولم يعمل صالحاً لم يؤجر إلا ممنوناً ؛ أي : ناقصاً ، وهو أجر الإيمان ونقصانه من ترك العمل الصالح ، فيدخل النار ، ويخرج منها بأجر الإيمان ، ويدخل الجنة ، ولكنه لا يصل إلى الدرجات العالية المنوطة بالأعمال البدنية مثل الصلاة والصوم والحج ونحوها.
(8/175)
وفي "كشف الأسرار" : سدى رحمه الله : (كفت اين آيت درشان بيماران وزمنان وبيران ضعيف فرو آمد ايشان كه از بيمارى وضعيفى وعاجزى از طاعت وعبادت الله باز مانند وباداى حق وى نرسند وبآن سبب اندو هكين وغمكين باشند رب العالمين ايشانرا دران بيمارى هم آن ثواب ميد هدكه درحال صحت بطاعت وعبادت ميداد مصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم كفت).
"إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض ، قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان "طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليّ".
يعني : (دران وقت كه خوش بودتاكه كزارم وى رايا بيش خودش آرم).
وفي رواية أخرى قال صلى الله تعالى عليه وسلم : "ما من أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحافظين الذين يحفظانه ، فقال : اكتبا لعبدي في كل يوم وليلة مثل ما كان يفعل من الخير ما دام في وثاقي".
يعني : (دربند من است عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كفت يا رسول خدانشسته بوديم كه رسول برآسمان نكريست وتبسم كرد كفتم يا رسول الله تبسم از جه كردى وجه حال برتو مكشوف كشت كفت عجب آيدمرا از بنده مؤمن كه ازبيمارى بنالد وجزع كند اكر بدانستى كه اورا دران بيمارى جه
230
كرامتست وبالله جه قربت همه عمر خود دران بيمارى خواستى اين ساعت كه براسمان مى نكرستم دو فرشته فرود آمدند وبنده كه بيوسته در محراب عبادت بود اورا طلب كردند دران محراب اورا نيافتند بيمار ديدند آن بنده ازعبادت باز ماند فرشتكان بحضرت عزت باز كشتند كفتند بار خدايا فلان بنده مؤمن هر شبانروزى حسنات وطاعات وى مينو شتيم اكنون اورا در حبس بيمارى كردى هيج عمل وطاعت وى نمى نويسم از حق جل جلاله فرمان آمدكه) "اكتبوا لعبدي العمل الذي كان يعمله في يومه وليلته ولا تنقصوا منه شيئاً فعليّ أجر ما حبسته وله أجر ما كان صحيحاً".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
يعني : (برمن است اجر حبس وى ومرا وراست اجر آنكه صحيح بود وتن درست).
قال في "عقد الدرر" إذا علم الله صدق نية عبده في الحج والجهاد والصدقات وغيرها من الطاعات وعجزعن ذلك إعطاء أجره ، وإن لم يعمل ذلك العمل كما روي : "إن العبد إذا نام بنية الصلاة من الليل ، فلم ينتبه كتب له أجر ذلك وكان عليه نور صدقه".
وهكذا روي : "إذا مرض العبد ، أو سافر وعجز عما كان يعمل في حال الصحة والإقامة إن الله تعالى يقول للملائكة : اكتبوا لعبدي مثل ما كان يعمل ، وهو صحيح مقيم".
وقد دل على ذلك القرآن كما قال تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} .
إلى قوله : {أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} () ، فعلى العبد أن لا يقطع رجاءه عن الله ويرضى بقضائه.
وفي المثنوي :
ناخوشى او خوش بود درجان من
جان فداى يار دل رنجان من
عاشقم بررنج خويش ودرد خويش
بهر خشنودى شاه فرد خويش
{قُلْ أَاـاِنَّكُمْ} : (آياشما).
{لَتَكْفُرُونَ} إنكار وتشنيع لكفرهم وأن واللام لتأكيد الإنكار.
{بِالَّذِى} ؛ أي : بالعظيم الشأن الذي {خَلَقَ الارْضَ} قدر وجودها ؛ أي : حكم بأنها ستوجد {فِى يَوْمَيْنِ} في مقدار يومين من أيام الآخرة ، ويقال : من أيام الدنيا كما في "تفسير أبي الليث" : (واكر خواستى بيك لحظه بيافريدى لكن خواست كه باخلق نمايدكه سكونت وآهستكى به ازشتاب وعجله وبندكانرا نسبتى باشد بسكونت كار كردن وبراه آهستكى رفتن).
وفي "عين المعاني" تعليماً للتأني وإحكاماً لدفع الشبهات عن توهن المصنوعات تحقيقاً لاعتبار الملائكة عند الإحضار وللعباد عند الإخبار وإن أمكن الإيجاد في الحال بلا إمهال.
انتهى.
زود درجاه ندامت سر نكون خواهد فتاد
هركه باى خود كذارد بى تأمل برزمين
(إمام أبو الليث آورده كه روز يكشنبه بيافريد وروز دوشنبه بكسترانيد).
وسيجيء تحقيقه ويجوز أن يراد خلق الأرض في يومين ؛ أي : في نوبتين على أن ما يوجد في كل نوبة يوجد بأسرع ما يكون ، فيكون اليومان مجازاً عن دفعتين على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
وقال سعدي المفتي : الظاهر أن اليوم على هذا التفسير بمعنى مطلق الوقت.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وجه حمل اليومين على المعنيين المذكورين أن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض وتسوية السماوات وإبداع نيراتها وترتيب حركاتها ، يعني أن اليوم عبارة عن زمان كون الشمس
231
فوق الأرض ، ولا يتصور ذلك قبل خلق الأرض والسماء والكواكب ، فكيف يتصور خلق الأرض في يومين.
{وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا} عطف على تكفرون داخل في حكم الإنكار والتوبيخ ، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع ، لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد ؛ أي : وتجعلون له أنداداً بمعنى تصفون له شركاء وأشباهاً وأمثالاً من الآلهة ، والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد فضلاً عن الأنداد ، وأمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأن ينكر عليهم أمرين.
(8/176)
الأول : كفرهم بالله بإلحادهم في ذاته وصفاته كالتجسم ، واتخاذ الصاحبة والولد والقول بأنه لا يقدر على إحياء الموتى ، وأنه لا يبعث البشر رسلاً.
والثاني : إثبات الشركاء والأنداد له تعالى ، فالكفر المذكور أولاً مغاير لإثبات الأنداد له ضرورة عطف أحدهما على الآخر.
{ذَالِكَ} العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر من خلق الأرض في يومين ، وهو مبتدأ خبره قوله : {رَبُّ الْعَـالَمِينَ} ؛ أي : خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة ، فكيف يتصور أن يكون أخس مخلوقاته ندّاً له تعالى.
{قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا ذَالِكَ رَبُّ الْعَـالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ} .
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطف على وخلق داخل في حكم الصلة.
والجعل إبداعي والمراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل.
والمراد بالرواسي : الجبال الثابتة المستقرة.
وبالفارسية : (كوههاى بلنديا يدار).
يقال : رسا الشيء يرسو ثبت وأرساه غيره ومنه المرساة وهو أنجر السفينة وقفت على الأنجر).
بالفارسية : (لنكر).
{مِن فَوْقِهَا} : متعلق بجعل ، أو بمضمر هو صفة لرواسي ؛ أي : كائنة من فوقها مرتفعة عليها لتكون منافعها ظاهرة للطلاب ، وليظهر للناظر ما فيها من وجوه الاستدلال ، وإلا فالجبال التي أثبتت فوق الأرض لا تمنعها عن الميلان ، ولو كانت تحتها كأساطين الغرف ، أو مركوزة فيها كالمسامير لمنعتها عنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما خلق الله من شيء خلق القلم.
وقال له : اكتب.
قال : يا رب ما أكتب؟.
قال : اكتب القدر ، فجرى بما يكون من ذلك إلى يوم القيامة.
ثم خلق النون ، ثم رفع بخار الماء ، ففتق منه السماوات ، ثم بسط الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ؛ أي : مالت فأوتدت بالجبال ؛ أي : أحكمت وأثبتت.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : لما خلق الله الأرض على الماء تحركت ومالت ، فخلق الله من الأبخرة الغليظة الكثيفة الصاعدة من الأرض بسبب هيجانها الجبال ، فسكن ميل الأرض ، وذهبت تلك الحركة التي لا يكون معها استقرار فطوّق الأرض بجبل محيط بها ، وهو من صخرة خضراء وطوق الجبل بحية عظيمة رأسها بذنبها رأيت من الأبدال من صعد جبل قاف ، فسألته عن طوله علواً ، فقال : صليت الضحى في أسفله والعصر في أعلاه يعني : بخطوة الأبدال ، وهي من المشرق إلى المغرب.
يقول الفقير : لعل هذا من قبيل البسط في السير الملكوتي ، وإلا فما بين السماء والأرض كما بين المشرق والمغرب ، وهي خمسمائة عام على ما قالوا.
وعن وهب : أن ذا القرنين أتى على جبل قاف فرأى حوله جبالاً صغاراً ، فقال : ما أنت؟ قال : أنا قاف.
قال : فما هذه الجبال حولك؟ قال : هي عروقي ، وليست مدينة إلا وفيها عرق منها ، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني ، فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك المدينة.
قال : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله ، فقال : إن شأن ربنا لعظيم ، وإن من ورائي مسيرة خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضاً لولا ذلك لأحرقت من نار جهنم ، والعياذ بالله منها.
وذكر أهل الحكمة أن مجموع ما عرف في الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وسبعون جبلاً منها ما طوله عشرون فرسخاً.
ومنها : مائة فرسخ إلى ألف فرسخ.
وفي "زهرة الرياض" : أول جبل
232
نصب على وجه الأرض أبو قيس وعدد الجبال ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول.
وجعل الله في الجبال خصائص منها : أن تجر البرودة إلى نفسها ، وجعلها خزائن المياه والثلوج تدفعها بأمر الخالق إلى الخلق بالمقادير لكل أرض قدر معلوم على حسب استعدادها.
ومنها : خلق الأودية لمنافع العباد وأودع فيها أنواع المعادن من الذهب والفضة والحديد ، وأنواع الجواهر ، وهي خزانة الله وحصنه ، ودليل على قدرته وكمال حكمته ، وهي سجن الوحوش والسباع ليلاً وشرف الله الجبال بعرض الأمانة عليها.
وفيها التسبيح والخوف والخشية وجعلها كراسي أنبيائه عليهم السلام كأحد لنبينا والطور لموسى وسرنديب لآدم والجودي لنوح صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين.
وكفى شرفاً بذلك وأنها بمنزلة الرجال في الأكوان.
يقال للرجل الكامل : جبل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/177)
رأى بعض الأولياء مناماً في الليلة التي هلك فيها رجال بغداد على يد هولاكو خان أن جبال العراقين ذهبت من وجه الأرض بهبوب الرياح المظلمة على بغداد ، فوصل الخبر أن هولاكو خان قد دخل مدينة بغداد ، وقتل من الرجال الأولياء والعلماء والصلحاء والأمراء ، وسائر الناس ما لا يحصى عدداً ، ولذا قال بعضهم : رواسي الجبال أوتاد الأرض في الصورة والأولياء ، أوتاد الأرض في الحقيقة ، فكما أن الجبال مشرفة على سائر الأماكن ، كذلك الأولياء مشرفون على سائر الخلائق دل عليه قوله : {مِن فَوْقِهَا} يعني : من فوق العامة ، فكما أن جبل قاف مشرف على كل جبل كذلك القطب الغوث الأعظم مشرف على كل ولي ، وبه قوام الأولياء والرواسي دونه.
ومن خواص الأولياء من يقال لهم الأوتاد ، وهم أربعة : واحد يحفظ المشرق بإذن الله تعالى ، ويقال له : عبد الحي ، وواحد يحفظ المغرب ، ويقال له : عبد العليم.
وواحد يحفظ الشمال ، ويقال له : عبد المريد.
وواحد يحفظ الجنوب ، ويقال له : عبد القادر.
وكان الشافعي رحمه الله في زمانه من الأوتاد الأربعة على ما نصّ عليه الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات".
وببركات الأولياء يأتي المطر من السماء ويخرج النبات من الأرض وبدعائهم يندفع البلاء عن الخلق ، وأن حياتهم ومماتهم سواء ، فإنهم ماتوا عن أوصاف وجودهم بالاختيار قبل الموت بالاضطرار فهم أحياء على كل حال ولذا قيل :
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
{وَبَـارَكَ فِيهَا} ؛ أي : قدر بأن يكثر خير الأرض بأن يخلق أنواع الحيوان التي من جملتها الإنسان وأصناف النبات التي منها معايشهم ببذر وغيره.
{وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} : القوت من الرزق ما يمسك الرمق ويقوم به بدن الإنسان ، يقال : قاته يقوته إذا أطعمه قوته ، والمقيت : المقتدر الذي يعطي كل أحد قوته.
ومن "بلاغات الزمخشري" : إذا حصلتك ياقوت هان عليّ الدر والياقوت.
والمعنى : حكم تعالى بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة.
فالمراد : بأقوات الأرض : أرزاق سكانها بمعنى قدّر أقوات أهلها على حذف المضاف ، بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به.
(ويا براى اهل هر موضعى از زمين روزى مقدر كرد جون كندم وجو وبرنج وخرما وكوشت وامثال آن هريك ازينها غالب اقوات بلداست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال بعض العارفين : كل خلق لهم عنده تعالى رزق
233
مخصوص ، فرزق الروحانيين المشاهدة ورزق الربانيين المكاشفة ورزق الصادقين المعرفة ورزق العارفين التوحيد ورزق الأرواح الروح ورزق الأشباح الأكل والشرب.
وهذه الأقوات تظهر لهم من الحق في هذه الأرض التي خلقت معبداً للمطيعين ومرقداً للغافلين :
جلوة تقدير درزندان كل دارد مراد
ورنه بالا تربود از نه فلك جولان من
{فِى أَرْبَعَةِ} أيام من أيام الآخرة ، أو من أيام الدنيا كما سبق ، وهو متعلق بحصول الأمور المذكورة ، لا بتقديرها ؛ أي : قدر حصولها في يومين يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء على ما سيأتي.
وإنما قيل : في أربعة أيام ؛ أي : تتمة أربعة أيام بالفذلكة ، ومجموع العدد ؛ لأنه باليومين السابقين يكون أربعة أيام ؛ كأنه قيل : نصب الراسيات ، وتقدير الأقوات وتكثير الخيرات في يومين آخرين بعد خلق الأرض في يومين ، وإنما لم يحمل الكلام على ظاهره ، بأن يجعل خلق الأرض في يومين ، وما فيها في أربعة أيام ؛ لأنه قد ثبت أن خلق السماوات في يومين ، فيلزم أن يكون خلق المجموع في ثمانية أيام ، وليس كذلك ؛ فإنه في ستة أيام على ما تكرر ذكره في القرآن.
وذكر في "البرهان" : إنما لم يذكر اليومين على الانفراد لدقيقة لا يهتدي إليها كل أحد ، وهي أن قوله : {خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} صلة الذي {وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا} عطف على تكفرون.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطف على قوله : {خَلَقَ الارْضَ} .
وهذا ممتنع في الإعراب لا يجوز في الكلام ، وهو في الشعر من أقبح الضرورات لا يجوز أن يقول : جاءني الذي يكتب ، وجلس ويقرأ ؛ لأنه لا يحال بين صلة الموصول ، وما يعطف عليه بأجنبي من الصلة ، فإذا امتنع هذا لم يكن بد من إضمار فعل يصح الكلام به ومعه ، فتضمن خلق الأرض بعد قوله ذلك رب العالمين خلق الأرض ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ليقع هذا كله في أربعة أيام.
انتهى.
(8/178)
وقال غيره : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} : عطف على خلق ، وحديث لزوم الفصل بجملتين خارجتين عن خيز الصلة مدفوع بأن الأولى متحدة بقوله تعالى : {تَكْفُرُونِ} ، فهو بمنزلة الإعادة له ، والثانية : اعتراضية مقررة لمضمون الكلام بمنزلة التأكيد ، فالفصل بهما كلا فصل ، فالوجه في الجميع دون الانفراد ما سبق.
{سَوَآءً} مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام ؛ أي : استوت تلك الأيام سواء ؛ أي : استواء يعني في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
{لِّلسَّآاـاِلِينَ} متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر في الأربعة للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها القائلين في كم خلقت الأرض ، وما فيها فالسؤال استفتائي ، واللام للبيان أو بقدّر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال في "بحر العلوم" : وهو الظاهر ؛ أي : قدر فيها أقواتها لأجل السائلين ؛ أي : الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين فإن أهل الأرض كلهم طالبون للقوت محتاجون إليه ، فالسؤال استعطائي واللام للأجل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا رديفه يقول : "خلق الله الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ، ولمن لم يسأل وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ومن سأل فهو جهل".
وهذا لا يزيد الرزق بالسؤال ولا ينقص ، وفيه تأديب لمن لم يرض بقسمته :
كشاد عقده روزى بدست تقديراست
مكن زرزق شكايت از ين وآن زنهار
234
وفي الحديث : "من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس كان حقاً على الله أن يفتح له رزق سنة من حلال".
فالعمدة الصبر وترك الشكاية والتوكل والاشتغال بالذكر.
قال أنس رضي الله عنه : خرجت مع النبي عليه السلام إلى شعب في المدينة ومعي ماء لطهوره ، فدخل النبي عليه السلام وادياً ، ثم رفع رأسه وأومأ إليّ بيده أن أقبل فأتيته ، فدخلت ، فإذا بطير على شجرة ، وهو يضرب بمنقاره ، فقال عليه السلام : "هل تدري ما يقول".
قلت : لا.
قال : "يقول اللهم أنت العدل الذي لا تجور حجبت عني بصري ، وقد جعت فأطعمني" فأقبلت جرادة ، فدخلت بين منقاره ، ثم جعل يضرب منقاره بمنقاره ، فقال عليه السلام : "أتدري ما يقول" قلت : لا فقال : "من توكل على الله كفاه ومن ذكره لا ينساه" فقال عليه السلام : "يا أنس من ذا الذي يهتم للرزق بعد ذلك اليوم الرزق أشد طلباً لصاحبه من صاحبه له".
قال الصائب :
رزق اكربر آدمى عاشق نمى باشد جرا
از زمين كندم كريبان جاك مى آيدجرا
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} شروع في بيان كيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير ، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وأهلها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين ، وترتب مبادي معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان.
وبيان ثم يجيء بعد تمام الآيات ، والاستواء ضد الاعوجاج من قولهم استوى العود إذا اعتدل واستقام حمل في هذا المقام على معنى القصد والتوجه ؛ لأن حقيقته من صفات الأجسام وخواصها ، والله تعالى متعال عنها.
والمعنى : ثم قصد نحو السماء بإرادته ومشيئته قصداً سوياً وتوجه إليه توجهاً لا يلوي على غيره ؛ أي : من غير إرادة خلق شيء آخر يضاهي خلقها ، يقال : استوى إلى مكان كذا كالسهم المرسل إذا توجه إليه توجهاً مستوياً من غير أن يلوي على غيره.
وفي ثم إظهار كمال العناية بإبداع إذا توجه إليه توجهاً مستوياً من غير أن يلوي على غيره.
ومن ثم إظهار كمال العناية بإبداع العلويات.
{وَهِىَ دُخَانٌ} : الواو للحال ، والضمير إلى السماء ؛ لأنها من المؤنثات السماعية والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع في الهواء مع الحرارة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "المفردات" : الدخان العثان المستصحب للهب والبخار أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجعة من سطوح المياه.
والمعنى : والحال أن السماء دخان ؛ أي : أمر ظلماني يعد كالدخان ، وهو المرتفع من النار ، فهو من قبيل التشبيه البليغ وإطلاق السماء على الدخان باعتبار المآل.
فال الراغب قوله تعالى : {وَهِىَ دُخَانٌ} ؛ أي : هي مثل الدخان إشارة إلى أنها لا تماسك بها انتهى.
عبر بالدخان عن مادة السماء يعني : الهيولى والصورة الجسمية ، أو عن الأجزاء المتصغرة التي ركبت هي منها ، يعني : الأجزاء التي لا تتجزأ وإظلامها إبهامها قبل حلول المنور كما في "الحواشي السعدية" ، ولما كانت أول حدوثها مظلمة صحت تسميتها بالدخان تشبيهاً لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور كالدخان ، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه كما في "حواشي ابن الشيخ".
وقال بعضهم : وهي دخان ؛ أي : دخان مرتفع من الماء يعني : السماء بخار الماء كهيئة الدخان.
وبالفارسية : (وحال آنكه دخان بود يعني بخار آب بهيآت دخان).
كما في "تفسير الكاشفي".
(8/179)
يروي : أن أول ما خلق الله العرش على الماء ، والماء ذاب من جوهرة خضراء ، أو بيضاء فإذا بها ثم ألقى فيها ناراً ، فصار الماء يقذف بالغثاء ، فخلق الأرض من الغثاء ، ثم استوى إلى الدخان الذي صار من الماء ،
235
فسمكه سماء ثم بسط الأرض ، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء ، وبسط الأرض وإرساء الجبال وتقدير الأرزاق وخلق الأشجار والدواب والأنهار بعد خلق السماء لذلك قال الله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30).
هذا جواب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لنافع بن الأزرق الحروري :
كفى را منبسط سازدكه اين فرشيست بس لايق
بخاريرا برافرازدكه اين سقفيست بس زيبا
ازان سقف معلق حسن تصويرش بود ظاهر
بدين فرش مطبق لطف تدبيرش بودبيدا
{فَقَالَ لَهَا} : أي للسماء ، {وَلِلارْضِ} التي قدر وجودها ووجود ما فيها.
{ائْتِيَا} ؛ أي : كونا واحدثا على وجه معين ، وفي وقت مقدر لكل منكما هو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيل بعد تقدير أمرهما من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما في قوله : كن بأن شبه تأثير قدرته فيهما وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع ، فيتمثل أمره ، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} مصدران واقعان في موقع الحال.
والطوع : الانقياد ويضاده الكره ؛ أي : حال كونكما طائعتين منقادتين أو كارهتين ؛ أي : شئتما ذلك أو أبيتما ، وهو تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما ، واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما ؛ لأنهما من أوصاف العقلاء ذوي الإرادة والاختيار والأرض والسماء من قبيل الجمادات العديمة الإرادة والاختيار.
{قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} ؛ أي : منقادين ، وهو تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية ، وحصولهما كما أمرتا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جارياً على مقتضى الحكمة البالغة ، فإن الطوع منبىء عن ذلك ، والكره موهم لخلافه.
فإن قلت : إنما قيل : طائعين على وزن جمع العقلاء الذكور لا طائعتين حملاً على اللفظ ، أو طائعات حملاً على المعنى ؛ لأنها سماوات وأرضون.
قلت : باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ، فلما وصفتا بأوصاف العقلاء عوملتا معاملة العقلاء وجمعتا لتعدد مدلولهما ونظيره ساجدين في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه بالقدرة الكاملة أنطق السماء والأرض المعدومة بعد أن أسمعها خطاب ائتيا طوعاً أو كرهاً ، لتجيبا وقالتا : أتينا طائعين ، وإنما ذكرهما بلفظ التأنيث في البداية ؛ لأنهما كانتا معدومتين مؤنثتين ، وإنما ذكرهما في النهاية بلفظ التذكير ؛ لأنه أحياهما وأعقلهما ، وهما في العدم ، فأجابا بقولهما : أتينا طائعين جواب العقلاء.
وفي حديث : "أن موسى عليه السلام قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك ما كانت صانعاً بهما.
قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما.
قال : يا رب ، وأين تلك الدابة؟.
قال : في مرج من مروجي.
قال : وأين ذلك المرج؟ قال : في علم من علمي".
قال بعضهم : أجاب ونطق من الأرض أولاً موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله تعالى لها حرمة على سائر الأرض حتى كانت كعبة
236
الإسلام.
وقبلة الأنام.
ويقال : أجابه من الأرض أولاً الأردن من بلاد الشام ، فسمي لسان الأرض ، وأما أول بلدة بنيت على وجه الأرض ، فهي بلخ بخراسان بناها كيومرث ، ثم بنى الكوفة ابنه هوسنك وكيومرث من أولاد مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث.
كان عمره سبعمائة سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أصل طينة النبي عليه السلام من سرة الأرض بمكة ، فهذا يشعر بأنه ما أجاب من الأرض إلا ذرة المصطفى ، وعنصر طينة المجتبى عليه السلام ، فلهذا دحيت الأرض من تحت الكعبة ، وكانت أم القرى ، فهو عليه السلام أصل الكل في التكوين روحاً وجسداً.
والكائنات بأسرها تبع له ، ولهذا يقال : النبي الأمي ؛ لأنه أم الكل وأسه.
فإن قلت : ورد في الخبر الصحيح : "تربة كل شخص مدفنه" ، فكان يقتضي أن يكون مدفنه عليه السلام بمكة حيث كانت تربته منها.
(8/180)
قلت : لما تموج الماء رمى ذلك العنصر الشريف والزبد اللطيف ، والجوهر المنيف ، فوقع جوهره عليه السلام إلى ما يحاذي تربته بالمدينة المنورة ، وفي تاريخ مكة أن عنصره الشريف كان في محله يضيء إلى وقت الطوفان ، فرماه الموج في الطوفان إلى محل قبره الشريف لحكمة إلهية وغيرة ربانية يعرفها أهل الله تعالى ، ولذا لا خلاف بين علماء الأمة في أن ذلك المشهد الأعظم ، والمرقد الأكرم أفضل من جميع الأكوان من العرش والجنان ، فذهب الإمام مالك واستشهد بذلك.
وقال : لا أعرف أكبر فضل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من أنهما خلقا من طينة رسول الله عليه السلام لقرب قبرهما من حضرة الروضة المقدسة المفضلة على الأكوان بأسرها.
وكان عليه السلام مكياً مدنياً وحنينه إلى مكة لتلك المناسبة وتربته ، وبالمدينة الحكمة.
قال الإمام السهروردي رحمه الله : لما قبض عزرائيل عليه السلام قبضة الأرض ، وكان إبليس قد وطىء الأرض بقدميه ، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعضها موضع أقدامه ، فخلقت النفوس الأمارة من مماس قدم إبليس ، فصارت النفوس الأمارة مأوى الشرور ، وبعض الأرض لم يصل إليها قدم إبليس ، فمن تلك التربة أصل طينة الأنبياء والأولياء عليهم السلام ، وكانت طينة رسول الله موضع نظر الله من قبضة عزرائيل لم تمسها قدم إبليس ، فلم يصبه حظ جهل النفس الأمارة ، بل صار منزوع الجهل موفراً حظه من العلم فبعثه الله بالعلم والهدى.
وانتقل من قلبه الشريف إلى القلوب الشريفة ، ومن نفسه القدسية المطمئنة ، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة ، فكل من كان أقرب مناسبة في ذلك الأصل كان أوفر حظاً من القبول والتسليم والكمال الذاتي ، ثم بعض من كان أقرب مناسبة إلى النبي عليه السلام في الطهارة الذاتية ، وأوفر حظاً من ميراثه اللدني قد أبعد في أقاصي الدنيا مسكناً ومدفناً ، وذلك لا ينافي قربه المعنوي ، فإن إبعاده في الأرض كإبعاد النبي عليه السلام من مكة إلى المدينة بحسب المصلحة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
كرجه دوريم بياد تو قدح مينو شيم
بعد منزل نبود در سفر روحانى
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ * فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَحِفْظًا ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} .
{فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ} تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مرتب على تكوينها ، والضمير للسماء على المعنى ، فإنه في معنى الجمع لتعدد مدلوله ، فسبع سماوات حال ، أو هو ؛ أي : الضمير مبهم يفسره سبع سماوات كضمير ربه رجلاً ، فسبع سماوات تمييز.
والمعنى : خلقهن حال كونهن سبع سماوات ، أو من جهة سبع سماوات خلقاً
237
إبداعياً ؛ أي : على طريق الاختراع لا على مثال ، وأتقن أمرهم بأن لا يكون فيهن خلل ونقصان حسبما تقضيه الحكمة.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن سماء القلب سبعة أطوار كما قال تعالى : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح : 14) ، فالطور الأول من القلب يسمى الكركر ، وهو محل الوسوسة.
والثاني : الشغاف ، وهو مثوى المحبة كما قال تعالى : {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (يوسف : 30) ، والسابع : حب القلب ، وهو مورد التجلي ، وموضع الكشوف ، مركز الأسرار ، ومهبط الأنوار ومهبط الأنوار.
{فِى يَوْمَيْنِ} في وقت مقدر بيومين ، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة خلق السماوات يوم الخميس وما فيها من الشمس والقمر والنجوم في يوم الجمعة ، وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما ، فكان خلق الكل في ستة أيام حسبما نص عليه في مواضع من التنزيل.
{وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} : عطف على فقضاهن.
والإيحاء : عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه في الوقت.
قال الراغب : يقال للإبداع أمر ، وقد حمل على ذلك في هذه الآية.
والمعنى : خلق في كل منها ما فيها من الملائكة والنيرات ، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، وأظهر ما أراده كما قال قتادة والسديّ.
أو أوحى ؛ أي : ألقى إلى أهل كل منها أوامره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف ، فمنهم قيام لا يقعدون إلى قيام الساعة ، ومنهم سجود لا يرفعون رؤوسهم أبداً إلى غير ذلك ، فهو بمعناه ومطلق عن القيد المذكور والآمر هو الله والمأمور أهل كل سماء ، وأضيف الأمر إلى نفس السماء للملابسة ؛ لأنه إذا كان مختصاً بالسماء ، فهو أيضاً بواسطة أهلها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/181)
{وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} التفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بالأمر ؛ أي : بكواكب تضيء في الليل كالمصابيح ؛ فإنها ترى كلها متلألئة على السماء الدنيا ؛ كأنها فيها.
بالفارسية : (وبياراستيم آسمان نزديكتر بجراغها يعنى ستاركان كه جوجراغ درخشان باشند).
فالمراد بالمصابيح جميع الكواكب النيرة التي خلق الله في السماوات من الثوابت والسيارات ، وليس كلها في السماء الدنيا ، وهي التي تدنو وتقرب من أهل الأرض ، فإن كل واحد من السيارات السبع في فلك ، والثوابت مركوزة في الفلك الثامن إلا أن كونها مركوزة فيما فوق السماء الدنيا لا ينافي كونها زينة لها ؛ لأنا نرى جميع الكواكب كالسرج الموقدة فيها ، وقيل : إن في كل سماء كواكب تضيء.
وقيل : بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا.
ويقال : زين السماء بأنوار الكروبيين كما زين الأرض بالأنبياء والأولياء.
وزين قلوب العارفين بأنوار المعرفة ، وجعل فيها مصابيح الهداية وضياء التوحيد وزين جوارح المؤمنين بالخدمة وزين الجنة بنور مناجاة العارفين وزهرة خدمة العارفين.
نورى از بيشانى صاحب دلان در يوزه كن
شمع خودرا مى برى دل مرده زين محفل جرا
{وَحِفْظًا} مصدر مؤكد لفعل معطوف على زينا ؛ أي : وحفظنا السماء الدنيا من الآفات ، ومن المسترقة حفظاً ، وهي الشياطين الذين يصعدون السماء لاستراق السمع فيرمون بشهاب صادر من نار الكواكب منفصل عنها ، ولا يرجمون بالكواكب أنفسها لأنها قارة في الفلك على حالها ، وما ذلك إلا كقبس يؤخذ من النار باقية بحالها لا ينتقص منها شيء ، والشهاب شعلة نار ساقطة.
{ذَالِكَ} الذي ذكر بتفاصيله.
{تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} المبالغ في القدرة ، فله بليغ قدرة على كل مقدور ، والمبالغ في العلم فله بليغ علم بكل معلوم.
قال الكاشفي : {ذَالِكَ} : (آنجه
238
ياد كرده از بدائع آفرينش).
{تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} : (آفريدن واندازه كردن غالبست كه در ملك خود بقدرت هرجه خواهد كند دانا كه هرجه سازد از روى حكمت است).
فعلى هذا التفصيل لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء ، وإنما الترتيب بين التقدير والإيجاد ، وإما على تقدير كون الخلق ، وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة ، فيكون خلق الأرض ، وما فيها متقدماً على خلق السماء ، وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ويؤيده قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} (البقرة : 29).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقيل : إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السماوات لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر لقوله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30) ، ثم هذا على تقدير كون كلمة ، ثم للتراخي الزماني.
وإما على تقدير كونها للتراخي الرتبي على طريق الترقي من الأدنى إلى الأعلى يفضل خلق السماوات على خلق الأرض ، وما فيها كما جنح إليه الأكثرون ، فلا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب كما في الوجه الأول.
قال الشيخ النيسابوري : خلق السماء قبل خلق الأرض ليعلم أن فعله خلاف أفعال الخلق ؛ لأنه خلق أولاً السقف ، ثم الأساس ورفعها على غير عمد دلالة على قدرته وكمال صنعه.
وروي : أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وخلق السماوات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة ، وخلق آدم في آخر ساعة منه ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، وسمي الجمعة لاجتماع المخلوقات وتكاملها ، ولما لم يخلق الله في يوم السبت شيئاً امتنع بنوا إسرائيل من الشغل فيه كما في "فتح الرحمن".
والظاهر أنه ينبغي أن يكون المراد به أنه تعالى خلق العالم في مدة لو حصل فيها فلك وشمس وقمر ، لكان مبدأ تلك المدة أول يوم الأحد وآخرها آخر يوم الجمعة كما في "حواشي ابن الشيخ" ، وبه يندفع ما قال سعدي المفتي فيه إشكال لا يخفى ، فإنه لا يتعين اليوم قبل خلق السماوات والشمس فضلاً عن تعينه وتسميته باسم الخميس والجمعة.
وقال ابن عطية : والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم لقد تقدمتها أيام وجمع كثيرة ، وأن هذه الأيام التي خلق الله فيها المخلوقات هي أول الأيام ؛ لأنه بإيجاد الأرض والسماء والشمس وجد اليوم.
وفي الحديث في خلق يوم الجمعة : "إنه اليوم الذي فرض على اليهود والنصارى فأضلته وهداكم الله تعالى" ؛ أي : أمروا بتعظيمه والتفرغ للعبادة فيه ، فاختار اليهود من عند أنفسهم بدله السبت ؛ لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق من خلق السماوات والأرض ، وما فيهن من المخلوقات ؛ أي : بناء على أن أول الأسبوع الأحد ، وأنه مبدأ الخلق ، وهو الراجح.
(8/182)
وهذا كلام بعضهم : أول الأسبوع الأحد لغة وأوله السبت عرفاً ؛ أي : في عرف الفقهاء في الإيمان ونحوها واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد ؛ أي : بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ، فهو أولى بالتعظيم.
وقد جاء في المرفوع : "يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله" فهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان.
وجاء : "إن الله تعالى خلق يوماً ، فسماه الأحد ثم خلق ثانياً ، فسماه الإثنين ، ثم خلق ثالثاً ، فسماه الثلاثاء ، ثم خلق رابعاً ، فسماه الأربعاء ، ثم خلق خامساً ، فسماه الخميس".
239
وبه يندفع ما قال السهيلي تسمية هذه الأيام طارئة ، ولم يذكر الله منها في القرآن إلا يوم الجمعة والسبت ، والعرب أخذوا معاني الأسماء من أهل الكتاب ، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعاً لهم ، فلم يسمها رسول الله عليه السلام بالأحد والإثنين إلى غير ذلك إلا حاكياً للغة قومه لا مبتدأ بتسميتها.
هذا كلام السهيلي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي السبعيات أكرم الله موسى بالسبت وعيسى بالأحد وداود بالإثنين وسليمان بالثلاثاء ويعقوب بالأربعاء وآدم بالخميس ومحمداً صلوات الله عليه وعليهم بالجمعة.
وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم ، فليتأمل الجمع.
وقد سئل صلى الله عليه وسلّم عن يوم السبت ، فقال : "يوم مكر وخديعة" ؛ لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه قريش في دار الندوة للاستشارة في أمره عليه السلام.
وسئل عن يوم الأحد ، فقال : "يوم غرس وعمارة" ؛ لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها.
وسئل عن يوم الإثنين ، فقال : "يوم سفر وتجارة" ؛ لأن فيه سافر شعيب عليه السلام فاتجر فربح في تجارته ، وسئل عن يوم الثلاثاء ، فقال : "يوم دم" ؛ لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه ، وفيه قتل جرجيس وزكريا ويحيى ولده وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بني إسرائيل.
ولهذا نهى النبي عليه السلام عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي ، وقال : "فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم".
وفيه نزل إبليس الأرض ، وفيه خلقت جهنم ، وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم ، وفيه ابتلي أيوب عليه السلام".
وفي بعض الروايات : ابتلي يوم الأربعاء.
وفي "روضة الأخبار" قيل : كان الرسم في زمن أبي حنيفة أن يوم البطالة يوم السبت في القراءة ، لا يقرأ في يوم السبت ، ثم في زمن الخصاف كان متردداً بين الإثنين ويوم الثلاثاء.
وسئل عن يوم الأربعاء قال : "يوم نحس أغرق فيه فرعون وقومه وأهلك عاد وثمود وقوم صالح" ، وآخر أربعاء في الشهر أشأم.
وجاء : "يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء".
وورد في الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء ، وأنه يورث البرص ، وقد تردد فيه بعض العلماء ، فابتلي نعوذ بالله.
وفي حديث : "لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء" ، وكره بعضهم عيادة المريض فيه ويحمد فيه الاستحمام ، والدعاء مستجاب فيه بعد الزوال قبل وقت العصر ؛ لأنه عليه السلام استجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك الوقت ، وقد بني على موضع الدعاء مسجد في المدينة يقال له مسجد الاستجابة يزار الآن.
وفي الحديث : "ما من شيء بدىء يوم الأربعاء إلا وقد تم" ، فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه ، وكان صاحب الهداية يوقف ابتداء الأمور على الأربعاء.
ويروي هذا الحديث ، ويقول كان هكذا يفعل أبي ويرويه عن شيخه أحمد بن عبد الرشيد.
وسئل عن يوم الخميس ، فقال : "يوم قضاء الحوائج" ؛ لأن فيه دخل إبراهيم عليه السلام على ملك مصر ، فأكرمه وقضى حاجته وأعطاه هاجر ، وهو يوم الدخول على السلطان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث : "من احتجم يوم الخميس فحم مات في ذلك المرض".
وسئل عن يوم الجمعة ، فقال : "يوم نكاح وخطبة" أيضاً نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس ، وصح أنه عليه السلام نكح فيه خديجة وعائشة رضي الله عنهما.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : "من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه داء وأدخل فيه شفاء".
وقال الأصمعي : دخلت على الرشيد يوم الجمعة ، وهو
240
يقلم الأظفار ، فقال : قلم الأظفار يوم الجمعة من السنة وبلغني أنه ينفي الفقر ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، وأنت تخشى الفقر ، فقال : وهل أحد أخشى للقفر مني ، وعن عليّ رضي الله عنه رفعه من صام يوم الجمعة صبراً واحتساباً أعطي عشرة أيام غر زهر لا تشاكلهن أيام الدنيا" ، ومن سالت من عينه قطرة يوم الجمعة قبل الرواح أوحي إلى ملك الشمال : أطو صحيفة عبدي ، فلا تكتب عليه خطيئة إلى مثلها من الجمعة الأخرى.
قال بعض العارفين شرف الأزمنة وفضيلتها يكون بحسب شرف الأحوال الواقعة فيها من حضور المحبوب ومشاهدته.
قال عمر بن الفارض قدس سره : ()
وعندي عيدي كل يوم أرى به
جمال محياها بعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
كما كل أيام اللقا يوم جمعة
(8/183)
وليوم الجمعة خواص تجيء في محلها إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث : "أكثروا الصلاة عليَّ في الليلة الزهراء واليوم الأغر ، فإن صلاتكم تعرض عليَّ فأدعو لكم وأستغفر.
والمراد بالليلة الزهراء ليلة الجمعة لتلألؤ أنوارها ، وباليوم الأغر يوم الجمعة لبياضه ونورانيته.
وفي الحديث : "من صلى عليّ في يوم الجمعة وليلة الجمعة مائة مرة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الدنيا وثلاثين من حوائج الآخرة ، ثم يوكل الله بذلك ملكاً يدخله عليّ في قبري كما تدخل عليكم الهدايا يخبرني بمن صلى عليّ باسمه ونسبه إلى عشيرته ، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء" ؛ لأن علمي بعد موتي كعلمي في حياتي.
(بروز جمعه درود محمد عربي.
زروى قدر زايام ديكر افزونست.
زاختصاص كه اورا بحضرت نبويست.
درو ثواب درود از قياس بيرونست.
ثم إن الليل والنهار خزانتان ما أودعتهما ادتاه) ، وأنهما يعملان فيك فاعمل فيهما جعلنا الله وإياكم من المراقبين للأوقات.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا} : متصل بقوله : قل أئنكم إلخ ، فإن أعرض كفار قريش عن الإيمان بعد هذا البيان ، وهو بيان خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما.
{فَقُلْ} : لهم {أَنذَرْتُكُمْ} ؛ أي : أنذركم وأخوفكم وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{صَـاعِقَةُ} ؛ أي : عذاباً هائلاً شديد الوقع كأنه صاعقة في الأصل قطعة من النار تنزل من السماء فتحرق ما أصابته استعيرت هنا للعذاب الشديد تشبيهاً له بها في الشدة والهول.
وفي "المفردات" : الصاعقة : الصوت الشديد من الجو ، ثم يكون فيها نار فقط ، أو عذاب أو موت ، وهي في ذاتها شيء واحد.
وهذه الأشياء تأثيرات منها.
وبالفارسية : (صاعقة از عذاب بيهوش سازنده وهلاك كنند).
{مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ} : (مانند عذاب قوم عاد كه باد صرصر بود).
{وَثَمُودَ} : (وعذاب قوم ثمود كه صيحة جبرائيل عليه السلام بوده) ؛ أي : لم يبق في حقكم علاج إلا إنزال العذاب الذي نزل عليّ من قبلكم من المعاندين المتمردين المعرضين عن الله وطلبه وطلب رضاه ، فهم سلف لكم في التكذيب والجحود والعناد ، وقد سلكتم طريقهم ، فتكونون كأمثالهم في الهلاك.
قال مقاتل : كان عاد وثمود لابني عم ، وموسى وقارون ابني عم وإلياس واليسع ابني عم وعيسى ، ويحيى ابني خالة.
(وتخصيص اين دو قوم بجهت آنست كه درسفر رحلة الشتاء والصيف بر مواضع اين دو كروه كذشته آثار عذاب مشاهده ميكر دماند).
{إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} : الظاهر أنه من إطلاق الجمع على المثنى ، فإن الجائي هود إلى عاد
241
وصالح إلى ثمود.
والجملة حال من صاعقة عاد ؛ أي : مثل صاعقتهم كائنة في وقت مجيء الرسل إليهم ، فكذبوهم.
فالمراد كون متعلق الظرف حالاً منها ؛ لأن الصاعقة قطعة نار تنزل من السماء ، فتحرق فهي جثة والزمان كما لا يكون صفة للجثة لا يكون حالاً منها.
{مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : متعلق بجاءتهم ؛ أي : من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة من جهات الإرشاد وطرق النصيحة تارة بالرفق وتارة بالعنف وتارة بالتشويق ، وأخرى بالترهيب ، فليس المراد الجهات الحسية والأماكن المحيطة بهم ، أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار من الوقائع ، ومن جهة الزمان المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، فيراد بالرسل ما يعم المتقدمين منهم ، والمتأخرين ، أو ما يعم رسل الرسل أيضا ، وإلا فالجائي رسولان ، كما سبق وليس في الإثنين كثرة.
{أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} ؛ أي : بأن لا تعبدوا أيها القوم ؛ أي : يأمرونهم بعبادة الله وحده ، فأن مصدرية ناصبة للفعل وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في مثل قوله : أن طهرا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (در آمدند ودعوت كردند بانكه مبرستيد مكر خدايرا).
{قَالُوا} استخفافاً برسلهم : {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا} ؛ أي : إرسال الرسل ، فإنه ليس هنافي أن تقدر المفعول مضمون جواب الشرط كثير معنى.
{لأنزَلَ مَلَائكَةً} ؛ أي : لأرسلهم بدلكم ولم يتخالجنا شك في أمرهم فآمنا بهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنزال.
قيل : لأنزل.
{فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ} على زعمكم ، فهو ليس إقراراً منهم بالإرسال.
{كَـافِرُونَ} .
قال في "بحر العلوم" : الفاء وقعت في جواب شرط محذوف تقديره إذا أنتم بشر مثلنا من غير فضلكم علينا ، ولستم بملائكة ، فإنا لا نؤمن بكم بما جئتم به ، ولا يجب أن يكون ما دخلت عليه فعلاً لجواز دخولها على الجملة الاسمية المركبة من مبتدأ وخبر.
وقال سعدي المفتي : إشارة إلى نتيجة قياسهم الفاسد الاستثنائي نقيض تاليه.(8/184)
قال الكاشفي : (مشركان دربند صورت انبيا مانده از مشاهدة معنى ايشان غافل بودند.
جند صورت بينى اى صورت برست.
هركه معنى ديد ازصورت برست ، ديده صورت برستى را ببند.
تاشوى از نور معنى بهره مند).
روي : أن أبا جهل قال في ملاء من قريش : قد التبس علينا أمر محمد عليه السلام ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر ، فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة ، والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علماً ، وما يخفي عليَّ فأتاه ، فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ، أنت خير أم عبد الله فبم تشتم آلهتنا وتضللنا ، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء ، فكنت رئيسنا ، وإن كان بك الباءة ؛ أي : الجماع والشهوة زوجناك عشر نسوة تختارهن من بنات قريش ، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به ورسول الله عليه السلام ساكت ، فلما فرغ عتبة قال عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، {حم} إلى قوله : مثل صاعقة عاد وثمود ، فأمسك عتبة على فيه عليه السلام وناشده بالرحم.
يعني : (عتبه درشنيدن كلام خداى عز وجل جنان مبهوت ومدهوش كشت كه جاى سخن دروى نماند وبا آخر دست بردهن رسول نهاد وكفت بحق رحم كه نيز بخوانى كه طاقتم برسيد ودرين سخن سر كردان وحيران شدم) ، ورجع إلى أهله متحيراً من أمره عليه السلام ، ولم يرجع
242
إلى قريش ، ولم يخرج ، وكانوا منتظرين لخبره ، فلما احتبس عنهم ، قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صباه.
يعني : (صابى ومائل دين محمد شد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
فانطلقوا إليه ، وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت فغضب ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر ، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
(راى من آنست كه اين مردرا فرو كذا ريد بادين خويش وتعرض نرسانيدا كر عرب برودست يابند خود شغل شما كفايت كردند وامر اوبر عرب دست يابد ملك او ملك شماست وعز او عزشماست ابو جهل كفت جنان ميدانم كه سخر او برتو اثر كرده وترا ازحال خود بكردانيده عتبه كفت راى من اينست كه شما هرجه ميخواهيد بكنيد).
فكان من أمرهم الإصرار حتى قتلوا في وقعة بدر وأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر دينه ، فما كان إلا ما أراد الله دون ما أرادوا.
{فَأَمَّا عَادٌ} لما كان التفصيل مسبباً عن الإجمال السابق أدخل عليه الفاء السببية (بس آماده كرده وعاديان).
{فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأرْضِ} : (در زمين احقاق در بلاد يمن) ؛ أي : تعظموا فيها على أهلها.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} ؛ أي : بغير الاستحقاق للتعظيم وركنوا إلى قوة نفوسهم.
{وَقَالُوا} اغتراراً بتلك القوة الموقوفة على عظم الأجسام.
{مَنْ} : استفهام.
{أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، وكان طول كل واحد منهم ثمانية عشر ذراعاً ؛ وبلغ من قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل ويجعلها حيث شاء وكانوا يظنون أنهم يقدرون على دفع العذاب بفضل قوتهم فخانتهم قواهم لما استمكن منهم بلواهم ، وقد رد الله عليهم بقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا} : (آياندا نستند مغرور شدكان بقوت خود.
) ؛ أي : أغفلوا ولم يعلموا علماً جلياً شبيهاً بالمشاهدة والعيان.
{أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ} ، وخلق الأشياء كلها خصوصاً الأجرام العظيمة كالسماوات والجبال ونحوها ، وإنما أورد في حيز الصلة خلقهم دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة.
{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ؛ أي : قدرة ؛ لأن قدرة الخالق لا بد وأن تكون أشد من قدرة المخلوق ، إذ قدرة المخلوق مستفادة من قدرة الخالق ، والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف ، ولما كانت صيغة التفضيل تستلزم اشتراك المفضل المفضل عليه في الوصف الذي هو مبدأ اشتقاق أفعل ، ولا اشتراك بينه تعالى وبين الإنسان في هذه القوة ، لكونه منزهاً عنها أريد بها القدرة مجازاً لكونها مسببة عن القوة بمعنى صلابة البنية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَكَانُوا} : (وبودند وقوم عادكه ازروى تعصب).
{بآياتنا} المنزلة على الرسل.
{يَجْحَدُونَ} : الجحود الإنكار مع العلم ؛ أي : ينكرونها ، وهم يعرفون حقيقتها كما يجحد المودع الوديعة ، وينكرها فهو عطف على فاستكبروا ، وما بينهما اعتراض للرد على كلمتهم الشنعاء.
والمعنى : أنهم جمعوا بين الاستكبار وطلب العلو في الأرض ، وهو فسق وخروج عن الطاعة بترك الإحسان إلى الخلق وبين الجحود بالآيات ، وهو كفر وترك التعظيم الحق ، فكانوا فسقة كفرة ، وهذان الوصفان لما كانا أصلي جميع الصفات الذميمة ، لا جرم سلط الله عليهم العذاب ، كما قال :
(8/185)
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةًا وَكَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} لتقلعهم من أصولهم ؛ أي : باردة تهلك وتحرق بشدة بردها كإحراق النار بحرها من الصر ، وهو البرد الذي
243
يصر ؛ أي : يجمع ويقبض ؛ أي : ريحاً عاصفة تصر صراً ؛ أي : تصوت في هبوبها من الصرير.
وبالفارسية : (باد صرصر بآ واز مهيب).
قيل : إنها الدبور مقابل القبول ؛ أي : الصبا التي تهب من مطلع الشمس ، فيكون الدبور ما تهب من مغربها ، والصرصر تكرير لبناء الصر.
قال الراغب : الصر الشد ، والصرة ما يعقد فيه الدراهم.
والصرصر : لفظه من الصر.
وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد إذ هي من الفعليات ؛ لأنها كشيفة من شأنها تفريق المتشاكلات وجميع المختلفات.
{فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} : جمع نحسة من نحس نحساً نقيض سعد سعداً كلاهما على وزن علم والنحسان زحل والمريخ.
وكذا رخر شباط وآخر شوال أيضاً من الأربعاء إلى الأربعاء.
وذلك سبع ليال وثمانية أيام ، يعني كانت الريح من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر ، وهو آخر الشهر ، ويقال لها : أيام الحسوم ، وسيأتي تفصيلها في سورة الحاقة ، وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من غير مطر.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه إذا أراد الله بقوم خيراً أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد بقوم شراً حبس عنهم المطر وسلط عليهم كثرة الرياح".
والمعنى : في أيام منحوسات مشؤمات ليس فيها شيء من الخير ، فنحوستها أن الله تعالى أدام تلك الرياح فيها على وتيرة وحالة واحدة بلا فتور ، وأهلك القوم بها لا كما يزعم المنجمون من أن بعض الأيام قد يكون في حدّ ذاته نحساً وبعضها سعداً استدلالاً بهذه الآية ؛ لأن أجزاء الزمان متساوية في حدّ ذاتها ، ولا تمايز بينها إلا بحسب تمايز ما وقع فيها من الطاعات والمعاصي ، فيوم الجمعة سعد بالنسبة إلى المطيع نحس بالنسبة إلى العاصي ، وإن كان سعداً في حدّ نفسه.
قال رجل عند الأصمعي فسد الزمان ، فقال الأصمعي : ()
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وقيل : ()
نذم زماننا والعيب فينا
ولو نطق الزمان إذا هجانا
وقال الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره : الملابس إذا فصلت وخيطت في وقت رديء اتصل بها خواص رديئة.
انتهى.
يقول الفقير : لعله أراد عروض الرداءة لها بسبب من الأسباب كيوم الأربعاء بما وقع فيه من العذاب ؛ لأن الله خلقه رديئاً ، فلا تنافي بين كلامه وبين ما سبق.
والظاهر أن الله تعالى خلق أجزاء الزمان والمكان على تفاوت.
وكذا سائر الموجودات كما لا يخفى.
{لِّنُذِيقَهُمْ} بالريح العقيم.
{عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ، إضافة العذاب إلى الخزي من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على طريق التوصيف بالمصدر للمبالغة ؛ أي : العذاب الخزي ؛ أي : الذليل المهان على أن الذليل في الحقيقة أهل العذاب لا العذاب نفسه.
{وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ} : (وهر آينه عذاب آن سرى ا).
{أَخْزَى} ؛ أي : أذل وأزيد خزياً من عذاب الدنيا ، وبالفارسية : (سختراست ازروى رسوايى).
وهو في الحقيقة أيضاً : وقد وصف به العذاب على الإسناد المجازي لحصول الخزي بسببه.
{وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه لا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأنهم لم ينصروا الله ودينه ، وما المؤمنون ؛ فإنهم وإن كانوا
244
ضعفاء فقد نصرهم الله ؛ لأنهم نصروا الله ودينه ، فعجباً من القوة في جانب الضعف وعجباً من الضعف في جانب القوة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث : إنكم تنصرون بضعفائكم" ؛ أي : الضعفاء الداعين لكم بالنصرة.
وقال خالد ابن برمك : اتقوا مجانيق الضعفاء ؛ أي : دعواتهم.
(8/186)
يقول الفقير : إنما عذبت عاد بريح صرصر ؛ لأنهم اغتروا بطول قاماتهم وعظم أجسادهم وزيادة قوتهم ، فظنوا أن الجسم إذا كان في القوة والثقل بهذه المرتبة ، فهو يثبت في مكانه ويستمسك ، ولا يزيله عن مقره شيء من البلاء ، فسلط الله عليهم الريح ، فكانت أجسامهم كريشة في الهواء ، وكان عليه السلام يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح ، ويقول : "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً.
اللهم اجعلها لنا رياحاً ؛ أي : رحمة ولا تجعلها ريحاً ؛ أي : عذاباً وأراد به أن أكثر ما ورد في القرآن من الريح بلفظ المفرد ، فهو عذاب نحو ، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} (فصلت : 16) ، و{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات : 41) ، وإن جاء في الرحمة أيضاً نحو {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (يونس : 22) وكل ما جاء بلفظ الجمع على الرياح ، فهو رحمة لا غير ، ويقول عليه السلام ؛ أي : عند هبوب الرياح ، وعند سماع الصوت والرعد والصواعق أيضاً : "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك".
وفي الحديث : "لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون ، فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به".
كما في "المصابيح" : (ريح صرصر باد نفس ازدهاست قلب ازودر اضطراب ومكرهاست.
هركه بابرجا شود در عهد دين.
بايدارش ميكند حق جون زمين).
{وَأَمَّا ثَمُودُ} ؛ أي : قبيلة ثمود فهو غير منصرف للعلمية والتأنيث ، ومن نونه وصرفه جعله اسم رجل ، وهو الجد الأعلى للقبيلة.
{فَهَدَيْنَـاهُمْ} الهداية هنا عبارة عن الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب سواء ترتب عليها الاهتداء أم لا كما في قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى : 52) ، وليست عبارة عن الدلالة المقيدة بكونها موصلة إلى البغية ، كما في قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 264).
والمعنى : فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية وإرسال الرسل وإنزال الآيات الشريفة ورحمنا عليهم بالكلية.
{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} : حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه واقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار والاختيار كما في "المفردات" ؛ أي : اختاروا الضلالة من عمى البصيرة ، وافتقادها على الهداية والكفر على الإيمان والمعصية على الطاعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال صاحب الكشف : في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة ، وأن لقدرة العبد مدخلاً ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق ، وإيثار العمى حباً ، وهو الاستحباب من الاختيارية ، واعترض عليه سعدي المفتي في "حواشيه" ، بأنه كيف لا تكون المحبة اختيارية ، ونحن مكلفون بمحبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا تكليف بغير الاختياري ألا يرى إلى قوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه : الآن يا عمر ، يعني في قول عمر ورسول الله آخذ بيده يا رسول الله ، أنت أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي ، فقال عليه السلام : "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" ، فقال عمر : الآن والله أنت أحب إلى من نفسي.
فقال : "الآن يا عمر" ؛ أي : صار إيمانك كاملاً.
والجواب : على ما في "شرح المشارق" لابن الملك أن المراد من هذه المحبة محبة الاختيار
245
لا محبة الطبع ؛ لأن كل أحد مجبول على حب نفسه أشد من غيرها ، فمعنى الحديث لا يكون إيمانك كاملاً حتى تؤثر رضاي على رضا نفسك ، وإن كان فيه هلاكك ونظيره قوله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر : 9) ، فهم مع احتياجهم آثروا أنفسهم على أنفسهم.
وكذا المحب آثر رضا المحبوب على رضا نفسه مع كون محبته لنفسه أشد من محبته له.
وقيل : إن ثمود في الابتداء آمنوا وصدقوا ، ثم ارتدوا وكذبوا فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال ، فتكون الهداية بمعنى الدلالة المقيدة.
قال ابن عطاء : ألبسوا لباس الهداية ظاهراً ، وهم عواري ، فيتحقق عليهم لباس الحقيقة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فردوا إلى الذي سبق لهم في الأزل ، يعني : أن جبلة القوم ، كانت جبلة الضلالة ، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلال ، فإن السوابق تؤثر في العواقب بدون العكس ، فلا عبرة بالهداية المتوسطة ؛ لأنها عارضة.
(8/187)
قال الحافظ : (جون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست.
آن به كه كار خودبعنايت رها كنند).
{فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} : الهون : مصدر بمعنى الهوان والذلة.
يقال : هان هوناً وهواناً ذل كما في "القاموس" : وصف به العذاب للمبالغة ؛ أي : أخذتهم داهية العذاب المهين ؛ كأنه عين الهوان.
وبالفارسية : (صاعقة عذاب خوار كننده يعني صيحة جبرائيل ايشانرا هلاك كرده فالصاعقة هي العذاب الهون شبه بها لشدته) ، وهوله كما بين فيما سبق.
وقيل : صاعقة من السماء ؛ أي : نار ، فأهلكتهم وأحرقتهم ، فيكون من إضافة النوع إلى الجنس ، بتقدير من أي من جنس العذاب المهين الذي بلغ في إفادة الهوان للمعذب إلى حيث كان عين الهوان.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من اختيار الضلالة والكفر والمعصية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (بسبب آنجه بودند كسب كردند از).
تكذيب صالح وعقر ناقة.
يقول الفقير : أما حكمة الابتلاء بالصيحة فلعدم استماعهم الحق من لسان صالح عليه السلام مع أن الاستحباب المذكور صفة الباطن وبالصيحة تنشق المرارة ، فيفسد الداخل والخارج ، وأما بالنار فلإحراقهم باطن ولد الناقة بعقر أمه ، فابتلوا بالإحراق الظاهر ألا ترى أن يعقوب ذبح جدياً بين يدي أمه ، فابتلي بفراق يوسف واحتراقه على ما قاله البعض.
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} من تلك الصاعقة وكانوا مائة وعشرة أنفس.
{وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : الشرك أو عقر الناقة وفيه إشارة إلى التنجية من عذاب النار ، وهي أنواع ، فمنهم من نجاهم من غير أن رأوا النار عبروا القنطرة ، ولم يعلموا ، وقوم كالبرق الخاطف ، وهم الأعلام وقوم كالراكض ، وهم أيضاً الأكابر ، وقوم على الصراط يسقطون وتردهم الملائكة على الصراط فبعد وبعد وقوم بعد ما دخلوا النار ، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ، ثم إلى ركبتيه ، ثم إلى حقويه ، فإذا بلغت القلب.
قال الحق تعالى للنار : لا تحرقي قلبه ، فإنه محترق فيّ ، وقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا وصاروا حمماً.
الامتحاش سوخته شدن.
والحمم جمع حممة بالضم ، وهو الفحم كما في "القاموس".
وفي الحديث : يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقول تعالى : أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فيخرجون منها قد اسودوا ، فيلقون في نهر الحياة فينبتون ، كما تنبت الحبة في جانب السيل وأشارت الآية إلى أن سبب النجاة من النار هو الإيمان والتقوى ، وهما من صفات القلب ، فإذا هرب العبد من
246
مقام النفس ودخل في مقام القلب ، كان آمناً سالماً من أنواع الألم في الدنيا والآخرة ، وإلا كان معذباً.
حكي : أن أبا يزيد البسطامي قدس سره : دخل الحمام يوماً فأصابه الحر ، فصاح فسمع نداء من الزوايا الأربع : يا أبا يزيد ما لم تسلط عليك نار الدنيا لم تذكرنا ، ولم تستغث بنا ، وفيه إشارة إلى أن المقبول هو التدارك وقت الاختيار والإيمان وقت التكليف ، وإلا خرج الأمر من اليد ولا تفيد الصيحة وقت الوقوع في العذاب.
(توبيش از عقوبت در عفو كوب.
كه سودى ندارد فغان زبر جوب).
والكافر تنزل عليه ملائكة العذاب والمؤمن تصافحه الملائكة.
قال الله تعالى : اسمع يا موسى ما أقول فالحق ما أقول أنه من تكبر على مسكين حشرته يوم القيامة على صورة الذر ومن تواضع لعالم رفعته في الدنيا والآخرة ومن رضي بهتك ستر مسلم هتكت ستره سبعين مرة ، ومن أهان مسلماً ، فقد بارزني بالمحاربة ومن آمن بي صافحته الملائكة في الدنيا والآخرة جهراً اللهم وفقنا لما ترضى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ} الحشر إخراج الجماعة من مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها ، ولا يقال : إلا في الجماعة ، ويوم منصوب باذكر المقدر.
والمعنى : واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر أعداء الله المذكورون من عاد وثمود لا الأعداء من الأولين والآخرين بمعنى أنهم يجمعون إلى النار ، كقوله : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم لما سيأتي من قوله تعالى في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس والتعبير بالأداء للذم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من فنون العذاب.
{إِلَى النَّارِ} إلى موقف الحساب إذ هناك تتحقق الشهادة الآتية لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار والتعبير عنه بالنار إما للإيذان بأنها عاقبة حشرهم ، وأنهم على شرف دخولها ، وإما لأن حسابهم يكون على شفيرها.
(8/188)
وفي الإشارة إلى أن من لم يمتثل إلى أوامر الله ، ولم يجتنب عن نواهيه ، ولم يتابع رسوله ، فهو عدو الله ، وإن كان مؤمناً بالله مقراً بوحدانيته ، وأن ولي الله من كان يؤمن بالله ورسله ، ويمثتل أوامر الله في متابعة الرسول ، ويحشر الأولياء إلى الله وجنته كما يحشر الأعداء إلى نار البعد وجحيمه.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : يقال : وزعته عن كذا كوضع كففته ؛ أي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وهو كناية عن كثرة أهل النار.
وفيه إشارة إلى أن في الوزع عقوبة لهم.
{حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا} غاية ليحشر وليوزعون ؛ أي : حتى إذا حضروا النار جميعاً.
وبالفارسية : (تاوقتى كه بيابند بآتش).
وما : مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور يعني : أن وقت مجيئهم النار لا بد أن يكون وقت الشهادة عليهم.
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} .
إلخ ؛ لأنهم كانوا استعملوها في معاصي الله بغير اختيارهم فشهدت الآذان بما سمعت من شر وأفرد السمع لكونه مصدر في الأصل.
{وَأَبْصَـارُهُمْ} بما نظرت إلى حرام {وَجُلُودُهُم} ظواهر أنفسهم وبشراتهم بما لامست محظوراً والجلد قشر البدن.
وقيل : المراد بالجلود الجوارح والأعضاء.
(واول عضوى كه تكلم كندزان كف دست راست بود).
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا.
ويقال : تخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها ؛ لا أن كلاً منها تخبر بجناياتها المعهودة فقط ، فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة ، وفنون كفرهم ومعاصيهم ، وتلك الشهادة بأن ينطقها الله ، كما أنطق اللسان إذ ليس نطقها بأغرب من نطق
247
اللسان عقلاً ، وكما أنطق الشجرة ، والشاة المشوية المسمومة بأن يخلق فيها كلاماً ، كما عند أهل السنة ، فإن البنية ليست بشرط عندهم للحياة والعقل ، والقدرة كما عند المعتزلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "حواشي سعدي المفتي" بأن ينطقها لا على أن تكون تلك الأعضاء آلاته ، ولا على أن تكون القدرة والإرادة آلة في الإنطاق ، وكيف وهي كارهة لما نطقوا به بل على أن تكون الأعضاء هي الناطقة ، بالحقيقة موصوفة بالقدرة والإرادة.
وفيه تأمل انتهى.
روي : أنه عليه السلام ضحك يوماً حتى بدت نواجذه ، ثم قال : لا تسألون مم ضحكت قالوا : مم ضحكت يا رسول الله.
قال : عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.
قال : يقول يا رب أليس قد وعدتني أن لا تظلمني.
قال : فإن لك ذلك.
قال : فإني لا أقبل شاهداً إلا من نفسي ، قال الله تعالى : أوليس كفى بي شهيداً ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ، فيقول : أي رب أجرتني من الظلم ، فلن أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي.
قال : فيختم على فيه وتتكلم الأركان بما كان يعمل.
قال عليه السلام : فيقول لهن بعداً ، لكن وسحقاً عنكن كنت أجادل.
وهذه الرواية تنطق بأن المراد بالجلود الجوارح.
وفيه إشارة إلى أن الجماد في الآخرة يكون حيواناً ناطقاً كما قال تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} .
{حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} .
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ} توبيخاً.
{لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} (العنكبوت : 64)وصيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود.
وكذا في قوله تعالى : قالوا : أنطقنا إلخ.
لوقوعها في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء ، ولعل تخصيص الجلود ؛ لأنها بمرأى منهم بخلاف غيرها ، أو لأن الشهادة منها أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر.
والمراد : الإدراك اللازم للشهادة ، وهو الإبصار أو الإسماع إذ الشهادة لا تكون إلا بالمعاينة ، أو السماع والإدراك اللمسي لا مدخل له في الشهادة ، فيحصل التعجب والبعد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج ؛ لأنها لا تخلو عن الجلود ، والله حيي يكني ، وهو الأنسب بتخصيص السؤال بها في قوله ، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} قالوا : ما نشهد به.
من الزنا أعظم جناية وقبحاً واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسيطها.
(8/189)
{قَالُوا} ؛ أي : الجلود {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ} .
ناطق وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناها.
وفي الآية إشارة إلى أن الأرواح والأجسام متساوية في قدرة الله تعالى إن شاء جعل الأرواح بوصف الأجسام صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون ، وإن شاء جعل الأجسام بوصف الأرواح تنطق وتسمع وتبصر وتعقل.
{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : (واز عدم بوجود آورد).
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولاً وعلى إعادتكم ورجعكم ؛ أي : ردكم إلى جزائه ثانياً لا يتعجب من إنطاقه لجوارحكم.
وفي "تفسير الجلالين" : هو ابتداء إخبار عن الله تعالى وليس من كلام الجلود ، ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث ، والرجع لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع على أن فيه مراعاة الفواصل.
يقول الفقير : قد ثبت في علم الكلام : أن الله تعالى قد خلق كلاً من الحواس لإدراك أشياء مخصوصة كالسمع للأصوات والذوق للطعوم والشم للروائح ، لكن ذلك الإدراك بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير الحواس ، فلا يمتنع
248
أن يخلق عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً ، وإن لم يكن واقعاً بالفعل ، وقد صح أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى من كل جانب ، وقس عليه الرؤية ليلة المعراج ، فإنه عليه السلام كان بصراً محضاً في صورة الجسم ، وكذلك اللسان ، فإنه مخلوق للنطق ، لكن الله تعالى إذا أراد.
كان جميع البدن لساناً مع أن الإنسان لما تشرف بالحياة والنطق كان جميع أجزائه ناطقاً حكيماً كما كان حياً حقيقة ، وذلك لإضافته إلى الحي الناطق ، بل وسر الحياة والنطق سار في جميع أجزاء العالم فضلاً عن أعضاء بني آدم.
وقد ورد "إن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له يوم القيامة" ، فهذه الشهادة من باب النطق لا عن علم وتعقل ، فليحذر العبد عن شهادة الأعضاء ، وكذا المكان والزمان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وعن علاء بن زياد قال : ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم ، ويقول : يا أيها الناس إني يوم جديد وأنا على ما يعمل في شهيد ، وإني لو غربت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
قال الصائب : (غبار قابلة عمر جون نمايان نيست.
دوا سبه رفتن ليل ونهار را درياب).
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} .
قوله : أن يشهد في موضع النصب بإسقاط الخافض ؛ أي : من أن يشهد لأن استتر لا يتعدى بنفسه ، أو في موضع الجر على تقدير المضاف ؛ أي : مخافة أن يشهد ولا في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.
وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذٍ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقرير الجواب الجلود.
والمعنى : وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك ؛ لأنها كانت أجساماً صامتة غير ناطقة ، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل مخافة الافتضاح عندهم ، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأساً فضلاً عن شهادة الأعضاء.
وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب ، وأن الله معه أينما كان.
وفي الحديث : "أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان".
(يارباتست هر كجاهستى.
جاى ديكر جه خواهى اى او باش.
باتو در زيريك كليم جو اوست.
بس برواى حريف خودرا باش).
فعلى العبد أن يحفظ نفسه ويحاسبها قبل أن تحاسب.
قال البقلي في "عرائسه" : من باشر المعصية تظهر آثارها على جوارحه لا يقدر أن يسترها ، ولو كان عالماً بنفسه يستغفر في السر عند الله حتى تضمحل آثارها ، ولا يرى وجود تلك الآثار صاحب كل نظرة.
قال أبو عثمان رحمه الله : من لم يذكر في وقت مباشرته الذنوب شهادة جوارحه عليه يجترىء على الذنوب ، ومن ذكر ذلك حين مباشرتها ربما تلحقه العصمة والتوفيق فيمنعانه عنها وفضوح الدنيا فالنار ولا العار.
{وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ} عند استتاركم.
{أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح المخفية ، فلا يظهرها في الآخرة على تقدير وقوعها ، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم يشير إلى معتقد الفلاسفة الزنادقة ، فإنهم يعتقدون أن الله لا يكون عالم الجزئيات ، وفيه إيذان بأن شهادة الجوارح بإعلامه تعالى حينئذٍ ، لا بأنها كانت عالمة بما شهدت به عند صدوره عنهم وأدخل الكثير لكونهم يزعمون أن الله يعلم ما يجهر به دون ما يسر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
عن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه بطونهم.
قيل :
249
(8/190)
الثقفي عبد يا ليل والقرشيان ختناه ربيعة وصفوان بن أمية ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول : قال الآخر يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا ، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام ، فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون إلخ.
فالحكم المحكي حينئذٍ يكون خاصاً بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة ، ولعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم المعنى الحقيقي ، وما جرى مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده ، فإن معناه يعمل عمل من يظن أن ماله يبقيه حياً ، ليعم ما حكي من الحال جميع أصناف الكفرة ، فتدبر كذا في "الإرشاد".
{وَذَالِكُمْ} : الظن أيها الأعداء ، وهو مبتدأ خبره قوله : {ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ} ، وإلا فالله تعالى عالم بجميع الكليات والجزئيات ؛ لأنه متجل بأسمائه وصفاته في جميع الموجودات ، وهو خالق الأعمال وسائر الأعراض والجواهر والمطلع على البواطن والسرائر ، كما على الظواهر والتغاير بين العنوانين أمر جلي لظهور إن ظن عدم علم الله غير الظن بالرب ، فيصح أن يكون خبراً له.
{أَرْدَاـاكُمْ} : خبر آخر له ؛ أي : أهلككم وطرحكم في النار.
{فَأَصْبَحْتُم} ؛ أي : صرتم بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم.
{مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} : (اززيا نكاران).
إذ صار ما منحوا السعادة الدارين من القوة العاقلة ، والأعضاء سبباً لشقاء النشأتين إما كونها سبباً لشقاء الآخرة ، فظاهر ، وإما كونها سبباً لشقاء الدنيا ، فمن حيث أنها كانت مفضية في حقهم بسوء اختيارهم إلى الجهل والمركب بالله سبحانه وصفاته واتباع الشهوات ، وارتكاب المعاصي.
وفي "التأويلات النجمية" : من الخاسرين الذين خسروا بذر أرواحهم في أرض أجسادهم ، بأن لم يصل إليه ماء الإيمان والعمل الصالح ، ففسد حتى صاروا بوصف الأجساد صماً بكماً عمياً ، فهم لا يعقلون.
وفي "بحر العلوم" : من الخاسرين ؛ أي : الكاملين في الخسران حيث ظننتم بالله ظن السوء وسوء الظن بالله من أكبر الكبائر كحب الدنيا.
وقال الحسن رحمه الله : إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ، وما لهم حسنة يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل.
وتلا قوله تعالى وذلكم ظنكم الآية ، فالظن اثنان ظن ينجي ، وهو ما قارن حسن الاعتقاد ، وصالح العمل وظن يردي ، وهو ما لم يقارن ذلك ، فلا بد من السعي : (درين دركاه سعى هيجكس ضايع نميكر دد.
بقدر آنجة فرمان ميبرى فرمان روا كردى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا} .
{فَإِن يَصْبِرُوا} في النار على العذاب وأمسكوا عن الاستغاثة والجزع مما هم فيه انتظاراً للفرج زاعمين أن الصبر مفتاح الفرج.
{فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} ؛ أي : محل ثواء وإقامة أبدت لهم بحيث لا خلاص لهم منها ، فلا ينفعهم صبرهم والالتفات إلى الغيبة للإشعار بأبعدهم عن حيز الخطاب والإبقاء في غاية دركات النار.
{وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} ؛ أي : يسألوا العتبى وهو الرجوع إلى ما يحبونه جزعاً مما هم فيه.
{فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} ؛ أي : المجابين إلى العتبى ، فيكون صبرهم وجزعهم سواء في أن شيئاً منهما لا يؤدي إلى الخلاص ونظيره قوله تعالى : {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم : 21).
قال في "تاج المصادر" : الإعتاب : (خشنود كردن ولاستعتاب از كسى حق خواستن كه تراخشنود كندو آشتى خواستن).
وفي "القاموس" : العتبى الرضى واستعتبه أعطاه العتبى كأعتبه وطلب إليه العتبى ضد.
وفي "المفردات" : أعتبته : أزلت عنه عتبه نحو : (اشكيته).
250
ومنه : فما هم من المعتبين.
والاستعتاب أن يطلب من الإنسان أن يذكر عتبه ، فيعتب.
والعتب : الشدة والأمر الكريه والغلظة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره.
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} : التقييض : تقدير (كردن وسبب ساختن) ؛ أي : قدرنا وقرنا للكفرة في الدنيا.
{قُرَنَآءَ} : جمع قرين ؛ أي : أخداناً من شياطين الإنس والجن وأصدقاء يستولون عليه استيلاء القيض على البيض ، وهو القشر الأعلى ، وفيه حجة على القدرية ، فإن هذا على التخلية بينهم وبين التوفيق لأجله صاروا قرناءهم ، وهم لا يقولون بموجب الآية : {فَزَيَّنُوا لَهُم} ؛ أي : قرناؤهم {مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمور الدنيا واتباع الشهوات.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمور الآخرة حيث أروهم أن لا بعث ولا حساب ولا مكروه قط جعل أمر الدنيا بين أيديهم ، كما يقال : قدمت المائدة بين أيديهم والآخرة ، لما كانت تأتيهم بعد هذا جعلت خلفهم ، كما يقال لمن يجيء بعد الشخش أنه خلفه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/191)
وهذا هو الذي تقتضيه ملاحظة الترتيب الوجودي.
وقيل : ما بين أيديهم الآخرة ؛ لأنها قدامهم ، وهم متوجهون إليها ، وما خلفهم الدنيا ؛ لأنهم يتركونها خلفهم.
وفي "عرائس البيان" زينة النفس الشهوات والشياطين التسويف والإمهال.
وهذا ما بين أيديهم وما خلفهم.
قال الجنيد : لا تألف النفس الحق أبداً.
وقال ابن عطاء : النفس قرين الشيطان ، وإلفه ومتبعه فيما يشير إليه مفارق للحق مخالف له لا يألف الحق ولا يتبعه.
قال الله تعالى : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من طول الأمل وما خلفهم من نسيان الذنوب.
(در سر اين غافلان طول امل دانى كه جيست آشيان كردست مارى دركبو ترخانة).
{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ؛ أي : ثبت ، وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقيق موجبها ومصداقها ، وهي قوله : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) ونحوه : {فِى أُمَمٍ} : حال من الضمير المجرور ؛ أي : كائنين في جملة أمم ، وقيل : في بمعنى مع هذا كما ترى صريح في أن المراد بأعداء الله فيما سبق المعهودون من عاد وثمود لا الكفار من الأولين والآخرين ، كما قيل : {قَدْ خَلَتْ} : صفة الأمم ؛ أي : مضت {مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء الكفار.
{إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} : تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير للأولين والآخرين.
(زنقد معرفت امروز مفلس.
زسود آخرت فردا تهى دست).
وفي "كشف الأسرار" : إذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قرناء خير يعنيونه على الطاعة ويدعونه إليها ، وإذا أراد الله بعبد سوء قيض له أخدان سوء يحملونه على المخالفات ، ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان ، فإنه مسلط على الإنسان بالوسوسة ، وشر من ذلك النفس الأمارة بالسوء تدعو اليوم إلى ما فيه هلاكها وهلاك العبد وتشهد غداً عليه بما دعته إليه وأوحى إلى داود عليه السلام ، عاد نفسك يا داود ، فقد عزمت على معاداتك.
ولهذا قال عليه السلام : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
في الخبر : "من مقت نفسه في ذات الله ، أمنه الله من عذاب يوم القيامة" قير أبو علي دقاق : (را قدس سره برسيد ندكه خويشين راجه كونه بينى كفت جنان مى بينم كه اكر نبجاه ساله عمر مرا بر طبقى نهندو كردهفت آسمان وهفت زمين بكردانند مرا از هيج ملك مقرب درآسان شرم نبايد داشت واز هيج آفريده در زمين حلالى نبايد خواست اى مرد بدين صفت كه شنيدى بوقت نزع كوزة آب بيش وى
251
داشتند كفتند در حرارت جان داد جكر را تبريدى بده هنكام آن نيست كه اين دشمن اصلى را واين نفس ناكسى را شربتى سازم نبايدكه جون قوت يابد دمار از من بر آرد.
نفس ازدرهاست اوكى مرده است.
ارغم بى آلتى افسر ده است.
كربيابد آلتى فرعون او.
كه بامر او همى رفعت آب جو.
آنكه او بنياد فرعونى كند.
راه صد موسى وصد هارون زند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وإذا كانت النفس بهذه الشقاوة والخسارة ، فلا بد م إصلاحها وتزكيتها لئلا يحق عليها القول ، وتدخل النار مع الداخلين وأصل الخسارة إفساد الاستعداد الفطري كإفساد بعض الأسباب البيضة ، فإنها إذا فسدت لم ينتفع بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الرابحين لا من الخاسرين ، وأن يكون عوناً لنا على النفس وإبليس وسائر الشياطين.
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ} .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من رؤساء المشركين لأعقابهم وأشقيائهم ، أو قال بعضهم لبعض.
{لا تَسْمَعُوا} : (مشنويد وكوس منهيد) {لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ} لسماعه.
{وَالْغَوْا فِيهِ} : اللغو من الكلام ما لا يعتد به ، وهو الذي لاعن روية وفكر ، فيجري مجرى اللغاء ، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور ؛ أي : ائتوا فيه بالباطل من الكلام الذي لا طائل تحته وعارضوه بالخرافات ، وهي الهذيان.
والأحاديث التي لا أصل لها مثل قصة رستم واسفنديار وبإنشاء الأرجاز والأشعار ، وبالتصدية والمكاء ؛ أي : التصفيق والصفير ، وارفعوا أصواتكم بها لتشوشوا على القارىء ، فيختلط عليه ما يقرأه.
(8/192)
{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ؛ أي : تغلبونه على قراءته ، فيترك القراءة ، ولا يتمكن السامع أيضاً من سماعه أرادوا بذلك التلبيس والتشويش الأذية.
وأيضاً : خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به.
وكان ذلك غالباً شأن أبي جهل وأصحابه.
وفيه إشارة إلى أن من شأن النفوس المتمردة إنشاء اللغو والباطل ، وحديث النفس على الدوام اشتغالاً للقلوب بها عن استماع الإلهامات الربانية لعلها تغلب عليها ، ولم تعلم أن من استغرق في سماع أسرار الغيب ، فليس له عما سوى الله خبر ، ولا لحديث النفس فيه أثر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : فوالله لنذيقن هؤلاء القائلين واللاعنين ، أو جميع الكفرة ، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً.
{عَذَابًا شَدِيدًا} ، لا يقادر قدره كما دل التنكير والوصف ، وهذا تهديد شديد ؛ لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل يؤتى به ؛ لأجل التجربة.
وإذا كان ذلك الذوق ، وهو قدر قليل عذاباً شديداً ، فقس عليه ما بعده.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا تجلى للقلوب احترقت النفوس بالفناء عن أوصافها ، وهو عذابها ، فكانت كأهل الجزية والخراج في أرض الإسلام ، فكما كان أهل الإيمان في سلامة من أذاهم ، فكذا القلوب مع النفوس إذ لا كفر واعتراض مع الإيمان والتسليم.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ أي : جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ ، فإذا كانت أعمالهم أسوأ كان جزاؤها كذلك ، فالأسوأ قصد به الزيادة المطلقة ، وإنما أضيف إلى ما عملوا للبيان ، والتخصيص.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : عذاباً شديداً يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
{ذَالِكَ} المذكور من الجزاء ، وهو مبتدأ
252
خبره قوله : {جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ} ؛ أي : جزاء معد لأعدائه {النَّارِ} عطف بيان للجزاء ، أو ذلك خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : الأمر ذلك على أنه عبارة عن مضمون الجملة لا عن الجزاء وما بعده جملة مستقلة مبنية لما قبلها ، والنار مبتدأ خبره.
قوله : {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} ؛ أي : هي بعينها دار إقامتهم لا انتقال لهم.
منها : على أن في للتجريد لا للظرفية ، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله مبالغة لكماله فيها ، كما يقال في البيضة عشرون منا من حديد.
وقيل : هي على معناها ؛ أي : للظرفية.
والمراد : أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون.
{ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ} : منصوب بفعل مقدر ؛ أي : يجزون جزاء.
والباء الأولى متعلقة بجزاء.
والثانية بيجحدون.
وقدمت عليه لمراعاة الفواصل ؛ أي : بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة أو يلغون فيها وذكر الجحود لكونه سبباً للغو.
{ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب.
{رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ} ؛ أي : أرنا الشيطانين اللذين حملانا على الضلال بالتسويل والتزيين من نوعي الجن والإنس ؛ لأن الشيطان بين جني وإنسي بدليل قوله : شياطين الإنس والجن.
وقوله : من الجنة والناس.
ويقال : أحدهما قابيل بن آدم سنّ القتل بغير حق ، والذي من الجن إبليس سن الكفر والشرك ، فيكون معنى أضلانا : سنا لنا الكفر والمعصية كما في "عين المعاني".
ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع "ما من مسلم يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمه ؛ لأنه أول من سن القتل".
أخرجه الترمذي.
ويروى أن قابيل شدت ساقاه بفخذيه يدور مع الشمس حيث دارت يكون في الشتاء في حظيرة ثلج.
وفي الصيف في حظيرة نار.
{نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} ؛ أي : ندسهما انتقاماً منهما {لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ} ؛ أي : ذلاً ومهانة ، أو نجعلهما في الدرك الأسفل من النار تشفياً منهما بذلك ، ليكونا من الأسفلين مكاناً وأشد عذاباً منا.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس إذا فنيت عن أوصافها بنار أنوار التجلي وذاقت حلاوة القرب تلتمس من ربها إطلاعها على بقايا الأوصاف الشيطانية والحيوانية التي جبلت النفوس عليها ليمكنها منها ، فتجعلها تحت أقدام همتها بإفنائها ، فتعلو بها إلى مقامات القرب ليكونا من الأسفلين ، وتكون من الأعلون.
وهذا إنما يكون في الترقي من مقام إلى مقام إذ بقية المقام الأدنى لا تزول إلا بالترقي إلى المقام الأعلى.
وهكذا إلى نهاية المقامات فعلى العبد أن يجتهد ، حتى يخرج من الدنيا مع فناء النفس لا مع بقائها ؛ فإنه إذا خرج منها بالفناء خلص من الجزع وإلا وقع فيه كما وقع الكفرة ، ولا فائدة في الجزع يوم القيامة.
(8/193)
وفي الآية تنبيه على أن الأخلاء يومئذٍ أعداء ، فالخليل للمؤمن في الدارين ليس إلا الله.
وكان رجل له حبيب فتوفي ، فجزع عليه جزعاً شديداً حتى صار مجنوناً ، فذكر حاله لأبي يزيد البسطامي قدس سره ، فأتى إليه وهو مقيد في دار المرضى ، فقال له أبو يزيد : يا هذا غلطت في الابتداء حيث أحببت الحي الذي يموت ، وهلا أحببت الحي الذي لا يكون فأفاق المجنون من جنوبه وأقبل على عبادة الله حتى صار من جملة الكبراء.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
جون زعلت وارعيدى اى رهين
سر كه رابكذار وميخور انكبين
تخت دل معمور شد باك ازهوا
بروى الرحمن على العرش استوى
حكم بردل بعد ازين بى واسطه
حق كند جون يافت دل اين رابطه
يشير إلى أنه لا بد من رياضة النفس إلى أن تتلخص من العلة ، فما دامت العلة فلتقنع بالخل ، فإذا ذهبت فقد حكم عليها القلب ، وليس شأنه إلا إبقاء الحلاوة وإطعام اللذائذ ، بل لو طهر السر عما سوى الله
253
استوى الرحمن على عرش القلب ، فكان دوران العبد مع الله في كل حال ، فلا يجد إلا الحضور والسكون نسأل الله ذلك الفوز العظيم.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِا وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} .
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} .
اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته فربنا الله من باب صديقي زيد يفيد الحصر.
{ثُمَّ اسْتَقَـامُوا} : أي ثبتوا على الإقرار بقولهم : ربنا الله ومقتضياته بأن لا تزل قدمهم عن طريق العبودية قلباً وقالباً ، ولا تتخطاه.
وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات بصفة الدوام وقت الوفاة ، فثم للتراخي في الزمان ، أو في الرتبة ، فإن الاستقامة لها الشأن كله ، يعني : المنتهى ، وهي الاستقامة لكونه مقصوداً أعلى حالاً من المبدأ ، وهو الإقرار واستقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم.
وما روي عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في معناها من الثبات على الإيمان ، كما روي عن عمر رضي الله عنه ومن إخلاص العمل ، كما روي عن عثمان رضي الله عنه.
ومن أداء الفرائض كما روي عن علي رضي الله عنه ، فبيان لجزئياتها.
أنس بن مالك رضي الله عنه : (كفت آن روزكه اين آيت فرود آمد رسول خدا شاد وازشادى كفت امتى ورب الكعبة).
وذلك لأن اليهود والنصارى لم تستقم على دينهم حتى قالوا : عزير بن الله والمسيح بن الله ونحو ذلك.
وكفروا بنبوة رسول الله عليه السلام ، ومن الاستقامة أن لا يرى المرء النفع والضر إلا من الله ، ولا يرجو من أحد دون الله ، ولا يخاف أحداً غيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قلت : يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به.
قال : "قل ربي الله ، ثم استقم".
قال : قلت : ما أخوف ما يخاف عليّ.
فأخذ رسول الله بلسان نفسه ، وقال : "هذا" ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية.
قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
صاحب "كشف الأسرار" : (فرمودكه ربنا الله عبارت از توحيد اقرارست كه عائد مؤمنان راست ثم استقاموا اشارت بتوحيد معرفت كه عارفان وصديقان راست توحيد اقرار آنست كه الله رايكتا كويى وتوحيد معرفت آنست كه اورا يكاستا شناسى يعنى از همه جهت بوحدت او بينا كردى با آنكه در عالم وحدت جهت نيست.
نى جهت مى كنجدا ينجا نى صفت.
نى تفكرنى بيان معرفت.
آتشى از سروحدت برفروخت.
غير واحد هرجه بيش آمد بسوخت.
أبو يزيد البسطامي قدس سره وقتى برمقام علم ايستاده بود از توحيد اقرار نشان ميداد مريدى كت اى شيخ خدايرا شناسى كفت در كل عالم خود كسى باشدكه خدايرا ننشناسد يانداند وقتى ديكر غريق بحر توحيد معرفت بود وحريق نار محبت اوراكفتند خدايرا شناسى كفت من كه باشم كه اوراشناسم ودر كل عالم خود كسى باشدكه اوراشناسد.
در عشق تومن كيم كه در منزل من.
از وصل رخت كلى دمدبر كل من ، بير طريقت كفت صحبت باحق دوحر فست اجابت واستقامت اجابت عهدست استقامت وفا اجابت شريعت است واستقامت حقيقت درك شريعت هز ارسال بساعتى در توان يافت ودرك حقيقت ساعتى بهزار سال درنتوان يافت).
(8/194)
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى يوم الميثاق لما خوطبوا بقوله : ألست بربكم.
قالوا : بلى ؛ أي : ربنا الله ، وهم الذريات المستخرجة من ظهر آدم عليه السلام أقروا بربوبيته ، ثم استقاموا على إقرارهم بالربوبية ثابتين على أقدام العبودية لما أخرجوا إلى عالم الصورة ، ولهذا ذكر بلفظ ، ثم لأنه للتراخي ، فأقروا في
254
عالم الأرواح ، ثم استقاموا في عالم الأشباح ، وهم المؤمنون بخلاف المنافقين والكافرين ؛ فإنهم أقروا ، ولم يستقيموا على ذلك ، فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي.
وفي الباطن بالإيمان والتصديق ، واستقامة الخواص في الظاهر بالتجريد عن الدنيا وترك زينتها وشهواتها.
وفي الباطن بالتفريد عن نعيم الجنان شوقاً إلى لقاء الرحمن ، وطلب العرفان واستقامة الأخص في الظاهر برعاية حقوق المتابعة على وفق المبايعة بتسليم النفس والمال.
وفي الباطن بالتوحيد في استهلاك الناسوتية في اللاهوتية ليستقيم بالله مع الله فانياً عن الأنانية باقياً بالهوية بلا أرب من المحبوب مكتفياً عن عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام فنائه في وجوده.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} من جهته تعالى يمدونهم فيما يعرض لهم من الأمورالدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يمدهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح.
وكذا تتنزل عند الموت بالبشرى.
وفي القبر وعند البعث إذا قاموا من قبورهم {إِنَّ} مفسرة بمعنى ؛ أي : أو مخففة من الثقيلة.
والأصل بأنه والهاء ضمير الشأن ؛ أي : يتنزلون ملتبسين بهذه البشارة ، وهي {أَلا تَخَافُوا} ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ، فلا ترون مكروهاً ؛ فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه.
{وَلا تَحْزَنُوا} على ما خلفتم من أهل وولد ؛ فإنه تعالى يخلفكم عليهم بخير ويعطيكم في الجنة أكثر من ذلك وأحسن ، ويجمع بينكم وبين أهاليكم وأولادكم المسلمين في الجنة ، فإن الحزن غم يحلق من فوات نافع ، أو حصول ضار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" : الخوف إنما يكون في المستقبل من الوقت ، وهو بحلول مكروه ، أو فوات محبوب ، والملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون ، وكل محذور لهم لا يكون ، والحزن من حزونة الوقت والذي هو راضضٍ بجميع ما يجري مستسلم للأحكام الأزلية ، فلا حزونة في عيشه ، بل من يكون قائماً بالله وهائماً في الله دائماً مع الله لا يدركه الخوف والحزن والملائكة يبشرونهم أن لا تخافوا ولا تحزنوا على فوات العناية في السابقة.
{وَأَبْشِرُوا} ؛ أي : سروا.
وبالفارسية : (شاد شويد فان الا بشار شادشدن).
{بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل هذا من بشارتهم في أحد المواطن الثلاثة.
وعن ثابت : بلغنا إذا انشقت الأرض يوم القيامة ينظر المؤمن إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان له : لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة الموعودة وإنك سترى اليوم أموراً لن ترى مثلها ، فلا تهولنك ، فإنما يراد بها غيرك.
وفي "التأويلات النجمية" : وأبشروا بجنة الوصلة ، فإن الوعد صار نقداً ، فما بقي الوعد والوعيد.
وما هو إلا عيد في القيد فأوعد الله للعوام من جميع الثواب للخواص من حسن المآب نقد لأخص الخواص من أولي الألباب (ع) : (جنت نقدست انيجا حالت ذوق وحضور).
ويقال : لا تخافوا من عزل الولاية ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية وأبشروا بحسن العناية في البداية لا تحافظوا فطالما كنتم من الخائفين ، ولا تحزنوا فقد كنتم من العارقين وأبشروا بالجنة فلنعم أجر العاملين.
(فردا هر جخ شرايعست همه را قلم نسخ در كشند نماز وروزه حج وجهاد روا باشدكه ببايان رسد ومنسوخ شود اما عقد محبت وعهد معرفت هر كز نشايدكه منسوخ شود جون در بهشت روى هر روزى كه برتو بكزرد از شناخت حق سبحانه وتعالى برتو عالمى كشاده شودكه بيش ازان نبوده
255
اين كاريست كه هركز بسرنيايد ومباداكه بسر آيد.
تامن بريم بيشه اينست.
آرام وقرار وغمكسارم انيست.
روزم اينست وروز كارم اينست.
جوينده صيدم وشكارم اينست).
قال البقلي قدس سره : عجبت ممن استقام مع الله في مشاهدته وإدراك جماله كيف يطيق الملائكة أن يبشروه أين الملك والفلك بين الحبيب والمحب ، وليس وراء بشارة الحق بشارة ، فإن بشارة الحق سمعوها قبل بشارة الملائكة بقوله : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) ليس لهم خوف القطيعة ولا حزن الحجاب ، وهم في مشاهدة الجبار.
وقول الملائكة ها هنا معهم تشريف لهم ؛ لأنهم يحتاجون إلى مخاطبة القوم ، وهم أحباؤنا في نسب المعرفة وخدامنا من حيث الحقيقة ألا ترى كيف سجدوا لأبينا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/195)
{نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} .
إلخ.
من بشاراتهم في الدنيا ؛ أي : أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم بدل ما كانت الشياطين تفعل بالفكرة.
ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله وتأييده لهم بواسطة الملائكة.
قال جعفر رضي الله عنه : من لاحظ في أعماله الثواب والأغراض كانت الملائكة أولياءه ، ومن عملها على مشاهدته تعالى ، فهو وليه ؛ لأنه يقول : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} (البقرة : 257).
{وَفِى الاخِرَةِ} : نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادي والتخاصم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى ولاية الرحمة للعوام وولاية النصرة للخواص وولاية المحبة لأخص الخواص فبولاية الرحمة للعوام في الحياة الدنيا يوفقهم لإقامة الشريعة.
وفي الآخرة يجازيهم بالجنة وبولاية النصرة للخواص في الحياة الدنيا يسلطهم على أعدى عدوهم ، وهو نفسهم الأمارة بالسوء ليجعلوها مزكاة من اخلاقها الذميمة وأوصافها الدنيئة ، وفي الآخرة بجذبة ارجعي إلى ربك ، وبولاية المحبة لأخص الخواص في الحياة الدنيا يفتح عليهم أبواب المشاهدات والمكاشفات.
وفي الآخرة يجعلهم من أهل القربات والمعاينات.
ومن ولاية الله تعالى عفو الزلل ، فإن الزلل لا يزاحم الأزل.
أبو يزيد بسطامي قدس سره : (در راهى ميرفت او از جمعى بكوش رى رسيد خواست كه آن حال باز داند فرا رسيدكه كودكى را ديد در كل سياه افتاده وخلقى بنظاره ايستاده ناكاه مادر آن كودك از كوشه در دويد وخودرا درميان كل افكند وآن كودك رابر كرفت وبرفت ابو يزيد جون آن بديد وقتش خوش كفت نعرة بزد ايستاده وميكفت شفقت بيامد آلايش ببرد ومحبت بيامد معصيات ببرد وعنايت بيامد جنايت) ببرد العذر عندي لك مبسوط والذنب على مثلك محطوط.
قال الحافظ : (ببوش دامن عفوى بذلت من مست ، كه آب روى شريعت بدين قدر نرود).
{وَلَكُمْ} لا لغيركم من الأعداء.
{فِيهَا} ؛ أي : في الآخرة.
{مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من فنون اللذائذ.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تتمنون.
وبالفارسية : (هرجه شما آرزو خواهيد).
افتعال من الدعاء بمعنى الطلب ، وهو أعم من الأول إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ، وإن كان الأول أعم أيضاً من وجه بحسب حال الدنيا ، فالمريض لا يزيد ما يشتهيه ويضر مرضه إلا أن يقال التمني أعم من الإرادة وعدم الاكتفاء بعطف ما تدعون على ما تشتهي بأن يقول ، وما تدعون للإشباع في البشارة
256
والإيذان باستقلال كل منهما.
{نُزُلا} رزقاً كائناً.
{مِّنْ غَفُورٍ} للذنوب العظام مبدل للسيئات بالحسنات.
{رَّحِيمٍ} بالمؤمنين من أهل الطاعات بزيادة الدرجات والقربات قوله : نزلا حال مما تدعون ؛ أي : من الموصول ، أو من ضميره المحذوف ؛ أي : ما تدعونه مفيدة ، لكون ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأمور كالنزل ، وهو ما يهيأ للنزيل ؛ أي : الضيف من الرزق ؛ كأنه قيل : وثبت لكم فيها الذي تدعونه حال كونه كالنزل للضيف ، وأما أصل كرامتكم ، فمما لا يخطر ببالكم فضلاً عن الاشتهاء ، أو التمني.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" نزلاً ؛ أي : فضلاً وعطاء وتقدمة لما سيدوم إلى الأزل من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف.
وذلك لأن عطاء الله تعالى يتجدد في كل آن خصوصاً لأهل الاستقامة من أكامل الإنسان ويظهر في كل وقت وموطن ما لم يظهر قبله وفي غيره ويكون ما في الماضي كالنزل لما يظهر في الحال ، ومن هنا قالوا : ما ازداد القوم شرباً إلا ازدادوا عطشاً.
وذلك لأنه لا نهاية للسير إلى الله في الدنيا والآخرة.
وفي المثنوي :
هركه جز ما هى زآبش سيرشد
هركه بى روزيست روزش ديرشد
وفيه إشارة إلى أن بعض الناس لا نصيب له من العشق والذوق والتجلي ويومه ينقضي بالهموم وتطول حسرته ، ولذلك كان يوم القيامة خمسين ألف سنة.
قال ابن الفارض في آخر القصيدة الخمرية : على نفسه قليبك من ضاع عمره.
وليس له منها نصيب ولا سهم.
قال الصائب : (ازين جه سودكه دركلستان وطن دارم.
مراكه عمر جونر كس بخواب ميكذرد).
ومن الناس من له نصيب من هذا الأمر لكن لا على وجه الكمال ، ومنهم من لم يحصل له الري أصلاً ، وهو حال الكمال.
حكي أن يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه : كتب إلى أبي يزيد البسطامي قدس سره سكرت من كثرة ما شربت من كأس حبه فكتب إليه أبو يزيد : ()
شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
أشار إلى أن حصول الري إنما هو للضعفاء ، وأما الأقوياء ، فإنهم يقولون : هل من مزيد ولو شربوا سبعة أبحر جعلنا الله ، وإياك هكذا من فضله.
(8/196)
{نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُا ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الَّذِينَ} .
{وَمِنْ} استفهام.
والمعنى بالفارسية : (وكيست).
{أَحْسَنُ} نيكوتر {قَوْلا} : (از جهت سخن).
{مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} ؛ أي : إلى توحيده وطاعته.
{وَعَمِلَ صَـالِحًا} فيما بينه وبين ربه.
{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ابتهاجاً بأنه منهم ، أو اتخاذاً للإسلام ديناً ونحلة إذ لا يقبل طاعة بغير دين الإسلام من قولهم هذا قول فلان ؛ أي : مذهبه لا أنه تكلم بذلك.
وفيه رد على من يقول : أنا مسلم إن شاء الله ، فإنه تعالى قال مطلقاً غير مقيد بشرط إن شاء الله.
وقال علماء الكلام : إن قاله للشك ، فهو كفر لا محالة ، وإن كان للتأدب مع الله وإحالة الأمور إلى مشيئة الله أو للشك في العاقبة والمآل لا في الآن.
والحال وللتبرك بذكر الله ، أو التبري من تزكية نفسه والإعجاب بحاله ، فجائز ، لكن الأولى تركه لما أنه يوهم الشك وحكم الآية عام لكل من جمع ما فيها من الخصال الحميدة التي هي الدعوة والعمل والقول ، وإن نزلت في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو في أصحابه رضي الله عنهم ، أو في المؤذنين ؛ فإنهم يدعون الناس إلى الصلاة ، فإن قلت السورة بكاملها مكية بلا خلاف الآذان إنما شرع بالمدينة قلت :
257
يجعل من باب ما تأخر حكمه عن نزوله ، وكم من القرآن منه ، وإليه ذهب بعض الحفاظ كابن حجر وغيره.
اعلم أن للدعوة مراتب ، الأولى : دعوة "الأنبياء" عليهم السلام ، فإنهم يدعون إلى الله بالمعجزات والبراهين وبالسيف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى أن أحسن قول قاله الأنبياء والأولياء قولهم بدعوة الخلق إلى الله ، وكان عليه السلام مخصوصاً بهذه الدعوة كما قال تعالى : يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب : 45 ـ ـ 46) ، وهو أن يكتفي بالله من الله لم يطلب منه غيره :
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
وقال وعمل صالحاً ؛ أي : كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه يعني : سلكوا طريق الله إلى أن وصلوا إلى الله وصولاً بلا اتصال ولا انفصال فبسلوكهم ومناراتهم عرفوا الطريق إلى الله ، ثم دعوا بعد ما عرفوا الطريق إليه الخلق إلى الله.
{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لحكمه الراضين بقضائه وتقديره.
والمرتبة الثانية : دعوة العلماء ؛ فإنهم يدعون إلى الله تعالى بالحجج والبراهين فقط.
قال الكاشفي : إمام أبو الليث : (فرموده كه مراد يعنى از آيت مذكورة علما اندكه معالم دين بمردم آموزند وعمل صالح ايشان آنست كه هرجه دانند بدان كار كنند بامحتسبا نندكه قواعد امر معروف ونهى منكررا تمهيد دهند وعمل صالح ايشان صبر وتحمل است بر آنجه بايشان رسد از مكاره).
ثم إن العلماء ثلاثة أقسام : عالم بالله غير عالم بأمر الله وعالم بأمر الله غير عالم بالله وعالم بالله وبأمر الله.
أما الأول : فهو عبد استولت المعرفة الإلهية على قلبه ، فصار مستغرقاً في مشاهدة الجلال وصفات الكبرياء ، فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا قدر ما لا بد له.
وأما الثاني : فهم الذين عرفوا الحلال والحرام ودقائق الأحكام ، ولكنهم لا يعرفون أسرار جلال الله وجماله.
أما مع الإقرار بأصحاب هذا الشأن ، أو بإنكارهم.
والثاني : ليس من عداد العلماء ، وأما العالم بالله وبأحكامه ، فهم الجامعون لفضائل القسمين الأولين ، وهم تارة مع الله بالحب والإرادة وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة ، فإذا رجعوا إلى الخلق صاروا معهم كواحد منهم ؛ كأنهم لا يعرفون الله وإذا خلوا مع ربهم صاروا مشتغلين بذكره ؛ كأنهم لا يعرفون الخلق.
وهذا سبيل المرسلين والصديقين ، فالعارف يدعو الخلق إلى الله ويذكر لهم شمائل القدم ويعرفهم صفات الحق وجلال ذاته ، ويحبب الله في قلوبهم ، ثم يقول بعد كماله وتمكينه أنني واحد من المسلمين من تواضعه ولطف حاله :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
از زنك آينة خويش ساده كن
درزير با نظر كن وحج بياده كن
والمرتبة الثالثة : الدعوة بالسيف ، وهي للملوك ؛ فإنهم يجاهدون الكفار حتى يدخلون في دين الله وطاعته ، فالعلماء خلف الأنبياء في عالم الأرواح والملوك خلف الأنبياء في عالم الأجسام.
(8/197)
والمرتبة الرابعة : دعوة المؤذنين إلى الصلاة ، وهي أضعف مراتب الدعوة إلى الله ، وذلك أن ذكر كلمات الأذان ، وإن كان دعوة إلى الصلاة لكنهم يذكرون تلك الألفاظ الشريفة بحيث لا يحيطون بمعناها ، ولا يقصدون الدعوة إلى الله ، فإذا لم يلتفتوا إلى مال الوقف وراعوا شرائط الأذان ظاهراً وباطناً وقصدوا بذلك مقصداً صحيحاً ، كانوا كغيرهم من أهل الدعوة.
(فضيل رفيده كفت مؤذن بودم روزكار أصحاب رضي الله عنهم عبد الله بن مسعود وعاصم بن هبرة مراكفت جون زبانك نماز فارغ شوى بكو وأنا من المسلمين نبينى كه رب العالمين
258
كفت).
وقال : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
وفي الحديث : "الملك في قريش والقضاء للأنصار والأذان للحبشة".
وفيه مدح لبلال الحبشي رضي الله عنه.
وكذا في الآية تعظيم لشأنه خصوصاً ؛ لأنه مؤذن الداعي إلى الله على بصيرة ، وهو المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم.
صاحب "عين المعاني" : (آورده كه جون بلال بانك نماز آغاز كردى يهود كفتندى كلاغ ندامى كند وبنماز ميخواند وسخنان بيهوده برزبان ايشان كذشتى اين آيت نازل شد وبر تقديرى كه مؤذنان باشند عمل صالح ايشان آنست درميان اذان واقامن دو ركعت نماز كذا رند).
قال عمر رضي الله عنه : لو كنت مؤذناً ما باليت أن لا أحج ولا أجاهد ولا أعتمر بعد حجة الإسلام.
صاحب "كشف الأسرار" : (فرموده كه حق جل وعلا مؤذنان امت احمد بنج كرامت كرد).
حسن الثناء وكمال العطاء ومقارنة الشهداء ومرافقة الأنبياء والخلاص من دار الشقاء.
(كرامت أول ثناء جميل است وسند خداوند كريم كه در حق مؤذن ميكويد).
ومن أحسن قولاً.
إلخ.
(أحسن بر لفظ مبالغت كفت همجانكه تعظيم قرآنرا كفت الله نزل أحسن الحديث قرآن أحسن الآيات است وبانك نماز احسن الكلمات زيرا درو تكبير وتعظيم وإثبات وحدانيت خداوند أعلى وإثبات نبوت مصطفى).
وفي الخبر : "من كثرت ذنوبه ، فليؤذن بالأسحار" عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(كفت يا رصول الله اين وقت سحررا باين معنى جه خاصيت است كفت).
والذي بعث بالحق محمداً أن النصارى إذا ضربت نواقيسها في أديارها فيثقل العرش على مناكب حملة العرش ، فيتوقعون المؤذنين من أمتي ، فإذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر.
خف العرش على مناكب حملة العرش.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الإمام السيوطي رحمه الله : أول ما حدث التسبيح بالأسحار على المنابر في زمن موسى عليه السلام حين كان بالتيه واستمر بعده إلى أن كان زمن داود عليه السلام وبنى بيت المقدس فرتب فيه عدة يقومون بذلك البيت على الآلات وبغيره بلا آلات من الثلث الأخير من الليل إلى الفجر إلى أن خرب بيت المقدس بعد قتل يحيى عليه السلام.
وقام اليهود على عيسى عليه السلام ، فبطل ذلك في جملة ما بطل من شرائع بني إسرائيل.
وأما في هذه الملة المحمدية ، فكان ابتداء عمله بمصر.
وسببه أن مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله عنه بني ، وهو أمير مصر مناراً بجامع عمرو واعتكف فيه ، فسمع أصوات النواقيس عالية ، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين ، فقال أني أمد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر ؛ فإنهم لا ينقسون إذا أذنت ، ففعل ثم لما كان أحمد بن طولون رتب جماعة نوباً يكبرون ويسبحون ويحمدون ويقولون قصائد زهدية ، وجعل لهم أرزاقاً واسعة ، ومن ثمة اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المنابر ، فلما ولي السلطان صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية ، فواظب المؤذنون على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا ، انتهى.
يقول الفقير : آل الأمر في زمننا هذا في بلاد الروم إلى أن السلاطين من ضعف حالهم في الدين صاروا مغلوبين ، فانتقل كثير من البلاد الإسلامية إلى أهل الحرب ، فجعلوا المساجد كنائس والمنارات مواضع النواقيس ، ولما كان الناس على دين ملوكهم صار الأمر في البلاد الباقية في أيدي المسلمين إلى الوهن والهدم ، بحيث تخربت بعض المحلات بالكلية مع المساجد
259
الواقعة فيها ، وتعطل بعضها عن العمار من المسلمين بسبب توطن أهل الذمة فيها ، وبقيت المساجد بينهم غريبة ، فتعالوا نبك على غربة هذا الدين ، وأما كمال العطاء ، فما روي أن النبي عليه السلام قال : "المؤذنون أمناء المؤمنين على صلاتهم وصيامهم ولحومهم ودمائهم لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم ، ولا يشفعون بشيء إلا شفعوا فيه".
(8/198)
قال : "ويغفر للمؤذن مدى صوته يعني : (آمر زيده ميشويد مؤذن بمقدار أنكه اوازوى رسده).
ويشهد له كل شيء سمع صوته من شجر أو حجر ، أو مدر أو رطب ، أو يابس ، ويكتب للمؤذن بكل إنسان صلى معه في ذلك المسجد مثل حسناته ، وأما مقارنة الشهداء ، فما روي أن النبي عليه السلام قال : "من أذن في سبيل الله إيماناً واحتساباً جمع بينه وبين الشهداء في الجنة" وأما مرافقة الأنبياء ، فما روي : أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام ، فقال : يا رسول الله من أول الناس دخولاً للجنة ، قال : "الأنبياء".
قال : ثم من؟ ، قال : "الشهداء".
قال : ثم من؟ قال : "مؤذنوا مسجدي هذا.
قال : ثم من؟.
قال : سائر المؤذنين على قدر أعمالهم".
وقال عليه السلام : "من أذن عشرين سنة متوالية أسكنه الله تعالى مع إبراهيم عليه السلام في الجنة وأما الخلاص من دار الأشقياء.
فما روي أن النبي عليه السلام قال : "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر أغلقت أبواب النيران السبعة" ، وإذا قال : "أشهد أن لا إله إلا الله فتحت أبواب الجنة الثمانية ، وإذا قال : أشهد أن محمداً رسول الله أشرفت عليه الحور العين".
وإذا قال : "حي على الصلاة تدلت ثمار الجنة ، وإذا قال : حي على الفلاح قالت الملائكة أفلحت وأفلح من أجابك ، وإذا قال : الله أكبر الله أكبر ، قالت الملائكة : كبرت كبيراً وعظمت عظيماً ، وإذا قال : لا إله إلا الله قال الله تعالى : حرمت بدنك وبدن من أجابك على النار".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث : "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة" ؛ أي : يكونون سادات وأكثر الناس ثواباً ، أو جماعات ، أو رجاء ؛ لأن من رجا شيئاً أطال إليه عنقه ، والناس حين يكونون في الكرب يكون المؤذنون أكثر رجاء بأن يؤذن لهم في دخول الجنة كان ذلك جزاء مد أعناقهم عند رفع أصواتهم ، أو طول العنق كناية عن الفرح كما أن خضوعها كناية عن الحزن ، أو معناه إذا وصل العرق إلى أفواه الناس يوم القيامة طالت أعناق المؤذنين في الحقيقة لئلا ينالهم ذلك ، ومن أجاب دعوة المؤذنين يكون معه.
قال الفقهاء : يقطع سامع الأذان كل عمل باليد والرجل واللسان حتى تلاوة القرآن إن كان في غير المسجد ، وإن كان فيه ، فلا يقطع ولا يسلم على أحد وأما رده ، فقد اختلفوا فيه ، فقيل : يجوز.
وقيل : لا يجوز ويشتغل بالإجابة ، واختلفوا في الوجوب والاستحباب ، فقال بعضهم : الإجابة واجبة عند الأذان والإقامة منهم صاحب "التحفة والبدائع".
وقال الآخرون : هي مستحبة وعليه صاحب "الهداية".
ويستحب أن يقول عند سماع الأولى من الشهادة الثانية صلى الله تعالى عليك يا رسول الله وعند سماع الثانية قرة عيني بك يا رسول الله ، ثم يقول : اللهم متعني بالسمع والبصر بعد وضع ظفر الإبهامين على العينين ، كما في "شرح القهستاني" ، وفي "تحفة الصلوات" للكاشفي صاحب "التفسير" نقلاً عن الفقهاء الكبار ، ويقول بعد الأذان : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته.
ويقول عند أذان المغرب خصوصاً : اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك ، فاغفر لي وأول
260
من أذن في السماء جبرائيل وأم ميكائيل عليهما السلام عند البيت المعمور ، وأول من أذن في الإسلام بلال الحبشي رضي الله عنه ، وكان أول مشروعيته في أذان الصبح.
قالت النوار أم زيد بن ثابت : كان بيتي أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بنى رسول الله عليه السلام مسجده ، فكل يؤذن بعده على ظهر المسجد ، وقد رفع له شيء فوق ظهره ، وأول من أقام عبد الله بن زيد وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات الصلاة خير من النوم مرتين ، فأقرها عليه السلام ؛ أي : اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم ، ويقول المجيب عنده : صدقت وبالخير نطقت.
وعند قوله في الإقامة : قد قامت الصلاة ، أقامها الله وأدامها ويقيم من أذن لا غيره إلا بإذنه.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام : "أذن مرة واحدة في السفر على راحلته".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
ويروى : أن بلالاً كان يبدل الشين في أشهد سيناً ، فقال عليه السلام سين بلال عند الله شين كما في "إنسان العيون".
وفي المثنوي :
آن بلال صدق در بانك نماز
حى راهى هى همى خواند ازنياز
تابكفتنداى بيمبر نيست راست
اين خطا اكنون كه آغاز بناست
اى نبى واى رسول كردكار
بك مودن كو بود افصح بيار
عيب باشد اول دين وصلاح
لحن خواندن لفظ حي على الفلاح
خشم بيغمبر بجوشيد وبكفت
يك دو رمزى از عنايات نهفت
كاى خسان نزد خداى هي بلال
بهتر از صد حي حي وقيل وقال
وامشو رانيد تا من را زتان
وانكويم آخر وآغاز نان
(8/199)
وأول من زاد الأذان الأول في الجمعة عثمان رضي الله عنه زاده ليؤذن أهل السوق ، فيأتون إلى المسجد.
وكان في زمانه عليه السلام وزمان أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه أذان واحد حين يجلس الإمام على المنبر ، والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون لأجل التبكير المطلوب في الجمعة ، وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي عليه السلام بعد تمام الأذان في زمن السلطان المنصور الحاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون في أواخر القرن الثامن ، وأول من أحدث أذان اثنين معاً بنو أمية ، وأول من وضع إحدى يديه عند أذنيه في الأذان ابن الأصم مؤذن الحجاج بن يوسف.
وكان المؤذنون يجعلون أصابعهم في آذانهم ، وأول من رقى منارة مصر للأذان شرحبيل المذكور.
وفي عرافته بنى مسلمة المنابر للأذان بأمر معاوية ، ولم تكن قبل ذلك ، وأول من عرف على المؤذنين سالم بن عامر أقامه عمرو بن العاص ، فلما مات عرف عليهم أخاه شرحبيل ، وأول من رزق المؤذنين عثمان رضي الله عنه ، والجهر واجب في الأذان لإعلام الناس ، ولذا سن أن يكون في موضع عاللٍ ، ولو أذن لنفسه خافت ، وأما التكبيرات في الصلاة ، فالمؤذن يرفع صوته لتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين ، فإن كان في صوت الإمام كفاية ، فالتبليغ مكروه ، كما في "إنسان العيون".
يقول الفقير : أما سر عدد المنارات في الحرم
261
النبوي.
وهي اليوم خمس فإشارة إلى الأوقات الخمسة ، فهو صورة بالدعوات الخمس في الساعات الأربع والعشرين المشتمل عليها الليل والنهار ، وأول من قدر الساعات الاثنتي عشرة نوح عليه السلام في السفينة ، ليعرف بها مواقيت الصلوات ، وأما سر عددها في الحرم المكي ، وهي سبع الآن ، فإشارة إلى مراتب الدعوة إلى الفناء ، وهي سبع عدد الأسماء السبعة التي آخرها القهار ، فإن الكعبة إشارة إلى الذات الأحدية ومراتبها عروجاً هي مراتب الفناء ، إذ البقاء إنما هو بعد النزول ، ولذا أمر عليه السلام بالهجرة إلى المدينة لتتحقق مرتبة البقاء فللكعبة منارة أخرى هي الثامنة من المنارات ، وهي منارة البقاء ، لكنها في بطن الكعبة مدفونة تحتها ، ولم يكن لها ظهور فوق الأرض إلا بحسب المكاشفة كوشفت عنها حين مجاورتي في الحرم وكان للحرم المكي في الأوائل خمسون منارة على ما طالعته في تاريخ القطبي بعضها في الحرم وبعضها على رؤوس الجبال التي هي بينها كل ذلك لإعلام الأوقات ، فهي إشارة إلى أصل الصلوات المفروضة ليلة المعراج ، وهي خمسون حتى خففها الله تعالى ، فبقيت منها خمس ، ولله في كل شيء حكمة عجيبة ومصلحة بديعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} ، بيان لمحاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب ترغيباً لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقاتلة إسائتهم بالإحسان ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي ؛ أي : لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الجزاء وحسن العاقبة ، فإنك إذا صبرت على أذيتهم وجهالتهم وتركت الانتقام منهم ، ولم تلتفت إلى سفاهتهم ، فقد استوجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضد من ذلك ، فلا يكن إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة ، وإذا فسرت الحسنة والسيئة بالجنس على أن يكون المعنى لا تستوي الحسنات إذ هي متفاوتة في أنفسها كشعب الإيمان التي أدناها إماطة الأذى ولا السيئات لتفلوتها أيضاً من حيث أنها كبائر وصغائر لم تكن زيادة لا الثانية لتأكيد النفي على ما أشير إليه في "الكشاف".
{ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : بيان لحسن عاقبة الحسنة ؛ أي : ادفع السيئة حين اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء ؛ فإنه أحسن من العفو :
بدى رابدى سهل باشد جزا
امر مردى احسن إلى من اسا
وكان عليه السلام يقول : صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك" ، وما أمر عليه السلام غيره بشيء إلا بعد التخلق به ، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال : كيف؟ مع أن الظاهر أن يقول : فادفع بالفاء السببية للبمالغة ، ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة ؛ لأنه أبلغ في الدفع بالحسنة ، فإن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.
{فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ} : بيان لنتيجة الدفع المأمور به ؛ أي : فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق ؛ أي : المخالف مثل الولي الشفيق.
روي : أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك أنه لان للمسلمين بعد الشدة ؛ أي : شدة عداوته بالمصاهرة التي جعلت بينه وبين النبي عليه السلام ، ثم أسلم فصار ولياً بالإسلام حميماً بالقرابة.
(از امام اعظم نقلست كسى بمن رسانندكه مرابدمى كويد من درشان او سحن نيكو ترمى كويم تاوقتى من يابم كه او نيكويى من ميكويد) :
262
بدى ردققا عيب من كردو خفت
بترز وقريبى آو رد وكفت
(8/200)
عدو را بالطاف كردن ببند
كه نتوان بريدن بتيغ اين كمند
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
جود شمن كرم بيند ولطف وجود
نيايد ذكر خبث ازو در وجود
جو بادوست دشوار كيرى وتنك
نخواهد كه بيند ترا نقش رنك
وكر خواجه بادشمنان نيك خوست
كسى برنيا يدكه كردند دوست
قال البقلي : بين الله ها هنا أن الخلق الحسن ليس كالخلق السيىء وأمرنا بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة وأحسن الأخلاق الحلم إذ يكون به العدو صديقاً ، والبعيد قريباً حين دفع غضبه بحلمه وظلمه بعفوه وسوء جانبه بكرمه.
قال ابن عطاء : لا يستوي من أحسن الدخول في خدمتنا ، والخروج منها ، ومن أساء الأدب في الخدمة.
فإن سوء الأدب في القرب أصعب من سوء الأدب في البعد ، فقد يصفح عن الجهال في الكبائر ويؤاخذ الصديقون باللحظة والالتفات.
{وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ} التلقية : (جيزى بيش كسى آوردن) ؛ أي : وما يلقى ، وما يعطى هذه الخصلة والسجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان.
وبالفارسية : (وندهند اين خصلت كه مقابلة بديست بنيكى).
{إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} ؛ أي : شأنهم الصبر ؛ فإنها تحبس النفس عن الانتقام.
{وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ} : (وعطا نكنند اين خصلت وصفت).
{إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ} من الفضائل النفسانية والقوة الروحانية ، فإن الاشتغال بالانتقام لا يكون إلا لضعف النفس وتأثرها من الواردات الخارجية ، فإن النفس إذا كانت قوية بالجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية ، وإذا لم تتأثر منها لم يصعب عليها تحمل ، ولم تشتغل بالانتقام.
والحاصل : أنه يلزم تزكية النفس حتى يستوي الحلو والمر ، ويكون حضور المكروه كغيبته.
ففي الآية مدح لهم بفعل الصبر والحظ النصيب المقدر.
قال الجنيد قدس سره في قوله : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ؛ أي : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظ من عناية الحق فيه.
وقال ابن عطاء : ذو معرفة بالله وأيامه.
{وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُا لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَه بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ} : أصله أن ما على أن إن شرطية ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط والاستلزام ، فلذا لحقت نون التأكيد بفعل الشرط ؛ فإنها لا تلحق الشرط ما لم يؤكد.
والنزغ شبه النخس كما في "الإرشاد" شبه به وسوسة الشيطان ؛ لأنها بعث على الشر وتحريك على ما لا ينبغي.
وجعل نازغاً على طريقة جد جده فمن ابتدائية ؛ أي : نزغ صادر من جهته ، أو أريد.
وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر ، فكلمة من تجريدية جرد من الشيطان شيطاناً آخر وسمي نازغاً.
والمعنى : وأن يوسوس إليك الشيطان ويصرفك عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن ودعاك إلى خلافه.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من شره ولا تطعه.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} باستعاذتك {الْعَلِيمِ} بنيتك.
وفي جعل ترك الدفع بالأحسن من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي أو الولي لا ينبغي أن يكون آمناً من مكر الله وأن الشيطان صورة مكر الحق تعالى : بل يكون على حذر من نزغاته ، فلسيتعذ بالله من همزاته ، فلا يذرها أن تصل إلى القلب ، بل رجع إليه في أول الخطرة ؛ فإنه إن لم يخالف أول الخطرة صار فكرة ، ثم بعد ذلك يحصل
263
العزم على ما يدعو إليه الشيطان ، ثم إن لم يتدارك ذلك تحصل الزلة ، فإن لم يتدارك بحسن الرجعة صار قسوة ويتمادى به الوقت ، فهو يخطر كل آفة ولا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة بالله ، والإخلاص في العبودية.
قال الله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) ، فكلما زاد العبد في تبريه من حوله وقوته ، وأخلص بين يدي الله تعالى بتضرعه واستعانته زاد الله في حفظه ودفع الله الشيطان عنه ، بل يسلط عليه ليسلم على يديه.
كذا في "التأويلات النجمية".
قال البقلي : هذا تعليم لأمته إذ كان الشيطان أسلم على يده.
قال في "حياة الحيوان" : أجمعت الأمة على عصمة النبي عليه السلام من الشيطان ، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته له وإغوائه ، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه حسب الإمكان :
آدمى را دشمن بنهان بسيست
آدمى باحذر عاقل كسيست
وفي الحديث : "ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن وقرينه من الملائكة".
قالوا : وإياك قال ، وإياي ، ولكن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/201)
قال سفيان بن عيينة معناه ، فأسلم من شره ، فإن الشيطان لا يسلم.
وقال غيره : هو على صيغة الفعل الماضي ويدل عليه ما قاله عليه السلام "فضلت على آدم بخصلتين كان شيطاني كافراً ، فأعانني الله عليه ، فأسلم وكن أزواجي عوناً لي وكان شيطان آدم كافراً وزوجته عوناً على خطيئته" ، فهذا صريح في إسلام قرين النبي عليه السلام ، وإن هذا خاص بقرين النبي عليه السلام ، فيكون عليه السلام مختصاً بإسلام قرينه ، كذا في "آكام المرجان".
يقول الفقير : لا شك أن الشيطان لا يدخل في دائرة الإسلام حقيقة كما أن النفس لا تتبدل حقيقتها كما قال يوسف الصديق عليه السلام : {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ} (يوسف : 53) بل تتبدل صفتها ، فالنبي والولي والعدو في هذا سواء إلا أن النبي معصوم والولي محفوظ ، والعدو موكول ، ولذا لم يقولوا : أن النبي والولي ليس لهما نفس أصلاً ، بل قالوا : هو معصوم ومحفوظ فدل على أصل النفس.
وهذا من مزالق الأقدام ، فلا بد من حسن الفهم ، وصحة الكشف ، فمعنى إسلام شيطان النبي عليه السلام دخوله في السلم كأهل الذمة في دار الإسلام حيث لا يقدرون على أذية المسلمين بحال ، ولكن فرق بين إسلام قرين النبي وقرين الولي ، كما دل عليه لفظ العصمة ، والحفظ ، فإن العظمة تعم الذات كلها ، والحفظ يتعلق بالجوارح مطلقاً ، ولا يشترط استصحابه في السر فقد تخطر للولي خواطر لا يقتضيها طريق الحفظ ، لكن يظهر لها حكم على الجوارح.
صاحب "كشف الأسرار" : (فرموده كه نزغ شيطان سورة غضب ست يعنى تيزى خشم كه از حد اعتدال در كذرد وبتهود كشد وازان خصلتهاى بدخيزد جون كبرو عجب وعداوات اما أصل خشم از خود بيفكندن ممكن نباشد زيراكه آن در خلقت است وجون از حد اعتدال بكاهد بددلى بود وبى حميتى باشد وجون معتدل بود آنرا شجاعت كويند وازان حلم وكرم وكظم غيظ خيزد).
وفي الخبر : "خلق الغضب من النار التي خلق منها إبليس".
وفي الحديث : "الغضب من نار الشيطان ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه والمتغاضيان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان.
يعني : (بريكد يكر غضب ميكند باطل ميكويد ودروغ
264
ميسازند فان التهاتر بريكديكر دعوى باطل كردن كما في "تاج المصادر").
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : "إذا عضبت وكنت قائماً فاقعد ، وإن كنت قاعداً فاستعذ بالله من الشيطان" عصمنا الله وإياكم من كيده ورده مكره إليه ، فلا نتوكل ولا نعتمد إلا عليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} : (وازنشانهاى قدرت الهيست).
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} .
قال الإمام المرزوقي : الليل بإزاء النهار ، والليلة بإزاء اليوم.
{وَالشَّمْسُ} : المشتمل عليها النهار يعني : (خورشيد عالم آراى جون جام سيماب).
{وَالْقَمَرُ} : المشتمل عليه الليل يعني : (هيكل ماه كاه جون نعل زرين وكاه جون سر سيمين).
كل منها مخلوق من مخلوقاته مسخر لأمره يعني : تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي يتفرع عليه منافع الخلق ومصالحهم وتذلل الشمس والقمر لما يراد منهما من أظهر العلامات الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وكمال علمه وحكمته :
بر صنع إله بيعدد برهانست
در برك كلى هزار كون الوانست
روزارجه سبيد وروشن وتابانست
آنراكه نديد روز شب يكسانست
(رب العزة كفت ربى اكر خواهى كه در لا يتم نكرىملك السماوات والأرض واكر خواهى كه در سباهم نكرىجنود السماوات والأرض ، ورخواهى كه در صنعم فعلم نكرى).
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها.
(در خواهى كه در صنعم نكرى).
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر.
(وخواهى كه فردا درمن نكرى امروز از صنع من بامن نكر بديده دل).
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل (تافردا بفضل من دو نكرى بديده سر).
وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة.
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} ؛ لأنهما من جملة مخلوقاته المسخرة لأوامرة مثلكم.
والمراد : الأمر التكويني لا التكليفي إذ لا علم لهما ولا اختيار عند أهل الظاهر.
وأما عند أهل الحقيقة ، فالأمر بخلافه.
ويدل عليه قول الشيخ سعدي : (همه ازبهر توسر كشته وفرمان بردار شرط انصاف نباشدكه توفرمان نبرى).
{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ} : الضمير للأربعة ؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى ، وإن كان المناسب تغليب المذكر وهو ما عدا الشمس على المؤنث ، وهو الشمس أو لأنها عبارة عن الآيات وتعليق الفعل بالكل مع كفاية بيان مخلوقية الشمس والقمر للإيذان بكمال سقوطهما عن رتبة المسجودية بنظمهما في سلك الأغراض التي لا قيام لها بذاتها ، وهو السر في نظم الكل في آياته تعالى.
وفي المثنوي :
آفتاب ازامر حق طباخ ماست
ابلهى باشدكه كوييم او خداست
آفتابت كربكيرد جون كنى
آن سياهى زونو جون بيرون كنى
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
نى بدركاه خدا آرى صداع
كه سياهى را ببر داده شعاع
كركشندن نيمشب خورشيد كو
تا نيابى با امان خواهى ازو
حادثان اغلب بشب واقع شود
(8/202)
وان زمان معبود نوغايب بود
سوى حق كرراستانه خم شوى
وار هى از اختران محرم شوى
{إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ} تعالى لا غيره.
{تَعْبُدُونَ} ؛ أي : إن كنتم تعبدون إياه لا تسجدوا لغيره ،
265
فإن السجود أقصى مراتب العبادة ، فلا بد من تخصيصه به تعالى.
ولعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود ، فنهوا عن هذه الواسطة ، فأمروا أن لا يسجدوا إلا لذي خلق الأشياء ، فإن قيل : لم لم يجز أن تكون الشمس قبلة للناس عند سجودهم ، قلنا : لأنها جوهر مشرق عظيم الرفعة ، لها منافع في صلاح أحوال الخلق ، فلوأذن في جعلها قبلة في الصلاة بأن يتوجه إليها ، ويركع ويسجد نحوها لربما غلب على بعض الأوهام أن ذلك الركوع والسجود للشمس لابخلاف الأحجار المعينة ، فإنها ليس في جعلها قبلة ما يوهم الإلهية ، وعن عكرمة قال : إن الشمس إذا غربت دخلت بحراً تحت العرش ، فتسبح الله حتى إذا هي أصبحت استعفت ربها من الخروج ، فقال الرب : ولم ذلك ، والرب أعلم أني إذا خرجت عبدت من دونك ، فقال لها الرب : اخرجي فليس عليك من ذلك شيء حسبهم جهنم أبعثها إليهم من ثلاثة عشر ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها.
وفي الحديث : "ليس في أمتي رياء إن راءوا فبالأعمال فأما الإيمان فثابت في قلوبهم أمثال الجبال ، وأما الكبر فإن أحدهم إذا وضع جبهتهتعالى ساجداً فقد برىء من الكبر".
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} ؛ أي : تعظموا عن امتثال أمرك في ترك السجود لغير الله ، وأبوا إلا اتخاذ الواسطة ، فذلك لا يقلل عدد من يخلص عبادته .
{فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} ، فإن الملائكة المقربين عند الله ، فهو علة للجزاء المحذوف.
{يُسَبِّحُونَ لَهُ} ينزهونه عن الأنداد وسائر ما لا يليق به.
{بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ؛ أي : دائماً ، وفي جميع الأوقات وظهر من هذا التقرير أن تخصيص الملائكة مع وجود غيرهم من العباد المخلصين لكثرتهم.
وأيضاً الشمس والقمر عندهم ، فيردون العبادة عنهما غيره بتخصيصها بالله تعالى.
{وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَ} السآمة الملالة ؛ أي : لا يفترون ولا يملون من التسبيح والعبادة ، فإن التسبيح منهم كالتنفس من الناس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وبالفارسية : (وايشان ملول وسير نمى شوند از كثرت عبادت وبيسارى ستايش وبرستش).
روي : أنملكاً يقال له : حوقبائيل.
له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر.
هل فوق العرش شيء؟ ، فزاده الله مثلها أجنحة أخرى ، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، ثم أوحى الله أيها الملك طر فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ، ثم ضاعف الله له في الجناح والقوة ، وأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ، فلم ينل أيضاً ، فأوحى الله إليه أيها الملك لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي ، فقال الملك : سبحان ربي الأعلى ، فأنزل الله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) ، فقال عليه السلام : "اجعلوها في سجودكم".
قال عبد العزيز المكي : في هذه الآية سبحان الذي من عرفه لا يسأم من ذكره سبحان الذي من أنس به استوحش من غيره ، سبحان الذي من أحبه أعرض بالكلية عما سواه.
وفي "التأويلات النجمية" : لا تتخذوا ما كشف لكم عند تجلي شمس الروح من المعقولات وأنواع العلوم الدقيقة مقصداً ومعبداً كما اتخذت الفلاسفة ، ولا تتخذوا أيضاً ما شهدتم عند تجلي شواهد الخق في قمر القلب من المشاهدات ومكاشفات العلوم الدينية مقصداً ومعبداً ، كما اتخذ بعض أرباب السلوك ، ووقفوا عند عقبات العرفان والكرامات ، فشغلوا بالمعرفة عن المعروف وبالكرامات
266
عن المكرم.
واتخذوا المقصود والمعبود حضرة جلال الله الذي خلق ما سواه منازل السائرين به إليه إن كنتم من جملة المحبين الصادقين الذين إياه يعبدون طمعاً في وصاله ، والوصول إليه لا من الذي يعبدونه خوفاً من النار وطمعاً في الجنة ، فإن استكبر أهل الأهواء والبدع ولا يوفقون للسجود بجميع الوجود ، فالذين عند ربك من أرواح الأنبياء والأولياء ينزهونه عن احتياجه إلى سجدة أحد من العالمين ، وهم لا يسأمون من التسبيح والتنزيه.
قال الكاشفي : (اين سجدة يازدهم است از سجدات قرآنى وحضرة شيخ أكبر قدس سره الأطهر در فتوحات اين را سجدة احتماد كفت وفرموده كه اكر در آخر آيت اولى سجدة ايشان شرط باشد جه مقارنست).
نقول : إن كنتم إياه تعبدون : (واكر بعد از آيت دوم بسجود دروند سجدة نشاط ومحبت بودجه مقرونست باين كلمات).
وهم لا يسأمون.
والحاصل : أن قوله : تعبدون موضع السجود عند الشافعي ومالك لاقتران الأمر به.
يعني : (تاسجدة مقرن امر باشد).
وعند أبي حنيفة وفي وجه عن الشافعي ، وعند أحمد آخر الآية ، وهم لا يسأمون ؛ لأنه تمام المعنى ، وكل من الأئمة على أصله في السجود ، فأبو حنيفة هو واجب ومالك ، وهو فضيلة ، والشافعي وأحمد هو سنة.
(8/203)
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَه بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَا * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْا إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىا إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{مِّنْ ءَايَـاتِهِ} : دلائل قدرته تعالى.
{أَنَّكَ} يا محمد أو يا أيها الناظر.
{تَرَى الارْضَ} : حال كونها {خَـاشِعَةً} يابسة لا نبات فيها متطامنة يعني : (فرسوده وخشك شده).
مستعار من الخشوع بمعنى التذلل شبه يبس الأرض وخلوها عن الخير والبركة بكون الشخص خاشعاً ذليلاً عارياً لا يؤبه به الدناءة هيئته ، فهي استعارة تبعية يابسة جدبة.
{فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ} : الاهتزاز : التحرك ؛ أي : تحركت بالنبات يعني : (بخبش درآيدر ستن كياه ازو).
{وَرَبَتْ} : وانتفخت ؛ لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض ، وانتفخت ثم تصدعت عن النبات ؛ أي : انشقت يقال : ربا ربواً ورباً ، زاد ونما.
والفرس ربواً انتفخ من عدو أو فزع.
وقال الراغب : وربت ؛ أي : زادت زيادة المتربي.
{إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا} بما ذكر بعد موتها والإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة ، وهي صفة تقتضي الحس والحركة ، فالمراد بإحياء الأرض تهييج القوى النامية فيها وإحدات نضارتها بأنواع النباتات.
{فَانظُرْ إِلَى} بالبعث.
{أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الإحياء.
{قَدِيرٌ} مبالغ في القدرة وقد وعد بذلك من أن يفي به والحكمة في الإحياء هو المجازاة والمكافأة.
وفي الآية إشارة إلى إحياء النفوس وإحياء القلوب.
أما الأول فلأن أرض البشرية قد تصير يابسة عند فقدان الدواعي والأسباب ، فإذا نزل عليها ماء الابتلاء والاستدراج تراها تهتز بنباتات المعاصي وأشجار المناهي.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
آتشت هيزم فرعون نيست
زانكه جون فرعون اوراعون نيست
نفس ازدرهاست اوكى مرده است
از غم بى التي افسرده است
كرمك است آن ازدها ازده ست فقر
بشه كردد زجاه ومال صقر
ولذا كان أصعب دعاء إليه أن يقال له : أذاقك الله طعم نفسك ، فإنه من ذاق طعم نفسه ، واستحلى ما عنده وشغل به عن المقصود ، فلا يرجى فلاحه أبداً ، وأما إحياء القلوب فبنور الإيمان وصدق
267
الطلب وغلبات الشوق ، وذلك عند نزول مطر اللطف وماء الرحمة.
وعن بعض الصالحين قال : رأيت سمنون في الطواف ، وهو يتمايل ، فقبضت على يده.
وقلت له : يا شيخ بموقفك بين يديه ألا أخبرتني بالأمر الذي أوصلك إليه ، فلما سمع بذكر الموقف بين يديه سقط مغشياً عليه ، فلما أفاق أنشد : ()
ومكتئب لجّ السقام بجسمه
كذا قلبه بين القلوب سقيم
يحق له لو مات خوفاً ولوعة
فموقفه يوم الحساب عظيم
ثم قال : يا أخي أخذت نفسي بخصال أحكمتها.
فأما الخصلة الأولى أمت مني ما كان حياً ، وهو هوى النفس وأحييت مني ما كان ميتاً ، وهو القلب.
وأما الثانية : فإني أحضرت ما كان عني غائباً ، وهو حظي من الدار الآخرة ، وغيبت ما كان حاضراً عندي ، وهو نصيبي من الدنيا.
وأما الثالثة : فإني أبقيت ما كان فانياً عندي ، وهو التقى ، وأفنيت ما كان باقياً عندي ، وهو الهوى.
وأما الرابعة : فإني أنست بالأمر الذي منه تستوحشون وفررت من الأمر الذي إليه تسكنون.
أشار إلى الاستئناس بالله وبذكره ، وإلى الاستيحاش مما سوى الله ، وهو المراد بحسن الخاتمة ، وأما التوحش من الله والإنس بما سواه ، فهو المراد بسوء العاقبة نعوذ بالله ، وربما كان سوء العاقبة بالخروج من الدنيا بغير إيمان.
وكان في زمان حاتم الأصم نباش ، فحضر مجلس حاتم يوماً ، فتاب على يده وإحياه الله بسبب نفس حاتم ، فقال له حاتم : كم نبشت من القبور ، فقال : سبعة آلاف.
قال في كم سنة؟ قال : في عشرين سنة فغشي على حاتم ، فلما أفاق.
قال قبور المسلمين أم قبور الكافرين.
قال : بل قبور المسلمين ، فقال : كم قبراً وجدت صاحبه على غير القبلة.
قال : وجدت ثلاثمائة قبر صاحبه على القبلة ، والباقون على غير القبلة ، فغشي على حاتم.
وذلك لأن خوف كل أحد بحسب مقامه من المعرفة ، فإذا عرف المرء أن في إمامه موتاً وابتلاء ، ثم حشراً وامتحاناً لا يزال في ناحية ، وربما يغلب عليه حاله ، فيغشى عليه.
قال بعضهم : إذا عرج بروح المؤمن إلى السماء.
قالت الملائكة : سبحان الذي نجى هذا العبد من الشيطان ، يا ويحه كيف نجا ، ولكثرة فتن الشيطان وتشبثها بالقلوب عزت السلامة ، فلا بد من الاستقامة في الله وإدامة الذكر والاستعاذة بالله من كل شيطان مضل وفتنة مهلكة.
(8/204)
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} : الإلحاد في الأصل مطلق الميل والانحراف ومنه اللحد ؛ لأنه في جانب القبر ، ثم خص في العرف بالانحراف عن الحق إلى الباطل ؛ أي : يميلون عن الاستقامة.
{إِنَّ الَّذِينَ} بالطعن فيها بأنها كذب ، أو سحر ، أو شعر أو بتحريفها بحملها على المحامل الباطلة.
{لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} ، فنجازيهم بإلحادهم ، ثم نبه على كيفية الجزاء ، فقال : {أَفَمَن} : (آيا كسى كه).
{يُلْقَى فِى النَّارِ} عل وجهه وهم الكفرة بأنواعهم.
{خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا} من النار {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ، وهم المؤمنون على طبقاتهم قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمناً مبالغة في إحماد حال المؤمنين بالتنصيص على أنهم آمنون يوم القيامة من جميع المخاوف ، فلو قال : أم من يدخل الجنة ، لجاز من طريق الاحتمال أن يبدلهم الله من بعد خوفهم أمناً ولك أن تقول الآية من الاحتباك حذف من الأول مقابل الثاني ، ومن الثاني مقابل الأول.
والتقدير : أفمن يأتي خائفاً ويلقى في النار خير أم من يأتي آمناً ويدخل الجنة يعني : أن الثاني خير
268
من الأول.
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإلقاء في النار والإتيان آمناً وآثروا ما شئتم ، فإنكم لا تضرون إلا أنفسكم ، وفيه تهديد شديد لظهور أن ليس المقصود الأمر بكل عمل شاؤوا.
قال في "الأسلئة المقحمة" : هو أمر وعيد ومعناه : أن المهلة ما هي لعجز ولا لغفلة ، وإنما يعجل من يجاف الفوت وهو أبلغ أسباب الوعيد {إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم بحسب أعمالكم :
حيل ومكر رها كن كه خدا مى داند
نقد مغشوش مياور كه معامل بيناست
وفي الآية : تخريف لأهل الشطح والطامات الذين يريدون العزة عند العامة ، ويزعقون ويمزقون ثيابهم ويجلسون في الزوايا ويتزهدون وينظرون في "تصانيف" المشايخ.
ويقولون عليها ما يجهلون ويتزخرفون وينتظرون دخول الأمراء عليهم ، ويدعون المكاشفة والأحوال والمواجيد لا يخفى على الله كذبهم وزورهم وبهيئاتهم ونياتهم الفاسدة وقلوبهم الغافلة ، وكذا على أوليائه من الصديقين والعارفين الذين يرون خفايا قلوب الخلق بنور الله لو رأيتهم كيف يفتضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وترى أهل الحق ينظرون إلى الحق بأبصار نافذة وقلوب عاشقة لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة وقد وصف النبي هؤلاء الملحدين وشبههم بالفراعنة ، وشبه قلوبهم بقلوب الذئاب.
كما قال عليه السلام : "يخرج في أمتي أقوام لسانهم لسان الأنبياء وقلوبهم كقلوب الفراعنة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال في موضع آخر : "كقلوب الذئب يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
قال بعضهم : معنى هذه الآية أن الذين يجترئون علينا على غير سبيل الحرمة ، فإنه لا يخفى علينا جراءتهم علينا وتعديهم في دعواهم.
وقال ابن عطاء : في هذه الآية أن المدعي عن غير حقيقة سيرى منا ما يستحقه من تكذيبه على لسانه وتفضيحه في أحواله.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّه لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَّا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَا إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} ؛ أي : القرآن ، فيكون من وضع الظاهر موضع ضمير الآيات.
{لَمَّا جَآءَهُمْ} ؛ أي : بادهوه بالكفر والإنكار ساعة جاءهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر وإعادة نظر وكذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل قوله : إن الذين إلخ ، بدل من قوله : إن الذين يلحدون.
إلخ.
بدل الكل بتكرير العامل وخبر إن هو الخبر السابق ، وهو لا يخفون علينا ؛ لأن إلحادهم في الآيات كفر بالقرآن ، فلهذا اكتفى بخبر الأول عن الثاني إلا أنه غير معهود إلا في الجار والمجرور لشدة الاتصال.
قال الرضي : ولا يتكرر في اللفظ في البدل من العوامل إلا حرف الجر لكونه ، كبعض حروف المجرور.
وقيل : مستأنف وخبرها محذوف مثل سوف نصليهم ناراً ، وذلك بعد قوله : حميد.
(8/205)
وقال الكسائي : سد مسد الخبر السابق.
{وَإِنَّهُ} .
إلخ.
جملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به ؛ أي : والحال أن الذكر.
{لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ} ؛ أي : كثير المنافع عديم النظير ، فهو من العز الذي هو خلاف الذل ، أو منيع لا يتأتى معارضته وإبطاله وتحريفه ، فهو من العزة بمعنى الغلبة ، فالقرآن ، وإن كان لا يخلو عن طعن باطل من الطاعنين ، وتأويل فاسد من المبطلين إلا أنه يؤتى بحفظة ، ويقدر له في كل عصر منعة يحرسونه بإبطال شبه أهل الزيغ والأهواء ورد تأويلاتهم الفاسدة ، فهو غالب بحفظ الله إياه وكثرة منعته على كل من يتعرض له بالسوء إمام قشيري قدس سره : (فرموده كه قرآن عزيز است زيزا كلام رب عزيز ست كه ملك عزيز بر رسول عزيز آورده
269
براى امت عزيز با آنكه دوست است بنزديك دوست ونامة دوست نزد دوستان عزيز باشد) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
زنام ونامة تويافتم عزو كرامت
هزارجان كرامى فداى خامه ونامت
قال ابن عطاء : عزيز ؛ لأنه لا يبلغ حد حقيقة حقه لعزه في نفسه وعز من أنزل عليه وعز من خوطب به من أوليائه ، وأهل صفوته.
{لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} .
صفة أخرى لكتاب ؛ أي : لا يتطرق إليه الباطل ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به ؛ أي : من راموا فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه ذكر أظهر الجهات ، وأكثرها في الاعتبار ، وهو جهة القدام الخلق.
وأريد الجهات بأسرها ، فيكون قوله : لا يأتيه الباطل من بين إلخ.
استعارة تمثيلية شبه الكتاب في عدم تطرق الباطل إليه بوجه من الوجوه بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من أن يتعرض له العدو من جهة من جهاته ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بأن عبر عن المشبه بما عبر به عن المشبه به ، فقال : لا يأتيه.
إلخ.
أو لا يأتيه الباطل فيما أخبر عما مضى ولا فيما أخبر عن الأمور الآتية ، أو الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره بأن يزيد فيه أو ينقص منه ، أو لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب يبطله أو ينسخه.
{تَنزِيلٌ} : أي : هو تنزيل أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية بعد إفادة فخامته الذاتية وكل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن.
{مِّنْ حَكِيمٍ} ؛ أي : حكيم مانع عن تبديل معانيه بأحكام مبانيه.
{حَمِيدٍ} ؛ أي : حميد مستحق للتحميد بإلهام معانيه أو يحمده كل خلق في كل مكان بلسان الحال ، والمقال بما وصل إليه من نعمه.
وفي "التأويلات النجمية" : إن من عزة الكتاب لا يأتيه الباطل ، يعني : أهل الخذلان من بين يديه بالإيمان به ، ولا من خلفه بالعمل به تنزيل من حكيم ينزل بحكمته على من يشاء من عباده لمن يشاء أن يعمل به حميد في أحكامه وأفعاله ؛ لأنها صادرة منه بالحكمة.
وعن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله عليه السلام يقول : "إلا أنها" الضمير للقصة "ستكون فتنة" ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار.
بيان لمن؟ والجبال إذا أطلق على إنسان يشعر بالصفة المذمومة ينبه بذلك على أن ترك القرآن والإعراض عنه ، وعن العمل به ، إنما هو الجبر والحماقة.
"فصمه الله" كسره وأهلكه دعاء عليه ، أو خبر "ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله" دعاء عليه وإخبار بثبوت الضلالة ، فإن طلب الشيء في غير محله ضلال.
"
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وهو حبل الله" ؛ أي : عهده وأمانه الذي يؤمن به العذاب.
وقيل : هو نور هداه.
وفي الحديث : "القرآن كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض" ؛ أي : نور ممدود.
وقيل : هو السبب القوي والوصلة إلى من يوثق عليه ، فيتمسك به من أراد التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار السرور "المتين" ؛ أي : القوي يعني : هو السبب القوي المأمون الانقطاع المؤدي إلى رحمة الرب.
"وهو الذكر" ؛ أي : القرآن ما يتذكر به ويتعظ به.
"الحكيم" ؛ أي : المحكم آياته ؛ أي : قوي ثابت لا ينسخ إلى يوم القيامة ، أو ذو الحكمة في تأليفه.
"وهو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء" ؛ أي : لا يميل بسببه أهل الأهواء ، يعني : لا يصير به مبتدعاً وضالاً "ولا تلتبس به الألسنة" ؛ أي : لا يختلط به غيره بحيث يشتبه كلام الرب بكلام غيره لكونه معصوماً.
"ولا يشيع منه العلماء" ؛ أي : لا يحيط
270
علمهم بكنهه ، بل كلما تفكروا تجلت لهم معاننٍ جديدة كانت في حجب مخفية.
(8/206)
"ولا يخلق" خلق الشيء يخلق بالضم فيهما خلوقة إذا بلي ؛ أي : لا يزول رونقه ولا يقل طرواته ولذة قراءته واستماعه.
"عن كثرة الرد" ؛ أي : عن تكرر تلاوته على لسنة التالين وآذان المستمعين وأذهان المتفكرين مرة بعد أخرى ، بل يصير كل مرة يتلوه التالي أكثر لذة على خلاف ما عليه كلام المخلوقين.
وهذه إحدى الآيات المشهورة.
"ولا تنقضي عجائبه" ؛ أي : لا ينتهي أحد إلى كنه معانيه العجيبة وفوائده الكثيرة.
"هو الذي لم تنته الجن" ؛ أي : لم تقف إذ سمعته حتى {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا} (الجن : 1) مصدر وصف به للمبالغة ؛ أي : عجيباً لحسن نظمه {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} (الجن : 2) ؛ أي : يدل إلى الإيمان والخير.
{يَهْدِى إِلَى} (الجن : 2)وصدقناه من قال به صدق ومن عمل به رشد" ؛ أي : يكون راشداً مهدياً.
(ومن حكم به ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
كذا في "المصابيح".
وفي الحديث : "يدعى يوم القيامة بأهل القرآن ، فيتوج كل إنسان بتاج لكل تاج سبعون ألف ركن ما من ركن إلا وفيه ياقوتة حمراء تضيء من مسيرة.
كذا من الأيام والليالي ، ثم يقال : له أرضيت ، فيقول : نعم ، فيقول له الملكان اللذان كانا عليه يعني : الكرام الكاتبين : زده يا رب ، فيقول الرب اكسوه حلة الكرامة ، فيلبس حلة الكرامة ، ثم يقال له : أرضيت؟ فيقول : نعم فيقول ملكاه زده يا رب ، فيقول لأهل القرآن أن ابسط يمينك فتملأ من الرضوان ؛ أي : رضوان الله ، ويقال له : ابسط شمالك فتملأ من الخلد ، ثم يقال له : أرضيت؟ ، فيقول : نعم يا رب ، فيقول ملكاه : زده يا رب ، فيقول الله : إني قد أعطيته رضواني وخلدي ، ثم يعطى من النور مثل الشمس فيشيعه سبعون ألف ملك إلى الجنة ، فيقول الرب : انطلقوا به إلى الجنة ، فأعطوه بكل حرف حسنة ، وبكل حسنة درجة ما بين الدرجتين مسيرة مائة عام".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي حديث آخر : "يجاء بأبويه ، فيفعل بهما من الكرامة ما فعل بولدهما تكرمة لصاحب القرآن ، فيقولان من أين لنا هذا ، فيقول بتعليمكما ولدكما القرآن" :
بخردى درش زجر وتعليم كن
به نيك وبدش وعده وبيم كن
هرآن طفل كو جور آموز كار
نه بيند جفا بيند از روزكار
{مَّا يُقَالُ لَكَ} .
إلخ.
تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار ؛ أي : ما يقال في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن من جهة كفار قومك.
{إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} إلا مثل ما قد قيل في حقهم ، وفي حق الكتب السماوية المنزلة عليهم مما لا خير فيه من الساحر ، والكاهن والمجنون والأساطير ونحوها.
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأنبيائه ومن آمن بهم.
{وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم الذين لم يؤمنوا بهم وبما أنزل إليهم والتزموا الأذية ، وقد نصر من قبلك من الرسل ، وانتقم من أعدائهم وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك أيضاً.
وفيه إشارة إلى حال الأولياء أيضاً ؛ فإنهم ورثة الأنبياء فلهم أعداء وحساد يطلقون ألسنتهم في حقهم باللوم والطعن بالجنون والجهل ونحو ذلك.
ولكنهم يصبرون على الجفاء والأذى ، فيظفرون بمراداتهم كما صبر الأنبياء ، فطفروا.
وفي آية أخرى : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَـاـاهُمْ نَصْرُنَا} (الأنعام : 34) ؛ أي : ظاهراً بهلاك القوم ، أو بإجابة الدعوة وباطناً بالتخلق بالأخلاق الإلهية مثل الصبر ، فإنه نصر ؛
271
أي : نصر إذ به يحصل المرام.
وفي المثنوي :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همجو صبر آدم نديد
وبذلك ينقلب الإنسان بالصبر من حال إلى حال أخرى أحسن من الأولى ، كما ينقلب النحاس بالأكسير فضة ، أو ذهباً.
ودلت الآية على أنه ليس من الحكمة أن يقطع لسان الخلق بعضهم عن بعض ألا ترى أنه تعالى لم يقطع لسان الخلق عن ذاته الكريمة.
حتى قالوا في حقه تعالى أن له صاحبة وولداً ، ونحو ذلك ، فكيف غيره تعالى من الأنبياء والمرسلين والأولياء والمقربين ، فالنار لا ترتفع من الدنيا إلا يوم القيامة ، وإنما يرتفع الاحتراق بها كما وقع لإبراهيم عليه السلام ، وغيره من الخواص ، فكل البلايا كالنار ، فبطون الأولياء وقلوب الصديقين في سلامة من الاحتراق بها ؛ فإنه لا يجري إلا ما قضاه الله تعالى ، ومن آمن بقضاء الله سلم من الاعتراض والانقباض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وهكذا شأن الكبار نسأل الله الغفار السلامة من عذاب النار.
(8/207)
{مَّا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَا إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه ا ءَا عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّا قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَآءٌا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوالَـائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} .
{وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ} ؛ أي : الذكر.
{قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا} منتظماً على لغة العجم مؤلفاً عليها والأعجمي في الأصل يقال : لذات من لايفصح عن مراده بلغة لسانه ، وإن كان من العرب ولكلامه الملتبس الذي لا يوضح المعنى المقصود أطلق ها هنا على كلام مؤلف على لغة العجم بطريق الاستعارة تشبيهاً له بكلام من لا يفصح من حيث أنه لا يفهم معناه بالنسبة إلى العرب.
وهذا جواب لقول قريش تعنتاً هلا أنزل القرآن بلغة العجم.
يعني : (قرآن جرا بلعت عجم فروا نيامد).
{لَّقَالُوا} : (هرآينه ميكفتند كفار قريش).
{لَوْلا} : حرف تحضيض بمعنى هلا و حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان معناه اللوم والتوبيخ على ترك الفعل ، فهو في الماضي بمعنى الإنكار.
{فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} ؛ أي : بينت بلسان نفقهه من غير ترجمان عجمي ، وهو من كان منسوباً إلى أمة العجم فصيحاً كان ، أو غير فصيح.
{ءَا عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} إنكار مقرر للتحضيض.
فالهمزة الأولى : همزة الاستفهام المعنى بها الإنكار.
والأعجمي كلام لا يفهم معناه ولغة العجم كذلك بالنسبة إلى العرب كما أشير إليه آنفاً.
والياء ليست للنسبة الحقيقة ، بل للمبالغة في الوصف كالأحمري.
والمعنى : لأنكروا وقالوا : كلام أو قرآن أعجمي ورسول أم مرسل إليه عربي ؛ أي : لقالوا : كيف أرسل الكلام العجمي إلى القوم العرب ، فكان ذلك أشد لتكذيبهم على أن الإقرار مع كون المرسل إليهم أمة جمة لما أن المراد بيان التنافي.
والتنافي بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحداً ، أو جمعاً.
وقرأ هشام أعجمي على الإجبار لا على الاستفهام والإنشاء ؛ أي : بهمزة واحدة هي في أصل الكلمة ، فالتفصيل يجوز أن يكون بمعنى التفريق والتمييز ، لا بمعنى التبيين كما في القراءة الأولى.
فالمعنى : ولو جعلنا المنزل كله أعجمياً لقالوا : لولا فرقت آياته وميزت بأن جعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب أعجمي وعربي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
والمقصود بيان أن آيات الله على أي وجه جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً يتعللون به ؛ لأن القوم غير طالبين للحق ، وإنما يتبعون أهواءهم :
در جشم اين سياه دلان صبح كاذبست
درر وشنى اكر يد بيضا شود كسى
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى إزاحة العلة لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة وصحة
272
الشريعة ، فإنه لا نهاية للتعليل بمثل هذه التعلللات ؛ لأنه تعالى لو جعل القرآن أعجمياً وعربياً ، لقالوا لولا جعله عبرانياً وسريانياً.
{قُلْ هُوَ} ؛ أي : الذكر.
{هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
{وَشِفَآءٌ} لما في الصدور من شك وشبهة أو شفاء ، حيث استراحوا به من كد الفكرة وتحير الخواطر ، أو شفاء لضيق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته ، والتلذذ بالتفكر فيه ، أو شفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق لما فيه من لطائف المواعيد ، أو شفاء لقلوب العارفين لما يتولى عليها من أنوار التحقيق ، وآثار خطاب الرب العزيز.
{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} : مبتدأ خبره قوله : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا} ؛ أي : ثقل وصمم على أن التقدير هو أي القرآن في آذانهم وقر على أن وقر الخبر للضمير المقدر ، وفي آذانهم متعلق بمحذوف وقع حالاً لوقر لبيان محل الوقر ، وهو أوفق لقوله تعالى : {وَهُوَ} ؛ أي : القرآن {عَلَيْهِمُ} ؛ أي : على الكفار المعاندين {عَمًى} ، وذلك لتصاممهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات ، وهو بفتح الميم المنونة ؛ أي : ذوي عمى على معنى عميت قلوبهم عنه ، وهو مصدر عمى يعمى كعلم.
(8/208)
وفي "المفردات" : محتمل لعمى البصر والبصيرة جميعاً.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بكسر الميم بمعنى : خفي.
وبالفارسية : (واين كتاب برايشان بوشيد كيسنت تاجلوه جمال كمال اونه بينند).
{أُوالَـائِكَ} البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامم عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها.
{يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} : تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم للقرآن بمن ينادي ويصيح به من مسافة بعيدة لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات.
يعني : (مثل ايشان جون كسيست كه اورا از مسافة دور ودراز بخواندند نه خواننده را بيند ونه آواز اورا شنودبس اورا ازان نداجه نفع رسد) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
نادى اقبال ميكويد كه اي ناقابلان
ما بسى نزديك نزديك وشما بس دوردور
قال الشيخ سعدي در جامع بعلبك : (كلمة جندبر طريق وعظ ميكفتم باطائفة افسر ده ودل مرده وراه از عالم صوت بمعنى نبرده ديدم كه نفسم درنمى كيردو آتشم در هيزم ترايشان اثر نمى كنند دريغ آمدم تربية ستوران وآينه دارى در محله كوران وليكن در معنى باز بودو سلسلة سخن دراز ودربيان اين آيت كه كفت خداى تعالى).
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (سخن بجايى رسيده بود كه ميكفتم) :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين غجبتر من ازوى دورم
جه كنم باكه توان كفت كه او
در كنار من ومن مهجورم
(من از شرح اين سخن مست وفضلة قدح دردست كه روندة از كنار مجلس كذر كردودور آخر برو اثر كرد نعرة جنان زدكه ديكران درموافقت اودر خروش امدند وخامان مجلس درجوش كفتم سبحان الله دوران با خبر در حضورست ونزديكان بى بصر دور) :
فهم سخن جون نكند مستمع
قوت طبع از متكلم مجوى
فسحت ميدان ارادت بيار
تابز ندمرد سخن كوى كوى
وعن الضحاك ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد يعني : يقال يا فاسق يا منافق يا كذا ،
273
ويا كذا ، فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وخزيهم.
وفي "التأويلات النجمية" : أولئك ينادون من مكان بعيد ؛ لأن النداء إنما يجيء من فوق أعلى عليين ، وهم في أسفل السافلين من الطبيعة الإنسانية ، وهم أبعد البعداء.
وقال ذو النون رحمه الله : من وقر سمعه وصم عن نداء الحق في الأزل لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان عليه عمى ، ويكون عن حقائقه بعيداً ، وذلك أنهم نودوا عن بعد ، ولم يكونوا بالقرب نسأل الله القرب على كل حال.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ؛ أي : وبالله لقد آتيناه التوراة ، فاختلف فيها ، فمن مصدق لها ، ومن مكذب وغيروها من بعده بخمسمائة عام.
وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن ، فمن مؤمن به ومن كافر ، وإن كانوا لا يقدرون على تحريفه ، فإنا له لحافظون ، فاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك ، ففيه تسلية له عليه السلام.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} في حق أمتك المكذبة ، وهي العدة بتأخير عذابهم ، والفصل بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى : {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} (القمر : 46).
وقوله تعالى : {وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً} (فاطر : ).
{لَقُضِىَ} في الدنيا وحكم {بَيْنَهُمْ} باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
يقول الفقير : إنما لم يفعل الاستئصال ؛ لأن نبينا عليه السلام كان نبي الرحمة ؛ ولأن مكة كانت مهاجر الأنبياء والمرسلين ومهبط الملائكة المقربين بأنواع رحمة رب العالمين ، فلو وقع فيها الاستئصال لكانت مثل ديار عاد وثمود ، ووقعت النفرة لقلوب الناس.
وقد دعا إبراهيم عليه السلام بقوله : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} (الحج : 37) فكان من حكمته أن لا يجعل الحرم المبارك الآمن مصارع السوء ، وأن يقيه من نتائج سخطه.
{وَإِنَّهُمْ} ؛ أي : كفار قومك.
{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} ؛ أي : من القرآن.
{مُرِيبٍ} : موجب للاضطراب موقع فيه.
وبالفارسية : (كمانى باضطراب آورده).
وتمامه في آخر سور سبأ ، فارجع والشك عبارة عن تساوي الطرفين ولتردد فيهما من غير ترجيح والوعم ملاحظة الطرف المرجوح ، وكلاهما تصور لا حكم معه ؛ أي : لا تصديق معه أصلاً.
{مَنْ} : (هركه).
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} .
(8/209)
{وَعَمِلَ صَـالِحًا} بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها.
{فَلِنَفْسِهِ} فعمله أو فنفعه لنفسه لا لغيره.
{وَمَنْ أَسَآءَ} : (وهركه بكند عمل بد والاساءة بدى كردن).
{فَعَلَيْهَا} ضرره لا على غيرها.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} ، فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله ، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل أحد بكسبه ، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله ، أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه سبحانه ؛ أي : هو منزه عن الظلم.
يقال : من ظلم وعلم أنه يظلم ، فهو ظلام.
وقال بعضهم : أصله وما ربك بظالم ، ثم نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة ، فكانت المبالغة راجعة إلى النفي على معنى أن الظلم منفي عنه نفياً مؤكداً مضاعفاً ، ولو جعل النفي داخلاً على صيغة المبالغة بتضعيف ظالم بدون نفيه ، ثم أدخل عليه النفي لكان المعنى أن تضعيف الظلم منفي عنه تعالى ، ولا يلزم منه نفيه عن أصله والله تعالى منزه عن الظلم مطلقاً ، ويجوز أن يقال : صيغة المبالغة باعتبار كثرة العبيد لا باعتبار كثرة الظلم ، كما قال تعالى : {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف : 49).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث القدسي : "إني حرمت الظلم على نفسي وعلى عبادي ألا فلا تظالموا" ـ بفتح التاء ـ أصله تتظالموا.
274
والظلم هو : التصرف في ملك الغير أو مجاوزة الحد.
وهذا محال في حق الله تعالى ؛ لأن العالم كله ملك ، وليس فوقه أحد يحدّ له حداً ، ولا تجاوز عنه.
فالمعنى : تقدست وتعاليت عن الظلم ، وهو ممكن في حق العباد ، ولكن الله منعهم عنه.
وفي الحديث : "من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام".
وفي حديث آخر : "من مشى خلف ظالم سبع خطوات فقد أجرم".
قال الله تعالى : {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (السجدة : 22).
وكان من ديدن السلطان بسمرقند الامتحان بنفسه مرات لطلبة مدرسته المرتبين أعالي وأواسط وأداني بعد تعيين جماعة كثيرة من العدول غير المدرس للامتحان من الأفاضل حذراً من الحيف.
وكان بعد الحيف في الرتبة بين المستعدين من قبيل الكفر في الدين وأكثر المستعدين في هذا الزمان على الخذلان والحرمان.
قال الصائب : (تير بختى لازم طبع بلند افتاده است باى خودرا جون تواند داشتن روشن جراغ).
ينبغي للعاقل أن يسارع إلى الأعمال الصالحة دائماً خصوصاً في زمان انتشار الظلم والفساد وغلبة الهوى على النفوس والطباع ، فإن الثبات على الحق في مثل ذلك الوقت أفضل وأعظيم.
قال ابن الماجشون ، وهو أي : ابن الماجشون كان من أهل المدينة.
وكان مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة لما خرج روح أبي وضعناه على السرير ، فدخل عليه غاسل فرأى عرقاً يتحرك في أسفل قدمه فمكث ثلاثة أيام ، ثم استوى جالساً.
وقال : ائتوني بسويق ، فأتوا به فشرب فقلنا له : خبرنا ما رأيت.
قال : عرج بروحي فصعد بي الملك حتى أتى إلى السماء الدنيا ، فاستفتح ففتح له حتى انتهى إلى السابعة.
فقيل له : من معك؟ قال : الماجشون ، فقيل : لم يؤذن له بعد يفي من عمره.
كذا ثم هبط بي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه ، فقلت للملك : إنه لقريب المقعد من رسولعليه السلام.
قال : إنه عمل بالحق في زمن الجور وأنهما عملا بالحق في زمن الحق (بقومى كه نيكى بسندد خداى) :
دهد خسر وعادل ونيك راى
جوخواهد كه ويران كند عالمى
كند ملك دربنجه ظالمى
ومن الله الأمن والسلامة
{مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِا وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى قَالُوا ءَاذَنَّـاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُا وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{إِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره.
{يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} إذا سئل عن القيامة يقال : الله يعلم إذ لا يعلمها إلا الله ، فإذا جاءت يقضي بين المحسن والمسيء بالجنة والنار.
{وَمَآ} نافية.
{تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ} من مزيدة للتنصيص على الاستغراق ؛ فإنه قبل دخولها يحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة.
والمعنى بالفارسية : (وبيرون نيايد هيج ميوه).
{مِّنْ أَكْمَامِهَا} من أوعيتها يعني الكفرى قبل أن ينشق.
وقيل : قشرها الأعلى من الجوز واللوز والفستق وغيرها.
جمع كم بالكسر ، وهو وعاء الثمرة وغلافها ؛ أي : ما يغطي الثمرة كما أن الكم بالضم ما يغطي اليد من القميص.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى} :
275
(8/210)
(وبار نكيرد هيج مادة ازانسان وسائر حيوانات).
{وَلا تَضَعُ} حملها بمكان على وجه الأرض.
{إِلا بِعِلْمِهِ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، ولم يذكر متعلق العلم للتعميم ؛ أي : وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابساً بشيء من الأشياء إلا ملابساً بعلمه المحيط واقعاً حسب تعلقه به ، يعلم وقت خروج الثمرة من أكمامها وعددها وسائر ما يتعلق بها من أنها تبلغ أوان النضج أو تفسد قبل ونحوه ، ووقت الحمل وعدد أيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة.
والحسن والقبح وغير ذلك.
ووقت الوضع وما يتعلق به ، ولعل ذكر هذه الجمل الثلاث بعد ذكر الساعة لاشتمالها على جواز البعث ، وإحياء الموتى.
وفي "حواشي ابن الشيخ" : المعنى أن إليه يضاف علم الساعة ؛ أي : علم وقت وقوع القيامة ، فإذا سئلت عنه فرد العلم إليه ، فقل الله أعلم كما يرد إليه علم جميع الحوادث الآتية من الثمار والنبات وغيرهما.
روي : أن منصور الدوانقي أهمه مدة عمره فرأى في منامه شخصاً أخرج يده من البحر وأشار بالأصابع الخمس فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوه بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة تأويله أن مفاتح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه أخذه أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه السلام مفاتح الغيب خمسة ، وتلا قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسُا بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان : 34).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
يقول الفقير : ظهر من هذا وجه الجمع بين علم الساعة وعلم خروج الثمرات إذ هو داخل في تنزيل الغيث ؛ لأنه بالغيث والرياح تخرج النباتات ، وتظهر الثمرات.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} ؛ أي : اذكر يا محمد لقومك يوم يناديهم الله {أَيْنَ شُرَكَآءِى} بزعمكم كما نص عليه في قوله تعالى : {نَادُوا شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} (الكهف : 52) وبالفارسية كجا اند انبازان بزعم شما.
{قَالُوا ءَاذَنَّـاكَ} ؛ أي : أخبرناك وأعلمناك.
{مَا مِنَّا} : (نيست ازما).
{مِن شَهِيدٍ} من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا منهم لما عاينا الحال ، فيكون السؤال عنهم للتوبيخ ، والشهيد من الشهادة ، أو ما منا من أحد يشهدهم ؛ لأنهم ضلوا عنهم حينئذٍ فهم لا يبصرونهم في ساعة التوبيخ ، فالشهيد من الشهود.
قال في "حواشي سعدي المفتي" : والظاهر أنه كقولهم ، والله ربنا ما كنا مشركين ، بل الإشارة بقولهم آذناك إلى هذا القول الذي أجابوا به أولاً متعمدين للكذب.
انتهى.
وفي "الإرشاد" قولهم : آذناك إما لأن ؛ لأن هذا التوبيخ مسبوق بتوبيخ آخر مجاب بهذا الجواب أو لأن معناه الإنشاء لا الإخبار بإيذان قد كان انتهى.
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} ؛ أي : غاب عن المشركين الآلهة التي كانوا يعبدونها من قبل يوم القيامة ، أو ظهر عدم نفعهم ، فكان حضورهم كغيبتهم.
{وَظَنُّوا} ؛ أي : أيقنوا.
{مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} مهرب.
وبالفارسية : (ويقين دانندكه اذ عذاب وعقوبت نيست ايشانرا هيج كريز كاهى).
من حاص يحيص حيصاً ومحيصاً إذا هرب.
وفي "المفردات" : أصله من قولهم : وقع في حيص بيص ؛ أي : في شدة وحاص عن الحق يحيص ؛ أي : جاد عنه إلى شدة ومكروه.
وفي "القاموس" : حاص عنه عدل وحاد.
والمحيص المحيد والمعدل والميل والمهرب والظن معلق عنه بحرف النفي ، والتعليق أن يوقع بعده ما ينوب عن المفعولين جميعاً.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى ينادي ، فيقول : أين شركائي الذين كانوا يرون أنهم يخلقون
276
أفعالهم وأعمالهم.
قالوا : آذناك ما منا من شهيد يشهد أنه خالق فعله وكوشفوا بأنه لا خالق إلا الله ، وهم المعتزلة ، وقد سئل الرستغفني عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال ، فقال : لا يجوز كما في "مجمع الفتاوى".
وذلك لأن أهل الاعتزال مشركون بقولهم : أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقد قال تعالى : {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (البقرة : 221) ؛ أي : يوحدوا ويقولوا : لا خالق إلا الله ولا وجود في الحقيقة إلا الله وضل عنهم يوم القيامة ، ما كانوا يدعون من قبل أن له وجوداً وزال وبطل (ع) : (جه كونه غير توبيند كسى كه غير تويست).
وأيقنوا ما الهم من مهرب إلى الله عند قيام الساعة بتجلي صفة القهارية ، ولو كانوا أرباب اللطف في الدنيا لنالوا لطفه في العقبى ، فعلى العاقل أن يهرب ويفر إلى الله تعالى ، كما قال : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات : 50) ، فإذا فر إليه أنس به والأنيس لايخاف من قهر الأنيس إذ هو على الملاطفة معه على كل حال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/211)
قال ذو النون المصري قدس سره : ركبنا مرة في مركب وركب معنا شاب صبيح وجهه مشرق ، فلما توسطنا فقد صاحب المركب كيساً فيه مال ، ففتش كل من في المركب ، فلما وصلوا إلى الشاب ليفتشوه وثب وثبة من المركب حتى جلس على أمواج البحر.
وقام له الموج على مثال السرير ، ونحن ننظر إليه من المركب.
وقال : يا مولاي إن هؤلاء اتهموني ، وإني أقسم عليك يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة في هذا المكان أن تخرج رأسها ، وفي أفواهها جواهر.
قال ذو النون : فما تم كلامه حتى رأينا دواب البحر أمام المركب ، قد أخرجت رؤوسها ، وفي فم كل واحدة منها جوهرة تتلألأ ، وتلمع ، ثم وثب الشاب من الموج إلى البحر وجعل يتبختر على وجه الماء ، ويقول : إياك نعبد وإياك نستعين حتى غاب عن بصري ، فحملني هذا على السياحة ، وذكرت قوله عليه السلام "لا يزال في أمتي ثلاثون قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن وكلما مات منهم واحد أبدل الله مكانه واحداً" ظهر من هذه الحكاية ، أن الله تعالى تجلى لذلك الشاب بصفة اللطف ، فسلم من قهر البحر ، وذلك لتحققه بحقيقة قوله : إياك نعبد ؛ فإنه من اختصاص العبادة يحصل اختصاص التوحيد وبالتوحيد الحقاني يزول كل ما كان من طريق القهر ؛ لأن من قهر وجوده لا يقهر مرة أخرى ، ولما شاهد ذو النون هذه الحال من الشاب ؛ لأنها حال تنافي حال أهل الدنيا.
كما قال الشيخ المغربي :
هيج كس كرجه زحالى نيست خالى درجهان
ليكن اين حالى كه ماراهست حال ديكراست
سلك طريق اللطف وساح في الأرض حتى وصل إلى اللطيف الخبير.
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُا وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ * لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِى وَمَآ} .
{لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ} ؛ أي : لا يمل ولا يضجر.
وبالفارسية : (ملول نميشود كافر).
فهذا وصف للجنس بوصف غالب أفراده لما أن اليأس من رحمة الله لا يتأتى إلا من الكافر ، وسيصرح به.
{مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} ؛ أي : من دعائه الخير وطلبه السعة في النعمة وأسباب المعيشة ، فحذف الفاعل ، وأضيف إلى المفعول.
والمعنى : أن الإنسان في حال إقبال الخير إليه لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ، ولا يمل من طلبها أبداً ، وفيه إشارة إلى أن الإنسان مجبول على طلب الخير بحيث لا تتطرق إليه السآمة ، فبهذه الخصلة بلغ من بلغ رتبة خير البرية ، وبها بلغ من بلغ دركة شر البرية ، وذلك لأنه لما خلق لحمل الأمانة التي أشفق منها البرية ، وأبين أن يحملنها.
وهي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة.
وذلك فيض لا نهاية له ، فلحملها احتاج الإنسان إلى طلب غير متناه ، فطلب بعضهم هذا الطلب
277
في تحصيل الدنيا وزينتها وشهواتها واستيفاء لذاتها فما سئم من الطلب وصار شر البرية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الحافظ :
تاكى غم دنياى دنى اى دل دانا
حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
{وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ} ؛ أي : العسر والضيق.
{فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} ؛ أي : يبالغ في قطع الرجاء من فضل الله ورحمته.
وبالفارسية : (واكر برسيد ويرابدى جون تنكى وتنكدستى وبيمارى بس نوميدست ازراحت اميد برنده ازرحمت).
والقنوط : عبارة عن يأس مفرط يظهر أثره في الشخص فيتضاءل وينكر فبهذا ظهر الفرق بين اليأس والقنوط.
وفي "التأويلات النجمية" : وإن مسه الشر ، وهو فطامه عن مألوفات نفسه وهواه فيؤوس قنوط لايرجو زوال البلايا والمحن لعدم علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى الله ليدفع عنه ذلك.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتى خوض داد
كه كس هميشه بكيتى دزم نخواهد ماند
وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا يدعو عارفاً بربه طاعة لربه ، بل لتحصيل مراده وأربه ، ولهذا وقع في ورطة الفرار واليأس عند ظهور اليأس.
(8/212)
{وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا} من عندنا.
{مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} ؛ أي : أصابته وذلك بتفريج تلك الضراء عنه كالمرض والضيق بالرحمة كالصحة والسعة.
{لَيَقُولَنَّ هَـاذَا} الخير {لِى} ؛ أي : حقي وصل إليَّ لأني أستحقه لما لي من الفضل وعمل البر ، فاللام للاستحقاق أولى لا لغيري ، فلا يزول عني أبداً ، فاللام للاختصاص فيكون إخباراً عن لازم الاستحقاق لا عن نفسه ، كما في الوجه الأول ، ومعنى الدوام استفيد من لام الاختصاص ؛ لأن ما يختص بأحد الظاهر أنه لا يزول عنه ، فذلك المسكين لم ير فضل الله وتوفيقه ، فادعى الاستحقاق في الصورة الأولى ، واشتغل بالنعمة عن المنعم ، وجهل أن الله تعالى أعطاه ليبلوه (ايشكرام).
يكفر فلو أراد لقطعها منه ، وذلك في الصورة الثانية.
{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآاـاِمَةً} ؛ أي : تقوم وتحضر وتكون فيما سيأتي كما يزعم محمد.
{وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ} رددت {إِلَى رَبِّى} على تقدير قيامها وبعثت ، وهو الذي أرادوا بقولهم إن نظن إلا ظناً ، فلا يخالف ، وما أظن الساعة قائمة ؛ لأن المراد الظن منه الكامل.
{إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى} ، وهو جواب القسم لسبقه الشرطية ؛ أي : للحالة الحسنى من الكرامة يعني : (استحقاق من مرنعمت وكرمت راثابت است خواه دردنيا خواه در عقبا (ع)).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
زهى تصور باطل زهى خيال محال
أعتقد أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه لها ، وأن نعم الآخرة كذلك ؛ لأن سبب الإعطاء متحقق في الآخرة أيضا ، وهو استحقاقه إياها ، فقاس أمر الآخرة على أمر الدنيا بالوهم المحض والأمنية الكاذبة.
وعن بعضهم : للكافر أمنيتان يقول في الدنيا : ولئن رجعت إلخ.
وفي الآخرة : يا ليتني كنت تراباً (وهيجكدام ازين معنى وجودى نخواهد كرفت).
وعن بعض أهل التفسير : أن لي عنده للحسنى ؛ أي : الجنة يقول ذلك استهزاء.
{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} ؛ أي : لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم حين أظهرناها بصورها الحقيقية ، فيرون أنها مقابح يهان عليها لا محاسن يكرم عليها.
{وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} لا يعرف كنهه ، ولا يمكنهم التفصي منه ؛ كأنه لغلظته يحيط بجميع جهاتهم.
وقد كان معذباً في الدنيا بعذاب
278
الطرد والبعد ، ولكن لما لم يجد ذوق العذاب وألمه أذاقه الله تعد انتباهه من نومه وغفلته ؛ أي : بعد الموت لقول علي كرم الله وجهه الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا.
وفي "بحر العلوم" : غليظ ؛ أي : شديد أو عظيم ، ومن ابتدائية أو بيانية والمبين محذوف كأنه قيل : ولنذيقنهم عذاباً مهيناً من عذاب كبير بدل ما اعتقدوه لأنفسهم من الإكرام والإعزاز من الله تعالى.
يقول الفقير : يجوز أن يقال : وصف العذاب بالغلظة لغلظة بدن المعذب به.
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره : الغالب على الأشقياء خواص التركيب والكثافة.
كما أشار إليه عليه السلام بقوله : إن غلظ جلد الكافر يوم القيامة مسيرة ثلاثة أيام وكما نبه الحق على ذلك بقوله : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} ، وهو العالم السفلي المضاف إلى اليد المسماة بالقبضة ، وبالشمال أيضاً.
وقال في أصحاب اليمين : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18).
وهذا مثل قوله : {وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِهِ} (الزمر : 67).
والسر في أن الأبرار وكتابهم في عليين هو أن أجزاء نشأتهم الكثيفة ، وقواهم الطبيعة المزاجية تجوهرت وزكت واستحالت بالتقديس والتزكية الحاصلين بالعلم والعمل والتحلية بالصفات المحمودة ، والأخلاق السنية قوي وصفات ملكية ثابتة زكية ذاتية لنفوسهم المطمئة ، كما أخبر الحق عن ذلك بقوله : في بيان أحوال النفوس {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} (الشمس : 9) ، وكما أشار إليه عليه السلام في دعائه : اللهم آتتِ نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها.
والحال في الأشقياء بعكس ذلك ، فإن قواهم وصفاتهم الروحانية لما استهلكت في القوى الطبيعة المتصفة بأحكام اعتقاداتهم وظنونهم الفاسدة وأفعالهم الرديئة وأخلاقهم المذمومة زمان بقائهم السنين الكثيرة في هذه النشأة.
وهذه الدار ركبها الحق في النشأة الحشرية بحيث يحصل منها ما اقتضى أن يكون غلظ جلد بدن أحدهم مسيرة ثلاثة أيام عكس ما نبهت عليه من حال الأبرار ، ولهذا ورد في شأن النشأة الجنانية أن أصحابها يظهرون في الوقت الواحد في الصور المتعددة منعمين في كل طائفة من أهاليهم منقلبين فيما اشتهوا من الصور ، وليس هذا إلا من أجل ما ذكرنا من استهلاك أجزاء نشأتهم الكثيفة في لطائف جواهرها وانصباغها بصفاتها وغلبة خواص نفوسهم ، وقواهم الروحانية على قوى أمزجتهم الطبيعية ، فصاروا كالملائكة يظهرون فيما شاؤوا من الصور.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
بال بكشا وصفيراز شجر طوبى زن
حيف باشد جوتو مرغى كه اسير قفسى
(8/213)
{وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآاـاِمَةً وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ وَنَـاَا بِجَانِبِه وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّا أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} .
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ} ؛ أي : عن الشكر إنعامه ، وهذا نوع آخر من طغيان الكافر إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ؛ وكأنه لم يلق شدة قط فنسي المنعم وكفر بنعمته بترك الشكر.
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} : (النأى دور شدن).
ويعدى بنفسه وبعن كما في "تاج المصادر" ؛ أي : تباعد بكليته عن الشكر لا بجانبه فقط ، ولم يمل إلى الشكر والطاعة تكبراً وتعظماً ، فالجانب مجاز عن النفس كما في قوله تعالى : {فِى جَنابِ اللَّهِ} (الزمر : 56) ، ويجوز أن يراد به عطفه ، فيكون على حقيقته وعبارة عن الانحراف والازورار ؛ لأن نأي الجانب عن الشكر يستلزم الانحراف عنه ، كما قالوا : ثنى عطفه وتولى بركنه ، فالباء للتعدية.
وفي "التأويلات النجمية" : إذا خلناه إلى الطبيعة الإنسانية ، وهي الظلومية والجهولية لا يميز بين العطاء والبلاء ، فكثير مما يتوهمه عطاء ، وهو مكر واستدراج هو يستديمه وكثير مما هو فضل في نقمة وعطاء في الشر ، وهو يظنه بلاء ، فيكرهه بل إذا أنعمنا
279
عليه صاحبه بالبطر ، وإذا أبليناه قابله بالضجر ، بل وإذا أنعمنا عليه أعجب بنفسه ، فتكبر مختالاً في زهوه لا يشكر ربه ، ولا يذكر فضله ويشتغل بالنعمة عن المنعم ويتباعد عن بساط طاعته ، فكالمستغني عنا يهيم على وجهه.
قال الحافظ :
ببال وبر مرو ازره كه تيربرتابى
هو اكرفت زمانى ولى بخاك نشست
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} ؛ أي : إذا مس هذا الإنسان المعرض المتكبر جنس الشر كالبلاء والمحبة ، وإنما جيء بلفظ الماضي ، وإذا لأن المراد الشر المطلق الذي حصوله مقطوع به.
{فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} ؛ أي : فهو ذو دعاء كثير كما يقال : أطال فلان الكلام والدعاء ، وأعرض ؛ أي : أكثر فهو مستعار مما له عرض متسع للإشعار بكثرته ، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة ، وامتداد فمعنى الاتساع يؤخذ من تنكير عريض ، فإنه يدل على التعظيم ، ومعنى الامتداد يؤخذ من معنى الطول اللازم للعرض ، وهو أي عريض أبلغ من طويل إذ الطول أطول الامتدادين فإذا كان عرضه كذلك ؛ أي : متسعاً ، فما ظنك بطوله ، ولعل شأن بعض غير البعض الذي حكي عنه اليأس والقنوط إذ اليأس ، والقنوط ينافيان الدعاء ؛ لأنه فرع الطمع والرجاء ، أو شأن الكل في بعض الأوقات.
وقيل : قنوط من الصنم دعاء ، أو قنوط بالقلب دعاء باللسان.
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} ؛ أي : أخبروني ؛ لأن الرؤية سبب للإخبار.
{إِن كَانَ} ؛ أي : القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ} من غير نظر واتباع دليل مع تعاضد موجبات الإيمان به.
{مَنْ} استفهام {أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ} ؛ أي : من أضل منكم ، فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم وخلافهم ؛ بأنه لكونهم في شقاق بعيد ، فإن من كفر بما نزل من عند الله ، بأن قال : أساطير الأولين ، ونحوه.
فقد كان مشاقاً ؛ أي : معادياً ومخالفاً له خلافاً بعيداً عن الوفاق ، ومعاداة بعيدة عن الموالاة ، ولا شك أن من كان كذا ، فهو في غاية الضلال.
وفي الآية إشارة إلى أن كل بلاء وعناء ونعمة ورحمة مضرة ومسرة ينزل بالعبد ، فهو من عند الله ، فإن استقبله بالتسليم والرضا صابراً شاكراً للمولى في الشدة والرخاء والسراء والضراء ، فهو من المهتدين المقربين ، وإن استقبله بالكفر والجزع بالخذلان ، فهو من الأشقياء المبعدين المضلين.
وفي الحديث القدسي : "إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله ، أو ولده ، ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً وأنشرله ديواناً".
وفي الحديث : "إذا أحب الله عبداً ابتلاه إذا أحبه حباً شديداً ، فتناه فإن صبر ورضي اجتباه.
قيل : يا رسول الله ، وما افتناؤه ، قال : أن لا يبقى له مالاً ولا ولداً".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/214)
قال بعض الكبار : النعمة توجب الإعراض كما قال الله تعالى : {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ} ، إلخ.
ومس الضر يوجب الإقبال على الله كما قال الله تعالى : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} إلخ.
فالله تعالى رحيم على العبد بدفع النعمة والصحة عنه ؛ لأنها مظنة الإعراض والبلاء للولاء كاللهب للذهب ، فالبلاء كالنار ، فكما أن النار لا تبقي من الحطب شيئاً إلا وأحرقته ، فكذا البلاء لا يبقي من ضر الوجود شيئاً ، فالطريق إلى الله على جادة المحنة أقرب من جادة المنحة إذ الأنبياء والأولياء جاؤوا ، وذهبوا من طريق البلاء ، وقد ثبت أن النار لا ترتفع من الدنيا أبداً ، فكيف يؤمل العاقل الراحة في الدنيا ، فهي دار محنة وقد ورد : "الدنيا سجن المؤمن" لا يستريح في الدنيا ، ولا يخلو من قلة أو علة ، أو ذلة ، وله راحة عظمى في الآخرة والكافر خاسر في الدنيا والآخرة ، فعلى العبد أن يمشي على الصراط السوي ،
280
ويخاف من الزلق ومن مكر الله تعالى.
قال الحافظ :
جه جاى من كه بلغزد سبهر شعبده باز
ازين حيل كه در انبانة بهانة يست
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّا أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ} .
{سَنُرِيهِمْ} : (زود باشد كه بنما ايشانرا يعني كفار قريش را).
{ءَايَـاتِنَا} : الدالة على حقيقة القرآن ، وكونه من عند الله {فِى الافَاقِ} : جمع أفق ، وهي الناحية من نواحي الأرض ، وكذا آفاق السماء : نواحيها وأطرافها.
والآفاق : ما خرج عنك ، وهو العالم الكبير من الفرش إلى العرش ، والأنفس ما دخل فيك ، وهو العالم الصغير ، وهو كل إنسان بانفراده.
والمراد بالآيات الآفاقية : ما أخبرهم النبي عليه السلام من الحوادث الآتية كغلبة الروم على فارس في بضع سنين ، وآثار النوازل الماضية الموافقة لما هو المضبوط المقرر عند أصحاب التواريخ.
والحال أنه عليه السلام أمي لم يقرأ ، ولم يكتب ، ولم يخالط أحداً ، أو ما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح ، والظهور على آفاق الدنيا والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب على وجه خارق للعادة إذ لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَفِى أَنفُسِهِمْ} : هو ما ظهر فيما بين أهل مكة من القحط والخوف ، وما حل بهم يوم بدر ويوم الفتح من القتل والمقهورية ، ولم ينقل إلينا أن مكة فتحت على يد أحد قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكذا قتل أهلها ، وأسرهم.
وقيل : في الآفاق ؛ أي : في أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، وما يترتب عليها من الليل والنهار ، والأضواء والظلال والظلمات ، ومن النبات والأشجار والأنهار.
وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتراكيب الغريبة كقوله تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات : 21) ، واعتذر بأن معنى السين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً ويزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً ، قالوا : الآفاق هو العالم الكبير والأنفس هو العالم الصغير.
(وهرجه از دلائل قدرت درعا لم كبيراست نمودار آن عالم صغير است) ، وتزعم أنك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر (جميع آنجه در عالم است مفصلا در نشأن إنسان اسن مجملاً بل أنسان عالم صغير عالم مجملست ازروى صورت وعالم أنسان كبير اما أزروى قدرت مرتبة إنسان كبيرست وعالم إنسان صغير) :
اى آنكه تر است ملك اسكندر وجم
از حرص مباش دربى نيم درم
عالم همه درتست وليكن از جهل
بنداشتة مباش تو خويش را در عالم
فجسم الإنسان كالعرش ، ونفسه كالكرسي ، وقلبه كالبيت المعمور ، واللطائف القلبية كالجنان والقوى الروحانية كالملائكة والعينان والأذنان والمنخران والسبيلان والثديان والسرة والفم كالبروج الاثني عشر ، والقوة الباصرة والسامعة والذائقة والشامة واللامسة والناطقة والعاقلة ، كالكواكب السيارة ، وكما أن رياسة الكواكب بالشمس والقمر واحدهما يستمد من الآخر ، فكذلك رياسة القوى بالعقل والنطق ، وهو أي النطق مستمد من العقل ، وكما أن في العالم الكبير ستين وثلاثمائة يوم ، فكذا في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل ، وكما أن للقمر ثمانية وعشرين منزلاً يدور فيه في كل شهر ، فكذا في الفم ثمانية وعشرون مخرجاً للحروف ، وكما أن القمر يظهر في خمس عشرة ليلة ، ويخفى في الباقي كذلك التنوين والنون الساكنة
281
(8/215)
يخفيان عند ملاقاتهما خمسة عشر حرفاً ، وكما أن في العالم الكبير أرضاً وجبالاً ومعادن وبحاراً ، وأنهاراً وجداول وسواقي ، فجسد الإنسان كالأرض وعظامه كالجبال التي هي أوتاد الأرض ، ومخه كالمعادن وجوفه كالبحار وأمعاؤه كالأنهار وعروقه كالجداول والسواقي وشحمه كالطين وشعره كالنبات ، ومنبت الشعر كالتربة الطيبة وأنسه كالعمران وظهره كالمفاوز ووحشته كالخراب وتنفسه كالرياح وكلامه كالرعد وأصواته كالصواعق وبكاؤه كالمطر وسروره كضوء النهار وحزنه كظلمة الليل ونومه كالموت ويقظته كالحياة وولادته كبدء سفره وأيام صباه كالربيع وشبابه كالصيف ، وكهولته كالخريف وشيخوخته كالشتاء وموته كانقضاء مدة سفره والسنون من عمره كالبلدان والشهور كالمنازل والأسابيع كالفراسخ وأيامه كالأميال وأنفاسه كالخطى فكلما تنفس نفساً ؛ كأنه يخطو خطوة إلى أجله :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
هر دم از عمر ميرود نفسى
جون نكه ميكنم نماندبسى
وله في كل يوم اثنا عشر ألف نفس ، وفي كل ليلة كذلك ، فيوم القيمة ينظر في كل نفس أخرجه في غفلة عن ذكر الله فيا طول حسرة من مضى نفس من أنفاسه بالغفلة ، ثم الأرض سبع طباق أرض سوداء وغبراء وحمراء وصفراء وبيضاء وزرقاء وخضراء ، فنظائرها من الإنسان في جسمه الجلد والشحم واللحم والعروق والعصب والقصب والعظام.
وهذه المرة السوداء بمنزلة الأرض ليبسها وبردها ، وهذه المرة الصفراء بمنزلة النار ليبسها وحرارتها.
وهذا الدم بمنزلة الهواء لحرارته ورطوبته.
وهذا البلغم بمنزلة الماء لبرودته ولزوجته ، وكما أن المياه مختلفة فمنها الحلو والمالح والمنتن كذلك مياه بدن الإنسان هذا ماء العين ملح ؛ لأن العين شحمة ولولا ملوحة مائها لفسدت ، وهذا الريق عذب ، ولولا ذلك ما استعذب طعام ولا شراب.
وهذا الماء الذي في صماخ الأذنين مر ؛ لأنهما عضوان مفتوحان لا انطباق لهما حتى أن نتن الماء يصد كل شيء عن أذنه ، ولو أن دودة دخلتخما لماتت لمرارة ذلك الماء ونتنه ، ولولا ذلك لوصل الديدان إلى دماغه ، فأفسده ، ثم فيه أخلاق جميع الحيوانات ، فهو كالملك من جهة المعرفة والصفاء كالشيطان من جهة المكر والكدورة ، وكالأسد في الجراءة والشجاعة ، وكالبهيمة في الجهل ، وكالنمر في الكبر ، وكالفهد والأسد في الغضب ، وكالذئب في الإفساد والإغارة ، وكالحمار في الصبر وكذا كالحمار والعصفور في الشهوة وكالثعلب في الحيلة والفأرة ، والنملة في الحرص والجمع ، وكالكلب في البخل ، وكذا في الوفاء ، والخنزير في الشره ، وكالحية في الحقد ، وكالجمل في الحلم ، وكذا في الحقد ، وكالديك في السخاوة ، وكالبوم في الصناعة وكالهرة في التواضع والتملق ، وكالغراب في البكور ، وكالبازي والسلحفاة في الهمة إلى غير ذلك ، ويزيد على الجميع بالنظر ووجود التمييز والاستدلال بالشاهد عن الغائب ، وأنواع الحرف والصناعات ، فهذه كلها آيات الله تعالى في أنفسنا ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قال الصائب :
عجبتر از تو ندارد جهان تماشا كاه
جرا بجشم تعجب بخود نظر نكنى
وقال :
اى رازنه فلك زو جودت عيان همه
دردادن تو حاصل دريا وكان همه
بيش توسر بخاك مذلت نهاده اند
با آن علوم ومرتبه روحانيان همه
282
در كوش كرده خلقة فرمان بذير يرتست
خاك وهواو آتش وآب روان همه
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} بذلك {أَنَّهُ الْحَقُّ} ؛ أي : القرآن ، أو الرسول فالقصر المستفاد من تعريف المسند حقيقي ادعائي ، أو الله ، أو التوحيد ، فالقصر إضافي تحقيقي ؛ أي : لا الشركاء ولا التشريك والضمائر في سنريهم ، وفي أنفسهم ، ولهم للمشارفين على الاهتداء منهم ، أو للجميع على أنه من وصف الكل بوصف البعض كما في "حواشي سعدي المفتي".
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/216)
وجمعى ضمير را عائد بآدميان دارند يعني بنمايم مردمانرا دلائل آفاقى وآيات أنفسى).
فعبارة الآية مقام التوحيد وإشارتها مقام التجريد والتفريد وظهور الحق في مظاهر الآفاق والأنفس وتبينه بآيات توحيده المرئية فيهما توحيد واستقطاع التوحيد الموحد عن الالتفات إلى الآفاق تجريد ، وعن النظر إلى الأنفس تفريد ، لكن هذا التوحيد والتجريد والتفريد كوني لا إلهي ؛ لأنه باعتبار ظهور الحق في المظاهر الكونية دون الإلهية ، ففوقها توحيد وتجريد وتفريد إلهي باعتبار ظهور الحق في مظاهر الإلهية من مراتب التعينات الذاتية والاسمائية والصفاتية والافعالية والكوني من الإلهي بمنزلة الظاهر من الباطن فمرتبة التعين ذاتياً أولاً وصفاتياً ثانياً ، وإفعالياً ثالثاً مرتبة التوحيد ، ومرتبة اللاتعين الذي فوق التعين مطلقاً مرتبة التجريد ومرتبة الجامعية بين المرتبتين : مرتبة التفريد إذ الفرد الحقيقي الأولي جمعية المراتب الثلاث مطلقاً ، وجميع العلوم والأعمال والآثار جمالية ، أو جلالية شؤونات ذاتية مستجنة في غيب الذات أولاً وصور وأعيان علمية ثاتبة في عرصة العلم ثانياً ، وحقائق موجودات عينية متحققة في عرصة العين.
ولهذا التحقق العيني ، والوجود الخارجي خلق الله الأنفس والآفاق والسماوات والأرضين والملأ الأعلى والأسفل ، حتى يكون المعلوم مرئياً ومشاهداً ويتم الأمر الإلهي الجمالي والجلالي والكمالي ويكمل مطلقاً بالوجود العيني الخارجي حكمه الأزلي الأبدي جلاء واستجلاء (سر بحربى كرانراموج بر صحرا نهاد.
كنج مخفي آكشارا شد نهان آمد بديد).
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} استئناف وارد لتوبيخهم على ترددهم في شأن القرآن وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والباء مزيدة للتأكيد ؛ أي : ألم يغن ، ولم يكف ربك {أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه ؛ أي : ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ، ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء.
وقد أخبر بأنه من عنده ، فعدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم كما يصرحه قوله تعالى : {إِلا} كلمة تنبيه {إِنَّهُمْ} ؛ أي : كفار مكة.
{فِى مِرْيَةٍ} شك عظيم وشبهة شديدة.
{مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} بالبعث والجزاء ، فإنهم استبعدوا إحياء الموتى بعد ما تفرقت أجزاؤهم ، وتبددت أعضاؤهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفيه إشارة إلى أن الشك أحاط بجميع جوانبهم إحاطة الظرف بالمظروف لا خلاص لهم منه وهم مستمرون دائمون فيه.
{أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ} .
الإحاطة : إدراك الشيء بكماله ؛ أي : عالم بجميع الأشياء جملها وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم لا محالة ، ومرجع تأكيد العلم إلى تأكيد الوعيد :
علم بى جهل وقدرت بى عجز
خاص مر حضرت الهى راست
283
هرجه بايد در أنفس وآفاق
كنداز حكم بادشاهى راست
وإحاطة الله سبحانه وتعالى عند العارفين بالموجودات كلها عبارة عن تجليه بصور الموجودات ، فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه سار في الموجودات كلها ذاتاً ، وحياة وعلماً وقدرة إلى غير ذلك من الصفات.
والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية ، ولا يعزب عنه ذرة في السماوات والأرض ، وكل ما يعزب يلحق بالعدم ، وقالوا : هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف ، ولا كإحاطة الكل بأجزائه ، ولا كإحاطة الكلي بحزئياته ، بل كإحاظة الملزوم بلازمه ، فإن التعيينات اللاحقة لذاته المطلقة ، إنما هي لوازم له بواسطة ، أو بغير واسطة ، وبشرط ، أو بغير شرط ، ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ، ولا ينافيها.
والله أعلم بالحقائق.
واعلم أن الأشياء كلها قد اتفقت على الشهادة بوحدة خالقها وأنه مظهرها من كتم العدم ، والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة أرباب البصائر ، فسبحان من هو عند كل شيء ، ومعه وقبله ، ومن ها هنا.
قال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه.
وقال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله بعده.
وقال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ، فمنهم من يرى الأشياء به ، ومنهم من يراه بالأشياء ، وإلى الأول الإشارة بقوله : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، وإلى الثاني بقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق.
فالأول : صاحب مشاهدة ودرجة الصديقين.
والثاني : صاحب استدلال ودرجة العلماء الراسخين فما بعدها إلا درجة الغافلين المحجوبين.
وفي الآيات إشارات منها : أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءة الله إياهم.
ومنها : أن الله تعالى خلق الآفاق ونفس الإنسان مظهر آياته.
ومنها : أنه ليس للآفاق شعور على الآيات وعلى مظهريتها للآيات بخلاف الإنسان.
ومنها : أن نفس الإنسان مرآة مستعدة لمظهرية جميع آيات الله ومظهريتها بإراءة الحق تعالى بحيث يتبين له أنه الحق ، ويبين لغيره أنه الحق.
ومنها : أن العوام يتبين لهم باختلاف الليل والنهار والأحداث التي تجري في أحوال العالم واختلاف الأحوال التي تجري عليهم من الطفولة إلى الشيخوخة ، واختلاف أحكام الأعيان مع اختلاف جواهرها في التجانس.
وهذه هي آيات حدوث العالم ، واقتفاء المحدث بصفاته.
ومنها : أن الخواص يتبين لهم ببصائر قلوبهم من شواهد الحق واختلاف الأحوال في القبض والبسط والجمع والفرق والحجب والجذب والستر والتجلي والكشوف والبراهين وأنوار الغيب ، وما يجدونه من حقائق معاملاتهم بإراءة الحق تعالى.
ومنها : أن أخص الخواص يتبين لهم بالخروج من ظلمات حجب الإنسانية إلى نور الحضرة الربانية بتجلي صفات الجمال والحلال وكشف القناع الحقيقي عن العين والعيان ، ولهذا قال : أولم يكف بربك ؛ أي : بإراءة آياته وتعريف ذاته وصفاته بكشف القناع ورفع الأستار أنه على كل شيء شهيد لا يغيب عن قدرته شيء بقوله ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم يشير إلى أن أهل الصورة لفي شك من تجويز ما يكاشف به أهل الحقيقة من أنواع المشاهدات والمعاينات ألا إنه بكل شيء محيط ، وهو قادر على التجلي لكل شيء كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم "إذا تجلى الله لشيء خضع له"
تمت سورة حم السجدة في العشر العاشر من العشر الأول من صفر الخير من سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
284
جزء : 8 رقم الصفحة : 225(8/217)
سورة الشورى
مكية وهي ثلاث وخمسون آية
جزء : 8 رقم الصفحة : 284
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{حما * عاساق} : اسمان للسورة ، ولذلك فصل بينهما في الكتابة ، وعد آيتين بخلاف {كاهيعاص} و{الاماص} و{الامار} فإنها آية واحدة وأنها اسماً واحداً وآية واحدة فالفصل لتطابق سائر الحواميم وفي "القاموس" آل حاميم وذوات حاميم.
السور المفتتحة بها ، ولا تقل حواميم.
وقد جاء في شعر ، وهو اسم الله الأعظم أقسم أو حروف الرحمن مقطعة ، وتمامه الرون.
انتهى.
روى الطبري : أنه جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وعنده حذيفة اليماني رضي الله عنه ، فسأله عن تفسير {حما * عاساق} ، فأطرق وأعرض عنه حتى أعاد عليه ثلاثاً ، فأعرض ، فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم كرهها وتركها نزلت في رجل متأهل بيته ، يقال له : عبد الله ، أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق ، فيبني عليه مدينتين ، يشق النهر بينهما شقاً ، فإذا أراد الله زوال ملكهم ، وانقطاع دولتهم ، ينزل على إحداهما ناراً ليلاً ، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت ؛ كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها سالمة متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ؛ أي : من أهل المدينتين ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً في الليلة القابلة ، فذلك قوله تعالى : {حما * عاساق} ؛ أي : عزمة من عزمات الله وفتنة {حم} ؛ أي : قضى وقدر عدلاً منه سيكون واقعاً في هاتين المدينتين ، ونظير هذا التفسير ما روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "تبنى مدينتان بين دخلة ودجيل وقطربل والصراة يجتمع فيهما جبابرة الأرض يجبي إليهما الخزائن ، يخسف بهما".
وفي رواية : "بأهلهما" ، فلهما أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة.
قوله : دخلة بالخاء المعجمة على وزن حمزة ، قرية كثيرة التمر ، ودجيل بالجيم كزبير شعب من دجلة نهر بغداد وقطربل ، بالضم وتشديد الباء الموحدة ، أو بتخفيفها.
موضعان : أحدهما بالعراق ينسب إليه الخمر والصراة ، بالفتح : نهر بالعراق.
وقال الضحاك : قضى عذاب سيكون واقعاً ، وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر.
وذكر الثعلبي والقشيري : أن النبي عليه السلام لما نزلت هذه الآية عرف الكآبة في وجهه ؛ أي : أثر الحزن والملالة ، فقيل : يا رسول الله ، ما أحزنك.
قال : أخبرت ببلايا تنزل بأمتي من خسف ومسخ ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر ، وآيات متتابعات متصلات بنزول عيسى ، وخروج الدجال.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
كفته اند حاحرفست وميم مهلكه وعين عذاب وسين مسخ وقاف قذف وثعلبي كويد ابن عباس رضي الله عنهما {حما * عاساق} خواندى وكفتى علي رضي الله عنه فتنهارا باين دو لفظ دانست).
وروي عن علي رضي الله عنه : أنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الحروف التي في أوائل السور.
وقال شهر بن حوشب : {حما * عاساق} حرب يذل فيها العزيز ويعز فيها الذليل من قريش ، ثم تفضي إلى العرب إلى العجم ، ثم هي متصلة إلى خروج الدجال.
يقول الفقير : الفتن المتصلة بخروج الدجال بعضها قد مضى وبعضها سيقع فيما بين المائتين بعد الألف ، دل عليه {حم} ، وهو ثمان وأربعون ، والعين وهو سبعون ، والشين وهو ستون ، والقاف وهو مائة ؛ لأنه
285
قد صحّ أن الدجال متأخر عن المهدي ، وأن المهدي يخرج على رأس المائة الثالثة ، أو على أربعة ومائتين ، فيقع قبيل ظهور المهدي الطامات الكبرى.(8/218)
وقال عطاء : الحاء حرب وهو موت ذريع في الناس ، وفي الحيوان حتى يبيدهم ويفنيهم.
والميم تحويل ملك من قوم إلى قوم ، والعين عدو لقريش يقصدهم ، ثم ترجع إليهم الدولة لحرمة البيت ، والسين : هو استئصال بالسنين ؛ كسني يوسف عليه السلام وسبي يكون فيهم.
والقاف : قدرة الله نافذة في ملكوت الأرض لا يخرجون من قدرة الله ، وهي نافذة فيهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الحاء حكم الله والميم ملك الله ، والعين علو الله ، والسين سنا الله ، والقاف قدرة الله ، أقسم الله بها ؛ فكأنه يقول : فحكمي وملكي وعلوي وسناي وقدرتي لا أعذب عبداً قال : لا إله إلا الله مخلصاً ، فلقيني بها.
ومعناه على ما قال أبو الليث في "تفسيره" : لا يعذبه عذاباً دائماً خالداً.
وفي الحديث : "افتتحوا صبيانكم لا إله إلا الله" ، و"لقنوا أمواتكم لا إله إلا الله".
والحكمة في ذلك أن حال الصبيان حال حسن لا غل ولا غش في قلوبهم.
وحال الموتى حال الاضطرار ، فإذا قلتم في أول ما يجري عليكم القلم ، وآخر ما يجف عليكم القلم.
فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك ، ويقال : الحاء من الرحمن الرحيم ، والميم من مجده ، والعين من العليم ، والسين من القدوس ، والقاف من القاهر.
ويقال : الحاء حلمه والميم من المجيد ، والعين عظمته ، والسين سناه ، والقاف قدرته.
ويقال : إن القاف ، اسم لجبل يحيط بالدنيا.
(در كشف اسرار أورده كه اين حروف ايمانيست بأن عطاياكه حق سبحانه وتعالى بحضرت رسالت ارزانى داشت حاء حوض مورود اوست يعنى حوض كوثر كه تشنه لبان امت ازان سيراب كردانند وميم ملك ممدود او كه از مشرق تابمغرب بتصرف امت اودر آيدو عين عز موجود اوكه اعز همه اشيا نزد حق سبحانه بوده وسين سناء مشهود اوكه مرتبة هيجكس برتبة رفعت او همه نرسيد وقاف مقام محمود اوكه درشب معراج درجة او ادناست ودر روز ميامت شفاعت كبرى) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
مقام تو محمود ونامت محمد
بدين سان مقامى ونامى كه دارد
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القسم بحاء حبه وميم محبوبه محمد ، وعين عشقه على سيده ، وقاف قربه إلى سيده بكمال لا يبلغه أحد من خلقه.
ويقول الفقير : الحاء هو الحجر الأسود ، والميم مقام إبراهيم ، والعين عين زمزم ، والسين والقاف سقياها ، فمن استلم الحجر الأسود ساد سيادة معنوية ، ومن صلى خلف المقام أكرمه الله بالخلة ، ومن دعا عند زمزم إجابه الله ، ومن شرب من زمزم سقاه الله شراباً طهوراً لا يبقي فيه وجعاً ولا مرضاً.
{كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
الكاف في حيز النصب على أنه مفعول ليوحي ، والجلالة فاعله ؛ أي : مثل ما في هذه السورة من المعاني يوحي الله العزيز الحكيم إليك في سائر السور ، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم على أن مناط المماثلة هو الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق ، وما فيه صلاح العباد في المعاش ، ويجوز أن يكون الكاف في حيز النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد ليوحي ؛ أي : مثل إيحاء هذه السورة يوحي الله العزيز الحكيم إليك عند إيحاء سائر السور ، وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم لا إيحاء مغايراً على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك ، وإنما ذكر بلفظ المضارع مع أن مقتضى المقام ، أن يذكر بلفظ الماضي ضرورة أن الوحي إلى الذين من قبله
286
قد مضى ، دلالة على استمرار الوحي ، وتجدده وقتاً فوقتاً ، وأن إيحاء مثله عادته تعالى ، ويجوز أن يكون إيذاناً أن الماضي والمستقبل بالنسبة إليه تعالى واحد كما في "الكواشي".
والعزيز الحكيم : صفتان مقررتان لعلو شأن الموحي به ؛ لأنه أثر من اتصف بكمال القدرة والعلم.
{لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} ؛ أي : أن الله تعالى يختص به جميع ما في العوالم العلوية والسفلية خلقاً وملكاً وعلماً.
{وَهُوَ الْعَلِىُّ} الشأن {الْعَظِيمُ} الملك والقدرة والحكمة ، أو هو العلي ؛ أي : المرتفع عن مدارك العقول إذ ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات ، ولا كاسمه اسم ، ولا كفعله فعل ، وهو العظيم الذي يصغر عند ذكره وصف كل شيء سواه.
والعظيم من العباد الأنبياء والعلماء الوارثون لهم ، فالنبي عظيم في حق أمته ، والشيخ عظيم في حق مريده ، والأستاذ في حق تلميذه.
وإنما العظيم المطلق هو الله تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّا والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِا أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
(8/219)
{تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ} : (نزديك شدكه آسمانها).
{يَتَفَطَّرْنَ} : التفطر : (شكافته شدن).
وأصل الفطر : الشق طولاً ؛ أي : يتشققن من عظمة الله وخشيته وإجلاله ، كقوله تعالى : {لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر : 21).
{مِن فَوْقِهِنَّ} ؛ أي : يبتدىء التفطر من جهتهن الفوقانية إلى جهتهن التحتانية وتخصيصها لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظيمة والجلال من تلك الجهة من العرش والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار الملكوت العظمى ، فكان المناسب أن يكون تفطر السماوات مبتدأ من تلك الجهة بأن يتفطر أولاً أعلى السماوات ، ثم وثم إلى أن ينتهي إلى أسفلها بأن لا تبقى سماء إلا سقطت على الأخرى.
ويقال : تتشققن من دعاء الولد ، كما قال تعالى في سورة مريم : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} (مريم : 90 ـ ـ 91) ، فتخصيصها للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى ؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض إذا أثرت في جهة الفوق ، فلأن تؤثر في جهة التحت أولى.
وقيل : لنزول العذاب منهن.
{والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .
ينزهونه تعالى عما لا يليق به من الشريك والولد وسائر صفات الأجسام ملتبسين بحمده تعالى.
يعني : تسبيح وحمد (باهم ميكويند جه يكى نفى ناسزاست ويكى إثبات سزا) ، فقدم التسبيح على الحمد ؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية.
وهذا جانب الاستفاضة من الله ، والقبول ، ثم أشارا جانب الإفاضة والتأثير بقوله : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرْضِ} ؛ أي : للمؤمنين بالشفاعة لقوله تعالى : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} (غافر : 7) ، فالمطلق محمول على المقيد ، أو للمؤمن والكافر بالسعي ، فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام ، وترتيب الأسباب المقربة إلى الطاعة واستدعاء تأخير العقوبة جمعاً في إيمان الكافر وتوبة الفاسق.
وهذا لا ينافي كون الملائكة لاعنين للكفار من وجه آخر ، كما قال تعالى : {أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَئكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة : 161).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداًيسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض".
وهذا يدل على أن المراد بالملائكة في الآية ملائكة السماوات كلها.
وقال مقاتل حملة العرش وإليه ذهب الكاشفي في "تفسيره" ، ويدل عليه قوله تعالى في أوائل حم المؤمن {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} (غافر : 7).
يقول الفقير : تخصيص ملائكة العرش لا ينافي
287
من عداهم ، فلعله من باب الترقي ؛ لأن آية {حم} المؤمن مقيدة بحملة العرش واستغفار المؤمنين.
وهذه الآية مطلقة في حق كل من الملائكة والاستغفار.
{إِلا} اعلموا {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ} يغفر ذنوب المقبلين {الرَّحِيمُ} يرحم بأن يرزقهم جنته وقربه ووصاله وبرحمته يأمر الملائكة بالاستغفار لبني آدم مع كثرة عصيانهم ، والكفار الذين يرتكبون الشرك والذنوب العظام لا يقطع رزقهم ولا صحتهم ولا تمتعاتهم من الدنيا ، وإن كان يريد أن يعذبهم في الآخرة.
يقول الفقير : إن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للمؤمنين ، فالمؤمنون يسلمون عليهم ، كما يقولون في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، إذ لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فالمنةتعالى على كل حال.
وفي الآية إشارة إلى أن قوماً من الجهلة يقولون : على الله ما لا يعلمون ، ومن عظم افترائهم تكاد السموات تنشق من فوقهم ؛ لأن الله تعالى ألبسها أنوار قدرته وأدخلها روح فعله حتى عقلت عبوديته صانعها ، وعرفت قدسه وطهارته عن قول الزائغين ، وإشارة الملحدين والملائكة يقدسون الله عما يقولون فيه من الزور والبهتان ، والدعاوى الباطلة ، ويستغفرون للمؤمنين الذين لم يبلغوا حقيقة عبوديته ، فإنهم هم القابلون للإصلاح لاعترافهم بعجزهم وقصورهم دون المصرين المبتدعين :
فاسد شده راز روزكار وارون
لايمكن أن يصلحه العطارون
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ} شركاء وأنداداً ، وأشركوهم معه في العبادة.
{اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أحوالهم وأعمالهم مطلع ليس بغافل فيجازيهم لا رقيب عليهم إلا هو وحده.
ومعنى الحفيظ بالفارسية : (نكهبان).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285(8/220)
وقال في "المفردات" : معناه محفوظ لا يضيع ، كقوله : {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـابٍا لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} (طه : 52).
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بموكول إليه أمرهم حتى تسأل عنهم وتؤخذ بهم ، وإنما وظيفتك الإنذار وتبليغ الأحكام.
وفيه إشارة إلى أن كل من عمل بمتابعة هواه ، وتركحداً ونقض له عهداً ، فهو متخذ الشياطين أولياء ؛ لأنه يعمل بأوامرهم وأفعاله موافقة لطباعهم الله حفيظ عليهم بأعمال سرهم وعلانيتهم إن شاء عذبهم ، وإن شاء عفا عنهم ، وما أنت عليهم بوكيل لتمنعهم عن معاملاتهم ، فعلى العاقل أن لا يتخذ من دون الله أولياء ، بل يتفرد بمحبة الله وولايته كما قال تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) حتى يتولاه في جميع أموره ، وما أحوجه إلى أحد سواه.
وقال الأستاذ أبو علي الدقاق قدس سره : ظهرت علة بالملك يعقوب بن الليث أعيت الأطباء ، فقالوا له : في ولايتك رجل صالح يسمى سهل بن عبد الله لو دعا لك لعل الله يستجيب له ، فاستحضره ، فقال : ادع الله ، فقال : كيف يستجاب دعائي فيك.
وفي حسبك مظلومون ، فأطلق كل من حبسه ، فقال سهل : اللهم كما أريته ذل المعصية ، فأره عز الطاعة وفرج عنه فعوفي ، فعرض مالاً على سهل ، فأبى أن يقبله ، فقيل له : لو قبلته ودفعته إلى الفقراء ، فنظر إلى الحصباء في الصحراء ، فإذا هي جواهر ، فقال : من يعطي مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث ، فالمعطي والمانع والضار والنافع هو : الله الولي الوكيل الذي لا إله غيره :
نقش او كردست ونقاش من اوست
غير اكر دعوى كند او ظلم جوست
{وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} .
ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ، ومحل الكاف النصب
288
على المصدرية ، وقرآناً عربياً مفعول لأوحينا ؛ أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك إيحاء لا لبس فيه إليك وعلى قومك.
وقال الكاشفي : (وهمجانكه وحى كرديم بهر بيغمبر بزبان او ووحى كرديم بتو قرآني بلغت عرب كه قوم تواند تاكه فهم حاصل شود).
{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} ؛ أي : لتخوف أهل مكة بعذاب الله على تقدير إصرارهم على الكفر والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم ، وسميت مكة أم القرى تشريفاً لها وإجلالاً لاشتمالها على البيت المعظم ، ومقام إبراهيم ، ولما روى من أن الأرض دحيت من تحتها ، فمحل القرى منها محل البنات من الأمهات.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} من العرب ، وهذا ؛ أي : التبيين بالعرب لا ينافي عموم رسالته ؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينافي حكم ما عداه ، وقيل : من أهل الأرض كلها ، وبذلك فسره البغوي ، فقال : قرى الأرض كلها وكذا القشيري حيث قال العالم محدق بالكعبة ومكة ؛ لأنهما سرة الأرض :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
بس همه أهالي بلاد برحوالى ويند
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى إنذار نفسه الشريفة ؛ لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده ؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي تعلقت القدرة بإيجاده قبل كل شيء ، كما قال أول ما خلق الله روحي ، ومنه تنشأ الأرواح والنفوس.
ولهذا المعنى قال آدم : ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ، فالمعنى : كما يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم لينذروا الأمم.
كذلك أوحينا قرآناً عربياً لتنذر نفسك الشريفة بالقرآن العربي ؛ لأن نفسك عربية ومن حولها من نفوس أهل العالم ؛ لأنها محدقة بنفسك الشريفة ، ولذلك قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
وقال عليه السلام : "بعثت إلى الخلق كافة".
مه طلعتى كه برقد قدرش بريده اند
ديباى قم فانذر واستبرق دنا
{وَتُنذِرَ} أهل مكة ومن حولها.
{يَوْمَ الْجَمْعِ} ؛ أي : بيوم القيامة وما فيه من العذاب ؛ لأنه يجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين وأهل السماوات وأهل الأرض ، والأرواح والأشباح والأعمال والعمال ، فالباء محذوف من اليوم ، كما قال : {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} (الكهف : 2) ، أي : ببأس شديد كما قاله أبو الليث ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، كما في "كشف الأسرار" ، وقد سبق غير ذلك في {حم} المؤمن عند قوله تعالى : {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} (غافر : 15) {لا رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له ؛ أي : لا بد من مجيء ذلك اليوم ، وليس بمرتاب فيه في نفسه وذاته ؛ لأنه لا بد من جزاء العاملين من المنذرين والمنذرين ، وأهل الجنة وأهل النار وارتياب الكفار فيه لا يعتد به ، ولا شك في الجمع أنه كائن ، ولا بد من تحققه.
{فَرِيقٌ} وهم المؤمنون {فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ} ، وهم الكافرون {فِى السَّعِيرِ} ؛ أي : سميت بهالالتها بها ، وذلك بعد جمعهم في الموقف ؛ لأنهم يجمعون فيه أولاً ثم يفرقون بعد الحساب ، والتقدير منهم فريق على أن فريق مبتدأ حذف خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة لأمرين تقديم خبرها ، وهو الجار والمجرور المحذوف ووصفها بقوله في الجنة والضمير المجرور في منهم للمجموعين لدلالة لفظ الجمع عليه فإن المعنى يوم يجمع الخلائق في موقف الحساب.
(8/221)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "التأويلات النجمية" : وتنذر يوم الجمع بين الأرواح والأجساد لا شك في كونه ، وكما أنهم اليوم فريقان : فريق في جنة القلوب وراحات
289
الطاعات وحلاوات العبادات ، وتنعمات القربات.
وفريق في سعير النفوس وظلمات المعاصي وعقوبات الشرك والجحود ، فكذلك غدا فريق هم : أهل اللقاء ، فريق هم : أهل الشقاء والبلاء.
وفي الحديث : "إن الله خلق للجنة خلقاً ، وهم في أصلاب آبائهم" ، وعنه عليه السلام أن الله خلق الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأهل الجنة أهلها وأهل النار أهلها".
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قال : خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي يده كتابان.
وفي رواية : خرج ذات يوم قابضاً على كفيه ، ومعه كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟.
قلنا : لا يا رسول الله ، فقال : "للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال الله عليهم إلى يوم القيامة" ، فقال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذاً؟ فقال : "اعملوا وسددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وصاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أي عمل ، ثم قال : فريق في الجنة ، وفريق في السعير عدل من الله تعالى قوله : سددوا وقاربوا ؛ أي : اقصدوا السداد ؛ أي : الصواب ، ولا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي ذلك بكم إلى الملال ، فتتركوا العمل" كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي ونظيره قوله عليه السلام : "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" يعني : أن الدين يشتمل على أعمال سهلة ، فمن تكلف والتزم في عبادات شاقة وتكلفات لربما لم يتيسر إقامتها عليه ، فتغلب عليه ، فالكسب طريق الجنة ، ولا بد منه ، وإن علم أنه من أهل الجنة :
كسب را همجون زراعت دان عمو
تانكارى دخل نبود آن تو
{وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيه فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه وَالظَّـالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَا فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ} ؛ أي : في الدنيا ، والضمير لجميع الناس المشار إليهم بالفريقين {أُمَّةً وَاحِدَةً} : فريقاً واحدا وجماعة واحدة مهتدين ، أو ضالين ، وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس رضي الله عنهما في قوله على دين واحد.
{وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ} أن يدخله {فِى رَحْمَتِهِ} وجنته ، ويدخل من يشاء أن يدخله في عذابه ونقمه ، ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله ، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعاً ، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة ، بل جعلهم فريقين.
{وَالظَّـالِمُونَ} ؛ أي : المشركون {مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ} ؛ أي : ما لهم ولي ما يلي أمرهم ويغنيهم وينفعهم ، فمن مزيدة لاستغراق النفي.
{وَلا نَصِيرٍ} : يدفع العذاب عنهم ويخلصهم منه ، وفيه إيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم ، لا من جهته تعالى ، كما في الإدخال في الرحمة.
قال سعدي المفتي في "حواشيه" : لعل تغيير المقابل حيث لم يأت المقابل ، ويدخل من يشاء في نقمته ، بل عدل إلى ما في النظم للمبالغة في الوعيد ، فإن في نفي من يتولاهم وينصرهم في دفع العذاب عنهم دلالة على أن كونهم في العذاب أمر معلوم مفروغ عنه ، وأيضاً فيه سلوك طريق ، وإذا مرضت ، فهو يشفين ، وأيضاً ذكر السبب الأصلي في جانب الرحمة ليجتهدوا في الشكر.
290
والسبب الظاهري في جانب النقمة ليرتدعوا عن الكفر.
(8/222)
وفي "التأويلات النجمية" : ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة كالملائكة المقربين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} (التحريم : 6) الآية ، أو جعلهم كالشياطين المبعدين المطرودين المتمردين ، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يجعلهم مركبين من جوهر الملكي والشيطاني ، ليكونوا مختلفين بعضهم الغالب عليه الوصف الملكي مطيعاًتعالى ، وبعضهم الغالب عليه الوصف الشيطاني متمرداً على الله تعالى ، ليكونوا مظاهر صفات لطفه وقهره مستعدين لمرآتية صفات جماله وجلاله متخلقين بأخلاقه.
وهذا سر قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) ، ومن ها هنا قالت الملائكة : {سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} (البقرة : 32) ، ويدل على هذا التأويل قوله : {وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} ؛ أي : ليكون مظهر صفات لطفه ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ؛ أي : ليكونوا مظاهر صفات قهره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ} ، أم منقطعة مقدرة ببل ، والهمزة ، وما فيها من بل للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها ، والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وأكده لا لإنكار الواقع واستقباحه ، كما قيل : إذ المراد بيان أن مافعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء ؛ لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء ، وهو أظهر الممتنعات ؛ أي : بل اتخذوا متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها :
ءلاف دوستى ايشان مى زند هيهات
{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ} : جواب شرط محذوف ؛ كأنه قيل : بعد إبطال ولاية ما اتخذوه أولياء إن أرادوا أولياء في الحقيقة هو الولي الذي يجب أن يتولى ، ويعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ، وهو متولي الأمور من الخير والشر والنفع والضر.
قال في "كشف الأسرار" : (الله اوست كه يار فرياد رس است).
قال سعد المفتي : ولك أن تحمل الفاء على السببية الداخلة على السبب لكون ذكره مسبباً عن ذكر السبب فانحصار الولي في الله سبب لإنكار اتخاذ الأولياء من دون الله كما يجوز أن يقال : أتضرب زيداً ، فهو أخوك على معنى : لا ينبغي أن تضربه فإنه أخوك.
{وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى} ؛ أي : من شأنه ذلك ليس في السماء والأرض معبود يحيي الموتى غيره ، وهو قول إبراهيم عليه السلام ربي الذي يحيي ويميت ، ولما نزل العذاب بقوم يونس عليه السلام لجؤوا إلى عالم فيهم كان عنده من أهل العلم شيء ، وكان يونس ذهب مغاضباً ، فقال لهم : قولوا : يا حي حين لا حي يا حي محيي الموتى يا حى لا إله إلا أنت ، فقالوها ، فكشف عنهم العذاب.
يقول الفقير قدس سره : إن الله تعالى إنما يرسل العذاب للإماتة والإهلاك.
وفي الحي والمحيي ما يدفع ذلك إذ لا تجتمع الحياة والموت في محل واحد.
وفيه إشارة إلى غلبة الرحمة والشفقة.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً فليتحصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء :
اوست قادر بحكم كن فيكون
غير أو جمله عاجز ند وزبون
عجر را سوى قدرتش ره نيست
عقال ازين كارخانه آكه نيست
وفي "التأويلات النجمية" : وهو يحيي الموتى ؛ أي : النفوس والقلوب الميتة ، ويميت النفوس والقلوب اليوم وغداً ، وهو على كل شيء قدير من الإيجاد والإعدام.
وقال الواسطي رحمه الله : يحيي القلوب بالتجلي ويميت الأنفس بالاستتار.
وقال سهل لا يحيي النفوس حتى تموت ؛ أي : من أوصافها.
291
وقال بعضهم : فيه شكاية من المشغولين بغيره الباقين في حجاب الوسائط بعرض نفسه بالجمال والجلال على المقصرين ليجذب بحسنه وجماله قلوبهم إلى محبته وعشقه ويحييها بنور أنسه وسنا قدسه ، فلا بد للمرء من الاجتهاد والتضرع إلى رب العباد ليصل إلى المطلوب ويعانق المحبوب.
قال في المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
بيش يوسف نازش وخوبى مكن
جزنياز واه يعقوبى مكن
ازبهاران كى شود سر سبزسنك
خاك شوبا كل بروى رنك رنك
سالها توسنك بودى دالخراش
آزمون رايك زمانى خاك باش
ففي هذا الفناء حياة عظيمة ألا ترى أن الأرض تموت عن نفسها وقت الخريف فيحييها الله تعالى وقت الربيع بما لا مزيد عليه.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَا فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُه إِلَى اللَّه ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيه لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} .
(8/223)
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ} .
حكاية لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين لقوله بعده ذلكم الله ربي إلخ ؛ أي : ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين ، فاختلفتم أنتم وهم {فَحُكْمُهُ} راجع {إِلَى اللَّهِ} ، وهو أثابه المحقين وعقاب المبطلين يوم الفصل والجزاء ، فعلى هذا لا يجوز أن يحمل على الاختلاف بين المجتهدين ؛ لأن الاجتهاد بحضرته عليه السلام لا يجوز.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى اختلاف العلماء في شيء من الشرعيات والمعارف الإلهية ، فالحكم في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام ، وإجماع الأمة وشواهد القياس ، أو إلى أهل الذكر ، كما قال تعالى ، {فَسْـاَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء : 7) ، ولا يرجعون إلى العقول المشوبة بآفة الوهم والخيال ، فإن فيها للنفس والشيطان مدخلاً بإلقاء الشبهات ، وأدنى الشبهة في التوحيد كفر ، وقد زلت أقدام جميع أهل الأهواء والبدع والفلاسفة عن الصراط المستقيم ، والدين القويم بهذه المزلة.
{ذَالِكُمُ} الحاكم العظيم الشأن ، وهو مبتدأ {اللَّهُ} خبر {رَبِّى} ومالكي لقب .
{عَلَيْهِ} خاصة لا على غيره {تَوَكَّلْتُ} في كل أموري التي من جملتها رد كيد أعداء الدين {وَإِلَيْهِ} لا إلى أحد سواه {أُنِيبُ} أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور التي منها كفاية شرهم والنصر عليهم ، وحيث كان التوكل أمراً واحداً مستمراً والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي.
وفي الثاني : صيغة المضارع.
وفيه إشارة إلى أنه إذا اشتغلت قلوبكم بحديث نفوسكم لا تدرون أبالسعادة جرى حكمكم أم بالشقاوة مضى اسمكم ، فكلوا الأمر فيه إلى الله ، واشتغلوا في الوقت بأمر الله دون التفكر فيما ليس لعقولكم سبيل إلى معرفته وعلمه من عواقبكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} خبر آخر لذلكم ؛ أي : خالق الآفاق من العلويات والسفليات ، ويدخل فيه بطريق الإشارة : الأرواح والنفوس.
{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ؛ أي : من جنسكم {أَزْوَاجًا} نساء وحلائل.
وبالفارسية : (جفتال).
{وَمِنَ الانْعَـامِ} ؛ أي : وجعل للأنعام من جنسها {أَزْوَاجًا} ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافاً يعني : (خلق كرداز جهار بابان صنفهاى كونا).
كون إكراماً لكم لترتفقوا بها إذ يطلق الزوج على معنى الصنف كما في قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً} (الواقعة : 7) أو {ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا} (الشورى : 50) وفإنه يطلق على مجموع الزوجين ، وهو خلاف الفرد.
{يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم أيها الناس.
والأنعام من الذرء ، وهو البث.
قال في "القاموس" : ذرأ كجعل خلق.
والشيء كثره ومنه
292
الذرية مثلثة لنسل الثقلين.
{فِيهِ} ؛ أي : في هذا التدبير ، وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد فاختير فيه على به مع أن التدبير ليس ظرفاً للبث والتكثير ، بل هو سبب لهما ؛ لأن هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهما ، ففيه تغليبان : تغليب المخاطب على الغائب حيث لم يقل يذرؤكم وإياكم ؛ لأن الأنعام ذكرت بلفظ الغيبة ، وتغليب العقلاء على غيرهم حيث لم يقل يذرأكم وإياهن ، فإن كم مخصوص بالعقلاء.
{لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} : المثل كناية عن الذات كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة في نفيه عنه ؛ فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى.
وهذا لا يتوقف على أن يتحقق مثل في الخارج ، بل يكفي تقدير المثل ، ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له ، والشيء عبارة عن الموجود ، وهو اسم لجميع المكونات عرضاً كان أو جوهراً.
وعند سيبويه : الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه موجوداً أو معدوماً.
والمعنى : ليس كذاته شيء من شأن من الشؤون التي من جملتها هذا التدبير البديع ؛ لأن ذاته لا يماثل ذات أحد بوجه من الوجوه ، ولا من جميع الوجوه ؛ لأن الأشياء كلها إما أجسام أو أعراض تعالى ربنا عن ذلك ولا كاسمه اسم كما قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) ، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثلاً للذات الحادثة ، وأن يكون لها صفة حادثة ، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ذات تراصورت اوبيوندند
توبكس وكس بتو مانند ند
جل المهيمن أن تدري حقيقته
من لا له المثل لا تضرب له مثلاً
وفي المثنوي : (ذات أوراد وتصور كيخ كو تادر آري در تصور مثل أو) هذا ما عليه المحققون والمشهور عند القوم أن الكاف زائدة في خبر ليس ، وشيء اسمها ، والتقدير : ليس مثله شيء وإلا كان المعنى : ليس مثل مثله شيء ، وهو محال.
(8/224)
قال بعضهم : لعل من قال : الكاف زائدة أراد أنه يعطي مغني ليس مثله شيء غير أنه آكد لما ذكر من أنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى.
وقال بعضهم : كلمة مثل هي الزائدة.
والتقدير : ليس كهو شيء ، ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز ، فالوجه الرجوع إلى طريق الكناية ؛ لأن القول بزيادة ماله فائدة جليلة وبلاغة مقبولة بعيد كل البعد.
قال في "بحر العلوم" : ومما يجب التنبه له أن المثل عبارة عن المساوات في بعض الصفات لا في جميعها كما زعم كثير من المحققين ، فإنه سهو بدليل قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ} (الكهف : 110) ، الآية.
فإنه ثبت مماثلته بالاشتراك والمساواة في وصف البشرية فقط لا في جميع الأوصاف كما لا يخفى للقطع بأن بينه وبينهم مخالفة بوجوه كثيرة من اختصاصه بالنبوة والرسالة والوحي إلى غير ذلك.
ألا ترى إلى قوله : يوحي إلى كيف أثبت المخالفة بأن خصصه بالإيحاء إليه ذكراً ، فظهر أن ما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله من أن المثل عبارة عن المساوي في جميع الصفات ليس كما ينبغي ، انتهى.
يقول الفقير : إنما جاء التخصيص من قبل قوله : بشر كما في قوله : زيد مثل عمر في النحو ، وإلا فلو قال : أنا مثلكم لأفادت المماثلة في جميع الصفات ، كما في قوله : زيد مثل عمرو أي من كل الوجوه.
قال الإمام الراغب في "المفردات" : المثل عبارة عن المشابه لغيره في معنى من المعاني ؛ أي : معنى
293
كان.
وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، وذلك أن الند يقال : لما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال : فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط.
والمثل عام في جميع ذلك.
ولهذا لما أراد الله سبحانه وتعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر ، فقال تعالى : ليس كمثله شيء.
انتهى.
وحيث ترى في مرآة القلب صورة أو خطر بالخاطر مثال ، وركنت النفس إلى كيفيته ، فليجزم بأن الله بخلافه إذ كل ذلك من سمات الحدوث لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوقين المنزه عنهما الخالق ، ولقد أقسم سيد الطائفة الجنيد قدس سره بأنه ما عرف الله إلا الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وقال بعض سادات الصوفية قدس الله أسرارهم : المثل ليس بزائد عند أهل الحقيقة ، فإن الهاء كناية عن الهوية الذاتية ، والمثل إشارة إلى التجلي الإلهي.
والمعنى : ليس كالتجلي الإلهي الذي هو أول التجليات شيء إذ هو محيط بكل التجليات الباقية المرتبة عليه.
قال الواسطي قدس سره : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ليس كمثله شيء ؛ لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق تعالى لا ينعت على إقداره ؛ لأن كل باعث مشرف على المنعوت وجل أن يشرف عليه المخلوق.
قال الشيخ سعدي :
نه براوج ذاتش برد مرغ وهم
نه در ذيل وصفش رسد دست فهم
توان در بلاغت بسحبان رسيد
كنه در نه بيجون سبحان رسيد
جه خاصان درين ره فرس رانده اند
بلا احصى از تك فرومانده اند
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : المبالغ في العلم بكل ما يسمع ويبصر.
قال الزروقي : السميع الذي انكشف كل موجود لصفة سمعه ، فكان مدركاً لكل مسموع من كلامه وغيره والبصير الذي يدرك كل موجود برؤيته.
والسمع والبصر صفتان من صفاته المنعوتة نابتتان له تعالى كما يليق بوصفه الكريم ورده بعضهم للعلم ، ولا يصح.
انتهى.
قال الغزالي رحمه الله : السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات والبصر عبارة عن الوصف الذي به ينكشف كمال نعوت ، والمبصرات وسمع العبد قاصر ، فإنه يدرك ما قرب لا ما بعد بجارحة ، وربما بطل السمع بعظم الصوت ؛ وإنما حظ العبد منه أمران أحدهما أن يعلم أن الله سميع ، فيحفظ لسانه.
والثاني : أن يعلم أن الله لم يخلق له السمع إلا ليسمع كلامه ، وحديث رسوله ، فيستفيد به الهداية إلى طريق الله ، فلا يستعمل سمعه إلا فيه ، واستماع صوت الملاهي حرام ، وإن سمع بغتة ، فلا إثم عليه والواجب عليه أن يجتهد حتى لا يسمع ؛ لأنه عليه السلام "أدخل أصبعه في أذنه" ، كما في البزازية.
وفي الحديث : "استماع صوت الملاهي معصية والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها كفر" على وجه التهديد وبصر العبد قاصر إذ لا يمتد إلى ما بعد ، ولا يتغلغل إلى باطن ما قرب منه وحظه الديني أمران أن يعلم أنه خلق له البصر ، لينظر إلى الآيات والآفاقية والأنفسية ، وأن يعلم أنه بمرأى من الله ومسمع ؛ أي : بحيث يراه ويسمعه ، فمن قارف معصية ، وهو يعلم أن الله يراه ، فما أجسره وأخسره ، ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره.
قال في "كشف الأسرار" : ثم قال : وهو السمع البصير لئلا يتوهم أنه لا صفات له كما لا مثل له ، فقد تضمنت الآية إثبات الصفة ونفي التشبيه والتوحيد كله بين هذين الحرفين إثبات صفة من غير تشبيه ونفي تشبيه من غير تعطيل ، فمن نزل عن الإثبات ،
294
وادعى اتقاء التشبيه وقع في التعطيل ، ومن ارتقى عن الظاهر ، وادعى اتقاء التعطيل حصل على التشبيه ، وأخطأ وجه الدليل ، وعلى الله قصد السبيل.
(8/225)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "التأويلات النجمية" : أن قوماً وقعوا في تشبيه ذاته بذات المخلوقين ، فوصفوه بالحد والنهاية والكون والمكان ، وأقبح قولاً منهم من وصفه بالجوارح والآلات ، وقوم وصفوه بما هو تشبيه في الصفات ، فظنوا أن بصره في حدقة وسمعه في عضو ورقدرته في يد إلى غير ذلك وقوم قاسوا حكمه على حكم عباده ، فقالوا : ما يكون من الحق قبيحاً فمنه قبيح وما يكون من الخلق حسناً ، فمنه حسن ، فهؤلاء كلهم أصحاب التشبيه والحق تعالى مستحق التنزيه لا التشبيه محقق بالتحصيل دون التعطيل والتمثيل مستحق التوحيد دون التحديد موصوف بكمال الصفات مسلوب عن العيوب والنقصان.
{لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الزمر : 63).
{فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيه لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُوا} .
قال الجواليقي في كتابه "المعرب" المقليد المفتاح فارسي معرب لغة في الإقليد ، والجمع مقاليد ، فالمقاليد : المفاتيح.
وهي كناية عن الخزائن وقدرته عليها وحفظه لها.
وفيه مزيد دلالة على الاختصاص ؛ لأن الخزائن لا يدخلها ، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها.
وقال الكاشفي : (كليد هاى آسمانها وزمينها يعني : مفاتيح رزق جه خزانة آسمان مطراست وكنجينة زمين نبات).
قال ابن عطاء : مقاليد الأرزاق صحة التوكل ومقاليد القلوب صحة المعرفة بالله ومقاليد العلوم في الجوع :
ندارند تن بروران آكهى
كه برمعده باشدز حكمت تهى
وقال بعضهم : مقاليد سماواته ما في قلوب ملائكته من أحكام الغيوب ، ومقاليد أرضه ما أودع الحق صدور أوليائه من عجائب القلوب.
{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يوسع ويضيق {إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} مبالغ في الإحاطة به ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه ، فلا يوسع الرزق إلا إذا علم أن سعته خير للعبد.
وكذا التضييق.
وفي "التأويلات النجمية" : له مفاتيح سماوات القلوب ، وفيها خزائن لطفه ورحمته وأرض النفوس ، وفيها خزائن قهره ، وعزته ، فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه ، فبعضها مخزن المعرفة وبعضها مخزن المحبة ، وبعضها مخزن الشوق وبعضها مخزن الإرادة.
وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والأنس والرضا.
وغير ذلك ، وكل نفس مخزن لنوع من أوصاف قهره ، فبعضها مخزن النكرة ، وبعضها مخزن الجحود وبعضها مخزن الإنكار ، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة كالشرك والنفاق ، والحرص والكبر والبخل والشره والغضب والشهوة ، وغير ذلك وفائدة التعريف أن المقاليد له قطع أفكار العباد من الخلق إليه في جلب ما يريدونه ، ودفع ما يكرهونه ، فإنه تعالى يوسع ويضيق رزق النفوس ورزق القلوب ، والخلق بمعزل عن هذا الوصف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "لا إله إلا الله مفتاح الجنة" ، ولا شك أن الجنة جنتان : جنة صورية هي دار النعيم ، وجنة معنوية هي : القلب.
ومفتاح كلتيهما هو التوحيد ، وهو بيد الله يعطيه من يشاء من عباده ويجعله من أهل النعيم مطلقاً ، ثم إن الرزق الصوري هي المأكولات والمشروبات الحسية والرزق المعنوي ، هي العلوم الحقيقية ، والمعارف الإلهية ، فالأول داخل في الآية بطريق العبارة.
والثاني : بطريق الإشارة.
وفي المثنوي :
295
فهم نان كردن نه حكمت اى رهى
زانكه حق كفتت كلو من رزقه
رزق حق حكمت بود در مرتبت
كان كلو كيرت نباشد عاقبت
اين دهان بستى دهانى بازشد
كه خورنده لقمهاى رازشد
كر زشير ديوتن را وا برى
در فطام او بسى حكمت خورى
نسأل الله فيضه وعطاه بحق مصطفاه.
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} شرع بمعنى سن وجعل سنة وطريقاً واضحاً ؛ أي : سن الله لكم يا أمة محمد من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع والأحكام.
وبالفارسية : (وراه روشن ساخت شمار ازدين).
{مَا وَصَّى بِه نُوحًا} التوصية وصيت : (كردن وفرمودن) ، والوصية : التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظه ؛ أي : أمر به نوحاً أمراً مؤكداً ، فإن التوصية معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به قدم نوح عليه السلام ؛ لأنه أول أنبياء الشريعة ؛ فإنه أول من أوحى إليه الحلال والحرام وأول من أوحي إليه تحريم الأمهات والأخوات والبنات وسائر ذوات المحارم ، فبقيت تلك الحرمة إلى هذا الآن.
(8/226)
{وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ؛ أي : وشرع لكم الذي أوحينا إلى محمد عليه السلام ، وتغيير التوصية إلى الإيحاء في جانب النبي صلى الله عليه وسلم للتصريح برسالته القامع لإنكار الكفرة ، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً ، وتقديم توصية نوح للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً ، والتعبير بالأصل في الموصولات ، وهو الذي للتعظيم وتوجيه الخطاب إليه عليه السلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه.
{وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا} وجه تخصيص هؤلاء الخمسة بالذكر ، أنهم أكابر الأنبياء ومشاهيرهم من أولي العزم وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} محله النصب على أنه بدل من مفعول شرع ، والمعطوفين عليه أو رفع على الاستئناف ؛ كأنه قيل : وما ذلك المشروع المشترك بين هؤلاء الرسل ، فقيل : هو إقامة الدين ؛ أي : دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان بكتبه ورسله ، وباليوم الآخر وسائر ما يكون الرجل به مؤمناً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمراد : بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، أو المواظبة عليه والتشمر له.
{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} في الدين الذي هو عبارة عن الأصول والخطاب متوجه إلى أمته عليه السلام ، فهذه وصية لجميع العباد.
واعلم أن الأنبياء عليهم السلام مشتركون ومثقفون في أصل الدين وجميعهم أقاموا الدين وقاموا بخدمته وداموا بالدعوة إليه ، ولم يتخلفوا في ذلك ، وباعتبار هذا الاتفاق والاتحاد في الأصول.
قال الله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ} (آل عمران : 19) من غير تفرقة بين نبي ونبي ومختلفون في الفروع والأحكام.
قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة : 48) ، وهذا لاختلاف الناشىء في اختلاف الأمم وتفاوت طبائعهم لا يقدح في ذلك الاتفاق ، ثم أمر عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه ونهاهم عن التفرق فيه ، فإن يد الله ونصرته مع الجماعة ، وإنما يأكل الذئب الشاة البعيدة النافرة والمنفردة عن الجماعة.
أوصى حكيم أولاده عند موته ، وكانوا جماعة ، فقال لهم : ائتوني بعصى ، فجمعها ، فقال لهم : اكسروها ، وهي مجموعة ، فلم يقدروا على ذلك ، ثم فرقها ، فقال : خذوا واحدة واحدة ، فاكسروها فكسروها ،
296
فقال لهم : هكذا أنتم بعدي لن تغلبوا ما اجتمعتم ، فإذا تفرقتم تمكن منكم عدوكم ، فأهلككم ، وكذا القائمون بالدين إذا اجتمعوا على إقامته ، ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدو.
وكذا الإنسان في نفسه إذا اجتمع في نفسه على إقامة الدين لم يغلبه شيطان من الإنس والجن ، بما يوسوس به إليه مع مساعدة الإيمان والملك بإقامته له.
قال علي رضي الله عنه : لا تتفرقوا ، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب ، وكونوا عباد الله إخواناً.
قال سهل : الشرائع مختلفة وشريعة نوح هو الصبر على أذى المخالفين.
انتهى.
فعلى هذا فشريعة إبراهيم عليه السلام هو الانقياد والتسليم وشريعة موسى عليه السلام هو الاشتياق إلى جمال الرب الكريم وشريعة عيسى عليه السلام هو الزهد والتجرد العظيم وشريعة نبينا عليه السلام هو الفقر الحقيقي المغبوط عند كل ذي قلب سليم كما قال : "اللهم أغنني بالافتقار إليك" ، وهذه الشرائع الباطنة باقية أبداً ومن أصول الدين التوجه إلى الله تعالى بالكلية في صدق الطلب ، وتزكية النفس عن الصفات الذميمة وتصفية القلب عن تعلقات الكونين وتخلية الروح بالأحلاق الربانية ومراقبة السر لكشف الحقائق وشواهد الحق ، وكان نبينا عليه السلام قبل البعثة متعبداً في الفروع بشرع من قبله مطلقاً آدم وغيره وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره الأظهر تعبده عليه السلام قبل نبوته كان بشريعة إبراهيم عليه السلام ، حتى جاءه الوحي وجاءته الرسالة ، ولم يكن على ما كان عليه قومه باتفاق الأئمة ، وإجماع الأمة ، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه ، فيلهم معاني القرآن ، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
لوح محفوظست اورا بيشوا
ازجه محفوظست محفوظ از خطا
نى نجومست ونه رملست ونه خواب
وحى حق والله أعلم بالصواب
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} ؛ أي : عظم وشق عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} يا محمد من التوحيد ورفض عبادة الأصنام واستبعدوه حيث قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب.
وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله وحده ، ضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يظهرها على من ناوأها ؛ أي : عادها.
{اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} .
(8/227)
قال الراغب : جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية ، ومنه استعير جبيت الخراج جباية.
والاجتباء : الجمع على طريق الاصطفاء ، وهو هنا مأخوذ من الجباية ، وهي جلب الخراج وجمعه لمناسبة النهي عن التفرق في الدين ؛ ولأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء لا يتعدى بإلى إلا باعتبار تضمين معنى الضم والصرف ، والمعنى : الله يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتلبه إليه ، وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه.
{وَيَهْدِى إِلَيْهِ} بالإرشاد والتوفيق وإمداد الالطاف.
{مَن يُنِيبُ} يقبل إليه ، ويجوز أن يكون الضميرفي كلا الموضعين ، فالمعنى : الله يجمع إلى جنابه على طريق الاصطفاء من يشاء من عباده بحسب استعداده ويهدي إليه بالعناية من ينيب ، واجتباء الله تعالى العبد تخصصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من النعم ، بلا سعي من العبد ، وذلك للأنبياء عليهم السلام ، ولبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء.
قال الكاشفي : (يعني هركه از همه اعراض كند وحق راخواهد
297
حق سبحانه راء راست بد ونمايد) :
نخست از طالبى از جمله بكذر روبدو آور
كرآن حضرت ندا آردكه اى سر كشته راه اينك
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله الله يجتبي إليه الآية إلى مقامي المجذوب والسالك ، فإن المجذوب من الخواص اجتباه الله في الأزل ، وسلكه في سلك من يحبهم واصطنعه لنفسه وجذبه عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والسالك من العوام الذين سلكهم في سلك من يحبونه موفقين للهداية على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد انتهى.
والإنابة : نتيجة التوبة فإذا صحت التوبة حصلت الإنابة إلى الله تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال بعض الكبار : من جاهد في إقامة الدين في مقام الشريعة والطبيعة يهديه الله إلى إقامته في مقام الطريقة والنفس ، ومن أقامه في هذا المقام يهديه الله إلى إقامته في مقام المعرفة والروح ، ومن أقامه في هذا المقام يهديه الله إلى إقامته في مقام الحقيقة والسر ، ومن أقامه في هذا المقام ، ثم أمره وكمل شأنه في العلم والعرفان والذوق والوجدان والشهود والعيان ، وإليه يشير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69) فعليك بإتيان جميع القرب قدر الاستطاعة في كل زمان وحال ، فإن المؤمن لن تخلص له معصية أبداً من غير أن تخالطها طاعة ؛ لأنه مؤمن بها أنها معصية ، فإن أضاف إلى هذا التخليط استغفاراً وتوبة ، فطاعة على طاعة وقربة على قربة ، فيقوى جزاء الطاعة التي خالطها العمل السَّيِّىء ، وهو الإيمان بأنها معصية ، والإيمان من أقوى القرب وأعظمها عند الله ؛ فإنه الأساس الذي ابتني عليه جميع القرب.
وقال تعالى في الخبر الصحيح : "وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" ، وكان قربه تعالى من العبد ضعف قرب العبد منه ، وعلى كل حال لا يخلو المؤمن من الطاعة والقرب والعمل الصالح يمحو الخطايا ، فإن العبد إذا رجع عن السيئة وأناب إلى الله وأصلح عمله أصلح الله شأنه ، وعاد عليه نعمه الفائتة.
عن إبراهيم بن أدهم قدس سره : بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل ذبح عجلاً بين يدي أمه فيبست يده فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره ، وهو يتبصبص فأخذه ورده إلى وكره ، فرحمه الله تعالى لذلك ورد عليه يده بما صنع ، والوكر بالفتح عشر الطائر.
وبالفارسية : (آشيان).
والتبصبص : التملق وتحريك الذنب.
وفي الآية إشارة إلى أهل الوحدة والرياء والسمعة ، فكما أن المشركين بالشرك الجلي يكبر عليهم أمر التوحيد فكذا المشركون بالشرك الخفي يكبر عليهم أمر الوحدة والإخلاص ، نسأل الله سبحانه أن يجذبنا إليه بجذبة عنايته ، ويشرفنا بخاص هدايته.
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍا وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُا اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُا اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
(8/228)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَمَا تَفَرَّقُوا} ؛ أي : وما تفرق اليهود والنصارى في الدين الذي دعوا إليه ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم في حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات.
{إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} ؛ أي : إلا حال جيء العلم أو إلا وقت مجيء العلم بحقية ما شاهدوا في رسول الله ، والقرآن من دلائل الحقية حسبما وجدوه في كتابهم ، أو العلم بمبعثه.
{بَغْيَا بَيْنَهُمْ} من بغى بمعنى طلب وحقيقة البغي ، الاستطالة بغير حق كما في "المفردات" ؛ أي : لابتغاء طلب الدنيا وطلب ملكها وسياستها وجاهها وشهرتها ، وللحمية الجاهلية لا ؛ لأن لهم في ذلك شبهة.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} ، وهي العدة
298
بتأخير العقوبة.
{إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ؛ أي : وقت معين معلوم عند الله هو يوم القيامة وآخر أعمارهم المقدرة.
{لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ} لأوقع القضاء بينهم باستئصالهم لاستيجاب جنايتهم لذلك قطعاً.
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ} ؛ أي : والمشركين الذين أوتوا الكتاب ؛ أي : القرآن من بعدما أوتي أهل الكتاب كتابهم والإيراث في الأصل : ميراث دادن.
{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} ؛ أي : من القرآن ، والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان تساويهما.
و{مُرِيبٍ} موقع في القلق ؛ أي : الاضطراب ، ولذلك لا يؤمنون إلا لمحض البغي والمكابرة بعدما علموا بحقيته كدأب أهل الكتابين.
والريبة : قلق النفس واضطرابها ، ويسمى الشك بالريب ؛ لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة ، والظاهر أن شك مريب من باب جد جده ؛ أي : وصف الشك بمريب بمعنى ذي ريب مبالغة فيه.
وفي "القاموس" : أراب الأمر صار ذا ريب.
{فَلِذَالِكَ} ؛ أي : فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب ، أو فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق ، بأن يتنافس فيه المتنافسون.
{فَادْعُ} الناس كافة إلى إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه ، فإن كلاً من تفرقهم وكونهم في شك مريب ، ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه والسلام ، سبب للدعوة إليه ، والأمر بها ، وليس المشار إليه ما ذكر من التوصية والأمر بالإقامة ، والنهي عن التفرق حتى يتوهم شائبة التكرار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفيه إشارة إلى افتراق أهل الأهواء والبدع ثنتين وسبعين فرقة ودعوتهم إلى صراط مستقيم السنة لإبطال مذاهبهم.
وفي الحديث : "من انتهى" ؛ أي : منع بكلام غليظ "صاحب بدعة" سيئة مما هو عليه من سواء الاعتقاد والفحش من القول والعمل.
"ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ومن أهان صاحب بدعة آمنه الله يوم القيامة من الفزع الأكبر".
وهو حين الانصراف إلى النار كما قال ابن السماك أن الخوف المنصرف للمتفرقين قطع نياط قلوب العارفين.
وقال في "البزازية" : روي أن ابن المبارك رؤى في المنام ، فقيل له ما فعل ربك بك ، فقال : عاتبني وأوقفني ثلاثين سنة بسبب أني نظرت باللطف يوماً إلى مبتدع ، فقال : إنك لم تعاد عدوي في الدين ، فكيف حال القاعد بعد الذكر مع القوم الظالمين.
{وَاسْتَقِمْ} عليه وعلى الدعوة إليه.
{كَمَآ أُمِرْتَ} وأوحي إليك من عند الله تعالى.
والمراد : الثبات والدوام عليهما ؛ لأنه كان مستقيماً في هذا المعنى.
وفي الحديث : شيبتني هود وأخواتها" ، فقيل له : لم ذلك يا رسول الله؟ فقال : "لأن فيها فاستقم كما أمرت" ، وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله.
وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ، ولن تحصوا ؛ أي : لن تطيقوا الاستقامة التي أمرت بها فحقيقة الاستقامة لا يطيقها إلا الأنبياء ، وأكابر الأولياء ؛ لأنها الخروج من المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الحق على حقيقة الصدق.
قال الكاشفي : (درتبيان آورده كه وليد مغيره بآن حضرت كفت ازدين ودعوى كه دارى رجوع كن تا من نصفى ازا موال خود بتودهم وشيبه وعده كرده كه اكر بدين بدران باز آرى دختر خود در عقد توارم اين آيت نازل شدكه بردعوت خود مقيم ودر دين وملت خود مستقيم باش).
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} المختلفة الباطلة والضمير للمشركين ، وكانوا يهوون أن يعظم عليه السلام آلهتهم ، وغير ذلك.
وفي الخبر : "لكل شيء آفة وآفة الدين الهوى" :
299
هو اوهوس رانماند ستيز
جو بيند سر بجة عقل تيز
{وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍ} ؛ أي كتاب كان من الكتب المنزلة لا كالذين آمنوا ببعض منها ، وكفروا ببعض ، وذلك فإن كلمة ما من ألفاظ العموم.
وفيه إشارة إلى وجوب الإيمان بجميع الحقائق ، وإن اختلف مظاهرها ، فإن كلها إلهام صحيح من الله تعالى.
{وَأُمِرْتُ} بذلك {لاعْدِلَ بَيْنَكُمُ} بين شريفكم ووضيعكم في تبليغ الشرائع والأحكام ، وفصل القضايا عند المحاكمة والمخاصمة إلي ، فاللام على حقيقتها ، والمأمور به محذوف أو زائدة ، والباء محذوفة ؛ أي : أمرت بأن أعدل وأسوي بين شريفكم ووضيعكم ، فلا أخص البعض بأمر أو نهي.
(8/229)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وقوله : وقل آمنت.
إلخ.
تعليم من الله لاستكمال القوة النظرية.
وقوله : وأمرت ، إلخ.
لاستكمال القوة العملية.
روي : أن داود عليه السلام قال : "ثلاث خصال من كن فيه ، فهو الفائز القصد في الغنى ، والفقر والعدل في الرضا ، والغضب والخشية في السر والعلانية ، وثلاث من كن فيه أهلكته شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ، وأربع من أعطيهن ، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة لسان ذا ذكر وقلب شاكر وبدن صابر وزوجة مؤمنة".
وفي "التأويلات النجمية" : لأعدل بينكم ؛ أي : لأسوي بين أهل الأهواء ، وبين أهل السنة بترك البدعة ولزوم الكتاب والسنة ليندفع الافتراق ويكون الاجتماع.
{اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ؛ أي : خالقنا جميعاً ، ومتولي أمورنا لا الأصنام والهوى.
{لَنَآ أَعْمَـالُنَا} لا يتخطانا جزاؤها ثواباً كان أو عقاباً.
{وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ} لا يجاوزكم آثارها ، لا نستفيد بحسناتكم ولا نتضرر بسيئاتكم.
{لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} : الحجة في الأصل : البرهان والدليل ، ثم يقال : لا حجة بينناوبينكم ؛ أي : لا إيراد حجة بيننا ويراد به لا خصومة بيننا بناء على أن يراد الحجة من الجانبين لازم للخصومة ، فيكنى بذكر اللازم عن الملزوم ، فالمعنى لا محاجة ولا خصومة ؛ لأن الحق قد ظهر ، ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة.
وفيه إشارة إلى أنه لا خصومة بالإهداء والمعصية.
{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة.
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : مرجع الكل لفصل القضاء ، فيظهر هناك حالنا وحالكم ، وليس في الآية إلا ما يدل على المتاركة في المقاولة لا مطلقاً ، حتى لا تكون منسوخة بآية القتال.
يعني : هذه الآية إنما تدل على المتاركة القولية لحصول الاستغناء عن المحاجة القولية معهم ؛ لأنهم قد عرفوا صدقه من الحجيج ، وإنما كفروا عناداً وبعد ما ظهر الحق وصاروا محجوجين كيف يحتاج إلى المحاجة القولية ، فلا يبقى بعد هذا السيف أو الإسلام ، وقد قوتلوا بعد ذلك ، فعلى العبد ، قبول الحق بعد ظهوره والمشي خلف النصح بعد إضاءة نوره ، فإن المصير إلى الله ، والدنيا دار عبور ، وأن الحضور في الآخرة ، والدنيا دار التفرق والفتور ، فلا بد من التهيؤ للموت.
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره لرجل في الطواف : اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
أولاها : تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة.
والثانية : تغلق باب العز وتفتح باب الذل.
والثالثة : تغلق باب الراحة ، وتفتح باب الجهد.
والرابعة تغلق باب النوم وتفتح باب السهر.
والخامسة : تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر.
والسادسة : تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.
وأنشدوا : ()
300
إنعباداً فطنا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
وفي المثنوي :
ملك برهم زن تو آدم وارزود
تابيانى همجو او ملك خلود
اين جهان خود حبس جنهاى شماست
هين رويدان سوكه صحراى شماست
{فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍا وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُا اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُا اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِنا بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَه حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّا أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} .
{وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ} ؛ أي : يخاصمون في دينه نبيه ، وهو مبتدأ {مِنا بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ} ؛ أي : من بعدما استجاب له الناس ودخلوا فيه لظهور حجته ووضوح محجته ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه.
وفي إشارة إلى أنهم استجابوا له تعالى يوم الميثاق بقولهم : بلى ، حين قال لهم : ألست بربكم؟ ثم لما نزلوا من عالم الأرواح إلى عالم الأجسام نسوا الإقرار والعهد ، فأخذوا في المحاجة والإنكار بخلاف المؤمنين ، فإنهم ثبتوا على التصديق والإقرار.
قال الحافظ :
ازدم صبح ازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/230)
{حُجَّتُهُمْ} : مبتدأ ثان {دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} : خبر الثاني ، والجملة خبر الأول ؛ أي : إزالة زائلة باطلة.
يعني : (ناجيز ونابر جاى) ، بل لا حجة لهم أصلاً ، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة مجاراة معهم على زعمهم الباطل والمجاراة بالفارسية : (رفتنوبا كسى جيزى واراندن).
{وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} على كفرهم الشديد وضلالهم البعيد لا يعرف كنهه ، وهو عذاب النار.
يقول الفقير : وجه الغضب والعذاب أن الدين الحق ، وما جاء من القرآن سبب الرحمة والنعمة ، فإذا أعرضوا عنهما وجدوا عند الله الغضب والنقمة بدلهما نعوذ بالله من ذلك ، وهذا من نتائج أحوالهم وثمرات أعمالهم :
ابرا كرآب زندكى بارد
هركز ازشاخ بيد بر نخورى
بافر وماية روز كار مبر
كزنى بور يا شكر نخورى
{اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ} ؛ أي : جنس الكتاب حال كونه ملتبساً.
{بِالْحَقِّ} في أحكامه وإخباره بعيداً من الباطل ، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام.
{وَالْمِيزَانَ} ؛ أي : وأنزل الميزان ؛ أي : الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس على أن يكون لفظ الميزان مستعاراً للشرع تشبيهاً له بالميزان العرفي من حيث يوزن به الحقوق الواجبة الأداء سواء كان من حقوق الله ، أو من حقوق العباد ، أو أنزل نفس العدل والتسوية ، بأن أنزل الأمر به في الكتب الإلهية ، فيكون تسمية العدل بالميزان تسمية المسمى باسم آلته ، فإن الميزان آلة العدل ، أو أنزل آلة الوزن.
والوزن : معرفة قدر الشيء.
يعني : (منزل كردانيد ترازورا كه موزونات رابان سنجد تادر بارئه خزنده وفروشنده ستم نرود).
فيكون المراد بالميزان معناه الأصلي وإنزاله إما حقيقة لما روي أن جبرائيل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام ، فقال له : مر قومك يزنوا به.
وقيل : نزل آدم عليه السلام بجميع آلات الصنائع ، وإما مجازاً عن إنزال الأمر به
301
واستعماله في الإيفاء والاستيفاء.
(ودر عين المعاني أورده كه مراد از ميزان حضرت بهتر كائنات محمد است صلى الله تعالى عليه وسلم قانون عدل بدل وتمهيد مى بايد ونزال وإرسال اوست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى كتاب الإيمان الذي كتب الله في القلوب وميزان العقل يوزن به أحكام الشرع.
والخير والشر والحسن والقبح ، فإنهما قرينان متلازمان لا بد لأحدهما من الآخر وسماها البصيرة ، فقال : قد جاءكم بصائر من ربكم ، فمن أبصر ، فلنفسه ، ومن عمي فعليها ، ففي انتفاء أحدهما انتفاء الآخر ، كما قال تعالى : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (البقرة : 171) ، فنفي العقل والبصيرة بانتفاء الإيمان.
{وَمَا يُدْرِيكَ} : الإدراء بمعنى الإعلام ؛ أي : أي شيء يجعلك دارياً ؛ أي : عالماً بحال الساعة التي هي من العظم والشدة والخفاء بحيث لا يبلغه دراية أحد ، وإنما يدرى ذلك بوحي منا.
وبالفارسية : (وجه جيز دانا كرد براوجه دانى).
قال الراغب : كل موضع ذكر في القرآن ، وما أدراك فقد عقب ببيانه نحو : وما أدرك ماهيه نار حاميه وكل موضع ذكر فيه ، وما يدريك لم يعقبه بذلك نحو : وما يدريك لعل الساعة قريب.
{لَعَلَّ السَّاعَةَ} التي يخبر بمجيئها الكتاب الناطق بالحق.
{قَرِيبٌ} ؛ أي : شيء قريب ، أو قريب مجيئها وإلا فالفعيل بمعنى الفاعل لا يستوي فيه المذكر والمؤنث عند سيبويه ، فكان الظاهر أن يقال : قريبة لكونه مسند إلى ضمير الساعة إلا أنه قد ذكر لكونه صفة جارية على غير من هي له.
وقيل : القريب بمعنى ذات قرب على معنى النسب ، وإن كان على صورة اسم الفاعل كلابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر ؛ أي : لبنى وتمرى لا على معنى الحدث كالفعل ، فلما لم يكن في معنى الفعل حقيقة لم يلحقه تاء التأنيث ، أو الساعة بمعنى البعث تسمية باسم ما حل فيه.
وقال الزمخشري : لعل مجيء الساعة قريب بتقدير المضاف.
والمعنى : أن القيامة على جناح الإتيان ، فاتبع الكتاب يا محمد واعمل به ، وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي يوزن فيه الأعمال ، ويوفى جزاؤها : (امام زاهدى فرموده كه لعل براى تحقيق است يعني البتة ساعتى كه بدان قيامت قائم شود نزديكست).
وفيه زجرهم عن طول الأمل وتنبيههم على انتظار الأجل ، وهجومه نبهنا الله تعالى إياكم أجمعين آمين.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا} : (شتاب ميكنند بساعت يعنى بامداو).
{الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} استعجال إنكار واستهزاء ، ولا يشفقون منها ، ويقولون متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا الحق أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه ، فإنهم لما لم يؤمنوا بها لم يخافوا مافيها ، فهم يطلبون وقوعها استبعاداً لقيامها ، والعجلة طلب الشيء وتحريه قبل آوانه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/231)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بها {مُشْفِقُونَ مِنْهَا} خائفون منها مع اعتنائها لتوقع الثواب ، فإن المؤمنين يكونون أبداً بين الخوف والرجاء ، فلا يستعجلون بها.
يعني : (ترساننداز قيامت جه ميدا نندكه خداى تعالى با يشان جه كند ومحاسبه ومجازات برجه وجه بود).
فالآية من الاحتباك ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والانشقاق ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ؛ أي : الكائن لا محالة.
وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لا يتمنون الموت خوف الابتلاء بما بعده ، فيستعدون له وإذا ورد لم يكرهوه وذلك أن الموت لا يتمناه إلا جاهل أو مشتاق.
{أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ} يجادلون فيها وينكرون مجيئها عناداً
302
من المرية ، فمعناه في الأصل تداخلهم المرية والشك ، فيؤدي ذلك إلى المجادلة ، ففسر المماراة بلازمها.
قال الراغب : المرية التردد في الأمر ، وهو أخص من الشك والمماراة المحاجة فيما فيه مرية.
انتهى.
ويجوز أن يكون من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة الحلب ، فيكون تفسيره بيجادلون حملاً له على الاستعارة التبعية بأن شبه المجادلة بمماراة الحالب للضرع لاستخراج ما فيه من اللبن من حيث أن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة.
{لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} عن الحق ، فإن البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات ؛ لأنه كإحياء الأرض بعد موتها ، فمن لم يهتد إلى تجويزه ، فهو من الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد.
وصف الضلال بالبعد من المجاز العقلي ؛ لأن العبد في الحقيقة للضال ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فوصف به فعله ، ويحتمل أن يكون المعنى في ضلال ذي بعد أو فيه بعد ؛ لأن الضال قد يضل عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
وفي "التأويلات النجمية" : لفي ضلال بعيد ؛ لأنه أزلي.
وفي الآية أمور :
الأول : ذم الاستعجال ، ولذا قيل : العجلة من الشيطان إلا في ستة مواضع أداء الصلاة إذا دخل الوقت ودفن الميت إذا حضر وتزويج البكر إذا أردكت ، وقضاء الدين إذا وجب وإطعام الضيف إذا نزل وتعجيل التوبة إذا أذنب.
والثاني : الإيمان والتصديق ؛ فإنه الأصل ، وذلك بجميع ما يكون به المرء مؤمناً خصوصاً الساعة ، وكذا الاستعداد لها بالأعمال الصالحات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
روي : أن رجلاً من الأعراب قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : متى الساعة؟ فقال عليه السلام : "وما أعددت لها" ، قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال : "أنت مع من أحببت" ، ولا شك أن من أحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحب الاقتداء به في جميع الأحوال ، فإذا كان محباً لرسول الله والاقتداء به.
كان رسول الله محباً له ، كما قال عليه السلام متى ألقى أحبائي فقال أصحابه : بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله أولسنا أحباءك فقال : "أنتم أصحابي أحبائي قوم لم يروني وآمنوا بي أنا إليهم بالأشواق وخصهم بالأخوة في الحديث الآخر ، فقال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول الله.
قال : لا أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي آمنوا بي ولم يروني.
وقال : للعامل منهم أجر خمسين منكم ، قالوا : بل منهم يا رسول الله.
قال : بل منكم رردها ثلاثاً ، ثم قال : لأنكم تجدون على الخير أعوانا الثالث مدح العلم ، لكن إذا قرن بالخوف والخشية والعمل كان أمدح ، فإن العلم ليس جالباً للسؤدد إلا من حيث طرده الجعل ، فلا تعجب بعلمك ، فإن فرعون علم بنبوة موسى وإبليس علم حال آدم ، واليهود علموا بنبوة محمد وحرموا التوفيق للإيمان.
والرابع : ذم الشك والتردد ، فلا بد من اليقين الصريح ، بل من العيان بالصحيح كما قال عليّ كرم الله وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مي بايد
كر حجاب ازميانه بر كيرند
آن يقين ذرة نيفزايد
والخامس : أن السعادة والشقاوة أزليتان ، وإنما يشقى السعيد لكون سعادته عارضة ، وإنما يسعد الشقي لكون شقاوته عارضة ، فكل يرجع إلى أصله فنسأل الله الهدي ونعوذ به من الهوى.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّا أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ * اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِه يَرْزُقُ مَن يَشَآءُا وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَـاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّه وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/232)
{اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِهِ} ؛ أي : بر بليغ البر بهم ، يفيض عليهم من فنون ألطافه ما لا يكاد يناله أيدي الأفكار والظنون قوله : من فنون ألطافه يؤخذ ذلك من صيغة لطيف ، فإنها للمبالغة ، وتنكيره أيضاً.
303
وقوله : ما لا يكاد.
إلخ.
مأخذه مادة الكلمة ، فإن اللطف إيصال نفع فيه دقة.
{يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أن يرزقه كيفما يشاء فيخص كلاً من عباده الذين عمهم جنس لطفه بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، فلا مخالفة بين عموم الجنس ، وحصوص النوع ، يعني أن المخصوص بمن يشاء هو نوع البر وصنفه ، وذلك لا ينافي عموم جنس بره بجميع عباده على ما أقادته إضافة العباد إلى ضميره تعالى حتى يلزم التناقض بين الكلامين ، فالله تعالى يبرهم جميعاً لا بمعنى : أن جميع أنواع البر وأصنافه يصل إلى كل أحد ، فإنه مخالف للحكمة الإلهية إذ لا يبقى الفرق حينئذٍ بين الأعلى والأدنى ، بل يصل بره إليهم على سبيل التوزيع ، بأن يخص أحد بنعمة ، وآخر بأخرى ، فيرجع بذلك كل واحد منهم إلى الآخر فيما عنده من النعمة ، فينتظم به أحوالهم ، ويتم أسباب معاشهم وصلاح دنياهم وعمارتها ، فيؤدي ذلك إلى فراغهم لاكتساب سعادة الآخرة.
وقال بعضهم : يرزق من يشاء بغير حساب إذ الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضاً.
{وَهُوَ الْقَوِىُّ} الباهر القدرة على كل شيء ، وهو يناسب عموم لطفه للعباد والقوة في الأصل صلابة البنية وشدتها المضادة للضعف ، ولما كانت محالاً في حق الله تعالى حملت على القدرة لكونها مسببة عن القوة.
{الْعَزِيزُ} المنيع الذي لا يغلب ، وهو يلائم تخصيص من يشاء بما يشاء.
قال بعض الكبار : لطفه بعباده لطف الفطرة التي فطر الناس عليها في أحسن تقويم مستعدة لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولطف الجذبة للوصلة ، وأيضاً لطيف بعباده بأن جعلهم عباده لا عباد الدنيا ، ولا عباد النفس والهوى والشيطان خاطب العابدين بقوله : لطيف بعباده ؛ أي : يعلم غوامض أحوالكم من دقيق الرياء والتصنع لئلا يعجبوا بأحوالهم وأعمالهم وخاطب العصاة بقوله : لطيف لئلا ييأسوا من إحسانه ، وخاطب الفقراء بقوله : لطيف ؛ أي : أنه محسن بكم لا يقتلكم جوعاً ، فإنه محسن بالكافرين ، فكيف بالمؤمنين :
أديم زمين سفره عام اوست
بر ين خوان يغماجه دشمن جه دوست
وخاطب الأغنياء بقوله : لطيف ليعلموا أنه يعلم دقائق معاملاتهم في جميع المال من غير وجه بنوع تأويل ، ومن لطفه بعباده أنه جعلهم مظهر صفات لطفه ، ومن لطفه بعباده أنه عرفهم أنه لطيف ، ولولا لطفه ما عرفوه ، ومن لطفه بعباده أنه زين أسرارهم بأنوار العرفان وكاشفهم بالعين والعيان.
(در فصول آورده كه لطيف جند معنى دارداول مهربان امام فشيري فرموده كه لطف اوست كه بيشتر از كفايت بدهد وكمتر از قوت كار فرمايد دوم توازنده وكذا نوازندكى سوم بوشيده كار كسى بر قضا وقدر اوراة نبرد ودركاه اوجه وجون دخل ندارد) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
كسى زجون وجرادم نمى تواندزد
كه نقش كار حوادث وراى جون وجراست
جرامكوكه جرادست بسته قدرست
زجون ملاف كه جون تير بايمال قضاست
(در موضح أورده كه لطيف آنست كه غوامض امور را بعلم داند وجرائم مجهور را بحلم كذا راند در كشف الأسرار أورده كه لطيف آنست كه نعمت بقدر خود داد وشكر بقدر بنده خواست).
وقال بعضهم : اللطيف الذي ينسى العباد ذنوبهم في الآخرة لئلا يتشوشوا.
وقال أبو سعيد الخراز قدس سره : لطيف بعباده موجود في الظاهر والباطن والأشياء كلها موجودة به.
304
لكن يوجد ذكره في قلب العبد مرة ويفقد مرة ليجدد بذلك افتقاره إليه.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : لطفه في الرزق الحلال وتقسيمه على الأحوال ، يعني : أنه رزقك من الطيبات ، ولم يدفعه إليك مرة واحدة.
وقال علي بن موسى رضي الله عنه : هو تضعيف الأجر ، وقال الجنيد قدس سره : هو الذي لطف بأوليائه ، فعرفوه ، ولو لطف بأعدائه ما جحدوه.
وقيل : هو الذي ينشر المناقب وبستر المثالب.
وقال بعضهم : (لطف وى بوداز توطاعات موقت خواست ومثوبات مؤبد داد خدايرا لطف است وهم قهر بلطف او كعبه ومسجدها رابنا كردند وبقهرا وكلبيساها وبتكدها برآوردند بس بعضى بطريق لطف سلوك ميكند بسبب توفيق وبعضى بطريق قهر ميرود بمقتضاى خذلان مؤذنى بود جندين سال بانك نماز كفته روزى برمنارة رفت ديده وى برزنى ترسا افتاد تعشق كرد جون ازمناره فرو آمد بدرسرايش رفت قصة باوى بكفت آن زن كفت اكر دعوى راستست ودر عشق صادقى موافقت شرطست زنار بر ميان بايدبست آن بدبخت بطمع آن زن زنار ترسايى بربست وخمر خورد وجون مست كشف قصد آن زن كرد زن بكر يخت ودرخانة شدآن بدبخت بربام رفت تا بحيلتى خويشتزا در ان خانه افكد بخذلان أزلي ازبام درفتاد وبترسايى هلاك شد جندين سال مؤذنى كرد وشرائع اسلام ورزيد وبعاقبت بترسايى هلاك وبمقصود نرسد).
قال الحافظ :
حكم مستورى ومستى همه برخاتمتست
كس نداست كه آخربجه حالت برود
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/233)
وقال الإمام الغزالي رحمه الله : اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ، وما دق منها وما لطف ، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف ، وإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في العلم والإدراك ، ثم معنى اللطف ، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا الله وحده ، ومن لطفه خلقه الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فيستقل بالتناول للغذاء بالفم ، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ، ولو في ظلمات الليل من غير تعليم ومشاهدة ، بل تتفتق البيضة عن الفرخ ، وقد ألهمه التقاط الحب في الحال ، ثم تأخير خلق السن من أول الخلقة إلى وقت إنباته للاستغناء باللبن عن السن ، ثم إنباته السن بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام ، ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن ، وإلى أنياب للكسر ، وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع ، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق ورد الطعام إلى المطحن كالمجرفة ، فيكون الإنسان في زمرة الجمادات ، وأول نعمه عليه أن الله تعالى كرمه فنقله من عالم الجماد إلى عالم النبات ، ثم عظم شأنه فنقله من عالم النبات إلى عالم الحيوان ، فجعله حساساً متحركاً بالإرادة ، ثم نقله إلى عالم الإنسان ، فجعله ناطقاً ، وهي نعمة أخرى أعظم مما سبق ، ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد ، بسعي خفيف في مدة قصيرة ، وهو العمر القليل ، ومن لطفه إخراج اللبن الصافي من بين فرث ودم ، وإخراج الجواهر النفيسة من الأحجار الصلبة ، وإخراج العسل من النحل والابريسم من الدود والدر من الصدف إلى غير ذلك وحظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله والتلطف بهم في الدعوة إلى الله والهداية إلى سعادة الآخرة من غير إزراء ، وعنف ومن غير
305
تعصب وخصام.
وأحسن وجوه اللطف فيه : الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسير المرضية والأعمال الصالحة ، فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة ، ولذلك قال عليه السلام : "صلوا كما رأيتموني أصلي" ، ولم يقل : "صلوا كما قلت لكم" ؛ لأن الفعل أرجح في نفس المقتدي من القول.
وفي المثنوي :
بند فعلى خلق را جذاب تر
كه رسدد رجان هربا كوش كر
ثم إن الأرزاق صورية ومعنوية فالصورية ظاهرة ، والمعنوية هي : علم التوحيد والمعارف الإلهية التي تتغذى بها الأرواح يقال : غذاء الطبيعة الأكل والشرب ، وغذاء النفس التكلم بما لا يعني ، وغذاء القلب : الفكر وغذاء الروح : علم التوحيد من حيث الأفعال والصفات والذات ، وسائر المعارف الإلهية مما لا نهاية لها والمنظر الإلهي في الوجود الإنساني هو : القلب ، فإذا صلح هو بالتوحيد ، والذكر ونور الإيمان والعرفان صلح سائر الأحوال ، ومن الله البر واللطف والإحسان والنوال والإفضال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{مِّنَ} : (هركه).
{كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ} : الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه ، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور من حيث أنها فائدة تحصل بعمل الدنيا.
ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة ، والمعنى : من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة.
{نَزِدْ لَه فِى حَرْثِهِ} : نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها.
قال الكاشفي : (جنانكه كشت دانه مى افزايد تايكى ازان بسيار ميشود همجنين عمل مؤمن روز بروز افزونى ميكيرد تاحدى يك ذره برابر كوه احد ميشود) ، ولم يقل في حقه ، وله في الدنيا نصيب مع أن الرزق المقسوم له يصل إليه لا محالة للاستهانة بذلك والإشعار بأنه في جنب ثواب الآخرة ليس بشيء ، ولذلك قال سليمان عليه السلام : لتسبيحة خير من ملك سليمان (كفته اندكه بر سليمان عليه السلام مال وملك وعلم عرضه كردندكه زين سه يكى اختيار كن سليمان علم اختيار كرد مال وملك فرا فرونداد) :
دنيا طلى بهرة دنيات دهند
عقبى طلبى هر دوبيك جات دهند
فإن قيل ظاهر اللفظ يدل على أن من صلى لأجل طلب الثواب ، أو لأجل دفع العقاب ، فإنه تصح صلاته وأجمعوا على أنها لا تصح ؛ لأن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة.
وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب ، فغير مفيد ؛ لأنه يكون عليلاً مريضاً.
والجواب : أن الحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى ، فلا يكون العمل أخروياً إلا بأن يطلب فيه رضا الله.
{وَمَن كَانَ يُرِيدُ} بأعماله {حَرْثَ الدُّنْيَا} ، وهو متاعها وطيباتها.
(8/234)
والمراد : الكافر أو المنافق حيث كانوا مع المؤمنين في المغازي وغرضهم الغنيمة ، ودخل فيه أصحاب الأغراض الفاسدة جميعاً.
{نُؤْتِه مِنْهَا} ؛ أي : شيئاً منها حسبما قسمنا له لا ما لا يريده ويبتغيه ، فمنها متعلق بكائناً المحذوف الواقع صفة للمفعول الثاني.
ويجوز أن يكون كلمة من للتبعيض ؛ أي : بعضها ومآل المعنى واحد دلت الآية على أن طالب الدنيا لا ينال مراده
306
من الدنيا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "من كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا ، وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له".
{وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} : من مزيدة للاستغراق ؛ أي : ما له نصيب ما في الآخرة إذ كانت همته مقصورة على الدنيا ، ولكل امرىء ما نوى ، فيكون محروماً من ثواب الآخرة بالكلية.
وقال الإمام الراغب : إن الإنسان في دنياه حارث وعمله حرثه ، ودنياه محرثه ، ووقت الموت وقت حصاده والآخرة بيدره ولا يحصد إلا ما زرعه ، ولا يكيل إلا ما حصده.
حكي : أن رجلاً ببلخ أمر عبده أن يزرع حنطة فزرع شعيراً فرآه وقت الحصاد وسأله ، فقال العبد : زرعت شعيراً على ظن أن ينبت حنطة ، فقال مولاه : يا أحمق ، هل رأيت أحداً زرع شعيراً ، فحصد حنطة؟ فقال العبد : فكيف تعصي أنت وترجو رحمته وتغتر بالأماني ، ولا تعمل العمل الصالح؟ :
ازرباط تن جوبكذشتى دكر معموره نيست
زاد راهى بر نميدارى ازين منزل جرا
وكما أن في البيدر مكيالاً وموازين وأمناء وحفاظاً وشهوداً كذلك في الآخرة مثل ذلك ، وكما أن للبيدر تذرية وتمييزاً بين النقاوة والحطام كذلك في الآخرة تمييز بين الحسنى والآثام فمن عمل لآخرته بورك له في كيله ووزنه ، وجعل له منه زاد الأبد ، ومن عمل لدنياه خاب سعيه وبطل عمله ، فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف بل كالدفلى والحنظل في الربيع يرى غض الأوراق حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلاً ، وإذا حضر مجتناه في البيدر لم يفد نائلاً ، ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء ، فإذا حان وقت القطاف والاجتناء أفادتك زاداً ، وادخرت عدة وعتاداً ، ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر خبيثة الباطن نهى الله تعالى عن الاغترار بها ، فقال : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيه وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه : 131) ، فالقذر قذر وإن كان في ظرف من الذهب ، فالعاقل لا يتناوله.
وفي "التأويلات النجمية" : من كان يريد حرث الآخرة بجهده وسعيه نزد له في حرثه بهدايتنا وتوفيق مزيد طاعتنا وصفاء الأحوال في المعارف بعنايتنا اليوم ونزيده في الآخرة قربة ومكانة ورفعة في الدرجات وشفاعة الأصدقاء والقرابات ، ومن كان يريد حرث الدنيا مكتفياً به نؤته منها ؛ أي : من آفات حب الدنيا من عمى القلب وبكمه وصممه وسفهه والحجب التي تتولد منها الأخلاق الذميمة النفسانية ، والأوصاف الرديئة الشيطانية والصفات السبعية والبهيمية الحيوانية وماله في الآخرة من نصيب ؛ أي : في الأوصاف الروحانية والأخلاق الربانية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "عرائس البيان" حرث الآخرة مشاهدته ووصاله وقربه وهذا للعارفين وحرث الدنيا الكرامات الظاهرة ، ومن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق ، وما يريد من حرث الدنيا ، فهو معرفة الله ومحبته وخدمته ، وإلا فلا يزن الكون عند أهل المعرفة ذرة.
قال بعضهم : في هذه الآية من عملمحبة له لا طلباً للجزاء صغر عنده كل شيء دون الله ، ولا يطلب حرث الدنيا ولا حرث الآخرة بل يطلب الله عن الدنيا والآخرة.
وقال سهل : حرث الدنيا القناعة وحرث الآخرة الرضا.
وقال أيضاً : حرث الآخرة القناعة في الدنيا والمغفرة في الآخرة والرضا من الله في كل الأحوال.
وحرث الدنيا قضاء الوطر منها ، والجمع منها والافتخار بها ، ومن كان بهذه الصفة ، فما له في الآخرة من نصيب.
قال
307
الشيخ العطار قدس سره :
همجو طفلان منكراندر سرخ وزرد
جون زنان مغرور رنك وبو مكرد
فالدنيا امرأة عجوز ومن افتخر بزينتها وزخارفها ، فهو في حكم المرأة ، فعلى العاقل تحصيل الجاه الأخروي بالأعمال الصالحة الباقية ، فإن الدنيا وما فيها زائلة فانية كما قال لبيد : ()
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
والمراد : نعيم الدنيا.
(8/235)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَـاؤُا} : أم منقطعة مقدرة ببل ، والهمزة قيل : للاضطراب عن قوله : شرع لكم من الدين والهمزة للتقرير والتحقيق وشركاؤهم شياطينهم من الإنس والجن ، والضمير للمشركين من قريش ، والإضافة على حقيقتها.
والمعنى : بل لهم شركاء من الشياطين ؛ أي : نظراء يشاركونهم في الكفر والعصيان ويعاونونهم عليه بالتزيين والإغراء.
{شَرَعُوا لَهُم} بالتسويل.
وبالفارسية : (نهاده اندبر اى ايشان يعنى بيار استه اند دردل ايشان).
{مِّنَ الدِّينِ} الفاسد.
{مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّهُ} كالشرك وإنكار البعث ، والعمل للدنيا وسائر مخالفات الشريعة ، وموافقات الطبيعة ؛ لأنهم لا يعلمون غيرها ، وتعالى الله عن الإذن في مثل هذا ، والأمر به والدين للمشاكلة ؛ لأنه ذكر في مقابلة دين الله ، أو للتهكم.
وقيل : شركاؤهم أوثانهم ، فالهمزة للإنكار ، فإن الجماد الذي لا يعقل شيئاً كيف يصح أن يشرع ديناً ، والحال أن الله تعالى لم يشرع لهم ذلك الدين الباطل ، وإضافتها إليهم ؛ لأنهم الذين جعلوها شركاء ، وإسناد الشرع إليها مع كونها بمعزل عن الفاعلية إسناد مجازي من قبيل إسناد الفعل إلى السبب لأنها سبب ضلالتهم وافتنانهم كقوله تعالى : {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} ().
{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} ؛ أي : القضاء السابق بتأخير العذاب ، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة ، والفصل القضاء بين الحق والباطل ، كما في "القاموس" ، ويوم الفصل اليوم الذي فيه يبين الحق من الباطل ، ويفصل بين الناس بالحكم كما في "المفردات".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : (حكم كرده شده بودى ميان كافران ومؤمنان ياميان مشركان وشركاء وهريك جزا بسزا يافته بودندى اما وعده فصل ميان ايشان درقيا متست).
{وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة ؛ أي : نوع من العذاب متفاقم ألمه.
وبالفارسية : (عذابى درونان دائم وبى انقطاع بود).
وأقام المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم ودلالة على أن العذاب الأليم الذي لا يكتنه كنهه ، إنما يلحقهم بسبب ظلمهم ، وانهماكهم فيه.
وفي الآية إشارات منها :
أن كفار النفوس شرعوا عند استيلائهم على الدين بالهوى للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة كأهل الحرب شرعوا لأسارى المسلمين عند استيلائهم عليهم ما ليس في دينهم من أكل لحم الخنزير وشرب الخمر وعقد الزنار ونحوها ، فلا بد من التوجه إلى الله ليندفع الشر وينعكس الأمر.
روي : أن سالم بن عوف رضي الله عنه أسره العدو ، فشكاه أبوه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال عليه السلام : اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل فجاء ابنه ومعه مائة من الإبل.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتى خوش داد
كه كس هميشه بكيتى دزم نخواهد ماند
308
ومنها : أن الله تعالى لم يقض بين الخلق بالتكاليف والمجاهدات قبل البلوغ لضعف البشرية وثقل حمل الشريعة وأخر بحكمته تكاليف الشرع تربية للقالب ليحصل القوة لقمع الطبع.
قال الصائب :
تاجه آيدروشن است ازدست اين يك قطعه خاك
جرخ نتوانست كردن زه كمان عشق را
ومنها : أن من ظلم نفسه بمتابعة الهوى ، فله عذاب أليم بعد البلوغ من الفطام عن المألوفات الطبيعية بالأحكام الشرعية ، وهذا العذاب للنفس والطبيعة رحمة عظيمة للقلب والروح.
ولذا من قال : هذه الطاعات جعلها الله عذاباً علينا من غير تأويل كفر ؛ فإن أول مراده بالتعب لا يكفر ، ولو قال : لو لم يفرض الله لكان خيراً لنا بلا تأويل كفر ؛ لأن الخير فيما اختاره الله إلا أن يؤول ويريد بالخير الأهون والأسهل.
وفي القصيدة البردية : ()
وراعها وهي في الأعمال سائمة
وإن هي استحلت المرعي فلا تسم
أي : راع النفس في اشتغالها بالأعمال عما هو مفسد ومنقص للكمال من الرياء والعجب والغفلة والضلال ، وإن عدت النفس بعض التطوعات حلواً واعتادت به ، وألفت ، فاجتهد في أن تقطع نفسك عنها ، واشتغل بما هو أشق عليها ؛ لأن اعتبار العبادة ، إنما هو بامتيازها عن العادة ، وإنما ترتفع الكلفة مطلقاً عن العارفين : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
من حيث لم يدر أن السم في الدسم
يعني : كثيراً من المرات زينت النفس لذة للمرء من اللذات قاتلة للمرء كالدسم والمرء لا يدري أن السم في الدسم ، لا سيما إذا كان المرء من أهل المحبة والوداد ، فهلاكه في لذة الطعم ، وطيب الرقاد ، ومن الله التوفيق لإصلاح النفس وتزكيتها.
(8/236)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَـاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّه وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّـالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعُا بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِا لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَالِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ} .
{تَرَى الظَّـالِمِينَ} ؛ أي : المشركين يوم القيامة يأمن بصلح للرؤية.
{مُشْفِقِينَ} خائفين{مِمَّا كَسَبُوا} ؛ أي : إشفاقاً ناشئاً من السيئات التي عملوها في الدنيا ، ومن أجلها ، فكلمة من للتعليل وليست صلة مشفقين حتى يحتاج إلى تقدير المضاف هنا مع أنه أيضاً معنى صحيح ؛ لأن الأول أبلغ وأدخل في الوعيد.
{وَهُوَ وَاقِعُا بِهِمْ} ؛ أي : وباله وجزاؤه لاحق بهم لا محالة أشفقوا ، أو لم يشفقوا.
والجملة حال من ضمير مشفقين ، أو اعتراض.
قال سعدي المفتي ، يعني : ينعكس الحال في الآخرة فالآمنون في الدنيا يشفقون في الآخرة ، والمشفقون في الدنيا يأمنون في الآخرة.
وفي المثنوي :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخوراز براى خائف آن
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
هردل ترسنده راسا كن كنند
آنكه خوفش نيست جون كويى مبرس
درس جه دهى نيست او محتاج درس
وفيه إشارة إلى أن عذاب أهل الهوى والشهوات واقع بهم ، إما في الدنيا بكثرة الرياضات ، وأنواع المجاهدات لتزكية النفس من أوصافها وتحليتها بأضدادها.
وإما في الآخرة بورودها النار لتنقيتها ، وعذاب الدنيا أهون فلا بد من الاجتهاد قبل فوات الوقت.
{تَرَى الظَّـالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا} ؛ أي : استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وتحلية الروح.
{فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} : مستقرون في أطيب بقاعها
309
وأنزهها ، فإن روضة الأرض تكون كذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وبالفارسية : (اندر مر غزار هاى بهشت اند يعنى خوشترين بقعها ونزهت فزاى ترين آن).
قال في "حواشي الكشاف" : الروضة : اسم لكل موضع فيه ماء وعشب.
وفي "كشف الأسرار" : هي الأماكن المتسعة المونقة ذات الرياحين والزهر.
انتهى.
وفي الحديث : "ثلاث يجلون البصر : النظر إلى الخضرة ، وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن".
قال ابن عباس رضي الله عنهما : والإثمد عند النوم.
وقال الراغب : قوله في روضات الجنات إشارة إلى ما أعد لهم في العقبى من حيث الظاهر.
وقيل : إشارة إلى ما أهلهم له من العلوم والأخلاق التي من تخصص بها طاب قلبه.
{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ؛ أي : ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم على أن عند ربهم ظرف للاستقرار العامل في لهم.
وقيل : ظرف ليشاؤون على أن يكون عبارة عن كونهم عند الله والآية من الاحتباك أنبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً ، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً.
{ذَالِكَ} المذكور من أجر المؤمنين.
{هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الذي يصغر دونه ما لغيرهم من الدنيا ، أو تحقر عنده الدنيا بحذافيرها من أولها إلى آخرها.
وهذا في حق الأمة.
وأما النبي عليه السلام ، فمخصوص بالفضل العظيم ، كما قال تعالى ، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ().
{ذَالِكَ} ؛ أي : الفضل الكبير ، وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِى} ؛ أي : الثواب الذي {يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} ؛ أي : يبشرهم به على لسان النبي عليه السلام ، فحذف الجار ، ثم العائد إلى الموصول ؛ لأنهم لا يجوزون حذف المفعول الجار والمجرور إلا على التدريج بخلاف مثل السمن منوان بدرهم ؛ أي : منه.
قال الكاشفي : (وتقديم خبرباين كرامتها جهت ازدياد سرور مؤمنانست وآنكه دانندكه عمل ايشان ضائع نيست بس در مراسم عبوديت اجتهاد نمايند وبر وظائف عبادت بيفزايند) :
كار نيكوكن اكر مردنكو ميطلبى
كز جراهر كه نكوتر بنكو كار دهند
كارا كرنيست ترادر طمع اجر مباش
مزد مزدور باندازه كردار دهند
يقول الفقير : وجه تخصيص الروضة وتعميم المشيئة أن أكثر بلاد العرب خالية عن الأنهار الجارية والروضات ، وأنهم لا يجدون كل المشتهيات فيشوقهم بذلك ، ليكونوا على أهبة وتدارك ولا يقيسوا الآخرة على الدنيا ، فإن الدنيا محل البلاء والآفات ، والآخرة دار النعيم والضيافات وتدارك كل ما فات ، فمن أحب مولاه اجتهد في طريق رضاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/237)
قال شقيق البلخي قدس سره : رأيت في طريق مكة مقعداً يزحف على الأرض ، فقلت له : من أين أقبلت؟ قال : من سمرقند ، قلت : كم لك في الطريق ، فذكر أعواماً تزيد على العشرة ، فرفعت طرفي أنظر إليه متعجباً ، فقال لي : يا شقيق ما لك تنظر إلي ، فقلت : متعجباً من ضعف مهجتك وبعد سفرتك ، فقال لي : يا شقيق ، أما بعد سفرتي ، فالشوق يقربها ، وأما ضعف مهجتي ، فمولاها يحملها يا شقيق أتعجب من عبد ضعيف ، يحمله المولى اللطيف ، فمن وصل إليه بشارة الله بفضله وجوده هان عليه بذل وجوده.
{قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} .
روي : أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم : أترون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ يعني : هيج دريافته آيدكه محمد علمى كه مباشر أنست از ابلاغ مزدى ميخوا هديانى ، فنزلت.
والمعنى : لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التبليغ ،
310
والبشارة ، كما لم يطلب الأنبياء من قبلي.
{أَجْرًا} ؛ أي : نفعاً.
قال سعدي المفتي : فسر الأجر بالنفع ليظهر جعل استثناء المودة منه متصلاً مع ادعاء كونها من أفراد الأجر يكفي في ذلك ، كما في قوله : ()
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
وفي "التأويلات النجمية" : قل يا محمد لا أسألكم على التبشير أجراً ؛ لأن الله ليس يطلب منكم على الفضل عوضاً ، فأنا أيضاً لا أسألكم على التبشير أجراً ، فإن المؤمن أخذ من الله خلقاً حسناً ، فكما أن الله تعالى بفضله يوفق العبد للإيمان ويعطي الثواب لمن آمن به ، وليس يرضى بأن يعطيك فضله مجاناً ، بل يعطيك عليه أجراً كذلك ليس يرضي لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، بأن يطلب منك أجراً على التبليغ والتبشير ، بل يشفع لك أيضاً.
{إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} المودة ، مودة الرسول عليه السلام ، والقربى مصدر كالزلفى ، بمعنى القرابة التي هي بمعنى الرحم.
وفي للسببية وبمعنى اللام متعلقة بالمودة ، ومودته كناية عن ترك أذيته والجري على موجب قرابته سمى عليه السلام المودة أجراً ، واستثناها منه تشبيهاً لها به ، والاستثناء من قبيل قول من قال : ()
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وذلك لأنه لا يجوز من النبي عليه السلام أن يطلب الأجر أياً كان على تبليغ الرسالة ؛ لأن الأنبياء لم يطلبوه ، وهو أولى بذلك ؛ لأنه أفضل ؛ ولأنه صرح بنفيه في قوله : {قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (ص : 86) ؛ ولأن التبليغ واجب عليه لقوله تعالى : {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} (المائدة : 67) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق ؛ ولأن متاع الدنيا أخس الأشياء ، فكيف يطلب في مقابلة تبليغ الوحي الإلهي الذي هو أعز الأشياء ؛ لأن العلم جوهر ثمين ، والدنيا خزف مهين ؛ ولأن طلب الأجر يوهم التهمة ، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة ، فمعنى الآية : لا أسألكم على التبليغ أجراً أصلاً إلا أن تودوني لأجل قرابتي منكم ، وبسببها وتكفوا عني الأذى ، ولا تعادوني إن كان ذلك أجراً يختص بي لكنه ليس بأجر ؛ لأنه لم يكن بطن من بطونكم يا قريش إلا وبيني وبينها قرابة ، فإذا كانت قرابتي قرابتكم فصلتي ، ودفع الأذى عني لازم لكم في الشرع والعادة والمروءة سواء كان مني التبليغ أو لا.
وقد كنتم تتفاخرون بصلة الرحم ، ودفع الأذى عن الأقارب ، فما لكم تؤذونني.
والحال ما ذكر ، ويجوز أن يراد بالقربى أهل قرابته عليه السلام على إضمار المضاف وبالمودة مودة أقربائه ، وترك أذيته ، فكلمة على هذا للظرفية ، والظرف حال من المودة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : إلا أن تودوا أهل قرابتي مودة ثابتة متمكنة فيهم.
روي : أنها لما نزلت.
قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم.
قال علي وفاطمة وابناي ؛ أي : الحسن والحسين رضي الله عنهم ، ويدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : شكوت إلى رسول الله عليه السلام حسد الناس لي ، فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة ؛ أي : في الخلافة أول من يدخل الجنة أنا ، وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا".
قال سعدي المفتي : فيه أن السورة مكية من غير استثناء منها ، ولم يكن لفاطمة حينئذٍ أولاد.
وعنه عليه السلام : "حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه ، فأنا أجازيه عليها غداً ، إذا لقيني يوم القيامة".
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه
311
(8/238)
وسلم : من مات على حب آل محمد مات شهيداً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير إلا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها.
ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة".
وآل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه عليه السلام ، فكل من كان مآل أمرهم إليه أكمل وأشد كانوا هم الآل ، ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل.
(در تفسير ثعلبى أورده كه خويشان حضرت رسول الله بنو هاشم اند وبنو المطلب كه خمس برايشان قسمت بايد كرد).
وفي "الكواشي" : قرابته عليه السلام فاطمة وعلي وايناهما ، أو آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس ، أو من حرمت عليهم الصدقة ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
وقيل : آل الرسول أمته الذين قبلوا دعوته.
قال ابن عطاء : لا أسألكم على دعوتكم أجراً إلا أن تتوددوا إليّ بتوحيد الله وتتقربوا إليه بدوام طاعته وملازمة ، أوامره.
وقال الحسين : كل من تقرب إلى الله بطاعته وجبت عليكم محبته ، فإن المحب يحب المحب لكونهما محبين لمحبوب واحد ، وكذا المطيع مع المطيع لشركتهما في الإطاعة والانقياد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
حكي عن الشيخ ابن العربي قدس سره أنه قال : قد بلغني عن رجل أنه يبغض الشيخ أبا مدين ، فكرهت ذلك الشخص لبغضه الشيخ أبا مدين ، فرأيت رسول الله في المنام ، فقال لي : لم تكره فلاناً ، فقلت لبغضه في أبي مدين ، فقال : أليس يحب الله ورسوله ، فقلت له : بلى يا رسول الله ، فقال لي : "فلم تبغضه لبغضه أبا مدين وما تحبه لحبه الله ورسوله" ، فقلت له : يا رسول الله إلى الآن : إني والله زللت وغفلت ، فأما الآن ، فأنا تائب ، وهو من أحب الناس إليّ ، فلقد نبهت ونصحت صلى الله عليك وسلم ، فلما استيقظت جئت إلى منزله ، فأخبرته بما جرى ، فبكى واعتد الرؤيا تنبيهاً من الله ، فزال بغضه أبا مدين وأحبه.
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} ؛ أي : يكتسب ؛ أي : حسنة كانت سيما حب آل رسول الله.
وقال الراغب : أصل القرف والاقتراف : قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجذع ، وما يؤخذ منه قرف واستعير الاقتراف للاكتساب حسنياً كان أو سوئياً ، وفي الإساءة أكثر استعمالاً.
ولهذا يقال : الاعتراف يزيل الاقتراف.
{نَّزِدْ لَه فِيهَا} ؛ أي : في الحسنة يعني : (براى آن حسنة) ، كما قال الكاشفي : {حُسْنًا} بمضاعفة.
والتوفيق لمثلها والإخلاص فيها وبزيادة لا يصل العبد إليها بوسعه مما لا يدخل تحت طوق البشر.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أذنب {شَكُورٌ} لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة ، فالشكر من الله مجاز عن هذا المعنى ؛ لأن معناه الحقيقي ، وهو فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً لا يتصور من الله لامتناع أن ينعم عليه أحد حتى يقابل بالشكر شبهت الإثابة والتفضل بالشكر من حيث أن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير ، وإكراماً لأجله.
312
وفي "بحر العلوم" : أو معتد بالحسنة القليلة حتى يضاعفها ، فإن القليل عند الله كثير.
وفي الحديث : "إن عيسى بن مريم ، قال : أخبرني يا رب عن هذه الأمة المرحومة ، فأوحى الله إليه أنها أمة محمد حكماء علماء ؛ كأنهم من الحكمة والعلم أنبياء يرضون باليسير من العطاء ، وأرضى منهم باليسير من العمل أدخل أحدهم الجنة ، بأن يقول : لا إله إلا الله".
قال الإمام الغزالي رحمه الله : العبد يتصور أن يكون شاكراً في حق عبد آخر مرة بالثناء عليه بإحسانه إليه وأخرى بمجازاته أكثر مما صنعه إليه ، وذلك من الخصال الحميدة.
قال رسول الله عليه السلام : "ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله" وأما شكرهتعالى ، فلا يكون إلا بنوع من المجاز والتوسع ؛ فإنه إن أثنى فثناؤه قاصر ؛ لأنه لا يحصي ثناء عليه ، فإن أطاع ، فطاعته نعمة أخرى من الله عليه ، بل عين شكره نعمة أخرى وراء النعمة المشكورة ، وإنما أحسن وجوه الشكر لنعم الله أن لا يستعملها في معاصيه ، بل في طاعته.
وذلك أيضاً بتوفيق الله وتيسيره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
عطايست هرموى ازو برتنم
جه كونه بهرموى شكرى كنم
تراآنكه جشم ودهان دادو كوش
اكر عاقلى در خلافش مكوش
(8/239)
{ذَالِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَه فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَا وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـاتِه إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} .
{أَمْ يَقُولُونَ} : أم منقطعة ؛ أي : بل أيقولون : يعني كفار مكة على أنه إضراب على قوله : أم لهم شركاء إلخ.
{افْتَرَى} محمد {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بدعوى النبوة وتلاوة القرآن على أن الهمزة للإنكار التوبيخي ؛ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله عليه السلام ، وهو هو إلى الافتراء لا سيما الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها.
والفرق بين الافتراء والكذب ؛ أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه ، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه.
{فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} استشهاد على بطلان ما قالوا : ببيان أنه عليه السلام ، لو افترى على الله لمنعه من ذلك قطعاً وتحقيقه ، أن دعوى كون القرآن افتراء على الله قول منهم ؛ بأنه تعالى لا يشاء صدوره عن النبي ، بل يشاء عدم صدوره عنه ، ومن ضرورته منعه عنه قطعاً ، فكأنه قيل : لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنه ، وإن يشأ ذلك يختم على قلبك ، بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ، ولم تنطق بحرف من حروفه ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، بل تواتر الوحي حيناً فحيناً تبين أنه من عند الله.
كما قال في "التأويلات النجمية" : يعني : أنك إن افتريته ختم الله على قلبك ، ولكنك لم تكذب على ربك ، فلم يختم على قلبك.
يعني : (مهرنهد بردل تو وبيغام خويش ازان ببرد).
وفيه إشارة إلى أن الملائكة والرسل والورثة محفوظون عن المغالطة في بيان الشريعة والافتراء على الله في شيء من الأشياء.
(در حقائق سلمى از سهل بن عبد الله التستري قدس سره نقل مكيندكه مهر شوق ازلي ومحبته لم يزلى بردلى تونهدتا التفات بغير نكنى وازاجابت واباي خلق فارغ كردى).
{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـاتِهِ} : استئناف مقرر لنفي الافتراء غير معطوف على يختم كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل ، وصيغة المضارع للاستمرار ، وكتبت يمح في المصحف بحاء مرسلة ، كما كتبوا ويدع الإنسان ، ويدع الداع وسندع الزبانية ، مما ذهبوا فيه إلى الحذف ، والاختصار نظراً إلى اللفظ وحملاً للوقف على الوصل ، يعني : أن سقوط الواو لفظاً للالتقاء الساكنين حال الوصل وخطاً أيضاً حملاً للخط على اللفظ ؛
313
أي : على أنه خلاف القياس ، وليس سقوطها منه ، لكونها مجزوماً للعطف على ما قبله لاستحالة المعنى ؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً لا معلقاً بالشرط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : ومن عادته تعالى أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، فلو كانه افتراء ، كما زعموا لمحقه ودفعه.
ويجوز أن يكونه عدة لرسول الله عليه السلام ؛ بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه عن البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصرته ، فالصيغة على هذا للاستقبال.
{إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما تضمره القلوب ، فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات.
قال الكاشفي :
راستى تو ومظنه افترآى
ايشان بتوبر ومخفى نيست
ولم يقل : ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات ها هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب ، فحذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ؛ أي : عليم بالمضمرات صاحبة الصدور ، وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه ، وجعلت صاحبة للصدور بملازمتها وحلولها فيها ، كما يقال : للبن ذو الإناء ، ولولد المرأة هو جنين ذو بطنها.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يتصرف في عباده بما يشاء من إبعاد قريب وإدناء بعيد.
روي : أن رجلاً مات فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام مات ولي من أوليائي ، فاغسله ، فجاء موسى عليه السلام ، فوجده قد طرحه الناس في المزابل لفسقه ، فقال موسى عليه السلام : يا رب أنت تسمع مقالة الناس ، فقال الله : يا موسى إنه تشفع عند موته بثلاثة أشياء لو سأل مني جميع المذنبين لغفرت لهم الأول إنه قال : يا رب أنت تعلم أني وإن كنت أرتكب المعاصي بتسويل الشيطان وقرين السوء ، ولكني كنت أكرهها بقلبي.
والثاني : أني وإن كنت من الفسقة بارتكاب المعاصي ، ولكن الجلوس مع الصالحين أحب إلي.
(8/240)
والثالث : لو استقبلني صالح وفاجر كنت أقدم حاجة الصالح ، فبهذه الثلاثة أدناه الله منه ، وجعله من المقربين عنده بعدما أبعده هو والناس ، فعلى العاقل إصلاح الصدر والسريرة.
وفي الخبر : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، بل إلى قلوبكم وأعمالكم" ، يعني : إن كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونوا مقبولين مطلقاً ، وإلا فلا ، وربما يهتدي إلى الطريق المستقيم من مضي عمره في الضلال ، وذلك لأن شقاوته عارضة والعبرة للحكم الأزلي والسعادة الأصلية ، فإذا كان كذلك ، فيمحو الله الباطل ، وهو الكفر ويثبت الحق ، وهو الإسلام ، وربما يختم على قلب من مضى وقته على الطاعة ، فيصير عاقبة إلى المعصية ، بل إلى الكفر كبلعام وبرصيصا ونحوهما ، مما كانت شقاوته أصلية وسعادته عارضة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : ومن عادته تعالى أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، فلو كانه افتراء ، كما زعموا لمحقه ودفعه.
ويجوز أن يكونه عدة لرسول الله عليه السلام ؛ بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه عن البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصرته ، فالصيغة على هذا للاستقبال.
{إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما تضمره القلوب ، فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات.
قال الكاشفي :
راستى تو ومظنه افترآى
ايشان بتوبر ومخفى نيست
ولم يقل : ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات ها هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب ، فحذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ؛ أي : عليم بالمضمرات صاحبة الصدور ، وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه ، وجعلت صاحبة للصدور بملازمتها وحلولها فيها ، كما يقال : للبن ذو الإناء ، ولولد المرأة هو جنين ذو بطنها.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يتصرف في عباده بما يشاء من إبعاد قريب وإدناء بعيد.
روي : أن رجلاً مات فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام مات ولي من أوليائي ، فاغسله ، فجاء موسى عليه السلام ، فوجده قد طرحه الناس في المزابل لفسقه ، فقال موسى عليه السلام : يا رب أنت تسمع مقالة الناس ، فقال الله : يا موسى إنه تشفع عند موته بثلاثة أشياء لو سأل مني جميع المذنبين لغفرت لهم الأول إنه قال : يا رب أنت تعلم أني وإن كنت أرتكب المعاصي بتسويل الشيطان وقرين السوء ، ولكني كنت أكرهها بقلبي.
والثاني : أني وإن كنت من الفسقة بارتكاب المعاصي ، ولكن الجلوس مع الصالحين أحب إلي.
والثالث : لو استقبلني صالح وفاجر كنت أقدم حاجة الصالح ، فبهذه الثلاثة أدناه الله منه ، وجعله من المقربين عنده بعدما أبعده هو والناس ، فعلى العاقل إصلاح الصدر والسريرة.
وفي الخبر : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، بل إلى قلوبكم وأعمالكم" ، يعني : إن كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونوا مقبولين مطلقاً ، وإلا فلا ، وربما يهتدي إلى الطريق المستقيم من مضي عمره في الضلال ، وذلك لأن شقاوته عارضة والعبرة للحكم الأزلي والسعادة الأصلية ، فإذا كان كذلك ، فيمحو الله الباطل ، وهو الكفر ويثبت الحق ، وهو الإسلام ، وربما يختم على قلب من مضى وقته على الطاعة ، فيصير عاقبة إلى المعصية ، بل إلى الكفر كبلعام وبرصيصا ونحوهما ، مما كانت شقاوته أصلية وسعادته عارضة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
جون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست
آن به كه كار خود بعنايت رها كنند
والله المعين.
{وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} بالتجاوز عما تابوا عنه ؛ لأنه إن لم يقبل كان إغراء بالمعاصي عدي القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي عامة للمؤمن والكافر والولي والعدو ، ومن تاب منهم قبل الله توبته.
والتوبة هي الرجوع عن المعاصي بالندم عليها والعزم أن لا يعاودها أبداً.
وقال السري البوشنجي : هو أن لا تجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره.
وروى جابر رضي الله عنه : أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ،
314
وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر ، فلما فرغ من صلاته.
قال له عليّ رضي الله عنه : يا هذا ، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ قال : التوبة اسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب بالندامة ، وتضييع الفرائض بالإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وفي الأثر : تعالى أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الظمآن الوارد فمن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وبقاع الأرض خطاياه".
روى عبد العزيز بن إسماعيل ، قال : يقول الله تعالى : ويح ابن آدم يذنب الذنب ، ثم يستغفر ، فأغفر له ، لا هو يترك ذنوبه ، ولا هو ييأس من رحمتي أشهدكم أني قد غفرت له".
(8/241)
وفي "التأويلات النجمية" : إذا أراد الله تعالى أن يتوب على عبد من عباده ليرجع من أسفل سافلين البعد إلى أعلى عليين.
القرب يخلصه من رق عبودية ما سواه بتصرف جذبات العناية ، ثم يوفقه للرجوع بالتقرب إليه ، كما قال : "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" ؛ أي : من تقرب إليّ شبراً بالتوبة تقربت إليه ذراعاً بالقبول ، ولو لم يكن القبول سابقاً على التوبة لما تاب ، كما قال بعضهم لبعض المشايخ : إن أتب إلى الله ، هل يقبل : قال : إن يقبل الله تتوب.
وفي الخبر : "أن بعض مواضع الجنة تبقى خالية ، فيخلق الله تعالى خلقاً جديداً فيملؤها بهم".
(اكر روا باشد ازروى كرم كه خلقى آفريند عبادت نابرده ورنج نا برده درجات جنت بايشان دهدا وبرسرو سزا واربركه بندكان ديرينه را ودرويشان دلخسته رازدر بيرون نكند وازثواب وعطاى خود محروم نكرداند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
فكيف بالتائبين منهم والمستغفرين.
{وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} صغيرها وكبيرها غير المشرك لمن يشاء بمحض رحمته وشفاعة شافع ، وإن لم يتوبوا ، وهو مذهب أهل السنة.
وفي "التأويلات النجمية" : ويعفو عن كثير من الذنوب التي لا يطلع العبد عليها ليتوب عنها ، وأيضاً ، ويعفو عن كثير من الذنوب قبل التوبة ، ليصبر العبد به قابلاً للتوبة وإلا لما تاب.
{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} كائناً ما كان من خير وشر ، فيجازي التائب ويتجاوز عن غير التائب حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وفي "التأويلات النجمية" : ويعلم ما تفعلون من السيئات والحسنات ممالا تعلمون أنها من السيئات والحسنات ، فبتلك الحسنات يعفو عن السيئات.
وعن "عرائس البقلي" : يقبل توبتهم حين خرجوا من النفس والكون وصاروا أهلاً له مقدسين بقدسه ويعفو عن سيئاتهم ما يخطر بقلوبهم من غير ذكره ، ويعلم ما تفعلون من التضرع بين يديه في الخلوات.
وفي صحف إبراهيم عليه السلام : على العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، ويفكر في صنع الله ، وساعة يحاسب نفسه فيما قدم وأخّر ، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب وغيرهما.
وروي : أن رجلاً قال للدينوري رحمه الله : ما أصنع؟ فكلما وقفت على باب المولى صرفني البلوى ، فقال : كن كالصبي مع أمه ، فكلما ضربته يجزع بين يديها ، ويتضرع ، فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها.
وفي الخبر : "إن بعض المذنبين يرفع يده إلى جناب الحق ، فلا ينظر إليه ؛ أي : بعين الرحمة ، ثم يدعو ثانياً ، فيعرض عنه ، ثم يدعو ويتضرع ثالثاً ، فيقول : يا ملائكتي قد استحييت من عبدي ، وليس له رب غيري ، فقد غفرت له
315
واستحيت ؛ أي : حصلت مرامه ، فإني أستحيي من تضرع العباد" :
كرم بين ولطف خداوندكار
كنه بنده كردست واو شرمسار
ومعنى استحيائه تعالى : تركه تخييب العبد في رجائه.
{وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِه وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} : الفاعل ضمير اسم الله والموصول مفعول به على إضمار المضاف ؛ أي : ويستجيب الله دعاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ أي : المؤمنين الصالحين إذا دعوه ويثيبهم على طاعاتهم ، يعني : يعطيهم الثواب في الآخرة والإثابة معنى مجازي للإجابة ؛ لأن الطاعة لما شبهت بدعاء ما يترتب عليها من الثواب كانت الإنابة عليها بمنزلة إجابة الدعاء ، فعبر بها عنها.
ومنه قوله عليه السلام : "أفضل الدعاء الحمد " ، يعني : أطلق الدعاء علي الحمدلشبهه به في طلب ما يترتب عليه ، ويجوز أن يكون التقدير ، ويستجيب الله لهم ، فحذف اللام ، كما في قوله : {وَإِذَا كَالُوهُمْ} (المطففين : 3) ؛ أي : كالوا لهم.
قال سعدي المفتي : الأظهر حمل الكلام على إضمار المضاف ، فإنه كالمنقاس بخلاف حذف الجار.
{وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} على ما سألوا منه تفضلاً وكرماً ، ويجوز أن يكون الموصول فاعل الاستجابة.
والاستجابة ، فعلهم لا فعل الله تعالى واستجاب بمعنى أجاب ، أو على أن يكون السين للطلب على أصلها ، فعلى هذا الوجه يكون ويزيدهم من فضله معطوفاً على مقدر.
والمعنى : ويستجيبونبالطاعة ويزيدهم على ما استحقوه من الثواب تفضلاً ، ويؤيد هذا الوجه ما روي عن إبراهيم بن أدهم قدس سره : أنه قيل : ما لنا ندعو فلا نجاب.
قال : لأنه دعاكم ، فلم تجيبوه ، ثم قرأ : والله يدعو إلى دار السلام ، ويستجيب الذين آمنوا ، فأشار بقراءته.
والله يدعو إلى دار السلام إلى أن الله تعالى دعا عباده وبقراءته ، ويستجيب الذين آمنوا إلى أنه لم يجب إلى دعائه إلا البعض.
(8/242)
قال في "بحر العلوم" : هذا الجواب مع سؤاله ليس بمرضي عند أهل التحقيق من علماء الأخبار ، بل الحق الصريح أن الله يجيب دعاء كل عبد مؤمن بدليل قول النبي عليه السلام : "إن العبد لا يخطئه من الدعاء أحد ثلاث : إما ذنب يغفر ، وإما خير يدخر ، وإما خير يعمل.
رواه أنس رضي الله عنه ، وقوله عليه السلام : "ما من مسلم ينصب وجههفي مسألة إلا أعطاه إياها ، إما أن يعجلها له ، وإما أن يدخرها له".
وقوله عليه السلام : "إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في الكظ عند الموت".
وقوله عليه السلام : "إن الله يدعو بعبده يوم القيامة ، فيقول : إني قلت ادعوني أسجب لكم ، فهل دعوتني ، فيقول : نعم ، فيقول : أرأيت يوم نزل أمر كذا وكذا ، مما كرهت فدعوتني ، فجعلت لك في الدنيا ، فيقول : نعم ، ويقول : دعوتني يوم نزل بك كذا.
فلم تر فرجاً فقد ادخرته لك في الجنة حتى يقول العبد ليته لم يستجب لي في الدنيا دعوة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
رواه جابر عنه ، وبدليل قوله عليه السلام : "من أعطي الدعاء لم يحرم من الإجابة".
وقال عليّ رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إذا أحب الله عبداً صب عليه البلاء صباً وثجه عليه ثجاً ، فإذا دعا العبد ربه قال جبريل : أي رب ، اقض حاجته ، فيقول تعالى : دعه فإني أحب أن أسمع صوته ، فإذا دعا يقول تعالى : لبيك عبدي ، وعزتي لا تسألني شيئاً إلا أعطيك ، ولا تدعوني بشيء إلا أستجيب ، فإما أن أعمل لك ، وإما أن أدخر لك أفضل منه".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وإن الله يجيب الدعوات كلها من عبده المؤمن ، ولا يخيبه في شيء من دعواته.
316
وكيف يخيب ولا يجيب من إذا لم يسأله عبده يغضب عليه.
قال أبو هريرة رضي الله عنه : قال النبي عليه السلام : "إن الله يغضب على من لم يسأله ، ولا يفعل ذلك أحد غيره".
انتهى.
ما في "بحر العلوم".
يقول الفقير : هذا كله مسلم مقبول ، فإنه يدل على أن دعاء المؤمن المطيع لربه مستجاب على كل حال ، ولكن لا يلزم منه أن يستجاب لكل مؤمن ، فإن بعضاً من الذنوب يمنع الاستجابة ، ويرد الدعوة كما إذا كان الملبوس والمشروب حراماً ، والقلب لاهياً غافلاً ، وعلى الداعي مظالم وحقوق للعباد ، ونحو ذلك.
ويدل على ما ذكرنا ما قال عليه السلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال له : يا رسول الله ، ادع الله أن يستجيب دعائي.
يا سعد اجتنب الحرام ، فإن كل بطن دخل فيه لقمة من حرام لا تستجاب دعوته أربعين يوماً ، وأيضاً ، ما قال عليه السلام : "الرجل يطيل السفر ؛ أي : في طريق الحق أشعث أغبر يمد يده إلى السماء قائلاً : يا رب ، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك الرجل دعاؤه".
وأيضاً ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "وأنت يا عم لو أطعته أطاعك إطاعتي حين قال له عمه أبو طالب : ما أطوعك ربك يا محمد ، وغير ذلك ، ثم إن الزيادة في الآية مفسرة بالشفاعة لمن وجبت له النار ، وبالرؤية ، فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق مثلها ، وهو عمل العبد والرؤية مما يتعلق بالقديم ، ولا تقع إلا في مقابلة القديم ، وهو الفضل الرباني.
وفي "كشف الأسرار" : (بنده كه بديدار الله رسد بفضل الله ميرسد نه ازطاعت خود).
وفي الخبر الصحيح : "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه".
أبو بكر الشبلي قدس سره : (وقتى در غلبات وجد وخروش كفت اى بارخدا فردا همه انابينا انكيز تاجز من تراكس نبيند باز وقتى ديكر كفت بارخدا باشبلي رانا بينا انكيز كه دريغ بودكه جون منى ترابيند وآن سخن اول غيرت بود بر جمال ازديده اغيار وآن سخن ديكر غيرت بود بر جمال ازديده خودو در راه جوانمردان اين قدم ازان قدم تما مترست وعزيز تر) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
از رشك تو بر كنم دل وديده خويش
تا اين تونه بيند ونه آن رابيش
(وجون حق تعالى ديدار خود را دوستانرا كرامت كند بتقاضاى جمال خود كندنه بتقاضاى بنده كه بشر محض راهر كز زهرة آن نبودكه با اين تقاضا بيدا آيد).
{وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} : بدل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد.
قال الكاشفي : (مرايشا نراست عذابى سخت كه ذل حجاب ودوام عقابست وهيج عقاب بدترا مذلت حجاب نيست) :
زهيج رنج ثو مطلق دلم نتابد روى
جزآنكه بند كنى در حجاب حرمانش
وفي "التأويلات النجمية" : لما ذكر أنه تعالى يقبل توبة التائبين ، ومن لم يتب يغفر زلتهم والمطيعون يدخلهم الجنة ، فلعله يخطر ببال أحدهم ، أن هذه النار لمن هي؟.
قال الله تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، فلعله خطر ببالهم أن العصاة من المؤمنين لا عذاب لهم.
فقال : والكافرون لهم عذاب شديد ، فدليل الخطاب : أن المؤمنين لهم عذاب ، ولكن ليس بشديد ، ثم إن العبد لو لم يتب خوفاً من النار ، ولا طمعاً في الجنة ، لكان من حقه أن يتوب ليقبل الحق سبحانه توبته ، ثم إن
317
(8/243)
العامي أبداً منكسر القلب ، فإذا علم أن الله يقبل الطاعة من المطيعين يتمنى أن له طاعة ميسرة ليقبلها الله ، فيقول الحق : عبدي إن لم يكن لك طاعة تصلح للبول ، فلك توبة إن أتيت بها تصلح لقبولها.
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} ، لو وسعه عليهم.
{لَبَغَوْا فِى الأرْضِ} لطغوا في الأرض وعصوا ، فمن العصمة أن لا تجد ، أو لظلم بعضهم على بعض ؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة ؛ أي : داع إلى البطر ، والأشر ، أو البغي بمعنى الكبر ، فيكون كناية عن الفساد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس.
وقال بعضهم : لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب لتفرغوا للفساد في الأرض ، ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد ونعم ما قيل : ()
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
أي : داعية إلى الفساد ومعنى الفراغ عدم الشغل ولزوم البغي على بسط الرزق على الغالب ، وإلا فقد يكون الفقير مستكبراً وظالماً ، يعني أن البغي مع الفقر أقل ؛ لأن الفقر مؤدٍ إلى الانكسار والتواضع غالباً ، ومع الغنى أكثر وأغلب ؛ لأن الغنى مؤدٍ إلى البغي غالباً ، فلو عم البسط كل واحد من العباد لغلب البغي ، وانقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال الكاشفي : (واين در غالبست جه ذى النورين رضي الله عنه مالدارترين مردم بودند وهركز ازايشان بغى وطغيان ظاهر نشد وكفته اندمال دنيا بمثال بارانست كه برتمام زمين بارد واز هرقطعه ازان كياه ديكر رويد) :
باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست
درباغ لا له رويد ودرشوره بوم خس
(وجون اغلب طباع خلق بجانب هوى وهوس مائلست وبرورش صفات سبعى وبهيمى وبرايشان غالب ومال دنيا درين ابواب قوى ترين اسبابست بس اكر حق سبحانه وتعالى روزى بر خلق فراخ كرداند اكثر باغى طاغى كردند).
وكفى بحال فرعون وهامان وقارون ونحوهم عبرة.
قال عليه السلام : "إن أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها".
قال الصائب :
نفس رابد خوبناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان وسير كاهل ميكند مزدور را
{وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ} ؛ أي : بتقدير.
يعني : (باندازه) ، كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي : (بتقدير أزلى).
وفي "القاموس" : قدر الرزق : قسمه ، والقدر قياس الشيء بالشيء.
وفي "بحر العلوم" : يقال : قدره قدراً وقدراً.
وقوله عليه السلام : "فإن غمّ عليكم ، فاقدروا" بكسر الدال والضم خطأ.
رواية : أي : فقدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً.
{مَّا يَشَآءُ} : أن ينزله مما تقتضيه مشيئته ، وهو مفعول ينزل.
{إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ} : محيط بخفايا أمورهم وجلاياها ، فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنهم ، فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعاً لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي عليه السلام ، عن جبرائيل ، عن الله تعالى أنه قال : "من أهان لي ولياً بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وإني لأغضب لهم كما يغضب الليث الجريثي ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء
318
ما افترضت عليه ، وما زال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً مؤيداً ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ، ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه لئلا يدخله عجب ، فيفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ، ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم ، إني بعبادي خبير بصير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وكان يقول أنس رضي الله عنه : اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا لغنى ، فلا تفقرني برحمتك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى قلب الفقير ؛ كأنه إنما لم أبسط أيها الفقير ، عليك الدنيا لما كان لي من المعلوم ، إني لو وسعت عليك لطغوت ، وسعيت في الأرض بالفساد.
ويشير أيضاً إلى وعيد الحريص على الدنيا لينتبه من نوم الغفلة ، ويتحقق له أن لو بسط الله له الرزق بحسب الطلب لكان سبب بغيه وطغيانه ، وفساد حاله ولتسكن نائرة حرصه على الدنيا ، ثم قال بطريق الاستدراك إن لم أوسع عليك الرزق لصلاح حالك لم أمنع عنك الكل ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء لعلمه بصلاح ذلك ، وهو قوله : إنه بعباده خبير بصير.
(8/244)
روي : أن أهل الصفة رضي الله عنهم تمنوا الغنى ، فنزلت : (يعني أصحاب صفه كه بفقر فاقه ميكذرانيد ند روزى در خاطر ايشان كذشت كه جه باشدكه ماتوا نكر شويم ومال خود بفلان وفلان جيز صرف كنيم اين آيت آمد).
قال خباب بن الأرت رضي الله عنه فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، فتمنيناها ، فأنزل الله تعالى الآية.
قال سعدي المفتي : وفيه أن الآية حينئذٍ مدنية ، فكان ينبغي أن يستثني.
وقيل : نزلت في العرب.
كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا ؛ أي : أصابهم الجدب والقحط انتجعوا ؛ أي : طلبوا الماء والكلأ وتضرعوا وفي ذلك يقول الشاعر : ()
قوم إذا نبت الربيع بأرضهم
نبتت عداوتهم مع البقل
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُا إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَه وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍا وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} .
{وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ؛ أي : المطر الذي يغيث الناس من الجدب ، ولذلك خص بالنافع منه ، فإن المطر قد يضر ، وقد لا يكون في وقته.
قال الراغب : الغيث : يقال في المطر والغوث في النصرة.
{مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا} ؛ أي : يئسوا منه وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضاً ، لتذكير كمال النعمة ، فإن حصول النعمة بعد اليأس والبلية أوجب لكمال الفرح ، فيكون أدعى إلى الشكر.
{وَيَنشُرُ} : (وبراكنده كند).
{رَحْمَتِهِ} ؛ أي : بركات الغيث ومنافعه في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "فتح الرحمن" : وينشر رحمته ، وهي الشمس ، وذلك تعد يد نعمة غير الأولى ، وذلك أن المطر إذا جاء بعد القنوط حسن موقعه ، فإذا دام سئم وتجيء الشمس بعده عظيمة الوقع.
{وَهُوَ الْوَلِىُّ} : المالك السيد الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة.
قال الكاشفي : (واوست دوست مؤمنان وسازنده كار ايشان بفرسنادن باران ونشر رحمت واحسان) :
319
تواز فشاندن تختم اميد دست مدار
كه در كرم نكندا ابر نوبهار امساك
{الْحَمِيدُ} : المستحق للحمد على ذلك وغيره لا غيره.
وقال بعضهم : وهو الولي ؛ أي : مولى المطر ومتصرفه يرسله مرة بعد مرة الحميد ؛ أي : الأهل لأنه يحمد على صنعه إذ لا قبح فيه ؛ لأنه بالحكمة ودل الغيث على الاحتياج وعند الاحتياج تتقوى العزيمة ، والله تعالى يجيب دعوة المضطر.
وقيل لعمر رضي الله عنه اشتد القحط وقنط الناس ، فقال : مطروا إذن وأراد هذه الآية.
وفي المثنوي :
تافرود آيد بلاى دافعى
جون نباشداذ تضرع شافعى
تا سقاهم ربهم آيد خطاب
تشنه باش الله أعلم بالصواب
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن تحت العرش بحراً ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه ، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ، ويوحي إلى السماء أن غربليه فتغربله ، فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها ، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ، ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان من ماء ، فإنه نزل بغير كيل ووزن.
وروي : أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام ؛ لأنه لا يختلف فيه البلاد ، وفي الحديث : "ما من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار".
وفي الحديث القدسي : "لو أن عبادي أطاعوني سقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت الشمس عليهم بالنهار ، وما أسمعتهم صوت الرعد".
قال سفيان رحمه الله : ليس الخائف من عصر عينيه ، وبكى إنما الخائف من ترك الأمر الذي يخاف منه.
وروي مرفوعاً : "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء".
وفيه إشارة إلى دوام فيضه تعالى ظاهراً وباطناً ، وإلا لانتقل الوجود إلى العدم.
وفي الآية إشارة إلى أن العبد إذا ذبل غصن وقته وتكدر صفو ورده وكسف شمس أنسه وبعد بالحضرة وساحات القرب عهده ، فربما ينظر الحق بنظر رحمته ، فينزل على سره أمطار الرحمة ويعود عوده طرياً ، وينبت من مشاهد أنسه ورداً جنياً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "عرائس البيان" : يكشف الله لهم أنوار جماله بعد أن آيسوا من وجدانهم في مقام القبض ، وينشر عليهم لطائف بسط القرب ؛ لأن وليهم وحبيبهم محمود بلسان افتقارهم.
(8/245)
قال ابن عطاء : إن الله تعالى يربي عباده بين طمع ويأس ، فإذا طمعوا فيه أيأسهم بصفاتهم ، وإذا آيسوا أطمعهم بصفاته ، وإذا غلب على العبد القنوط ، وعلم العبد ذلك وأشفق منه أتاه من الله الفرج ، ألا تراه يقول : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا معناه : ينزل غيث رحمته قلوب أوليائه ، فينبت فيها التوبة والإنابة والمراقبة والرعاية : (ابر جود باران وجود ريزد سحاب افضال دراقبال فشاندكل وصال درباغ نوال شكفته كردد آخر كار باول كار باشود).
يقول الفقير : لا شك أن القبض والبسط يتعاقبان ، وإن الإنسان لا يضحك دائماً ، ولا يبكي دائماً ، ومن أعاجيب ما وقع لي في هذا الباب هو أنه أغار العرب على الحجاج في طريق الشام في سنة الألفات الأربعة ، وكنت إذ ذاك معهم فتجردت باختياري عن جميع ما معي غير القميص والسراويل ، ومشيت على وجهي ، فقيل لي : في باطني على يمينك ، فأخذت
320
اليمين حتى لم يبق لي طاقة على المشي من الجوع والعطش ، فوقعت على الرمل فأيست من الحياة وليس معي أحد إلا الله ، فقيل لي : في سمعي قول الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ثم إن الله تعالى فرج عني بعد ساعات بما يطول بيانه ، بل يجب خفاؤه ، وهو الولي الحميد.
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} ، أي : دلائل قدرته تعالى : {خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} على ما هما من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها أو صفاتها تدل على شؤونه العظيمة.
قال في الحواشي السعدية" قوله : فإنها إشارة إلى ما تقرر في الكلام من المسالك الأربعة في الاستدلال على وجودالصانع تعالى حدوث الجواهر وإمكانها ، وحدوث الأعراض القائمة بها ، وإمكانها أيضاً.
وفيه إشارة إلى أن خلق السماوات من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : السماوات المخلوقة.
انتهى.
{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} عطف على السماوات أو الخلق.
ومعنى بث فريق يعني : (براكنده كرده).
وقال الراغب : أصل البث إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والسرور.
وقوله : وبث إشارة إلى إيجاده تعالى ما لم يكن موجوداً وإظهاره إياه.
{مِن دَآبَّةٍ} حي على إطلاق اسن المسبب على السبب ، أي : الدبيب مجازاً أريد به سببه ، وهوالحياة فتكون الدابة بمعنى الحي ، فتتناول الملائكة أيضاً ، لأن الملائكة ذو واحركت طيارون فيالسماء ، وإن كانوا لا يمشون على الأرض ويجوز أن يكون المعنى مما ندب على الأرض ، فإن ما يختص بأحد الشيئين المجاورين يصبح نسبه إليهما.
يعني : ما يكون في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة ، كما في قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، إنما يخرج من الملح.
وقد جوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران ، فيوصفون بالدبيب ، وأن يخلق الله في السماء حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
وقد روي عن النبي عليه السلام قال : "فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلامه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ، ثم فوقه العرش العظيم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يقول الفقير : إن للملائكة أحوالاً شتى وصوراً مختلفة لا يقتضي موطنهم الحصر في شيء من المشي والطيران ، فطيرانهم إشارة إلى قوتهم في قطع المسافة ، وإن كان ذلك لا ينافي أن يكون لهم أجنحة ظاهرة ، فلهم أجنحة يطيرون بها ، ولهم أرجل يمشون بها ، والله أعلم.
{وَهُوَ} تعالى {عَلَى جَمْعِهِمْ} ، أي : حشر الأجسام بعد البعث للمحاسبة.
{إِذَا يَشَآءُ} في أي وقت يشاء {قَدِيرٌ} متمكن منه.
(يعني تواناست ومتمكن ازان وغير عاجز دران).
قوله : هو مبتدأ وقدير خبره وعلى جمعهم لا بقدير لفساد المعنى ، فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته ، وإذا عند كونها بمعنى الوقت ، كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع.
قال تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} .
وفي الآية إشارة إلى سماوات الأرواح وأرض الأجساد.
وما بث فيهما من دابة النفوس والقلوب ، فلا مناسبة بين كل واحد منهم ، فإن بين الأرواح والأجساد بوناً بعيداً ، لأن الجسد من أسفل سافلين ، والروح من أعلى عليين ، والنفس تميل إلى الشهوات الحيوانية الدنيوية ، والقلب يميل إلى الشواهد الروحانية الأخروية الربانية ، وهو على جمعهم على طلب الدنيا وزينتها ، وعلى طلب الآخرة درجاتها ، وعلى طلب الحضرة وقرباتها إذا يشاء قدير.
والحشر أنواع : عام ، وهو خروج
321
الأجساد من القبور إلى المحشر يوم النشور.
وخاص ، وهو خروج الأرواح الأخروية من قبور الأجسام الدنيوية بالسير والسلوك في حال حياتهم إلى عالم الروحانية ، يحرق الحجب الظلمانية وأخص.
وهو خروج الأسرار من القبور الروحانية إلى عالم الهوية بقطع الحجب النورانية.
فعند ذلك يرجع الإنسان إلى أصله رجوعاً اختيارياً مرضياً ليس فيه شائبة غضب أصلاً ، ونعم الرجوع والقدوم ، وهو قدوم الحبيب والجلوة معه.
خلوت كزيده را بتماشا جه حاجتست
(8/246)
جون روى دوست هست بصحراجه حاجتست
ولا يمكن الخروج من النفس إلا بالله.
وكان السلف يجهدون في إصلاح نفوسهم وكسر مقتضاهم وقمع هواها.
(حكي) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر وعلى ظهره قربة ماء ، فقيل له : في ذلك فقال : ليس لي حاجة إلى الماء ، وإنما أردت به كسر نفسي لما حصل لها من إطاعة ملوك الأطراف ، ومجيء الوفود فكما أنه لا بعث إلى المحشر الأبعد فناء ظاهر الوجود ، فكذا لا حشر إلى الله إلا بعد فناء باطنه.
نسأل الله سبحانه أن يوصلنا إلى جنابه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَمَآ أَصَـابَكُم} (وهرجه شمارا رسدا اى مؤمنان).
فما شرطية.
وقال بعضهم : موصول مبتدأ دخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط ، أي : الذي وصل إليكم أيها الناس.
{مِّن مُّصِيبَةٍ} ، أي : مصيبة كانت من الآلام والأسقام والقحط والخوف ، حتى خدش العود وعثرة القدم ، واختلاج العرق وغير ذلك من البدن أوفى المال الأهل والعيال ، ويدخل فيها الحدود على المعاصي ، كما أنه يدخل في قوله : ويعفو عن كثير ما لم يجعل له حد.
فبما كسبت أيديكم} أي فهو بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها ، فإن ذكر الأيدي لكون أكثر الأعمال مما يزاول بها ، فكل نكد لاحق إنما هو بيبب ذنب سابق أقله التقصير.
وفي المثنوي :
هرجه برتو آيد از ظلمات غم
آن ربى باكى وكستاخيست هم
وفي الحديث : "لا يرد القدر إلا بالدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وأن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه قوله لا يرد" إلخ.
لأن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لدفع البلاء وجلب الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح والماء سبب لخروج النباتات من الأرض.
قال الضحاك : ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ، وأي معصية أقبح من نسيان القرآن.
وتلا الآية : {وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} من الذنوب ، فلا يعاقب عليها ، ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة.
وفي الآية تسلية لقلوب العباد وأهل المصائب يعني : إن إصابتكم مصيبة الذنوب والمعاصي الموجبة للعفو الأخروية الأبدية تداركناها بإصابة المصيبة الدنيوية الفانية لتكون جاء لما صدر منكم من سوء الأدب ، وتطهير لما تلوثتم به من المعاصي ، ثم إذا كثرت الأسباب من البلايا على عبد وتوالى عليه ذلك فليفكر في أفعاله المذمومة لم حصلت منه ، حتى يبلغ جزاء ما يفعله مع عفو الكثير هذا المبلغ ، فعند هذا يزداد حزنه وأسفه وخجلته لعلمه بكثرة ذنوبه وعصياته.
وغاية كرم ربه وعفوه وغفرانه.
قيل لأبي سليمان الداراني قدس سره : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم.
قال : لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم.
وقرأ هذه الآية : فائتين ما قضى عليكم من المصائب
322
وإن هربتم من أقطار الأرض كل مهرب} ، يعني : إذا أراد الله ابتلاءكم وعقوبتكم ، فلا تفوتونه حيثما كنتم ، ولا تسبقونه ، ولا تقدرون أن تمنعوه من تعذيبكم.
وبالفارسية : (ونيستيد عاجز كنندكان خدا يرا از انفاذ امريا از عذاب كردن مستحق).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال أهل اللغة : أعجزته ؛ أي : صيرته عاجزاً.
وأعجزته فيه سبقته قال في تفسير "المناسبات" لما كان من يعاقب بما دون الموت ربما ظن أنه عاجز ، قال : وما أنتم ؛ أي : أجمعون العرب وغيرهم بمعجزين في الأرض لو أريد محقكم بالكلية ولا في شيء أراده منكم كائناً ما كان.
{وَمَا لَكُم} ؛ أي : عند الاجتماع ، فكيف عند الانفراد.
{مِّن دُونِ اللَّهِ} : المحيط بكل شيء عظمة وكبراً وعزة.
{مِن وَلِىٍّ} : يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال يحميكم من المصائب.
{وَلا نَصِيرٍ} : يدفعها عنكم.
وهذه الآية الكريمة داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المعصية إلى محاسبة النفس ليعرف من أين أتى ، فيبادر إلى التوبة عنه لينقذ نفسه من الهلكة ، وفائدة ذلك ، وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الله الواحد القهار ، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى هذه الكمالات البديعة ، ومثل هذه التنبيهات تستخرج من العبد ما أودع في طبيعته ، وركز في غريزته كغرس وزرع سيق إليه ماء وشمس لاستخراج ما في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية.
قال الإمام الواحدي رحمه الله : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله جعل ذنب المؤمن صنفين صنفاً كفر عنهم بالمصائب وصنفاً عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم ، ولا يرجع في الآخرة في عفوه ، فهذه سنة الله مع المؤمنين ، وأما الكافر ، فلا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة.
قال بعضهم : إذا كسب العبد شيئاً من الجرائم ، فهو من أسباب القهر ، ويكون محجوباً به.
فإذا كان أهلاًتعالى يعاقبه الله في الدنيا ببعض المصائب ويخرجه من ذلك الحجاب ، وإلا فيمهله في ضلالته ، والآية مخصوصة بالمجرمين ، فإن ما أصاب غيرهم من الأنبياء وكمل الأولياء والأطفال والمجانين ، فلأسباب أخر لا بما كسبت أيديهم ؛ لأنهم معصومون محفوظون.
منها التعريض للأجر العظيم بالصبر عليه.
(8/247)
قال بعضهم : شوهد منه عليه السلام كرب عند الموت ليحصل بمن شاهده من أهله ، ومن غيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم عليه من المشقة ، كما قيل : بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال من الكرب الشديد.
وفي "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي قدس سره : البلاء على ثلاثة أضرب :
منها : تعجيل عقوبة للعبد كمثل ما نزل بيوسف عليه السلام من لبثه في السجن بالهم الذي هم به ، ومن لبثه بعد مضي المدة في السجن بقوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (يوسف : 42).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ومنها : امتحانه ليبرز ما في ضميره ، فيظهر لخلقه درجته أين هو من ربه كمثل ما نزل بأيوب عليه السلام.
قال تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ} (ص : 44).
ومنها : كرامته ليزداد عنده قربة وكرامة كمثل ما نزل بحيى بن زكريا عليهما السلام ، ولم يعمل خطيئة قط ، ولم يهم بها ، فذبح ذبحاً ، وأهدى رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
وقد سأل النبي عليه السلام العافية من كل ذلك حيث قال : "واسأل الله العافية من كل بلية" والعافية أن يكون في كل وجه من هذه الوجوه ، إذا حل به شيء من ذلك أن لا يكله إلى نفسه ولا يخذله ؛ أي : يكلؤه ويرعاه في كل من هذه الوجوه هذا
323
وجه ، والوجه الآخر أن يسأله أن يعافيه من كل شيء فيه شدة ، فإن الشدة إنما يحل أكثرها من أجل الذنوب ، فكأنه يسأل أن يعافيه من البلاء ، ويعفو عنه الذنوب التي من أجلها تحل الشدة بالنفس ، فقد قال عز وجل : {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} .
وقال تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} () ، فعلى العاقل أن يسأل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ، فإذا ابتلي بشيء من البلايا صبر عليه ليكون مأجوراً وفكفراً عنه ذنوبه ومصححاً له حاله ومصفى باله ونعم ما قيل :
نرى الناس دهناً في القوارير صافيا
ولم تدر ما يجري على رأس سمسم
وقال الحافظ :
شكر كمال حلاوت بس از رياضت يافت
نخست درشكن تنك ازان مكان كيرد
وما قال :
كويند سنك لعل شود در مقام صبر
آرى شود وليك بخون جكر شوده
نسأل الله العافية.
{وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِا وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِه إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} .
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} : دلائل وحدته تعالى وقدرته وعظمته وحكمته.
{الْجَوَارِ} : السفن الجارية ، وهي بالياء في الأصل حذفت للكسر الدال عليها.
{فِى الْبَحْرِ} : (در دريا).
{كَالاعْلَـامِ} جمع علم بفتحتين بمعنى الجبل ، وكل مرتفع علم ؛ أي : كالجبال على الإطلاق لا التي عليها النار للاهتداء خاصة.
وبالفارسية : (مانند كوها در عظمت).
فقوله : جوار جمع جارية ، بمعنى سائرة صفة للسفن المقدرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي البحر : متعلق بالجوار ، وحال منه إن كانت الجارية جامدة اسماً للسفينة بالغلبة سميت بها لجريها وكالأعلام حال منه على التقديرين.
{إِن يَشَأْ} ؛ أي : الله تعالى ، وهو شرط جوابه.
قوله : {يُسْكِنِ الرِّيحَ} التي تجريها يعني ساكن : (كرداندبادى راكه سبب رفتن كشتى است).
{فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} عطف على قوله : يسكن وظل بمعنى صار وركدت السفينة إذا سكنت وثبتت ؛ أي : فيصرن تلكن السفن ثوابت بعدما كانت جواري برياح طيبة.
وحاصل المعنى فيبقين ثوابت على ظهر البحر غير جاريات لا غير متحركات أصلاً.
(وجون آن كشتيها ساكن شوند بسبب سكون باد اهل كشتى در كردا اضطراب افتد).
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر من السفن اللاتي يجرين تارة ويركدن تارة أخرى على حسب مشيئة الله تعالى.
{لايَـاتٍ} عظيمة في أنفسها كثيرة في العدد دالة على ما ذكر من شؤونه.
{لِّكُلِّ صَبَّارٍ} بليغ الصبر على احتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
{شَكُورٌ} بليغ الشكر له على نعمائه باستعمال كل عضو من الأعضاء فيما خلق له.
وقال الكاشفي : (مر هر صبر كننده رادر كشتى سباس درانده برقت خروج از كشتى).
ويجوز أن يكون مجموع صبار شكور كناية عن الآتي بجميع ما كلف به من الأفعال والتروك.
فالمعنى : لكل مؤمن كامل في خصائل الإيمان وثمراتها ترجع كلها إلى الصبر والشكر ، فإن الإيمان نصفه صبر عن المعاصي ونصفه شكر ، وهو الإتيان بالواجبات.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} عطف على يسكن يقال : أوبقه : أهلكه كما في "القاموس" ، والإيباق بالفارسية : (هلاك كردن) ، كما في "تاج المصادر".
(8/248)
والمعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يرسلها ، فتغرق بعضها ؛ أي : السفن بعدله وإيقاع الإيباق عليهن مع أنه حال أهلهن للمبالغة والتهويل.
يعني : أن المراد إهلاك أهلها بسبب ما كسبوا من الذنوب موجبات الهلاك على إضمار المضاف ، أو التجوز بعلاقة الحلول.
قال سعدي المفتي : والظاهر أنه لا منع من إبقاء الكلام على حقيقته ، فالآية مثل قوله تعالى : {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} (الشورى : 30).
324
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
أي : يوبق سفائنهم بشؤم ما كسبوا.
{وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} ، فلا يوبق أموالهم.
انتهى.
وإجراء حكمه على العفو في قوله تعالى : ويعف عن كثير لما أن المعنى ، أو يرسلها فيوبق ناساً ، وينجي آخرين بطريق العفو عنهم.
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِنَا} عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم ، وليعلم الذين يكذبون ويسعون في دفعه وإبطاله وقرىء بالرفع على الاستئناف عطفاً على الشرطية وبالجزم عطفاً على يعف ، فيكون المعنى : وإن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم ، وتحذير قوم.
{مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} ؛ أي : من مهرب من العذاب ، والجملة معلق عنها الفعل فكما لا مخلص لهم إذا وقفت السفن ، أو عصفت الرياح ، كذا لا مهرب لهم من عذابه بعد البعث ، فلا بد من الاعتراف بأن الضار والنافع ليس إلا الله ، وإن كل أمر عرض ، فإنما هو بتأثيره.
وفي الآيات إشارات منها : أن الله تعالى حثهم على الفكرة المنبهة لهم في السفن التي تجري في البحار ، فيرسل الله الرياح تارة ويسكنها أخرى ، وما يريهم من السلامة والهلاك.
والإشارة في هذا إلى إمساك الناس في خلال فتن الوقت عن الأنواع المختلفة ، ثم حفظ العبد في إيواء السلامة ، وذلك يوجب خلوص الشكر الموجب له جزيل المزيد.
ومنها : كما أن السفن تجري في البحر بالريح الطيبة ، فتصل إلى الساحل كذلك بعض الهمم تجري في الدنيا بريح العناية ، فتصل إلى الحضرة ، وكما أن لبعض السفن وقفة لانقطاع الريح ، فكذا لبعض الهمم بانقطاع الفيض ، وكما أن بعضها تهلك ، فكذا بعض النفوس في بحر الدنيا نعوذ بالله تعالى.
ومنها : أن الريح لا تتحرك بنفسها ، بل لها محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ، وهو الله تعالى ، فلا يجوز الاعتماد على الريح في استواء السفينة وسيرها ، وإلا فقد جاء الشرك في توحيد الأفعال ، والجهل بحقائق الأمور.
ومنها : أن الصابر من صبره الله والشكور من شكره الله ، فإن الصبر الحقيقي والشكر الحقيقي لا يكون إلا لمن كان صبره بالله وشكره بالله ، فإنه تعالى هو الصبور الشكور.
ومنها : أن علم الله قديم ليس بحادث وأما علم الخلق ، فحادث متأخر ، ولذلك قال : ويعلم إلخ.
فالعاقل يرى عاقبة الأمر فيحذر كما قيل (ع) : (درانتهاى كر خوداز ابتدا ببين).
{فَمَآ أُوتِيتُم} : (بس آنجه داده شده آيد).
{مِن شَىْءٍ} مما ترغبون أيها الناس وتتنافسون فيه من مال ومعاش وأولاد.
{فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ؛ أي : فهو متاعها ومنفعتها وتتمتعون وتنتفعون به مدة حياتكم القليلة فيزول ويفنى ، فما موصولة متضمنة لمعنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع به في الحياة الدنيا ، ولذا دخلت الفاء في جوابها.
وقدر المبتدأ ؛ لأن الجواب لا يكون إلا جملة ، يعني أن سببيته مقصود فيها الإعلام لتضمنها الترغيب في الشكر بخلاف الثانية ، وهي قوله تعالى : وما عند الله.
إلخ.
فإن المقصود فيها بيان حال أن ما عند الله سبب للخيرية والدوام رقد ، يقال : إن ما شرطية على أنها مفعول ثان لأوتيتم بمعنى أعطيتم ، والأول ، وهو ضمير المخاطبين قائم مقام الفاعل.
ومن شيء بيان لها لما فيها من الإبهام.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ} من ثواب الآخرة أشير إليه آنفاً.
{خَيْرٌ} : ذاتاً لخلوص نفعه وهو خبر ما.
{وَأَبْقَى} : زمان حيث لا يزول ولا يفنى بخلاف ما في أيدي الناس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفيه إشارة إلى أن الرحات في الدنيا لا تصفو ، ومن الشوائب لا تخلو ، وإن اتفق لبعضهم : منها في الأحايين ، فإنها سريعة الزوال ، وشيكة الارتحال ، وما عند الله من الثواب الموعود خير وأبقى من هذا القليل الموجود ، بل ما عند الله من الألطاف الخفية والمقامات العلية ،
325
والمواهب السنية خير وأبقى مما في الدنيا والآخرة.
{لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} : أخلصوا في الإيمان ، وهو متعلق بأبقى.
وفي "الحواشي السعدية" الظاهر أن اللام للبيان ؛ أي : للبيان من له هذه النعمة ، وقد بينه أبو الليث في "تفسيره" بقوله : ثم بين لمن يكون ذلك الثواب ، فقال للذين آمنوا.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على غيره تعالى ؛ أي : خصوا ربهم بالتوكل عليه فيما يعرض لهم من الأمور لا يسندون أمراً إلا إليه ، ولا يعتمدون إلا عليه وعن علي رضي الله عنه أنه تصدق أبو بكر رضي اللهعنه بماله كله فلامه جميع المسلمين ، فنزلت :
ستغرق كار خود جنانم كه دكر
برواى ملا متكربى كارم نيست
(8/249)
بيّن أن ثواب الآخرة مع كونه خيراً مما في الدنيا وأبقى يحصل لمن اتصف بصفات وجمع بينهما ، وهو الإيمان والتوكل ، وما ذكر بعدهما ، فالمؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع لهما يتمتعان بها كما قال في "البستان" :
اديم زمين سفرة عام اوست
برين خوان يغماجه دشمن جه دوست
وإذا صار إلى الآخرة كان ما عند الله خيراً للمؤمن ، فمن عرف فناء متاع الدنيا ، وتيقن أن ما عند الله خير وأبقى.
ترك الدنيا واختار العقبى ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حكي : أنه كان لهارون الرشيد ابن في سن ست عشرة ، فزهد في الدنيا وتجرد واختار العبادة ، فمر يوماً على الرشيد ، وحوله وزراؤه ، فقالوا : لقد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك بهذه الهيئة الدنية فدعاه هارون الرشيد.
وقال : يا بني فضحتني بحالك هذه ، فلم يجبه الولد ، ثم التفت فرأى طائراً على حائط ، فقال : أيها الطائر بحق خالقك ألا جئت على يدي ، فقعد الطائر على يده ، ثم قال : ارجع إلى مكانك ، فرجع ، ثم دعاه إلى يد أمير المؤمنين ، فلم يأت ، فقال لأبيه ، بل أنت فضحتني بين الأولياء بحبك للدنيا ، وقد عزمت على مفارقتك.
ثم خرج من بلده ، ولم يأخذ إلا خاتماً ومصحفاً ودخل البصرة ، وكان يعمل يوم السبت عمل الطين ، ولا يأخذ إلا درهماً ودانقاً للقوت.
قال أبو عامر الواعظ البصري رحمه الله : استأجرته يوماً ، فعمل عمل عشرة ، وكان يأخذ كفاً من الطين ويضعه على الحائط ويركب الحجارة بعضها على بعض ، فقلت : هذه أفعال الأولياء ، فإنهم معانون ، ثم طلبته يوماً فوجدته مريضاً في خربة ، فقال :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يا صاحبي لا تغترر بتنعم
فالعمر ينفذ والنعيم يزول
وإذا حملت إلى القبور جنازة
فاعلم بأنك بعدها محمول
ثم وصاني بالغسل والتكفين في جبته ، فقلت : يا حبيبي ولم لا أكفنك في الجديد ، فقال : الحي أحوج إلى الجديد من الميت يا أبا عامر : الثياب تبلى والأعمال تبقى ، ثم قال : ادفع هذا المصحف والخاتم إلى الرشيد ، وقل له : يقول لك ولدك الغريب لا تدومن على غفلتك.
قال أبو عامر : فلما غسلته وكفنته بماأوصى ودفنته.
دفعت المصحف والخاتم إلى الرشيد وحكيت ما جرى ، فبكى وقال : فيم استعملت قرة عيني وقطعة كبدي؟.
قلت : في الطين والحجارة.
قال : استعملته في ذلك ، وله اتصال برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : ما عرفته ، قال : ثم أنت غسلته ، قلت : نعم ، فقبل يدي وجعلها على صدره ، ثم زار قبره ، ثم رأيته في المنام على سرير عظيم في قبة عظيمة ، فسألته عن حاله ، فقال : صرت إلى رب راضضٍ أعطاني ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب
326
بشر ، وآلى على نفسه الشريفة ؛ أي : قال : والله الذي خلقني لا يخرج عبد من الدنيا كخروجي إلا أكرمه مثل كرامتي.
قال بعضهم : ما ظهر من أفعالك وطاعتك لا يساوي أقل نعمة من نعيم الدنيا من سمع وبصر ، وكيف ترجو بها نجاة الآخرة ، فالنعيم كله بالفضل لا بالاستحقاق.
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء ، وفي يده كوز ماء ، وهو يشربه ، فقال : عظني ، فقال : نعم ، فقال : لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشاناً فعل كنت تعطيه قال : نعم فقال : لو لم تعط إلا بملكك كله ، فهل كنت تتركه ، قال : نعم ، فقال : لا تفرح بملك لا يستوي بشربة ماء.
يعني : فشربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها ، بل كل نفس كذلك ، فلو أخذ لحظة ، ثم انقطع الهواء عنه مات ، ولو حبس في بيت حمام حار ، أو بئر عميق مات ، فعلى العبد التوغل في العبادة شكراً لنعم الله تعالى ، ومن أفضل الطاعات التوكل ، وهو ترك التدبير والانخلاع عن الحول والقوة.
قال الجنيد قدس سره : حقيقة التوكل أن يكون العبد مع الله بعد وجوده كما كان قبل وجوده ، وهو مقتضى الحال ، كما أن الكسب مقتضى العلم.
روي : أن النوري قدس سره تعبد مع عالم في مسجد ، وكان النوري يجمع ما نبذه الناس في آخر النهار ، ويغسله ويأكل معه فسأله سائل ، فأعطاه ، فقال له رفيقه : العالم قد قنعنا من الدنيا بما يطرحه الناس وأنت تنفقه أيها العابد لو كان معك علم ، فبعد ساعة جاء طعام من غني فأكلا ، ثم قال النوري أيها العالم لو كان معك حال ، فانظر حال التوكل واليقين والاتكال على الملك المتعال من خصائص توحيد الأفعال الحاصل بإصلاح الطبية في مقام الشريعة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
باك وصافى شوواز جاه طبيعت بدراى
كه صفايى ندهد آب تراب آلوده
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} .(8/250)
{وَالَّذِينَ} .
الخ.
في موضع الجر عطفاً على الذين آمنوا عطف الصفة على الصفة ؛ لأن الذات واحدة ، والعطف إنما هو بين الصفات.
{يَجْتَنِبُونَ} : الاجتناب : (بايك شودن وترك كردن).
{كَبَائرَ الاثْمِ} : الإثم : الذنب كما في "القاموس".
وقال الراغب : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب.
وقوله تعالى : {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} (البقرة : 219) ؛ أي : في تناولهما إبطاء عن الخيرات وتسمية الكذب إثماً ، كتسمية الإنسان حيواناً لكونه من جملتهم ، والكبيرة ما أوجب الله عليه الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وفي "المفردات" الكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته.
والمعنى : يجتنبون الكبائر من هذا الجنس ، فالإضافة بمعنى من ولكون المراد جنس الإثم ، لم يقل كبائر الآثام.
قال في "كشف الأسرار" : أضاف الكبائر إلى الإثم ، فإن إثم الصغيرة مغفور إذا اجتنب الكبيرة ، كما قال الله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ} (النساء : 31).
قرأ حمزة والكسائي وخلف : كبير الإثم على التوحيد إرادة الجنس.
قال الراغب : قوله : والذين يجتنبون كبائر الإثم.
وقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.
قيل : أريد بهما الشرك لقوله : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13).
قال ابن عباس : كبير الإثم هو الشرك.
قال الإمام الرازي : هو عندي ضعيف ؛ لأن ذكر الإيمان يغني عنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يقول الفقير : لا يغني ؛ فإنه بالإيمان يحصل الاجتناب عن مطلق الشرك الشامل للجلي والخفي ، بل عن الجلي فقط.
وقد أطلق عليه السلام : "الشرك على الرياء حيث قال : اتقوا الشرك الأصغر".
فالقول ما قال ترجمان القرآن رضي الله عنه.
وقرأ الباقون
327
كبائر الإثم على إرادة جميع المعاصي الموبقة ، وهو الشرك بالله ؛ أي : الكفر مطلقاً ، وإن لم يعبد الصنم ، وقتل النفس بغير حق سواء قتل نفسه ، أو غيره وقذف المحصنة ؛ أي : شتم الحرة المكلفة المسلمة العفيفة التي أحصنها الله عن القبائح والزنا ، وهو وطء في قبل المرأة خال عن ملك وشبهة فوطىء البهيمة ، واللواطة ليس بزنا ، والسحر ويقتل الساحر ذكراً كان أو أنثى ، إذا كان سعيه بالإفساد والإهلاك في الأرض ، وأما إذا كان سعيه بالكفر ، فيقتل الذكر وتضرب الأنثى وتحبس ، وأكل مال اليتيم إلا بجهة الشرع ، كما قال الله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (الأنعام : 152) ، وأما ما أخذه قضاة الزمان حقاً للقسمة ، فأصله مشروع إذا لم يعين له من بيت المال حق وكميته مشكلة وعقوق الوالدين المسلمين إذا كان مؤدياً إلى إضاعة الحقوق ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأما إذا كانا كافرين قال الله تعالى في حقهما : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (العنكبوت : 8) ، والإلحاد في الحرم ؛ أي : الذنب فيه ، ولو صغيرة ، فالكبيرة فيه كبيرتان.
وقيل : الإلحاد فيه مع الناس عن عمارته ، ومن عمارته الحج ، فالأعراب الذين يقطعون طريق الحجاج في هذه الزمان إن استحلوا ذلك كفروا ، وإلا أثموا إثماً كبيراً ، وأكل الربا ؛ أي : الانتفاع بالربا سواء كان أكلاً أو غيره ، وإنما ذكر أكله لكونه معظم منافعه ، والسرقة ونصابها عند أبي حنيفة قدر عشرة دراهم عيناً ، أو قيمة ، وهذا نصاب السرقة في حق القطع ، وأما في حق العيب ، فأخذ ما دون عشرة يعد سرقة أيضاً شرعاً ، ويعد عيباً حتى يرد العبد به على بائعه وشرب الخمر ، وقطع الطريق خصوصاً إذا كان مع أخذ المال ، فإنه فوق السرقة وشهادة الزور واليمين الغموس وسوء الظن بالله وحب الدنيا ولعن الرجل ، الدية سواء كان بوسط أو بغيره ، ومعنى بوسط أن يسب أبا رجل وأمه ، فيست هو أباه وأمه وأذية الرسول عليه السلام ؛ فإنها فوق عقوق الوالدين وسب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال القهستاني : سب أحد من الصحابة ليس بكفر كما في "خزانة المفتين" وغيرها ، لكن في "مجموع النوازل" لو قال أحد : من يسب الشيخين ، أو يلعنهما رضي الله عنهما ، لم يقتص منه ؛ فإنه كافر ؛ لأن سبهما يصرف إلى سب النبي عليه السلام ، وسب الختنين ليس بكفر كما في "الخلاصة" ، وهو مشكل ؛ لأن سب أهل العلم على وجه الإهانة إذا كان كفراً ، فكيف لا يكون سب الختنين كفراً ، وسب العالم بالعلوم الدينية على وجه المزاح ، فإنه يعزر والإصرار على الصغيرة ، فإنه عليه السلام قال : "لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار".
وقد قال الإمام علاء الدين التركستاني الحنفي رحمه الله في "منظومته" : عدد الكبائر سبعون :(8/251)
فمنها : الغناء ، بالكسر والمد ، وقد يقصر ، وهو رفع الصوت بالأشعار والأبيات على نحو مخصوص.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في "الإحياء" : واحتجوا على حرمة الغناء بما رواه أبو أمامة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله له شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك".
قال بعضهم : المراد به الغناء الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان من الشهوة ومحبة المخلوقين لا ما يحرك الشوق إلى الله ، ويرغب في الآخرة.
ومنها : الظلم والغيبة والتجسس والتطفيف في الكيل والوزن والكبر والعجب والحسد وترك الوفاء بالعهد والخيانة في نسوة الجيران وترك الصلاة والصوم والزكاة والحج
328
إذا كان له استطاعة.
وفي الطريق أمن ونسيان القرآن ، وكنتم الشهادة ، وقطع الرحم والسعي بين اثنين بالفساد والحلف بغير الله والسجدة لمخلوق ، فإنها كعبادة الصنم وترك الجمعة ، والجماعة ، وأن يقول لمسلم يا كافر ومصادقة الأمير الجائر ونكاح الكف.
وفي الحديث : "ناكح الكف ملعون" ، وهو من يعالج ذكره بيده حتى يدفق ، كما قال في "شرح المنار" لابن الملك.
وقال الرهاوي : لم أجده في كتب الحديث ، وإنما ذكره المشايخ في كتب الفقه ، وفي "حواشي البخاري" : والاستمناء باليد حرام بالكتاب والسنة.
قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ} إلى قوله : {فأولئك هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون : 7) ؛ أي : الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
قال ابن جريج : سألت عطاء عنه.
قال : سمعت أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى وأظنهم هؤلاء نعم يباح عند أبي حنيفة وأحمد ، إذا خاف على نفسه الفتنة وأراد تسكين الشهوة.
وكذلك يباح الاستمناء بيد امرأته وجاريته عند الضرورة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ومنها : تعييب أحد من الناس والقصاص بغير عدل وترك العدل في القسم وترك الشكر في القسم واللواطة ، وإتيان المرأة في الحيض والسرور بالغلاء والخلوة بالأجنبية ، وإتيان البهيمة.
وقد كان بعض الجهال من الزهاد يفعله تسكيناً للشهوة ، ثم علم حرمته وتاب.
وفي "نوادر أبي يوسف" ويطأ بهيمة نفسه تذبح وتحرق إن لم تكن مأكولة ، وإن كانت مما يؤكل تذبح ولا تحرق ، وإن كانت لغيره تدفع إلى الفاعل على القيمة ، وتذبح وتحرق.
وقال بعضهم : تؤكل وفي الأجناس من أصحابنا من قال : تذبح وتحرق على وجه الاستحباب أما بهذا الفعل لا يحرم أكل الحيوان المأكول.
كذا في "خزانة الفتاوى".
ومنها : تصديق الكاهن ، وهو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب واللعب بالنردشير.
وفي الحديث : "من لعب الشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير.
الشطرنج معرب (صدرنك ورنك) في الفارسية : الحيلة والنردشير اللعب المعروف بالنرد.
قال صاحب "الهداية" يكره اللعب بالنرد والشطرنج ، والأربعة عشر ، وكل لهو ؛ لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص ، وهو اسم لكل قمار ، وإن لم يقامر ، فهو عبث.
ومنها : النياحة واستباحتها وإظهار الصلاح وإخفاء الفسق وتعييب الطعام واستماع الملاهي.
وفي الحديث : "استماع صوت الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها كفر ، وهو على وجه التهديد ، ولو أمسك شيئاً من المعازف كالطنبور والمزمار ونحوهما يأثم ، وإن كان لا يستعملهما ؛ لأن إمساكهما يكون للهو عادة.
ومنها : الرقص بالرباب ونحوه ، ودخول بيت الغير بغير إذنه ، والنظر فيه ، والنظر إلى الوجه المليح عن شهوة ، فإن الصبيح في حكم النساء بل أشد ، ولذا قيل : إن مع كل امرأة شيطانين ، ومع كل غلام ثمانية عشر شيطاناً ، وكان محمد بن الحسن صبيحاً ، وكان أبو حنيفة رحمه الله يجلسه في درسه خلف ظهره ، أو خلف سارية المسجد حتى لا يقع عليه بصره مخافة من خيانة العين مع كمال تقواه.
وفي "بستان الفقيه" ، ويكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء ؛ لأنه يذهب بالمهابة ورؤي واحد في المنام بعد موته ، وقد اسود وجهه ، فسئل عن ذلك ، فقال : نظرت إلى غلام ، فاحترق وجهي في النار.
ومنها : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسخرية وأخذ الصلة والعطاء من أهل الجور.
وقال قوم : إن صلات السلاطين تحل للغني والفقير إذا لم يتحقق أنها حرام ، وإنما التبعة على المعطي.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إذا كان ظاهر الإنسان
329
الصلاح والستر ، فلا حرج عليك في قبول صلاته وصدقته ، ولا يلزمك البحث ، بأن تقول فسد الزمان ، فإن هذا سوء ظن بذلك الرجل المسلم.
{وَالْفَوَاحِشَ} : (وازكار هازشت).
جمع فاحشة ، وهي القبيحة أو المفرطة في القبح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال في "القاموس" : الفاحشة الزنا ، وما يشتد قبحه من الذنوب ، فيكون عطف الفواحش على الكبائر من عطف البعض على الكل إيذاناً بكمال شناعته.
وقيل : هما واحد والعطف لتغاير الوصفين ؛ كأنه قيل : يجتنبون المعاصي ، وهي عظيمة عند الله في الوزن وقبيحة في العقل والشرع.
(8/252)
وفي "التأويلات النجمية" : كبائر الإثم حب الدنيا ومتابعة الهوى ؛ فإنها رأس كل خطيئة ومنشؤها ، والفواحش هي الاشتغال بطلب الدنيا وصرفها في اتباع الهوى.
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} : إذا ظرفية عمل فيها يغفرون.
والجملة الاسمية : هي المعطوفة على الصلة ، وهي يجتنبون عطف اسمية على فعلية ، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون لا أنها شرطية ، والاسمية جوابها لخلوها عن الفاء ، وما زائدة مع إذا فإنها وإن كانت تزاد مع إذا التي للشرط ، لكن في إذا الزمانية معنى الشرط ، وهو ترتب مضمون جملة على أخرى ، فتضمنت معنى حرف الشرط ، فلذلك اختير بعدها الفعل لمناسبة الفعل الشرط ، وإذا الزمانية للمستقبل ، وإن كانت داخلة على المضي كما عرف في النحو والغضب ثوران دم القلب إرادة الانتقام.
ولذلك قال عليه السلام : "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه".
وقوله : هم مبتدأ ويغفرون خيره.
والمغفرة هنا ، بمعنى العفو والتجاوز والحلم وكظم الغيظ.
والمعنى : وهم يعفون ويتجاوزون ويحملون ويكظمون الغيظ وقت غضبهم على أحد ويتجرعون كاسات الغضب النفسانية بأفواه القلوب الروحانية الربانية ، ويسكنون صورة الصفة الشيطانية.
وبالفارسية : (ووقتى كه خشم كيربد بر مردمان بيست رنجى وزيانى ومكروهى كه بديشان رسانند ايشان در ميكذر انندانرا وعفو ميكنند).
وفيه دلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب لعزة منالها لا يزيل الغضب أخلاقهم كسائر الناس ، وذلك ؛ لأن تقديم الفاعل المعنوي ، أو التقديم مطلقاً يفيد الاختصاص ، ثم يجوز في النظم أن يكون هم تأكيداً للفاعل في قوله : غضبوا وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط وكذا في "الحواشي السعدية".
قال بعض الكبار في قوله : للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إشارة إلى مقام الرضا وتوحيد الأفعال ، والصفات ، فتوحيد الأفعال بإصلاح الطبيعة وتوحيد الصفات بإصلاح النفس بالاجتناب عن كبائرالإثم ، وفواحش الشرك والسيئات ، والاحتراز عن العضب ، وسائر رذائل الصفات.
قيل لبعض الأنبياء : إذا خرجت من بيتك غداً ، فكل من استقبلك أولاً واستر الثاني ، وأعرض عن الثالث ، فلما كان الغد استقبله جبل عظيم ، فقصد إلى أكله امتثالاً للأمر ، فصار تفاحة ، فأكلها فوجدها ألذ الأشياء ، ثم وجد طشتاً من ذهب ، فكلما ستره خرج ، ثم رأى مزابل ، فأعرض عنها ، فقيل : أما الجبل فالشدة والغضب ، فعند ظهورها ترى كالجبل ، فبالصبر وقصد الهضم تصير حلواً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
تحمل نما يد جو رهرت نحست
ولى شهد كردد جودر طبع رست
وأما الطشت ، فالحسنات وحسن الحال ، فكلما قصد صاحبها إلى سترها انكشفت :
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود فاش كردد بيوى
330
وأما المزابل ، فالدنيا :
جاى روح باك عليين بود
كرم باشد كش وطن سركين بود
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} : نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإيمان ، فاستجابوا له ؛ أي : لرسول الله من صميم القلب ، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة.
وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل ، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف ، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان ، فما وجه العطف عمع عدم التغاير بين الوصفين ، ولا يلزم فيه أن تكون الآية مدنية ، فإن كثيراً منهم أسلموا بمكة قبل الهجرة.
وفي الآية إشارة إلى استجابة خطاب ارجعي إلى ربك ، فإنها استجابة مخصوصة بالنفس حاصلة لها بالسلوك.
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا} من أوصاف الأنصار أيضاً ، والمراد : الصلوات الخمس ، فإنهم يجدون أوقاتها ، وإن كان تفاوت قليل في ساعات الليل والنهار في الحرمين الشريفين على ما جربناه.
قال العلماء من الناس من لم يجد وقت المغرب والعشاء ؛ لأنه يطلع الفجر حين تغرب الشمس ، فيسقط عنهم ما لا يجدون وقته ، وهذا كما أن رجلاً إذا قطع يداه مع المرفقين أو رجلاه مع الكعبين ، ففرائض وضوئه ثلاثة لفوات محل الرابعة ، وإنما ذكر إقامة الصلاة ، ولم يذكر غيرها من العبادات ، كإيتاء الزكاة والصوم مثلاً ؛ لأنه ما بين العبد والإيمان إلا إقامة الصلاة ، كما أنه ما بينه وبين الكفر إلا ترك الصلاة ، فإذا أقام الصلاة فقد آمن وأقام الدين كما إذا تركها ، فقد كفر وهدم الدين.
وفي الحديث : "أول ما يحاسب العبد يوم القيامة بصلاته ، فإن صلحت أفلح وأنجح ، وإن فسدت ، فقد خاب وخسر".
وقال عليه السلام : "أول ما يحاسب الرجل على صلاته ، فإن كملت وإلا أكملت بالنافلة" ، ثم يأخذ الأعمال على قدر ذلك.
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مصدر كالفتيا بمعنى التشاور وأصل : من الشور وهو الإخراج تسمى به ؛ لأن كل واحد من المتشاورين في الأمر يستخرج من صاحبه ما عنده.
والمعنى : وأمرهم ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه.
وبالفارسية : (كار ايشان بامشور تست ميان ايشان).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/253)
قال سعدي المفتي : فإن قلت : لا حاجة إلى إضمار المضاف لظهور صحته وشأنهم نشاور ، قلت : المصدر المضاف من صيغ العموم ، فيكون المعنى جميع أمورهم تشاور ولا صحة له إلا أن يقصد بالمبالغة في كثرة ملابستهم به وعلى هذا ، فيجوز أن يكون قوله : ذو شورى لبيان حاصل المعنى.
انتهى ، وكانوا قبل الهجرة ، وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، وذلك من فرط تدبرهم وتفقههم في الأمور :
مشورت بهر آن صواب آمده
در همه كار شورت بايد
وفي "عين المعاني" : وأمرهم شورى بينهم حين سمعوا بظهوره عليه السلام ، فاجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصر له.
وقيل لها : العموم ؛ أي : لا يستبدون برأيهم فيما لا وحي فيه من أمر الدين ، بل يشاورون الفقهاء.
وقيل : في كل ما يعرض من الأمور.
انتهى.
قال علي رضي الله عنه : نعم الموازنة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد.
قال حكيم : اجعل سرك إلى واحد ومشورتك إلى ألف.
وقيل : إن من بدأ بالاستخارة وثنى بالاستشارة لحقيق أن لا يضل رأيه.
قال الإسكندر : لا يستحقر الرأي الجزيل من الرجل الحقير ، فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها.
يقال : أعقل
331
الرجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب ، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط وأورع النساء لا يستغني عن الزوج.
وفي الآية إشارة إلى التمسك بذيل إرادة المشايخ في السلوك إلى الحضرة ليتسلكوا بمشاورتهم وإرشادهم لا باسترسال النفس والهوى وتلقين الشيطان ، كما قال الجنيد قدس سره : من لم يكن له أستاذ ، فأستاذه الشيطان.
{وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} من الأموال {يُنفِقُونَ} ؛ أي : في سبيل الخير ولا التفات إلى إنفاق الكافر ؛ فإنه لم يستجب لربه بالإيمان والطاعة ، فخيره محبط بكفره ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات كما في "الإرشاد".
وقال سعدي المفتي : ثم إن إدخال هذه الجملة في مرهم العين ، لعله لمزيد الاهتمام بشأن التشاور للمبادرة إلى التنبيه على أن استجابتهم للإيمان كانت عن بصيرة ورأي سديد.
انتهى.
وفي الآية دلالة على فضيلة الإنفاق والتوكل على الغني الخلاق.
حكي : أن بعض الشيوخ أخذه الناس ليشهدوا عند سلطان المغرب بفسقه وبكونه واجب القتل ، فمر الشيخ في الطريق بخباز ، فاستقرض منه نصف خبز فتصدق به ، فلما حضر وافى الديوان شهدوا له بالخير ، ولم يقدروا على خلافه ، وذلك ببركة الصدقة ، كما قال عليه السلام : اتقوا النار ، ولو بشق تمرة ، فإذا كان نصف تمرة وقاية من النار الكبرى ، فكيف لا يكون نصف خبر وقاية من النار الصغرى رسول الله.
(فرموده كه است كه صدقة نهاني خشم حق رابنشاند ودر موقف قيامت صدقة راساية است كه از حرارت آفتاب آن روزنكاه داردو دوساية صدقة خود آسوده باشد تاحكم خلق بآخر رسد).
قال الصائب :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
زمان خويش بإحسان تمتعى بردار
مشو جو كنج بنامى جوازدها قانع
سئل الشبلي قدس سره عن الزكاة ، فقال : أما عليك ففي عشرين درهماً ، خمسة دراهم وأما علي ففي عشرين درهماً عشرون درهماً ، يعني : أن مذهب الصوفية بذل الكل ، والتوجه من الأسباب إلى المسبب ، فقال : هذا مذهب من؟ فقال : مذهب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك أن الصديق رضي الله عنه أنفق جميع ماله للتجرد والخلاص من الشح ، ولم يبق له شيء يتستر به ، فأرسلت إليه فاطمة رضي الله عنها خرقة فتستر بها ، وعزم إلى مجلس النبي عليه السلام ، فنزل جبرائيل عليه السلام على زي أبي بكر ، فسأله النبي ، فقال : "إن ملائكة السماء كلهم على هذا الزي اتباعاً لأبي بكر" ، ثم قال : "إن الله تعالى يسلم عليك ، ويقول : قل لأبي بكر رضي الله عنه هل رضي مني؟ فقد رضيت عنه" ، وعلم منه أن ترك الدنيا وسيلة إلى رضا الله تعالى.
كما أن ترك ما سوى الله موصل إلى الله ، ثم إن الإنفاق لا ينحصر في المال ، بل يتناول كل بر ومعروف ، كما قال عليه السلام : "كل معروف صدقة" ، والمراد : ما عرف فيه رضي الله تعالى من الأموال والأقوال والأفعال ، وإنفاق الواصلين إلى التوحيد والمعرفة أشرف وأفضل ؛ لأن نفع الأموال للأجساد ، ونفع المعارف للقلب والأرواح.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
در كشف الأسرار فرموده كه أبو بكر شبلي بيش ازانكه قدم دركوى طريقت نهاد بيش از ايشان ببغداد مير سيد عادت داشت كه دزديده بمجلس جنيد رفتى روزى برزبان جنيد برفت كه اكر همه بت برستان وناكسان عالم رابفردوس أعلى فرود آرد هوز حق سبحانه وتعالى كرم خود رانكزارده باشد شبلي ازجاى برجست
332
(8/254)
نعره زنان وجامه درآن كفت منم ازنا كسان جه كويى مرابذيرد درين حال جنيد كفت اى جوان بمراسلت موسى وهارون جندين سال فرعون مدبر راميخواندند تابيذيرد اكر سوخته موحد كه به باى خود آيد أوراجون نبذير دشبلي دركار آمد وهرجه داشت از ضياع وأثواب وأموال جمله درباخت ومجرد ماندانكه كفت اى شيخ مراجه بايد كرد كفت دربازار بايد شد ودريوزه بايد كرد همجنان كرد تاجنان كشت كه كس بوى خبرى ندارد بس جنيد تازيانه بوى داد وكفت درين سردابة شودرد راباندوه وخشم باب حسرت سبار وهركاه كه خبر حق بر خاطر كذر كند باين تازيانه اندامهاى خويش درهم شكن شبلي سه سال دران سردابه آب حسرت ازديدكان خمى ريخت وبروز كار كذشته دريغ وتحسر همى خورد بعد ازسه سار سكرى دروى بديد آمد همجو مستان واله وسر كردان ازان سردابه برون آمد كاردى بدست كرفت ودر بغداد همى كشت وميكفت بجلال قدر حق كه هركه نام دوست بردباين كارد سرش ازتن جدا كنم آن خبر بجنيد رسيد جنيد كفت اورا شربتى داده اند مست كشته ازمستى وبيخودى ميكويد آنجه ميكويد جون باخود آيدسا كن شود يكسال دران مقامش بداشتند جون ازان مقام در كذشت دامن خويش بزار شكر كرده بكرد محلها ميكشت وميكفت هركه بكويد الله وهانش براز شكر كنم بس عشق وى روى درخر أبى نهاد بيوسته درهمه اوقات همى كفت الله تاروزى كه جنيد كفت يا أبا بكر اكرودست غايبست اين غيب كردن جراست واكر حاضراست اين كستاخى وترك أدب از كجاست سخن جنيد أورا ساكن كرد بس جنيد بفرمود تا أورا بحمام بردند وموى جند ساله از سروى فرو كردند آنكه وست وى عرفت وبمسجد شونيزيه برد هشتاد از جوا نمردان طريقت وسلاطين حقيقت حاضر بودند جون أبو الحسين نورى وابو علي رود بارى وسمنون المحب ورويم بغدادي وجعفر خلدى وامثال ايشان جنيد كفت اي مشايخ وأصحاب هرجه بير سرى سقطى از رياضت ومجاهده ازمابديد ما ازين كودك بديديم اكر اجازت فرماييد بالباس بكرداند باشدكه بركات اين لباس اورا بر استقامت دين بداردو اكر حق اين لباس فرو نهد لباس خود ازوى دادخود يستاند جنيد برباى خاست ومرقع از سر خود بركشيد ودر كردن شبلي افكند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يقول الفقير : في هذه الحكاية إشارات :
منها : أن الشبلي قدس سره خرج من جميع ماله ، فصار نظير الصديق رضي الله عنه من هذه الأمة :
صائب حريف سيلى باد خزان نه
بيش از خران خود بفشان برك وباررا
ومنها : أن الجنيد قدس سره : اتفق على الشبلي من معارفه وأنعم عليه حال إرشاده من عوارفه ؛ لأن الغنى مأمور بإنفاق بعض ماله عند وجدان مصارفه.
قال الحافظ :
اي صاحب كرامت شكرانه سلامت
روزى تفقدى كن درويش بى نوارا
ومنها : أن المريد لا يصلح لخرقة المشايخ إلا بعد الاستعداد لها بمدة ، وأن الخرقة من شأن أهل التجرد.
قال الجامي :
333
ر صلش مجوى در اطلس شاهى كه دوخت عشق
اين جامه برتنى كه نهان زيرزنده بود
ومنها : أن ابتداء الأمر من الله وانتهاءه أيضاً إلى الله ألا إلى الله تصير الأمور ، والله خير وأبقى :
جند بويد بهواى تو بهر سو حافظ
يسر الله طريقاً بك يا ملتمسي
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} معطوف على ما قبله من الموصول والإصابة.
بالفارسية : (برسيدن).
والبغي : الظلم والتجاوز عن الحد والقصر المفهوم من تقديم هم إضافي والانتصار طلب النصرة.
وفي "تاج المصادر" : (دادستدن).
والمعنى : إذا وصل إليهم الظلم والتعدي من ظالم متعد ينتقمون ويقتصون ممن بغى عليهم على الوجه الذي جعله الله ، ورخصة لهم لا يتجاوزون ذلك الحد المعين ، وهو رعاية المماثلة ، وأما غيرهم ، فليسوا كذلك ، فهذا هو معنى التخصيص هنا.
وبه أيضاً تندفع المخالفة بين وصفين كل منهما على طريق القصر ، وهذا وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل من الدين ، والتيقظ والحلم والسخاء.
وذلك لأن البغي إنما يصيبهم من أهل الشوكة والغلبة ، وإذا انتقموا منهم على الحد المشروع كراهة التذلل باجتراء الفساق عليهم وردعاً للجاني عن الجراءة على الضعفاء ، فقد ثبت شجاعتهم وصلابتهم في دين الله.
وكان النخعي رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترىء عليهم السفهاء.
قال الشاعر : ()
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشج فلا يرثي له أحد
أي : لا يبصر على ظلم يراد في حقه إلا الأذلان اللذان هما في غاية الذل ، وهما : الحمار المربوط على الذل بقطعة حبل بالية ، والوتد الذي يدق ويشق رأسه ، فلا يرحم له أحد ، ولفظ البيت خبر.
والمعنى : نهي عن الصبر على الظلم وتحذير وتنفير للسامعين عنه ، فإن قلت : لما كان عطف الذين استجابوا من عطف الخاص تضمن وصف المعطوف عليه ، وصف المعطوف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/255)
قلت : هذا الانتصار لا ينافي وصفهم بالغفران ، فإن كلاً منهما فضيلة محمودة في موقع نفسه ورزيلة مذمومة في موقع صاحبه ، فإن الحلم عن العاجز وعورات الكرام محمود ، وعن المتغلب وهفوات اللئام مذموم ، فإنه إغراء على البغي ، وعليه قول من قال () :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندا في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندا
فالعفو على قسمين :
أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن بغايته فآيات العفو محمولة على هذا القسم ، فزال التناقض ، فمن أخذ حقه من ظالم غير عاد لأمر الله ، فهو مطيع.
وقال ابن زيد وبعض المالكية : جعل الله المؤمنين صنفين صنفاً يعفون عن ظالميهم ، فبدأ بذكرهم في قوله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون وصنفاً ينتصرون من ظالميهم.
وقال بعضهم : اوول وصف الخواص.
وهذا وصف العوام.
وقال الكاشفي : (جون برسد ايشانرا ستمى از كافران ايشان از دشمنان خود انصاف بستانند بشمشير يعني از ايشان انتقام كشند زيرا كه انتقام از كفار فرض است وجهاد كردن با ايشان لازم).
وأشارت الآية إلى
334
أن الظالم مغلوب قال علي كرم الله وجهه : لا ظفر مع البغي.
هركه ازراه بغى خيرى جست
بس جنانست آن ظفر كه بتافت
{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ} (وباداش كرداريد) {سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} كراداريست مانند آن.
وهو بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة مع كونه في نفسه إساءة إلى الغير بالإشارة إلى أن البادي هو الذي فعله لنفسه ، فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتماً إن خيراف فخير وإن شراً فشر.
وفيه تنبيه على حرمة التعدي وإطلاق السيئة على الثانية مع أنها جزاء مشروع مأذون فيه ، وكل مأذون حسن لا سيء ، لأنها تسوء من نزلت به ، أو للازدواج.
يعني : المشاكلة كما في قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} ، وعلى هذا فالسيئة مقابل الحسنة بخلافها في الوجه الأول.
والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة.
قال الحسن : إذا قال : لعنك الله أو أخزاك الله ، فلك أن تقول : أخزاك الله أو لعنك الله ، وإذا شتمك ، فلك أن تشتمه بما شتم ما لم يكن فيه حد ، كلفظ الزنا ، أو كلمة لا تصلح ، فلا تجري المقابلة في الكذب والبهتان.
قال في التنوير : قال لآخر : يا زاني ، فقال له الآخر : لا بل أنت الزاني حداً بخلاف ما لو قال له مثلاً : يا خبيث ، فقال : أنت تكافئا ولو لم يجب ، بل رفع الأمر إلى القاضي ليؤدبه جاز.
وعن بعض الفقهاء في هذه الآية.
وقد قيل : إنه الشافعي رحمه الله أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل من غير علمه ، واستشهد في ذلك بقول النبي عليه السلام : "لهند زوجة أبي سفيان : خذي من ماله ما يكفيك وولدك" ، فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
كذا ذكره القرطبي في "تفسيره".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{فَمَنْ عَفَا} عن المسيىء إليه جنايته ، أي : ترك القصاص.
وقال الكاشفي : (بس هركه عفو كند از ستكار خودكه مسلمان باشد وترك انتقام نمايد ازوى).
{وَأَصْلَحَ} بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء.
قال في "الحواشي السعدية" : الفاء للتفريع ، أي : إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة ، وهي عسرة جداً ، فالأولى العفو إلا عزاً.
{فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ} عدة مبهمة منبئة عن عظمة شأن الموعود وخروجه عن الحد المعهود {إِنَّه لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} البادئين بالسيئة والمتعدين في الانتقام ، وهو استئناف تعليلي متعلق بقوله وجزاء.
إلخ.
وقوله : فمن عفا إلخ.
اعتراض يعني : إنما شرعت المجازاة وشرطت المساواة ، لأنه لا يحب الظالمين وذكر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلّم ورجل من المنافقين يسبه وأبو بكر لم يجبه ورسول الله ساكت يتبسم ، فأجابه أبو بكر ، فقام النبي عليه السلام ، وذهب ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالساً ، فلما أجبته قمت ، فقال النبي عليه السلام : "إن ملكاً كان يجيبه عنك ، فلما أجبته ذهب الملك وجاء الشيطان ، وأنا لا أكون في مجلس يكون هناك الشيطان ، فنزل فمن عفا وأصلح فأجره على الله".
وفي الحديث : "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين العافون عن الناس هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم وحق لكل مسلم إذا عفا أن يدخله الجنة".
عفو از كناه سيرث اهل فتوتست
بي حلم وعفو كار فتون نمام نيست
335
وعنه عليه السلام : "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ : أين أهل الفضل ، فيقوم ناس وهم قليلون فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة ، فمن أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون لهم : ادخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين".
(8/256)
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن أرباب القلوب الذين أصابهم الظلم من قبل أنفسهم هم ينتصرون من الظالم ، وهو نفسهم بكبح عنانها عن الركض في ميدان المخالفة وجزاء سيئة صدرت من النفس من قبل الحرص والشهوة أو الغضب أو البخل ، أو الجبن أو الحسد أو الكبر أو الغل.
سيئة تصدر من القلب مثل ما يصادف علاجها ، أي : بضد تلك الأوصاف ، فإن العلاج بأضداد هاو لا يجاوز عن حد المعالجة في رياضة النفس وجهادها ، فإن لنفسك عليك حقاً ، فمن عفا عن المبالغة في رياضة النفس وجهادها بعد أن أصلح النفس بعلاج أضداد أوصافها فأجره على الله تعالى ، أنه لا يحب الظالمين الذين يضعون شدة الرياضة مع النفس موضع العفو.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} اللام لام الابتداء.
ومن شرطية لدخول الفاء في جوابها ، وهو فأولئك أو موصولة.
ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط.
وقوله بعد ظلمه من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : بعد ما ظلم وقرىء به وتذكير الضميرين باعتبار لفظ من.
والمعنى : ولمن انتقم بعد ظلم الظالم إياه يعني في الحقوق المالية.
والجزاء فيما إذا ظفر بالجنس عندنا وعند الشافعي بغير الجنس أيضاً.
فأولئك المنتصرون ، فهو إشارة إلى من والجمع باعتبار المعنى.
{مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} بالمعاتبة أو المعاقبة ، لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار.
(يا ايشانرا كناهى نيست).
والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة.
والآية دفع لما تضمنه السياق من إشعار سد باب الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، أي : يبتدؤنهم بالإضرار أو يعتدون في الانتقام {وَيَبْغُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، أي : يتكبرون فيها تجبراً وإفساداً.
{أُوالَـائِكَ} الموصوفون بما ذكر من الظلم والبغي بغير الحق.
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بسبب ظلمهم وبغيهم.
{وَلَمَن صَبَرَ} على الأذى واللام للابتداء.
ومن موصولة مبتدأ {وَغَفَرَ} لمن ظلمه ، ولم ينتصر ، وفوض أمره إلى الله تعالى وعن علي رضي الله عنه الجزع أتعب من الصبر :
در حوادث بصبر كوش كه صبر
برضاى خداى مقرونست
{إِنَّ ذَالِكَ} منه لأنه لا بد من العائد إلى المبتدأ ، فحذف ثقة بغاية ظهوره كما في قوله : السمن منوان بدرهم.
وفي "حواشي سعدي المفتي" قد يقال : لا حاجة إلى تقدير الراجح ، لأن ذلك إشارة إلى صبره لا إلى مطلق الصبر ، فهو متضمن للضمير فإن قلت : إن دلالة الفعل إنما هي على الزمان ، ومطلق الحدث ، كما قرر فالظاهر رجوع الضمير إليه ، قلت : نعم ، ولكن إسناده إلى ضمير من يفيده.
{لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} ، أي : من معزومات الأمور ، أي : مما يجب العزم عليه من الأمور بإيجاب العبد على نفسه لكونه من الأمور المحمودة عند الله تعالى.
والعزم عند القلب على إمضاء الأمر.
والعزيمة الرأي الج.
كما في المفردات ، وبالفارسية (ازمهم ترين كارها اسب واين).
336
في الحقيقة : (ازكار مردانست كه همه كس راقوت اين نباشدكه جفا كشد ووفاكند).
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
جفا خوريم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافريست رنجيدن
قال في "برهان القرآن" : قوله تعالى : {إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} (الشورى : 43).
وفي لقمان : {مِنْ عَزْمِ الامُورِ} (لقمان : 7) ؛ لأن الصبر على الوجهين صبر على مكروه وينال الإنسان ظلماً ، فمن قتل بعض أعزته وصبر على المكروه ليس كمن مات بعض أعزته ، فالصبر على الأول أشد.
والعزم عليه أوكد ، وكان ما في هذه السورة من الجنس الأول لقوله : ولمن صبر وغفر ، فأكد الخبر باللام.
والآية في المواد التي لا يؤدي العفو فيها إلى الشر ، كما أشير إليه ، فإن العفو مندوب إليه ، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال ، فيرجع ترك العفو مندوباً إليه ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى.
يحكى : أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله ، فكان المسبوب يكظم ويعرق فيسمح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمهما إذ ضيعها الجاهلون.
قال أبو سعيد القرشي رحمه الله : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه يصيبه ، ولم يجزع أورثه الله تعالى حالة الرضا ، وهو أجل الأحوال ، ومن جزع من المصائب وشكاها وكله الله إلى نفسه ، ثم لم ينفعه شكواه.
(8/257)
وقال بعضهم : من صبر في البلوى من غير شكوى ، وعفا بالتجاوز عن الخصم ، فلا يبقى لنفسه عليه دعوى ، بل يبرأ خصمه من جهة ما عليه من كل دعوى في الدنيا والعقبى أن ذلك لمن عزم الأمور.
وروي : أن أزواج النبي عليه السلام : اجتمعن ، فأرسلن فاطمة رضي الله عنها إليه يطلبن منه أن يحبهن كعائشة ، فدخلت عليه ، وهو مع عائشة في مرطها ، وهو بالكسر كساء من صوف أوخز ، فقالت : ما قلن رضي الله عنهن ، فقال عليه السلام لفاطمة : "أتحبينني" فقالت : نعم.
قال : فأحبيها ؛ أي : عائشة ، فرجعت إليهن ، فأخبرتهن بما قال لها ؛ أي : لفاطمة ، فقلن : لم تصنعي شيئاً ، فأردن أن يرسلنها ثانياً ، فلم ترض فأرسلن زينب بنت جحش رضي الله عنها ، وكانت أزهد أزواجه ، حتى قالت عائشة في حقها : لم أر قط امرأة خيراً في الدين من زينب ، وكان لها منزلة عنده عليه السلام تضاهي منزلة عائشة ، فقالت : إن نساءك يسألنك العدل في بنت ابن أبي قحافة ، يعني : يسألنك التسوية بينهن وبين عائشة في المحبة ، ثم أقبلت على عائشة فشتمتها ، فلما استطالت عليها استقبلتها عائشة وعارضتها بالمدافعة حتى قهرتها وأسكتها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "الكشاف" : إن زينب أسمعت بحضرته ، وكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة دونك ، فانتصري ؛ أي : تقدمي واقربي فانتقمي من زينب ، فأفحمتها ، فقال عليه السلام : "إنها ابنة أبي بكر" إشارة إلى كمال فهمها وحسن منطقها.
قال ابن الملك : وفي الحديث دلالة على جواز الانتقام بالحق لكن العفو أفضل لقوله تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ} (الشورى : 40).
قال الصائب :
درجنك ميكندلب خاموش كارتيغ
دادن جواب مردم نادان جه لازمست
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يخلق فيه الضلالة من الهوى أو بتركه على ما كان عليه من ظلم الناس.
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِه وَتَرَى الظَّـالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن} .
{فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِهِ} من ناصر يتولاه من بعد خذلانه تعالى إياه.
وبالفارسية : (وهركرا كمراه سازد خداى تعالى بس نيست مراورا هيج دوستى كه كار سازى كنديس از فرو كذشتن خداى تعالى مراورا).
{وَتَرَى الظَّـالِمِينَ} : الخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية البصرية والظالمون المشركون والعاصون.
{لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} ؛ أي : حين يرونه وصيغة الماضي للدلالة على التحقق.
{يَقُولُونَ} .
337
إلخ.
في موضع الحال من الظالمين ؛ لأن الرؤية بصرية.
{هَلْ} : (آيا هست).
{إِلَى مَرَدٍّ} : بمعنى الرد ؛ أي : الرجعة إلى الدنيا.
{مِّن سَبِيلٍ} : (هيج راهى يا جادة تابرويم وتدارك ما فات كنيم ازايمان وعمال صالح).
وقد سبق بيانه في قوله في {حم} المؤمن ، فهل إلى خروج من سبيل.
{وَتَرَاـاهُمْ} تبصرهم أيها الرائي حال كونهم.
{يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} ؛ أي : على النار المدلول عليها بالعذاب.
وقد سبق معنى العرض في {حم} المؤمن عند قوله : النار يعرضون عليها.
{خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} من للتعليل متعلق بخاشعين ؛ أي : حال كونهم خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل والهوان.
وقد يعلق من الذل بينظرون ويوقف على خاشعين.
{يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ} : الطرف مصدر في الأصل ، ولهذا لم يجمع ، وهو تحريك الجفن وعبر به عن النظر إذ كان تحريك الجفن يلازم النظر ، كما في "المفردات".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : حال كونهم يبتدىء نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف.
يعني : يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها ، وذلة في أنفسهم ، كما ينظرون إلى المقتول إلى السيف ، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها ، كما يفعل في نظره إلى المحاب.
وقال الكلبي : ينظرون بأبصار قلوبهم ، ولا ينظرون بأبصار ظواهرهم ؛ لأنهم يسحبون على وجوههم ، أو لأنهم يحشرون عمياً ، فينظرون كنظر الأعمى إذا خاف حساً.
يقول الفقير : لا حاجة إلى حمل الآية على ما ذكر من الوجهين ؛ لأن لهم يوم القيامة أحوالاً شتى بحسب المواطن ، فكل من النظر والسحب والحشر أعمى ثابت صحيح.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس التي لم تقبل الصلاح بالعلاج في الدنيا تتمنى الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة لتقبل الصلاح بعلاج الرياضات الشرعية والمجاهدات الطريقية ، وتخشع إذ لم تخشع في الدنيا من القهار ، فلا تنفعها ندامة ، ولا تسمع منها دعوة ، ولها نظر من طرف خفي من خجالة المؤمنين ، إذ يعيرونها بما ذكروها ، فلم تسمع ، وهي نفوس الظالمين.
كما قال السعدي :
تراخود بماند سراز تنك بيش
كه كردت برآيد عملهاى خويش
برادرز كار بدان شرم دار
كه درروى نيكان شوى سرمسار
(8/258)
{وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ، وجاهدوا في الله تعالى حق جهاده وربحوا على ربهم.
{إِنَّ الْخَـاسِرِينَ} ؛ أي : المتصفين بحقيقة الخسران ، وهو انتقاص رأس المال ، وينسب إلى الإنسان ، فيقال : خسر فلان وإلى الفعل ، فيقال : خسرت تجارته ويستعمل ذلك في القنيات الخارجة كالمال ، والجاه في الدنيا ، وهو الأكثر.
وفي "القنيات النفيسة" كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعله الله الخسران المبين ، وكل خسران ذكره الله في القرآن ، فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالقنيات الدنيوية والتجارات البشرية وخبر إن قوله تعالى : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} : (آنانندكه زيان كردند بنفسهاى خويش وكسان خود).
بالتعريض للعذاب الخالد.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} : أما ظرف لخسروا ، والقول في الدنيا أو لقال ؛ أي : يقولون لهم حين يرونهم على تلك الحالة وصيغة الماضي للدلالة على تحققه.
وقال الكاشفي : (زيان در نفسها آنست آنرا بعبادت بتان مستوجب آتش دوزخ كردا انيدند وزمان زيان در اهالي اكرد وزخى اندباكه نكه ايشانرا از ايمان بازدا اشتندو اكر بهشى اندبانكه ازديد از ايشان محروم ماندند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال ابن الملك في "شرح المشارق" : الأهل
338
يفسر بالأزواج والأولاد ، وبالعبيد والإماء وبالأرقارب وبالأصحاب وبالمجموع.
وفي "التأويلات النجمية" : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بإبطال استعدادهم إذ صرفوه في طلب الدنيا وزخارفها والالتذاذ بها وخسروا أهليهم إذ لم يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً بقبول الإيمان وأداء الشرائع.
{إِلا} : (بدانيد).
{إِنَّ الظَّـالِمِينَ} ؛ أي : المشركين الذين كانوا في جهنم شهوات النفس جثياً في الدنيا.
{فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ} في الآخرة إلى الأبد.
وبالفارسية : (در عذابي بيوسته اند يعني باقى وبي انقطاع).
أما من تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم.
{وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّا وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا أَلا إِنَّ الظَّـالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّه وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّه مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَـاـاِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُا وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ} .
{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم} بدفع العذاب عنهم.
{مِّن دُونِ اللَّهِ} حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا.
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} : (وهر كرا كمراه سازد خداى تعالى).
{فَمَا لَه مِن سَبِيلٍ} يؤدي سلوكه إلى النجاة.
وفي "التأويلات النجمية" : ومن يضلل الله بأن يشغله بغيره فما له من سبيل يصل به إلى الله تعالى.
قال ذو النون المصري قدس سره : رأيت جارية في جبل أنطاكية ، فقالت لي : ألست ذا النون؟.
قلت : كيف عرفت.
قالت : عرفتك بمعرفة الحبيب ، ثم قالت : ما السخاء؟ ، قلت : البذل والعطاء ، قالت : ذاك سخاء الدنيا فما سخاء الدين ، قلت : المسارعة إلى طاعة رب العالمين.
قالت : تريد شيئاً ، قلت : نعم.
قالت : تأخذ العشرة بواحدة لقوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) ، فأين السخاء؟ قلت : فما السخاء عندك؟.
قالت : إنما هو أن يطلع على قلبك ، فلا يرى فيه غيره.
ويحك يا ذا النون ، إني أريد أن أسأل شيئاً منذ عشرين سنة وأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة ، فلا تعمل إلا تعظيماً لهيبته ، فعلم أن إخراج الغير من القلب والاشتغال بالله تعالى من أوصاف الخواص ، فمن اهتدى به ربح ، ومن ضل عنه خسر ، وهو بيد الله تعالى ، إذ هو الولي ، فعلى العبد أن يسأل الهداية ، ويطلب الغاية حتى يخرجه الله من ظلمات نفسه الأمارة إلى أنوار تجليات الروحانية ، ويجعل له إليه سبيلاً ينجو به من المهالك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
حكي : أن شيخاً حج مع شاب ، فلما أحرم ، قال : لبيك ، فقيل له : لا لبيك ، فقال الشاب للشيخ : ألا تسمع هذا الجواب ، فقال : كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة.
قال : فلأي شيء تتعب ، فبكى الشيخ ، فقال : فإلى أي باب ألتجىء ، فقيل له : قد قبلناك.
فهذا من هداية الله الخاصة ، فافهم جداً.
قال الصاحب :
بنو ميدى مده تن كرجه دركام نهنك افتى
كه دارد دردل كرداب بحر عشق ساحلها
(8/259)
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم} إذ دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه عليه السلام.
{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّهِ} ؛ أي : لا يرده الله بعدما حكم به على أن من صلة مرد ؛ أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يمكن رده.
وفي تعليق الأمر بالاستجابة اسم الرب ، ونفي المراد والإتيان بالاسم الجامع نكتة لا تخفى كما في "حواشي سعدي المفتي".
{مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَـاـاِذٍ} ؛ أي : مفر تلتجئون إليه ؛ أي : ما لكم مخلص ما من العذاب على ما دل عليه تأكيد النفي بمن استغراقية ، والملجأ.
بالفارسية : (بناه وكريز كاه).
{وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} ؛ أي : إنكار ما لما اقترفتموه ؛ لأنه مدون في صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوارحكم ، وهو مصدر أنكر على خلاف.
ولعل المراد : الإنكار المنجي وإلا فهم يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين.
وغير ذلك ، ولذلك تشهد عليهم أعضاؤهم.
قال الجنيد قدس سره : استجابة الحق ، لمن يستمع هواتفه وأوامره وخطابه فيتحقق له الإجابة بذلك السماع ، ومن يستمع الهواتف كيف يجيب ، وأتى له محل الجواب.
وفي "التأويلات النجمية" :
339
يشير بقوله : استجيبوا لربكم للعوام إلى الوفاء بعهده ، والقيام بحقه والرجوع عن مخالفته إلى موافقته ، وللخواص إلى الاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها إجابة لقوله تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ} (يونس : 25) ، ولأخص الخواص من أهل المحبة إلى صدق الطلب بالإعراض عن الدارين متوجهاً لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال مجيباً لقوله : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب : 46) ، والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح ، وعن قريب سيغلق الباب على القلوب بغتة ، ويأخذ فلتة.
وذلك قوله تعالى : من قبل أن يأتي.
إلخ.
ونعم ما قال الشاعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
أي : استمتع بشم عرار نجد ، وهي وردة ناعمة صفراء طيبة الرائحة ، فإنا نعدمه إذا أمسينا لخروجنا من أرض نجد ومنابته ، فالإشارة إلى شم عرار الحقيقة ، فإنه إنما يكون ما دام الروح الإنساني في نجد الوجود الشهودي وحده ، فإن انتقل منه إلى حدّ البرزخ بزوال شمس الحياة والانتهاء إلى عشية العمر ، فلا يمكن شمه أصلاً.
جون بى خبران دامن فرصت مده ازدست
تاهست بروبال زعالم سفرى كن
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة ، وتوجيه له إلى الرسول عليه السلام ؛ أي : فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه ، فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم ، وحافظاً لأعمالهم.
وبالفارسية : (نكهبانى كه از عمل بد ايشانرا نكاه دارى).
وفيه تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
{إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُ} ؛ أي : ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وقد فعلت فلا يهمنك إعراضهم.
وفي "التأويلات النجمية" : فإن أعرضوا عن الله بالإقبال على الدارين ، ولم يجيبوا ، فما أرسلناك عليهم حفيظاً من الالتفات إلى الدارين ؛ لأن الحفظ من شأني لا من شأنك ، فإني حفيظ ، فليس عليك إلا تبليغ الرسالة ، ثم نحن نعلم بما نعاملهم بالتوفيق ، أو بالخذلان.
قال الغزالي رحمه الله في شرح الأسماء : الحفيظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه من سطوة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان ، فإنه على شفا جرف هار ، وقد اكتنفته هذه المهلكات المفضية إلى النار.
وقد عرف كلها من لسان الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم ، فليسارع العبد إلى دفع الموبقات ، وجلب المنجيات بإصلاح النفس والتخلق بالأخلاق الإلهية ، فإن النفس طاغية مؤدية إلى الإفلاس والخسار.
وفي الحديث : "أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع".
قال عليه السلام : "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا ، أو سفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، فإن فنيت حسنانه قبل أن يقضي أخذ من خطاياهم وطرحت عليه ثم يطرح في النار" ، فلا ينبغي للعاقل أن يبقى مع النفس ، فإنه إذا نزل عليه العذاب غضباً للنفس لا يجد ولياً يتولاه ، ولا نصيراً ينصره ولا ملجأ يفر إليه ، فهذه حال المعرضين ، وأما حال المقبلين القابلين للبلاغ والإرشاد ، فالله تعالى يحفظهم مما يخافونه يوم المعاد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
خجل آنكس كه رفت وكار نساخت
كوس رحلت زدند وبار نساخت
{وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا} : (از نزديك
340
خود).
{رَحْمَةً} ؛ أي : نعمة من الصحة والغنى والأمن.
{فَرِحَ بِهَا} بطر لأجلها.
(8/260)
وقال الكاشفي : (خوش شود بدان وشادى كند).
اعلم أن نعمة الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، فلذلك سمى الإنعام بها إذاقة.
وبالفارسية : (جشانيدن).
فالإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ودخل في قصر السعادات ، ولذا ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وإلا لاختار الباقي على الفاني ؛ لأن الفاني كالخزف مع أنه قليل ، والباقي كالذهب مع أنه كثير.
(افتد هماى دولت اكردر كمندما.
ازهمت بلند رعا ميكنيم ما).
{وَإِن تُصِبْهُمْ} ؛ أي : الإنسان ؛ لأن المراد به الجنس.
{سَيِّئَةُ} ؛ أي : بلاء من مرض وفقر وخوف مما يسوؤهم.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عملت أنفسهم من كفرانهم بنعم الله وعصيانهم فيها ، وذكر الأيدي ؛ لأن أكثر الأعمال تباشر بها ، فجعل كل عمل كالصادر بالأيدي على طريق التغليب.
{فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ} .
قال الراغب : كفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها وأعظم الكفر جحودهم الوحدانية ، أو النبوة ، أو الشريعة والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً ، والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما جميعاً.
والمعنى : فإن الإنسان بليغ الكفر ينسى النعمة بالكلية ويذكر البلية ويستعظمها ، ولا يتأمل سببها ، بل يزعم أنها أصابته بغير استحقاق لها ، وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص المجرمين لغلبتهم فيما بين الأفراد ، يعني : أنه حكم على الجنس بحال أغلب أفراده للملابسة على المجاز العقلي وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة ، للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع ، وأنه مقتضى الذات كما أن تصدير الثانية بأن وإسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها ، وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات ، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس مرسوم بكفران النعم.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
امام ابو منصور ماتريدي رحمه الله فرموده كه كفران مؤمن آنست كه ترك شكر كند).
قال بعض الكبار : (ع) : (درشكر همجو جشمه ودر صبر خاره ايم).
وعن عليّ رضي الله عنه : إذا وصلت إليكم أطراف النعمة ، فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.
يعني : من لم يشكر النعم الحاصلة لديه الواصلة إليه حرم النعمة الغائبة منه القاصية عنه.
(جون بيابى تو نعمتى درجند.
خرد باشد جو نقطة موهوم.
شكران يافته فرومكرار.
كه زنا يافته شوى محروم).
وعنه رضي الله عنه أيضاً أقل ما يلزمكمأن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
قال الحسن : إذا استوى يوماك فأنت ناقص قيل : كيف ذاك ، قال : إن الله زادك في يومك هذا نعماً فعليك أن تزداد فيه شكراً ، وقد مد الله عمر بعض الإنسان وأكثر عليه فضله كنمرود وفرعون ونحوهما إنهم لم يزدادوا كل يوم إلا كفراناً فعاملهم الله بالعدل حتى هلكوا أقبح الهلاك.
وفي الآية إشارة إلى أن من خصوصية الإنسان إذا وكله الله إلى نفسه أن لا يشكر على ما فتح الله عليه من المواهب الإلهية ، وفتوحات الغيب ، وأنواع الكرامات التي تربى بها أطفال الطريقة ليزيده الله ، بل ينظر إلى نفسه بالعجب ويفشي سره على إلحاق إراءة وسمعة ، فيغلق الله أبواب الفتوجات بعد فتحها.
341
قال الصائب :
نجام بت برست بودبه زخود برست
درقيد خود مباش وبقيد فرنك باش
ومن الله العون.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُا وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ * لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّه عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآىاِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُا إِنَّه عَلِىٌّ حَكِيمٌ} .
(8/261)
{مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : يختص به ملك العالم كله لا يقدر أن يملكه أحد سواه ، فله التصرف فيه وقسمة النعمة ، والبلية على أهله ، وليس عليهم إلا الشكر في النعمة والصبر في البلية والرضا والتسليم للأحكام الأزلية.
وبالفارسية : (وخداير است بادشاهى آسمانها وزمينها).
{يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} مما يعلمونه ومما لا يعلمونه على أي صورة شاء.
{يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا} من الأولاد.
يعني : (مى بخشد هر كرامى خواهد دختران).
فلا يجعل معهن ذكوراً ، يعني : (بسران).
مثل ما وهب لشعيب ولوط عليهما السلام والهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض والوهاب هو الله تعالى ؛ لأنه يعطي كلاً على قدر استحقاقه ، ولا يريد عوضاً ، والإناث جمع أنثى خلاف الذكر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والجملة بدل من يخلق بدل البعض قدم الإناث ؛ لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لتطييب قلوب آبائهن إذ في التقديم تشريف لهن وإيناس بهن ، ولذلك جعل من مواهب الله تعالى مع ذكر اللام الانتفاعية أو الرعاية الترتيب الواقع ، أولاً في الهبة بنوع الإنسان ، فإنه تعالى وهب أولاً لآدم زوجته حواء عليهما السلام بأن ولدها منه وخلقها من قصيراه ، وهي أسفل الأضلاع ، أو آخر ضلع في الجنب كما في "القاموس".
قال في "الكواشي" : ويجوز أنهن قد من توبيخاً لمن كان يئدهن ونكرن إيماء إلى ضعفهن ليرحمن ، فيحسن إليهن.
قال في "الشرعة وشرحه" ، ويزداد فرحاً بالنبات مخالفة لأهل الجاهلية ؛ فإنهم يكرهونها بحيث يدفنونها في التراب في حال حياتها.
وفي الحديث : "من بركة المرأة تبكيرها بالبنات" ؛ أي : يكون أول ولدها بنتاً.
ألم تسمع قوله تعالى : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا} ، الآية.
حيث بدأ بالإناث.
وفي الحديث : "من ابتلي من هذه البنات بشيء ، فأحسن إليهن ؛ أي : بالتزويج بالأكفاء ونحوه كن له ستراً من النار".
والنبي عليه السلام سماهن المجهزات المؤنسات ؛ أي : المهيأ جهازهن سماهن بها تفاؤلاً وتيمناً.
والمؤنسات للوالدين والأزواج.
وفي الحديث : "سألت الله أن يرزقني ولداً بلا مؤونة ، فرزقني البنات".
وفي الحديث القدسي خطاباً للبنت حين ولدت : "انزلي وأنا عون لأبيك".
وفي الحديث : "لا تكرهوا البنات ، فإني أبو البنات".
يقول الفقير : معناه أن كونه عليه السلام أبا البنات يكفي في عدم كراهة البنات ، إذ لا يختار الله له إلا ما هو خير ، ومن لم يرض بما اختاره له تعرض لسخط الله ، وكم ترى في هذا الزمان من السخط على البنات اقتداء بأهل الجاهلية ، ولو كان لهم أسوة حسنة في رسول الله لأحبوا ما أحبه ، وكان لهم في ذلك شرف عظيم.
{وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} من الأولاد يعني : (بسران).
ولا يكون فيهم إناث كما وهب إبراهيم عليه السلام من غير أن يكون في ذلك مدخل لأحد ومجال اعتراض :
با اختيار حق نبود اختيار ما
بانور آفتاب جه باشد شرار ما
والذكور جمع ذكر ضد الأنثى عرف الذكور للمحافظة على الفواصل ، أو لجبر التأخير.
يعني : أن الله تعالى أخرّ الذكور مع أنهم أحقاء بالتقديم ، فتدرك تأخيرهم بتعريفهم ؛ لأن في التعريف العهدي تنويهاً وتشهيراً ؛ كأنه قيل : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام الذين لا يخفون عليكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "إن أولادكم هبة الله لكم يهب لمن يشاء إناثاً ، ويهب لمن يشاء الذكور وأموالهم لكم إن احتجتم إليها".
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا} .
معنى التزويج هنا : (جفت قرين كردن) ، كما في "تاج المصادر" ، والذكران جمع ذكر.
والمعنى : يقرن بين الصنفين فيهبهما جميعاً ، بأن يولد له الذكور والإناث مثل ما وهب
342
لنبينا صلى الله عليه وسلم إذ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح : قاسم وعبد الله وإبراهيم.
ومن البنات أربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن.
وقال بعضهم : معنى يزوجهم أن تلد غلاماً ، ثم جارية ، ثم غلاماً ، أو تلد ذكراً وأنثى توأمين.
{وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا} : (بى فرزندو نازاينده).
فلا تلد ولا يولد له كعيسى ويحيى عليهما السلام ، فإنهما ليسا لهما أولاد.
وأما عيسى فلم يتزوج ، وإن كان يتزوج حين نزوله في آخر الزمان ، ويكون له بنات ، وأما يحيى فقد تزوج ، ولكن لم يقرب لكونه عزيمة في شريعته وبعضهم لم يكن له أولاد ، وإن حصل له قربان النساء.
وأصل العقم : اليبس المانع من قبول الأثر.
والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل.
(8/262)
وفي "القاموس" : العقم بالضم : هرمة تقع في الرحم ، فلا تقبل الولد ، ورجل عقيم لا يولد له ، فالعقم كما يقع صفة للمرأة يقع صفة للرجل بأن يكون في مائه ما يمنع العلوق من الأعذار ، وتغيير العاطف في الثالث ؛ لأنه قسيم المشترك بين القسمين ، وهو أي المشترك بينهما مفهوم الصنف الواحد ، فالثالث : جامع بين الصنفين ، فلو ذكر أيضاً بالواو ، ولربما توهم من أول الأمر أنه قسيم لكل من القسمين لا للمشترك بينهما ؛ لأنه حال عما في الرابع من الإفصاح.
يعني : أنه لا حاجة إليه في الرابع لإفصاحه ، بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة ، وهو هبة الولد ولا يشتبه على أحد أن العقم يقابلها ، فلا حاجة إلى التنبيه على ذلك.
{إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمٌ} بليغ العلم بكل شيء مما كان وما يكون.
{قَدِيرٌ} بليغ القدرة على كل مقدور ، فيفعل ما فيه حكمه ومصلحة.
وقال الكاشفي : (دانست بانجه مى دهد تواناست بانجه ميسازد دانايى اواز جهل مقدس ومبراست وتوانايى او از عجز منزه ومعرا علم او بر طرف از شائبة جهل فتور وقدرتش باك از آلايش نقصان وقصور).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وعلم أن الإنسان إما أن لا يكون له ولد ، أو يكون له ولد ذكر أو أنثى ، أو ذكر وأنثى.
وقد استوفى في الآية جميع الأقسام.
فالمعنى : أن الله تعالى يجعل أحوال العباد في حق الأولاد مختلفة على ما تقتضيه المشيئة فيهن ، فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى ، وإما صنفين ويعقم آخرين ، فلا يهب لهم ولد قط ، فالأولاد ذكوراً وإناثاً من مواهب الله تعالى وعطاياه.
ولذا سن لم يبشر بالمولود أنه يستبشر به ويراه نعمة أنعم الله بها عليه.
ففي الحديث : "ريح الولد من ريح الجنة".
وقال عليه السلام : "الولد في الدنيا نور وفي الآخرة سرور" ، وقد ورد : "سوداء ولود خير من حسناء عقيم".
وذلك لأن التناسل إنما هو بالولود ، ويعرف كونها ولوداً بالصحة والشباب ، ولا ينفي الولد الذي يولد على فراشه ، فإن الله تعالى يفضحه يوم القيامة ويكتب عليه من الذنب بعدد النجوم والرمال والأوراق.
وقيل : معنى الآية يهب لمن يشاء إناثاً ؛ أي : الدنيا ، ويهب لمن يشاء الذكور ؛ أي : الآخرة ، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ؛ أي : الدنيا والآخرة ، ويجعل من يشاء عقيماً ؛ أي : لا دنيا ولا عقبى.
كذا في "كشف الأسرار".
وفيه إشارة إلى أنوثة الدنيا وذكورة الآخرة.
قال أمير خسرو دهلوى :
بهران مردار جندب كاه زارى كاه زور
جون غيلواجى كه شش مه ماده وشش مه تراست
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أرباب الولاية من المشايخ المستكملين يهب لبعضهم من المريدين الصادقين الأتقياء الصلحاء ، وهم بمثابة الإناث لا تصرف لهم في غيرهم بالتزويج والتسليك ، ويهب لبعضهم من المريدين الصديقين المحبين الواصلين الكاملين المستكملين المخرجين.
وهم بمثابة الذكور لاستعداد تصرفهم في الطالبين ، ويهب لبعضهم من الجنسين المذكورين المتصرفين في الغير وغير المتصرفين ويجعل بعض المشايخ عقيماً لأمر يدل أنه
343
عليم بمن يجعله متصرفاً وغير متصرف في المريد قدير على ما يشاء أن يجعله متصرفاً ، أو غير متصرف.
يقول الفقير : هذا التفاوت بينهم إما راجع إليهم لحكمة أخفاها الله تعالى ، وإما إلى أهالي زمانهم ؛ فإنهم متفاوتون كتفاوت الأمم ، فماذا يصنع الكاملون المكملون إذا لم يكن في الناس استعداد.
قال الحافظ :
كوهر باك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك كلى لؤلؤ ومرجان نشود
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} ؛ أي : وما صح لفرد من أفراد البشر يا محمد.
{أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} بوجه من الوجوه.
{إِلا وَحْيًا} أصل الوحي الإشارة السريعة ، وإنما سمي الوحي وحياً لسرعته ، فإن الوحي عين الفهم.
عين الأفهام ، عين المفهوم منه ، كما يذوقه أهل الإلهام من الأولياء.
وقد عرف بعضهم الوحي ؛ بأنه ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة في غير عبارة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وقال الراغب : ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأليائه وحي.
يقول الفقير : يعلم منه أن الوحي والإلهام واحد في الحقيقة ، وإنما قيل : الوحي في الأنبياء والإلهام في الأولياء تأدباً ، كما قيل : دعوة الأنبياء والإرشاد الأولياء ، فاستعملوا الدعوة في الأنبياء والأرشاد في الأولياء مع أنهما أمر واحد ، فللوحى إما بإلقاء في الروع ، كما ذكر عليه السلام : "إن روح القدس نفث في روعي" ، وإما بإلهام نحو قوله : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص : 7) ، وإما بتسخير نحو قوله تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) ، أو بمنام كقوله عليه السلام ، "انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن" ، فهذه الأنواع دل عليها قول إلا وحياً ، فمعناه الإبانة يوحى إليه ويلهمه ، ويقذف في قلبه ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم في ذبح ولده وإلى داود الزبور في صدره.
قاله مجاهد ، وسيأتي تحقيق الآية إن شاء الله تعالى.
(8/263)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} بأن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، فهو تمثيل له بحال الملك المحتجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب يسمع صوته ، ولا يرى شخصه وإلا فالله تعالى منزه عن الاستتار بالحجاب الذي هو من خواص الأجسام ، فالحجاب يرجع إلى المستمع لا إلى الله تعالى المتكلم.
وذلك كما كلم الله تعالى موسى في طوى والطور.
ولذا سمي كليم الله ؛ لأنه سمع صوتاً دالاً على كلام الله من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق ، بل تولى الله تخليقه إكراماً له ، وغيره يسمعون صوتاً مكتسباً للعباد ، فيفهمون به كلام الله هذا مذهب إمامنا أبي منصور.
ذكره في كتاب "التأويلات".
وذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن موسى سمع كلام الله من غير واسطة صوت أو قراءة ، وإلى هذا ذهب ابن فورك من الإشعارية.
قال في "كشف الأسرار" كلمه وبينهما حجاب من نار.
قال الكاشفي : (يا موسى سخن كفت واودر بس حجاب نور بود در موضح آورده كه خداى تعالى بابيغمبر عليه السلام سخن كفت از وراى حجابين يعني حضرت رسالت بناه عليه السلام وراى دو حجاب بودكه سخن خداى تعالى شنيد حجابى از زر سرخ وحجابى از مروا ريد سفيد مسيرة ميان هردو حجاب هفتاد سال راه بود).
يقول الفقير : هذا من غوامض العلوم ، فإن نبينا عليه السلام أعلى كعباً من موسى عليه السلام ، فما معنى : أن الله تعالى كلم موسى من وراء حجاب واحد وكلم نبينا من وراء حجابين ، وإن حصل فرق بين حجاب وحجاب.
ولعل المراد بالحجابين : حجاب الياقوتة الحمراء الذي يلي جانب الخلق وحجاب الدرة البيضاء الذي يلي عالم الأمر ، وكلاهما عبادة عن الروح المحمدي.
والحقيقة الأحمدية بكون مسافة ما بين الحجابين مسيرة سبعين ألف حجاب بين الرب والعبد ، فمعنى :
344
أن النبي عليه السلام سمع كلام الله من وراء هذين الحجابين أن الله تعالى كلمه وبينهما الحقيقة الجامعة البرزخية ، وليس ذلك بحجاب في الحقيقة ، كما أن المرآة ليست بحجاب للناظر ، وكذا القناع بالنسبة إلى العروس ، فافهم جداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} ؛ أي : ملكاً من الملائكة إما جبريل أو غيره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم ير جبرائيل إلا أربعة من الأنبياء : موسى وعيسى وزكريا ومحمد عليه السلام.
قال في "عين المعاني" : عسى أنه أراد برؤيته كما هو ، وإلا فهو سفير الوحي.
انتهى.
{فَيُوحِىَ} ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري {بِإِذْنِهِ} ؛ أي : بأمره تعالى وتيسيره.
{مَّا يَشَآءُ} أن يوحيه إليه ، وهذا هو الذي جرى بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام في عامة الأوقات من الكلام ، فيكون إشارة التكلم بواسطة الملك.
روي : أن النبي عليه السلام قال : "من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون بذلك نبياً ومنهم من ينفث في أذنه وقلبه ، فيكون بذلك نبياً ، وإن جبرائيل يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه".
وعن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده عليّ ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال.
وأحياناً يتمثل الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول".
قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقاً".
والتفصد والانفصاد : (فرود ويدن).
{إِنَّه عَلِىٌّ} متعال عن صفات المخلوقين لا يأتي جريان المفاوضة بينه تعالى ، وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة.
{حَكِيمٌ} يجري أفعاله على سنن الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاماً ، أو خطاباً.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن البشر مهما كان محجوباً بصفات البشرية موصوفاً بأوصاف الخلقية الظلمانية الإنسانية لايكون مستعداً أن يكلمه الله إلا بالوحي أو بالإلهام في النوم واليقظة ، أو من وراء حجاب بالكلام الصريح ، أو يرسل رسولاً من الملائكة ، فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي بعلو القدم لا يجانسه محدث حكيم فيما يساعد البشر بإفناء أنانيته بهويته ، فإذا أفنيت البشرية وارتفعت الحجب وتبدلت كينونته بكينونة الحق ، حتى به يسمع وبه يبصر وبه ينطق ، فيكلمه الله تعالى شفاهاً وبه يسمع العبد كلامه كفاحاً ، كما كان حال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سر فأوحى إلى عبده ما أوحى.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/264)
يعني : (مصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم شب معراج از حق سخت شنيد بى واسطة).
وكان آمن الرسول مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب ، وكذا قوله : هو الذي يصلي عليكم وملائكته إلخ.
وكذا بعض سورة الضحى ، وبعض سورة : {أَلَمْ نَشْرَحْ} ولزوم من سماع كلامه مشافهة رؤيته بلا حجاب ، وكذا حال المؤمنين يوم القيامة ، فإنهم يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر ، ويسمعون كلامه بلا حجاب.
فالوحي إذاً قسمان مشافهة وغير مشافهة ، وعليه يحمل ما روي أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل ذلك.
فقال عليه السلام : "لم ينظر موسى إلى الله" فنزلت فأشار إلى أن الكلام حصل لموسى ، ولكن من وراء حجاب دون النظر ، وكذا للنبي عليه السلام ما دام على حال البشرية.
وكذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قالت : أولم تسمعوا ربكم يقول ،
345
وتلت هذه الآية : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} " إلخ.
فأشارت إلى مرتبة الحجاب وسره أن الله تعالى قال : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} ، فعبر بعنوان البشرية ، وليس من حد البشر أن يرى ربه عياناً ، وهو في حد الدنيا باققٍ على بشريته ، أو يكلمه الله كفاحاً.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأظهر في "تلقيح الأذهان" تكليم الله البشر في ثلاث مراتب ، كما قال سبحانه : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلخ.
فالكل وحي.
ولكن بعضه بلا واسطة عند خروجه عن حد البشرية إلا أنك إن كنت أنت السامع لم تحصل على هذه المشاهدة الذاتية حتى تكون أنت المسمع فمشاهدة الذات لا تتم مع المناجاة وبعضه بواسطة عند الرجوع إلى البشرية ، ولا تزال هكذا حتى تفنى عن نفس السماع ، وتبقى مشاهداً للحق لتسمع نفسه بنفسه ، فإنه من تحقق بالإنفاق حتى يسمع وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.
سمع قوله واتخذه وكيلاً.
انتهى.
قال الشيخ روز بهان البقلي في "عرائس البيان" كانت لي واقعة في ابتداء الأمر.
وذلك أني شاهدت الحق بالحق وكاشف لي مشاهدة جماله ، وخاطبني من حيث الأرواح لا من حيث الأشباع ، فغلب على سكر ذلك ، وأفشيت حالي بلسان السكر ، فتعرض لي واحد من أهل العلم وسألني كيف تقول ذلك ، وأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنه لم يخاطب أحداً من الأنبياء والرسل إلا من وراء حجاب ، كما قال ، وما كان لبشر إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
فقلت : صدق الله هذا إذا كانوا في حجاب البشرية ، فإذا خرجوا بشرط الأرواح إلى عالم الغيب ورأوا الملكوت ألبسهم الله أنواراً قربه وكحل عيونهم بنور ذاته ، وألبس سماعهم قوة من قوى الربوبية وكشف لهم سر الغيرة ، وحجاب المملكة وخاطبهم كفاحاً وعياناً.
ولنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أخص خاصية إذ هو مصطفى في الأزل بالمعارج والمشاهدة ، فإذا صار جسمه روحه وكان واحداً من كل الوجوه صعد إلى الملكوت.
ورأى الحق بنور الجبروت وسمع خطابه بلا واسطة ، ورأى الحق بلا حجاب إذ الحجاب وصف المخلوقين ، والحق منزه عن أن يحجبه شيء.
حكي : أن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال له شخص : أرني ربي ، فقال : أولم تسمع أن الله تعالى يقول لموسى : لن تراني ، مع أنه نبي عظيم.
قال : إن من هذه الملة الأحمدية من يقول : رأى قلبي ربي ، ومنهم من يقول : لا أعبد رباً لم أره ، فلما لم يمسك عن مسألته أمر جعفر بأن يلقي ذلك الشخص في الدجلة ، ففعلوا ، فقال : يا ابن رسول الله الغياث.
قال الصادق : يا ماء اغمسه حتى فعل ذلك مراراً يعني : استغاث بالصادق ، فلما انقطع رجاؤه عن الخلق قال : إلهي الغياث.
(صادق كفت بياوريدش بركر فتند وبياوردند وآبى كه مانده بودازكوش وبينى اوريختند جون باخود آمد كفت بآن حق راديدى كفت يا خيال اغيار مى مانده دست در غير مى ردم حجاب مى بود جون بناه بكلى بوى آوردم ومضطر نشدم روزنه دردل من كشاده شد وبدا نجا نكريستم آنجه مى جستم ديدم وتا اضطرار نبود آن نبود صادق كفت تا صادق را مى خواند مى صديق نبودى اكنون آن كوجه روزنه راه نكاه داركه جهان خدا بدينجا فروست) ، فقد علمت من هذا التقرير أن الآية تدل على جواز الرؤية لا على امتناعها ، وإنما تدل على الامتناع حال البشرية وبقائها وجود (عين غبار يست درره ديدارره غبار مانع ديدار ميشود هش ار).
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآىاِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُا إِنَّه عَلِىٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَـاهُ نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} .
(8/265)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَكَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإيحاء البديع ،
346
أو كما أوحينا إلى سائر رسلنا.
{أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} : هو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة طيبة ؛ أي : يحصل لها به ما هو مثل الحياة ، وهو العلم النافع المزيل للجهل الذي هو كالموت.
وقال الراغب سمي القرآن روحاً لكونه سبباً للحياة الأخروية الموصوفة في قوله : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت : 64).
ومعنى من أمرنا.
بالفارسية : (بفرمان ما او).
روحاً ناشئاً ومبتدأ من أمرنا ، وقد سبق في {حم} المؤمن.
وقيل : هو جبرائيل ، ومعنى إيحائه إليه عليه السلام إرساله إليه بالوحي ، فإن قلت : كيف علم الرسول عليه السلام في أول الأمر أن الذي تجلى له جبرائيل ، وأن الذي سمعه كلام الله تعالى.
قلت : خلق الله تعالى له علماً ضرورياً علم به ذلك ، والعلم الضروري يوجب الإيمان الحقيقي ، ويتولد من ذلك اليقين والخشية ، فإن الخشية على قدر المعرفة.
{مَا كُنتَ تَدْرِى} قبل الوحي في أربعين سنة والمراد وحي النبوة.
{مَا الْكِتَابُ} ؛ أي : أي شيء هو ، يعني : (جون قرآن منزل نبود ندانستى آنراه).
والنفي معلق للفعل عن العمل وما بعده ساد مسد المفعولين ومحل ما كنت.
إلخ.
حال من كاف إليك ، كما في "تفسير الكواشي".
{وَلا الايمَانُ} ؛ أي : الإيمان بتفاصيل ما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر ، فإن درايته عليه السلام له مما لا ريب فيه قطعاً ، فإن أهل الوصول اجتمعوا على أن الرسل عليهم السلام ، وكانوا مؤمنين قبل الوحي ومعصومين من الكبائر ومن الصغائر الموجبة لنفرة الناس عنهم قبل البعثة وبعدها فضلاً عن الكفر ، وهو مراد من قال : لا يعرف القرآن قبل الوحي ولا شرائع الإيمان ومعالمه ، وهي إيمان كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة : 143) ؛ أي : صلاتكم سماها إيماناً ؛ لأنها من شعب الإيمان ، ويدل عليه أنه عليه السلام قيل له : هل عبدت وثناً قط قال : لا قيل : هل شربت خمراً قط.
قال : لا وما زلت أعرف أن الذين هم عليه كفر ، وما كنت أدري ما الكتاب؟ ولا الإيمان ؛ أي : الإيمان الشرعي المتعلق بتفاصيل الأحكام.
ولذلك أنزل في الكتاب : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الايمَانُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال ابن قتيبة : لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل من الحج والختان والنكاح وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة ، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والمصاهرة.
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما كانوا عليه في مثل هذه الشرائع ، وكان يوحد ويبغض اللات والعزى ويحج ويعتمر ويتبع شريعة إبراهيم عليه السلام ، ويتعبد بها حتى جاءه الوحي وجاءته الرسالة ، فقول البيضاوي.
وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع ممنوع ، فإن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصير ، فالحق أن المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلا السمع.
وقال بعضهم : هذا تخصيص بالوقت ، يعني : كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلاً ، وفي المهد ما كان يعرف الإيمان ، وهو ضعيف ؛ لأنه عليه السلام أفضل من يحيى وعيسى عليهما السلام ، وقد أوتي كل الحكم والعلم صبياً.
وقال بعضهم : هو من باب حذف المضاف ؛ أي : ولا أهل الإيمان ، يعني : من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن قبل أن يظهر إيمان من آمن وكفر من كفر ، كما قال ابن الفضل أهله ؛ لأنه ظن أن أبا طالب يؤمن كما قال عليه السلام : "أردنا إسلام أبي طالب ، وأراد الله إسلام العباس ، فكان ما أراد الله دون ما أردنا" ،
347
وهو ضعيف أيضاً ؛ لأنه عليه السلام : لا يدري بعد الوحي أيضاً جميع من يؤمن ، ومن يصر إلى آخر العمر.
{وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ} ؛ أي : الروح الذي أوحينا إليك والجعل بمعنى : التصيير لا بمعنى الخلق وحقيقته أنزلناه.
{نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ} هدايته بالتوفيق للقبول والنظر فيه.
{مِنْ عِبَادِنَا} ، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به.
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِى} : تقرير لهدايته تعالى وبيان لكيفيتها ومفعول لتهدي محذوف ثقة بغاية الظهور ؛ أي : وإنك لتهدي بهذا النور وترشد من نشاء هدايته.
{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام والصراط من السبيل ما لا التواء فيه ؛ أي : لا اعوجاج ، بل يكون على سبيل القصد.
{صِرَاطِ اللَّهِ} بدل من الأول.
{الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} خلقاً وملكاً وإضافة الصراط إلى الاسم الجليل ووصفه بالذي.
إلخ لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه ، فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقاً وملكاً وتصرفاً مما يوجب ذلك أتم إيجاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال بعضهم : دعونا أقواماً في الأزل ، فأجابوا ، فأنت تهديهم إلينا وتدلهم علينا ، وإنما كان عليه السلام هادياً ؛ لأنه نور كالقرآن ولمناسبة نوره مع نور الإيمان والقرآن.
قيل : كان خلقه القرآن :
أي نور إلهي زجبين توهويدا
سر ازل از نور جمالت شده بيدا
{إِلا} كلمة تذكرة لتبصرة أو تنبيه لحجة وبالفارسية بدانيدكه لا إلى غيره.
{تَصِيرُ الامُورُ} ؛ أي : أمور ما فيهما قاطبة بارتفاع الوسائط والتعلقات.
يعني : يوم القيامة ، فيحمل تصير على معنى الاستقبال ، ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعد للضالين عنه ما لا يخفى.
وقال في "بحر العلوم" إلى الله تصير أمور الخلائق كلها في الدنيا والآخرة ، فلا يدبرها إلا هو حيث لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره (ونزد محققان باز كشت همه امور درهمه اوقات وأحوال بحضرت اوست وبارتفاع حجب ووسائط مشاهده اين معنى دست دهد.
صورت كثرت حجب وحدتست.
غيبت ما مانع نور حضور.
ديده دل باز كشاويبين ، سر إلى الله تصير الأمور).
وذلك لأن الله مبدأ كل ومرجعه ومصيره إما بالفناء الاختياري ، أو بالفناء الاضطراري.
(يكبار حسن بصري رحمه الله بجنازة رفت جون مرده اردر كور نهادند وخاك راست كردند حسن برسرآن خاك نشست وجندان بدان كريست خاك كل شد بس كفت اي مردمان أول آخر بحدست آخر دنيا نكرى كورست واول اخرت نكرى كورست كه القبر منزل من منازل الآخرة جه مى نازيد بعالمى كه آخرش اينست يعني : كور وجون نمى ترسيد از عالمى كه او لش اينست يعني : كور جون اول آخرش اينست اى أهل غفلت كار اول وآخر بسازيد.
شب كور خواهى منور جو روز.
ازبنجا جراغ عمل برفروز.
برآن خورد سعدي كه بينجى نشاند.
كسى برد خر من كه نخمى فشاند).
وعن سهل بن أبي الجعد : احترق مصحف ، فلم يبق إلا قوله تعالى : {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} (الشورى : 53) وغرق مصحف فانمحى كل شيء إلا ذلك كذا في "عين المعاني" للسجاوندي.
تمت سورة الشورى في أواخر شهر ربيع الآخر المنتظم في شهور سنة ثلاثة عشرة مائة وألف سورة الزخرف تسع وثمانون آية مكية.
348
جزء : 8 رقم الصفحة : 285(8/266)
سورة الزخرف
وآياتها تسعة وثمانون
جزء : 8 رقم الصفحة : 348
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{حم} ؛ أي : القرآن مسمى بـ{حم} ، أو هذه السورة مسماة به.
يقول الفقير أمده الله القدير : {حم} إشارة إلى الاسمين الجليلين من أسمائه تعالى ، وهما : الحنان والمنان ، فالحنان هو الذي يقبل على من أعرض عنه.
وفي "القاموس" : الجنان كشداد اسم الله تعالى ، ومعناه : الرحيم.
انتهى.
المنان : هو الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ، كما قال في "القاموس" : المنان من أسماء الله تعالى ، المعطي ابتداءً.
انتهى.
وقد جعل في داخل الكعبة ثلاث أسطوانات :
الأولى : أسطوانة الحنان.
والثانية : أسطوانة المنان.
والثالثة : أسطوانة الديان ، وإنما أضيفت إلى الله تعالى تعظيماً كما قيل : بيت الله وناقة الله ، فأشار بهذه الأسماء الثلاثة حيث جعلت في داخل الكعبة المشار بها إلى الذات الأحدية إلى أن مقتضى الذات هو الرحمة والعطاء في الدنيا والمجازاة والمكافأة في الآخرة وبرحمته أنزل القرآن كما قال مقسماً به.
{وَالْكِتَابِ} بالجر على أنه مقسم به إما ابتداء أو عطف على {حم} على تقدير كونه مجروراً بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد مضمون الجملة القسمية.
{الْمُبِينِ} ؛ أي : البين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم ، فيكون من أبان بمعنى بان ؛ أي : ظهر ، أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة ، فيكون من أبان بمعنى أظهر وأوضح.
وقال سهل : بين فيه الهدى من الضلالة والخير من الشر وبين سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.
وقال بعضهم : المراد بالكتاب الخط والكتابة يقال : كتبه كتباً وكتاباً خطه أقسم به تعظيماً لنعمته فيه ، إذ فيه كثرة المنافع ، فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط فالمتقدم إذا استنبط علماً ، وأثبته في كتاب وجاء المتأخر ، وزاد عليه تكاثرت به الفوائد.
يقول الفقير : لعل السبب في حمل الآية على هذا المعنى الغير الظاهر لزوم اتحاد المقسم به والمقسم عليه على تقدير حملها على القرآن ، وليس بذلك كما يأتي.(8/267)
{إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} إن قلت : هذا يدل على القرآن مجعول والمجعول مخلوق.
وقد قال عليه السلام : "القرآن كلام الله غير مخلوق".
قلت : المراد بالجعل هنا تصيير الشيء على حالة دون حالة.
فالمعنى : أنا صيرنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً بإنزاله بلغة العرب ولسانها ، ولم نصيره أعجمياً بإنزاله بلغة العجم مع كونه كلامنا وصفتنا قائمة بذاتنا عرية عن كسوة العربية منزهة عنها وعن توابعها.
{لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كلمة لعل مستعارة لمعنى كي ، وهو التعليل وسببية ما قبلها لما بعدها لكون حقيقة الترجي والتوقع ممتنعة في حقه تعالى لكونها مختصة بمن لا يعلم عواقب الأمور.
وحاصل معناها : الدلالة على أن الملابسة بالأول لأجل إرادة الثاني من شبه الإرادة بالترجي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
فقوله : لعلكم تعقلون في موضع النصب على المفعول له ، وفعل الله تعالى ، وإن كان لا يعلل بالغرض لكن فيه مصلحة جليلة وعاقبة حميدة ، فهي كلمة علة عقلاً وكلمة مصلحة شرعاً مع أن منع التعليل بالغرض العائد إلى العباد بعيد عن الصواب جداً ، لمخالفته كثيراً من النصوص.
والمعنى : لكي تفهموا القرآن العربي وتحيطوا بما فيه من النظم الرائق ، والمعنى الفائق وتقفوا على ما تضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية إذ لو
349
أنزلناه بغير لغة العرب ما فهمتموه ، فقوله : إنا جعلناه قرآناً عربياً جواب للقسم ، لكن لا على أن مرجع التأكيد جعله كذلك ، كما قيل : بل ما هو غايته التي يعرب عنها قوله تعالى : {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، فإنها المحتاجة للتأكيد لكونها منبئة عن الاعتناء بأمرهم وإتمام النعمة عليهم وإزاحة أعذارهم.
كذا في "الإرشاد".
وقال بعضهم : أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً ، فالقسم والمقسم عليه من بدائع الإقسام لكونهما من واحد ، فالمقسم به ذات القرآن العظيم ، والمقسم عليه وصفه ، وهو جعله قرآناً عربياً ، فتغايرا ؛ فكأنه قيل : والقرآن المبين أنه ليس بمجرد كلام مفترى على الله وأساطير ، بل هو الذي تولينا إنزاله على لغة العرب ، فهذا هو المراد بكونه جواباً لا مجرد كونه عربياً إذ لا يشك فيه وإنما جعله مقسماً به إشارة إلى أنه ليس عنده شيء أعظم قدراً وأرفع منزلة منه حتى يقسم به ، فإن المحب لا يؤثر على محبوبه شيئاً ، فأقسم به ، ليكون قسمه في غاية الوكادة.
وكذا لا أهم من وصفه ، فيقسم عليه.
{إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ} .
{وَإِنَّهُ} ؛ أي : ذلك الكتاب.
{فِى أُمِّ الْكِتَـابِ} ؛ أي : في اللوح المحفوظ ، فإنه أصل الكتاب ؛ أي : جنس الكتب السماوية ، فإن جميعها مثبتة فيه على ما هي عليه عند الأنبياء ومأخوذة مستنسخة منه.
قال الراغب : قوله في أم الكتاب ؛ أي : في اللوح المحفوظ.
وذلك لكون كل منسوباً إليه ومتولداً فيه ، والكتاب اسم للصحيفة مع المكتوب فيها.
{لَدَيْنَا} ؛ أي : عندنا.
{لَعَلِىٌّ} رفيع القدر بين الكتب شريف.
{حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة أو محكم لا يتطرق إليه نسخ بكتاب آخر ، ولا تبديل ، وهما ؛ أي : علي وحكيم خبر إن ؛ لأن وما بينهما بيان للمحل الحكم ؛ كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب الذي هو أشرف مكان وأعزه لدينا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب.
وهذا كما قال في "الجلالين" يريد أنه يثبت عند الله في اللوح المحفوظ بهذه الصفة.
واعلم أن اللوح المحفوظ خلقه الله تعالى من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه كما بين السماء والأرض ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق بكل نظره ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.
وفي الخبر أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ : كل حرف منها بقدر جبل قاف وإن تحت كل حرف معاني لا يحيط بها إلا الله تعالى ، ولذا لم يقم لفظ مقام لفظه ولا حرف مقام حرفه ، فهو معجز من حيث اللفظ.
والمعنى : ولما كان القلب الإنساني هو اللوح الحقيقي المعنوي نزل على قلبه عليه السلام القرآن ، واستقر فيه إلى الأبد دنيا وآخرة ، وكذا نزل من حيث المعنى على قلوب ورثته عليه السلام كما أخبر عنه أبو يزيد قدس سره ، وكما أن الله تعالى ينظر كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستين نظرة كذلك ينظر في لوح القلب ذلك العدد ، فيمحو ما يشاء ويثبت.
والمراد باليوم هو اليوم الآتي المنبسط عند الله إلى ألف سنة وأشير إليها بعدد أيام السنة ، فافهم جداً ، فإن كان القلب لوح الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يمحو عنه آثار الغير ويزينه بما يليق به ، فإنه المنظر الإلهي.
(8/268)
قال بعض الكبار : إذا كان ميل المرء إلى الشهوة ، والصورة والخلق يشتغل بتزيين ظاهره باللباس المعتبر عند الناس ، وإذا كان ميله إلى المحبة والحقيقة والحق يشتغل بتزيين باطنه بما يعتبر عند الله ، ولا يلتفت إلى ظاهره ، بل يكتفي بما يحفظه من الحر والبرد ؛ أي : شيء كان.
وقال بعض الكبار : تتبع كتاب الله في الليل والنهار يوصلك إلى مقام الأحرار ؛ لأن كل ما يؤدي
350
إلى ذكر الله تعالى ، فهو علاج القلوب المريضة ؛ لأن أعظم الأمراض القلبية هو نسيان الله تعالى ، كما قال : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة : 67) ولا شك أنه علاج أمر بضده ، وهو ذكر الله.
كما قال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) :
دلت آيتنه خداى نماست
روى آيينه توتيره جراست
صيقلى دارى صيقلى ميزن
تاكه آيينة ات شود روشن
صيقل آن اكرنه آكاه
نيست جز لا إله إلا الله
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ} يعد ما بين علو شأن القرآن العظيم وحقق أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه ، فقيل : أفنضرب عنكم الذكر.
والفاء : للعطف على محذوف يقتضيه المقام.
والمعنى : أنهملكم فنخي القرآن عنكم ، ونبعده ونترك الأمر والنهي والوعد والوعيد مجاز من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض استعارة تمثيلية شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها ، ثم استعمل ما كان مستعملاً في تلك القصة ، ها هنا.
والمراد بالغرائب البعران الأجانب والإبل إذا وردت الماء ودخلت بينها ناقة غريبة من غيرها ذيدت وطردت عن الحوض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم بملازمته لهم ؛ كأنه يتهافت عليهم.
{صَفْحًا} الصفح : الإعراض يقال : صفح كمنع أعرض وترك وعنه عفا والسائل رده كأصفحة وسُمي العفو صفحاً لأنه إعراض عن الانتقام من صفحة الوجه ؛ لأن من أعرض عنك ، فقد أعطاك صفحة وجهه.
والمعنى : إعراضاً عنكم على أنه مفعول له للمذكور أو صافحين على أنه حال ، أو مصدر من غير لفظه ، فإن تنحية الذكر عنهم إعراض.
{أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} السرف : تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان ؛ أي : لأن كنتم منهمكين في الإسراف في المعاصي مصرين عليه على معنى أن حالكم ، وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة ، وتبقوا في العذاب الخالد لكنا لسعة وحمتنا لا نفعل ذلك ، بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين.
(در تبيان كفته كه بسبب شرك شما قرآنرا بآسمان نخواهيم بردكه دانسته ايم كه زود بيايند قومى كه بدو بكروند وباحكام آن عمل كنند).
وإنما يرتفع القرآن في آخر الزمان.
قال قتادة : والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، أو لكن عاد بعائدته ورحمته ، فكرره عليهم عشرين سنة ، أو ما شاء الله (كفتا والله كه اكر در صدر آن امت رب العزت قرآن از زمين برداشتى بكفر كافران ورد ايشان خلق همه هلاك كردندى ويك كس نماندى لكن حق تعالى بانكار وكفر ايشان ننكريست بفضل ورحمت خود نكريست همجنان قرآن روز بروز مى فرستاد تمامى بيست سال يازياده تاكار دين تمام كشف واسلام قوى شد).
وفيه إشارة إلى أن من لم يقطع اليوم خطابه عمن تمادى في عصيانه وأسرف في أكثر شأنه كيف يمنع غداً لطائف غفرانه وكرائم إحسانه عمن لم يقصر في إيمانه ، ولم يدخل خلل في عرفانه ، وإن تلطخ بعصيانه.
(دارم از لطف ازل جنت فردوس طمع كرجه درباني ميخانه فراوان كردم بير طريقت درمنا جات خويش كفته إلهي توانى كه از بنده ناسزامى بينى وبعقوبت نشتابى از بنده كفر مى شنوى ونعمت ازوى بازنكيرى ثواب وعفو بروى عرضه ميكنى وبيغام وخطاب خود اوراباز خوانى واكرباز آيد وعده مغفرت ميدهى كه).
351
{إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38).
جون بادشمن بدكر دار جنينى جه كويم كه دوست نكوكار راجونى.
دوستا نراكجا كنى محروم.
توكه بادشمنان نظر دارى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ} .
كم خبرية في موضع النصب على أنه مفعول مقدم لأرسلنا ، ومن نبي تمييز.
وفي الأولين متعلق بأرسلنا ، أو بمحذوف مجرور على أنه صفة لنبي.
والمعنى : كثيراً من الأنبياء أرسلنا في الأمم الأولين والقرون الماضية.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الاوَّلِينَ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ} .
(8/269)
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ضمير يأتيهم إلى الأولين ، وهو حكاية حال ماضية مستمرة ؛ لأن ما إنما تدخل على مضارع في معنى الحال ، أو على ماضضٍ قريب منها : أي : كانوا على ذلك.
والمعنى بالفارسية : (ونيايد بايشان هيج بيغمبرى مكر افسوس كردند برو).
يعني : أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا ينبغي لك أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم ؛ لأن المصيبة إذا عمت خفت.
{فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم} ؛ أي : من هؤلاء القوم المسرفين وهم : قريش.
{بَطْشًا} : تمييز وهو الظاهر ، أو حال من فاعل أهلكنا ؛ أي : باطشين.
قال الراغب : البطش تناول الشيء بصولة ، والأخذ بشدة.
يعني : (اقرباى ايشانرا اهلاك كرديم وشدت وشوكت ايشان مارا عاجز نداشت).
فهو وعد له عليه السلام ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين ووصفهم بأشدية البطش لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية.
{وَمَضَى مَثَلُ الاوَّلِينَ} ؛ أي : سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهم : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
وفي الآية إشارة إلى كمال ظلومية نفس الإنسان وجهوليته وكمال حلم الله وكرمه وفضل ربوبيته بأنهم وإن بالغوا في إظهار أوصافهم الذميمة وأخلاقهم اللئيمة بالاستهزاء مع الأنبياء والمرسلين والاستخفاف بهم إلى أن كذبوهم وسعوا في قتلهم من أهل الأولين والآخرين.
وكذلك يفعلون أهل كل زمان مع ورثة الأنبياء من العلماء المتقين والمشايخ السالكين الناصحين لهم ، والداعين إلى الله والهادين لهم ، فالله تعالى لم يقطع عنهم مراحم فضله وكرمه.
وكان يبعث إليهم الأنبياء وينزل عليهم الكتب ، ويدعوهم إلى جنابه وينعم عليهم بعفوه وبغفرانه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
ومن غاية أفضاله وإحسانه تأديباً وترهيباً بعباده أهلك بعض المتمردين المتمادين في الباطل ليعتبر المتأخرون من المتقدمين :
جون بركشته بختى در افتد به بند
از ونيك بختان بكيرند بند
قال في "كشف الأسرار" : (عجب كاريست هركجاكه حديث دوستان دركيرند آستان بيكانكان دران بيوند دد وهركجاكه لطافتى وكرامتى نمايد قهرى وسياستى در برابرآن نهد هركجاكه حقيقى است مجازى آفريده تا برروى حقيقت تمرد افشاند وهر حجتى شبهتى آميخت تا رخسارة حجت مى خراشد هركجاكه علمى است جهلى بيدا آورده تابر سلطان علم برمى آو يزد هركجاجه توحيد ست شركى بديد آورد تا باتوحيد طريق منازعت مى سبرد وبعدد هردوستى هزار دشمن آفريده بعدد هر صديقى هزار زنديق آورده هركجا مسجد است كليسايى در برابر او بنا كرده هركجا صومعة خراباتى هركجا طيلسانى زنارى هركجا اقرارى انكارى هركجا عابدى جاحدى هركجا دوشتى دشمنى هركجا صادقى فاسقى.
جور دشمن جه كند كرنكشد طالب دوست.
كنج ومار وكل وخار وغم وشادى
352
بهمند.
از شرق تاغرب بر زينت ونعمت كرده ودرهر نعمتى تعبيه محنتى دربيش ساخته من نكد الدنيا مضرة الزرنيخ ومنفعة الهليلج بير طريقت كفت آدمي راسه حالتست سربيان مشغولست يا طاعات است كه اورا ازان سودمندى است يا معصيت كه اورا ازان بشيمانى است يا غفلت است كه اورا ايانكارى است بند نيكوتر از قرآن جيست وناصح مهربان ترا زمولى كيست سرمايه فراح ترا زايمان جيست رابح ترا زتجارت بالله جيست مكر كه آدمى را بزبان خرسندى ويقطيعت رضا دادنى واورا از مولى ييزارى بيداران روز كردد كه بيود بوى هرجه بودنى است بندانكه بذيردكه باو رسد آنجه رسيدنى است اين صفت آن قوم كه رب العزة ميكيويد).
فأهلكنا أشد منهم بطشاً.
ومضى مثل الأولين نسأل الله العصمة.
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} : يعني : قومك وهم قريش ، {مِّنْ} : استفهام بمعنى كه بالفارسية.
{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ؛ أي : الأجرام العلوية والسفلية.
{لَيَقُولُنَّ} : اعترافاً بالصانع.
{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} في حكمه وملكه.
{الْعَلِيمُ} ، بأحوال خلقه (جه اين نوع آفرينش كار جاهل وعاجز نتواند بود بس درين آيت اخبار ميكند ازغايت جهل انسانكه مقرند بآفريننده قوي ودانا وعبادت غير أو ميكويد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال في "الإرشاد" : ليسندن خلقها إلى من هذا شأنه في الحقيقة.
وفي نفس الأمر لا أنهم يعبرون عنه ، بهذا العنوان.
وقد جوز أن يكون ذلك عين عبارتهم ، وفي "فتح الرحمن" ، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا خلقهن الله ، فلما ذكر الله تعالى المعنى : جاءت العبارة عن الله بالعزيز العليم ، ليكون ذلك توطئة لما عدده بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها عن الكلام الذي حكي معناه عن قريش ، وهو قوله الذي.
(8/270)
وفي الآية إشارة إلى أن في جبلة الإنسان معرفةمركوزة ، وذلك لأن الله تعالى ذرأ ذريات بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم بخطاب : ألست بربكم ، فأسمعهم خطابه وعرفهم ربوبيته وفقهم لإجابته حتى قالوا : بلى.
فصار ذلك الإقرار بذر ثمرة إقرارهم بخالقية الله تعالى في هذا العالم ، لكن الله تعالى لعزته لا يهتدي إلى سرادقات عزته إلا من أعزه الله تعالى بجذبات عنايته ، وهو العليم الذي يعلم حيث يجعل رسالاته.
اسم أعظم (بكند كار خود اى دل خوش باش.
كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود).
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} استئناف من جهته تعالى.
والجعل بمعنى تصيير الشيء على حاله دون حالة والمهد والمهاد المكان الممهد الموطأ لقوله تعالى : {جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا} (البقرة : 22) ؛ أي : بسطها لكم تستقرون فيها.
وبالفارسية : (ساخت براى شما زمين را بساطى كسترده تاقراركاه شما باشد).
وفي "بحر العلوم" : جعل الأرض مسكناً لكم تقعدون عليها وتنامون وتنقلبون كما ينقلب أحدكم على فراشه ومهاده.
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} تسلكونها في أسفاركم لأمور الدين والدنيا جمع سبيل ، وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك.
وقال الراغب : السبيل الطريق الذي فيه سهولة.
{لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ؛ أي : لكي تهتدوا لسلوكها إلى مقاصدكم.
يعني : (بسوى بلاد وديارى كه خواهيد).
أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي.
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَالِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ} بمقدار ووزن ينفع العباد والبلاد ، ولا يضرهم وبالفارسية : (آبى باندازه حاجت ومصلحت يعنى نه بسيار غرق شدن باشد جون طوفان ونه اندك كه
353
مهمات زراعت وغير اورا كفايت نكند).
وهذه عادة الله في عامة الأوقات ، وقد ينزل بحسب الحكمة ما يحصل به السيول ، فيضرهم ، وذلك في عشرين أو ثلاثين سنة مرة ابتلاء منه لعباده وأخذاً بهم بما اقترفوا.
{فَأَنشَرْنَا بِهِ} ؛ أي : أحيينا بذلك الماء والإنشار إحياء الميت.
بالفارسية : زنده كردن مرده را.
{بَلْدَةً مَّيْتًا} مخفف من الميت بالتشديد ؛ أي : خالية عن النماء والنبات بالكلية شبه زوال النماء عنها بزوال الحياة عن البدن وتذكير ميتاً ؛ لأن البلدة في معنى البلد ، والمكان والفضاء.
وقال سعدي المفتي : لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير الميت إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإحياء الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض.
{تُخْرَجُونَ} ؛ أي : تبعثون من قبوركم إحياء تشبيه إحيائهم بإحياء البلدة الميت كما يدل على قدرة الله تعالى وحكمته مطلقاً ، فكذلك يدل على قدرته على القيامة والبعث.
وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى ، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث لتقويم سند الاستدلال وتوضيح منهاج القياس.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى : نزل من سماء الروح ماء الهداية ، فأحيا به بلدة القلب الميت كذلك يخرج العبد من ظلمات أرض الوجود إلى نور الله تعالى ، فإنه ما دام لم يحيا قلبه بماء الهداية ، لم يخرج من ظلمات أرض الوجود ، كما أن البذر ما لم يحيا في داخل الأرض بالمطر لم يظهر في ظاهرها ، فكان الفيض سبب النور.
روي : أن أم الحسن البصري رضي الله عنه كانت مولاة أم سلمة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلّم وربما غابت لحاجة ، فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها ، فيشربه ، فنال الحكمة والفصاحة من بركة ذلك.
وأيضاً حياة القلب بأسباب منها : الغذاء الحلال.
(ئنقلست كه اويس القرنى رضي الله عنه يكبارسه شبا نروز هيج نخورده بود بيرون آمد برراه يك دينار افتاده بود كفت ازكسى افتاده باشد روى كردانيد تاكياه اززمين برجيند وبخورد ناكاه ديكدكه كوسفندى مى آيد وكرده كرم دردهان كرفته بيش وى بنهاد واو كفت مكر ازكسى ربوده باشد روى بكر دانيد كو سفند بسخن درآمد كفت من بنده آن كنم توبنده وى بستان روزى از بنده خداى كفت دست دراز كردم تاكرده بر كيرم كرده دردست خويش ديدم وكوسفند نابديدشد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/271)
يقول الفقير : لعله كان من الأرواح العلوية ، وإنما تمثل بصورة الغنم من حيث أن أويس كان الراعي ، ومن حيث أن الغنم كان صورة الانقياد والاستسلام.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى جعل للناس طرقاً مختلفة من الهداية والضلالة ، فأما طريق الهداية فبعدد أنفاس الخلائق وكلها موصلة إلى الله تعالى ، وأما طريق الضلالة ، فليس شيء منها موصلاً إلى الرحمة ، بل إلى الغضب ، فليسارع العبد إلى قبول دعوة داعي الرحمة كما.
قيل : خواص هذه الأمة وأفضل الطريق طريق الذكر والتوحيد.
ولذا أمر الله بالذكر الكثير :
بيش روشن دلان بحر صفا
درك حق كوهرست دون دريا
برورش ده بقعر آن كهرى
كه نيايد بلب ازان اثرى
تاخدا سازدش بنصرت وعون
كوهرى قيمتش فزون زدو كون
{وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} ؛ أي : أصناف المخلوقات بأسرها كما قال :
354
{مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (يس : 36) لا يشذ شيء منها عن إيجاده واختراعه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأزواج : الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.
وقيل : كل ما سوى الله فهو زوج كفوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف ، وماض ومستقبل ، وذات وصفات وأرض وسماء وبحر وشمس وقمر وليل ونهار وصيف وشتاء وجنة ونار إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود وإن محدثها فرد منزه عن المقابل والمعارض.
{وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ} ؛ أي : السفن الجارية في البحر.
{وَالانْعَـامِ} ؛ أي : الإبل والدواب يعني : (جهاربابان).
{مَا تَرْكَبُونَ} ؛ أي : ما تركبونه في البحر والبر على تغليب أحد اعتباري الفعل لقوته على الآخر فإن ركب يعدى إلى الأنعام بنفسه.
يقال : ركبت الدابة وإلى الفلك بواسطة حرف الجر.
يقال : ركبت في الفلك.
وتقديم البيان على المبين للمحافظة على الفاصلة النونية ، وتقديم الفلك على الأنعام ؛ لأن الفلك أدل دليل على القدرة الباهرة والحكمة البالغة.
{لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ} ؛ أي : لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام والظهور للأنعام حقيقة لا للفلك ، فدل على تغليب الأنعام على الفلك.
وإيراد لفظ ظهور بصيغة الجمع مع أن ما أضيف مفرد إليه للمعنى ؛ لأن مرجع الضمير جمع في المعنى ، وإن كان مفرداً في اللفظ.
{ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} عليكم {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والمراد الذكر بالقلوب ؛ لأنه هو الأصل.
وله الاعتبار فقد ورد "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم بل إلى قلوبكم ونياتكم".
وبه يظهر وجه إيثار تذكروا على تحمدوا.
والمعنى : ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استعليتم عليه معترفين بها مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم.
{وَتَقُولُوا} متعجبين من ذلك.
{سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا} : المركوب يعني : (باكست آن خداى كه رام ونرم كردانيد وزيردست ساخت براى ما اين كشتى واين حيوانرا تابمدد ركوب برايشان قطع بر وبحر ميكنيم).
{وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ} ؛ أي : مطيقين بتذليلها يعني : ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك ، وأن نضبطها ، فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته.
وهذا من تمام ذكر نعمته تعالى إذ بدون اعتراف المنعم عليه بالعجز عن تحصيل النعمة لا يعرف قدرها ولا حق المنعم بها.
قال في "القاموس" : أقرن الأمر أطاقه وقوي عليه ، كاستقرن وعن الأمر ضعف ضد ، انتهى.
والإقران بالفارسية : (طاقت جيزى داشتن).
وفي "كشف الأسرار" : تقول : أقرنت الرجل إذا ضبطته وساويته في القوة وصرت له قرناً.
وقال غيره : أصله وجده قرينه ؛ لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف ، يعني : أن من وجد شيئاً قرينه لم يصعب عليه ، وهو معنى أطاقه.
{وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ؛ أي : راجعون بالموت.
وبالفارسية : (باز كردنده كايم در آخر برمركبى كه جنازه كويند وآخر مركبى از مراكب دنيا آنست.
هش دار وعنان كشيده رو آخر كار.
بر مركب جوبين زجهان خواهى رفت).
وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من المسير ، ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ، ولا يخطر بباله في شيء مما يأتي ويذر أمراً ينافيها ، ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع كالحج وصلة الرحم وطلب العلم.
ونحو ذلك.
وأيضاً : إن الركوب
355
موقع في الخطر والخوف من حيث أن راكب الدابة لا يأمن من عثارها أو شموسها مثلاً.
والهلاك بذلك.
وكذا راكب السفينة لا يأمن انكسارها وانقلابها وغرقها ، فينبغي للراكب أن لا يغفل عن الله لحظة ويستعد للقائه ، ويعلم أن الموت أقرب إليه من شراك نعله وإن كل نفس يتنفسه ؛ كأنه آخر الأنفاس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/272)
قال بعضهم : أجل نعمة الله على العباد أن يقويهم على نفوسهم الأمارة وينصرهم عليها ، حتى يركبوا عليها ويميتوها بالمجاهدات حتى تستقيم في طاعة الله ، وإذا استقامت وجب عليهم شكر النعمة ، ومن لم يعرف نعم الله عليه إلا في مطعمه ومشربه ومركبه فقد صغر نعم الله عليه ، ثم إن تسخير النفوس بعد استوائها في إطاعة الله يكون بتسخير الله لا بالكسب والمجاهدة.
ولذا قال سبحان الذي.
إلخ.
وإنما ذكر الانقلاب في الآخر ؛ لأن رجوع النفس إلى الله إنما هو بعد تسخيرها المذكور.
وقال بعضهم : وإنا إلى ربنا لمنقلبون كما جئنا أول مرة.
كما قال : {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (الأنبياء : 104) ؛ أي : كما بدأ خلقنا بإشارة أمركن وإخراج أرواحنا من كتم العدم إلى عالم الملكوت بنفخته الخاصة ردنا إلى أسفل سافلين.
القالب : وهو عالم الملك ، ثم بجذبة ، ارجعي إلى ربك ، أعادنا على مركب النفوس من عالم الملك إلى ساحل بحر الملكوت ، ثم سخر لنا فلك القلوب وسيرنا في بحر الملكوت إلى عالم الربوبية.
روي عن ابن أبي ربيعة : أنه شهد علياً رضي الله عنه تعالى حين ركب ، فلما وضع رجله في الركاب.
قال : باسم الله ، فلما استوى قال : الحمد الله ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، ثم حمد ثلاثاً وكبر ثلاثاً ، ثم قال : لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك ، فقيل له : ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟.
قال : رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ، وقال مثل ما قلت.
ثم ضحك ، فقلنا : مم ضحكت يا رسول الله ، قال : "يعجب ربنا عز وجل من عبده إذا قال : لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ويقول : علم عبدي أن لا يغفر الذنوب غيري".
وفي "عين المعاني" : كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا ركب هلل وكبر ثلاثاً ، ويقال : قبل هذا الحمد الله الذي حملنا في البر والبحر ورزقنا من الطيبات وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً ، ومنّ علينا بالإيمان والقرآن وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا} ، الآية.
وفي "كشف الأسرار" : كان الحسن بن علي رضي الله عنهما يقولها.
ويروى عن الحسن رضي الله عنه أنه كان إذا ركب دابة ، قال : الحمد الذي هدانا للإسلام ، والحمدالذي أكرمنا بالقرآن ، والحمد الله الذي منّ علينا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم والحمد الله الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين.
قال صلى الله تعالى عليه وسلم : "ما من أحد من أمتي استوى على ظهر دابة ، فقال كما أمره الله إلا غفر له".
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إذا ركب العبد الدابة ، فلم يذكر اسم الله عليها ردفه الشيطان وقال له : تغن فإن قال : لا أحسن الغناء ، قال له : تمن ، يعني : تكلم بالباطل ، فلا يزال في أمنيته حتى ينزل".
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وروي : أن قوماً ركبوا في سفر ، وقالوا : {سُبْحَـانَ الَّذِى} ، الآية.
وفيهم رجل على ناقة رازمة ، لا تتحرك هزالاً ، فقال : أما أنا فمقرن مطيق لهذه فسقط عنها بوثبتها واندقت عنقه.
وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنه كان إذا عثرت دابته.
قال : اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ، ولا إله إلا غيرك ، ولا ملجأ ، ولا منجا
356
منك إلا إليك ، ولا حول ولا قوة إلا بك هذا إذا ركب الدابة ، وأما إذا ركب في السفينة ، فيقول : باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون.
{وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَـاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ} .
{وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا} الجاعلون هم : قبائل من العرب ، قالوا : إن الله صاهر الجن فولدت له الملائكة.
وقال بعضهم : هو رد عل بني مليح حيث قالوا : الملائكة بنات الله.
ومليح بالحاء المهملة كزبير حي من خزاعة والجعل هنا بمعنى الحكم بالشيء ، والاعتقاد جعلت زيداً أفضل الناس ؛ أي : حكمت به ووصفته.
والمراد بالعباد : الملائكة ، وهو حال من جزء.
قال في "القاموس" : الجزء : البعض وأجزأت الأم ولدت الإناث ، وجعلوا له من عباده جزءاً ؛ أي : إناثاً.
انتهى.
(8/273)
ولذا قال الزجاج والمبرد والماوردي الجزء عند أهل العربية : البنات.
يقال : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات.
ولذا قال الراغب : جزء الشيء ما تتقوم به جملته ، وجعلوا له من عباد.
جزء قيل : ذلك عبارة عن الإناث من قولهم : أجزأت المرأة : أتت بأنثى.
وقال جار الله : ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ، ثم وضعوا بيتاً ، وقالوا : إن أجزأت حمده يوماً ، فلا عجب.
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
انتهى.
يقول الفقير : لم يكن الجزء في الأصل بمعنى الإناث ، وإنما ذكره أهل اللغة أخذاً من الآية ؛ لأنه فيها بمعنى الولد المفسر بالإناث ، فذكره في اللغات لا ينافي حدوثه ، وإنما عبرعن الولد بالجزء ؛ لأنه بعض أبيه وجزء منه كما قال عليه السلام : "إن فاطمة مني" ؛ أي : قطعة مني.
وقال : "فاطمة بضعة مني" ، والبضعة بالفتح : القطعة من اللحم وإثبات الولد له تعالى مستلزم للتركيب المستلزم للإمكان المنافي للوجوب الذاتي ، فالله تعالى يستحيل أن يكون له ولد هو جزء من والده ؛ لأنه واحد وحدة حقيقية ، ومعنى الآية ، واعتقد المشركون وحكموا وأثبتوا له تعالى ولداً حال كون ذلك الولد من الملائكة الذين هم عباده ، فقالوا : الملائكة بنات الله بعد اعترافهم بألسنتهم واعتقادهم أن خالق السماوات والأرض هو الله ، فكيف يكون له ولد.
والولادة من صفات الأجسام ، وهو خالق الأجسام كلها.
ففيه تعجيب من جهلهم وتنبيه على قلة عقولهم حيث وصفوه بصفات المخلوقين ، وإشارة إلى أن الولد لا يكون عبد أبيه ، والملائكة عباد الله ، فكيف تكون البنات عباداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وقيل : الجزء ها هنا بمعنى النصيب ، كما في قوله تعالى : {لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} () ؛ أي : نصيب ، ومعنى الآية : معنى قوله : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالانْعَـامِ نَصِيبًا} ().
وذلك أنهم جعلوا البناتوالبنين لأنفسهم كم يجيء.
{إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} : ظاهر الكفر مبالغ فيه ، أو مظهر لكفره ، ولذلك يقولون ما يقولون ، سبحانه عما يصفون :
4
بى زن وفرزند شد ذات احد
از ازل فردو صمد شدنا ابد
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} : مفعول اتخذوا البنات.
بالفارسية : (دختران).
{وَأَصْفَـاكُم بِالْبَنِينَ} : (وشمارا خالص كرد وبركز يدبه بسران) : أم منقطعة مقدرة ببل.
والهمزة على أنها للإنكار ، والتوبيخ والتعجيب من شأنهم وتنكير بنات لتربية الحقارة كما أن تعريف البنين لتربية الفخامة ، وقدم البنات لكون المنكر عليهم نسبتهن إلى الله ، فكان ذكرهن أهم بالنظر إلى مقصود المقام ، والالتفات إلى خطابهم لتأكيد الإلزام وتشديد التوبيخ والإصفاء : الإيثار.
وبالفارسية : (بر كزيدن يقال اصفيت فلاناً بكذا) ؛ أي : آثرته به.
والمعنى :
357
بل اتخذ من خلقه البنات التي هي أخس الصنفين ، واختار لكم البنين الذين هم أفضلهما على معنى هبوا أنكم اجتزأتم على إضافة جنس الولد إليه سبحانه وتعالى ، مع ظهور استحالته وامتناعه أما كان لكم شيء من العقل ، ونبذة من الحياء حتى اجترأتم على ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما ، فإن الإناث كانت أبغض الأولاد عندهم.
ولذا وأدوهن ، ولو اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله ، ويدفعه بديهة العقل.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلا} : الالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم.
ويحكى لغيرهم تعجباً منها ، وضرب هنا بمعنى : جعل المتعدي إلى مفعولين حذف الأول منهما لا بمعنى بين ومثلاً بمعنى شبيه لا بمعنى القصة العجيبة ، كما في قولهم : ضرب له المثل بكذا ، والمعنى : وإذا أخبر أحد المشركين بولادة ما جعله مثلاً له تعالى وشبيهاً إذ الولد لا بد أن يجانس الوالد ويماثله.
{ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا} : الظلول هنا بمعنى الصيرورة ؛ أي : صار أسود في الغاية من سوء ما بشر به ، ولذا من رأى في المنام أن وجهه أسود ولدت له بنت ، ويجوز أن يكون اسوداد الوجه عبارة عن الكراهة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَهُوَ كَظِيمٌ} ؛ أي : والحال أنه مملوء من الكرب والكآبة ، يقال : رجل كظيم ومكظوم ؛ أي : مكروب كما في "القاموس".
يقول الفقير : هذه صفة المشركين ؛ فإنهم جاهلون بالله غافلون عن خفي لطفه تحت جلي قهره ، وأما الموحدون ، فحالهم الاستبشار بما ورد عن الله أياً كان إذ لا يفرقون بين أحد من رسله ، كما أن الكريم لا يغلق بابه على أحد من الضيفان والفاني عما سوى الله تعالى ليس له مطلب ، وإنما مطلبه ما أراد الله : (كذشتم ازسر مطالب تمام شد مطلب نقاب جهره مقصود بود مطلبها).
(8/274)
{أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ} : تكرير للإنكار.
والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه ، ومن منصوب بمضمر معطوف على جعلوا.
والتنشئة : التربية.
وبالفارسية : (بروردن).
والحلية : ما يتحلى به الإنسان ويتزين.
وبالفارسية : (آرايش).
والجمع حلي بكسر الحاء وضمها وفتح اللام.
والمعنى : أو جعلوا من شأنه أن يربى في الزينة ، وهو عاجز عن أن يتولى لأمره بنفسه.
يعني : البنات.
وقال سعدي المفتي : لعل القدير اجترؤوا على مثل هذه العظيمة وجعلوا.
وقال الكاشفي : (آيا كسى كه برورده كردد ببرايه يعني : بناز برورش يابد وا اورا قوت حرب ميدان داى نباشيد).
{وَهُوَ} مع ما ذكر من المقصود.
{فِى الْخِصَامِ} مع من يخاصمه ويجادله ؛ أي : في الجدال الذي لا يكاد يخلو الإنسان منه في العادة.
{غَيْرُ مُبِينٍ} غير قادر على تقرير دعواه وإقامة حجته.
كما يقدر الرجل عليه لنقصان عقله وضعف رأيه ، وربما يتكلم عليه ، وهو يريد أن يتكلم له.
وهذا بحسب الغالب ، وإلا فمن الإناث من هو أهل الفصاحة ، والفاضلات على الرجال.
قال الأحنف : سمعت كلام أبي بكر رضي الله عنه حتى مضى ، وكلام عمر رضي الله عنه حتى مضى ، وكلام عثمان رضي الله عنه حتى مضى ، وكلام علي رضي الله عنه حتى مضى.
لا والله ما رأيت أبلغ من عائشة رضي الله عنها.
وقال معاوية رضي الله عنه : ما رأيت أبلغ من عائشة ما أغلقت باباً ، فأرادت فتحه إلا فتحته ، ولا فتحت باباً فأرادت إغلاقه إلا غلقته.
ويدل عليه قوله عليه السلام في حقها "إنها ابنة أبي بكر" إشعاراً بحسن فهمها وفصاحة منطقها كما سبق.
قال الكاشفي : (عرب راشجاعت وفصاحت فخر بودى واغلب زنان ازين دو حليه عاطل مى باشد حق تعالى
358
فرمود كه آيا كسى انجينين باشد خداى تعالى اورا بفرزندى ميكيرد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال أهل التفسير : إضافة غير لا تمنع عمل ما بعده في الجار المتقدم ؛ لأنه بمعنى النفي ؛ كأنه قال : وهو لا يبين في الخصام ومثله مسألة الكتاب أنا زيداً غير ضارب.
قال في "كشف الأسرار" : في الآية تحليل لبس الذهب والحرير للنساء وذم لتزيين الرجال بزينة النساء.
وقال في "بحر العلوم" : وفي الآية دلالة بينة لكل ذي عقل سليم على ترك النشو في الزينة والنعومة والحذر عنه ؛ لأنه تعالى جعله من المعايب والمذام ، ومن صفات الإناث ويعضده قول النبي عليه السلام لمعاذ "إياك والتنعم ، فإن عباد الله ليسوا بمتنعمين".
والتنعم : استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات.
(غدا كر لطيفست وكر سرسرى.
جو ديرت بدست اوفتد خوش خورى).
ومن الكلمات الحكيمة : نم على أوطأ الفراش ؛ أي : وقت غلبة النوم ، وكل ألذ الطعام ؛ أي : وقت غلبة الجوع والعجب كل العجب من علماء عصرك ومتفقهة زمانك يتلون هذه الآية ونحوها.
والأحاديث المطابقة لها في المعنى ، ثم لا يتأملونها تأملاً صحيحاً ، ولا يتبعون فيها نبيهم الكريم في ترك الزينة والتنعم.
(همجو طفلان منكر اندر شرخ وزرد.
جون زنان مغرور رنك وبومكرد).
وقال بعضهم : (خويشتن آراى مشوجون بهار.
تانبود برتو طمع روزكار).
وفيه إشارة إلى أن المرء المتزين كالمرأة ، فالعاقل يكتفي بما يدفع الحر والبرد ويجتهد في تزيين الباطل ، فإنه المنظر الإلهي ، ولو كانت للنساء عقول راجحة لما ملن إلى التزين بالذهب والفضة والحلي والحلل ، أما يكفي للمرء.
والمرأة مضمون ما قيل :
نشد عزيز تر از كعبه اين لباس برست
بجامة كه بسالى رسد قناعت كن
{أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ إِنَـاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ وَيُسْـاَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُما مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ * أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى} .
{وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ إِنَـاثًا} بيان لتضمن كفرهم المذكور لكفر آخر وتقريع لهم بذلك ، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله أنقصهم رأياً وأخسهم صنفاً.
يعني : (ملائكة كه مجاو أن صوامع وملازمان مجامع عبوديت اند دختران نام مى نهند).
والبنات لا تكن عباداً والولد لا يكون عبد أبيه ، ففيه تكذيب لهم في قولهم الملائكة بنات الله.
{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} من الشهود بمعنى الحضور لا من الشهادة ؛ أي : أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتهم ، فإن ذلك إنما يعلم بالمشاهدة ، وهو تجهيل لهم وتهكم بهم ، فإنهم إنما سمعوه من آبائهم ، وهم أيضاً : كذابون جاهلون ، وفيه تخطئة للمنجمين وأهل الحكمة المموهة في كثير من الأمور ، فإنهم بعقولهم القاصرة حكموا على الغيب.
(
(8/275)
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
منجمي بخانة حوددر آمد مرد بيكانه راديد بازن خود بهم نشسته دشنام داد وسقط كفت وفتنة واشوب بر خاست صاحب دلى برين حال واقف شدوكفت.
تو براوج فلك جه دانى جيست.
جو ندانى كه درسراى توكيست).
قال العماد الكاتب : أجمع المنجمون في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في جميع البلاد على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب الستة في الميزان بطوفان الريح ، وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم ، فشرعوا في حفر مغارات ونقلوا إليها الأزواد والماء ، وتهيؤوا ، فلما كانت الليلة التي عينها المنجمون بمثل ريح عاد ونحن جلوس عند السلطان ، والشموع تتوقد ، فلا تتحرك ، ولم نر ليلة في ركودها مثلها.
{سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ} هذه في ديوان أعمالهم يعني : يكتب الملك ما شهدوا بها على الملائكة.
{وَيُسْـاَلُونَ} عنها يوم القيامة وهو وعيد.
قال
359
سعدي المفتي : السين في ستكتب للتأكيد ويحتمل أن يكون للاستعطاف إلى التوبة قبل كتابة ما قالوه ، ولا علم لهم به.
وفي الحديث : "كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل".
وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة.
قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح الله ، أو يستغفر".
قال ابن جريح : هما ملكان : أحدهما عن يمينه.
والآخر عن يساره ، والذي عن يمينه يكتب الحسنات بغير شهادة صاحبه ، والذي عن يساره لا يكتب إلا بشهادة صاحبه إن قعد ، فأحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، وإن مشى ، فأحدهما أمامه والآخر خلفه ، وإن نام ، فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه.
والكفار لهم كتاب وحفظة كما للمؤمنين.
فإن قيل : فالذي يكتب عن يمينه إذ أي شيء يكتب ، ولم يكن لهم حسنة.
يقال له الذي عن شماله : يكتب بإذن صاحبه ، ويكون شاهداً على ذلك ، وإن لم يكتب.
قال بعض المحدثين : تجتنب الملائكة بني آدم في حالين عند الغائط ، وعند الجماع.
وفي "شرح الطريقة" يكره الكلام في الخلاء ، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة ؛ لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام ، فلا بد للمرء من الأدب والمراقبة ، والمسارعة في الخير دون الشر.
وفي الحديث : "عند الله خزائن الخير والشر مفاتيحها الرجال ، فطوبى لمن جعله مفتاحاً للخير ومغلاقاً للشر ، وويل لمن جعله مفتاحاً للشر ومغلاقاً للخير".
ثم في الآية إشارة إلى أن الله تعالى أمهل عباده ، ولم يأخذهم بغتة في الدنيا ليرى العباد أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام ، وليتوبوا من الكفر والمعاصي (بياتا براريم دستى زدل.
كه نتوان برآورد فردازكل.
نريزد خدا آب روى كسى.
كه ريزد كناه آب جشمش بسى).
ومن الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم} : بيان لفن آخر من كفرهم ؛ أي : قال المشركون العابدون للملائكة لو شاء الرحمن عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم أرادوا بذلك أن ما فعلوه حق مرضي عنده تعالى ، وأنهم إنما يفعلونه بمشيئة الله تعالى لا الاعتذار من ارتكاب ما ارتكبوه بأنه بمشيئة الله إياه منهم مع اعترافهم بقبحه حتى ينتهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة ومبنى كلامهم بالباطل على مقدمتين :
إحداهما : أن عبادتهم لهم بمشيئة الله تعالى.
والثانية : أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى.
ولقد أخطؤوا في الثانية حيث جهلوا أن المشيئة عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائناً ما كان من غير اعتبار الرضا والسخط في شيء من الطرفين ، ولذلك جهلوا بقوله : {مَّا لَهُم بِذَالِكَ} ؛ أي : بما أرادوا بقولهم ذلك من كون ما فعلوه بمشيئة الارتضاء لا بمطلق المشيئة ، فإن ذلك محقق ينطق به ما لا يحصى من الآيات الكريمة.
{مِنْ عِلْمٍ} : يستند إلى سند ما {إِنْ هُمْ} ؛ أي : ما هم {إِلا يَخْرُصُونَ} يكذبون ، فإن الخرص الكذب.
وكل قول بالظن والتخمين سواء طابق الواقع ، أم لا؟
قال الراغب : كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له : خرص سواء كان ذلك مطابقاً للشيء أو مخالفاً له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع ، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص في خرصه ، وكل من قال قولاً على هذا النحو يسمى كاذباً ، وإن كان مطابقاً للقول المخبر به ، كما حكى عن قول المنافقين في قوله تعالى :
360
{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَـافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} (المنافقون : 1).
يقول الفقير : إسناد المشيئة إلى الله إيمان وتوحيد إن صدر من المؤمن وإلا فكفر وشرك ؛ لأنه من العناد والعصبية والجهل بحقيقة الأمر ، فلا يعتبر ، ثم أضرب عنه إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل.
فقيل :
(8/276)
{أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ} : (آيا داده اسم ايشانرا).
{كِتَـابًا مِّن قَبْلِهِ} ؛ أي : من قبل القرآن أو الرسول ، أو من قبل ادعائهم ، ينطق بصحة ما يدعونه من عبادة غير الله وكون الملائكة بناته.
{فَهُم بِهِ} ؛ أي : بذلك الكتاب {مُسْتَمْسِكُونَ} وعليه معولون.
(ومقرر است كه ايشانرا كتابي نداده ايم بس ايشانرا حجتى نقلا وعقلا نيست).
ويقال : استمسك به إذا اعتصم به.
قال في "تاج المصادر" : (الاستمساك جنك در زدن).
ويعدى بالباء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي "المفردات" إمساك الشيء التعلق به وحفظه ، واستمسكت بالشيء إذا تحريت الإمساك.
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} : الأمة الدين والطريقة التي تؤم ؛ أي : تقصد.
قال الراغب : الأمة كل جماعة يجمعهم أمر إما دين واحد أو زمان واحد ، أو مكان واحد سواء كان الأمر الجامع تسخيراً ، أو اختياراً.
وقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة ؛ أي : على دين مجتمع عليه.
انتهى.
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ} : مهتدون خبر إن والظرف صلة لمهتدون قدم عليه للاختصاص ويستعمل بعلى تضمنه معنى الثبوت والأثر بفتحتين بقية الشيء والآثار الأعلام.
وسنن النبي عليه السلام آثاره.
قال الراغب : أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده ، ومن هذا يقال للطريق المستدل به على من تقدم آثار.
والآثار بالفارسية : (بيها).
والمعنى : لم يأتوا بحجة عقلية أو نقلية ، بل اعترفوا بأن لا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم :
جه قدررا بتقليد توان بيمودن
رشته كوتاه بود مرغ نوآه موخته را
وفيه ذم للتقليد ، وهو قبول قول الغير بلا دليل ، وهو جائز في الفروع والعمليات ، ولا يجوز في أصول الدين والاعتقادات ، بل لا بد من النظر والاستدلال ، لكن إيمان المقلد صحيح عند الحنفية والظاهرية ، وهو الذي اعتقد جميع ما وجب عليه من حدوث العالم ووجود الصانع ، وصفاته وإرسال الرسل ، وما جاؤوا به حقاً من غير دليل ؛ لأن النبي عليه السلام قبل إيمان الأعراب والصبيان والنسوان والعبيد والإماء من غير تعليم.
الدليل ولكن المقلد يأثم بترك النظر والاستدلال لوجوبه عليه ، والمقصود من الاستدلال هو الانتقال من الأثر إلى المؤثر ، ومن المصنوع إلى الصانع تعالى بأي وجه كان لا ملاحظة الصغرى والكبرى ، وترتيب المقدمات على قاعدة المعقول ، فمن نشأ في بلاد المسلمين وسبح الله عند رؤية صنائعه ، فهو خارج عن حد التقليد ، كما في فصل الخطاب والعلم الضروري أعلى من النظري إذ لا يزول بحال ، وهو مقدمة الكشف والعيان ، وعند الوصول إلى الشهود لا يبقى الاحتياج إلى الواسطة (ع) ساكنان حرم (از قبله نما آزادند).
وفي المثنوي :
جون شدى بربامهاى آسمان
سرد باشد جست وجوى نردبان
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَـالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَكَذَالِكَ} ؛ أي : والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتشبثهم بذيل التقليد.
{مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ} : (دردهى ومجتمعى).
{مِّن نَّذِيرٍ} نبي منذر قوم من عذاب الله.
{إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ} : جبابرتها {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} : طريقة ودين.
{وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا} سننهم وأعمالهم {مُّقْتَدُونَ} قوله : ما أرسلنا.
إلخ.
استئناف دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم ليس لأسلافهم أيضاً سند غيره وتخص المترفين
361
بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد ، يقال : أترفته النعمة ؛ أي : أطغته.
والمراد بالمترفين : الأغنياء والرؤساء الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش في الدنيا وأشغلتهم عن نعيم الآخرة ، ويدخل فيهم كل من يتمادى في الشهوات ويتبالغ في النفرة من لوازم الدين من الشرائع والأحكام.
وفي الحديث : "ما بال أقوام يشرفون المترفين ، ويستخفون بالعابدين يعملون بالقرآن ما وافق أهواءهم وما خالف أهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، يسعون فيما يدرك بغير سعي من القدر المحتوم والرزق المقسوم ، والأجل المكتوب ، ولا يسعون فيما لا يدرك إلا بالسعي من الأجر الموفور والسعي المشكور والتجارة التي لا تبور".
(8/277)
قال بعضهم : إن الله تعالى ضمن لنا الدنيا وطلب منا الآخرة ، فليته طلب منا الدنيا وضمن لنا الآخرة ، فعلى العاقل الاقتفاء على آثار المهتدين وعمارة الآخرة كما عليه أرباب اليقين.
قال الصائب :
برنمى آيى بنعمتهاى الوان زينهار
تاتوان غم خورد فكر نعمت الوان مكن
كار عاقل نيست بند خويش محكم ساختن
عمر خودرا صرف در تعمير اين زندان مكن
{قَالَ} ؛ أي : كل نذير من أولئك المنذرين لأممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم.
{أَوَلَوْ جِئْتُكُم} ؛ أي : أتفتدون بآبائكم ، ولو جئتكم {بِأَهْدَى} ؛ أي : بدين أهدى وأرشد {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ} ؛ أي : من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء ، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف.
{قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ} ؛ أي : قال : كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلت به كافرون ، وإن كان أهدى مما كنا فيه ؛ أي : ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ، وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز ، كما في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ} (المؤمنون : 51) ، وفيه إقرار منهم بتصميمهم على تقليد آبائهم في الكفر والضلال ، وإقناط للنذير من أن ينظروا ويتفكروا فيه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
خلق را تقليد شان بربادداد
كه دوصد لعنت برين تقليد باد
كرجه عقلش سوى بالاميبرد
مرغ تقليدش به بستى مى برد
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : (بس ما انتقام كشيديم از مقلدان معاند باستئصال ايشان).
إذ لم يبق لهم عذر أصلاً.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من الأمم المذكورين ، فلا تكترث بتكذيب قومك ، فإن الله ينتقم منهم باسمه المنتقم القاهر القابض.
قال علي رضي الله عنه السعيد من وعظ بغيره.
يعني : (نيكبخت آن بودكه جون ديكرا برا بند دهند واذكار ناشايسته وكفتار نا بسنديده بازدارند اوازان بند عبرت كيرد).
روي عن الشعبي أنه قال : خرج أسد وذئب وثعلب يتصيدون ، فاصطادوا حمار وحش وغزالاً وأرنباً فقال الأسد للذئب اقسم ، فقال : حمار الوحش للملك والغزال لي والأرنب للثعلب ، قال : فرفع الأسد يده وضرب رأس الذئب ضربة ، فإذا هو منجدل بين يدي الأسد ، ثم قال للثعلب اقسم هذه بيننا ، فقال الحمار يتغدى به الملك والغزال يتعشى به والأرنب بين ذلك ، فقال الأسد : ويحك ما أقضاك من علمك هذا القضاء ، فقال : القضاء الذي نزل برأس الذئب ، فالإنسان مع كونه أعقل الموجودات لا يعتبر.
وفي بعض الكتب سأل بعض الملوك بنته البكر عن ألذ الأشياء ، فقالت : الخمر والجماع والولاية ، فهم بقتلها ، فقالت : والله ما ذقتها ، ولكني أرى ما فيك من الخمار والصداع ، ثم أراك تعاودها ، وأرى ما تلاقي أمي من نصب الولادة والألم والإشراف على الموت ، ثم أراها في فراشك إذا طهرت من نفاسها وأسمع ما يجري على عمالك
362
عند انعزالهم من الضرب والحبس والمصادرة ، ثم أراهم يطلبون الأعمال بأتم حرص ، ولا يعتبرون بما جرى عليهم وعلى غيرهم ، فعرفت أن هذه الثلاثة ألذ الأشياء فعفا الملك عنها.
قال الشيخ سعدي :
ندانستى كه بينى بند برباى
جودر كوشت نيايد بند مردم
دكرره كرندارى طاقت بيش
مكن انكشت در سوراخ كزدم
وجاء في الأمثال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
وفيه إشارة إلى حال النفس الناسية القاسية ، فإنها مع ما تذوق في الدنيا من وبال سيئاتها تعود إلى ما كانت عليه نسأل الله العصمة والتوفيق والعفو والعافية.
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ وَقَوْمِه إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّه سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} ؛ أي : واذكر يا محمد لقومك قريش وقت قول إبراهيم عليه السلام بعد الخروج من النار {لابِيهِ} : (تارخ الشهير بآزر.
وكان ينحت الأصنام).
{وَقَوْمِهِ} المكبين على التقليد وعبادة الأصنام كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} وتمسك بالبرهان ليسلكوا مسلك الاستدلال ، أو ليقتدوا به إن لم يكن لهم بد من التقليد ، فإنه أشرف آبائهم وبراء بفتح الباء مصدر نعت به مبالغة ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والمتعدد يقال : نحن البراء ، أما البريء فهو يؤنث ويجمع يقال : بريء وبريئون وبريئة وبريئات.
والمعنى : بريء من عبادتكم لغير الله إن كانت مصدرية ، أو من معبودكم إن كانت موصولة حذف عائدها.
(8/278)
{إِلا الَّذِى فَطَرَنِى} استثناء منقطع إن كانوا عبدة الأصنام ؛ أي : لكن الذي خلقني لا أبرأ منه ، والفطر ابتداء خلق من غير مثال من قولهم : فطرت البئر إذا أنشأت حفرها من غير أصل سابق ، أو متصل على أن ما نعم أولى العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، أو صفة على أن ما موصوفة ؛ أي : إني بريء من آلهة ، تعبدونها غير الذي فطرني فإن إلا بمعنى غير لا يوسف بها إلا جمع منكور غير محصور وهو هنا آلهة كما هو مذهب ابن الحاجب.
{فَإِنَّه سَيَهْدِينِ} ؛ أي : سيثبتني على الهداية ، أو سيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن ، ولذا أورد كلمة التسويف هنا بعدما قال في الشعراء ، فهو يهدين بلا تسويف.
والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار ؛ أي : دوام الهداية حالاً واستقبالاً.
{وَجَعَلَهَا} ؛ أي : جعل إبراهيم كلمة التوحيد التي كان ما تكلم به من قوله : إنني إلى سيهدين عبارة عنها ، يعني : أن البراءة من كل معبود سوى الله توحيد للمعبود بالحق ، وقول بلا إله إلا الله.
{كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} ؛ أي : في ذريته حيث وصاهم بها كما نطق به قوله تعالى : {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِامُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (البقرة : 132).
الآية.
فالقول المذكور بعد الخروج من النار ، وهذا الجعل بعد حصول الأولاد الكبار ، فلا يزال فيهم نسلاً بعد نسل من يوحد الله ويدعو إلى توحيده وتفريده إلى قيام الساعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال الراغب : العقب مؤخر الرجل واستعير للولد وولد الولد.
انتهى.
فعقب الرجل ولده الذكور والإناث وأولادهم وما قيل : من أن عقب الرجل وأولاده الذكور ، كما وقع في أجناس الناطفي ، أو أولاده البنات ، كما نقل عن بعض الفقهاء ، فكلا القولين ضعيف جداً مخالف للغة لا يوثق به.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : علة للجعل والضمير للعقب وإسناد الرجوع إليهم من وصف الكل بحال الأكثر والترجي راجع إلى إبراهيم عليه السلام ؛ أي : جعلها باقية في عقبه وخلفه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد.
قال بعضهم في سبب
363
تكريم وجه علي بن أبي طالب ، بأن يقال : كرم الله وجه إنه نقل عن والدته فاطمة بنت أسد بن هاشم أنها كانت إذا أرادت أن تسجد للصنم ، وهو في بطنها يمنعها من ذلك ونظر فيه البعض بأن قال عبادة قريش صنماً وإن كانت مشهورة عند الناس ، لكن الصواب خلافه لقول إبراهيم عليه السلام : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) ، وقول الله في حقه {وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} (الزخرف : 28).
وجوابه في سورة إبراهيم ، {فَارْجِعِ} .
وفي الآية إشارة إلى أن كل من ادعى معرفة الله ، والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء وإرشاد الله من الفلاسفة والبراهمة والرهابنة ، فدعواه فاسد ومتمناه كاسد.
قال الشيخ سعدي :
درين بحر جز مرد راعى نرفت
كم آن شدكه دمبال داعى نرفت
كسانى كزين راه بركشته اند
برفتند وبسيار سركشته اند
خلاف بيمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
وإشارة أخرى أن بعد أهل العناية يهتدون إلى معرفة الله بإرشاد الله ، وإن لم يبلغه دعوة نبي ، أو إرشاد ولي أو نصح ناصح ولا يتقيد بتقليد آبائه ، وأهل بلده من أهل الضلالة والأهواء والبدع ، ولا تؤثر فيه شبههم ودلائلهم المعقولة المشوبة بالوهم والخيال ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، كما كان حال إبراهيم عليه السلام كذلك ، فإن الله تعالى أرشده من غير أن يبلغه دعوة نبي ، أو إرشاد ولي ، أو نصح ناصح ، فلما آتاه الله رشده دعا قومه إلى التوحيد ووصى به بنيه لعلهم يرجعون عن الشرك.
وفيه إشارة إلى أن الرجوع إلى الله على قدمي اعتقاد أهل السنة والجماعة والأعمال الصالحة على قانون المتابعة بنور هذه الكلمة الباقية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ} : إضراب عن محذوف ؛ أي : فلم يحصل ما رجاه ، بل متعت منهم هؤلاء المعاصرين للرسول من أهل مكة.
{وَءَابَآءَهُمْ} بالمد في العمر والنعمة ، فاغتروا بالمهلة وانهمكوا في الشهوات وشغلوا به عن كلمة التوحيد.
{حَتَّى جَآءَهُمُ} ؛ أي : هؤلاء {الْحَقُّ} ؛ أي : القرآن.
{وَرَسُولٌ} ؛ أي : رسول {مُّبِينٌ} : ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة ، أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج ، فحتى ليست غاية للتمتع ، بل لما تسبب عنه من الاغترار المذكور وما يليه.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِه كَـافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى} .
(8/279)
{وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ} لينبههم عما هم فيه من الغفلة ، ويرشدهم إلى التوحيد ازدادوا كفراً وعتواً وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به حيث {قَالُوا هَـاذَا} الحق والقرآن {سِحْرٌ} ، وهو إراءة الباطل في صورة الحق ، وبالفارسية : (جادويى).
{وَإِنَّا بِه كَـافِرُونَ} : (بارر نداريم كه آن من عند الله است).
فسموا القرآن سحراً وكفروا به.
وفيه إشارة إلى أرباب الدين وأهل الحق ، فإن أهل الأهواء والبدع والضلالة ينظرون إلى الحق وأهله كمن ينظر إلى السحر وساحره وينطقون بكلمة الكفر بلسان الحال ، وإن كانوا يمسكون بلسان المقال.
واعلم أن الكفر والتكذيب والإنكار من أوصاف أهل الجحيم ؛ لأنه كما أن الجحيم مظهر قهر الله تعالى ، فكذا الأوصاف المذكورة من أمارات قهر الله تعالى ، فمن وجد فيه شيء من ذلك فقد اقتضت المناسبة أن يدخل النار ، وأن الإيمان والتصديق والإقرار من أوصاف أهل الجنة ؛ لأنه كما أن الجنة مظهر لطف الله تعالى ، فكذا الأوصاف المذكورة من آثار لطف الله تعالى ، فمن وجد فيه شيء من ذلك فقد اقتضت المناسبة أن يدخل الجنة ، ولكن التصديق على أقسام :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
فقسم باللسان ،
364
وهو الذي يشترك فيه المطيع والعاصي والخواص والعوام ، وهو مفيد في الآخرة إذ لا يخلد صاحبه في النار.
وقسم بالأركان والطاعات والأذكار وأسباب اليقين ، فذلك تصديق الأنبياء والأولياء والصديقين والصالحين.
وبه يسلم صاحبه من الآفات مطلقاً.
وفي الحديث : "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" ، قيل : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : "من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى".
أراد عليه السلام : "من أطاعني وصدقني فيما جئت به من الاعتقاد والعلم والعمل ، ومن عصاني في ذلك ، فيكون المراد بالأمة ، أمة الدعوة والإجابة جميعاً.
استثنى منه أمة الدعوة.
وذلك فإن الأمة تطلق تارة على كافة الناس ، وهم أمة الدعوة ، وأخرى على المؤمنين ، وهم أمة الإجابة ، فأمة الإجابة أمة دعوة ، ولا ينعكس كلياً ، فاحذر الإباء والزم البقاء تنعم في جنة المأوى ، فإن طريق النجاة هي الطاعات والأعمال الصالحات ، فمن غرته الأماني واعتاد أملاً طويلاً فقد خسر خسراناً مبيناً نسأل الله سبحانه أن يجعلنا كما أمر في كتابه المبين ، آمين.
{وَقَالُوا} أهل مكة {لَوْلا} حرف تحضيض {نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} من إحدى القريتين مكة والطائف.
{عَظِيمٍ} بالمال والجاه كالوليد بن المغيرة المخزومي بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، فهو على نهج قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن : 22) ؛ أي : من أحدهما ، وذلك لأن من للابتداء وكون الرجل الواحد من القريتين بعيد ، فقدر المضاف ، ومنهم من لم يقدر مضافاً.
وقال : أراد على رجل كائن من القريتين كلتيهما.
والمراد به عروة المذكور ؛ لأنه كان يسكن مكة والطائف جميعاً ، وكان له في مكة أموال يتجر بها ، وكان له في الطائف بساتين وضياع ، فكان يتردد إليهما ، فصار كأنه من أهلهما.
يقول الفقير : هنا وجه خفي ، وهو أن النسبة إلى القريتين قد تكون بالمهاجرة من إحداهما إلى الأخرى ، كما يقال : المكي المدني والمصري الشامي ، وذلك بعد الإقامة في إحداهما أربع سنين صرح بذلك أهل أصول الحديث ، ثم إنهم لم يتفوهوا بهذه الكلمة العظيمة حسداً على نزوله على الرسول عليه السلام دون من ذكر من عظمائهم من اعترافهم بقرآنيته بل استدلالاً على عدمها بمعنى أنه لو كان قرآناً لنزل على أحد هذين الرجلين بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل لا يليق به إلا من له جلاله من حيث المال والجاه ، ولم يدروا أن العظيم من عظمة الله وأعلى قدره في الدارين لا من عظمة الناس ، إذ رب عظيم عندهم حقير عند الله.
وبالعكس وإن الله يختص برحمته من يشاء ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، وفي قولهم : عظيم تعظيم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعظم شأنه وفخم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} إنكار فيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم.
والمراد بالرحمة النبوة.
يعني : أبيدهم مفاتيح الرسالة والنبوة ، فيضعونها حيث شاؤوا ، يعني : تابر هركه خواهند در نبوت بكشايند.
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} ؛ أي : أسباب معيشتهم.
والمعيشة ما يعيش به الإنسان ويتغذى به ويجعله سبباً في قوام بنيته إذ العيش الحياة المختصة بالحيوان ، وهو يعم الحلال والحرام عند أهل السنة والجماعة.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ} : قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ، ولم نفوض أمرنا إليهم علماً منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية ، كما دل عليه تقديم المسند إليه ، وهو نحن
365
إذ هو للاختصاص.
(8/280)
والحاصل : نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم ، وهو أدنى من الرسالة ، فلم نترك اختيارها إليهم ، وإلا لضاعوا وهلكوا فما ظنهم في أمر الدين ؛ أي : فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل وأعظم ، وهو الرسالة.
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الرزق وسائر مبادي المعاش.
{دَرَجَـاتٍ} نصب بنزع الخافض ؛ أي : إلى درجات متفاوتة بحسب القرب والبعد ، حسبما تقتضيه الحكمة ، فمن ضعيف وقوي وفقير وغني وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم.
{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} من التسخير والاستخدام ، ولكون المراد هنا الاستخدام دون الهزؤ ؛ لأنه لا يليق التعليل به أجمع القراء على ضم السين في الرواية المشهورة عنهم ، فما كان من التسخير ، فهو مضموم ، وما كان من الهزؤ ، فهو مكسور.
والمعنى : ليستعمل بعضهم بعضاً في مصالحهم ، ويسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله ، وهذا بعمله ، فيتم قوام العالم لا لكمال في الموسع ولا لنقض في المقتر.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ} ؛ أي : النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين.
{خَيْرٌ} لأهلها.
{مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ؛ أي : بجميع هؤلاء الكفار من حطام الدنيا الدنية الفانية ، والعظيم من رزق من تلك الرحمة العظيمة لا مما يجمعون من الدنيء الحقير يظنون أن العظمة به.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يعطي لفقير من فقراء البلد لا يؤبه به ما لا يعطي لعلمائه وأفاضله من حقائق القرآن وأسراره ، فإن قسمة الولاية بيده كقسمة النبوة ، فما لا يحصل بالدرس قد يحصل بالوهب ، وكما أن في صورة المال تسخير بعضهم لبعض لأجل الغنى ، فكذا في صورة العالم والولاية تسخير بعضهم لبعض للتربية وكل من العلم والولاية والنبوة خير من الدنيا وما فيها من الأموال والأرزاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال بعضهم : المعيشة أنواع إيمان وصدق وإرادة وعلم وخدمة وتوبة وإنابة ومحبة وشوق وعشق ومعرفة وتوحيد وفراسة وكرامة ووارد وقناعة وتوكل ورضا وتسليم.
فتفاوت أصحاب هذه المقامات ، كما تتفاوت أرباب الرزق وكذلك يتفاوتون في المعرفة مثلاً.
فإن بعضهم أعلى في المعرفة من بعض ، وإن اشتركوا في نفس المعرفة وقس عليه صاحب المحبة ونحوها ، هذا للمقلين إليه وللمدبرين كمن يأكل النعم اللذيذة والحشرات المضرة.
وقال بعضهم : باينبينهم بمعرفة كيد النفس ووسوسة الشيطان ، فالأعرف أفضل من العارف وطريقه لذكر.
قال سهل : الذكرخير من كثرة الأعمال ؛ أي : إذا كان خالصاً.
(ودر حقائق سلمى اورده كه تفاوت درجات باخلاق حسنة است خوى هركه نيكوتر درجة او بلندتر.
يكى خوب كردار وخوش خوى بود.
كه بدسيرتا نرا نكو كوى بود.
بخوابش كسى ديدجون در كذشت.
كه بارى حكايت كن از سر كذشت.
دهانى بخنده جو كل باز كرد.
جو بلبل بصوت خوش آغار كرد.
كه بر من نكردند سختى بسى.
كه من سخت نكرفتمى بركسى).
قالت الفلاسفة : إن الكمالات البشرية مشروطة بالاستعداد والمذهب الحق أن جميع المقامات كالنبوة والولاية.
وغيرهما وكذا السلطنة والوزارة ونحوهما اختصاصية عطائية غير كسبية ولا مشروطة بشيء من الاستعداد ونحوه.
فإن الاستعداد أيضاً عطاء من الله تعالى كما قيل :
داد حق راقابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد حق
وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم
366
المحجوب ، فيظن أنه كسبي بالتعمل.
وحاصل بالاستعداد ، وليس كذلك في الحقيقة ، فالله تعالى هو الولي يتولى أمر عباده ، فيفعل ما تقتضيه حكمته ، ولا دخل لشيء من ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن رفعهم إلى درجات الكمال بحرمة أكامل الرجال.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـاُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} .
بتقدير المضاف مثل كراهة أن يكون الناس ، فإن لولا لانتفاء الثاني لوجود الأول ، ولا تحقق مدلول لولا ظاهراً.
(8/281)
والمعنى : ولولا كراهة أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا ، وتوهم أن ذلك الفضيلة في الكفار ، فيجمعوا ، ويكونوا في الكفر أمة واحدة.
{لَّجَعَلْنَا} لحقارة الدنيا ، وهو أنها عندنا.
{لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ} ؛ أي : لشر الخلائق وأدناهم منزلة ، كما قال تعالى : {أَولَئكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (البينة : 6).
{لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من لمن ، أو اللام بمعنى على وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراد المستكن في يكفر باعتبار لفظها ، والبيوت والأبيات جمع بيت ، وهو اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد بني للبيتوتة.
قال الراغب : أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه والبيوت بالمسكن أخص ، والأبيات بالشعر ، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر ومن صوف ووبر وبه شبه بيت الشعر.
{سُقُفًا} متخذة {مِّن فِضَّةٍ} جمع سقف ، وهو سماء البيت ، والفضة جسم ذائب صابر منطرق أبيض رزين بالقياس إلى باقي الأجساد.
وبالفارسية : (نقره).
سميت فضة لتفضضها وتفرقها في وجوه المصالح.
{وَمَعَارِجَ} عطف على سقفاً جمع معرج بفتح الميم وكسرها ، بمعنى السلم ، وبالفارسية : (نردبان).
قال الراغب : العروج ذهاب في صعود ، والمعارج المصاعد.
والمعنى : وجعلنا لهم مصاعد ومراقي من فضة حذف لدلالة الأول عليه.
{عَلَيْهَا} ؛ أي : على المعارج.
{يَظْهَرُونَ} يقال : ظهر عليه إذا علاه وارتقى إليه وأصل ظهر الشيء أن يحصل شيء على ظهر الأرض ، فلا يخفى ، ثم صار مستعملاً في كل بارز للبصر والبصيرة ، والمعنى : يعلون السطوح والعلالي.
وبالفارسية : (ونردبانها كه بدان بريام آن خانها برايند وخودرا بنمايند).
{وَلِبُيُوتِهِمْ} ؛ أي : وجعلنا لبيوتهم لعل تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير.
{أَبْوَابًا} درها.
والباب : يقال لمدخل الشيء وأصل ذلك مداخل الأمكنة كباب المدينة والدار والبيت.
{وَسُرُرًا} تحتها ؛ أي : من فضة جمع سرير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال الراغب : السرير الذي يجلس عليه من السرور إذا كان ذلك لأولي النعمة وسرير الميت تشبيه به في الصورة ، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن".
{عَلَيْهَا} ؛ أي : على السرر.
{يَتَّكِـاُونَ} : (تكيه كنند).
والاتكاء : الاعتماد.
{وَزُخْرُفًا} هو في الأصل بمعنى الذهب ، ويستعار لمعنى الزينة ، كما قال تعالى : {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا} (يونس : 24).
قال الراغب : الزخرف : الزينة المزوقة.
ومنه قيل : للذهب زخرف ، كما قال تعالى : {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} (الإسراء : 93) ؛ أي : ذهب مزوق.
قال في "تاج المصادر" : الزخرفة : (آراستن).
وزوق البيت زينه وصور فيه من الزئبق ، ثم قيل : لكل منقش ومزين مزوق ، وإن لم يكن فيه الزئبق.
والمعنى : وزينة عظيمة من كل شيء عطفاً على سقفاً ، أو ذهباً عطفاً على محل من فضة ، فيكون أصل الكلام سقفاً من فضة وزخرف
367
، يعني بعض السقف من فضة ، وبعضها من ذهب ، ثم نصب عطفاً على محله.
وفي الحديث : "يقول الله تعالى : لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد ولصببت عليه الدنيا صباً" ، وإنما أراد بعصابة الحديد كناية عن صحة البدن ، يعني لا يصدع رأسه.
وفي بعض الكتب الإلهية عن الله تعالى : لولا أن يحزن العبد المؤمن لكللت رأس الكافر بالأكاليل ، فلا يصدع ولا بنبض منه عرق بوجع.
{وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ} : إن نافية ، ولما بالتشديد بمعنى إلا أي وما كان ذلك المذكور من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا لا دوام له ، ولا حاصل إلا الندامة والغرامة.
وقرىء : بتخفيف لما على أن هي المخففة ، واللام : هي الفارقة بينها وبين الناصبة ، وما صلة.
والتقدير : أن الشأن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا.
{وَالاخِرَةُ} بما فيها من فنون النعم التي يقصر عنها البيان.
{عِندَ رَبِّكَ} يعني : (در حكم) ، أو {لِلْمُتَّقِينَ} ؛ أي : عن الكفر والمعاصي :
هركس كه رخ از متاع فانى برنافت
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
واندر طلب دولت باقى بشتافت
آنجا كه كمال همتش بود رسيد
وآنجيز كه مقصود دلتس بود بيافت
فإن قيل : قد بيّن الله تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام فالجواب لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا ، وهذا الإيمان إيمان المنافقين ، فكان من الحكمة أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل في الإسلام ، فإنما يدخل لمتابعة الدليل ، ولطلب رضا الله ، فحينئذٍ يعظم ثوابه بهذا السبب ؛ لأن ثواب المرء على حسب إخلاصه ونيته ، وإن هجرته إلى ما هاجر إليه.(8/282)
قال في "شرح الترغيب" : فإن قيل : ما الحكمة في اختيار الله تعالى لنبيه الفقر ، واختياره إياه لنفسه ؛ أي : مع قوله : لو شئت لدعوت ربي عز وجل ، فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر.
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه لو كان غنياً لقصده قوم طمعاً في الدنيا ، فاختار الله له الفقر حتى أن كل من قصده علم الخلائق أنه قصده طلباً للعقبى.
والثاني : ما قيل : إن الله اختار الفقر له نظراً القلوب الفقراء حتى يتسلى الفقير بفقره ، كما يتسلى الغني بماله.
الثالث : ما قيل : إن فقره دليل على هوان الدنيا على الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلّم لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".
انتهى.
ومعنى : هوان الدنيا على الله أنه سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها ، بل جعلها طريقاً موصلاً إلى ما هو المقصود لنفسه ، وأنه لم يجعلها دار إقامة ، ولا جزاء ، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء ، وأنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال ، وأبغضها وأبغض أهلها ، ولم يرض العاقل فيها إلا بالتزود للارتحال عنها.
قال الصائب :
از رباط تن جوبكذشتى ذكر معمورة نيست
زادر هى برنمى دارى ازين منزل جرا
تداركنا الله وإياكم بفضله.
{وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ} من شرطية.
وبالفارسية بمعنى : (وهركه).
ويعش بضم الشين من عشا يعشو عشاً إذا تعاشى بلا آفة ، وتعامى ؛ أي : نظر نظر العشا ولا آفة في بصره.
ويقال : عشي يعشى كرضي إذا كان في بصره آفة مخلة بالرؤية.
قال الراغب : العشا بالفتح والقصر ظلمة تعرض في العين.
يقال رجل أعشى وامرأة عشواء.
وفي "القاموس" : العشا : سوء البصر
368
بالليل والنهار وخبطه خبط عشواء ركبه على غير بصيرة من الناقة العشواء التي لا تبصر أمامها.
والمراد بالذكر القرآن وإضافته إلى الرحمن إشارة إلى كونه رحمة عامة من الله ، أو هو مصدر مضاف إلى مفعول.
والمعنى : ومن يتعامى ويعرض عن القرآن ، أو عن أن يذكر الرحمن.
وبالفارسية : (وهركه جشم بوشد از قرآن ويا ازياد كردن خداى).
لفرط اشتغاله بزهرة الحياة الدنيا وانهماكه في الحظوظ والشهوات الفانية.
{نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا} .
نسلطه عليه ونضمه إليه ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض ، وهو القشر إلا على اليابس.
{فَهُوَ} ؛ أي : ذلك الشيطان.
{لَهُ} ؛ أي : لذلك العاشي والمعرض.
{قَرِينٌ} بالفارسية : (همنشين ودمساز).
ومصاحب لا يفارقه ، ولا يزال يوسوسه ويغويه ويزين له العمى على الهدى والقبيح بدل الحسن.
قال عليه السلام : "إذا أراد الله بعبد شراً قيض له شيطاناً قبل موته بسنة ، فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده حتى لا يعمل به ، ولا يرى قبيحاً إلا حسنه حتى يعمل به" وينبغي أن يكون هذا الشيطان غير قرينه الجني الكافر ، وإلا فكل أحد له شيطان هو قرينة ، كما قال صلى الله عليه وسلّم "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينة من الجن وقرينه من الملائكة قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : "وإياي ، ولكن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير" (در نفحات الأنس آوردكه شيخ أبو القاسم مصري قدس سره بايكى از مؤمنان جن دوستى وقتى در مسجدي نشسته بود جنى كفت اي شيخ اين مردم راجه كونه مى بينى كفت بعضى را در خواب وبعضى خواب كفت آنجه برسر هاى ايشانست مى بينى كفتم نه جشمهاى مرا بماليد ديدم كه برسر هركسى بعضى رابالها بجشم فرو كذاشته وبعضى راكاهى فرو كذاريد وكاهى بالامى برد كفتم اين جيست كفت نشنيده كه).
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} : (اينها شياطين اندبر سرهاى ايشان نشسته وبر هريكى بقدر غفلت وى استيلا يافته ، دريغ ودردكه بانفس بد قرين شده ايم.
وزين معامله باد بو همنشين شده ايم.
بباركاه فلك بوده ايم رشك ملك ، زجور نفس جفابيشه اينجنين شدع ايم).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفيه إشارة إلى أن من دوام على ذكر الرحمن لم يقربه الشيطان بحال.
قال بعضهم : من نسي الله ترك مراقبته ولم يستح منه ، أو أقبل على شيء من حظوظ نفسه قيض الله له شيطاناً يوسوس له في جميع أنفاسه ، ويغري نفسه إلى طلب هواها حتى يتسلط على عقله وعلمه ، وبيانه وهذا كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : الشهوة والغضب يغلبان العقل والعلم والبيان ، وهذا جزاء من أعرض عن متابعة القرآن ، ومتابعة السنة.
(8/283)
وقال بعضهم : من أعرض عن الله بالإقبال على الدنيا يقيض له شيطاناً ، وإن أصعب الشياطين نفسك الأمارة بالسوء ، فهو له ملازم لا يفارقه في الدنيا والآخرة ، فهذا جزاء من ترك المجالسة مع الله بالإعراض عن الذكر ، فإنه يقول : "أنا جليس من ذكرني" ، فمن لم يذكر ، ولم يعرف قدر خلوته مع الله وحاد عن ذكره ، واختلف إلى خواطر النفسانية الشيطانية سلط الله عليه من يشغله عن الله ، وإذا اشتغل العبد في خلوته بذكر ربه بنفي ما سوى الله ، وإثبات الحق بلا إله إلا الله ، فإذا تعرض له من يشغله عن ربه صرفته سطوات الإلهية عنه ، ومن لم يعرف قدر فراغ قلبه ، واتبع شهوته ،
369
وفتح بابها على نفسه بقي في يد هواه أسيراً غالباً عليه أوصاف شيطنة النفس.
روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس مثل من أمثال العرب إلا وأصله في كتاب الله.
قيل له : من أين قول الناس : أعط أخاك ثمرة ، فإن أبى فجمرة ، قال من قوله : ومن يعش الآية.
{وَإِنَّهُمْ} ؛ أي : الشياطين الذين قيض كل واحد منهم لواحد ممن يعشو.
{لَيَصُدُّونَهُمْ} ؛ أي : يمنعون قرناءهم فمدار جمع الضميرين اعتبار معنى من كما أن مدار إفراد الضمائر السابقة اعتبار لفظها.
{عَنِ السَّبِيلِ} عن الطريق المستبين الذي من حقه أن يسبل ، وهو الذي يدعو إليه القرآن.
{وَيَحْسَبُونَ} ؛ أي : والحال أن العاشين يظنون.
{إِنَّهُمْ} ؛ أي : الشياطين.
{مُّهْتَدُونَ} ؛ أي : السبيل المستقيم ، وإلا لما اتبعوهم ، أو يحسبون أن أنفسهم مهتدون ؛ لأن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
{حَتَّى إِذَا جَآءَنَا} حتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية ، ومع هذا غاية لما قبلها ، فإن الابتدائية لا تنافيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والمعنى : يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصدق والحسبان الباطل حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة.
{قَالَ} مخاطباً له.
يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} في الدنيا {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} بعد المشرق والمغرب ؛ أي : تباعد كل منهما عن الآخر ، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما ، يعني : أن حق النسبة أن يضاف إلى أحد المنتسبين ؛ لأن قيام معنى واحد بمحلين ممتنع ، بل يقوم بأحدهما ، ويتعلق بالآخر ، لكن لما ثنى المشرق بعد التغليب لم يبق مجال للإضافة إلى أحدهما ، فأضيف إليهما على تغليب القيام على التعلق.
والمعنى بالفارسية : (اى كاشكى ميان من وتو بودى روى ميان مشرق ومغرب يعنى كاش تو از من ومن ازتو دور بودى).
{فَبِئْسَ الْقَرِينُ} ؛ أي : أنت.
وبالفارسية :
بس بد همنشيني تو
يعني بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا ، وبئس الصاحب اليوم.
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان ، فلا يفارقه حتى يصير إلى النار ، كما أن الملك لا يفارق المؤمن حتى يصير إلى الجنة ، فالشيطان قرين للكافر في الدنيا والآخرة ، والملك قرين المؤمن فيهما ، فبئس القرين الأول ، ونعم القرين الثاني.
{حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} .
{وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ} : حكاية لما سيقال لهم حينئذٍ من جهة الله تعالى توبيخاً وتقريعاً ؛ أي : لن ينفعكم اليوم تمنيكم لمباعدتهم {إِذ ظَّلَمْتُمْ} ؛ أي : لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي ، وإذا للتعليل متعلق بالنفي ، كما قال سيبويه : إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة.
{أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} تعليل لنفي النفع ؛ أي : لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم القرناء في العذاب ، كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : ربنا آتنا ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ، ونظائره لتشفوا بذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي الآية إشارة إلى حال التابع والمتبوع من أهل الأهواء والبدع ، فإن المتبوع منهم كان شيطان التابع في الإضلال عن طريق السنة ، فلما فات الوقت وأدرك المقت وقعوا في التمني الباطل.
قيل : ()
فضل اليوم على الغد
أن للتأخير آفات
فعلى العاقل تدارك حاله ، وتفكر ما له والهرب من الشيطان الأسود والأبيض قبل أن يهرب هو منه.
حكي : أن عابداً عبد الله تعالى في صومعته دهراً طويلاً ، فولدت لملكهم ابنة
370
(8/284)
حلف الملك أن لا يمسها الرجال ، فأخرجها إلى صومعته وأسكنها معه لئلا يشعر أحد مكانها ولا يستخطبها.
قال : وكبرت الابنة ، فحضر إبليس على صورة شيخ وخدعه بها حتى واقعها الزاهد وأحبلها ، فلما ظهر بها الحبل رجع إليه ، وقال له : إنك زاهدنا وأنها لو ولدت يظهر زناك ، فتصير فضيحة ، فاقتلها قبل الولادة ، وأعلم والدها أنها قد ماتت ، فيصدقك ، فتنجو من العذاب والشين ، فقتلها الزاهد ، فجاء الشيطان إلى الملك في زي العلماء ، فأخبره بصنع الزاهد بابنته من الإحبال والقتل.
وقال له : إن أردت أن تعرف حقيقة ما أخبرتك ، فانبش قبرها وشق بطنها ، فإن خرج منها ولد ، فهو صدق مقالتي ، وإن لم يخرج فاقتلني.
فعل ذلك الملك ، فإذا الأمر كما قال ، فأخذ الزاهد فأركبه جملاً وحمله إلى بلده ، فصلبه ، فجاء الشيطان ، وهو مصلوب ، فقال له : زنيت بأمري وقتلت بأمري فآمن بي أنجك من عذاب الملك ، فأدركته الشقاوة فآمن به ، فهرب الشيطان منه ووقف من بعيد ، فقال الزاهد : نجني.
قال : إني أخاف الله رب العالمين ، فالنفس والشيطان قرينان للإنسان يغويانه إلى أن يهلك :
دانسته ام كه دزد من اذخانة منست
وزيستى وبلندى ديوار فارغم
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} ؛ أي : من فقد سمع القلوب.
{أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ} من فقد البصائر جمع أصم وأعمى.
وبالفارسية : (آيا تو اى محمد سخن حق توانى شنوانيد آنانراكه كوش دل كرانت يا كورد لانرا طريق حق توانى نمود).
يشير إلى أن من سددنا بصيرته ولبسنا عليه رشده ومن صبينا في مسامع قلبه رصاص الشقاء والحرمان لا يمكنك يا محمد مع كمال نبوتك هدايته وإسماعه من غير عنايتنا السابقة ، ورعايتنا اللاحقة.
كان عليه الصلاة والسلام يتعب نفسه في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون الأغيار إلا تعامياً عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاماً عما يسمعونه من بينات القرآن ، فنزلت.
وهو إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر ، واستغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقروناً بالصمم فنزل منزلة من يدعي أنه قادر على ذلك لإصراره على دعائهم.
قائلاً : أنا أسمع وأهدي على قصد تقوى الحكم لا التخصيص ، فعجب تعالى منه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال ابن الشيخ : وما أحسن هذا الترتيب.
فإن الإنسان لاشتغاله بطلب الدنيا والميل إلى الحظوظ الجسمانية يكون كمن بعينه رمد ضعيف ، ثم إنه كلما ازداد اشتداده بها ، واشتد إعراضه عن النعيم الروحاني ازداد رمده ، فينتقل من أن يكون أعشى إلى أن يكون أعمى.
{وَمَن كَانَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} لا يخفى على أحد ؛ أي : ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلالة.
وبالفارسية : (وانراكه هست در كمراهى هويدا يعنى تو قادر نوستى برهدايت كمراهان بس بسيار تعب بر نفس خود منه).
وهو عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط بحيث لا ارعواء لهم عنه لا توهم القصور من قبل الهادي ، ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء ، يعني لا يقدر على إسماع الصم وهداية العمي ، وجعل الكافر مؤمناً إلا الله وحده لعظم قدرته وإحاطة تعلقها بكل مقدور (ع) : (آن به كه كار خود بعنايت رها كنيم).
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} : أصله إن ما على أن إنْ للشرط وما : مزيدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة ؛ أي : فإن قبضناك وأمتناك قبل أن نبصرك عذابهم ، ونشفي بذلك صدرك وصدر المؤمنين.
وبالفارسية : (بش اكر ما ببريم ترابا جوار
371
رحمت خود بيش ازانكه عذاب ايشان بتو بنمايم دل خوش دار).
{فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} لا محالة في الدنيا والآخرة :
مكن شادمانى بمرك كسى
كه دهرت نماند بس ازوى بسى
قال ابن عطاء : أنتت أمان فيما بينهم ، فإن قبضناك انتقمنا منهم ، فليغتنم العقلاء وجود الصلحاء ، وليجتنبوا من معاداتهم ، فإن في ذلك الهلاك.
قال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه : على عباده حجتان : حجة ظاهرة : هي الرسول.
وحجة باطنة : هي العقول.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَـاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَا إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَا وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ} .
{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَـاهُمْ} أو إن أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم.
{فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} : لا يفوتوننا لأنهم تحت قهرنا وقدرتنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/285)
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، بأنه تعالى ينتقم من أعدائه ومنكريه.
إما في حال حياته ، وإما بعد وفاته ، وأنه قادر على انتقامهم بواسطته ، كما كان يوم بدر ، أو بغير واسطة ، كما كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه وغيره.
فبذلك أثبته على حد الخوف والرجاء ، ووقفه على حد التجويز لاستبداده بعلم الغيب.
وكذلك المقصود في الأمر من كل أحد أن يكون من جملة نظارة التقدير ، ويفعل الله ما يريد.
قال المولى الجامي :
اى دل تاكى فضولى وبو العجبى
از من نشان عاقبت مى طلبي
سر كشته بود خواه ولى خواه نبى
دروادى ما أدري ما يفعل بى
وفي الحديث : "إذا أراد الله بأمة خيراً قبض الله نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً وسلفاً ، وإذا أراد الله بأمة عذاباً ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوه".
قالوا : كل نبي قد رأى النقمة في أمته غير نبينا عليه السلام ، فإن الله أكرمه ، فلم ير في أمته إلا الذي تقر به عينه ، وأبقى النقمة بعده ، وهي البلايا الشديدة.
روي : أنه عليه السلام "أري ما يصيب أمته بعده ، فما رؤي مستبشراً ضاحكاً حتى قبض".
وفي الحديث : "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم" قالوا : هذا خيرنا في حياتك فما خيرنا في مماتك؟ فقال : "تعرض علي أعمالكم كل عشية الإثنين والخميس ، فما كان من خير حمدت الله تعالى ، وما كان من شر أستغفر الله لكم ، ولذلك استحب صوم يوم الاثنين والخميس.
وقد قال عليه السلام : "تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس".
يعني : (مفتوح مى شود ابواب جنت درهر دوشنبه ونبحبشنبه).
يعني : لشرفهما لكون يوم الإثنين يوم ولادة النبي عليه السلام ، ويوم الخميس يوم عرض الأعمال الله سبحانه وتعالى.
واعلم أن كل أحد يشرب من كأس الموت يقال : أوحى الله تعالى إلى نبينا عليه السلام ، فقال : يا محمد أحبب من شئت ، فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه غداً وعش ما شئت فإنك ميت :
منه دل برين سال خورده مكان
كه كنبد نيابد بروكر دكان
وكر بهلوانى وكر تيغ زن
نخواهى بدر بردن الا كفن
فرو رفت جم را يكى نازنين
كفن كرد جون كرمش ابريشمين
بدحمه در آمد بس از جند روز
كه بروى بكربد بزارى وسوز
جو بوسيده ديدش حرير كفن
بفكرت جنين كفت باخويشتن
من از كرم بركنده بودم بزور
بكندند ازو باز كرمان كور
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ} ؛ أي : أمسك بالقرآن الذي أنزل عليك بمراعاة أحكامه سواء عجلنا لك المعهود ، أو أخرناه إلى يوم الآخرة.
{إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؛ أي : طريق سوى لا عوج له ، وهو طريق التوحيد ودين الإسلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي "التأويلات النجمية" : فاعتصم بالقرآن ، فإنه حبل الله المتين بأن تتخلق بخلقه وتدور معه حيث يدور وقف حيث ما أمرت وثق ، فإنك على صراط مستقيم تصل به إلى حضرة جلالنا.
{وَإِنَّهُ} ؛ أي : القرآن الذي أوحى إليك.
{لَذِكْرٌ}
372
لشرف عظيم.
{لَكَ} خصوصاً {وَلِقَوْمِكَ} ، وأمتك عموماً ، كما قال عليه السلام : إن لكل شيء شرفاً يباهي به وإن بها أمتي وشرفها : القرآن.
فالمراد بالقوم : الأمة.
كما قال مجاهد ، وقال بعضهم : ولقوتك من قريش حيث يقال : إن هذا الكتاب العظيم إنزال الله على رجل من هؤلاء.
قال في "الكواشي" : أولاهم بذلك الشرف الأقرب ، فالأقرب منه عليه السلام كقريش ، ثم بنى هاشم وبني المطلب.
قال ابن عطاء : شرف لك بانتسابك إلينا وشرف لقومك بانتسابهم إليك ؛ أي : لأن الانتساب إلى العظيم الشريف عظيم شرف ، ثم جمع الله النبي مع قومه ، فقال : {وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ} يوم القيامة عنه ، وعن قيامكم بحقوقه وعن تعظيمكم وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين.
وفي "التأويلات النجمية" : وأن القرآن به شرف الوصول لك ولمتابعيك ، وسوف تسألون عن هذا الشرف والكرامة ، هل أديتم حقه وقمتم بأداء شكره ساعين في طلب الوصول والوصال ، أم ضيعتم حقه وجعلتموه وسيلة الاستنزال إلى الدرك بصرفه في تحصيل المنافع الدنيوية ، والمطالب النفسانية.
انتهى.
قال بعضهم : علوم العارفين مبنية على الكشف والعيان ، وعلوم غيرهم من الخواطر الفكرية والأذهان ، وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح ، وبداية طريق غيرهم مطالعة الكتب والاستعداد من المخلوقين في حصول المصالح ، ونهاية علومهم الوصول إلى شهود حضرة الحي القيوم ، ونهاية علوم غيرهم تحصيل الوظائف ، والمناصب وجمع الحطام الذي لا يدوم :
زيان ميكند مرد تفسير دان
كه علم وادب مى فروشد بنان
كجا عقل باشرع فتوى دهد
كه اهل خرد دين بدنيا دهد
(8/286)
فكما أن العالم الغير العامل والجاهل الغير العامل سواء في كونهما مطروحين عن باب الله تعالى.
وكذا العارف الغير العامل والغافل الغير العامل سواء في كونهما مردودين على باب الله تعالى ؛ لأن مجرد العلم والمعرفة ليس سبب القبول والقدر ما لم يقارن العمل بالكتاب والسنة ، بل كون مجرد هما سبب الفلاح ، مذهب الحكماء الغير الإسلامية ، فلا بد معهما من العمل حتى يكونا سبباً للنجاة ، كما هو مذهب أهل السنة والحكماء الإسلامية.
والإنسان إما حيواني ، وهم الذين غلبت عليهم أوصاف الطبيعة وأحوال الشهوة من الأكل والشرب والمنام ونحوها ، وإما شيطاني.
وهم الذين غلبت عليهم أوصاف النفس وأحوال الشيطنة كالكبر والعجب والحسد وغيرها ، وإما ملكي وهم الذين غلبت عليهم أوصاف الروح ، وأحوال الملكية في العلم والعمل والذكر والتسبيح ونحوها ، فمن تمسك بالقرآن ، وعمل بما فيه علمه الله ما لم يعلم ، وجعله من أهل الكشف والعيان.
فيكون من الذين يتلون آيات الله في الآفاق والأنفس ويكاشفون عن حقائق القرآن ، فهذا الشرف العظيم لهذه الأمة ؛ لأنه ليس لغيرهم : هذا القرآن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قال موسى : يا رب هل في الأمم أكرم عليك ممن ظللت عليهم الغمام ، وأنزلت عليهم المن والسلوى.
قال : يا موسى إن فضل أمة محمد على الأمم ، كفضلي على خلقي ، فقال موسى : إلهي اجعلني من أمة محمد.
قال : يا موسى لن تدركهم ، ولكن أتشتهي أن تسمع كلامهم.
قال : نعم يا رب فنادى : يا أمة محمد ، فقالوا : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، والخير كله بيديك ، فجعل الله تلك الإجابة من شعائر الحج ، ثم قال : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي ، قد غفرت لكم قبل أن تعصوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله
373
إلا الله وأن محمداً رسول الله ، أسكنته الجنة ، ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر ، وعدد القطر ، وعدد النجوم وعدد أيام الدنيا.
وفي التوراة في حق هذه الأمة : أناجيلهم في صدورهم ؛ أي : يحفظون كتابهم.
وفي المثنوي :
تو زقرآن اى بسر ظاهر مبين
ديو آدم رانه بيند جز كه طين
ظاهر قرآن جو شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
{وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَا وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ * وَسْـاَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآياتنا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاياهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بآياتنا إِذَا هُم مِّنْهَا} .
{وَسْـاَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} .
قوله : من أرسلنا في محل النصب على أنه مفعول اسأل ، وهو على حذف المضاف لاستحالة السؤال من الرسل حقيقة.
والمعنى : واسأل أممهم وعلماء دينهم ، كقوله تعالى : {فَسْـاَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس : 94) ، وفائدة هذا المجاز التنبيه على أن المسؤول عنه عين ما نطقت به ألسنة الرسل لا ما يقوله أممهم وعلماؤهم من تلقاء أنفسهم.
{أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} ؛ أي : هل حكمنا بعبادة الأوثان ، وهل جاءت في ملة من مللهم.
والمراد به : الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يكذب ، ويعادى له ، فإنه أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة.
قال ابن الشيخ : السؤال يكون لرفع الالتباس ، ولم يكن رسول الله يشك في ذلك ، وإنما الخطاب له.
والمراد غيره.
قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزلت هذه الآية ، قال عليه السلام : "ما أنا بالذي أشك ، وما أنا بالذي أسأل".
وجعل الزمخشري السؤال في الآية مجازاً عن النظر في أديانهم ، والفحص عن مللهم على أنه نظير قولهم : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك ، وللآية وجه آخر بحملها على ظاهرها من غير تقدير مضاف ، وهو ما روي أنه عليه السلام : لما أسري به إلى المسجد الأقصى حشر إليه الأنبياء والمرسلون من قبورهم ، ومثلوا له فأذن جبرائيل ، ثم أقام وقال : يا محمد تقدم فصل بإخوانك الأنبياء والمرسلين ، فلما فرغ من الصلاة.
قال له جبرائيل : زعمت قريش أنشريكاً ، وزعمت اليهود والنصارى أنولداً ، سل يا محمد هؤلاء النبيين ، هل كانشريك ، ثم قرأ : واسأل من أرسلنا.
إلخ.
فقال عليه السلام : "لا أسأل ولقد اكتفيت ولست بشاك فيه" ، فلم يشك فيه ، ولم يسأل ، وكان أثبت يقيناً من ذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال أبو القاسم : "المفسر في كتاب التنزيل" له : أن هذه الآية أنزلت على النبي عليه السلام ببيت المقدس ليلة المعراج ، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرواتعالى بالوحدانية.
وقالوا : بعثنا بالتوحيد.
(8/287)
صاحب "عين المعاني" : (أورده كه در آثار آمد كه ميكائيل از جبرائيل برسيدكه سيد عالم عليه السلام اين سؤال كرد از انبيا جبرائيل كفت يقين اوازان كاملتر وايمان أو ازان محكمترست كه اين سؤال كنده.
آنكه در كشف كرده استقلال).
كى توجه كند باستدلال.
وفي المثنوي :
آينه روشن كه صد صاف وجلى
جهل باشد بر نهادر صيقلى
بيش سلطان خوش نشسته دل قبول
زشت باشد جستن نامه ورسول
وفي الآية إشارة إلى أن بعثة جميع الرسل كانت على النهي عن عبادة غير الله من النفس والهوى والشيطان ، أو شيء من الدنيا والآخرة كقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة : 5) ؛ أي : ليقصدوه ، فإنه المقصود ، ويطلبوه ، فإنه المطلوب والمحبوب والمعبود.
قال بعض الكبار : لا تطلب مولاك مع شيء من الدنيا والآخرة من الظاهر والباطن ، ولا من العلم والعرفان ، ولا من الذوق والوجدان ، ولا من الشهود والعيان ، بل اطلبه بلا شيء حتى تكون طالباً خالصاً مخلصاً له الدين ، وإذا كنت
374
طالباً لمولاك بدون شيء تنجو من رق الغير وتكون حراً باقياً ، في رق مولاك ، فحينئذٍ تكون عبداً محضاً لمولى واحد ، فيصلح تسميتك عبد الله والعبد فقير إذ كل ما في يده لمولاه غني بغنى الله إذ كل خزائنه له.
ومن إشارات هذا المقام ما قال عليه السلام : "يؤتى بالعبد الفقير يوم القيامة ، فيعتذر الله إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا ، ويقول : وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ، ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف ، وانظر إلى من أطعمك ، أو كساك ، وأراد بذلك وجهي فخذ بيده ، فهو لك والناس يومئذٍ قد ألجمهم العرق ، فيتخلل الصفوف ، وينظر من فعل به ذلك في الدنيا ، فيأخذ بيده ، ويدخله الجنة :
كليد كلشن فردوس دست احسانست
بهشت مى طلبى از سر درم برخيز
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} : حال كونه ملتبساً {بآياتنا} التسع الدالة على صحة نبوته {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} ؛ أي : أشراف قومه.
والإرسال إلى الأشراف إرسال إلى الأرذال ؛ لأنهم تابعون لهم.
{فَقَالَ} : موسى لهم {إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} لكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{فَلَمَّا جَآءَهُم بآياتنا} ليسعدوا وينتهوا وينتفعوا بها {إِذَا} : (همان وقت) {هُمْ} : (ايشان).
{مِّنْهَا} ؛ أي : من تلك الآيات {يَضْحَكُونَ} : إذا اسم بمعنى : الوقت.
نصب على المفعولية لفاجأوا المقدر ومحل ، لما نصب على أنه ظرف له ؛ أي : فاجأوا وقت ضحكهم منها ؛ أي : استهزؤوا بها وكذبوها أول ما رأوها ، ولم يتأملوا فيها.
وقالوا : سحر وتخييل ظلماً وعلواً.
{فَلَمَّا جَآءَهُم بآياتنا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يا اأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} .
{وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ} من الآيات.
بالفارسية : (ننموديم ايشانرا هيج معجزه).
{إِلا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} : الأخت تأنيث الأخ ، وجعلت التاء فيها ، كالعوض عن المحذوف منه ؛ أي : أعظم عن الآية التي تقدمتها ليكون العذاب أعظم لما كانت الآية مؤنثاً عبر عنها بالأخت وسماها أختها في اشتراكهما في الصحة والصدق ، وكون كل منهما نظيرة الأخرى وقرينتها وصاحبتها في ذلك ، وفي كونها آية.
وفي "كشف الأسرار" : (اين آنست كه بارسيان كوبندكه همه از يكديكر نيكوتر مهتر وبهتر).
والمقصود : وصف الكل بالكبر الذي لا مزيد عليه من باب الكناية.
يقول الفقير : الظاهر أن الكلام من باب الترقي وعليه عادة الله تعالى إلى وقت الاستئصال.
وقال بعضهم : إلا وهي مختصة بضرب من الإعجاز مفضلة بذلك الاعتبار على غيرها.
يقول الفقير : فالآيات متساوية في أنفسها ، متفاوتة بالاعتبار كالآيات القرآنية ، فإنها متساوية في كونها كلام الله تعالى متفاوتة بالنسبة إلى طبقاتها في المعاني.
فالمراد على هذا بالأفعل ، هي الزيادة من وجه ، وهي مجاز ؛ لأن المصادر التي تتضمنها الأفعال والأسماء موضوعة للماهية لا للفرد المنتشر.
(8/288)
قال بعض الكبار : إن الله تعالى لم يأتهم بشيء من الآيات إلا كان أوضح مما قبله ، ولم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله من ظلومية طبع الإنسان وكفوريته.
{وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ} ؛ أي : عاقبناهم بالسنين والطوفان والجراد والدم والطمس ونحوها.
وكانت هذه الآيات دلالات ومعجزات لموسى وزجراً ، أو عذاباً للكافرين.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ؛ أي : لكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر ، فإن من جهولية نفس الإنسان ، أن لا يرجع إلى الله على أقدام العبودية إلا أن يجر بسلاسل البأساء والضراء إلى الحضرة ، فكلمة لعل مستعارة لمعنى كي ، وهو التعليل كما سبق في أول هذه السورة ، وتفسير بإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان ، كما فسره أهل الاعتزال خطأ محض لا ريب فيه ؛ لأن الإرادة
375
تستلزم المراد بخلاف الأمر التكليفي ، فإنه قد يأمر بما لا يريد ، والذي يريده ، فهو واقع البتة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَقَالُوا} ؛ أي : فرعون وقومه في كل مرة من العذاب لما ضاق نطاق بشريتهم.
يا اأَيُّهَ السَّاحِرُ} نادوا بذلك في مثل تلك الحالة ؛ أي : عند طلب كشف العذاب بدعائه لغاية عتوهم وغاية حماقتهم ، أو سبق ذلك إلى لسانهم على ما ألفوه من تسميتهم إياه بالساحر لفرط حيرتهم.
قال سعدي المفتي : والأظهر أن النداء كان باسمه العلم كما في الأعراف ، لكن حكى الله تعالى هنا كلامهم لا بعبارتهم ، بل على وفق ما أضمرته قلوبهم من اعتقادهم أنه ساحر لاقتضاء مقام التسلية ذلك ، فإن قريشاً أيضاً سموه ساحراً وسموا ما أتى به سحراً.
وعن الحسن : قالوه على الاستهزاء.
وقال ابن بحر ؛ أي : الغالب بالسحر نحو خصمته.
وقال بعضهم : قالوه تعظيماً ، فإن السحر كان عندهم علماً عظيماً ، وصفة ممدوحة.
والساحر فيهم عظيم الشأن ، فكأنهم قالوا : يا أيها العالم بالسحر الكامل الحاذق فيه {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ليكشف عنا العذاب.
قال في "التأويلات النجمية" : ما قالوا مع هذا الاضطرار يا أيها الرسول ، وما قالوا : ادع لنا ربنا ؛ لأنهم ما رجعوا إلى الله بصدق النية وخلوص العقيدة ليروه بنور الإيمان رسولاً ، ويروا الله ربهم ، وإنما طمعوا باضطرار لخلاص أنفسهم لا لخلاص قلوبهم.
{بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} ما : مصدرية ، والباء : للسببية.
وأصل العهد بمعنى : التوصية أن يتعدى بإلى إلا أنه أورد بدلها لفظ عندك إشعاراً بأن تلك الوصية مرعية محفوظة عنده لا مضيعة ملغاة.
قال الراغب : العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال وعهد فلان إلى فلان بعهد ؛ أي : ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه.
والمعنى : بسبب عهده عندك بالنبوة ، فإن النبوة تسمى عهد الله.
وبالفارسية : (بسبب آن عهدى كه نزديك تونهاده است).
أو من استجابة دعوتك ، أو من كشف العذاب عمن اهتدى.
قال بعضهم : الأظهر أن الباء في الوجه الأول للقسم ؛ أي : ادع الله بحق ما عندك من النبوة.
{إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} ؛ أي : لمؤمنون على تقدير كشف العذاب عنا بدعوتك وعد منهم معلق بشرط الدعاء ، ولذا تعرضوا للنبوة على تقدير صحتها.
وقالوا : ربك لا ربنا ، فإنه إنما يكون ربهم بعد الإيمان ؛ لأنهم قائلون بربوبية فرعون.
{فَلَمَّآ} : (بس آن هنكام كه).
{كَشَفْنَا} : (ببرديم وازاله كرديم).
{عَنْهُمُ الْعَذَابَ} بدعاء موسى.
{إِذَا هُم} : (همان زمان ايشان) {يَنكُثُونَ} : النكث في الأصل نقض الحبل والغزل ونحو ذلك.
وبالفارسية : (تابازدادن ريسمان).
واستعير لنقض العهد.
والمعنى : فاجأوا وقت نقض عهدهم بالاهتداء ، وهو الإيمان ؛ أي : بادروا النكث ، ولم يؤخروه وعادوا إلى كفرهم ، وأصروا عليه ، ولما نقضوا عهودهم صاروا ملعونين ، ومن آثار لعنهم الغرق ، كما يأتي فعلى العاقل الوفاء بالعهد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
حكي : أن النعمان بن المنذر من ملوك العرب جعل لنفسه في كل سنة يومين ، فإذا خرج فأول من يطلع عليه في يوم نعمه يعطيه مائة من الإبل ويغنيه.
وفي يوم بؤسه يقتله ، فلقيه في يوم بؤسه رجل طاقي ، فأيقن بقتله.
وقال : حيَّ الله الملك إن الاحتياج والضرورة قد حملاني على الخروج في هذا اليوم ، ولكن لا يتفاوت الأمر في قتلي بين أول النهار وآخره ، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إلى أهلي وأولادي القوت وأودعهم ، ثم أعود فرق له النعمان.
وقال : لا يكون ذلك إلا بضمان رجل منا ، فإن لم ترجع قتلناه.
قال شريك بن علي : ضمانه علي ، فذهب الطاقي ، ثم رجع قريباً من المساء ، فلما رآه النعمان أطرق رأسه ، ثم رفع وقال : ما رأيت
376
مثلكما ، أما أنت أيها الطاقي ، فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يفتخر به ، وأما أنت يا شريك ، فما تركت لكريم سماحة؟ فلا أكون أخس الثلاثة ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس كرامة لكما ، ثم أحسن إلى الطاقي.
وقال : ما حملك على ذلك؟ قال : ديني فمن لا وفاء له لا دين له ، فظهر أن الوفاء سبب النجاة.
وفي المثنوي :
جرعه برخاك وفا آنكس كه ريخت
كى تواند سيد دولت زوكريخت
(8/289)
وأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله منع الدماء والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره ، ومن الله الفوز باللقاء الدائم.
وعن بعضهم أنه سافر للحج على قدم التجريد وعاهد الله أنه لا يسأل أحداً شيئاً ، فلما كان في بعض الطريق مكث مدة لا يفتح عليه بشيء ، فعجز عن المشي ، ثم قال : هذا حال ضروري تؤدي إلى تهلكة بسبب الضعف المؤدي إلى الانقطاع.
وقد نهى الله عن إلقاء النفس إلى التهلكة ، ثم عزم على السؤال ، فلما هم بذلك انبعث من باطنه خاطر رده عن ذلك العزم.
ثم قال : أموت ولا أنقض عهداً بيني وبين الله ، فمرت القافلة وانقطع ذلك البعض واستقبل القبلة مضطجعاً ينتظر الموت ، فبينما هو كذلك إذ هو بفارس قائم على رأسه معه ، إداوة فسقاه وأزال ما به من الضرورة ، فقال له : تريد القافلة ، فقال : وأين مني القافلة ، فقال : قم ، وسار معه خطوات ، ثم قال : قف ها هنا ، والقافلة تأتيك فوقف ، وإذا بالقافلة مقبلة من خلفه.
وهذا من قبيل طي المكان كرامة من الله تعالى لأهل الشهود والحضور :
نتوان بقيل وقال زار باب حال شد
منعم نميشود كسى از كفت وكوى كنج
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِه قَالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ} بنفسه أو بمناد أمره بالنداء {فِى قَوْمِهِ} في مجمعهم وفيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا.
{قَالَ} : (كفت از روى عظمت وافتخار).
يا قَوْمِ} : (اى كروه من يعنى قبطيان).
{أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} ، وهي أربعون فرسخاً في أربعين.
قال الكاشفي : (آيانيست مرا مملكت مصر از اسكندريه تاسر حد شام).
وفي "فتح الرحمن" : وهو من نحو الإسنكدرية إلى أسوان بطول النيل.
وأسوان بالضم : بلد بصعيد مصر كما في "القاموس".
قال في"روضة الأخبار" : مصر بلدة معروفة بناها مصر بن حام بن نوح.
وبه سميت مصر مصراً.
وفي "القاموس" : مصر والمكان تمصيراً جعلوه مصراً ، فتمصر ، ومصر للمدينة المعروفة سميت لتمصرها ، أو لأنه بناها مصر بن نوح.
وقال بعضهم : مصر بلد معروف من مصر الشيء يمصره إذا قطعه سمي به لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة.
انتهى.
{وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ} ؛ أي : أنهار النيل ، فاللام عوض عن المضاف إليه.
قال في "كشف الأسرار" : (آب نيل بسيصد وشصت جوى منقسم بوده).
والمراد هنا : الخلجان الكبار الخارجة من النيل ومعظمها أربعة أنهر : نهر الملك ، وهو نهر الإسكندرية ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس ، وهو كسكين بلد بجزيرة من جزائر بحر الروم قرب دمياط ينسب إليها الثياب الفاخرة كما في "القاموس".
{تَجْرِى مِن تَحْتِى} ؛ أي : من تحت قصري أو أمري.
قال الكاشفي : (جهار حوى بزرك درباغ او ميرفت واز زير قصر هاى او ميكذست).
والواو إما عاطفة لهذه الأنهار على ملك ، فتجري حال منها ، أو للحال فهذه مبتدأ ، والأنهار صفتها ، وتجري خبر للمبتدأ.
قال في "خريدة العجائب" : ليس في الدنيا نهر أطول من النيل ؛ لأن مسيرته شهران في الإسلام ،
377
وشهران في الكفر ، وشهران في البرية ، وأربعة أشهر في الخراب ومخرجه من بلاد جبل القمر خلف خط الاستواء ، وسمي جبل القمر ؛ لأن القمر لا يطلع عليه أصلاً لخروجه عن خط الاستواء ، وميله عن نوره وضوءه يخرج من بحر الظلمة ؛ أي : البحر الأسود ، ويدخل تحت جبل القمر.
وليس في الدنيا نهر يشبه بالنيل إلا نهر مهران ، وهو نهر السند.
{أَفَلا تُبْصِرُونَ} : ذلك يريد به استعظام ملكه وعن هارون الرشيد لما قرأها قال : لأولينها أخس عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه وكان أسود أحمق.
(عقل وكفايت آن سياه بحدى بودكه طائفة حراث مصر شكايت آور دندش كه ينبه كاشته بوديم بركنار نيل وباران بى وقت آمد وتلف شد كفت بشم بايستى كاشتن تاتلف نشدى دانشمندى اين سخن بشنيد وبخنديه وكفت) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
اكر روزى بدانش برفزودى
زنادان تنك روزى تر نبودى
بنادانان جنان روزى رساند
كه دانايان از وحيران بماند
وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها ، فخرج إليها ، فلما شارفها ، ووقع عليها بصره.
قال : أهي القرية التي افتخر فيها فرعون حتى قال : أليس لي ملك مصر ، والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه.
قال الحافظ ابن الفرج بن الجوزي يوماً في قول فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي ، ويحه افتخر بنهر ما أجراه ما أجراه :
افتخار از رنك وبو وازمكان
هست شادى وفريب كودكان
(8/290)
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} : مع هذا الملك والبسط ، وأم منقطعة بمعنى : بل أنا خير ، والهمزة للتقرير لحملهم على الإقرار ؛ كأنه قال : إثر ما عدد أسباب فضله ومبادي خيريته أثبت عندكم واستقر لديكم : أني أنا خير ، وهذه حال من هذه.
إلخ.
وقال أبو الليث : يعني أنا خير وأم للصلة والمحققون على أن أم ها هنا بمعنى : بل التي تكون للانتقال من كلام إلى كلام آخر من غير اعتبار استفهام ، كما في قوله تعالى في سورة النمل ، {إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل : 84).
وقال سعدي المفتي : ويجوز أن يكون النظم من الاحتباك : ذكر الأبصار أولاً دلالة على حذف مثله ثانياً : والخيرية ثانياً دلالة على حذف مثله أولاً.
والمعنى : أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به ، أم أنا خير منه ؛ لأنكم تبصرونه.
{مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ} : ضعيف حقير من المهانة ، وهي القلة.
{وَلا يَكَادُ يُبِينُ} : الكلام ويوضحه لرتة في لسانه ، فكيف يصلح للنبوة والرسالة يريد أنه ليس معه من آيات الملك والسياسة ما يعتضده ، ويتقوى به.
كما : قريش قالت : {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) ، وهو في نفسه حال عم يوصف به الرجال من الفصاحة والبلاغة ، وكان الأنبياء كلهم فصحاء بلغاء.
قاله : افتراء على موسى وتنقيصاً له في أعين الناس باعتبار ما كان في لسانه من نوع رثة حدثت بسبب الجمرة.
وقد كانت ذهبت عنه لقوله تعالى : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى} (طه : 36).
والرتة : غير اللثغة ، وهي حبسه في اللسان تمنعه من الجريان وسلاسة التكلم.
يقول الفقير : الأنبياء عليهم السلام سالمون من العيوب والعاهات المنفرة ، كما ثبت في محله.
وقد كان للشيخ عبد المؤمن المدفون في بروسة عقدة في لسانه ، وعند ما ينقل الأحياء في الجامع الكبير تنحل بإذن الله تعالى ، فإذا كان حال الولي ، هكذا ، فكيف حال الموفر حظاً من كل كمال كموسى ، وغيره من الأنبياء عليهم السلام حين أداء الوحي الإلهي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وقد جربنا عامة من كان ألثغ ، أو نحوه ، فوجدناهم منطيقين عند تلاوة القرآن ، وهو من آثار
378
رحمة الله وحكمه البديعة.
وفي "التأويلات النجمية" تشير الآية إلى من تعزز بشيء من دون الله ، فحتفه وهلاكه في ذلك ، فلما تعزز فرعون بملك مصر وجرى النيل بأمره ، فكان فيه هلاكه ، وكذلك من استصغر أحداً سلط عليه كما أن فرعون استصغر موسى عليه السلام ، وحديثه وعابه بالفقر واللكنة.
فقال : أم أنا خير فسلطه الله عليه ، وكان هلاكه على يديه.
وفيه إشارة أخرى ، وهي أن قوله : أم أنا خير من خصوصية صفة إبليس ، فكانت هذه الصفة توجد في فرعون.
وكان من صفة فرعون قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} (النازعات : 24) ، ولم توجد هذه الصفة في إبليس ليعلم أن الله تعالى أكرم الإنسان باستعداد يختص به ، وهو قوله : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4) ، فإذا فسد استعداده استنزل دركة لا يبلغه فيها إبليس وغيره.
وهي أسفل السافلين ، فيكون شر البرية ، ولو استكمل استعداده لنال رتبة في القربة لا يسعه فيها ملك مقرب ، لكان خير البرية.
قال الصائب :
سرورى از خلق بد خودرا مصفى كردنست
برنمى آيى بخود سر برنمى بايد شدن
بادشاه از كشور بيكانه دارد صد خطر
يك قدم ازحد خود بر ترنمى بايد شدن
فإذا عرفت حال إبليس وحال فرعون ، فاجتهد في إصلاح النفس وتزكيتها عن الأوصاف الرذيلة التي بها صار الشيطان شيطاناً وفرعون فرعوناً نسأل الله سبحانه أن يدركنا بعنايته ويتداركنا بهدايته قبل القدوم على حضرته.
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَه فَأَطَاعُوه إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ * فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ} .
{فَلَوْلا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} .
قالوه توبيخاً ولو ما على ترك الفعل ما هو مقتضى حرف التحضيض الداخل على الماضي وأسورة جمع سوار على تعويض التاء من ياء أسارير ، يعني : الياء المقابلة لألف أسوار ، ونظيره زنادقة وبطارقة.
فالهاء فيهما عوض عن ياء زناديق وبطاريق المقابلة.
اليناء زنديق وبطريق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال في "القاموس" : السوار بالكسر والضم.
القلب : كالأسوار بالضم والجمع أسورة وأساور وأساورة.
وفي "المفردات" : سوار المرأة أصله دستواره ، فهو فارسي معرب عند البعض ، والذهب جسم ذائب صاف منطرق أصفر رزين بالقياس إلى سائر الأجسام.
(8/291)
والمعنى : فهلا ألقي على موسى وأعطي مقاليد الملك إن كان صادقاً في مقالته في رسالته ، فيكون حاله خيراً من حالي والملقي هو رب موسى من السماء ، وإلقاء الأسورة كناية عن إلقاء مقاليد الملك ؛ أي : أسبابه التي هي كالمفاتيح له ، وكانوا إذا سودوا رجلاً سوروه وطوقوه بطوق من ذهب علماً على رياسته ودلالة لسيادته.
يعني : (آن زمان جنان بودكه هركرا مهترى وبيشوايى ميدهند دستوانه طلا دردست وطوق زردركردن أو ميكننده فرعون كفت كه اكر موسى راست ميكويد كه بسيادت ورياست قوم نامزد شده جراخداى اورا دستوانه نداده).
{أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} ؛ أي : حال كونهم مقرونين بموسى منضمين إليه يعينونه على أمره وينصرونه ويصدقونه ؛ أي : يشهدون له بصدقه.
قال الراغب : الاقتران كالازدواج في كونه اجتماع شيئين ، أو أشياء في معنى من المعاني.
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} : الاستخفاف : سبك كردانيدن وسبك داشتن وطلب خفت كردن.
أي : فاستفزهم بالقول وطلب منهم الخفة في إطاعته ، فالمطلوب بما ذكره من التلبيسات والتمويهات خفة عقولهم حتى يطيعوه فيما أراد منهم ، مما يأباه أرباب العقول السليمة لا خفة أبدانهم ففي امتثال أمره ، أو فاستخف أحلامهم ؛ أي : وجدها خفيفة يغترون بالتلبيسات الباطلة.
وقال الراغب : حملهم على أن يخفوا معه ،
379
أو وجدهم خفافاً في أبدانهم وعزائمهم.
وفي "القاموس" : استخفه ضد استثقله وفلاناً عن رأيه حمله على الجهل والخفة وأزاله عما كان عليه من الصواب.
وقال الكاشفي : (بس سبك عقل يافت فرعون بدين مكر كروه خودرا يعنى اين فريب در ايشان اثر كرد).
{فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرهم به لفرط جهلهم وضلالهم.
(وبكلى دل از متابعت موسى بر داشتند).
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} ، فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي.
وبالفارسية : (بدرستى كه فرعونيان بودند كروهى بيرون رفته ازدائرة بندكى خداى وفرمان بردارى وى بلكه خارج از طريقه عقل كه بمال وجاه فانى اعتماد كرده باشتد موسى را عليه السلام بنظر حقارت ديدند وندا نستندكه) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
فرعون وعذاب ابدوريش مرصع
موسى كليم الله : (وجوبى وشبانى).
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن كل من استولى على قوم فاستخفهم ، فأطاعوه رهبة منه ، وإن أمنوا من سطوته ، فخالفوه أمناً منه ، فإنه يزيد في جهادهم ورياضتهم ومخالفة طباعهم ، وأنه استولت النفس الأمارة على قومها.
وهم : القلب والروح وصفاتهما ، فاستخفتهم بمخالفة الشريعة ، وموافقة الهوى والطبيعة ، فأطاعوها رهبة إلى أن تخلقوا بأخلاقها ، فأطاعوها رغبة.
انتهى.
وفيه إشارة إلى أن العدو لا ينقاد بحال ، وأما انقياده كرهاً فلا يغتر به ، فإنه لو وجد فرصة لقطع اليد بدل التقبيل :
هركز ايمن ززمان ننشستم
نابدانستم آنجه خصلت اوست
{فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا} : الإيساف : (أندو هكين كردن وبحشم آوردن).
منقول من أسف يأسف ، كعلم يعلم إذا اشتد غضبه.
وفي "القاموس" : الأسف محركة أشد الحزن وأسف عليه غضب وسئل صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة ، فقال : "راحة للمؤمن أخذه أسف" ؛ أي : سخط للكافر.
ويروى : أسف ككتف ؛ أي : أخذة ساخط ، يعني : موت الفجأة أثر غضب الله على العبد إلا أن يكون مستعداً للموت.
وقال الراغب : الأسف : الحزن والغضب معاً.
وقد يقال لكل منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب إرادة الانتقام ، فمتى كان ذلك من دونه انتشر ، فصار غضباً ، ومتى كان على من فوقه انقبض ، فصار حزناً.
والمعنى : فلما أغضبونا ؛ أي : فرعون وقومه أشد الغضب بالإفراط في العناد والعصيان ، وغضب الله نقيض الرضا ، أو إرادة الانتقام ، أو تحقيق الوعيد ، أو الأخذ الأليم أو البطش الشديد ، أو هتك الأستار والتعذيب بالنار أو تغيير النعمة.
{انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : أردنا أن نعجل لهم انتقامنا وعذابنا ، وأن لا نحلم عنهم وفي "كشف الأسرار" : أحللنا بهم النقمة والعذاب.
{فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ} ، فأهلكناهم المطاع والمطيعين له أجمعين ، بالإغراق في اليم لم نترك منهم أحداً.
{فَجَعَلْنَـاهُمْ سَلَفًا} : أما مصدر سلف يسلف كطلب يطلب بمعنى التقدم وصف به الأعيان للمبالغة ، فهو بمعنى متقدمين ماضين ، أو جمع سالف كخدم جمع خادم ، ولما لم يكن التقدم متعدياً باللام فسروه بالقدوة مجازاً ؛ لأن المتقدمين يلزمهم غالباً أن يكونوا قدوة لمن بعدهم.
فالمعنى : فجعلناهم قدوة لمن بعدهم من الكفار يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حل بهم من العذاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي "عين المعاني" : فجعلناهم سلفاً في النار.
{وَمَثَلا لِّلاخِرِينَ} : اللام متعلق بكل من سلفاً ومثلاً على النازع ؛ أي : عظة للكفار المتأخرين عنهم والعظة ليس من لوازمها الاتعاظ ، أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم ، فيقال : مثلكم مثل قوم فرعون.
قال الكاشفي : (كردانيديم ايشانرا بندى وعبرتى براى بيشينيان كه در مقام اعتبار باشند جه ملاحظة
(8/292)
380
قصه عجيبة ايشان معتبررا در تقلب احوال كفايتيست واز جمله آنكه جون فرعون باب نازشى كرد اوراهم باب غرقه ساختند وبد آنجه نازيد بفرياد او نرسيد.
درسر دارى كه باشدت سردارى هم درسران روى كه در سردارى).
وفي الآية إشارة إلى أن الغضب في الله من الفضائل إلا من الرذائل.
وعن سماك بن الفضل.
قال : كنا عند عروة بن محمد وهب بن منبه ، فجاء قوم فشكوا عاملهم ، وأثبتوا على ذلك ، فتناول وهب عصاً كانت في يده عروة ، فضرب بها رأس العامل ، حتى أدماه ، فاستهانها عروة ، وكان حليماً.
وقال : يعيب علينا أبو عبد الله الغضب ، وهو يغضب ، فقال وهب : ومالي ولا أغضب ، وقد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول : فلما آسفونا.
إلخ.
وفيها إشارة أيضاً إلى أن إغضاب أوليائه إغضابه تعالى حتى قالوا في آسفونا : آسفوا رسلنا وأولياءنا.
أضاف الإيساف إلى نفسه إكراماً لهم.
قال أبو عبد الله الرضي : إن الله لا يأسف كأسفنا ، ولكن له أولياء يأسفون ويرضون ، فجعل رضاهم رضاه وغضبهم غضبه ، فينتقم لأوليائه من أعدائه كما أخبر في حديث رباني : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الجرئي لجروه.
قال في "التأويلات النجمية" : هذا أصل في باب الجمع أضاف إيساف أوليائه إلى نفسه.
وفي الخبر أنه يقول : "مرضت ، فلم تعدني".
وقال في صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء : 80).
وفي "عرائس البقلي" : فلما ناموا على دعاويهم الباطلة وكلماتهم المزخرفة وبدعهم الباردة ، وأصروا على أذى أوليائنا وأحبائنا وجردنا وسلطنا عليهم جنود قهرياتنا وأمتناهم في أودية الجهالة وأغرقناهم في بحار الغفلة وجردنا قلوبهم عن أنوار المعرفة ، وطمسنا أعين أسرارهم حتى لا يرو لطائف برنا على أوليائنا.
قال سهل : لما أقاموا مصرين على المخالفة في الأوامر وإظهار البدع في الدين وترك السنن اتباعاً للآراء والأهواء والعقول نزعنا نور المعرفة من قلوبهم ، وسراج التوحيد من إسرارهم ، ووكلناهم إلى ما اختاروه فضلوا وأضلوا.
ومن الله الهداية لموافقة السنة ومنه المنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{فَجَعَلْنَـاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِّلاخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَا مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـاهُ مَثَلا لِّبَنِى إسرائيل * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم} .
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ} ؛ أي : عيسى.
{مَثَلا} ؛ أي : ضربه عبد الله بن الزبعرى السهمي كان من مردة قريش قبل أن يسلم.
قال في "القاموس" : الزبعرى بكسر الزاي وفتح الباء والراء.
والد عبد الله الصحابي القرشي الشاعر.
انتهى.
ومعنى : ضربه مثلاً ؛ أي : جعله مثالاً ومقياساً في بيان إبطال ما ذكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من كون معبودات الأمم دون الله حطب جهنم.
الآية قرأه على قريش ، فامتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً ؛ أي : غضبوا وشق عليهم ذلك.
فقال ابن الزبعرى بطريق الجدال هذا لنا ولآلهتنا ، أم لجميع الأمم.
فقال عليه السلام : "هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم".
فقال : خصمتك ورب الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيراً ، وبنو مليح الملائكة ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرح به قومه ، وضحكوا وارتفعت أصواتهم ، وذلك قوله تعالى : {إِذَا قَوْمُكَ} : (آنكاه قوم تو).
{مِنْهُ} ؛ أي : من ذلك المثل ؛ أي : لأجله وسببه {يَصِدُّونَ} ؛ أي : يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وجذلاً لظنهم أن الرسول صار ملزماً به.
قال في "القاموس" : صد يصد ويصد صديداً ضج كما قال في "تاج المصادر" : (الصديد بانك كردن).
والغابر : يفعل ، ويفعل معاً ، وأما الصدود ، فبمعنى الإعراض.
يقال : صد عنه صدوداً ؛ أي : أعرض وفلاناً عن كذا
381
صداً منعه وصرفه ؛ كأصده كما في "التاج" : (الصد بكر دانيد والصد والصدود بكشتن).
{وَقَالُوا} ؛ أي : قومك.
{ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ} ؛ أي : عندك ، فإن آلهتهم خير عندهم من عيسى.
{أَمْ هُوَ} ؛ أي : عيسى ؛ أي : ظاهر أن عيسى خير من آلهتنا ، فحيث كان هو في النار ، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
روي : أن الله تعالى أنزل قوله تعالى : جواباً {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء : 101) يدل على أن قوله : وما يعبدون من دون الله خاص بالأصنام.
(8/293)
وروي : أنه عليه السلام رد على ابن الزبعرى بقوله : ما أجهلك بلغة قومك.
أما فهمت أن ما لما لا يعقل ، فيكون أن الذين سبقت.
إلخ.
لدفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب.
وفي هذا الحديث تصريح بأن ما موضوع لغير العقلاء ، لا كما يقول جمهور العلماء أنه موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم ، كما في "بحر العلوم".
وقد بين عليه السلام أيضاً بقوله : "بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك أن الملائكة والمسيح عزيراً" بمعزل عن أن يكونوا معبوديهم كما نطق به قوله تعالى : {سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} (سبأ : 41) ، بل كانوا يعبدون الجن ، وإنما أظهروا الفرح ورفع الأصوات من أول الأمر لمحض وقاحتهم وتهالكهم على المكابرة والعناد ، كما ينطق به قوله تعالى : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَ} : الجدل : فتل الخصم عن قصده لطلب صحة قوله ، وإبطال غيره ، وهو مأمور به على وجه الإنصاف ، وإظهار الحق بالاتفاق ، وانتصاب جدلاً على أنه مفعول له للضرب ؛ أي : ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك.
قال بعض الكبار : إن قال عليه السلام : "آلهتكم خير من عيسى" ، فقد أقر بأنها معبودة ، وإن قال عيسى خير من آلهتكم ، فقد أقر بأن عيسى يصلح ؛ لأن يعبد ، وإن قال : ليس واحد منهم خيراً ، فقد نفى عيسى فراموا بهذا السؤال أن يجادلوه ، ولم يسألوه للاستفادة فبين الله أن جدالهم ليس لفائدة إنما هو لخصومة نفس الإنسان ، فقال : {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ؛ أي : الداء شداد الخصومة بالباطل مجبولون على اللجاج والخلاف ، كما قال تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا} (الكهف : 54) ، وذلك لأنهم قد علموا أن المراد من قوله : وما يعبدون من دون الله هؤلاء الأصنام بشهادة المقام ، لكن ابن الزبعرى لما رأى الكلام محتملاً للعموم بحسب الظاهر وجد مجالاً للخصومة.
وفي الحديث : "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل" ، ثم قرأ : ما ضربوه لك ، الآية.
{إِنْ هُوَ} ؛ أي : ما هو ؛ أي : ابن مريم وهو عيسى {إِلا عَبْدٌ} مربوب.
{أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بفضلنا عليه بالنبوة ، أو يخلقه بلا أب ، أو بقمع شهوته لا ابن الله ، والعبد لا يكون مولى وإلهاً كالأصنام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله : أنعمنا عليه بأن جعلنا ظاهره إماماً للمريدين وباطنه نوراً لقلوب العارفين.
{وَجَعَلْنَـاهُ مَثَلا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} ؛ أي : أمراً عجيباً حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة.
قال بعض الكبار : عبرة يعتبرون به بأن يسارعوا في عبوديتنا طمعاً في إنعامنا عليهم ، وكل عبد منعم عليه ، إما نبي أو ولي.
{وَلَوْ نَشَآءُ} : لو للمضي وإن دخل على المضارع.
ولذا لا يجزمه ويتضمن لو معنى الشرط ؛ أي : قدرنا بحيث لو نشاء.
{لَّجَعَلْنَا} : أولدنا ؛ أي : لخلقنا بطريق التوالد {مِنكُم} ، وأنتم رجال من الإنس ليس من شأنكم الولادة ، كما ولد حواء من آدم وعيسى من غير أب ، وإن لم تجر العادة.
{مَّلَائكَةً}
382
كما خلقناكم بطريق الإبداع.
{فِى الأرْضِ} مستقرين فيها كما جعلناهم مستقرين في السماء.
{يَخْلُفُونَ} ؛ يقال : خلف فلان فلاناً إذا قام بالأمر عنه ، إما معه وإما بعده ؛ أي : يخلفونكم ويصيرون خلفاء بعدكم مثل أولادكم فيما تأتون وتذرون ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم مع أن شأنهم التسبيح والتقديس في السماء ، فمن شأنهم بهذه المثابة بالنسبة إلى القدرة الربانية كيف يتوهم استحقاقهم للمعبودية ، أو انتسابهم إليه بالولادة ، يعني أن الملائكة مثلكم في الجسمية ، واحتمال خلقها توليداً لما ثبت أنها أجسام ، وأن الأجسام متماثلة ، فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ، كما جاز خلقها إبداعاً ، وذات القديم الخالق ، لكل شيء متعالية عن مثل ذلك ، فقوله : ولو نشاء.
إلخ.
لتحقيق أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله ، وأنه تعالى قادر على أبدع من ذلك ، وهو توليد الملائكة من الرجال مع التنبيه على سقوط الملائكة أيضاً من درجة المعبودية.
قال سعدي المفتي : لجعلنا منكم ؛ أي : ولدنا بعضكم ، فمن للتبعيض ، وملائكة نصب على الحال ، والظاهر أن من ابتدائية ؛ أي : نبتدىء التوليد منكم من غير أم عكس حال عيسى عليه السلام ، والتشبيه به على الوجهين في الكون على خلاف العادة ، وجعل بعضهم من للبدل.
يعني : (شمارا اهلاك كنيم وبدل شما ملائكة آريم كه ايشان در زمين ازبى در آنيد شمارا).
يعمرون الأرض ، ويعبدونني كقوله تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (إبراهيم : 19) ، فتكون الآية للتوعد بالهلاك والاستئصال ، ولا يلائم المقام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349(8/294)
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لو أطاع الله تعالى لأنعم الله عليه بأن جعله متخلقاً بأخلاق الملائكة ليكون خليفة الله في الأرض بهذه الأخلاق ليستعد بها إلى أن يتخلق بأخلاق الله ، فأنها حقيقة الخلافة.
حكي : أن هاروت وماروت لما أنكرا على ذرية آدم اتباع الهوى والظلم والقتل والفساد.
وقالا : لو كنا بدلاً منهم خلفاء الأرض ما نفعل مثل ما يفعلون ، فالله تعالى أنزلهما إلى الأرض وخلع عليهما لباس البشرية ، وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ، ونهاهما عن المناهي ، فصدر عنهما ما صدر فثبت أن الإنسان مخصوص بالخلافة ، وقبول فيضان نور الله ، فلو كان للملائكة هذه الخصوصية لم يفتتنا بالأوصاف المذمومة الحيوانية السبعية ، كما أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من مثل هذه الآفات والأخلاق ، وإن كانت لازمة لصفاتهم البشرية ، ولكن بنور التجلي تنور مصباح قلوبهم ، واستتار بنور قلوبهم جميع مشكاة جسدهم ظاهراً وباطناً ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، فلم يبق لظلمات هذه الصفات مجال الظهور مع استعلاء النور ، وبهذا التجلي المخصوص بالإنسان يتخلق الإنسان بالأخلاق الإلهية ، فيكون فوق الملائكة ، ثم إن الإنسان وإن لم يتولد منه الملائكة ظاهراً ، لكنه قد تولدت منه باطناً على وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى خلق من أنفاسه الطيبة وأذكاره الشريفة وأعماله الصالحة ملائكة ، كما روي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فلما رفع رأسه من الركوع قال : "سمع الله لمن حمده" ، فقال رجل وراءه : ربنا لك الحمد ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
فلما انصرف ، قال : "من المتكلم آنفاً؟" ، قال الرجل : أنا.
قال : "لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتب أولاً وسره هو أن مجموع حروف هذه الكلمات الذي ذكره الرجل وراء النبي عليه السلام : ثلاثة وثلاثون حرفاً ، لكل حرف روح
383
هوالمثبت هل والمبقي لصورة ما وقع النطق به ، فبالأرواح الصور تبقى وبنيات العمال ، وتوجهات نفوسهم ومتعلقات هممهم التابعة لعلومهم واعتقاداتهم ، ترتفع حيث منتهى همه العامل :
هركسى ازهمت والآى خويش
سود برد درخور كالاى خويش
والثاني : أن الإنسان الكامل قد تتولد منه الأولاد المعنوية التي هي كالملائكة في المشرب والأخلاق ، بل فوقهم ، فإن استعداد الإنسان أقوى من استعداد الملك.
وهؤلاء الأولاد يخلفونه متسلسلين إلى آخر الزمان بأن يتصل النفس النفيس من بعضهم إلى بعض إلى آخر الزمان ، وهي السلسلة المعنوية ، كما يتصل به النطفة من بعض الناس إلى بعض إلى قيام الساعة.
وهي السلسلة الصورية ، وكما أن عالم الصورة باق ببقاء أهله وتسلسله ، فكذا عالم المعنى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائكَةً فِى الارْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّه لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِا هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} .
{وَإِنَّهُ} ؛ أي : وأن عيسى عليه السلام بنزوله في آخر الزمان {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} شرط من أشراطها ، يعلم به قربها وتسميته علماً لحصوله به ، فهي على المبالغة في كونه مما يعلم به ، فكأنه نفس العلم بقربها ، أو أن حدوثه بغير أب أو إحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة.
وفي الحديث : "إن عيسى ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها : أفيق ، وهو كأمير قرية بين حوران والغور.
وعليه ممصرتان يعني : ثوبين مصبوغين بالأحمر ، فإن المصر الطين الأحمر ، والممصر المصبوغ به ، كما في "القاموس".
وشعر رأسه دهين وبيده حربة وبها يقتل الدجال ، فيأتي بيت المقدس.
والناس في صلاة الصبح.
وفي رواية : في صلاة العصر.
فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه السلام ، ثم يقتل الخنازير ، ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به.
وفي الحديث : "الأنبياء أولاد علات ، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم ، ليس بيني وبيه نبي ، وإنه أول ما ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويقاتل على الإسلام ويخرب البيع والكنائس".
وفي الحديث : "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً وعدلاً ، يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام".
دل آخر الحديث على أن المراد بوضع الجزية : تركها ورفعها عن الكفار بأن لا يقبل إلا الإسلام.
صرح بذلك النووي.
ولعل المراد بالكسر والقتل المذكورين ليس حقيقتهما ، بل إزالة آثار الشرك عن الأرض.
وفي "صحيح مسلم" : فبينما هو يعني المسيح الدجال إذ بعث الله المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق بين مهرودتين يعني : ثوبين مصبوغين بالهرد بالضم ، وهو طين أحمر واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر.
يعني :
جون سردربيش افكند قطرات ازرويش ريزان كردد(8/295)
وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ يعني :
جون سربالا كند قطر هابر روى وى جون مرواريد روان شود
فلا تحل بكافر يجد ريح نفسه إلا مات يعني :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
نفس نهر كافر كه رسد نميرد
ونفسه حين ينتهي طرفه يعني :
برهر جاكه جشم وى افتد نفس وى برسد
"فيطلبه" ؛ أي : "الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله".
قال في "القاموس" : لد بالضم ، قرية بفلسطين ، يقتل عيسى عليه السلام الدجال عند بابها.
انتهى.
(وآنكه يأجوج ومأجوح بيرورن آيند وعيسى عليه السلام ومؤمنان بكوه طور برود وآنجا متحصن كردد).
ويجتمع عيسى والمهدي ، فيقوم عيسى بالشريعة والإمامة ، والمهدي بالسيف والخلافة.
فعيسى خاتم الولاية المطلقة ، كما أن المهدي خاتم الخلافة المطلقة.
384
وفي "شرح العقائد" : ثم الأصح أن عيسى يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي ؛ لأنه أفضل منه ، فإمامته أولى من المهدي ؛ لأن عيسى نبي ، والمهدي ولي ، ولا يبلغ الولي درجة النبي.
يقول الفقير : فيه كلام ؛ لأنه عيسى عليه السلام لا ينزل بالنبوة ، فإن زمان نبوته قد انقضى ، وقد ثبت أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا مشرعاً كأصحاب الكتب ، ولا متابعاً كأنبياء بني إسرائيل ، وإنما ينزل على شريعتنا ، وعلى أنه من هذه الأمة.
لكن للغيرة الإلهية يؤم المهدي ، ويقتدي به عيسى ؛ لأن الاقتداء به اقتداء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد صح أن عيسى اقتدى بنبينا ليلة المعراج في المسجد الأقصى مع سائر الأنبياء ، فيجب أن يقتدي بخليفته أيضاً ، لأنه ظاهر صورته الجمعية الكمالية.
{فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكن في وقوعها.
وبالفارسية : (بس شك مكنيد وجدل منماييد بآمدن قيامت).
والامتراء : المحاجة فيما فيه مرية.
{وَاتَّبِعُونِ} ؛ أي : واتبعوا هداي وشرعي أو رسولي.
{هَـاذَا} الذي أدعوكم إليه ، وهو الاتباع.
{صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق.
وقال الحسن : الضمير في وأنه لعلم للقرآن لما فيه من الإعلام بالساعة والدلالة عليها ، فيكون هذا أيضاً إشارة إلى القرآن.
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ} ؛ أي : لا يمنعنكم الشيطان ، ولا يصرفنكم عن صراط أتباعي.
{إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بين العداوة حيث أخرج إياكم من الجنة ونزع عنه لباس النور وعرضكم للبلية.
وحكي : أنه لما خرج آدم عليه السلام من الجنة.
قال إبليس : أخرجته من الجنة بالوسوسة ، فما أفعل به الآن ، فذهب إلى السباع والوحوش ، فأخبرهم بخبر آدم ، وما يولد منه حتى قالت الوحوش والسباع : ما التدبير في ذلك.
قال : ينبغي أن تقتلوه وقتل واحد أسهل من قتل ألف ، فأقبلوا إلى آدم وإبليس أمامهم ، فلما رأى آدم أن السباع قد أقبلت إليه رفع يده إلى السماء ، وتضرع إلى الله ، فقال الله : يا آدم امسح بيدك على رأس الكلب ، فمسح فكر الكلب على السباع والوحوش حتى هزمها ، ومن ذلك اليوم صار الكلب عدو للسباع التي هي أعداء لآدم ولأولاده.
وأصله : أن إبليس بصق على آدم حين كان طيناً ، فوقع بصاقه على موضع سرته ، فأمر الله جبريل حتى قور ذلك الموضع ، فخلق من القوارة الكلب ، ولذا أنس بآدم وصار حامياً له.
ويقال : المؤمن بين خمسة أعداء : مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وعدو يقتله ، ونفس تغويه ، وشيطان يضله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال بعض الكبار : لما كان تصرف النفس في الصد عن صراط المتابعة أقوى من الشيطان كانت أعدى الأعداء.
وقال بعضهم : (هرآن دشمن كه باوى احسان كنى دوست كردد مكر نفس راكه جندان كه مدارا بيش كنى مخالفت زياده كند.
مراد هركه برآرى مطيع امر توشد.
خلاف نفس كه كردن كشد جويافت مراد).
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِنا بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا} .
{وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى} : (وآن هتكام كه عيسى آمد).
{بِالْبَيِّنَـاتِ} ؛ أي : المعجزات الواضحة أو بآيات الإنجيل ، أو بالشرائع.
{قَالَ قَدْ جِئْتُكُم} : (آمد شمارا ويا آوردم شمارا).
{بِالْحِكْمَةِ} ؛ أي : الإنجيل أو الشريعة لأعلمكم إياها.
{وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ، وهو ما يتعلق بأمور الدين ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا ، فليس بيانه من وظائف الأنبياء ، كما قال عليه السلام : "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفي "الأسئلة المقحمة" : كيف قال بعض ، وإنما بعث ليبين الكل.
والجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن البعض ها هنا بمعنى الكل.
وكذا قال في "عين المعاني" : الأصح أن البعض يراد به الكل كعكسه في قوله :
385
(8/296)
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} (البقرة : 26).
وقال بعض أهل المعاني : كانوا يسألون عن أشياء لا فائدة فيها.
فقال : ولأبين لكم.
إلخ.
يعني : أجيبكم عن الأسئلة التي لكم فيها فوائد.
وفي الآية إشارة إلى أن الأنبياء ، كما يجيئون بالكتاب من عند الله يجيئون بالحكمة مما آتاهم ، كما قال ، ويعلمهم الكتاب والحكمة.
ولذا قال : ولأبين لكم.
إلخ.
لأن البيان عما يختلفون فيه هو الحكمة.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفتي.
{وَأَطِيعُونِ} فيما أبلغه عنه تعالى ، فإن طاعتي طاعة الحق ، كما قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، فخصوه بالعبادة والتوحيد ، وهو بيان لما أمرهم بالطاعة فيه ، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع.
{هَـاذَا} ؛ أي : التوحيد والتعبد بالشرائع {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل سالكه.
وفي "التأويلات النجمية" : فاعبدوه ؛ أي : لا تعبدوني ، فإني في العبودية شريك معكم ، وأنه متفرد بربوبيته إيانا هذا صراط مستقيم أن تعبده جميعاً.
{فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ} جمع حزب بالكسر بمعنى جماعة الناس ؛ أي : فاختلف الفرق المتحزبة.
والتحزب : (كروه كروه شدن).
يقال : حزب قومه ، فتحزبوا ؛ أي : جعلهم فرقاً وطوائف ، فكانوا كذلك.
والمراد اختلافهم بعد عيسى عليه السلام بثلاث مائة سنة لا في حياته ، لأنهم أحدثوا بعد رفعه.
{مِنا بَيْنِهِمْ} ؛ أي : من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى يعني : تحزب اليهود والنصارى في أمر عيسى عليه السلام ، فقالت اليهود لعنهم الله : زنت أمه ، فهو ولد الزنا.
وقال بعض النصارى : عيسى هو الله وبعضهم : ابن الله وبعضهم : الله وعيسى وأمه آلهة ، وهو ثالث ثلاثة
وفي "التأويلات النجمية" يعني : قومه تحزبوا عليه حزب آمنوا به أنه عبد الله ورسوله وحزب آمنوا به ، أنه ثالث ثلاثة ، فعبدوه بالألوهية ، وحزب اتخذوه ولداًوابناً له تعالى الله عما يقول الظالمون.
وحزب كفروا به وجحدوا نبوته وظلموا عليه وأرادوا قتله ، فقال الله تعالى في حق الظالمين المشركين.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا} من المختلفين ، وأقام المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم.
{مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يوم القيامة.
والمراد : يوم أليم العذاب ، كقوله في يوم عاصف ؛ أي : عاصف الريح.
{فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِنا بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} .
{هَلْ يَنظُرُونَ} ؛ أي : ما ينتظر الناس.
{إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم} ؛ أي : إلا إتيان الساعة ، فهو بدل من الساعة ، ولما كانت الساعة تأتيهم لا محالة كانوا كأنهم ينتظرونها.
{بَغْتَةً} انتصابها على المصدر ؛ أي : إتيان بغتة.
وبالفارسية : (ناكاه).
والبغت : مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب ، كما في "المفردات".
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال في "الإرشاد" : فجأة لكن لا عند كونهم مترقبين لها ، بل غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا منكرين لها.
وذلك قوله تعالى : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانها ، فيجازي كل الناس على حسب أعمالهم ، فلا تؤدي بغتة مؤدى قوله : وهم لا يشعرون حتى لا يستغنى بها عنه ؛ لأنها ربما يكون إتيان الشيء بغتة مع الشعور بوقوعه والاستعداد له ؛ لأنه إذا لم يعرف وقت مجيئه.
ففي أي وقت جاء أتى بغتة ، وربما يجيء والشخص غافل عنه منكر له.
والمراد هنا هو الثاني ، فلذا وجب تقييد إتيان الساعة بمضمون الجملة الحالية ، فعلى العاقل الخروج عن كل ذنب.
والتوبة لكل جريمة قبل أن يأتي يوم أليم عذابه ، وهو يوم الموت ، فإن ملائكة العذاب ينزلون فيه على الظالمين ، ويشددون عليهم حتى تخرج أرواحهم الخبيثة بأشد العذاب.
وفي الحديث : "ما من مؤمن إلا وله كل يوم صحيفة جديدة ، فإذا طويت وليس فيها استغفار طويت وهي سوداء مظلمة ، وإذا طويت وفيها استغفار ، طويت ولها نور يتلألأ" ، ومن
386
كلمة الاستغفار يخلق الله تعالى ملائكة الرحمة فيسترحمون له ويستغفرون".
(8/297)
واعلم أن القيامة ثلاث : الكبرى ، وهو حشر الأجساد والسوق إلى المحشر للجزاء.
والقيامة الصغرى : وهي موت كل أحد كما قال عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته".
ولذا جعل القبر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران والقيامة الوسطى.
وهي موت جميع الخلائق.
وقيام هذه الوسطى لا يعلم وقته يقيناً ، وإنما يعلم بالعلامات المنقولة عن الرسول عليه السلام مثل أن يرفع العلم ويكثر الجهل والزنا وشرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ، وعن علي رضي الله عنه : "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من الدين إلا رسمه ، ولا من القرآن إلا درسه.
يعمرون مساجدهم ، وهي خراب عن ذكر الله شر أهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود".
قال الشيخ سعدي :
كرهمه علم عالمت باشد
بى عمل مدعى وكذابى
وقال : (عالم نابر هيز كار كوريست مشعله دار).
يعني : يهدي به ولا يهتدي ، فنعوذ بالله من علم بلا عمل.
{الاخِلاءُ} جمع خليل.
بالفارسية : (دوست).
والخلة : المودة ؛ لأنها تتخلل النفس ؛ أي : تتوسطها ؛ أي : المتحابون في الدنيا على الإطلاق ، أو في الأمور الدنيوية.
{يَوْمَـاـاِذ} يوم إذ تأتيهم الساعة ، وهو ظرف لقوله عدو الفصل بالمبتدأ غير مانع والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه.
{بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لانقطاع ما بينهم من علائق الخلة والتحاب لظهور كونها أسباباً بالعذاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{إِلا الْمُتَّقِينَ} : فإن خلتهم في الدنيا لما كانت في الله تبقى على حالها ، بل تزداد بمشاهدة كل منهم آثار الخلة من الثواب ورفع الدرجات ، والاستثناء على الأول متصل ، وعلى الثاني منقطع.
قال الكاشفي : (كافران كه دوستى ايشان براى معاونت بوده بر كفر معصيت باهمه دشمن شوند كه ويلعن بعضهم بعضاً ومؤمنان كه محبت ايشان براى خداى تعالى بوده دوستى ايشان مجانا باشد تا يكديكررا شفاعت كنند ودر تأويلات كاشفي مذكور است كه خلت جهار نوع مى باشد خلت تامة حقيقيه كه محبت روحانية است وآن مستند بود به تناسب أرواح وتعارف آن جون محبت انبيا واوليا واصفيا وشهدا بايكديكر دوم محبت قلبيه واستناد اين به تناسب اوصاف كامله واخلاق فاضله است جون محبت صلحا وابرار باهم ودوستى امم با نبيا وارادت مريدان بمشايخ واين دو نوع از محبت خلل نذير نيست نه در دنيا نه در آخرت ومثمر فوائد نتائج صورى ومعنويست سوم محبت عقليه كه مستند است بتحصيل اسباب معاش وتيسير مصالح دنيويه جون محبت تجار وصناع ودوستى خدام با مخاديم وارباب حاجات باغنياجهارم محبت نفسانيه واستناد آن بلذات حسيه ومشتهيات نفسيه بس در قيامت كه اسباب اين دو نوع از محبت قانى وزائل باشد آن محبت نيز زوال بذيرد بلكه جون متمنى وجود نكيرد وغرض وغايت بحصول نه بيوندد آن دوستى به دشمنى مبدل شود.
دوستى كان غرض آميزشد.
دوستى دشمنى انكيز شد.
مهر كه از هر غرضى كشت باك.
راست جو خورشيد شود تابناك).
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن كل خلة وصداقة تكون في الدنيا مبنية على الهوى والطبيعة الإنسانية تكون في الآخرة عداوة يتبرأ بعضهم من بعض.
والإخلاء في الله خلتهم باقية إلى الأبد وينتفع بعضهم من بعض ،
387
ويشفع بعضهم من بعض ، ويتكلم بعضهم في شأن بعض ، وهم المتقون الذين استثناهم وشرائط الخلة في الله أن يكونوا متحابين في الله محبة خالصة لوجه الله من غير شوب بعلة دنيوية هوائية متعاونين في طلب الله ، ولا يجري بينهم مداهنة ، فبقدر ما يرى بعضهم في بعض من صدق الطلب والجد والاجتهاد يساعده ويوافقه ويعاونه ، فإذا علم منه شيئاً لا يرضاه الله تعالى لا يرضاه من صاحبه ، ولا يداريه فقد قيل : المداراة في الطريقة كفر بل ينصحه بالرفق والموعظة الحسنة ، فإذا عاد إلى ما كان عليه وترك ما تجدد لديه يعود إلي صدق مودته وحسن صحبته.
كما قال الله تعالى : {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} (الإسراء : 8) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
هنوزت از سر صلحست بازآى
كزان محبوبتر باشى كه بودى
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الآية : كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين ، فقال : يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب ، فلا تضله بعدي ، واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني ، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما ؛ أي : بين أرواحهما ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه.
نعم الأخ ونعم الصاحب ، فيثني عليه خيراً.
قال : ويموت أحد الكافرين ، فيقول : يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشر ، وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك ، فلا تهده بعدي وأضلله كما أضللتني وأهنه كما أهنتني ، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : بئس الأخ وبئس الخليل ، فيثني عليه شراً.
(8/298)
وفي الحديث : "إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلى ظلي".
وفي رواية أخرى : "المتحابون فيَّ أي : في الله بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أحبوأبغضووالوعاد ، فإنه إنما ينال ما عند الله بهذا ، ولن ينفع أحداً كثرة صومه وصلاته وحجه حتى يكون هكذا.
وقد صار الناس اليوم يحبون ويبغضون للدنيا ، ولن ينفع ذلك أهله ، ثم قرأ الآية ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد قدومه إلى المدينة.
وقال : كونوا في الله إخواناً" ؛ أي : لا في طريق الدنيا والنفس والشيطان.
وقال الصديق رضي الله عنه من ذاق خالص محبة الله منعه ذلك من طلب الدنيا وأوحشه ذلك من جميع البشر.
(اكر كسى را دوست دارد از مخلوقات از آنست كه وى بحق تعالى تعلقى دارد يا ازروى دوستى باحق مناسبتى دارد) : ()
وما عمدى بحب تراب أرض
ولكن ما يحل به الحبيب
قال عبيد بن عمر : كان لرجل ثلاثة أخلاء بعضهم أخص به من بعض ، فنزلت به نازلة فلقي أخص الثلاثة ، فقال : يا فلان إنه قد نزل بي كذا وكذا ، وإني أحب أن تعينني.
قال له : ما أنا بالذي أعينك وأنفعك ، فانطلق إلى الذي يليه ، فقال له : أنا معك حتى إذا بلغت المكان الذي تريده رجعت وتركتك ، فانطلق إلى الثالث ، فقال له : أنا معك حيث ما كنت ودخلت.
قال : فالأول : ماله ، والثاني : أهله وعشيرته.
والثالث : عمله :
بشهر قيامت مرو تنكدست
كه وجهى ندارد بحسرت نشست
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
كرت جشم وعقلست تدبير كور
كنون كن كه جشمت نخور دست مور
{الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا بآياتنا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} .
يا عِبَادِ} ؛ أي :
388
يا عبادي.
ولفظ العباد المضاف إلى الله مخصوص بالمؤمنين المتقين ؛ أي : يقال : للمتقين يوم القيامة تشريفاً وتطييباً لقلوبهم يا عبادي.
{لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} : من إلقاء المكاره.
{وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} من فوت المقاصد ، كما يخاف ويحزن غير المتقين.
وقال ابن عطاء : لا خوف عليكم اليوم ؛ أي : في الدنيا من مفارقة الإيمان ، ولا أنتم تحزنون في الآخرة بوحشة البعد ، وذلك لأن خواص العباد يبشرهم ربهم بالسلامة في الدنيا والآخرة ، كما دل عليه قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ} (يونس : 64) ، ولكنهم مأمورون بالكتمان وعلمهم بسلامتهم يكفي لهم ، ولا حاجة بعلم غيرهم.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن من أعتقه الله من رق المخلوقات واختصه بشرف عبوديته في الدنيا لا خوف عليه يوم القيامة من شيء يحجبه عن الله ، ولا يحزن على ما فاته من نعيم الدنيا والآخرة مع استغراقه في لجج بحر المعارف والعواطف.
{الَّذِينَ ءَامَنُوا بآياتنا} صفة للمنادى.
{وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} حال من الواو أو عطف على الصلة ، أو مخلصين وجوههم لنا جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا عن مقاتل إذا بعث الله الناس فزع كل أحد فينادي منادٍ : يا عبادي ، فترفع الخلائق رؤوسهم على الرجاع ، ثم يتبعها الذين آمنوا ، الآية.
فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم.
وفي "التأويلات النجمية" : وكانوا مسلمين في البداية لأوامره ونواهيه في الظاهر.
وفي الوسط مسلمين لآداب الطريقة على وفق الشريعة بتأديب أرباب الحقيقة في تبديل الأخلاق في الباطن.
وفي "النهاية" : مسلمين للأحكام الأزلية والتقديرات الإلهية وجريان الحكم ظاهراً وباطناً في الإخراج من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي.
انتهى.
ثم في الآية إشارة إلى الإيمان بالآيات التنزيلية والتكوينية إيماناً عيانياً ، وحقيقة الإسلام إنما تظهر بعد العيان في الإيمان ، ثم إذا حصل الإيمان الصفاتي ، وهو الإيمان بالآيات يترقى السالك إلى الإيمان بالله الذي هو الإيمان الذاتي فاعرف جداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{الَّذِينَ ءَامَنُوا بآياتنا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍا وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُا وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا} .
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} نساؤكم المؤمنات حال كونكم {تُحْبَرُونَ} : تسرون سروراً يظهر حباره ؛ أي : أثره على وجوهكم أو تزينون من الحبرة ، وهو حسن الهيئة.
(8/299)
قال الراغب : الحبر الأثر المستحسن.
ومنه ما روي : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ؛ أي : جماله وبهاؤه.
والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس من آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها.
قال في "القاموس" : الحبر بالكسر : الأثر أو أثر النعمة والحسن والوشى ، وبالفتح السرور وحبره سره.
والنعمة والحبرة بالفتح السماء في الجنة ، وكل نعمة حسنة ، وقد مر في سورة الروم ما يتعلق بالسماع عند قوله تعالى : {فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} (الروم : 15).
وفي "التأويلات النجمية" : ادخلوا جنة الوصال أنتم وأمثالكم في الطلب تتنعمون في رياض الأنس.
{يُطَافُ عَلَيْهِم} ؛ أي : على العباد المؤمنين بعد دخولهم الجنة.
وبالفارسية : (بكردانند برسر ايشان).
يدار بأيدي الغلمان والولدان والطائف الخادم ، ومن يدور حول البيوت حافظاً والإطافة كالطوف والطواف : (كرد جيزى در آمدن يعنى بكشتن).
{بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} : (كاسانهن).
جمع صحفة كجفان جمع جفنة ، وهي القصعة العريضة الواسعة.
قال مجاهد : أي : أواني مدورة الأفواه.
قال السدي : أي : ليست لها أذان.
والمراد : قصاع فيها طعام.
{وَأَكْوَابٍ} من ذهب فيها شراب.
وبالفارسية : (وكوزهاى بى دست بى كوشه براز) : أصناف شراب.
جمع : كوب ، وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم ليشرب الشارب من حيث شاء.
389
قال سعدي المفتي : قللت الأكواب وكثرت الصحاف ؛ أي : كما دل عليهما الصيغة ؛ لأن المعهود قلة أواني الشراب بالنسبة إلى أوني الأكل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يطاف بسبعين ألف صحفة من ذهب في كل صحفة سبعون ألف لون كل لون له طعم وهذا لأسفل درجة ، وأما الأعلى فيؤتى بسبعمائة ألف صحفة كما في "عين المعاني".
{وَفِيهَا} ؛ أي : في الجنة.
{مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ} من فنون الملاذ والمشتهيات النفسانية كالمطاعم والمشارب والمناكح والملابس والمراكب ، ونحو ذلك.
قال في "الأسئلة المقحمة" : أهل الجنة هل يعطيهم الله جميع ما يسألونه وتشتهي أنفسهم ، ولو اشتهت نفوسهم شيئاً من مناهي الشريعة كيف يكون حاله.
والجواب : معنى الآية أن نعيم الجنة كله مما تشتهيه الأنفس ، وليس فيها ما لا تشتهيه النفوس ، ولا تصل إليه ، وقد قيل : يعصم الله أهل الجنة من شهوة محال أو منهي عنها.
يقول الفقير : دل هذا على أنه ليس في الجنة اللواطة المحرمة في جميع الأديان والمذاهب ، ولو في دبر امرأته ، فإن الإمام مالكاً رحمه الله رجع عن تجويز اللواطة في دبر امرأته ، فليس فيها اشتهاء اللواطة لكونها مخالفة للحكمة الإلهية.
وقد جوزها بعضهم في "شرح الأشباح" وغلط فيه غلطاً فاحشاً ، وقد بيناه في قصة لوط ، وأما الخمر ، فليست كاللواطة لكونها حلالاً على بعض الأمم.
والحاصل : أنه ليس في الجنة ما يخالف الحكمة كائناً ما كان.
ولذا تستتر فيها الأزواج عن غير محارمهن ، وإن كان لا حل ولا حرمة هناك.
{وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} يقال : لذذت الشيء بالكسر لذاذاً ولذاذة ؛ أي : وجدته لذيذاً.
والمعنى : تستلذه الأعين وتقر بمشاهدته.
قال سعدي المفتي : هذا من باب تنزل الملائكة والروح تعظيماً لنعيمها ، فإن منه النظر إلى وجهه الكريم.
انتهى.
فهذا النظر هو اللذة الكبرى.
قال جعفر : شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين ؛ لأن ما في الجنة من النعيم والشهوات واللذات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع يغمس في بحر ؛ لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية ؛ لأنها مخلوقة ، ولا تلذ الأعين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الوجه الباقي الذي لا حد ولا نهاية له.
(در وسيط آورده كه بدين دو كلمة اخبار كرد از جملة نعيم اهل بهشت نعيم رياض جنان يا نصيب نفس است يا بهرة عين).
كذا قال في "كشف الأسرار" : هذا من جوامع القرآن ؛ لأن جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتماع الخلق كلهم على وصف ما فيهما على التفصيل لم يخرجوا عنه.
(دوريشى فرموده كه اهل نظر ميدانندكه لذت عين درجه جيزاست ميتوانند بود جمعى راكه غشاوة اعتزال بر نظر بصيرت ايشان طارى كشته يالمعات أنوار جمال انكم سترون ربكم برايشان بوشيده ماند با ايشان بكوى كه تلذ الأعين عبارت از جيست بر هر صاحب بصيرتى روشن است كه اهل شوق رالذت عين جز بمشاهدة جمال محبوب متصور نيست.
برده ازبيش براندازكه مشتاقانرا.
لذت ديده جز از ديدن ديدار تونيست.
امام قشيري رحمه الله فرموده كه لذت ديدار فرا خور اشتياق است عاشق راهر جندكه شوق بيشتر بو دلذت افزو نترباشد واز ذو النون مصري رحمه الله نقل كرده اندكه شوق ثمرة محبت است هركرا دوستى بيشتر شوق بديدار دوست زياده تر ودر زبور آمده كه اى داود بهشت من براى مطيعانست وكفايت من جهت متوكلان وزيادت من براى شاكران وانس من بهرة طالبان ورحمت من ازان محبان ومغفرت من براى تائبان ومن خاصة
390
(8/300)
مشتاقائم).
إلا طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا لهم أشد شوقاً : (دلم از شوق توخونست وندانم جونست.
درلا درون شوق جمالت زبيان بيرونست.
درد لم شوق توهر روز فزون ميكردد.
دل شوريده من بين كه جه روز افزونست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال بعض الكبار : وفيها ما تشتهي أنفس أرباب المجاهدات والرياضات لما قاسوا في الدنيا من الجوع والعطش وتحملوا وجوه المشاق ، فيمتازون في الجنة بوجوه من الثواب.
ويقال لهم : كلوا من ألوان الأطعمة في صحاف الذهب ، واشربوا من أصناف الأشربة من أكواب الذهب هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
وأما أرباب القلوب وأهل المعرفة والمحبة ، فلهم ما تلذ الأعين من النظر إلى الله تعالى لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم وبذل الأرواح في الطلب : (قومى خدايرا برستند بربيم وطمع آنان مردو رانند دربند باداش مانده وقومى اورا بمهر ومحبت برستند آنان عارفانند).
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود إن أود الأوداء إلى من عبدني لغير نوال ، ولكن ليعطي الربوبية حقها يا داود.
من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار لو لم أخلق جنة وناراً لم أكن أهلاً ؛ لأن أطاع ومر عيسى عليه السلام بطائفة من العباد قد نحلوا : (يعنى از عبادت كداخته بودند).
وقالوا : نخاف النار ونرجو الجنة ، فقال : مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم ومر بقوم آخرين كذلك ، فقالوا : نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله ، فقال : أنتم أولياء الله حقاً ، أمرت أن أقيم معكم.
قال حسن البصري رحمه الله لذاذة شهادة أن لا إله إلا الله في الآخرة كلذاذة الماء البارد في الدنيا.
وفي الخبر : أن أعرابياً قال : يا رسول الله هل في الجنة إبل ، فإني أحب الإبل؟ فقال : "يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك".
وقال آخر : يا رسول الله هل في الجنة خيل ، فإني أحب الخيل؟ قال : "إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها فرساً من ياقوتة حمراء تطير بك حيث شئت".
وفي الحديث : "إن أدنى أهل الجنة منزلة من أن له سبع درجات ، وهو على السادسة وفوقه السابعة ، وإن ثلاثمائة خادم ، وإنه يغدى عليه ويراح في كل يوم بثلاثمائة صحفة في كل صحفة لون من الطعام ليس في الأخرى وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وأن له من الأشربة ثلاثمائة إناء في كل إناء شراب ليس في الآخر وأنه ليبذ أوله كما يلذ آخره ، وأنه ليقول : يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم ، ولم ينقص ذلك مما عندي شيئاً وإن له من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه في الدنيا".
وعن أبي ظبية السلمي.
قال : إن أهل الجنة لتظلهم سحابة ، فتقول : ما أمطركم ، فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرته حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أتراباً.
وعن أبي أمامة قال : إن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطائر ، وهو يطير فيقع متفلقاً نضيجاً في كفه ، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه ، ثم يطير ويشتهي الشراب ، فيقع الإبريق في بدء فيشرب منه ما يريد ، ثم يرجع إلى مكانه ، وأما الرؤية ، فلها مراتب حسب تفاوت طبقات الرائين ، وإذا نظروا إلى الله نسوا نعيم الجنان ، فإنه أعظم اللذات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي الخبر : "أسألك لذة النظر إلى وجهك".
يقول الفقير : في الآية رد على من قال من الفقهاء لو قال : أرى الله في الجنة يكفر ، ولو قال : من الجنة لا يكفر.
انتهى.
وذلك لأن الحق سبحانه جعل ظرفاً للرؤية ، وإنما يلزم الكفر إذا اعتقد أن الجنة ظرف المرئي ؛ أي : الله ولا يلزم من تقيد رؤية العبد الرآئي بالجنة تقيد المعبود المرئي بها ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى الله في الدنيا؟ مع أن الله ليس في الدنيا
391
فاعرف ، وفوقه مجال للكلام لكن لما كانت الرؤية نصيب أهل الشهود لا أهل القيود كان إلا وجب طي المقال ، إذ لا يعرف هذا بالقيل والقال (ع) : (نداند لذت اين باده زاهد).
{وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} : الالتفات للتشريف ؛ أي : باقون دائمون لا تخرجون ولا تموتون إذ لولا البقاء والدوام لنغص العيش ونقص السرور والاشتهاء واللذة ، فلم يكن التنعم كاملاً والخوف والحسرة زائلاً بخلاف الدنيا ، فإنها لفنائها عيشها مشوب بالكدر ونفعها مخلوط بالضرر :
جز حسرت وندامت وافسوس روزكار
لز زندكى اكر ثمرى يافتى بكو
{وَتِلْكَ} : مبتدأ إشارة إلى الجنة المذكورة {الْجَنَّةُ} : خبره.
{الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا} : أعطيتموها وجعلتم ورثتها.
والإيراث ميراث (دادن) {بِمَآ} الباء للسببية.
{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحة.
والمقصود أن دخول الجنة بمحض فضل الله تعالى ورحمته.
واقتسام الدرجات بسبب الأعمال والخلود فيها بحسب عدم السيئات شبه جزاء العمل بالميراث ؛ لأن العامل يكون خليفة العمل على جزائه.
يعني : يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل ، فكان العمل كالمورث وجزاؤه كالميراث.
قال الكاشفي : (جزارا بلفظ ميراث ياد فرموده كه خالص است وباستحقاق بدست آيد).
(8/301)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الله لكل نفس جنة ونار.
فالكافر يرث نار المسلم ، والمسلم يرث جنة الكافر.
قال بعضهم : قارن ثواب الجنة بالأعمال ، وأخرج المعرفة واللقاء والمحبة والمشاهدة من العلل ؛ لأنها اصطفائية خاصة أزلية يورثها من يشاء من العارفين الصديقين ، فالجنة مخلوقة ، وكذا الأعمال ، فأعطيت للمخلوق بسبب المخلوق ، وجعل الرؤية عطاء لا يوازيها شيء.
{لَكُمْ فِيهَا} ؛ أي : في الجنة سوى الطعام والشراب.
{فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الإفراط فقط.
والفواكه من أشهى الأشياء للناس وألذها عندهم وأوفقها لطباعهم وأبدانهم.
ولذلك أفردها بالذكر {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} ؛ أي : بعضها تأكلون في نوبة لكثرتها.
وأما الباقي ، فعلى الأشجار على الدوام لا ترى فيها شجرة خلت عن ثمرها لحظة ، فهي مزينة بالثمار أبداً موفرة بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي الحديث : "لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها" فمن تبعيضية.
والتقديم للتخصيص.
ويجوز أن تكون ابتدائية وتقدم الجار للفاصلة ، أو للتخصيص ، كالأول فيكون فيه دلالة على أن كل ما يأكلون للتفكه ليس فيها تفوت إذ لا تحلل حتى يحتاج إلى الغذاء.
ولعل تفصيل التنعم بالمطاعم والمشارب والملابس ، وتكريره في القرآن ، وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعيم الجنة لما كان بهم من الشدة والفاقة ، ففيه تحريك لدواعيهم وتشويق لهم.
والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم ، فوجب أن يدخل تحت هذا الوعد.
والظاهر أنه خارج ، فإنه يخاف ويحزن يوم القيامة ، ولا محذور في خروجه.
والحاصل : أن الآية في حق المؤمنين الكاملين ، فإنهم الذين أسلموا وجوههمتعالى ، وأما الناقصون ، فإنهم وإن آمنوا لكن إسلامهم لم يكن على الكمال ، وإلا لما خصوا الله بترك التقوى ، فمقام الامتنان يأبى عن دخولهم تحت حكم الآية.
اللهم إلا بطريق الإلحاق ، فإن لهم نعيماً بعد انقضاء مدة خوفهم وحزنهم ، وانتهاء زمان حبسهم وعذابهم ، فعلى العاقل أن يجتهد في الظواهر والبواطن ، فإن من اكتفى بالمطاعم والمشارب الصورية حرم من طعام المشاهدات وشراب المكاشفات ، ومن لم يطعم في هذه الدار من أثمار أشجار المعارف لم
392
يلتذ في تلك الدار بالأذواق الحقيقية التي هي نصيب الخواص من أهل التقوى.
قال الحافظ :
عشق مى ورزم واميدكه اين فن شريف
جون هنر هاى دكر موجب حرمان نشود
اللهم اجعلنا من المشتاقين إلى جمالك والقابلين لوصالك بحرمة جلالك.
{لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ} .
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} ؛ أي : الراسخين في الإجرام وهم الكفار ، وحسبما ينبىء عند إيرادهم في مقابلة المؤمنين بالآيات {فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ} متعلق بقوله : {خَـالِدُونَ} ؛ أي : لا ينقطع عذابهم في جهنم ، كما ينقطع عذاب عصاة المؤمنين على تقدير دخولهم فيها.
{لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} ؛ أي : لا يخفف العذاب عنهم ولا ينقص مقولهم فترت عنه الحمى إذ سكنت قليلاً ونقص حرها ، والتركيب للضعف والوهن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال الراغب : الفتر سكون بعد حدة ولين بعد شدة وضعف بعد قوة : (والتفتيرسست كردانيدن).
{وَهُمْ فِيهِ} ؛ أي : في العذاب.
{مُبْلِسُونَ} : آيسون من النجاة والراحة وخفة العقوبات قيل يجعل المجرم في تابوت من النار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالداً لا يرى ولا يرى.
قال في "تاج المصادر" : الإبلاس (نومبيد شدن وشكسته واندوهكين شدن).
وفي "المفردات" : الإبلاس : الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس ، ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت ، وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان ، إذا سكنت وانقطعت حجته.
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن أهل التوحيد ، وإن كان بعضهم في النار ، لكن لا يخلدون فيها ، ويفتر عنهم العذاب بدليل الخطاب.
وقد ورد في الخبر أنه يميتهم الحق إماتة إلى أن يخرجهم من النار.
والميت لا يحس ، ولا يألم.
وذكر في الآية ، وهم مبلسون ؛ أي : خائبون.
وهذه صفة الكفار والمؤمنون ، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم يعدون أيامهم إلى أن تنتهي أشجانهم.
وقال بعض الشيوخ : إن حال المؤمن من النار من وجه أروح لقلوبهم من حالهم في الدنيا ؛ لأن اليوم خوف الهلاك ، وهذا يعين النجاة ، ولقد أنشدوا : ()
عيب السلامة أن صاحبها
متوقع لقوا صم الظهر
وفضيلة البلوى ترقبه
عقبى الرجاء ودورة الدهر
هست در قرب همه بيم زوال
نيست در بعد جزاميد وصال
(8/302)
{وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ} بذلك {وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ} لتعريض أنفسهم للعذاب الخالد بالكفر والمعاصي ، وهم ضمير فصل عند البصريين من حيث أنه فصل به بين كون ما بعده خبراً ونعتاً وتسمية الكوفيين له عماداً لكونه حافظاً لما بعده ، حتى لا يسقط عن الخبرية كعماد البيت ، فإنه يحفظ سقفه من السقوط.
{وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ * وَنَادَوْا يا مَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَا قَالَ إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} .
{وَنَادَوْا يا مَـالِكُ} : (درخواه ازخداى تو).
{لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ؛ أي : ليمتنا حتى نستريح من قضى عليه إذا أماته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والمعنى : سل ربك أن يقضي علينا ، وهذا لا ينافي ما ذكر من إبلاسهم ؛ لأنه جؤار ؛ أي : صياح وتمن للموت لفرط الشدة.
{قَالَ} : مالك مجيباً بعد أربعين سنة ، يعني : ينادون ملكاً أربعين سنة ، فيجيبهم بعدها أو بعد مائة سنة أو ألف.
(در تبيان أورده كه بعد از جهل روز از روزهاى آن سراى).
لأن تراخي الجواب أحزن لهم.
{إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ} : المكث : ثبات مع انتظار ؛ أي : مقيمون في العذاب أبداً لا خلاص لكم منه بموت ، ولا بغيره ، فليس بعدها إلا جؤار كصياح
393
الحمير أوله زفير وآخره شهيق.
{لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ} في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهة الله تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم.
وفي "التأويلات النجمية" : لقد جئناكم بالدين القويم ، فلم تقبلوا ؛ لأن أهل الطبيعة الإنسانية أكثرهم يميلون إلى الباطل ، كما قال {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ} ؛ أيَّ : حق كان {كَـارِهُونَ} ؛ أي : لا يقبلون وينفرون منه لما في طباعه من إتعاب النفس والجوارح ، وأما الحق المعهود الذي هو التوحيد ، أو القرآن ، فكلهم كارهون له مشمئزون منه.
هكذا قالوا والظاهر ما أشار إليه في "التأويلات" ، فاعرف.
والكراهة مصدر كره الشيء بالكسر ؛ أي : لم يرده فهو كاره.
وفي الآية إشارة إلى أن النفرة عن الحق من صفات الكفار ، فلا بدون قبول الحق حلواً ومراً وإلى أن الله تعالى ما ترك الناس سدى ، بل أرشدهم إلى طريق الحق بدلالات الأنبياء والأولياء لكن أكثرهم لم يقبلوا العلاج ، ثم إن أنفع العلاج هو التوحيد.
حكي عن الشبلي قدس سره : أنه اعتل فحمل إلى البيمارستان وكتب علي بن عيسى الوزير إلى الخليفة في ذلك ، فأرسل الخليفة إليه مقدم الأطباء وكان نصرانياً ليداويه ، فما أنجحت مداواته ، فقال الطبيب للشبلي ، والله لو علمت أن مداواتك من قطعة لحم في جسدي ما عسر علي ذلك ، فقال الشبلي : دوائي في دون ذلك.
قال الطبيب : وما هو؟ قال : في قطعك الزنار ، فقال الطبيب : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فأخبر الخليفة بذلك ، فبكى.
وقال : نفذنا طبيباً إلى مريض ، وما علمنا أنا نفذنا مريضاً إلى طبيب.
ونظيره ما حكي : أن الشيخ نجم الدين الأصفهاني قدس سره : خرج مع جنازة بعض الصالحين بمكة ، فلما دفنوه وجلس الملقن يلقنه ، ضحك الشيخ نجم الدين ، وكان من عادته لا يضحك ، فسأله بعض أصحابه عن ضحكه فزجره ، فلما كان بعد ذلك قال : ما ضحكت إلا لأنه لما جلس على القبر يلقن سمعت صاحب القبر يقول : ألا تعجبون من ميت يلقن حياً أشار إلى أن الملقن وإن كان من زمرة الأحياء صورة ، لكنه في زمرة الأموات حقيقة لممات قلبه بالغفلة عن الله تعالى ، فهو ماكث في جهنم النفس معذب بعذاب الفرقة ، لا ينفع نفسه ، فكيف ينفع غيره بخلاف الذي لقنه ، فإنه بعكس ذلك ، يعني أنه وإن كان في زمرة الأموات صورة لكن في زمرة الأحياء حقيقة ؛ لأن المؤمنين الكاملين لا يموتون ، بل ينقلبون من دار إلى دار ، فهو ماكث في جنة القلب منعم بنعيم منتفع بأعماله وأحواله.
وله تأثير في نفع الغير أيضاً بالشفاعة ونحوها على ما أشار إليه قوله تعالى : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (النازعات : 5) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
مشوبمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
فإذا عرفت حال ملقن القبر فقس عليه سائر أرباب التلقين من أهل النقصان وأصحاب الدعوى والرياء ، فإن الميت يحتاج في إحيائه إلى نفخ روح حقيقي وأنى ذلك لمن في حكم الأموات من النافخين ، فإن نفخته عقيم إذ ليس من أهل الولادة الثانية.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا أحياء بالعلم والمعرفة والشهود ويعصمنا من الجهل والغفلة والقيود.
(8/303)
{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} : الإبرام : إحكام الأمر وأصله من إبرام الحبل ، وهو ترديد فتله ، وهو كلام مبتدأ ، وأم منقطعة ، وما فيها من معنى ، بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء.
والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الإحكام حقيقة ، فهي لإنكار الوقوع ، واستبعاده وإن أريد الإحكام صورة ،
394
فهي لإنكار الواقع واستقباحه ؛ أي : أبرم وأحكم مشركوا مكة أمر من كيدهم ومكرهم برسول الله {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنا حقيقة لا هم أو فإنا مبرمون بهم حقيقة ، كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (الطور : 42) وكانوا يتناجون في أنديتهم ، ويتشاورون في أموره عليه السلام.
قال في "فتح الرحمن" : كما فعلوا في اجتماعهم على قتله عليه السلام في دار الندوة إلى غير ذلك.
وفي الآية إشارة إلى أن أمور الخلق منتقدة عليهم قلما يتم لهم ما دبروه ، وقلما يرتفع لهم من الأمور شيء على ما قدروه.
وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع.
{أَمْ يَحْسَبُونَ} ؛ أي : بل أيحسبون يعني : (بابندار ند نا كران كفار).
{أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} ، وهو ما حدثوا به أنفسهم من الكيد ؛ لأنهم كانوا مجاهرين بتكذيب الحق.
{وَنَجْوَاـاهُم} ؛ أي : بما تكلموا به فيما بينهم بطريق التباهي والتشاور.
وبالفارسية : (وآنجه براز بايكديكر مشاورت ميكنند).
يقال : ناجيته ؛ أي : ساررته وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض ؛ أي : مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله.
{بَلَى} نحن نسمعهما ونطلع عليهما.
{وَرُسُلُنَا} الذي يحفظون عليهم أعمالهم ويلازمونهم إينما كانوا {لَدَيْهِمْ} عندهم {يَكْتُبُونَ} ؛ أي : يكتبونهما ، أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر من سرهم ونجواهم ، ثم تعرض عليهم يوم القيامة ، فإذا كان خفاياهم غير خفية على الملائكة ، فكيف على عالم السر والنجوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والجملة عطف على ما يترجم عنه بلى.
وفي "التأويلات النجمية" : خوفهم بسماعه أحوالهم وكتابة الملك عليهم أعمالهم لغفلتهم عن الله ، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوفهم بغير الله ، ومن علم أن أعماله تكتب عليه ، ويطالب بمقتضاها قل إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه.
قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله : دل قوماً من عباده إلى الحياء منه ، ودل قوماً إلى الحياء من الكرام الكاتبين ، فمن استغنى بعلم نظر الله إليه ، والحياء منه أغناه ذلك عن الاشتغال بالكرام الكاتبين.
وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله من ستر من الناس ذنوبه وأبداها لمن لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق.
قال الشيخ سعدي : (في كلستانه بخشايش الهى كم شدة را در مناهي جراغ توفيق فراراه داشت وبخلقه أهل تحقيق در آمد وبيمن قدم درويشان وصدق نفس ايشان ذمايم اخلاق او بمحامد مبدل شده دست ازهوا وهوس كوتاه كرده بودو زبان طاعنان در حقش در ازكه همجنانكه قاعدة اولست وزهد وصلاحش نا معقول.
بعذر توبه توان رستن از عذاب خداى وليك مى نتوان از زبان مردم رست.
جون طاقت جورز بانها نياورد شكايت اين حال باببر طريقت بردشيخ بكريست وكفت شكرآن نعمت كجا كزارى كه بهترازانى كه بندار ندت نيك باشى وبدت كويند خلق به كه بد باشى ونيكت كويند ليكن مرابين كه حسن ظن همكنان در حق من بكمالست ومن درغايت نقصان) : ()
إني لمستتر من عين جيراني
والله يعلم أسراري وإعلاني
دربسته بروى خود زمردم
تاعيب نكسترند مارا
دربسته جه سود عالم الغيب
داناى نهان وآشكارا
يقول الفقير : دلت الآية على أن الحفظة يكتبون الأسرار والأمور
395
القلبية سئل سفيان بن عيينة رحمه الله : هل يعلم الملكان الغيب ، فقال : لا ، فقيل له : فكيف يكتبون ما لا يقع من عمل القلب ، فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه ، فإذا هم العبد بحسنة فاح من فيه رائحة المسك ، فيعلمون ذلك ، فيكتبونها حسنة وإذا هم بسيئة استقر قلبه لها فاح منه ريح النتن.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الملك لا سبيل له إلى معرفة باطن العبد في قول أكثرهم.
وقال في شرح الطريقة يكره الكلام في الخلاء ، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة ؛ لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه ؛ لأجل كتابة الكلام ، فإن سلم عليه في هذه الحالة.
قال الإمام أبو حنيفة يرد السلام بقلبه لا بلسانه لئلا يلزم كتابة الملائكة ، فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية.
وقال في "ريحان القلوب" : الذكر الخفي هو ما خفي عن الحفظة لا ما يحفض به الصوت ، وهو خاص به صلى الله عليه وسلّم ومن له به أسوة حسنة.
انتهى.
والله أعلم بتوفيق الأخبار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/304)
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُما بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ * سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} .
{قُلْ} للكفرة {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ} فرضاً كما تقولون الملائكة بنات الله {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} لذلك الولد وأسبقكم إلى تعظيمه والانقياد له ، وذلك لأنه عليه السلام أعلم الناس بشؤونه تعالى ، وبما يجوز عليه وبما لا يجوز وأولاهم بمراعاة حقوقه ، ومن مواجب تعظيم الوالد تعظيم ولده ؛ أي : أن يثبت بحجة قطعية كون الولد له تعالى كما تزعمون ، فأنا أولكم في التعظيم وأسبقكم إلى الطاعة تعظيماًتعالى وانقياداً ؛ لأن الداعي إلى طاعته وتعظيمه أول وأسبق في ذلك وكون الولد له تعالى مما هو مقطوع بعدم وقوعه ، ولكن نزل منزلة ما لا جزم لوقوعه واللاوقوعه على المساهلة وإرخاء العنان لقصد التبكيت والإسكات والإلزام فجيء بكلمة إن فلا يلزم من هذا الكلام صحة كينونة الولد وعبادته ؛ لأنها محال في نفسها يستلزم المحال.
يعني : (اين سخن بر سبيل تمثيل است ومبالغه در نفى ولد).
فليس هناك ولد ولا عبادة له.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى نوع من الاستهزاء بهم وبمقالتهم والاستخفاف بعقولهم ، يعني : قل إن كان للرحمن ولد كما تزعمون وتعبدون عيسى ، بأنه ولده فأنا كنت أول العابدين.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلّم قبل كل شيء ، وأول من وحد الله تعالى ذرية محمد عليه السلام ، وأول ما جرى به القلم : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال : فأنا أول العابدين أحق بتوحيد الله وذكر الله.
{سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : في إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه سبحانه.
{رَبِّ الْعَرْشِ} في تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش {عَمَّا يَصِفُونَ} ؛ أي : يصفونه به ، وهو الولد.
قال في "بحر العلوم" ؛ أي : سبحوا رب هذه الأجسام العظام ؛ لأن مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كل مربوب فيها ونزهوه عن كل ما يصفه الكافرون به من صفات الأجسام ، فإنه لو كان جسماً لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{فَذَرْهُمْ} ؛ أي : اترك الكفرة حيث لم يذعنوا للحق بعدما سمعوا هذا البرهان الجلي.
{يَخُوضُوا} يشرعوا في أباطيلهم وأكاذيبهم.
والخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه ، ويستعار للأمور وأكثر ما ورد في القرآن فيما يذم الشروع فيه كما في "المفردات".
{وَيَلْعَبُوا} في دنياهم ، فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليست إلا من باب الجهل واللعب والجزم في الفعل لجواب الأمر ،
396
يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً ، قالوا : كل لعب لا لذة فيه ، فهو عبث ، وما كان فيه لذة ، فهو لعب.
{حَتَّى يُلَـاقُوا} يعاينوا {يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} على لسانك.
يعني : (روزى راكه وعده داده شده اند بملاقات آن).
وهو يوم القيامة ، فإنهم يومئذٍ يعلمون ما فعلوا ، وما يفعل بهم.
قال سعدي المفتي : والأظهر يوم الموت ، فإن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي به.
يقول الفقير : وفيه أن الموعود هو يوم القيامة ؛ لأنه الذي كانوا ينكرونه لا يوم الموت الذي لا يشكون فيه ، ولما كان يوم الموت متصلاً بيوم القيامة على ما أشار إليه قوله عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته" جعل الخوض واللعب فتهيين بيوم القيامة.
وفي الآية إعلام بأنهم من الذين طبع الله على قلوبهم ، فلا يرجعون عما هم عليه أبداً ، وإشارة إلى أن الله خلق الخلق أطواراً مختلفة ، فمنهم من خلقه للجنة ، فيستعده للجنة بالإيمان والعمل الصالح ، وانقياد الشريعة ومتابعة النبي عليه السلام ، ومنهم من خلقه للنار ، فيستعده للنار برد الدعوة والإنكار والجحود والخذلان ، ويكله إلى الطبيعة النفسانية الحيوانية التي تميل إلى اللهو واللعب والخوض فيما لا يعنيه ، ومنهم من خلقه للقربة والمعرفة ، فيستعده لهما بالمحبة والصدق والتوكل واليقين والمشاهدات والمكاشفات والمراقبات ، وبذل الوجود بترك الشهوات وأنواع المجاهدات وتسليم تصرفات أرباب المؤلفات.
(8/305)
عن بهلول رحمه الله : قال بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع البصرة إذا الصبيان يلعبون بالجوز واللوز وإذا أنا بصبي ينظر إليهم ، ويبكي فقلت هذا الصبي يتحسر على ما في أيدي الصبيان ، ولا شيء معه يلعب به ، فقلت له : أي بني ما يبكيك؟ أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؟ فرفع بصره إليّ وقال : يا قليل العقل ما للعب خلقنا؟ فقلت : أي بني ، فلماذا خلقنا ، فقال : للعلم والعبادة ، فقلت : من أين لك ذلك بارك الله فيك ، قال : من قول الله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} ().
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وحكي : أنه كان سبب خروج إبراهيم بن أدهم رحمه الله عن أهله وماله وجاهه ورياسته.
وكان من أبناء الملوك أنه خرج يوماً يصطاد ، فأثار ثعلباً أو أرنباً ، فبينما هو في طلبه هتف به هاتف.
ألهذا خلقت أم بهذا أمرت ، ثم هتف به من قربوس سرجه.
والله ما لهذا خلقت ، ولا بهذا أمرت ، فنزل عن مركوبه ، وصادف راعياً لأبيه ، فأخذ جبة للراعي من صوف ، فلبسها وأعطاه فرسه وما معه ، ثم دخل البادية ، وكان من شأنه ما كان.
واعلم أن الاشتغال بما سوى الله تعالى من قبيل اللهو واللعب إذ ليس فيه مقصد صحيح ، وإنما المطلب الأعلى هو الله تعالى ، ولذا خرج السلف عن الكل ووصلوا إلى مبدأ الكل :
دلا ترك هو اكن قرب حق كر آزرو دارى
كه دور افتد حباب از بحر در كسب هوا كردن
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـاعَةَ إِلا} .
جعلنا الله وإياكم من المشتغلين به.
{وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ} ؛ أي : مستحق لأن يعبد فيها ؛ أي : هو معبود أهل السماء من الملائكة وبه تقوم الساعة ، وليس حالاً فيها.
{وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ} ؛ أي : مستحق لأن يعبد فيها ؛ أي : فهو معبود أهل الأرض من الإنس والجن وإله الآلهة ، ولا قاضي لحوائج أهل الأرض إلا هو وبه تقوم الأرض وليس حالاً فيها ، فالظرفان يتعلقان بإله ؛ لأنه بمعنى المعبود بالحق ، أو متضمن معناه ، كقوله : هو حاتم ؛ أي : جواد لاشتهاره بالجود.
وكذا فيمن قرأ ، وهو الذي في السماء الله.
وفي الأرض الله ومنه قوله تعالى : في الأنعام {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الأرْضِ} (الأنعام : 3) ؛ أي :
397
وهو الواجب الوجود المعبود المستحق للعبادة فيهما والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر ، وهو في السماء والعطف عليه والتقدير.
وهو الذي هو في السماء.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} كالدليل على ما قبله ؛ لأنه المتصف بكمال الحكمة والعلم المستحق للألوهية لا غيره ؛ أي : وهو الحكيم في تدبير العالم وأهله العليم بجميع الأحوال من الأزل إلى الأبد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَتَبَارَكَ} تعالى عن الولد والشريك وجل عن الزوال والانتقال وعمت بركة ذكره وزيادة شكره.
{الَّذِى} إلخ.
فاعل تبارك {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : (بادشاهى آسمان وزمين) ، {وَمَا بَيْنَهُمَا} : إما على الدوام كالهواء ، أو في بعض الأوقات كالطير والسحاب.
ومن أخبار الرشيد أنه خرج يوماً للصيد ، فأرسل بازياً أشب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء ، ثم رجع بعد اليأس منه ، ومعه سمكة ، فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك ، فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما : أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيه ، وفيه دواب تبيض وتفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك كذا في "حياة الحيوان".
{وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} ؛ أي : الساعة التي فيها تقوم القيامة لا يعلمها إلا هو.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : الالتفات للتهديد ؛ أي : تردون للجزاء فاهتموا بالاستعداد للقائه.
قال بعض الكبار : وإليه ترجعون بالاختيار والاضطرار ، فأهل السعادة يرجعون إليه بالاختيار على قدم الشوق والمحبة والعبودية وأهل الشقاوة يرجعون إليه بالاضطرار بالموت بالسلاسل والأغلال يسحبون على وجوههم إلى النار.
يقول الفقير : الرجوع باضطرار قد يكون نافعاً ممدوحاً مقبولاً ، وهو أن يؤخذ العبد بالجذبة الإلهية ويجر إلى الله جراً عنيفاً ، ووقع ذلك لكثير من المنقطعين إلى الله تعالى.
(8/306)
حكي عن الجنيد رحمه الله أنه قال : كنت في المسجد مرة ، فإذا رجل قد دخل علينا وصلى ركعتين ، ثم انتبذ ناحية من المسجد ، وأشار إليّ فلما جئته ، قال : يا أبا القاسم قد حان لقاء الله تعالى ولقاء الأحباب ، فإذا فرغت من أمري ، فسيدخل عليك شاب مغن فادفع إليه مرقعتي وركوتي ، فقلت : إلى مغن ، وكيف يكون ذلك.
قال : إنه قد بلغ رتبة القيام بخدمة الله في مقامي.
قال الجنيد : فلما قضى الرجل نحبه ؛ أي : مات وفرغنا من مواراته إذا نحن بشاب مصري قد دخل علينا وسلم وقال : أين الوديعة يا أبا القاسم؟ فقلت : كيف ذاك؟ أخبرنا بحالك ، قال : كنت في مشربة بني فلان ، فهتف بي هاتف أن قم إلى الجنيد وتسلم ما عنده ، وهو كيت وكيت ، فإنك قد جعلت مكان فلان الفلاني من الأبدال.
قال الجنيد : فدفعت إليه ذلك فنزع ثيابه ، واغتسل ولبس المرقعة ، وخرج على وجهه نحو الشام ، ففي هذه الحكاية تبين أن ذلك المغني انجذب إلى الله تعالى بصوت الهاتف.
وخرج إلى الشام مقام الأبدال ؛ لأن المهاجرة سنة قديمة وبها يحصل من الترقيات ما لا يحصل بغيرها ، فإذا جاءت الساعة يحصل أثر التوفيق ، ويظهر اللحوق بأهل التحقيق :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَتَبَارَكَ} تعالى عن الولد والشريك وجل عن الزوال والانتقال وعمت بركة ذكره وزيادة شكره.
{الَّذِى} إلخ.
فاعل تبارك {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : (بادشاهى آسمان وزمين) ، {وَمَا بَيْنَهُمَا} : إما على الدوام كالهواء ، أو في بعض الأوقات كالطير والسحاب.
ومن أخبار الرشيد أنه خرج يوماً للصيد ، فأرسل بازياً أشب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء ، ثم رجع بعد اليأس منه ، ومعه سمكة ، فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك ، فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما : أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيه ، وفيه دواب تبيض وتفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك كذا في "حياة الحيوان".
{وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} ؛ أي : الساعة التي فيها تقوم القيامة لا يعلمها إلا هو.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : الالتفات للتهديد ؛ أي : تردون للجزاء فاهتموا بالاستعداد للقائه.
قال بعض الكبار : وإليه ترجعون بالاختيار والاضطرار ، فأهل السعادة يرجعون إليه بالاختيار على قدم الشوق والمحبة والعبودية وأهل الشقاوة يرجعون إليه بالاضطرار بالموت بالسلاسل والأغلال يسحبون على وجوههم إلى النار.
يقول الفقير : الرجوع باضطرار قد يكون نافعاً ممدوحاً مقبولاً ، وهو أن يؤخذ العبد بالجذبة الإلهية ويجر إلى الله جراً عنيفاً ، ووقع ذلك لكثير من المنقطعين إلى الله تعالى.
حكي عن الجنيد رحمه الله أنه قال : كنت في المسجد مرة ، فإذا رجل قد دخل علينا وصلى ركعتين ، ثم انتبذ ناحية من المسجد ، وأشار إليّ فلما جئته ، قال : يا أبا القاسم قد حان لقاء الله تعالى ولقاء الأحباب ، فإذا فرغت من أمري ، فسيدخل عليك شاب مغن فادفع إليه مرقعتي وركوتي ، فقلت : إلى مغن ، وكيف يكون ذلك.
قال : إنه قد بلغ رتبة القيام بخدمة الله في مقامي.
قال الجنيد : فلما قضى الرجل نحبه ؛ أي : مات وفرغنا من مواراته إذا نحن بشاب مصري قد دخل علينا وسلم وقال : أين الوديعة يا أبا القاسم؟ فقلت : كيف ذاك؟ أخبرنا بحالك ، قال : كنت في مشربة بني فلان ، فهتف بي هاتف أن قم إلى الجنيد وتسلم ما عنده ، وهو كيت وكيت ، فإنك قد جعلت مكان فلان الفلاني من الأبدال.
قال الجنيد : فدفعت إليه ذلك فنزع ثيابه ، واغتسل ولبس المرقعة ، وخرج على وجهه نحو الشام ، ففي هذه الحكاية تبين أن ذلك المغني انجذب إلى الله تعالى بصوت الهاتف.
وخرج إلى الشام مقام الأبدال ؛ لأن المهاجرة سنة قديمة وبها يحصل من الترقيات ما لا يحصل بغيرها ، فإذا جاءت الساعة يحصل أثر التوفيق ، ويظهر اللحوق بأهل التحقيق :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
زين جماعت اكر جدا افتى
در نخستين قدم زيا افتى
{وَلا يَمْلِكُ} ؛ أي : لا يقدر {الَّذِينَ يَدْعُونَ} ؛ أي : يعبدهم الكفار {مِن دُونِهِ} تعالى {الشَّفَـاعَةَ} عند الله كما يزعمون {إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} الذي هو التوحيد والاستثناء ، إما متصل والموصول عام لكل ما يعبد من دون الله ، كعيسى وعزير والملائكة وغيرهم ، أو منفصل
398
على أنه خاص بالأصنام {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص.
وقال الكاشفي : وايشان ميداند خودكه بزبان خواهى داده اند وايشان شفاعت ثخواهند كرد الا مؤمنان كنهكار را.
وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها.
(8/307)
{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِه يا رَبِّ إِنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} ؛ أي : سألت العابدين والمعبودين : من أوجدهم ، وأخرجهم من العدم إلى الوجود.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لنعذر الإنكار لغاية ظهوره ؛ لأن الإنسان خلق للمعرفة وطبع عليها وبها أكرمه الله تعالى ، فأما الشأن في معرفة الأشياء ، فقبول دعوتهم.
والتوفيق لمتابعتهم والتدين بأديانهم {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
الإفك بركر دانيدن أي : فكيف يصرفون عن عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بأن الكل مخلوق له تعالى ، فهو تعجيب من جحودهم التوحيد مع ارتكازه في فطرتهم.
قال في "الأسئلة المقحمة" : فإن قلت : هذا دليل على أن معرفة الله ضرورية ، ولا تجب بالسمع الضروريات ، لأنه تعالى أخبر عن الكفار أنهم كانوا يقرون بوحدانية الله قبل ورود السمع ، قلت : إنهم يقولون ذلك تقليداً لا دليلاً وضرورة ، ومعلوم أن في الناس من أهل الإلحاد من ينكر الصانع ، ولو كان ضرورياً لما اختلف فيه اثنان :
خانه بى صنع خانه سازكه ديد
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
نقش بى دست خامه زن كه شنيد
هركه شد زآدمى سوى تعطيل
نيست دروى خرد جوقدر فتيل
{وَقِيلِهِ} : القول والقيل والقال كلها مصادر قرأ عاصم وحمزة بالجر على أنه عطف على الساعة ؛ أي : عنده علم الساعة وعلم قوله عليه السلام شكاية.
وبالفارسية : (ونزديك خداست دانستن قول رسول آنجا كه كفت).
يا رَبِّ} ؛ أي : (برورد كار من).
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ} : (بدرستى كه اين كروه يعنى معاند ان قريش).
{قَوْمٌ} : (كروهى اندكه از روى عناد مكابره).
{لا يُؤْمِنُونَ} : (نمى كروند).
ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول : إن قومي لما ساءه من حالهم ، أو على أن الواو للقسم.
وقوله : إن هؤلاء إلخ.
جوابه : فيكون إخباراً من الله عنهم لا من كلام رسوله.
وفي الإقسام به من رفع شأنه عليه السلام وتفخيم دعائه والتجائه إليه تعالى ما لا يخفى.
وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على محل الساعة ؛ أي : وعنده أن يعلم الساعة وقيله أو على سرهم ونجواهم ، أو على يكتبون المحذوف ؛ أي : يكتبون ذلك ، وقيله.
قال بعضهم : والأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، يعني أن الجر على إضمار حرف القسم ، كما في قولك : الله لأفعلن.
والنصب على حذفه ، وإيصال فعله إليه كقولك الله لأفعلن ؛ كأنه قيل : وأقسم قيله أو بقيله.
والفرق بين الحذف والإضمار أنه في الحذف لا يبقى للذاهب أثر نحو واسأل القرية.
وفي الإضمار يبقى له الأثر نحو انتهوا خيراً لكم.
والتقدير : افعلوا ويجوز الرفع في قيله على أنه قسم مرفوع بالابتداء محذوف الخبر كقولهم يمن الله ، ويكون أن هؤلاء.
إلخ.
جواب القسم ؛ أي : وقيله يا رب قسمي أن هؤلاء.
إلخ.
وذلك لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، بما لا يحسن اعتراضاً إن كان مرفوعاً معطوفاً على علم الساعة بتقدير مضاف مع تنافر النظم ورجح الزمخشري احتمال القسم لسلامته عن وقوع الفصل ، وتنافر النظم ، ولكن فيه التزام حذف وإضمار بلا قرينة ظاهرة في اللفظ الذي لم يشتهر استعماله في القسم ، كما في "حواشي المفتي".
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} ؛ أي : فأعرض عن
399
دعوتهم واقنط من إيمانهم.
{وَقُلْ سَلَـامٌ} ؛ أي : أمري تسلم منكم ومن دينكم وتبرٍ ومتاركة ، فليس المأمور به السلام عليهم ، والتحية بل البراءة كقول إبراهيم عليه السلام : سلام عليك سأستغفر لك.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حالهم البتة ، وإن تأخر ذلك.
وبالفارسية : (بس زود باشدكه بدانند عاقبت كفر خودرا وقتى كه عذاب برايشان فرود أيددر دنيا بروز بدر ودر عقبى بدخول درنار سوزان).
وهو وعيد من الله لهم وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فعلى العاقل أن يتدارك حاله قبل خروج الوقت بدخول الموت ونحوه.
ويقبل على قبول الدعوة ما دام الداعي مقبلاً غير صافح ، وإلا فمن كان شفيعه خصماً له لم يبق له رجاء النجاة.
(8/308)
قال ذو النون رحمه الله : سمعت بعض المتعبدين بساحل الشام يقول : إنعباداً عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصداً إليه وتحملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان ، فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد راكب خافوا البيات فأسرعوا ورجوا النجاة ، فأزمعوا بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً ذبلاً شفاههم خمصاً بطونهم خزينة قلوبهم ناحلة أجسادهم باكية أعينهم لم يصحبوا التعليل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت خفيف ولبسوا من اللباس أطماراً بالية ، وسكنوا من البلاد قفراء خالية هربوا من الأوطان ، واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر والنصب وفصل أعضاءهم بخناجر التعب خمص بطول السرى شعث بفقد الكرى قد وصلوا الكلال بالكلال ، وتأهبوا للنقلة والارتحال :
جواز جايكان در دويدن كرو
بتيزى هم افتان وحيزان برو
كران باد بايان برفتندتيز
توبى دست وبا ازنشستن بخيز
تمت سورة الزخرف بعون الله تعالى في أواخر جمادى الآخرة من الشهور المنتظمة في سلك سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
وتليها سورة الدخان ، وهي سبع أو تسع وخمسون آية مكية إلا قوله : إنا كاشفوا العذاب إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
نقش بى دست خامه زن كه شنيد
هركه شد زآدمى سوى تعطيل
نيست دروى خرد جوقدر فتيل
{وَقِيلِهِ} : القول والقيل والقال كلها مصادر قرأ عاصم وحمزة بالجر على أنه عطف على الساعة ؛ أي : عنده علم الساعة وعلم قوله عليه السلام شكاية.
وبالفارسية : (ونزديك خداست دانستن قول رسول آنجا كه كفت).
يا رَبِّ} ؛ أي : (برورد كار من).
{إِنَّ هَاؤُلاءِ} : (بدرستى كه اين كروه يعنى معاند ان قريش).
{قَوْمٌ} : (كروهى اندكه از روى عناد مكابره).
{لا يُؤْمِنُونَ} : (نمى كروند).
ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول : إن قومي لما ساءه من حالهم ، أو على أن الواو للقسم.
وقوله : إن هؤلاء إلخ.
جوابه : فيكون إخباراً من الله عنهم لا من كلام رسوله.
وفي الإقسام به من رفع شأنه عليه السلام وتفخيم دعائه والتجائه إليه تعالى ما لا يخفى.
وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على محل الساعة ؛ أي : وعنده أن يعلم الساعة وقيله أو على سرهم ونجواهم ، أو على يكتبون المحذوف ؛ أي : يكتبون ذلك ، وقيله.
قال بعضهم : والأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، يعني أن الجر على إضمار حرف القسم ، كما في قولك : الله لأفعلن.
والنصب على حذفه ، وإيصال فعله إليه كقولك الله لأفعلن ؛ كأنه قيل : وأقسم قيله أو بقيله.
والفرق بين الحذف والإضمار أنه في الحذف لا يبقى للذاهب أثر نحو واسأل القرية.
وفي الإضمار يبقى له الأثر نحو انتهوا خيراً لكم.
والتقدير : افعلوا ويجوز الرفع في قيله على أنه قسم مرفوع بالابتداء محذوف الخبر كقولهم يمن الله ، ويكون أن هؤلاء.
إلخ.
جواب القسم ؛ أي : وقيله يا رب قسمي أن هؤلاء.
إلخ.
وذلك لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، بما لا يحسن اعتراضاً إن كان مرفوعاً معطوفاً على علم الساعة بتقدير مضاف مع تنافر النظم ورجح الزمخشري احتمال القسم لسلامته عن وقوع الفصل ، وتنافر النظم ، ولكن فيه التزام حذف وإضمار بلا قرينة ظاهرة في اللفظ الذي لم يشتهر استعماله في القسم ، كما في "حواشي المفتي".
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} ؛ أي : فأعرض عن
399
دعوتهم واقنط من إيمانهم.
{وَقُلْ سَلَامٌ} ؛ أي : أمري تسلم منكم ومن دينكم وتبرٍ ومتاركة ، فليس المأمور به السلام عليهم ، والتحية بل البراءة كقول إبراهيم عليه السلام : سلام عليك سأستغفر لك.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حالهم البتة ، وإن تأخر ذلك.
وبالفارسية : (بس زود باشدكه بدانند عاقبت كفر خودرا وقتى كه عذاب برايشان فرود أيددر دنيا بروز بدر ودر عقبى بدخول درنار سوزان).
وهو وعيد من الله لهم وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فعلى العاقل أن يتدارك حاله قبل خروج الوقت بدخول الموت ونحوه.
ويقبل على قبول الدعوة ما دام الداعي مقبلاً غير صافح ، وإلا فمن كان شفيعه خصماً له لم يبق له رجاء النجاة.
قال ذو النون رحمه الله : سمعت بعض المتعبدين بساحل الشام يقول : إنعباداً عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصداً إليه وتحملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان ، فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد راكب خافوا البيات فأسرعوا ورجوا النجاة ، فأزمعوا بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً ذبلاً شفاههم خمصاً بطونهم خزينة قلوبهم ناحلة أجسادهم باكية أعينهم لم يصحبوا التعليل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت خفيف ولبسوا من اللباس أطماراً بالية ، وسكنوا من البلاد قفراء خالية هربوا من الأوطان ، واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر والنصب وفصل أعضاءهم بخناجر التعب خمص بطول السرى شعث بفقد الكرى قد وصلوا الكلال بالكلال ، وتأهبوا للنقلة والارتحال :
جواز جايكان در دويدن كرو
بتيزى هم افتان وحيزان برو
كران باد بايان برفتندتيز
توبى دست وبا ازنشستن بخيز
تمت سورة الزخرف بعون الله تعالى في أواخر جمادى الآخرة من الشهور المنتظمة في سلك سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
وتليها سورة الدخان ، وهي سبع أو تسع وخمسون آية مكية إلا قوله : إنا كاشفوا العذاب إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349(8/309)
سورة الدخان
وآياتها تسعة وخمسون
جزء : 8 رقم الصفحة : 399
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{حم} ؛ أي : بحق {حم} ، وهي هذه السورة أو مجموع القرآن.
{وَالْكِتَابِ} عطف على {حم} إذ لو كان قسماً آخر لزم اجتماع القسمين على مقسم عليه واحد ومدار العطف على تقدير كون {حم} أسماً لمجموع القرآن المغايرة في العنوان {الْمُبِينِ} ؛ أي : البين معانيه لمن أنزل عليهم ، وهم : العرب لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم ، أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة.
وقال بعضهم : بحق الحي القيوم وبحق القرآن الفاصل بين لحق والباطل ، فالحاء : إشارة إلى الاسم الحي ، والميم إلى الاسم القيوم وهما أعظم الأسماء الإلهية لاشتمالهما على ما يشتمل عليه كل منها من المعاني والأوصاف والحقائق ، كما سبق في آية الكرسي.
وفي "عرائس البقلي" : الحاء الوحي الخاص إلى محمد ، والميم محمد عليه السلام وذلك ما كان بلا واسطة ، فهو سر بين المحب لا يطلع عليه أحد غيرهما ، كما قال تعالى :
400
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى} (النجم : 10).
وقال بعضهم : حميت المحبين.
يعني : (حمايت كردم دوستان خودرا از توجه بما سوى).
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون إشارة إلى حمد الله إلى إنزاله القرآن الذي هو أجل النعم الإلهية فحم مقصور من الحمد.
والمعنى : وحق الحق الذي يستحق الحمد في مقابلة إنزال القرآن.
{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} ؛ أي : الكتاب المبين الذي هو القرآن ، وهو جواب القسم.
{فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} : هي ليلة القدر ، فإنه تعالى أنزل القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا دفعة واحدة وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان ينزله على النبي عليه السلام نجوماً ؛ أي : متفرقاً في ثلاث وعشرين سنة.
والظاهر أن ابتداء تنزيله إلى النبي عليه السلام أيضاً كان في ليلة القدر ؛ لأن ليلة القدر في الحقيقة ليلة افتتاح الوصلة ، ولا بد في الوصلة من الكلام والخطاب والحكمة في نزوله ليلاً.
إن الليل زمان المناجاة ومهبط النفحات ويشهد التنزلات ومظهر التجليات ومورد الكرامات ومحل الأسرار إلى حضرة الكبرياء.
وفي الليل فراغ القلوب بذكر حضرة المحبوب ، فهو أطيب من النهار عند المقربين والأبرار ووصف الليلة بالبركة لما أن نزول القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها ، أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة ، وإجابة الدعوة ونحوها.
وإلا فأجزاء الزمان متشابهة بحسب ذواتها وصفاتها ، فيمتنع أن يتميز بعض أجزائه عن بعض بمزيد القدر والشرف لنفس ذواتها وعلى هذا فقس شرف الأمكنة ، فإنه لعارض في ذاتها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال حضرة الشيخ صدر الدين قدس سره في "شرح الأربعين" : حديثاً وللأزمنة والأمكنة في محو السيئات ، وتغليب طرف الحسنات وإمدادها والتكفير والتضعيف مدخل عظيم.
وفي الحديث : "إن الله غفر لأهل عرفات وضمن عنهم التبعات" ، وإنه ينزل يوم عرفة إلى السماء الدنيا.
وقد وردت أحاديث دالة على فضيلة شهر رمضان وعشر ذي الحجة وليلة النصف من شعبان ، وأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف.
وفي مسجد النبي عليه السلام بألف.
وفي المسجد الأقصى بخمسمائة.
وكلها دالة على شرف الأزمنة والأمكنة.
انتهى كلامه.(8/310)
قال الشيخ المغربي قدس سره : أفضل الشهور عندنا شهر رمضان ؛ أي : لأنه أنزل فيه القرآن ، ثم شهر ربيع الأول ؛ أي : لأنه مولد حبيب الرحمن ، ثم رجب ؛ أي : لأنه فرد الأشهر الحرم.
وشهر الله ثم شعبان ؛ أي : لأنه شهر حبيب الرحمن ومقسم الأعمال والآجال بين شهرين عظيمين : رجب ورمضان ، ففيه فضل الجوارين العظيمين ، كما أن ليوم الخميس وليوم السبت فضلاً عظيماً لكونها في جوار الجمعة.
ولذا ورد : "بارك الله في السبت والخميس" ، ثم ذو الحجة ؛ أي : لأنه موطن الحج والعشر التي تعادل كل ليلة منها ليلة القدر والأيام المعلومات ، أيام التشريق ، ثم شوال ؛ أي : لكونه في جوار شهر رمضان ، ثم ذو القعدة ؛ أي : لكونه من الأشهر الحرم ، ثم المحرم شهر الأنبياء عليهم السلام ، ورأس السنة وأحد الأشهر الحرم.
وقيل : فضل الله الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض ، كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب إلى احترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ، ويرغب الخلق في فضائلها ، وأما تضاعف الحسنات في بعضها ، فمن المواهب اللدنية والاختصاصات الربانية ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال القاشاني في "شرح التائية" : كما أن شرف الأزمنة وفضيلتها بحسب شرف الأحوال الواقعة فيها من حضور المحبوب ومشاهدته ، فكذلك
401
شرف الأعمال يكون بحسب شرف النيات والمقاصد الباعثة وشرف النية في العمل أن يؤدي للمحبوب ويكون خالصاً لوجهه غير مشوب بغرض آخر.
قال ابن الفارض : ()
وعندي عيدي كل يوم أرى به
جمال محياها بعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
كما كل أيام اللقا يوم جمعة
قال بعض الكبار وأشد الليالي بركة وقدراً ، ليلة يكون العبد فيها حاضراً بقلبه مشاهداً لربه يتنعم بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة كما قالوا : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
لا أظلم الليل ولا أدعي
أن نجوم الليل ليست تزول
ليلى كما شاءت قصير إذا
جادت وإن ضنت فليلي طويل
وقال بعض المفسرين : المراد من الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان ، ولها أربعة أسماء :
الأول : الليلة المباركة لكثرة خيرها وبركتها على العاملين فيها الخير ، وإن بركات جماله تعالى تصل إلى كل ذرة من العرش إلى الثرى ، كما في ليلة القدر.
وفي تلك الليلة اجتماع جميع الملائكة في حظيرة القدس.
(ودر كشف الأسرار فرموده كه آنرا مبارك خواند ازبهر آنكه برخير وبر بركت است همه شب دعيا نرا اجابت است وسائلا نرا اعطيت ومجتهد انرا معونت ومطيعا نرا مثوبت وغاصبا نرا اقالت ومحبانرا كرامت همه شب درهاى آسمان كشاده جنات عدن وفراديس اعلا درها نهاده ساكنان جنة الخلد بركنكرها نشسته ارواح انبيا وشهدا در عليين فراطرب آمده همه شب نسيم روح ازلي از جانب قربت بدل دوستان ميدمد وبادهواى فردانيث برجان عاشقان مى وزد وازدوست خطاب مى آيدكه).
هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ أي : (درويش بيدار باش درين شب كه همه بساط نزول بيفكنده وكل وصال جانان درباغ را زدارى شكفته نسيم سحر مبارك بهارى از وميدمد وبيغام ملك برمزى باريك وبزارى عجب ميكويد).
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد : 16) :
ألم يأن للهجران أن يتصرما
وللعود غصن البيان أن يتضرما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى
ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
وفي بعض الآثار عجباً لمن آمن بي كيف يتكل على غيري لو أنهم نظروا إلى لطائف بري ما عبدوا غيري.
(اى عجب كسى كه مارا شناخت باغير ما آرام كى كيرد كسى كه مارايافت باديكرى جون بردازد كسى كه رنك وبوى وصال ويا دمادارد دل دررنك وبوى دنيا جون بندد.
از تعجب هرزمان كوبد بنفشه كاى عجب.
هرجه زلف يا ردارد جنك درماجون زند).
والثاني : ليلة الرحمة.
والثالث : ليلة البراءة.
والرابع : ليلة الصك ، وذلك لأن البندار إذا استوفى في الخراج من أهله كتب لهم البراءة.
كذلك الله يكتب لعباده المؤمنين البراءات في هذه الليلة.
كما حكي : أن عمر بن عبد العزيز لما رفع رأسه من صلاته ليلة النصف من شعبان وجد رقعة خضراء قد اتصل نورها بالسماء مكتوب فيها.
هذه براءة من النار من الملك العزيز لعبده
402
عمر بن عبد العزيز ، وكما أن في هذه الليلة براءة للسعداء من الغضب ، فكذا فيها براءة للأشقياء من الرحمة نعوذ بالله تعالى ، ولهذه الليلة خصال :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
الأولى : تفريق كل أمر حكيم كما سيأتي.
والثانية : فضيلة العبادة فيها.
وفي الحديث : "من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك : ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا ، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان".
(8/311)
قال في "الإحياء" : يصلي في الليلة الخامسة عشرة من شعبان مائة ركعة كل ركعتين بتسليمة ، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) : عشر مرات.
وإن شاء صلى عشر ركعات يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة مائة مرة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فهذه أيضاً ؛ أي : كصلاة رجب مروية عن النبي عليه السلام في جملة الصلوات.
كان السلف يصلون هذه الصلاة في هذه الليلة ويسمونها صلاة الخير ويجتمعون فيها وربما صلوها جماعة.
روي عن الحسن البصري : أنه قال : حدثني ثلاثون من أصحاب النبي عليه السلام : "أن من صلى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة ، وقضى الله له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة".
انتهى كلام الإحياء.
قال الشيخ الشهير بافتاه قدس سره : أن النبي عليه السلام لما تجلى له جميع الصفات في ثمانية عشر ألف عالم ، وأكثر صلى تلك الصلاة بعد العشاء شكراً على النعمة المذكورة.
وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : "يا علي من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان ، فقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة ، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد عشرة مرات".
قال عليه السلام : "يا علي ما من عبد يصلي هذه الصلاة إلا قضى الله له كل حاجة طلبها تلك الليلة ، ويبعث الله سبعين ألف ملك يكتبون له الحسنات ويمحون عنه السيئات ، ويرفعون له الدرجات إلى رأس السنة ، ويبعث الله في جنات عدن سبعين ألف ملك وسبعمائة ألف يبنون له المدائن والقصور ، ويغرسون له الأشجار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب المخلوقين ، وإن مات من ليلته قبل أن يحول الحول ، مات شهيداً ، ويعطيه الله بكل حرف من {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ليلته تلك سبعين حوراء".
كما في "كشف الأسرار" قال بعضهم : أقل صلاة البراءة ركعتان وأوسطها مائة وأكثرها ألف.
يقول الفقير : الألف الذي هو إشارة إلى ألف اسم له تعالى ، تفضيل للمائة التي هي إشارة إلى مائة اسم له منتخبة من الألف ؛ لأن التسعة والتسعين باعتبار أحديتها مائة ، وهي تفصيل للواحد الذي هو الاسم الأعظم ، ولما لم تشرع ركعة منفردة ضم إليها أخرى ، إشارة إلى الذات والصفات والليل والنهار والجسد والروح والملك والملكوت.
ولهذا السر استحب أن يقرأ في الركعتين المذكورتين أربعمائة آية من القرآن ، فإن فرض القراءة آية واحدة ومستحبها أربع آيات ، والمائة أربع مرات أربعمائة ، فالركعتان باعتبار القراءة المستحبة في حكم المائة ، فاعرف جداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي الحديث : "من أحيا الليالي الخمس وجبت له الجنة ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان.
والثالثة : نزول الرحمة.
قال عليه السلام : "إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا" ؛ أي : تنزل رحمته.
والمراد في الحقيقة تنزل عظيم من تنزلات عالم الحقيقة مخصوص بتلك الليلة.
وأيضاً المراد تنزل من أول الليلة ؛ أي : وقت غروب الشمس إلى آخرها ؛ أي : إلى طلوع الفجر ، أو طلوع الشمس.
403
والرابعة : حصول المغفرة قال عليه السلام : "إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن ، أو ساحر ، أو مشاحن ، أو مدمن خمر ، أو عاق للوالدين ، أو مصر على الزنا.
قال في "كشف الأسرار" : فسر أهل العلم المشاحن في هذا الموضع بأهل البدع والأهواء والحقد على أهل الإسلام.
والخامسة : أنه أعطى فيها رسول الله عليه السلام تمام الشفاعة.
وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان الشفاعة في أمته ، فأعطي الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر ، فأعطي الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر ، فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد بعير.
وفي رواية أخرى قالت عائشة رضي الله عنها : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في ليلة النصف من شعبان ساجداً يدعو ، فنزل جبريل ، فقال : "إن الله قد أعتق من النار الليلة بشفاعتك ثلث أمتك" ، فزاد عليه السلام في الدعاء ، فنزل جبريل فقال : إن الله يقرئك السلام ، ويقول : "أعتقت نصف أمتك من النار" ، فزاد عليه السلام في الدعاء ، فنزل جبريل ، وقال : إن الله أعتق جميع أمتك من النار بشفاعتك إلا من كان له خصم حتى يرضى خصمه.
فزاد عليه السلام في الدعاء ، فنزل جبريل عند الصبح.
وقال : إن الله قد ضمن لخصماء أمتك أن يرضيهم بفضله ورحمته فرضي النبي عليه السلام.
والسادسة : أن من عادة الله في هذه الليلة أن يزيد ماء زموم زيادة ظاهرة.
وفيه إشارة إلى حصول مزيد العلوم الإلهية لقلوب أهل الحقائق.
{إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} استئناف مبين لما يقتضي الإنزال كأنه قيل : إنا أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب.
{إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍا إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
(8/312)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ؛ أي : يكتب ويفصل كل أمر محكم ومتقن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلا السعادة والشقاوة من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة.
وقيل : يبدأ في انتساخ ذلك من اللوح في ليلة البراءة.
ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتندفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرائيل ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا ، وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت حتى أن الرجل ليمشي في الأسواق وأن الرجل لينكح ويولد له.
ولقد أدرج اسمه في الموتى : (كفته اند درميان فرشتكان فرشته حليم تر ورحيم تر ومهربان تر از ميكائيل نيست وفرشته مهيب ترو باسياست تراز جبرائيل نيست در خبراست كه روزى هردو مناظره كردند جبرائيل كفت مرا عجب مى آيدكه يا اين همه بى حرمتى وجفا كارى بخلق رب العزة بهشت ازبهرجه مى آفريد ميكائيل كفت مرا عجب مى آيدكه باآن همه فضل وكرم ورحمت كه الله را بربند كانست دوزخ از بهرجه مى آفريداز حضرت عزت وجناب جبروت ندا آمدكه).
أحبكما إلي : أحسنكما ظناً بي : (ازشما هر دواآنرا دوستتر دارم كه بمن ظن نيكو ترمى برد يعنى ميكائيل كه رحمت بر غضب فضل مى نهد).
وقد قال الله تعالى : {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى} ، وكما أن في هذه الليلة يفصل كل أمر صادر بالحكمة من السماء في السنة من أقسام الحوادث في الخير والشر والمحن والمنن والمنصرة والهزيمة والخصب والقحط ، فكذا الحجب والجذب والوصل والفصل والوفاق والخلاف والتوفيق والخذلان والقبض والبسط والستر والتجلي ، فكم بين عبد نزل له الحكم والقضاء بالشقاء والبعد وآخر ينزل حكمة بالوفاء والرفد.
{أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ} : نصب على الاختصاص ؛ أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا على مقتضى حكمتنا ،
404
وهو بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية.
{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بدل من إنا كنا بدل الكل.
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} مفعول له للإرسال ؛ أي : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد ؛ لأجل إفاضة رحمتنا عليهم ، فيكون قوله : رحمة غاية للإرسال متأخرة عنه على أن المراد منها الرحمة الواصلة إلى العباد ، أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ، فيكون باعثاً متقدماً للإرسال على أن المراد مبدؤها ، ووضع الرب موضع الضمير للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها وإضافته إلى ضميره عليه السلام للتشريف :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
در دو عالم بخشش بخشايش است
خلق را از بخششش آسايش است
خواجه جون در مديح خويش سفت
إنما أنا رحمة مهداة كفت
كما قال في "التأويلات النجمية" : إنا كنا مرسلين محمداً عليه السلام رحمة مهداة من ربك ليخرج المشتاقين من ظلمات المفارقة إلى نور المواصلة ، وأيضاً إنا كنا مرسلين رحمة لنفوس أوليائنا بالتوفيق لقلوبهم بالتحقيق.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يسمع كل شيء من شأنه أن يسمع خصوصاً أنين المشتاقين ، ويعلم كل شيء من شأنه أن يعلم خصوصاً حنين المحبين ، فلا يخفى عليه شيء من أقوال العباد وأفعالهم وأحوالهم ، وهو تحقيق لربوبيته تعالى ، وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته الجليلة.
{رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} بدل من ربك.
يقول الفقير : ألهمت بين النوم واليقظة.
أن معنى هذه الآية ؛ أي : إشارة لا عبارة أن مربي ومبلغي إلى كمالي هو رب السماوات والأرض وما بينهما يعني : جميع الموجودات العلوية والسفلية.
وذلك لأنها مظاهر الأسماء والصفات الإلهية ، ففي كل ذرة من ذرات العالم حقيقة مشهودة هي غذاء الروح العارف فيتربى بذلك الغذاء الشهودي بالغاً إلى أقصى استعداده كما يتربى البدن بالغذاء الحسي بالغاً إلى غاية نمائه ووقوفه.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب المثنوي بقوله :
آن ختالاتى كه دام أولياست
عكس مهرويان مستان خداست
فافهم جداً وقل : لا أعبد إلا الله ولا أقصد سواه.
{إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} بشيء فهذا أولى ما توقنون به لفرط ظهوره أو إن كنتم مريدين لليقين ، فاعلموا ذلك.
وبالفارسية : (اكر هستيد شمابى كمانان يعنى طلب كنند كان يقين).
{لا إله إِلا هُوَ} إذ لا خالق سواه.
جملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
{لا إِلَـاهَ} يوجد الحياة في الجماد ، ويوجد الموت في الحيوان بقدرته كما يشاهد ذلك ؛ أي : يعلم علماً جلياً يشبه المشاهدة.
والظاهر أن المشاهدة تتعلق بالأثر ، فإن المعلوم هو الإحياء والإماتة ، والمشهود هو أثر الحياة في الحي ، وأثر الممات في الميت.
وفي "التأويلات النجمية" يحيي قلوب أوليائه بنور محبته وتجلي صفات جماله ، ويميت نفوسهم بتجلي صفات جلاله.
{رَبُّكُمْ} ؛ أي : هو ربكم وخالقكم ورازقكم.
{وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} .
(8/313)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي "التأويلات" : رب آدم وأولاده ورب الآباء العلوية.
وقال محمد بن علي الباقر قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف آدم وأكثر.
وذكر الشيخ ابن العربي قدس سره في "الفتوحات المكية" في باب حدوث الدنيا حديثاً ضعيفاً أنه انقضى قبل آدم مائة ألف آدم ، وجرى له كشف وشهود في طواف الكعبة أنه شاهد رجالاً تمثلوا له من الأرواح فسألهم من أنتم ، فأجابوه أنهم من أجداده الأول قبل آدم بأربعين ألف سنة.
قال الشيخ : فسألت عن ذلك إدريس النبي عليه السلام ، فصدقني في الكشف والخبر.
وقال : نحن معاشر الأنبياء نؤمن
405
بحدوث العالم كله ، ولم نعلم أوله.
والحق تعالى متفرد بأوائل الكائنات.
{بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ} : (لكه ايشان درشك اند) ؛ أي : مما ذكر من شؤونه تعالى غير موقنين في إقرارهم بأنه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما.
{يَلْعَبُونَ} : لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان ، بل مخلوطاً بهزؤ ولعب ، وهو خبر آخر.
وفي "كشف الأسرار" : (در كمان خويش بازى ميكنند).
فالظرف متعلق بالفعل ، أو بل هم حال كونهم في شك مستقر في قلوبهم يلعبون كما في قوله : فهم في ريبهم يترددون.
وفيه إشارة إلى أن من استولت عليه الغفلة أداه ذلك إلى الشك ، ومن لزم الشك كان بعيداً من عين الصواب.
قال بعضهم : وصف أهل الشك والنفاق باللعب ، وذلك لترددهم وتحيرهم في أمر الدين واشتغالهم بالدنيا واغترارهم بزينتها.
قال أويس القرني رضي الله عنه : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك ، فما تنفعها العظة.
وعن الشيخ فتح الموصلي قدس سره ، قال : رأيت في البادية غلاماً لم يبلغ الحنث يمشي ويحرك شفتيه ، فسلمت عليه فرد الجواب ، فقلت له : إلى أين يا غلام؟ فقال : إلى بيت الله الحرام.
قلت : فيماذا تحرك شفتيك؟ قال : بالقرآن.
قلت : فإنه لم يجر عليك قلم التكليف.
قال : رأيت الموت يأخذ من هو أصغر مني سناً ، فقلت : خطوك قصير وطريقك بعيد ، فقال : إنما علي نقل الخطا وعلى الله الإبلاغ ، فقلت : فأين الزاد والراحلة ، فقال : زادي يقيني وراحلتي رجلاي :
سدره توفيق بود كرد علايق
خواهى كه بمنزل برسى راحله بكذار
قلت : أسألك عن الخبز والماء ، قال : يا عماه أرأيت لو أن مخلوقاً دعاك إلى منزله أكان يجمل بك أن تحمل معك زادك ، فقلت : لا.
قال : إن سيدي دعا عباده إلى بيته ، وأذن لهم في زيارته ، فحملهم ضعف يقينهم على حمل زادهم ، وإني استقبحت ذلك ، فحفظت الأدب معه أفاره يضيعني ، فقلت : كلا وحاشا ، ثم غاب عن عيني ، فلم أره إلا بمكة ، فلما رآني ، قال : يا شيخ أنت بعد على ذلك الضعف في اليقين :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
سيراب كن زبحر يقين جان تشنه را
زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
{بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَا هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا} .
{فَارْتَقِبْ} : الارتقاب : (جشم داشتن) يعني : (منتظر شدن).
والمعنى : فانتظر يا محمد لكفار مكة على أن اللام للتعليل.
وبالفارسية : (بس تو منتظر باش براى ايشان).
{يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ظاهر لا شك فيه ويوم مفعول ارتقب.
والباء : للتعدية يعني : (آن روزكه آسمان دودى آرد آشكارا).
ويجوز أن يكون ظرفاً له ، والمفعول محذوف ؛ أي : ارتقب وعد الله في ذلك اليوم أطلق الدخان على شدة القحط وغلبة الجوع على سبيل الكناية ، أو المجاز المرسل.
والمعنى : فانتظر لهم يوم شدة ومجاعة ، فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، إما لضعف بصره أو لأن في عام القحط يظلم الهواء لقلة الأمطار ، وكثرة الغبار.
ولذا يقال لسنة القحط السنة الغبراء ، كما قالوا عام الرمادة.
والظاهر أن السنة الغبراء ما لا تنبت الأرض فيها شيئاً.
وكانت الريح إذا هبت ألقت تراباً كالرماد ، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخاناً ، وإسناد الإتيان إلى السماء ؛ لأن ذلك يكفها عن الأمطار ، فهو من قبيل إسناد الشيء إلى سببه.
وذلك أن قريشاً لما بلغوا في الأذية له عليه السلام.
دعا عليهم ، فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر ؛ أي : عقابك الشديد يعني : خذهم أخذاً شديداً واجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف" ، وهي السبع الشداد ، فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة ؛ أي : قحط حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام
406
والعلهز ، وهو الوبر والدم ؛ أي : يخلط الدم بأوبار الإبل ، ويشوى على النار كان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان من الجوع.
وكان يحدث الرجل ، ويسمع كلامه ، ولا يراه من الدخان.
وذلك قوله تعالى :
(8/314)
{يَغْشَى النَّاسَ} ؛ أي : يحيط ذلك الدخان بهم ويشملهم من جميع جوانبهم صفة للدخان {هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؛ أي : قائلين : هذا الجوع ، أو الدخان عذاب أليم فمشى إليه عليه السلام أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم ؛ أي : قالوا : نسألك يا محمد بحق الله وبحرمة الرحم أن تستسقي لنا ووعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا.
وذلك قوله تعالى :
"
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
ربنا اكشف عنا العذاب" (الدخان : 21) ؛ أي : الجوع ، أو عذاب الدخان ، ومآلهما واحد ، فإن الدخان إنما ينشأ من الجوع.
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} .
{إِنَّا مْؤْمِنُونَ} بعد رفعه.
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} رد لكلامهم واستدعائهم الكشف وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان المنبىء عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية.
والمراد بالاستفهام الاستبعاد لا حقيقته ، وهو ظاهر ؛ أي : كيف يتذكرون ، أو من أين يتذكرون ويقولون : بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم.
{وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} ؛ أي : والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ماهو أعظم منه في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، وبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة تحرك صم الجبال.
{ثُمَّ} : كلمة ثم هنا للاستبعاد.
{تَوَلَّوْا} أعرضوا {عَنْهُ} ؛ أي : عن ذلك الرسول فيما شاهدوا منه من العظائم الموجبة للإقبال إليه ، ولم يقتنعوا بالتولي.
{وَقَالُوا} في حقه.
{مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} ؛ أي : قالوا تارة يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف واسمع عداس ، أو أبو فكهة ، أو جبر ، أو يسار وأخرى مجنون ، أو يقول بعضهم : كذا.
وآخرون كذا ، فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا منه بالعظة والتذكير ، وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع طغا وإذا شبع طغا {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} : جواب من جهته تعالى عن قولهم : ربنا اكشف الخ ؛ أي : إنا نكشف العذاب المعهود عنكم بدعاء النبي عليه السلام ، وإنزال المطر كشفاً {قَلِيلا} ، وهو دليل على كمال خبث سريرتهم ، فإنهم إذا عادوا إلى الكفر بكشف العذاب كشفاً قليلاً ، فهم بالكشف رأساً أعود ، أو زماناً قليلاً ، وهو ما بقي من أعمارهم.
{إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر وتنسون هذه الحالة.
وصيغة الفاعل في الفعلين للدلالة على تحققها لا محالة ، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله بدعاء النبي عليه السلام ، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا فيه من العتو والعناد ؛ لأن من مقتضى فساد طينتهم واعوجاج طبيعتهم المبادرة إلى خلف الوعد ونقض العهد والعود إلى الإشراك إذا زال المانع على ما بينه الله تعالى فيمن ركب الفلك إذ أنجاه إلى البر.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
آن ندامت از نتيجة رنج بود
نى زعقل روشن جون كنج بود
جونكه شدرنج آن ندامت شد عدم
مى نيرز دخاك آن توبة ندم
ميكند او توبة وبير خرد
بانك لو ردوا لعادوا ميزند
{إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى} .
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : البطش تناول الشيء بعنف وصولة ؛ أي : يوم القيامة ننتقم ونعاقب العقوبة العظمى.
{إِنَّا مُنتَقِمُونَ} فيوم ظرف لما دل عليه قوله : إنا منتقمون ؛ لا لمنتقمون لأن إنا مانعة عن ذلك.
قال الكاشفي : (يادكن روزى راكه بكيرم كافرا نرا كرفتن سخت
407
وبزرك يعنى روزقيامت).
وذلك لأنه تعالى أخذهم بالجوع والدخان ، ثم أذاقهم القتل والأسر يوم بدر.
وكل ذلك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ، فإذا كان يوم القيامة يأخذهم أخذاً شديداً لا يقاس على ما كان في الدنيا.
نسأل الله العصمة من عذابه وجحيمه والتوفيق لما يوصل إلى رضاه ونعيمه.
وقال بعض المفسرين : المراد بالدخان ما هو من أشراط الساعة ، وهو دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة ، فيدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ؛ أي : المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلها كبيت ، أوقد فيه ليس فيه خصاص ؛ أي : فرجة يخرج منها الدخان.
وفي الحديث : "أول الآيات : الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن ـ أبين ، وهو بفتح الهمزة على ما هو المشهور : اسم رجل بنى هذه البلدة باليمن وأقام بها تسوق الناس إلى المحشر ؛ أي : إلى الشام والقدس.
(8/315)
قال حذيفة رضي الله عنه : فما الدخان فتلا الآية ، فقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر ، فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وقال حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه : اطلع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نتذاكر ، فقال عليه السلام : "ما تذاكرون؟ قالوا : نذكر الساعة ، قال عليه السلام : "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها آيات ؛ أي : علامات ، فذكر الدخان والدجال والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وأوّله بعض العلماء بفتنة الأتراك وأول خروج الدجال بظهور الشر والفساد ، ونزول عيسى باندفاع ذلك ، وظهور الخير والصلاح.
يقول الفقير : إن كان هذا التأويل من طريق الإشارة ، فمسلم لأنه لا تخلو الدنيا عن المظاهر الجلالية والجمالية إلى خروج الدجال ، ونزول عيسى.
وأما إن كان من طريق الحقيقة ، فلا صحة له إذ لا بد من ظهور تلك الآيات على حقيقتها على ما أخبر به النبي عليه السلام.
فعلى هذا القول ، وهو تفسير الدخان : بما هو من أشراط الساعة ، معنى قوله : ربنا اكشف عنا.
الخ.
وقوله : إنا كاشفو العذاب.
إلخ.
أنه إذا جاء الدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوثوا وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب : إنا مؤمنون ، فيكشف الله عنهم بعد أربعين يوماً ، فريثما يكشف عنهم يرتدون ، ولا يتمهلون ، وظهور علامات القيامة لا يوجب انقطاع التكليف ، ولا يقدح في صحة الإيمان ، ولا يجب أيضاً لزومها وعدم انكشافها.
وقال بعض أهل التفسير : المراد بالدخان ما يكون في القيامة إذا خرجوا في قبورهم ، فيحتمل أن يراد به معناه الحقيقي ، وما يستلزمه فإنه لشدة أهوال يوم القيامة تظلم العين ، بحيث لا يرى الإنسان فيه أينما توجه إلا والظلمة مستولية عليه ، كأنه مملوء دخاناً ، فعلى هذا يبنى الكلام على الفرض والتقدير.
ومعناه : أنهم يقولون : ربنا اكشف عنا العذاب ؛ أي : ارددنا إلى الدنيا نعمل صالحاً ، فيقول الله : {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} ، يعني : إن كشفنا ورددناكم إليها تعودوا إلى ما كنتم عليه من الكفر والتكذيب ، كما قال تعالى : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28).
والتفسير الأول من هذه التفاسير الثلاثة : هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعاً.
وفي "عرائس البقلي" رحمه الله ظاهر الآية دخان الكفرة من الجوع في الظاهر
408
ودخان بواطنهم.
دخان النفس الأمارة والأهواء المختلفة التي تغير سماء قلوبهم بغبار الشهوات وظلمة الغفلات.
وقال سهل قدس سره : الدخان في الدنيا قسوة القلب والغفلة عن الذكر.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى مراقبة سماء القلب عن تصاعد دخان أوصاف البشرية يغشى الناس عن شواهد الحق.
هذا عذاب أليم لأرباب المشاهدة ، كما قال السري قدس سره : اللهم مهما عذبتني ، فلا تعذبني بذل الحجاب : ربنا اكشف عنا عذاب الحجاب ، إنا مؤمنون بأنك قادر على رفع الحجاب وإرخائه ، فإذا أخذوا في الاستغاثة يقال لهم : أنى لهم الذكرى.
وقد جاءهم رسول مبين بإلهام تقواهم وفجورهم ، ثم خالفوا وقالوا : خاطر شيطاني.
إنا كاشفو العذاب عن صورتهم في الدنيا قليلاً ؛ لأن جميع الدنيا عندنا قليل ، ولكن يوم نبطش البطشة الكبرى نورثهم حزناً طويلاً ، ولا يجدون في ضلال انتقامنا مقيلاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
يقول الفقير : ظهر من هذه التقريرات : أنه لا خير في الدخان في الظاهر والباطن.
ألا ترى أن من رآه في المنام يعبر بالهول العظيم والقتال الشديد وبالظلمات والحجب والكدورات ، فعلى العاقل أن يجتهد في الخروج من الظلمات إلى النور والدخول في دائرة الصفاء والحضور ؛ فإنه إن بقي مع دخان الوجود يظلم عليه وجه المقصود.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} : (بيش از كفار مكه).
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} ؛ أي : القبط.
والمعنى : امتحناهم ؛ أي : فعلنا بهم ، فعل الممتحن بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا ، ويظهر منهم ما كان مستوراً ، فاختاروا الكفر على الإيمان ، فالفعل حقيقة أو أوقعناهم في الفتنة بالإمهال ، وتوسيع الرزق عليهم ، فهو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه ؛ لأن المراد بالفتنة حينئذٍ ارتكاب المعاصي ، وهو تعالى كان سبباً لارتكابها بالإمهال ، والتوسيع المذكورين.
{وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله تعالى ، وهو موسى عليه السلام بمعنى أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام ، أو كريم على المؤمنين ، أو في نفسه ؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من كان أفضل نسباً ، وأشرف حسباً على أن الكرم بمعنى الخصلة المحمودة.
(8/316)
وقال بعضهم : لمكالمته مع الله واستماع كلامه من غير واسطة.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى جعل فرعون وقومه فيما فتنهم فداء أمة محمد عليه السلام لتعتبر هذه الأمة بهم ، فلا يصرون على جحودهم ، كما أصروا ، ويرجعوا إلى طريق الرشد ويقبلوا دعوة نبيهم ويؤمنوا بما جاء به لئلا يصيبهم ما أصابهم بعد أن جاءهم رسول كريم.
{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ} : أن مصدرية ؛ أي : بأن أدوا إلى بني إسرائيل ، وسلموهم وأرسلوهم معي لأذهب بهم إلى موطن آبائهم الشام ، ولا تستعبدوهم ولا تعذبوهم ؛ أي : جئتكم من الله لطلب تأدية عباد الله إليَّ
(قال في "كشف الأسرار" : فرعون قبطى بود وقوم وى قبط بودند وبني إسرائيل در زمين ايشان غريب بودند از زمين كنعان بايشان افتادند نزاد يعقوب عليه السلام بودند بايدر خويش يعقوب بمصر شديد بر يوسف وآنروز هشتادو دوكس بودند وايشانرا در مصر توالد وتناسل بود بعد از غرق فرعون جون از مصر بيرون آمدند يا موسى بقصد فلسطين هزار هزار وششصد هزار بودند فرعون ايشانرا در زمين خويش زبون كرفته بود وايشانرا معذب همى داشت وكارهاى صعب ودشوار همى فرمود تا رب العزة موسى رابه بيغمبرى بايشان فرستاد بدوكار يكى اوردن ايمان
409
بوحدانيت حق تعالى وعبادت وى كردند ديكر بني إسرائيل را موسى دادن وايشانرا از عذاب رها كردن اينست كه رب العالمين فرمود أن أدوا إليّ عباد الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
يقول الفقير : فتكون التأدية بعد الإيمان ، كما قالوا في آية أخرى {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} (الأعراف : 134) ، ونظيره قول نوح عليه السلام لابنه : يا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ} (هود : 42) ؛ أي : آمن واركب ، فإن الراكب إنما هو المؤمنون والركوب متفرع على الإيمان.
وقال بعضهم : عباد الله منصوب بحرف النداء المحذوف ؛ أي : بأن أدوا إليّ يا عباد الله حقه في الإيمان وقبول الدعوة.
{إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} على وحيه ورسالته صادق في دعواه بالمعجزات ، وهو علة للأمر بالتأدية.
وفيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا أمانة الله في أيدي فرعون وقومه ، يلزم تأديتهم إلى موسى لكونه أميناً ، فخانوا تلك الأمانة حتى آخذهم الله على ذلك.
{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّه إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ * وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} .
{وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} ؛ أي : وبأن لا تتكبروا عليه تعالى بالاستهانة بوحيه وبرسوله واستخفاف عباده وإهانتهم.
{وَأَن لا} ؛ أي : من جهته تعالى يحتمل أن يكون اسم فاعل ، وأن يكون فعلاً مضارعاً.
{بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} : تعليل للنهي ؛ أي : آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها.
يعني : المعجزات.
وبالفارسية : (بدرستى كه من بشما آرنده ام حجتى روشن وبرهانى اشكارا بصدق مدعاى خود).
وفي إيراد الأداء مع الأمين والسلطان مع العلاء من الجزالة ما لا يخفى.
{وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} ؛ أي : التجأت إليه وتوكلت عليه.
{أَن تَرْجُمُونِ} من أن ترجموني ، فهو العاصم من شركم والرجم : (سنكسار كردن).
يعني : الرمي بالرجام بالكسر ، وهي الحجارة أو تؤذوني ضرباً ، أو شتماً بأن تقولوا : هو ساحر ونحوه ، أو تقتلوني.
قيل : لما قال ، وأن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل.
وفي "التأويلات النجمية" : وإني عذب بربي من شر نفسي وربكم من شر نفوسكم أن ترجموني بشيء من الفتن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ} : الإيمان يتعدى باللام باعتبار معنى الإذعان والقبول.
والباء : باعتبار معنى الاعتراف وحقيقة آمن به أمن المخبر من التكذيب ، والمخالفة.
وقال ابن الشيخ : اللام للأجل بمعنى لأجل ما أتيت به من الحجة والمعنى وإن كابرتم مقتضى العقل ولم تصدقوني ، فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ، ولا تتعرضوا لي بشر ولا أذى لا باليد ، ولا باللسان ، فليس ذلك من جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم ، فالاعتزال كناية عن الترك ، ولا يراد به الاعتزال بالأبدان.
قال القاضي عبد الجبار : من متأخري المعتزلة : كل موضع جاء فيه لفظ الاعتزال في القرآن.
فالمراد منه الاعتزال عن الباطل.
وبهذا صار اسم الاعتزال اسم مدح ، وهو منقوض بقوله تعالى : {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ} ، فإن المراد بالاعتزال هنا العزلة عن الإيمان التي هي الكفر لا العزلة عن الكفر والباطل.
وكذا في بعض كتب الكلام أخبر الله بهذه الآية ؛ لأن المفارقة من الأضداد واجبة.
(8/317)
قيل : إن بعض أصحاب الجنيد قدس سره وقع له إنكار في مسألة جرت له معه ، فكتب إليه ليعارضه فيها ، فلما دخل على الجنيد نظر إليه.
وقال : يا فلان ، وإن لم تؤمنوا لي ، فاعتزلون : (نقلست كه امام أحمد حنبل رحمه الله شبى نزد بشر حافى قدس سره رفتى ودر حق او ارادت تمام داشت تابحدى كه شاكر داتش كفتند امام عالم باشى ودر فقه وأحاديث وجمله علوم واجتهاد نظير ندارى هردم از بس شوريده بابر هنه مى دوى
410
اين جه لايق بود احمد كفت آن همه علوم كه شمر ديد جنانست من همه به ازان دانم اما او خدارابه از من داند).
فينبغي للمرء أن يعتزل عن الباطل أياً كان لا عن الحق ، وربما رأينا بعض أهل الإنكار في الغالب يعتزل عن صحبة الرجال ، ثم لا يكتفي باعتزاله حتى يؤذيهم باللسان ، فيكون بإهانة الأولياء عدو الله تعالى ، ومحروماً من فوائد الصحبة وعوائد المجلس ، فلزم على أهل الحق أن يتعوذوا بالله من شرور الظلمة والجبابرة ، وأهل الإنكار والمكابرة ، كما تعوذ الأنبياء عليهم السلام :
اى خدا كمترين كداى توام
جشم برخوان كبرياى توام
از بد ومنكران امانم ده
هرجه آنم بهست آنم ده
جونكه توكفتى فاستعذ بالله
بتو بردم زشر ديو بناه
باخصوص از بلاى ديو سفيد
كه نباشد از كريز مفيد
{فَدَعَا} موسى {رَبَّهُ} بعدما كذبوه.
{أَنَّ هَـاؤُلاءِ} ؛ أي : بأن هؤلاء القبط.
{قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} مصرون على كفرهم ومتابعة هواهم وأنت أعلم بهم ، فافعل بهم ما يستحقونه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} .
{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا} : الفاء عاطفة بإضمار القول بعد الفاء لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر والإسراء بشب رفتن.
يقال : أسرى به ليلاً : إذا سار معه بالليل ، وكذا سرى.
والسرى وإن كان لا يكون إلا بالليل لكنه أتى بالليل للتأكيد.
والمعنى : فأجاب الله دعاءه ، وقال له : أسر يا موسى ببني إسرائيل من مصر ليلاً على غفلة من العدو.
وبالفارسية : (بس ببر يشب بندكان مرا).
{إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} : علة للأمر بالسير ؛ أي : يتبعكم فرعون وجنوده بعد أن علموا بخروجكم ليلاً ليقتلكم : (جون بلب دريار سيده باشيد تو عصا بردريا زنى بشكافد ودرو راهها يديد آيد تا بني إسرائيل بكذرند).
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ} ؛ أي : بحر القلزم ، وهو الأظهر الأشهر ، أو النيل حال كونه.
{رَهْوًا} مصدر سمي به البحر للمبالغة ، وهو بمعنى الفرجة الواسعة ؛ أي : ذا رهواً أو راهياً مفتوحاً على حاله منفرجاً ، ولا تخف أن يتبعك فرعون وقومه ، أو ساكناً على هيئته بعدما جاوزته ، ولا تضربه بعصاك لينطبق ، ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط ، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم يعني : (ساكن وآراميده برآن وجه كه راهها برو ظاهر بود).
فيكون معنى : رهواً ساكناً غير مضطرب.
وذلك لأن الماء وقف له كالطود العظيم حتى جاوز البحر.
{إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} : علة للأمر بترك البحر رهواً ، والجند جمع معد للحرب والإغراق : (غرق كردن).
والغرق : الرسوب في الماء والتسفل فيه.
يقول الفقير : لما كان فرعون يفتخر بالماء وجريان الأنهار من تحت قصره وأشجار بساتينه جاء الجزاء من جنس العمل ، ولذا أمر الله تعالى موسى عليه السلام ، بأن يسير إلى جانب البحر دون البر ، وإلا فالله سبحانه قادر على إهلاك العدو في البر أيضاً ، بسبب من الأسباب ، كما فعل بأكثر الكفار ممن كانوا قبل القبط.
{كَمْ تَرَكُوا} ؛ أي : كثيراً تركوا في مصر فكم في محل النصب على أنه مفعول تركوا ومن قوله : {مِن جَنَّـاتٍ} : بيان لإبهامه ؛ أي : بساتين كثيرة الأشجار ، وكانت متصلة من رشيد إلى أسوان وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يوماً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي الآية اختصار.
والمعنى : فعل ما أمر به بأن ترك البحر رهواً ، فدخله فرعون وقومه ، فأغرقوا وتركوا بساتين كثيرة.
{وَعُيُونٍ} نابعة بالماء.
وبالفارسية : (جشمهاى آب روان).
ولعل المراد : الأنهار الجارية المتشعبة من النيل إذ ليس في مصر آبار وعيون ، كما قال بعضهم في ذمها : هي بين بحر رطب عفن
411
كثير البخارات الرديئة التي تولد الأدواء وتفسد الغذاء ، وبين جبل وبر يابس صلد ولشدة يبسه لا تنبت فيه خضراء ، ولا تتفجر فيه عين ماء.
انتهى.
{وَزُرُوعٍ} : جمع زرع ، وهو ما استنبت بالبذر تسمية بالمصدر من زرع الله الحرث إذا أنبته وأنماه.
قال في "كشف الأسرار" وفنون الأقوات وألوان الأطعمة ؛ أي : كانوا أهل ريف وخصب خلاف حال العرب.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} : محافل مزينة ومنازل محسنة.
(8/318)
{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ * كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ} .
{وَنَعْمَةٍ} ؛ أي : تنعم ونضارة عيش.
وبالفارسية : (واسباب تنعم وبر خوردارى).
يقال : كم ذي نعمة لا نعمة له ؛ أي : كم ذي مال لا تنعم له فالنعمة بالكسر ما أنعم به عليك.
والنعمة بالفتح : التنعم ، وهو استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات.
وبالفارسية : (بناز زيستن).
{كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ} : متنعمين متلذذين.
ومنه الفاكهة ، وهي ما يتفكه به ؛ أي : يتنعم ويتلذذ بأكله.
{كَذَالِكَ} : الكاف في حيز النصب وذلك إشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا ؛ أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها.
{كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا} ، فهو معطوف على الفعل المقدر وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم أو تمكينهم من التصرف فيها ، تمكين الوارث فيما يرثه ؛ أي : جعلنا أموال القبط لقوم ليسوا منهم في شيء من قرابة ، ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل كانوا مسخرين لهم مستعبدين في أيديهم ، فأهلكهم الله وأورثهم ديارهم وملكهم وأموالهم.
وقيل : غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.
قال قتادة : لم يرو في مشهور التواريخ أنهم رجعوا إلى مصر ولا ملكوها قط ، ورد بأنه لا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها كثير ، والله تعالى أصدق قيلاً ، وقد جاء في الشعراء التنصيص بإيراثها بني إسرائيل كذا في "حواشي سعدي المفتي".
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال المفسرون عند قوله تعالى : {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرْضِ} (الأعراف : 129) ؛ أي : يجعلكم خلفاء في أرض مصر ، أو في الأرض المقدسة.
وقالوا في قوله : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا} (الأعراف : 137) ؛ أي : أرض الشام ومشارقها ومغاربها جهاتها الشرقية والغربية ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة بعد انقضاء مدة التيه ، وتمكنوا في نواحيها ، فاضطرب كلامهم ، فتارة حملوا الأرض على أرض مصر ، وأخرى على أرض الشام.
والظاهر الثاني ؛ لأن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا أولادهم.
ومصر إنما ورثها أولادهم ؛ لأنها فتحت في زمان داود عليه السلام ، ويمكن أن يحمل على أرض الشام ومصر جميعاً.
والمراد بالمستضعفين هم وأولادهم ، فإن الأبناء ينسب إليهم ما ينسب إلى الآباء.
والله أعلم.
وفي الآية إشارة إلى ترك بحر الفضل رهواً ؛ أي : مشقوقاً بعصا الذكر ؛ لأن فرعون النفس وصفاتها فانون في بحر الوحدة تاركون لجنات الشهوات وعيون المستلذات الحيوانية وزروع الآمال الفاسدة والمقامات الروحانية بعبورهم عليها وسائر تنعمات الدنيا والآخرة بالسير ، والإعراض عنها بقوله كذلك : وأورثنا إلى إلخ.
يشير أن الصفات النفسانية ، وإن فنيت بتجلي الصفات الربانية فمهما يكن الغالب باقياً بالحياة يتولد منه الصفات النفسانية إلى أن تفنى هذه الصفات بالتجلي أيضاً ، ولو لم تكن هذه المتولدات ما كان للسائر الترقي ، فافهم جداً ، فإنه بهذا الترقي يعبر السائر عن المقام الملكي ؛ لأنه ليس للملك الترقي من مقامه ، كما قال تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) ، فالكمال الملكي دفعي ، لا ترقي بعده ، والكمال البشري تدريجي ، ولا ينقطع سيره أبداً لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، والله
412
مفيض الجود.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ} : مجاز مرسل عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ؛ لأن سبب البكاء على شيء هو المبالاة بوجوده ، يعني : أنه استعارة تمثيلية بعد الاستعارة المكنية في السماء والأرض بأن شبهتا بمن يصح منه الاكتراث على سبيل الكناية ، وأسند البكاء إليهما.
على سبيل التخييل كانت العرب إذا مات فيهم من له خطر وقدر عظيم يقولون : بكت عليه السماء والأرض ، يعني : أن المصيبة بموته عمت الخلق ، فبكى له الكل حتى الأرض والسماء ، فإذا قالوا : ما بكت عليه السماء والأرض ، يعنون به : ما ظهر بعد ما يظهر بعده ذوي الأقدار والشرف ، ففيه تهكم بالكفار وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال له : بكت عليه السماء والأرض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال بعضهم : هو على حقيقته ويؤيده ما روي : أنه عليه السلام قال : "ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله ، وإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا فما بكت.
إلخ.
يعني : (جون بنده وفات كند واين دودر از نزول رزق وخروج عمل محروم ماندبر وبكريند).
وفي الحديث : "إن المؤمن يبكي عليه من الأرض مصلاه ، موضع عبادته ، ومن السماء مصعد عمله".
وروي : إذا مات كافر استراح منه السماء والأرض والبلاد والعباد ، فلا تبكي عليه أرض ولا سماء.
(8/319)
وفي الحديث : "تضرعوا وابكوا ، فإن السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم يبكون من خشية الله.
(در معالم آورده جون مؤمن بميرد جمله آسمان وزمين برويكر يند وكفته اندكه كريه آسمان وزمين همجون كريه آدميانست).
يعني : بكاؤهما كبكاء الإنسان والحيوان ؛ فإنه ممكن قدرة كما في "الكواشي".
وقد ثبت أن كل شيء يسبح الله تعالى على الحقيقة ، كما هو عند محققي الصوفية ، فمن الجائز أن يبكي ويضحك بما يناسب لعالمه.
قال وهب بن منبه رضي الله عنه : لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض ؛ أي : أفهمها وألهمها إني جاعل منك خليفة ، فمنهم من يطيعني ، فأدخله الجنة ، ومنهم : من يعصيني ، فأدخله النار ، فقالت الأرض : أمتي تخلق خلقاً يكون للنار ، قال : نعم ، فبكت الأرض ، فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة ، وعن أنس رضي الله عنه رفعه لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض ، من بعدي فنبت اللصف من نباتها ، فلما أن رجعت قطر عرقي على الأرض ، فنبت ورد أحمر ألا من أراد أن يشم رائحتي ، فليشم الورد الأحمر ، كما في "المقاصد الحسنة".
(وبعضى برانندكه علامتى بريشان ظاهر شودكه دليل بود بر حزن وتأسف همجون كريه كه در أغلب دالست برغم واندوه).
قال عطاء والسدي : بكاء السماء حمرة أطرافها وعن زيد بن أبي زياد لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أشهراً ، واحمرارها بكاؤها.
وعن ابن سيرين رحمه الله : أخبرونا أن الحمرة التي مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين رضي الله عنه ؛ أي : أنها زادت زيادة ظاهرة ، وإلا فإنها قد كانت قبل قتله :
اين سرخى شفق كه برين جرخ بيوفاست
هرشام عكس خون شهيد ان كربلاست
كر جرخ خون ببارد ازيم غصه در خورست
ورخاك خون بكريد ازين ماجرا رواست
والشفق : الحمرة.
وقال بعضهم : الشفق شفقان : الحمرة والبياض ، فإذا غابت الحمرة حلّت الصلاة.
وفي الحديث : "إذا غاب القمر في الحمرة ، فهو لليلة ، وإذا غاب في البياض ، فهو لليلتين".
وكانت العرب يجعلون الخسوف والحمرة التي تحدث في السماء بكاء على الميت ، ولما كسفت الشمس يوم موت
413
ابنه عليه السلام إبراهيم ، قال الناس : كسفت لموت إبراهيم ، فخطبهم ، فقال : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي".
وهذا لا ينافي ما سبق ، فإن مراده عليه السلام رفع اعتقاد أهل الجاهلية ، ولا شك أن كل حادث ، فهو دال على أمر من الأمور ، ولذا أمر بالدعاء والصلاة وسر الدعاء أن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق العادة تكون معرضة عن الدنيا ، ومتوجهة إلى الحضرة العليا ، فيكون أقرب إلى الإجابة.
هذا هو السر في استجابة الدعوات في الأماكن الشريفة ، والمزارات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال بعضهم : لا تبكي السماوات والأرض على العصاة ، وأهل الدعوى والأنانية ، فكيف تبكي السماء على من يصعد إليها منه طاعة ، وكيف تبكي الأرض على من عصى الله عليها ، بل يبكيان على المطيعين خصوصاً على العارفين ، إذا فارقوا الدنيا حين لا يصعد إلى السماء أنوار أنفاسهم ، ولا يجري على الأرض بركات آثارهم.
وفي الحديث : "إن السماء والأرض تبكيان لموت العلماء".
وفي الحديث : "ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض".
ثم قرأ الآية ، وقال : إنهما لا تبكيان على كافر.
وقال بعض المفسرين : معنى الآية : فما بكت عليهم أهل السماء والأرض ، فأقام السماء والأرض مقام أهلهما ، كما قال واسأل القرية.
وينصره قوله عليه السلام : "إذا ولد مولود من أمتي تباشرت الملائكة بعضهم ببعض من الفرح ، وإذا مات من أمتي صغير أو كبير بكت عليه الملائكة".
وكذا ورد في "الخبر" : "أن الملائكة يبكون إذا خرج شهر رمضان ، وكذا يستبشرون إذا ذهب الشتاء رحمة للمساكين".
{وَمَا كَانُوا} لما جاء وقت هلاكهم.
{مُنظَرِينَ} ممهلين إلى وقت آخر ، أو إلى الآخرة ، بل عجل لهم في الدنيا ، أما الأول فلأن العمر الإنساني عبارة عن الأنفاس ، فإذا نفدت لم يبق للتأخير مجال ، وأما الثاني : فإنهم مستحقون لنكال الدنيا والآخرة ، أما نكال الدنيا فلاشتغالهم بظواهرهم بأذية الداعي مستعجلين فيها ، وأما نكال الآخرة فلمحاربتهم مع الله ببواطنهم بالتكذيب والإنكار والدنيا من عالم الظاهر ، كما أن الآخرة من عالم الباطن فجوزوا في الظاهر والباطن بما يجري على ظواهرهم وبواطنهم.
وهذا بخلاف حال عصاة المؤمنين ، فإنهم إذا فعلوا ذنباً من الذنوب ينظرون إلى سبع ساعات ليتوبوا ، فلا يكتب في صحائف أعمالهم ، ولا يؤاخذون به عاجلاً ؛ لأن الله يعفو عن كثير ويجعل بعض المصائب كفارة الذنوب ، فلا يؤاخذ آجلاً أيضاً ، فلهم الرحمة الواسعة والحمدتعالى.
ولكن ينبغي للمؤمن أن يعتبر بأحوال الأمم فيطيع الله تعالى في جميع الأحوال ، ويجتهد في إحياء الدين لا في إصلاح الطين ، ونعم ما قال بعضهم :
خاك دردستش بودجون باد هنكام رحيل
هركه اوقات كرامى صرف آب وكل كند
ومن الله العون.
(8/320)
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسرائيل مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : التنجية : (نجات دادن وبرهانيدن) ؛ أي : خلصنا أولاد يعقوب بإغراق القبط في اليم {مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : (از عذابى خوار كننده).
يعني : استعباد فرعون إياهم وقتل أبنائهم واستخدام نسائهم وبناتهم وتكليفه إياهم الأعمال الشاقة ، فالهوان يكون من جهة مسلط مستخف به ، وهو مذموم.
{مِن فِرْعَوْنَ} بدل من العذاب ، إما على جعله نفس العذاب لإفراطه في التعذيب ، وإما على حذف المضاف ؛ أي : من عذاب فرعون ، أو حال من المهين ، بمعنى واقعاً من جهته واصلاً من جانبه.
{إِنَّه كَانَ عَالِيًا} متكبراً.
{مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} :
414
خبر ثاننٍ لكان ؛ أي : من الذين أسرفوا على أنفسهم بالظلم والعدوان ، وتجاوزوا الحد في الكفر والعصيان.
وقال الكاشفي : (از كافر انكه متجاوزاند از حدود ايمان).
ومن إسرافه أنه على حقارته وخسة شأنه ادعى الإلهية ، فكان أكفر الكفار وأطغاهم ، وهو أبلغ من أن يقال : مسرفاً لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه في جملتهم ، وفيه ذم لفرعون ، ولمن كان مثله في العلو والإسراف كنمرود وغيره.
وبيان أن من أهان المؤمن أهلكه الله وأذله ، ومن يهن الله فما له مكرم ، وإن النجاة من أيدي الأعداء من نعم الله الجليلة على الأحباب ، فإن من نكد الدنيا ومصائبها على الحر أن يكون مغلوباً للأعداء ، وأن يرى عدواً له ما من صداقته بد وإن الله إذا أراد للمرء ترقياً في دينه ودنياه يقدم له البلايا ثم ينجيه :
6
تامرا كعبة مقصود ببالين آمد
سالها بستر خودخار مغيلان كردم
{مِن فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ * إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} .
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ} ؛ أي : فضلنا بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} في محل النصب على الحال ؛ أي : عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار.
وبالفارسية : (بردانشى بى غلط يعنى نه بغلط بركزيديم بلكه بعلم باك كزيديم وبدانش تمام دانستيم كه از همه آفريد كان سزاى كزيدن ايشانند ازان كزيديم اختيار ما بعلم واردات ماست بى علت ونواخت ما بفضل وكرم بى سبب).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
أو عالمين بأنهم يريغون في بعض الأوقات وتكثر منهم الفرطات ، كما قال الواسطي رحمه الله : اخترناهم على علم منا بجناياتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا بهم ليعلموا أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات ، ومن هذا القبيل أولاد يعقوب عليه السلام ؛ فإنهم مع ما فعلوا بيوسف من إلقائه في الجب ونحوه.
اختارهم الله للنبوة على قول :
كرد عصيال رحمت حق رانمى آرد بشور
مشرب دريانكردد تيره ازسيلابها
ويجوز أن يكون المعنى لعلمهم وفضلهم على أن كلمة على للتعليل.
{عَلَى الْعَـالَمِينَ} على عالمي زمانهم ، يعني : (برجهانيان روزكار ايشان).
أو على العالمين جميعاً في زمانهم وبعدهم في كل عصر لكثرة الأنبياء فيهم ، حيث بعث فيهم يوماً ألف نبي ، ولم يكن هذا في غيرهم ، ولا ينافيه قوله تعالى في حق أمة محمد عليه السلام : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 110) ، الآية لتغاير جهة الخيرية.
يقول الفقير : والحق أن هذه الأمة المرحومة خير من جميع الأمم من كل وجه ، فإن خيرية الأمم إن كانت باعتبار معجزات أنبيائهم ، فالله تعالى قد أعطى لنبينا عليه السلام جميع ما أعطاه للأولين ، وإن كانت باعتبار كثرة الأنبياء في وقت واحد ، فعلماؤنا الذين كأنبياء بني إسرائيل أكثر وأزيد.
وذلك لأنه لا تخلو الدنيا كل يوم من أيام هذه الأمة إلى قيام الساعة من مائة ألف ولي وأربعة وعشرين ألف ولي ، فانظركم بينهم من الفرق هدانا الله وإياكم أجمعين.
قال في "المفردات" : الاختيار طلب ما هو خير فعله ، وقوله تعالى : {وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ} ، الآية.
يصح أن يكون إشارة إلى إيجاده تعالى إياهم خيراً ، وأن يكون إشارة إلى تقديمهم على غيرهم.
وفي "بحرالعلوم" : هذا الاختيار خاص بمن اختاره الله بالنبوة منهم ، أو عام لهم ، ولمن كانوا مع موسى اختارهم بما خصصهم به.
كما قال الكاشفي : ولقد اخترناهم : (وبدرستى كه بركز يديم موسى ومؤمنان بني إسرائيل راه).
فجعلنا فيهم الكتاب والنبوة والملك.
{وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ} : (نشانهاى قدرت).
كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها
415
في غيرهم.
{مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ} : نعمة جليلة أو اختيار ظاهر لينظر كيف يعملون.
(8/321)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي "كشف الأسرار" : ابتلاهم بالرخاء والبلاء ، فطالبهم بالشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء : (آدمى كهى خستة بتير بلاست كهى غرفة لطف وعطا وحق تعالى تقاضاى شكر مى كند بوقت راحت ونعمت وتقاضاى صبر مى كند درحال بلا وشدت مصطفى عليه السلام قومى را ديداز انصار كفت شما مؤمنان آيد كفتند آرى كفت نشان ايمان جيست كفتند بر نعمت شكر كنيم ودرمخث صبر كنيم وبقضاء الله راضى كفت أنتم مؤمنون ورب الكعبة).
قال ابن الشيخ : هو حقيقة في الاختيار ، وقد يطلق على النعمة وعلى المحنة مجازاً من حيث أن كل واحد منهما يكون سبباً وطريقاً للاختيار.
فإن قلت : إذا كانت الآيات المذكورة نعمة في أنفسها ، فما معنى قوله : ما فيه بلاء ؛ أي : نعمة.
قلت : كلمة "في" تجريدية فقد يكون نعمة في نعمة ، كما يكون نعمة فوق نعمة ومحنة فوق محنة.
(كفته انددو برادر توأمان بودند بيك شكم آمده بودند وبشث ايشان يكديكر جسببده بود جون بزرك شدند دائم زبان بشكر الهى داشتند يكى از ايشان برسيد كه باوجود جنين بلاى كه شمارا واقعست جه جاى شكر كزار يست ايشان كفتند ماميدانيم كه حق تعالى را بلاها ازين صعبتر بسيارست برين بلاشكو ميكوييم مباداكه بيلايى ازين عظميتر مبتلا شويم ناكاه يكى ازايشان بمردآن دكر كفت اينك بلاى صعبتر بيداشد اكنون اكراين مرده را از من قطع ميكنند من نيزمى ميرم واكر قطع نمى كنند مرا مرده كشى بايدكردنا وقتى كه بدن وى فرسوده شود بريزد وكفته اند خلاصة درويشى آنست كه از همه كس باركشد وبرهيجكس بارننهد نه بحسب صورت ونه).
بحسب معنى فلا بد من الصبر على البلاء والتحمل على الشدة :
اكر زكوه فروغلطد آسيا سنكى
نه عارفسث كه ازراه سنك برخيزد
والله الموفق لما يحب ويرضى من الأعمال.
{أَنَّ هَـاؤُلاءِ} ؛ أي : كفار قريش ؛ لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه للدلالة على تماثيلهم في الإصرار على الضلالة والتحذير عن حلول ما حل بهم من العذاب.
{لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى} : لما أخبروا بأن عاقبة حياتهم ونهايتها أمران : الموت ثم البعث.
أنكروا ذلك بحصر نهاية الأمر في الموتة الأولى ؛ أي : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا بعث بعدها.
وتوصيفها بالأولى لا يستدعي أن يثبت الخصم موتة ثانية ، فيقصدوا بذلك إنكارها ؛ لأن كون الشيء أولاً لا يستلزم وجود ما كان آخراً بالنسبة إليه ، كما لو قال أول عبد أملكه حر ، فملك عبداً عتق سواء كان مالكاً بعده عبداً آخر أو لا؟.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال سعدي المفتي : وفيه بحث.
فإن الأول مضايف الآخر أو الثاني ، فيقضي المضايف الآخر بلا شبهة إذ المتضايفان متكافئان وجوداً ، وعدماً ثم قال : ويجوز أن يقال مقصود المصنف الإشارة إلى أن المراد بالأولية : عدم المسبوقية بأخرى مثلها على المجاز.
وقال في "الكشاف" : لما قيل لهم أنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما تقدمتكم موتة كذلك قالوا : ما هي إلا موتتنا الأولى ؛ أي : ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى ، فالحصر بهذا المعنى راجع إلى معنى أن يقال : ما هي إلا حياتنا الأولى ، ولا تكلف في إطلاق الموت على ما كان قبل الحياة الدنيا ، كما في قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة : 28).
وقال بعضهم : المعنى ليست الموتة إلا هذه
416
الموتة دون الموتة التي تعقبها حياة القبر ، كما تزعمون يكون بعدها البعث والنشور ولا يبعد أن يحمل على حذف المضاف على أن يكون التقدير : إن الحياة ، إلا حياة موتتنا الأولى ، فالأولى صفة للمضاف ، والقرينة عليه قوله : {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} ، فالآية مثل قوله : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما نحن بمبعوثين ، كما في "حواشي سعدي المفتي".
{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين بعد الموت يعني : (زنده شد كان وبر انكيختكان بعد از مرك).
من أنشر الله الموتى إذا بعثهم.
وغرضهم من هذا القول المبالغة في إنكار حشر الموتى ونشرهم من القبور.
{إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَـاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
{فَأْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ} : الخطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين.
والمعنى بالفارسية : (بس بياريد بدران مارا ازكور وزنده كنيد).
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} : فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى.
يعني : إن كان البعث والنشور ممكناً معقولاً ، فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا ليظهر صدق وعدكم.
(8/322)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وقيل : كانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله فينشر لهم قصي بن كلاب ليشاوروه ويسألوا منه عن أحوال الموت ، وكان كبيرهم ومفزعهم في المهمات والملمات.
قال الكاشفي : (اين سخن ازايشان جهل بودزيرا هركه جائز بود وقوع آن ازخداى تعالى بوقتى خاص لازم بود وجود وظهور آن نه بهر وقت كه ديكرى خواهد بس جون وعده بعث در آخرت اكر دردنيا واقع نشود كسى رابرو تحكم نرسد).
وقال في "كشف الأسرار" : وإنما لم يجبهم لأن البعث الموعود إنما هو في دار الجزاء يوم القيامة ، والذي كانوا يطلبونه البعث في الدنيا في حالة التكليف وبينهما تغاير.
يقول الفقير : قد صح أن عيسى عليه السلام أحيا الموتى لا سيما سام بن نوح عليه السلام ، وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة ونبينا عليه السلام كان أولى بالإحياء ؛ لأنه أفضل لكنهم لما طلبوه بالاقتراح لم يأذن الله له فيه لكون غايته الاستئصال على تقدير الإصرار.
وقد ثبت عند العلماء الأخيار أن نبينا عليه السلام أحيى أبويه وعمه أبا طالب ، فآمنوا به كما سبق تفصيله في محله.
وفي الآية إشارة إلى أن من غلب عليه الحسن ، ولم تكن له عين القلب مفتوحة ليطلع ببصره وبصيرته عالم الغيب ، وهو الآخرة لا يؤمن إلا بما يريه بصر الحس ، ولهذا أنكروا البعث والنشور إذا لم يكن يشاهده نظر حسهم ، وقالوا : فائتوا بآياتنا ؛ أي : أحيوهم حتى نراهم بنظر الحس ونستخبر منهم أحوالهم بعد الموت إن كنتم صادقين فيما تدعون من البعث.
حكي عن الشيخ أبي علي الرودبادي قدس سره : أنه ورد عليه جماعة من الفقراء ، فاعتل واحد منهم وبقي في علته أياماً ، فملَّ أصحابه من خدمته وشكوا ذلك إلى الشيخ أبي علي ذات يوم ، فخالف الشيخ على نفسه وحلف أن يتولى خدمته بنفسه أياماً ، ثم مات الفقير ، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه ، فلما أراد أن يفتح رأس كفنه عند أصحابه في القبر رآه وعيناه مفتوحتان إليه.
وقال له : يا أبا علي لأنصرنَّك بجاهي يوم القيامة ، كما نصرتني في مخالفتك نفسك.
وقال أبو يعقوب السوسي قدس سره : جاءني مريد بمكة.
وقال : يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار ، فأحضر لي بنصفه حنوطاً وكفني بنصفه ، فلما كان الغد وقت الظهر جاء ، فطاف ثم تباعد ومات فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد ، ففتح عينيه فقلت له : أحياة بعد الموت ، فقال : أنا حي ، فكل محبحيّ.
يقول الفقير :
417
ففي هاتين الحكايتين إشارات :
الأولى : أن للفقراء الصابرين جاهاً عند الله يوم القيامة ، فكل من أطعمهم أو كساهم ، أو فعل بهم ما يسرهم ، فهم له شفعاء عند الله مشفعون فيدخلونه الجنة بإذن الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
والثانية : أن حياة الأنبياء والأولياء حياة دائمة في الحقيقة ، ولا يقطعها الموت الصوري ، فإنه إنما يطرأ على الأجساد بمفارقة الأرواح مع أن أجسادهم لا تأكلها الأرض ، فهم بمنزلة الأحياء من حيث الأجساد أيضاً.
والثالثة : أن الإحياء أسهل شيء بالنسبة إلى الله تعالى ، فمن تأمل في تعلق الروح بالبدن أولاً لم يتوقف في تعلقه به ثانياً وثالثاً والرابعة أثر الحياة مرئي ومشهود في الميت بالنسبة إلى أرباب البصائر ، فإنهم ربما رأوا في بعض الأموات أثر الحياة وتكلموا معه ، فمن حرم من البصيرة وقصر نظره على الحس وقع في الإنكار وعلى تقدير رؤيته حمله على أمر آخر من السحر والتخييل ، ونحو ذلك كما وقع لبعض الكفار في زمان عيسى عليه السلام وغيره ونعم ما قيل :
در جشم اين سياه دلان صبح كاذبست
در روشنى اكريد بيضا شود كسى
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل الحياة الحقانية والنشأة العرفانية.
{أَهُمْ خَيْرٌ} : رد لقولهم وتهديد لهم ؛ أي : كفار قريش خير في القوة والشوكة اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك لا في الدين حتى يردانه لا خيرية في واحد من الفريقين.
{أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} المراد بتبع هنا واحد من ملوك اليمن معروف عند قريش وخصه بالذكر لقرب الدار ، وسيأتي بقية الكلام فيه.
{وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ؛ أي : قيل قوم تبع عطف على قوم تبع.
والمراد بهم : عاد وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد أولي بأس شديد.
والاستفهام لتقرير أن أولئك أقوى من هؤلاء.
{أَهْلَكْنَـاهُمْ} : (نيست كرديم ايشانرا).
استئناف لبيان عاقبة أمرهم ؛ أي : قوم تبع والذين من قبلهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} كاملين في الإجرام والآثام مستحقين للهلاك ، وهو تعليل لإهلاكهم ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا في غاية القوة والشدة ، فلأن يهلك هؤلاء وهم شركاء لهم في الإجرام وأضعف منهم في الشدة والقوة أولى.
(8/323)
بعض كبار : (فرمود كه تعالى رانسبت بأولياى خود قهرى ظاهر است ولطفى دران مخفى لطف مخفى آنست كه ميخواهد كه بآن قهر ظاهر حقيقت انسانرا از قيود لوازم بشرى باك ومطهر كرداند وباز حق تعالى رانسبت باعداى خود لطفى ظاهر است وقهرى دران مخفى آنست كه ميخواهد كه بآن لطف ظاهر علاقة باطن ايشانرا بعالم اجسام استحكام دهدتا واسطة كرفتارى بقيود اين عالم از شهود عالم اطلاق ولذات روحانى ومعنوى محروم بمانند وجون قهر ومكردر زير لطف ظاهرى بوشيده است عاقل ببايدكه برحذر باشد وبمال وجاه مغرور نباشد تاكه از هلاك صورى ومعنوى خلاص يابد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال الحافظ :
كمين كهست وتوخوش تيز ميروى هش دار
مكن كه كرد برآيد زشهرة عدمت
اعلم أولاً أن تبعاً كسكر واحد التبابعة ، ملوك اليمن ، ولا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت وحمير كدرهم موضع غربي صنعاء اليمن.
والحميرية : لغة من اللغات الاثنتي عشرة وواحد من الأقلام الاثني عشر ، وهو في الأصل أبو قبيلة من اليمن ، وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وحضرموت ، وهو بضم الميم بلد وقبيلة.
كما في "القاموس".
وتبع في الجاهلية بمنزلة الخليفة
418
في الإسلام ، كما في "كشف الأسرار" : (تبع بادشاهى بود ازبادشاهان از قبيلة قحطان جنانكه دار إسلام ملوك را خليفة كويند ودر روم قيصر ودر فرس كسرى ايشانرا تبع كويند).
فهم الأعاظم من ملوك العرب ، والقيل بالفتح والتخفيف : ملك من ملوك حمير دون الملك الأعظم ، وأصله : قيل بالتشديد كيفعل ، فخفف كميت وميت.
قال في "المفردات" : القيل : الملك من ملوك حمير سموه بذلك لكونه معتمداً على قوله ، ومقتدى به ، ولكونه متقيلاً لأبيه يقال : تقيل فلان أباه إذا تبعه.
وعلى هذا النحو سموا الملك بعد الملك تبعاً ، فتبع كانوا رؤساء سموا بذلك لاتباع بعضهم بعضاً في الرياسة والسياسة.
وفي "إنسان العيون" تبع بلغة اليمن الملك المتبوع.
وأصل القيل : من الواو لقولهم في جمعه أقوال نحو ميت وأموات.
وإذا قيل : أقيال فذلك نحو أعياد في جمع عيد أصله عود.
وقال بعضهم : قيل الملوك اليمن التبابعة ؛ لأنهم يتبعون ؛ أي : يتبعهم أهل الدنيا ، كما يقال لهم : الأقيال ؛ لأنهم يتقيلون والتقيل بالفارسية : (اقتدا كردن) ، أو لأن لهم قولاً نافذاً بين الناس.
يقول الفقير : والظاهر أن تبع الأول سمي به لكثرة قومه وتبعه ، ثم صار لقباً لمن بعده من الملوك سواء كانت لهم تلك الكثرة والأتباع أم لا ، فمن التبابعة الحارث الرائش ، وهو ابن همال ذي سدد ، وهو أول من غزا من ملوك حمير ، وأصاب الغنائم وأدخلها فراش الناس بالأموال والسبي والريش بالكسر الخصب ، والمعاش.
فلذل سمي الرائش وبينه وبين حمير خمس عشر أباً ودام ملك الحارث الرائش مائة وخمساً وعشرين سنة ، وله شعر يذكر فيه من يملك بعده ويبشر بنبينا صلى الله عليه وسلم فمنه : ()
ويملك بعدهم رجل عظيم
نبي لا يرخص في الحرام
يسمى أحمداً يا ليت أني
أعمر بعد مخرجه بعام
ومنهم أبرهة ذو المنار ، وهو ابن الحارث المذكور وسمي ذا المنار ؛ لأنه أول من ضرب المنار على طريقه في مغازيه ليهتدي إذا رجع وكان ملكه مائة وثلاثاً وثمانين سنة.
ومنهم : عمرو ذو الأذعار ، وهو ابن أبرهة لم يملك بعد أبيه ، وإنما ملك بعد أخيه إفريقس ، وسمي ذا الأذعار ؛ لأنه قتل مقتلة عظيمة حتى ذعر الناس منه ، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
ومنهم : شمر بن مالك الذي تنسب اليه سمرقند.
وحكي القتيبي أنه شمر بن إفريقس بن أبرهة بن الرائش وسمي بمرعش لارتعاش كان به ، ونسبت إليه سمرقند ؛ لأنها كانت مدينة للصفد ، فهدمها ، فنسبت إليه.
وقيل : شمركند أي : شمر خربها لأن كند بلسانهم حزب ثم عرب فقيل : سمرقند وقال ابن خلكان في "تاريخه" : إن سمر اسم لجارية إسكندر مرضت فوصف لها الأطباء أرضاً ذات هواء طيب ، وأشاروا له بظاهر صفتها ، وأسكنها إياها ، فلما طابت بنى لها مدينة وكند بالتركي هو المدينة ، فكأنه يقول : بلد سمر.
انتهى.
ويؤيده تسميتهم القرية الجديدة في تركستان بقولهم : (يكى كنت).
فالتاء والدال متقاربان.
وبه يعرف بطلان قول من قال : إن تبعاً الحميري بناها إلا أن يحمل على بناء ثان وفيه بعد.
وقال ابن السباهي في "أوضح المسالك" : سمرقند بالتركية شمركند ؛ أي : بلد الشمس.
ومنهم إفريقس بن أبرهة الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان.
وبه سميت إفريقية ، وكان
419
قد غزا حتى انتهى إلى أرض طنجة ، وملك مائة ونيفاً وستين.
تبع بين الأقرن ويقال فيه : تبع الأكبر.
ومنهم : أبو كرب أسعد بن كليكر بن تبع بن الأقرن.
واختلفوا في المراد من الآية ، فقال بعضهم : هو تبع الحميري الذي سار بالجيوش وبنى الحيرة ـ بالكسر ـ مدينة بالكوفة.
(8/324)
قال في "كشف الأسرار" : (معروف ازايشان سه بودنديكى مهينة اول بوده يكى ميازيكى كهينة اخربود واوكه نام اودر قرآن است تبع آخر بودنام وى اسعد الحميرى مردى مؤمن صالح بوده وبعيسى عليه السلام ايمان آورده وجون حديث ونعت وصفت رسول ما عليه السلام شنيد ازاهل كتاب بر سالت وى ايمان آورد وكفت) : ()
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
وزيراً له وابن عم
وفي أوائل السيوطي : أول من كسا الكعبة أسعد الحميري ، وهو تبع الأكبر ، وذلك قبل الإسلام بتسمعمائة سنة كساها الثياب الحبرة ، وهي مثل عنبة ضرب من برود اليمن.
وفي رواية كساها الوصائل ، وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن وعن بعضهم أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تبع كساها العصب ، وهي ضرب من البرود وجعل لها باباً يغلق.
وقال في ذلك : ()
وكسونا البيت الذي حرم الله
ملاء معصباً وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا
وجعلنا لبابه إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا
قد رفعنا لواءنا معقودا
وكان تبع مؤمناً بالاتفاق ، وقومه كافرين ، ولذلك ذمهم الله دونه واختلف في نبوته.
وقال بعضهم : كان تبع يعبد النار ، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم : حمير وكذبوه ، وكان قومه كهاناً وأهل كتاب ، فأمر الفريقين أن يقرب كل منهما قرباناً ، ففعلوا فتقبل قربان أهل الكتاب ، فأسلم وذكر ابن إسحاق في كتاب "المبدأ" و"قصص الأنبياء عليهم السلام" : أن تبع بن حسان الحميري ، وهو تبع الأول ؛ أي : الذي ملك الأرض كلها شرقها وغربها.
ويقال : له الرائش ؛ لأنه راش الناس بما أوسعهم من العطاء ، وقسم فيهم من الغنائم ، وكان أول من غنم.
ولما عمد البيت يريد تخريبه رمي بداء تمخض منه رأسه قيحاً وصديداً وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو قدر رمح.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
يعنى جون تبع بمكه رسيد واهل مكه اورا طاعت نداشتد وخدمت نكردند تبع كفت وزير خودراكه اين جه شهراست وجه قوم اندكه درخدمت وطاعت ما تقصير كردند بعد ازانكه جهانيان سربر خط طاعت مانهاه اند وزير كفت ايشانرا خانة هست كه آنرا كعبه كويند مكر بآن خانة معجب شده اند تبع دردل خويش نيت كردكه آن خانه را خراب كند ومردان شهر رابكشد وزنان اسير كند هنور هنوز اين انديشه تمام نكرده بودكه رب العزة بدرد سرمبتلا كرد جنانكه اورا بطاقت نماندوآب كندبده از جشم وكوش وبينى وى كشاده كشت كه هيج كس رابنزديك وى قرار نبود واطبا همه از معالجه وى عاجز كشتند كفتند اين بيمارى از جهار طبع بيرون افتاده كار اسمانيست وما معالجة آن راه ثمى بريم بس دانشمندى فرابيش آمد وكفت أيها الملك اكر سرخود بامن بكويى من ابن دردرا
420
درمان سازم ملك كفت من دركار اين شهر وابن خانة كعبه جنين انديشه كرده ام دانشمند كفت زينهار اي ملك اين انديشه مكن وازين نيت باز كردكه اين خانه را خداوندى است قادر كه آنرا بحفظ خويش ميداردو هركه قضد ابن حانة كند دمار ازوى بر آرد تبع ازان انديشه توبه كرد وتعظيم خانة واهل كعبه ايمان آورد ودردين ابراهيم عليه السلام شد بس كعبه جامه بوشانيد وقوم خودرا فرمودتا آنرا بزرك دارند وبا اهل وى نيكويى كنند بس از مكه بزمين يثرب شد آنجاكه مدينة مصطفاست صلى الله عليه وسلم ودران وقت شهر وبنانبود جشمة آب بود تبع لشكر بسرآن جشمه فرو آورد انشمندانكه باوى بودند قريب دو هزار مرد عالم در كتاب خوانده بودند كه آن زمين يثرب مهاجر رسول آخر الزمانست ومهبط وحي قرآن جهار صد مرداز ايشانكه عالمتر وفاضلتر بودند بايكديكر بيعت كردندكه ازان بقعة مفارقت نكند وبراميد ديدار رسول آنجا مقام كنند اكر اورا خود دريابند والافر زندان ونسل ايشان ناجار اورادريا بند وبركات ديدار او باعقاب وارواح ايشان برسداين قصة باتبع كفتند وتبع راهمين رغبت افتاده يكسال آنجا مقام كرد وبفرمود تاجهار صد قصر بنا كردند انجايكه هر عالمى راقصرى وهريكى راكنيزكى بخريد وآزاد كرد وبزتى بوى داد با جهاز تمام وايشانرا وصيت كرد كه شما انيجا باشيد تابيغمبر آخر زمان رادر بابيد وخود نامة نبشت ومهر زرين يران نهاد وعالمى راسبر دو كفت اكر محمد رادريايى اين نامة بدورسان واكرنيابى بفرز ندان وصيت كن تابدو رسانند ومضمون آن نامه اين بودكه اي بيغمبر آخر الزمان اى كزيده خداوند جهان اى بروز شمار شفيع بندكان من كه تبعم بنو ايمان آوردم بآن خها وندكه توبنده وبيغمبر اويى كواه ياش كه برملت توأم وبر ملت بدرتو ابراهيم خليل عليه السلام اكرترابينم واكرنه بينم تامرا فراموش نكنى وروز قيامت مراشفيع باشى آنكه نامه را مهر برنها دوبرال مهر نوشته بود).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعنوان (نامه نوشته) إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلّم من تبع أمانة الله في يد من وقع إلى أن يوصل إلى صاحبه.
(8/325)
كفته اند مردمان مدينة ايشان كه انصار رسول خدا اند ازنثراد آن جهار صد مرد عالم بودند وأبو أيوب الأنصاري كه رسول خدا بخانة اوفرو آمد از فرزندان آن عالم بودكه تبع را نصيحت كرده بود تا ازان علت شفايافت وخانة أبو أيوب الأنصاري كه رسول خدا آنجا فروآمد از جمله بناها بودكه تبع كرده بود جون رسول خدا هجرت كرد بمدينه نامه تبع بوى رسانيدند رسول خدا نامه بعلى داد تابرخواند رسول سخنان تبع بشنيد واورا دعا كرد وآنكس كه نامه رسانيد نام او أبو ليلى بوداورا بنواخت واكرمى كردو بروايتى تبع مردمى آتش برست بود بر مذهب مجوس از نواحى مشرق درآمد بالشكر عظيم ومدينه مصطفى عليه السلام بكذشت وبسرى ازان خويش آنجارها كرد اهل مدينة آن بسررا بفريب وحيله بكشتند تبع بازكشت بر عزم آنكه مدينة خراب كند وأهل آنرا استئصال كند جماعتى كه انصار رسول الله از نزاد ايشانند همه مجتمع شد وبفتال وى بيرون آمدند بروز
421
باوى جنك ميكردند وبشب اورا مهمان دارى ميكردند تبع را سيرت ايشان عجب آمد كفت أن هؤلاء كرام اينان قومى اندكر يمان وجوانمردان بس دوحبر از احبار بني قريظه نام ايشان كعبه واسد هرود ابن عم يكديكر بودند برخوا ستند وبيش تبع شدند واورا نصيحت كردند كفتند اين مدينه هجرت كاه بيغمبر آخر زمانست وما در كتاب خداى نعت وى خوانده ايم وبراميد ديداروى انيجانشته ايم ودانيم كه ترا اهل اين شهر دستى نباشد ونصرتى نبود خويشتن را در معرض بلا وعقوبت مكن نصيحت تابشنو ونيت خود بكردان بس آن وعظ بر تبع اثرى عظيم كرد وازايشان عذر خواست ايشان جو أثر قبول دروى ديدند أورا بردين خويش دعوت كردند تبع قبول كرد وبدين ايشان بازكشت وايشانرا اكرام كرد وازمدينه بسوى يمن باز كشت وآن دو حبرو نفرى ديكر از يهود بني قريظة باوى رفتند جمعى از بني هذيل بيش تبع آمدند كفتند أيها الملك أنا أدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبر جد اكر خواهى بردست توآسان بود كفت آن كدام خانه است كفتند خانة ايست درمكه ومقصود هذيل هلاك تبع بودكه از نقمت وى مى ترسيدند دانستند كه هر كه قصد خانه كهبه كند هلاك شود تبع با احبار يهود مشورت كرد وآن سحن كه هذيل كفته بودند بايشان كفت اخبار كفتند زينهار كه انديشه بدنكنى دركار آن خانه كه درروى زمين خانه ازان عظيم ترنيست آنرا بيت الله كوبند آن قوم ترا اين دلالت كردن جز هلاك تونخوا ستند جون آنجا رسى تعظيم كن تاترا سعادت ابد حاصل شود تبع جون اين سخن بشنيد آن جمع هذيل بكرفت وسياست كرد جون بكعبه رسيد طواف كرد وكعبه درنبود آنرا دربرنهاد وقفل برزدو آنرا جامه بوشيد وشش روز آنجا مقيم شد هرروز درمنحر هزار شتر قربان كرد وازمكه سوى يمن شد قوم وى حمير بودند كاهنان وبت برستان تبع ايشانرا بر دين خويش وبر حكم نورات دعوت كرد ايشان نبذير فتندتا آنكه حكم خويش بر آتش بردند وآن آتشى بودكه فراديد آمدى در دامن كوه وهر كرا خصمى بودى وحكمى كه دران مختلف بودى هر دو خصم بنزديك آتش آمد ندى آنكس كه بر حق بودى اورا از آتش كزند نرسيدى واوكه نه بر حق بودى بسوختى جماعتى از حمير بتان خودرا برد اشتند وبدا من آن كوه آمدند وهمجنين اين دو وحبر كه باتبع بودند دفتر تورات بر داشته وبدامن آن كوه آمدند ودرراه آتش نشستند آتش از مخرج خود برآمد وآن قوم حمير را وآن بتانرا همه نيست كرد وبسوخت وآن دو حبر كه تورات داشتند وميخواند نداز آتش ايشانرا هيج رنج وكزند نرسيد مكر از بستانى ايشان عرقى روان كشت وآتش از ايشان در كذشت وبمخرج خويش بازشد آنكه باقى حمير كه بودند همه بدبن اخبار باز كشتند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
فمن هناك أصل اليهودية باليمن.
كذا في "كشف الأسرار" ، وقيل : حفر بئر بناحية حمير في الإسلام ، فوجد فيه امرأتان صحيحتان وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب حباً وتليس أو حباً وتماضراً ، وهذا قبر تماضر وقبر حبابنتي تبع على اختلاف الروايات.
وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئاً ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
422
(از همه در صفات وذات خدا).
ليس شيء كمثله أبداً :
(كرخدا بودى ازيكى افزون كى بماندى جهان بدين قانون.
داند آنكس زعقل باشد بهر.
كه دوشه راجوجا شود در شهر.
سلك جميعت از نظام افتد.
رخنه دركار خاص وعام افتد).
جل من لا إله إلا هو.
حسبنا الله لا إله إلا هو.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} ؛ أي : ما بين الجنسين وقرىء ما بينهن نظراً إلى مجموع السماوات والأرض.
{لَـاعِبِينَ} من غير أن يكون في خلقهما غرض صحيح وغاية حميدة.
يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً.
وفي "التعريفات" : اللعب فعل الصبيان يعقبه التعب من غير فائدة.
(8/326)
{مَا خَلَقْنَـاهُمَآ} ، وما بينهما ملتبساً بشيء من الأشياء {إِلا} ملتبساً {بِالْحَقِّ} ، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث ، والجزاء فهو استثناء من أعم الأسباب.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} ؛ أي : كفار مكة بسبب الغفلة وعدم الفكرة.
{لا يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك فينكرون البعث والجزاء ، والآية دليل على ثبوت الحشر ، فإنه لو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثاً ؛ لأنه تعالى خلقهم وما ينتظم به أسباب معايشهم ، ثم كلفهم بالإيمان والطاعة ليتميز المطيع من العاصي ، بأن يكون الأول متعلق فضله وإحسانه.
والثاني : متعلق عدله وعقابه.
وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها ، وعدم الاعتداد بمنافعها لكونها مشوبة بأنواع المضار والمحن ، فلا بد من البعث والجزاء لتوفى كل نفس ما عملت ، فالجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها إذ لو لم يكن الجزاء ، كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال المؤمن والكافر ، وهو محال.
اعلم أن التجليات الوجودية إنما هي للتجليات الشهودية فكل من السماوات والأرض الصورية ، وما بينهما من الموجودات مظاهر صفات الحق ، فهي كالأصداف والصفات كالدرر.
والمقصود بالذات إنما هو الدرر لا الأصداف ، كما أن في المقصود من المرآة إنما هو الصورة المرئية فيها ، فكان كل موجود كاللباس على سر من الأسرار الإلهية ، وكذا كل وضع من أوضاع الشريعة رمز إلى حقيقة من الحقائق ، فلا بد من إقامته لتحصيل حقيقته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وهذا بالنسبة إلى الآفاق ، وأما بالنسبة إلى الأنفس والأرواح كالسماوات والأشباح كالأرض والقلوب والأسرار والنفوس ، كما بينهما وكلها مظاهر حق لا سيما القلوب أصداف درر المعارف الإلهية التي لم يخلق الإنس والجن إلا لتحصيلها ، ولكن مرآة قلب أكثرهم مكدرة بصدأ صفات البشرية ، وهم لا يعلمون أنهم مرآة لظهور صفات الحق ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "من عرف نفسه" يعني بالمرآتيه عند صفائها "فقد عرف ربه" ؛ أي : بتجلي صفاته فيها فقد عرفت أنه ما في الوجود إلا الحق ، وأما الباطل فإضافي لا يقدح في ذلك.
ألا ترى إلى الشيطان ، فإنه باطل من حيث وجوده الظلي ، ومن حيث دعوة الخلق إلى الباطل والضلال ، لكنه حق في نفسه ؛ لأنه موجود ، وكل موجود ، فهو من التجليات الإلهية.
حكي : أن رجلاً رأى خنفساء ، فقال : ماذا يريد الله من خلق هذه أحسن شكلها أم طيب ريحها فابتلاه بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها ، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب ، فقال : هاتوه حتى ينظر في أمري ، فقالوا : ما تصنع بطرقي ، وقد عجز عنك حذاق الأطباء ، فقال لي : لا بد لي منه ، فلما أحضروه ، ورأى القرحة استدعى بخنفساء ، فضحك
423
الحاضرون ، فتذكر العليل القول الذي سبق منه ، فقال : احضروا ما طلب ، فإن الرجل على بصيرة ، فأحرقها ووضع رمادها على قرحته فبرئت بإذن الله تعالى.
فقال للحاضرين : إن الله تعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية.
(يكى از خواجكان نقشبنديه ميفرمودكه شبى در زمان جوانى بداعيه فسادى از خانه بيرون آمدم ودرده ما عسى بغايت شرير وبد نفس كه بشرارت نفس أو كسى نمى دانستم وهمه اهل ده ازومى ترسيد نددر آن دل شب ديدم جاى دركمين استاده جون اورا بديدم از وبغايت ترسيدم وترك فساد كردم وازان محل دانستم كه بدنيز درين كارخانه دركار بوده است.
جون بعض ظهورات حق آمد باطل.
بس منكر باطل نشود جز جاهل.
در كل وجوهر كه جز حق بيند ، باشدز حقيقة الحقايق غافل).
{مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـاًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَّحِمَ اللَّه إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} ؛ أي : يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ويميز المحق عن المبطل ويقضي بين الخلائق بين الأب والابن والزوج والزوجة ، ونحو ذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال بعضهم : يوم الفصل يوم يفصل فيه بين كل عامل وعمله ، ويطلب بإخلاص ذلك وبصحته ، فمن صح له مقامه وأعماله قبل منه وجزي عليه ، ومن لم تصح له أعماله كانت أعماله عليه حسرة.
وفي المثنوي :
اى دريغا بود مارا بيروباد
تا ابد يا حسرة شد للعباد
بركذشته حسرت آوردن خطاست
بازنايد رفته يادآن هباست
{مِيقَـاتُهُمْ} ؛ أي : وقت موعد الخلائق {أَجْمَعِينَ} يعني : (هنكام جمع شدن همه اولين وآخرين).
فيوم الفصل اسم إن ميقاتهم خبرها وأجمعين تأكيد للضمير المجرور في ميقاتهم ، والميقات اسم للوقت المضروب للفعل ، فيوم القيامة وقت لما وعدوا به من الاجتماع للحساب والجزاء.
(8/327)
قال في "بحر العلوم" : ميقاتهم ؛ أي : حدهم الذي يوقتون به ولا ينتهون إليه ، ومنه مواقيت الإحرام على الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً.
فإن الميقات ما وقت به الشيء ؛ أي : حد.
قال ابن الشيخ : الفرق بين الوقت والميقات أن الميقات وقت يقدر ؛ لأن يقع فيه عمل من الأعمال وأن الوقت ما يقع فيه شيء سواء قدره مقدر ؛ لأن يقع فيه ذلك الشيء أم لا؟
{يَوْمَ لا يُغْنِى} بدل من يوم الفصل {مَوْلًى} ولي من قرابة وغيرها.
وبالفارسية : (دوستى وخويشتاوندى).
{عَن مَّوْلًى} ؛ أي مولى كان.
وبالفارسية : (ازدوست وخويش خود).
{شَيْـاًا} ؛ أي : شيئاً من الإغناء والإجزاء على أن شيئاً واقع موقع المصدر وتنكيره للتقليل.
ويجوز أن يكون منصوباً على المفعول به على أن يكون لا يغني بمعنى لا يدفع بعضهم عن بعض شيئاً من عذاب الله ولا يبعد.
فإن الإغناء بمعنى الدفع وإبعاد المكروه.
وبالفارسية : (جيزى را از عذاب مايا سود نرسد كس كسى راهيج جيز).
وتنكير مولى في الموضعين للإبهام ، فإن المولى مشترك بين معان كثيرة يطلق على المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب كابن العم ونحوه.
والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك ، وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه ، والمحب والتابع والصهر.
كما في "القاموس" : وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ومولاه ، فواحد من هؤلاء ؛ أي واحد كان لا يغني عن مولاه ؛ أي مولى كان شيئاً من الإغناء ؛ أي : إغناء قليلاً ، وإذا لم ينفع بعض الموالي بعضاً ولم يغن عنه شيئاً من العذاب بشفاعته كان عدم حصول ذلك ممن سواهم أولى.
وهذا في حق الكفار يقال : أغنى عنه كذا إذا كفاه.
والإغناء بالفارسية : (بى نياز كردانيدن وواداشتن
424
كسى را از كسى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} : الضمير لمولى الأول باعتبار المعنى : لأنه عام لوقوعه نكرة في سياق النفي ، فكأنه جمع ؛ أي : لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب ولا يملكون أن يشفع لهم غيرهم.
{إِلا مَن رَّحِمَ اللَّهُ} بالعفو عنه وقبول الشفاعة في حقه ، وهم المؤمنون ومحله الرفع على البدل من الواو كما هو المختار ، أو النصب على الاستثناء.
{إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا ينصر من أراد تعذيبه كالكفار.
{الرَّحِيمُ} : لمن أراد أن يرحمه كالمؤمنين.
قال سهل : من رحم الله عليه في السوابق ، فأدركته في العاقبة بركة تلك الرحمة حيث جعل المؤمنين بعضهم في بعض شفيعاً.
وفي الآية إشارة إلى أن يوم القيامة يفصل بين أرباب الصفاء ، وأصحاب الصدأ ولا يغني مولى عن مولى ولا ناصر عن ناصر ، ولا حميم عن حميم ، ولا نسيب عن نسيب ، ولا شيخ عن مريد شيئاً من الصفاء إذ لم يحصلوا ها هنا في دار العمل ، ولا ينظرون في تحصيل الصفاء ، ودفع الصدأ إلا من رحم الله عليه بتوفيق تصفية القلب في الدنيا ، كما قال تعالى : {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 89) ، إنه هو العزيز يعز من يشاء بصفاء القلب الرحيم ، يرحم من يشاء بالتجلي لمرآة قلبه.
حكي : أنه كان أخوان فمات أحدهما فرآه الآخر في المنام ، وسأله عن حاله ، فقال : يا أخي من كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى ، فكان هذا سبب توبته وإنابته حتى كان من الصلحاء الكاملين.
واعلم أن المقصود من العلم والعمل تزكية النفس ، فإذا حصلت هذه التزكية كان ثواب العمل الصالح كاللباس الفاخر على البدن الحسن الناضر ، وإذا لم تحصل كان كالزينة على الجسم القبيح ، فمن حسن ذاته في الدنيا بإزالة قبح نفسه جاء في القيامة حسناً بالحسن الذاتي والعارضي ، وإلا فبالحسن العارضي فقط ، وهو ثواب العمل ، فاعرف هذا ، فلا بد من الاجتهاد والوقت باققٍ.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
(8/328)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابا هريره را رضي الله عنه فرمودكه بر طريق أنهاش كه جون مردم بترسند ايشانرا هيج ترسى نباشد وجون مردم از آتش امان خواهند ايشان خود آمن باشند ابو هريرة كفت يا رسول الله آنها كدام اند صفت وحليت ايشان بامن بيان فرماى تا ايشانرا بشناسم مرمودكه قومى از امت من در آخر الزمان ايشانرا روز قيامت در محشر انبياء حشر كنند جون مردم بديشان نظر كنند ايشانرا بيغمبران بندارند از غايت علو مرتبت ومنزلت ايشان ناكاه من ايشانرا وكويم امت من امت من وخلايق بدانندكه ايشان بيغمبران نيستند بس مانند برق وباد بكذرند وجشمهاى مردم از انوار ايشان خيره شود ابو هريره كفت يا رسول الله مرا بعمل ايشان فرماى باشدكه بديشان ملحق شوم كفت صلى الله عليه وسلّم اى ابا هريره اين قوم طريق دشوار اختيار كردند تابدرجه انبيا رسيدند حق تعالى ايشانرا بطعام وشراب سير كردانيد وايشان كرسنكى وتشنكى اختيار كردند ولباس براى بوشيدن داد ايشان برهنكى كزبدند همه باميد رحمت ترك حلال كردند از خوف حساب بابدن خود دردنيا بودند ولكن بوى مشغول انكشتند ملائكة از اطاعت ايشان تعجب نمودند فطوبى لهم فطوبى لهم دوست ميدارم كه حق تعالى ميان من وايشان جمع كند ازان رسول الله عليه السلام كريه كرد در شوق ايشان وفرمودكه جون حق تعالى خواهد كه باهل زمين عقوبتى فرستد بديشان نظر كند عذاب را از اهل زمين بازكرداند
425
اى ابا هريره برتوبادكه طريقه ايشانرا رعايت كنى هركه طريقة انشانرا مخالفت كند درشدت حساب زحمت بيند.
روشن دلى كه لذت تجريد بافتست.
بيرون رود وخويش جو بيداشود كسى.
مى بايدش بخون جكر خورد غولها.
تا ازغبار جشم مصفا شود كسى).
{إِلا مَن رَّحِمَ اللَّه إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ * كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} .
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} : (بدرستى كه درخت زقوم يعني ميوة آن).
قال في "القاموس" : هي شجرة بجهنم وطعام أهل النار ، وفي "عين المعاني" ، شجرة في أسفل النار مرتفعة إلى أعلاها وما من دركة إلا وفيها غصن منها.
انتهى.
فتكون هي في الأسفل نظير طوبى في الأعلى.
وفي "كشف الأسرار" : شجرة الزقوم على صورة شجر الدنيا لكنها من النار والزقوم ثمرها ، وهو ما أكل بكره شديد ، وقيل : طعام ثقيل ، فهو زقوم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي "المفردات" : شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار ومنه استعير زقم فلان وتزقم إذا ابتلع شيئاً كريهاً.
يقول الفقير : وعلى تقدير أن يكون الزقوم بلسان البربر ، وهم : جيل بالغرب وأمة أخرى بين الحبش والزنج بمعنى الزبد والتمر ، فلعله وارد على سبيل التهكم كالتبشير في قوله : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) ؛ لأنه تعالى وصف شجرة الزقوم بأنها تخرج في أصل الجحيم ، كما مر في الصافات فكيف يكون زبداً ، وفي "إنسان العيون" لا تسلط لجهنم على شجرة الزقوم ، فإن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها ، كالسمندل ، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها.
وقد قال ابن سلام رضي الله عنه أنها تحيا باللهب ، كما تحيا شجرة الدنيا بالمطر ، وثمرة تلك الشجرة مر له زفرة.
انتهى.
يقول الفقير : لا حاجة إلى هذا البيان ، فإنه كما يشابه ثمر الجنة وشجرها ثمر الدنيا وشجرها وإن وقع الاشتراك في الاسم ، وكذا ثمر النار وشجرها ، فالشجرية لا تنافي النارية ، فكيف تحترق ، فما أصله النار ، فهو ناري.
والناري لا يحترق بالنار ، ولذا قيل : في إبليس أنه يعذب بالزمهرير ، وإن أمكن الاحتراق بحسب التركيب.
وقد رأيت في جزيرة قبرس حجراً يقال له : حجر القطن يدق ويطرق فينعم حتى يكون كالقطن ، فيتخذ منه المنديل فحجريته لا تنافي القطنية.
وقد مر في يس : أن الله أخرج من الشجر الأخضر ناراً.
{طَعَامُ الاثِيمِ} ؛ أي : الكثير الإثم.
والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه يعني : أنهم أجمعوا على أن المراد بقوله : {لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـاًا} هم : الكفار.
وبقوله : {إِلا مَن رَّحِمَ اللَّهُ} المؤمنون.
وكذا دل عليه قوله : فيما سيأتي أن هذا ما كنتم به تمترون.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه لا ينطلق لسانه ، فيقول : طعام اليتيم ، فقال عليه السلام : "قل طعام الفاجر" ، كما في "عين المعاني".
(8/329)
وقال في "الكواشي" عن أبي الدرداء : أنه أقرأ إنساناً طعام الأثيم ، فقال : طعام اليتيم مراراً ، فقال له : قل طعام الفاجر يا هذا.
وفي هذا دليل لمن يجوز إبدال كلمة بكلمة إذا أدت معناها ولأبي حنيفة في تجويز القراءة بالفارسية : إذا أدت المعنى بكماله قالوا : وهذه إجازة كلا إجازة ؛ لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن المعجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعنى ما لا يستقل بأدائه لغة ما قال الزمخشري أبو حنيفة ما كان يحسن الفارسية ، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر ، وعن أبي الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في عدم جواز القراءة بالفارسية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
إلى هناك كلام "الكواشي".
وقال في "فتح الرحمن" : يجوز عند أبي حنيفة أن يقرأ بالفارسية إذا أدت المعاني بكمالها من غير أن يخرم منها شيئاً.
وعنه : لا تجوز القراءة بالفارسية
426
إلا لعاجز عن العربية ، وهو قول صاحبيه وعليه الاعتماد.
وعند الثلاثة لا يجوز بغير العربية.
انتهى.
ويروى رجوعه إلى قولهما في الأصح ، كما في الفقه والفتوى على قولهما ، كما في "عيون الحقائق".
وجاء من أحسن أن يتكلم بالعربية ، فلا يتكلم بالفارسية.
فإنه يورث النفاق ، كما في "إنسان العيون".
يقول الفقير : بطلان القراءة بالفارسية ظاهر على تقدير أن يكون كل من النظم.
والمعنى : ركناً للقرآن ، كما عليه الجمهور ولعل الإمام لم يجعل النظم ركناً لازماً في الصلاة عند العجز ، فأقام العبارة الفارسية مقام النظم ، كما أن بعضهم لم يجعل الإقرار باللسان ركناً من الإيمان ، بل شرطاً لازماً لإجراء أحكام المسلمين عليه ، وإن اعترض بأن تحت كل حرف من القرآن ما لا تفي به العبارة من الإشارات ، فلا تقوم لغة مقامه ، فيرد بأن علماء أصول الحديث جوزوا اختصارالحديث للعالم لا للجاهل مع أنه عليه السلام أوتي جوامع الكلم ، وفي كل كلمة من كلامه أسرار ورموز ، فاعرف هذا.
{كَالْمُهْلِ} : خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هو كالمهل عن النبي عليه السلام في تفسير المهل كعكر الزيت ، وهو درديه فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه وشبه بالمهل في كونه غليظاً أسود.
وقال بعضهم : المهل ما يمهل في النار حتى يذوب كالحديد والرصاص والصفر ونحوها وشبه الطعام بالنحاس ، أو الصفر المذاب في الذوب ونهاية الحرارة ، لا في الغليان وإنما يغلي ما شبه به.
{يَغْلِى فِى الْبُطُونِ} ؛ أي : حال كون ذلك الطعام يغلي في بطون الكفار.
{كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} غلياناً كغليان الماء الحار الذي انتهى حره وغليانه لشدة حرارته وكراهية المعدة إياه.
قال بعضهم : (باره باره كند رودهاى ايشان وبكذارد امعا واحشارا).
وفي الحديث : "أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم ، فكيف بمن هو طعامه ، وليس له طعام غيره ، والغلي والغليان التحرك والارتفاع.
وبالفارسية : (جوشيدن).
قال في "المفردات" : الغلي والغليان ، يقال : في القدر إذا طفحت ؛ أي : امتلأت وارتفعت.
ومنه استعير ما في الآية وبه شبه غليان الغضب والحرب.
وفي الآية إشارة إلى أن الأثيم ، وهو الذي عبد صنم الهوى وغرس شجرة الحرص ، فأثمرت الشهوات النفسانية اللذيذة على مذاق النفس في الدنيا يكون طعامه في الآخرة الزقوم الذي مر وصفه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
نفس رابد خوبناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان سير كاهل ميكند مذدوررا
{كَغَلْىِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِه مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ} .
{خُذُوهُ} على إرادة القول والخطاب للزبانية ؛ أي : يقال : للزبانية يوم القيامة خذوا الأثيم ، فلا يأخذونه إلا بالنواصي والأقدام.
{فَاعْتِلُوهُ} ؛ أي : جروه بالعنف والقهر ، فإن العتل الأخذ بمجامع الثوب ونحوه وجره بقهر وعنف.
قال في "تاج المصادر" : العتل : (كشيدن) بعنف.
وفي "القاموس" : عتله يعتله ويعتله ، فالعتل جره عنيفاً ، فحمله ، وهو معتل كمنبر قوي على ذلك.
{إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} ؛ أي : وسطها ومعظمها الذي تستوي المسافة إليه من جميع جوانبه.
وبالفارسية : (وبميانه دوزخ).
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِه مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} .
صب الماء : إراقته من أعلى ، والعذاب ليس بمصبوب ، لأنه ليس من الأجسام المائعة ، فكان الأصل يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، فقيل : يصب من فوق رؤوسهم العذاب ، وهو الحميم للمبالغة ، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.
وبالفارسية : آنكاه بر بزيد بر زبرسراو از عذاب آب كرم تاتمام بيرون بدن
427
او بريختن آب معذب شود جنانجه درون آو از زقوم معذبست.
(8/330)
يروى : أن الكافر إذا دخل النار يطعم الزقوم ، ثم إن خازن النار يضربه على رأسه بمقمعة يسيل منها دماغه على جسده ثم يصب الحميم فوق رأسه ، فينفذ إلى جوفه ، فيقطع الأمعاء والإحشاء ويمرق من قدميه.
وفي الآية إشارة إلى عذاب الحسرة والحرمان وحرقة الهجران في قعر النيران.
{ذُقْ} هذا العذاب المذل المهين.
{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} في نظرك {الْكَرِيمُ} عند قومك ؛ أي : وقولوا له ذلك استهزاء به ، وتقريعاً له على ما كان يزعمه من أنه عزيز كريم ، فمعناه : الذليل المهان.
روي : أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما بين جبلي مكة أعز وأكرم مني ، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعل بي شيئاً" ، فوردت الآية وعيداً له ولأمثاله عجباً كيف أقيم بالله تعظيماً له ، ثم نفى الاستطاعة عنه مع أن الرسول عليه السلام كان لا يدعو رباً سواه ، فالكلام المذكور من حيرة الكفر وحكم الجهل وتعصب النفس ، كما قالوا : أمطر علينا حجارة من السماء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي لفظ الذوق إشارة إلى أنه كان معذباً في الدنيا ، ولكن لما كان في نوم الغفلة وكثافة الحجاب ، لم يكن ليذوق ألم العذاب ، فلما مات انتبه وذاق ألم ما ظلم به نفسه.
{إِنَّ هَـاذَا} العذاب {مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ} تشكون في الدنيا أو تمارون فيه ؛ أي : تجادلون بالباطل.
وبالفارسية : (شك مى آورديد تا اكنون معاينه بديديد).
والجمع باعتبار المعنى ؛ لأن المراد جنس الأثيم ، ثم هذا الامتراء إنما كان بوساوس الشيطان ، وهو أجس النفس ، فلا بد من دفعهما والاتصاف بصفة القلب ، وهو اليقين.
ولذا قال عليه السلام ويل للشاكين في الله ، وهم الذين لم يؤمنوا به تعالى يقيناً ، ومن ذلك إنكار بعض أحكامه وأوامره.
وكذا الإصرار على المعاصي بحيث لا يبالي بها ، فلو ترك الصلاة متعمداً ، ولم ينو القضاء ولم يخف عقاب الله ، فإنه يكفر ؛ لأن الأمن كفر.
وفي المثنوي :
بود كبرى در زمان بايزيد
كفت اورا يك مسلمان سعيد
كه جه باشد كرتو اسلام أورى
تابيابى صد نجات وسرورى
كفت اين ايمان اكرهست اي
يد آنكه وارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن
كان فزون آمد زكو ششهاى جان
كرجه درايمان ودين ناموقنم
ليك در ايمان او بس مؤمنم
مؤمن ايمان اويم درنهان
كرجه مهرم هست محكم دردهان
باز ايمان كرخود ايمان شماست
نى بدان ميلستم ونى مشتهاست
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود
جون شمارا ديدزان فاتر شود
زانكه نامى بيند ومغيش نى
جون بيابانرا مفازه كفتنى
وفيه إشارة إلى أن المريد إذا كان قوي الإيمان والعلم والمعرفة كان عمله واجتهاده في الظاهر بقدر ذلك وقس عليه حال الضعيف والشاك والمتردد نسأل الله سبحانه أن يسقينا من كأس قوة اليقين إنه هو المفيض المعين.
{إِنَّ هَـاذَا مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ} .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} ؛ أي : عن الكفر والمعاصي ، وهم المؤمنون المطيعون.
{فِى مَقَامٍ} في موضع قيام.
والمراد : المكان على الإطلاق ، فإنه من الخاص الذي شاع استعماله في معنى العموم ، يعني : أنه عام ومستعمل في جميع الأمكنة حتى قيل لموضع القعود مقام ، وإن لم يقم فيه أصلاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{أَمِينٌ} يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه على أن وصف المقام بالأمن من المجاز في الإسناد ، كما في قولهم : جرى النهر فالأمن ضد الخوف والأمين ، بمعنى : ذي الأمن.
وأشار الزمخشري إلى وجه آخر ، وهو أن الأمين من
428
الأمانة التي هي ضد الخيانة ، وهي في الحقيقة صفة صاحب المكان ، لكن وصف به المكان بطريق الاستعارة التخييلية ؛ كأن المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله بما يلقي فيه من المكاره ، أو كناية ؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل فقد أثبت له لقولهم : المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه كما في "بحر العلوم".
وفي الآية إشارة إلى أن من اتقى الله عما سواه يكون مقامه مقام الوحدة آمناً من خوف الاثنينية ، وإلى أن من كان في الدنيا على خوف العذاب ووجل الفراق كان في الآخرة على أمن وأمان.
وقال بعضهم : المقام الأمين مجالسة الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء.
يقول الفقير : أما مجالستهم يوم الحشر ، فظاهرة ؛ لأن فيها الأمن من الوقوع في العذاب إذ هم شفعاء عند الله ، وأما مجالستهم في الدنيا فلأن فيها الأمن من الشقاوة إذ لا يشقى بهم جليسهم.
وفي الآية إشارة أخرى لائحة للبال ، وهي أن المقام الأمين هو مقام القلب ، وهي جنة الوصلة ، ومن دخله كان آمناً من شر الوسواس الخناس ؛ لأنه لا يدخل الكعبة التي هي إشارة إلى مقام الذات ، كما لا يقدر على الوسوسة حال السجدة التي هي إشارة إلى الفناء في الذات الأحدية.
قال أهل السنة : كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق ، فيدخل الفساق في هذا الوعد.
(8/331)
يقول الفقير : الظاهر أن المطلق مصروف على الكامل بقرينة أن المقام مقام الامتنان والكامل هو المؤمن المطيع كما أشرنا إليه في عنوان الآية ، نعم يدخل العصاة فيه انتهاء وتبعية لا ابتداء وأصالة ، كما يدل عليه الوعيد الوارد في حقهم ، وإلا لاستوى المطيع والعاصي.
وقد قال تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28) عفا الله عنا وعنكم أجمعين.
قال الشيخ سعدي :
كسى را كه باخواجة تست جنك
بدستش جرا مى دهي جوب وسنك
مع آخر كه باشد كه خوانش نهند
بفرماى تا استخوانش نهند
{فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} : بدل من مقام جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب.
والمراد بالعيون : الأنهار الجارية والتنكير فيهما للتعظيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} : خبر ثاننٍ.
وإستبرق بقطع الهمزة.
وقرأ الخليل بوصلها.
قال في "كشف الأسرار" : السندس : ما رق من الحرير يجري مجرى الشعار لهم ، وهو اللين من الدثار في المعتاد والإستبرق ما غلظ منه ، وصفق نسجه يجري مجرى الدثار ، وهو أرفع نوع من أنواع الحرير ، والحرير نوعان : نوع كلما كان أرق أنفس ، ونوع كلما كان أرزن بكثرة الإبريسم كان أنفس.
يقول الفقير : يحتمل عندي أن يكون السندس لباس المقربين.
والإستبرق لباس الأبرار يدل عليه أن شراب المقربين هو التسنيم الخالص وشراب الأبرار هو الرحيق الممزوج به.
وذلك أن المقربين أهل الذات والأبرار أهل الصفات ، فكما أن الذات أرق من الصفات ، فكذا لباس أهل الذات وشرابهم أرق وأصفى من لباس أهل الصفات وشرابهم ، ثم لإن الإستبرق من كلام العجم عرب بالقاف.
قال في "القاموس" : الإستبرق الديباج الغليظ معرب استروه وتصغيره أبيرق وستبر بالتاء والطاء ، بمعنى : الغليظ.
بالفارسية.
قال الجواليقي في "المعربات" : نقل الإستبرق من العجمية إلى العربية ، فلو حقر ، أو كسر لكان في التحقير أبيرق ، وبالتكسير أباريق بحذف السين والتاء جميعاً.
انتهى.
والتعريب : جعل العجمي بحيث يوافق اللفظ العربي بتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب.
وجاز وقوع اللفظ العجمي في القرآن العربي ؛ لأنه إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً إذا
429
كان متصرفاً تصرف اللفظ العربي من غير فرق ، فمن قال القرآن أعجمي يكفر ؛ لأنه معارضة لقوله تعالى قرآناً عربياً ، وإذا قال : فيه كلمة أعجمية ، ففي أمره نظر ؛ لأنه إن أراد وقوع الأعجمي فيه بتعريب ، فصحيح وإن بلا تعريب فغلط.
{مُّتَقَـابِلِينَ} ؛ أي : حال كونهم متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض.
ومعنى متقابلين متواجهين لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم فهم أتم للأنس.
(ودر تفسير سور آبادى أورده كه اين مقابله روز مهمانى باشد در دار الجلال كه حق تعالى همه مؤمنا نرا بر سريك خوان بنشاند وهمه رويهاى يكديكر بينند).
وقال بعضهم : متقابلين بالمحبة غير متدابرين بالبغض والحسد ؛ لأن الله ينزع من صدورهم الغل وقت دخولهم الجنة.
وهذا التقابل من أوصاف أهل الله في الدارين فطوبى لهم حيث أنهم في الجنة وهم في الدنيا.
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ * كَذَالِكَ وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ ءَامِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{كَذَالِكَ} ؛ أي : الأمر كذلك أو أثبناهم إثابة مثل ذلك.
{وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ} ؛ أي : قرناهم بهن.
وبالفارسية : (وقرين مى سازيم متقيانرا بزنان سفيد روى كشاده جشم).
فيتمتعون تارة بمؤانسة الإخوان ومقابلتهم وتارة بملاعبة النسوان من الحور العين ومزاوجتهن ، فليس المعنى حصول عقد التزويج بينهم وبين الحور ، فإن التزويج بمعنى العقد لا يتعدى بالباء ، كما جاء في التنزيل ، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا} (الأحزاب : 37) ، وإذا لم يكن المراد عقد التزويج.
يقال : زوجناك بها بمعنى كنت فرداً فقرناك بها ؛ أي : جعلناك شفعاً بها ، والله تعالى جعلهم اثنين ذكراً وأنثى.
وقال في "المفردات" : لم يجىء في القرآن زوجناهم حوراً ، كما يقال : زوجته بامرأة تنبيهاً على أن ذلك لم يكن على حسب التعارف فيما بيننا من المناكح.
قال سعدي المفتي : ثم لا يكون العقد في الجنة ؛ لأن فائدته الحل.
والجنة ليست بدار كلفة من تحريم ، أو تحليل ، انتهى.
(8/332)
يقول الفقير : يرد عليه أن الله تعالى جعل مهر حواء في الجنة عشر صلوات على نبينا عليه السلام ، وهو لا يتعين بدون العقد إلا أن يقال : ذلك العقد إن صح ليس كالعقد المعهود ، وإنما المقصود منه تعظيم نبينا عليه السلام وتعريفه لا التحليل وجعل عنوان الأمر ماهو في صورة المهر ليسري في أنكحة أولادهما.
والظاهر أن المعاملة فيما بين آدم وحواء عليهما السلام في الجنة كانت من قبيل المؤانسة ، ولم يكن بينهما مجامعة ، كما في الدنيا ، وإن ذهب البعض إلى القربان في الجنة مستدلاً بقول قابيل : أنا من أولاد الجنة ، وذلك مطعون.
قال الشيخ الشهير بافتاده البرسوي : الشريعة لا ترتفع أبداً حتى أن بعض الأحكام يجري في الآخرة أيضاً مع أنها ليست دار التكليف ألا ترى أن كل واحد من أهل الجنة لا يتصرف إلا فيما عين له من قبل ، ولذلك قال الله تعالى : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} (الرحمن : 72) ، ولأهل الجنة بيوت الضيافة يعملون فيها للضيافة للأحباب ، ويتنعمون.
ولكن أهليهم لا يظهرون لغير المحارم كما في "واقعات" الهدائي قدس سره.
ثم الحور جميع الحوراء ، وهي البيضاء والعين جميع العيناء ، وهي العظيمة العينين.
فالحور هي النساء النقيات البيض يحار فيهن الطرف لبياضهن وصفاء لونهن واسعة الأعين حسانها أو الشديدات بياض الأعين الشديدات سوادها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال في "القاموس" : الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقها وترق جفونها ويبيض ما حواليها ، أو شدة بياضها وسوادها في شدة بياض الجسد أو اسوداد العين كلها مثل الظباء.
ولا يكون في بني آدم ، بل يستعار لهم.
انتهى.
وفي "المفردات" : قليل ظهور
430
قليل من البياض في العين من بين السواد وذلك نهاية الحسن من البين.
واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرهن ، فقال الحسن : أنهن من نساء الدنيا ينشئهن الله خلقاً آخر.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : أنهن لسن من نساء الدنيا.
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ} ؛ أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان.
وذلك لا يجتمع في الدنيا ، يعني : أن فواكه الدنيا لا توجد في كل مكان ولها أزمنة مخصوصة لا تستقدمها ولا تستأخرها {ءَامِنِينَ} أي : حال كونهم آمنين من كل ما يسؤوهم أياً كان خصوصاً الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار وحجاب القلب ، كما يكون في الدنيا ، فيكونون في الصورة مشغولين بالحور العين وبما يشتهون من النعيم ، وبالقلوب متوجهين إلى الحضرة مشاهدين لها.
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا} ؛ أي : في الجنات.
{الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى} الموت والموتة : مصدران من فعل واحد كالنفخ والنفخة إلا أن الموتة أخص من الموت ؛ لأن الموتة للوحدة ، والموت للجنس ، فيكون بعضاً من جنس الموت ، وهو فرد واحد ونفي الوحدة أبلغ من نفي الجنس ، فكانت أقوى وأنفى في نفي الموت عن أنفسهم ؛ كأنه قال : لا يذوقون فيها شيئاً من الموت.
يعني : أقل ما ينطلق عليه اسم الموت ، كما في "بحر العلوم)" ، والاستثناء منقطع ؛ أي : لا يذوقون الموت في الجنة لكن الموتة الأولى قد ذاقوها قبل دخول الجنة.
يعني : (مرك اول كه دردنيا جشيدند مؤمنا نرامرك آنست).
ثم إذا بعثوا ودخلوا الجنة يستمرون على الحياة : (جون معهود نزديك مردمان آنست كه هر زندكى را مرك دربى است حق تعالى خبرا دادكه حيات بهشت را مرك نيست بلكه حيات اوجاود انست).
فعيشتهم المرضية مقارنة للحياة الأبدية بخلاف أهل النار ، فإنه لا عيشة لهم ، وكذا لا يموتون فيها ، ولا يحيون.
ويقال : ليس في الجنة عشرة أشياء ليس فيها هرم ولا نوم ولا موت ولا خوف ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا حر ولا برد ولا خروج.
ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن المراد بيان استحالة ذوق الموت فيها على الإطلاق ؛ كأنه قيل : لا يذوقون فيها الموتة إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل ، وذوق الماضي غير ممكن في المستقبل لا سيما في الجنة التي هي دار الحياة ، فهذا من باب التعليق بالمحال ، كقوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء : 22).
والمقصود أنهم لا يذوقون فيها الموت البتة ، وكذا لا ينكحون منكوحات آبائهم قطعاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وقيل : إلا بمعنى بعد أو بمعنى سوى ؛ فإن قلت : هذا دليل على نفي الحياة والموت في القبر.
قلت : أراد به جنس الموت المتعارف المعهود فيما بين الخلق ، فإن الموت المعهود لا يعرى عن الغصص ، والموت بعد الإحياء في القبر يكون أخف من الموت المعهود ، كما في "الأسئلة المقحمة".
يقول الفقير : دلت الآية على أن الموت وجودي ؛ لأنه تعلق به الذوق ، وهو الإحساس به إحساس الذائق المطعوم.
والأكثرون على أنه عدمي ؛ أي : معدوم في الخارج غير قائم بالميت ؛ لأن المعدوم لا يحتاج إلى المحل ، وسيجيء تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
(8/333)
وفي الآية إشارة إلى أنهم لا يذوقون فيها موت النفس بسيف المجاهدة ، وقمع الهوى وترك الشهوات إلا الموتة الأولى في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر ، وكما أن السيف لا يجري على المعدوم ، فكذا على النفس الفانية إذ لا يموت الإنسان مرتين ، وأيضاً : إن الموتة الأولى هي العدم قبل الوجود فبعد الوجود لا يذوق أحد الموت.
والعدم المحض ؛
431
لأن الله تعالى قد وهب له الوجود ، فلا يرجع عن هبته ؛ فإنه غني وما ورد من أن الحيوانات العجم تصير تراباً يوم القيامة حتى يتمنى الكافر أن يكون مثلها ، فذلك ليس بإعدام محض ، بل إلحاق بتراب أرض الآخرة.
ويجوز أن يقال : أن وجودات الأشياء الخسيسة لا اعتبار لها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} : الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره ؛ أي : حفظهم من النار وصرفها عنهم.
وبالفارسية : (ونكاه ميدارد حق تعالى بهشتيانرا واز ايشان دفع ميكند عذاب دوزخ).
وفيه إشارة إلى عذاب البعد وجحيم الهجران.
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِّن رَّبِّكَا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} .
{فَضْلا مِّن رَّبِّكَ} منصوب بمقدر على المصدرية أو الحالية ؛ أي : أعطي المتقون ما ذكر من نعيم الجنة والنجاة من عذاب الجحيم عطاء وتفضلاً منه تعالى لا جزاء للأعمال المعلولة واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار ، والفوز بالجنة ونعيمها ، فإنما يحصل بفضل الله وإحسانه ؛ وأنه لا يجب عليه شيء من ذلك ، ففي إثبات الفضل نفي الاستحقاق ، فجميع الكرامات فضل منه على المتقين حيث اختارهم بها في الأول وأخرجها من علل الاكتساب ، فإن الاكتساب أيضاً ، فضل إذ لو لم يخلق القدرة على كسب الكمالات وتحصيل الكرامات لما وجد العبد إليه سبيلاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي الحديث : "لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة " ؛ أي : ولا أنا أدخل الجنة بعمل إلا برحمة الله.
وليس المراد به توهين أمر العمل ، بل نفي الاغترار به وبيان أنه إنما يتم بفضل الله ، فإن ابن الملك في الحديث دلالة على مذهب أهل السنة وحجة على المعتزلة حيث اعتقدوا أن دخولها إنما يحصل بالعمل ، وأما قوله تعالى : {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل : 32) ونظائره ، فلا ينافي الحديث ؛ لأن الآية تدل على سببية العمل والمنفي في الحديث عليته وإيجابه ، انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأظهر في مواقع النجوم : الدخول برحمة الله وقسمة الدرجات بالأعمال والخلود بالنيات ، فهذه ثلاثة مقامات ، وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله وطبقات عذابها بالأعمال وخلودهم بالنيات ، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد المخالفة ، كما كانت في السعادة الموافقة ، وكذلك من دخل من العاصين النار لولا المخالفة لما عذبهم الله شرعاً نسأل الله لنا وللمسلمين أن يستعملنا بصالح الأعمال ويرزقنا الحياء منه تعالى.
{ذَالِكَ} : (آن صرف عذاب وحيات ابدى دربهشت).
{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه ، إذ هو خالص من جميع المكاره ، ونيل لكل المطالب والفوز الظفر مع حصول السلامة ، كما في "المفردات".
يقول الفقير : لما كان الموت وسيلة لهذا الفوز وباباً له ورد الموت تحفة المؤمن.
والموت وإن كان من وجه هلكاً ، فمن وجه فوز ، ولذلك قيل : ما أحد إلا والموت خير له أما المؤمن ، فإنما كان الموت خيراً له ؛ لأنه يتخلص به من السجن ويصل إلى النعيم المقيم في روضات الجنات ، وأما المعاصي فلأن الإمهال في الدنيا سبب لازدياد المعاصي والإثم ، كما قال تعالى : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (آل عمران : 178) ، وهو سبب لازدياد العذاب.
قال الشيخ سعدي :
نكو كفت لقمان كه نازيستن
به از سالها بر خطا زيستن
هم از با مدادان در كلبه بست
به از سود وسرماية دادن زدست
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ} : فذلكة للسورة الكريمة ونتيجة لها ، واللسان آلة التكلم في الأصل ، واستعير هنا لمعنى اللغة ، كما في قوله عليه السلام : "لسان أهل الجاهلية
432
العربية".
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
والمعنى : إنما سهلنا الكتاب المبين حيث أنزلناه بلغتك.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} كي يفهمه قومك ويتذكروا ويعملوا بموجبه وإذا لم يفعلوا ذلك.
{فَارْتَقِبْ} فانتظر لما يحل بهم من المقادير ، فإن في رؤيتها عبرة للعارفين وموعظة للمتقين.
{إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} منتظرون لما يحل بك من الدوائر ، ولم يضرك ذلك ، فعن قريب يتحقق أملك وتخيب آمالهم.
(8/334)
يعني : (ازان تو نصرت هرزمان الهى خواهد بود وازان ايشان عذاب نامتناهى دوستان را هردم فتحى تازه وخصمان را هرزمان رنجى آبى اندازه.
تابعانرا وعده حسن المآب.
منكر انرا هيبت ذوقوا العذاب).
وفي "عين المعاني" : أو فارتقب الثواب ؛ فإنهم كالمرتقبين العقاب ؛ لأن المسيء ينتظر عاقبة الإساءة وعلى كلا التقديرين ، فمفعول الارتقاب محذوف في الموضعين.
وفي الآية فوائد منها : أنه تعالى بين تيسير القرآن.
والتيسير ضد التعسير.
وقد قال في آية أخرى {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} (المزمل : 5) ، فبينهما تعارض.
والجواب : هو ميسر باللسان وثقيل من حيث اشتماله على التكاليف الشاقة على المكلفين.
ولا شك أن التلاوة باللسان أخف من العمل ، ولهذا جاء في بعض اللطائف أنه مرض ابن لبعض العلماء ، فقيل له : اذبح قرباناً لعل الله يشفي ولدك ، فقال : بل أقرأ قرآناً ، فقال بعض العرفاء : إنما أختار القرآن ؛ لأنه في لسانه وأعرض عن القربان لكونه في جنانه ؛ لأن حب المال مركوز في القلب ، ففي إخراجه منه صعوبة.
ومنها : أنه تعالى قال بلسسانك ، فأشار إلى أنه لو أسمعهم كلامه بغير الواسطة لماتوا جميعاً لعدم تحملهم.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن وأنى لهم ذلك ، وهو كلام من لم يزل ولا يزال.
وقال ابن عطاء : يسر ذكره على لسان من شاء من عباده ، فلا يفتر عن ذكره بحال ، وأغلق باب الذكر على من شاء من عباده ، فلا يستطيع بحال أن يذكره.
ومنها : أن بعض المعتزلة استدل بقوله لعلهم يتذكرون على أنه أراد من لكل الإيمان ، ولم يرد من أحد الكفر وأجيب بأن الضمير في لعلهم إلى أقوام مخصوصين ، وهم المؤمنون في علم الله تعالى.
يقول الفقير : في هذا الجواب نظر ؛ لأن ما بعد الآية يخالفه ، فإنهم لو كانوا مؤمنين في علم الله لآمنوا ، ولما أمر عليه السلام بانتظار الهلاك في حقهم ، فالوجه أن يكون لعلهم يتذكرون علة بمعنى طلب أن يفهمه قومك ، فيتذكروا به ، أو لكي يتذكروا ويتعظوا به فيفوا بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وتفسيره بالإرادة ، كما فعله أهل الاعتزال خطأ ؛ لأن الإرادة تستلزم المراد لا محالة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
ومنها : أن انتظار الفرج عبادة على ما جاء في الحديث ؛ لأنه من الإيمان وجاء في فضيلة السورة الكريمة آثار صحيحة.
قال عليه السلام : "من قرأ {حم} الدخان ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له" ؛ أي : دخل في الصباح حال كونه مغفوراً له ، فأصبح فعل تام بمعنى دخل في الصباح ؛ لأنه لو جعل ناقصاً يكون المعنى حصل غفرانه وقت الصباح ، وليس المراد ذلك نعم لا يظهر المنع عن جعله بمعنى صار ، وعنه عليه السلام "من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك".
وهذان الحديثان رواهما أبو هريرة رضي الله عنه.
والأول أخرجه الترمذي ، وقال أبو أمامة : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "من قرأ {حم} {حم} ليلة الجمعة ، أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة" ، كما في "كشف الأسرار" و"بحر العلوم" ، وإسناد البناء إلى الله مجاز ؛ أي : يأمر الملائكة بأن يبنوا له في الجنة بثواب القراءة بيتاً عظيماً
433
عالياً من در وياقوت ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
يقول الفقير : لما كان أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ، وكان إحياء الليل الذي فيه ترك البيتوتة غالباً ، بمثل التلاوة جعل بناء البيت جزاء للقراءة الواقعة في الليلة المبنية على ترك البيتوتة ليكون الجزاء من جنس العمل وحمل النهار عليه ، فافهم جداً ، والله الموفق لمرضاته وتلاوة آياته وللعمل بحقائق بيناته ، وهو المعين لأهل عناياته.
تمت سورة الدخان بعون الملك المنان في خامس شعبان من الشهور المنتظمة في سلك سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
سورة الجاثية سبع أو ست وثلاثون آية مكية.
والاختلاف في {حم} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 400(8/335)
سورة الجاثية
جزء : 8 رقم الصفحة : 433
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{حم} ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ{حم} .
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالحاء إلى حياته ، وبالميم إلى مودته كائن ، قال بحياتي ومودتي لأوليائي لا شيء إليَّ أحب من لقاء أحبائي ولا أعز ولا أحب على أحبابي من لقائي.
وفي "عرائس البقلي" : الحاء يدل على أن في بحر حياته حارت الأرواح ، والميم تدل على أن في ميادين محبته هامت الأسرار.
يقول الفقير : الحاء إشارة إلى الحب الأزلي المتقدم.
ولذا قدمه ، والميم إشارة إلى المعرفة الأبدية المتأخرة ، ولذا أخره ، كما دل عليه قوله تعالى لداود عليه السلام : "كنت كنزاً مخفياً ، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" ، فإن المحبة في هذا الحديث القدسي متقدمة على المعرفة.
وذلك نزولاً وبالعكس عروجاً ، كما لا يخفى على أهل الذوق.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} ؛ أي : القرآن المشتمل على السور مطلقاً خصوصاً هذه السورة الجليلة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {مِنَ اللَّهِ} فدل على أنه ؛ أي : القرآن حق وصدق.
{الْعَزِيزُ} فدل على أنه معجز غالب غير مغلوب {الْحَكِيمُ} فدل على أنه مشتمل على حكم بالغة وعلى أنه يحكم في نفسه بنسخ ولا ينسخ ، فليس كما يزعم المبطلون من أنه شعراً أو كهانة ، أو تقول من عنده ممكن معارضته ، وأنه كأساطير الأولين مثل حديث رستم وإسنفديار وغيرهما ، فيجب أن يعرف قدره وأن يكون الإنسان مملوءاً به صدره أبو بكر شبلي قدس سره : (ببازار بغداد بركذشت باره كاغد ديدكه نام دوست بروى رقم بود ودرزير اقدام خلق افتاده شبلي جون آنرا ديد اضطرابي بردل واعضاى وى افتاد آن رقعة برداشت وببوسيد وآنرا معطر ومعنبر كرد وباخود داشت كاه برسينه نهادى ظلمت غفلت بزدودى وكاه برديده نهادى نور جشم بيفزودى تاآن روزكه بقصد بيت الله الحرام از بغداد بيرون آمد روى بباديه نهادآن رقعه دردست كرفته وآنرا بدرقه روزكار خود ساخته درباديه جوانى راديد فريد وغريب بى زاد وراحله از خاك بستر كرده واز سنك بالين ساخنه سرشك از جشم او روان شده وديده در هوا نهاده شبلي بر بالين وى نشت وآن كاغد بيش ديده او داشت كفت اى جوان برين عهد هستى جوان روى بكردانيد شبلي كفت انامكر اندرين سكرات وغمرات حال اين جوانرا تبديل خواهد شد جوان باز نكريست وكفت اى شبلى دائماً در غلطى آنجه تو دركاغد مى بينى وميخوانى مادر صحيفة دل مى بينيم
434
ومى خوانيم).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير :
سر عشق يار من مخفى بود درجان من
كس نداند سر جانم رابجز جانان من
{إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : في خلقهما وخلق ما فيهما من آثار القدرة كالكواكب والجبال والبحار ونحوها.
{لايَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} لشواهد الربوبية لأهل التصديق وأدلة الإلهية ، لأهل التوفيق خص المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بتلك الآيات والدلالات ، فإنهم يستدلون بالمخلوق على الخالق ، وبالمصنوع على الصانع فيوحدونه ، وهو أول الباب ولذا قدم الإيمان على الإيقان ، ولعل الوجه في طي ذكر المضاف هنا ، وهو الخلق وإثباته في الآية الآتية أن خلق السماوات والأرض ليس بمشهود للخلق ، وإن كانتا مخلوقتين ، كما قال تعالى : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الكهف : 51) بخلاف خلق الإنسان ، وما يلحق به من خلق سائر الدواب ، فإنه كما أنه يستدل بخلقه على خالقه ، فكذا يشاهد خلقه وتوالده ، فتكون المخلوقية فيه أظهر من الأول.
هكذا لاح بالبال والله أعلم بحقيقة الحال ، وهنا كلام آخر سيأتي.
{وَفِى خَلْقِكُمْ} ؛ أي : من نطفة ، ثم من علقة متقلبة في أطوار مخالفة إلى تمام الخلق.
{وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} عطف على المضاف دون المضاف إليه ، وإلا يكون عطفاً على بعض الكلمة إذ المضاف والمضاف إليه ، كشيء واحد كالجار والمجرور.
قال سعدي المفتي رحمه الله : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار منعه سيبويه وجمهور البصريين ، وأجازه الكوفيون ويونس والأخفش.
قال أبو حيان : واختاره الشلوبين ، وهو الصحيح ، وفصل بعض النحويين ، فأجاز العطف على المجرور بالإضافة دون الحرف.
انتهى.
والمعنى : وفي خلق ما ينشره الله تعالى ويفرقه من دابة ، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها وأشكالها وكثرة أنواعها وأضمر ذكر الله لقرب العهد منه بخلافه ، في وما أنزل الله كما سيأتي.
{ءَايَاتُ} بالرفع على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة المصدرة بأن {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؛ أي : من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه.
واليقين علم فوق المعرفة والدراية ونحوهما وبينه وبين الإيمان فروق كثيرة ، وحقيقة الإيمان هو اليقين حين باشر الأسرار بظهور الأنوار.
ألا ترى كيف سأل عليه السلام بقوله : "اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً ليس بعده كفر".
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير : لم يقل للموقنين كما قال للمؤمنين إشارة إلى قلة هذا الفريق بالنسبة إلى الأول ، وخص الإيقان بخلق الأنفس ؛ لأن ما قبله من الإيمان بالآفاق ، وهو ما خرج عنك ، وهذا من الإيمان بالأنفس ، وهو ما دخل فيك ، وهذا أخص درجات الإيمان ، فإنه إذا كمل الإيمان في مرتبة الآفاق بترقي العبد إلى المشاهدة في مرتبة الأنفس ، فكمال اليقين إنما هو في هذه المرتبة ، لا في تلك المرتبة ؛ لأن العلم بما دخل فيك أقوى منه ، بما خرج عنك إذ لا يكذبه شيء ، ولذا جاء العلم الضروري أشد من العلم الاستدلالي وضم خلق الدواب إلى خلق الإنسان لاشتراك الكل في معنى الجنس ، فافهم جداً واقنع.(8/336)
وفي "التأويلات النجمية" : إن العبد إذا أمعن نظره في حسن استعداده ظاهراً وباطناً وأنه خلق في أحسن تقويم ورأى استواء قده وقامته وحسن صورته وسيرته واستكمال عقله وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به في جوارحه وجوانحه ، ثم تفكر فيما عداه من الدواب وأجزائها وأعضائها وأوصافها وطباعها وقف على اختصاص وامتياز بني آدم بين البرية من الجن في الفهم والعقل والتمييز ، ثم
435
في الإيمان ، ومن الملائكة في حمل الأمانة ، وتعلم علم الأسماء ووجوه خصائص أهل الصفوة من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات.
وأنواع التجليات ، وما صار به الإنسان خليفة ومسجود الملائكة المقربين وعرف تخصيصهم بمناقبهم وانفرادهم بفضائلهم فاستيقن أن الله كرمهم ، وعلى كثير من المخلوقات فضلهم ، وأنهم محمولو العناية في بر الملك وبحر الملكوت.
قال الصائب :
اى رزانه فلك زوجودت عيان همه
در دامن تو حاصل دريا وكان همه
اسرار جار دفتر ومضمون نه كتاب
در نقطة تو ساخته ايزد نهان همه
قدوسيان بحكم خداوند امر ونهي
بيش توسركذاشته برآستان همه
روحانيان براى تماشاى جلوه ات
جون كودكان برآمده برآسمان همه
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} .
{إِنَّ فِى خَلْقِ} ؛ أي : وفي اختلافهما بتعاقبهما أو بتفاوتهما طولاً وقصراً أو بسواد الليل وبياض النهار.
{وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ} عطف على اختلاف {مِن رِّزْقِ} ؛ أي : مطر ، وهو سبب الرزق عبر عنه بذلك تنبيهاً على كونه آية من جهتي القدرة والرحمة.
{فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ} بأن أخرج منها أصناف الزروع والثمرات والنباتات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{بَعْدَ مَوْتِهَآ} يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وخلو أشجارها عن الثمار ، ففيه تشبيه للرطوبة الأرضية بالروح الحيواني في كونها مبدأ التوليد والتنمية ، وتشبيه زوالها بزوال الروح وموت الجسد ، وفيه إشارة إلى أرض القلوب ، فإنها عند استيلاء أوصاف البشرية عليها في أوان الولادة إلى حدّ البلوغ محرومة من غذاء تعيش به ، وهو أوامر الشريعة ونواهيها المودعة فيها نور الإيمان الذي هو حياة القلوب ، فعند البلوغ ينزل غيث الرحمة رزقاً لها ، فيحصل لها الحياة المعنوية.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ} تحويلها من جهة إلى أخرى ، وتبديلها من حال إلى حال إذ منها مشرقية ومغربية وجنوبية وشمالية ، وحارة وباردة ونافعة وضارة وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود ، إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة ، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر ، بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّا فَبِأَىِّ حَدِيثا بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِه يُؤْمِنُونَ} بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور.
والجملة معطوفة على ما قبلها وتنكير آيات في المواضع الثلاثة للتفخيم ، كماً وكيفاً والعقل ، يقال : للقوة المتهيئة لقبول العلم ، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ، ولهذا قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، فإن العقل عقلان : فمطبوع ومسموع.
ولا ينفع مطبوع.
إذ لم يك مسموع.
كما لا ينفع الشمس ، وضوء العين ممنوع.
وإلى الأول أشار النبي عليه السلام بقوله : "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" ، وإلى الثاني أشار بقوله : ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى ، أو يرده عن ردى وهذا العقل هو المعنى بقوله تعالى : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} (العنكبوت : 43) ، وكل موضع ذم الكفار بعدم العقل ، فإشارة إلى الثاني دون الأول ، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل ، فإشارة إلى الأول ، كما في "المفردات".
والمعنى : لقوم ينظرون بعيون عقولهم ، ويعتبرون ؛ لأنها دلائل واضحة على وجود صانعها وعظيم قدرته وبالغ حكمته وخص العقلاء بالذكر ؛ لأنه بالعقل يمكن الوقوف على الدلائل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير : لعل سر تخصيص العقل بهذا المقام وتأخيره عن الإيمان والإيقان
436
(8/337)
أن هذه الآية دائرة بين علوي وسفلي ، وما بينهما.
وللعقل مدخل تعقل كل ذلك ، واشتراك بين الإيمان والإيقان ، فافهم جداً.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى جعل العلوم الدينية كسبية مصححة بالدلائل وموهبية محققة بالشواهد ، فمن لم يستبصر بهما زلت قدمه عن الصراط المستقيم ووقع في عذاب الجحيم فاليوم في الحيرة والتقليد ، وفي الآخرة في الوعيد بالتخليد جعلنا الله وإياكم من أهل الدلائل والشواهد وعصمنا من عمى كل منكر جاحد إنه هو الفرد الواحد.
{تِلْكَ} الآيات القرآنية من أول السورة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {اللَّهِ إِلا} المنبهة على الآيات التكوينية.
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} بواسطة جبرائيل حال كوننا {بِالْحَقِّ} ؛ أي : محقين ، أو حال كون الآيات ملتبسة بالحق والصدق بعيدة من الباطل والكذب.
وقال في "بحر العلوم" نتلوها عليك حال عاملها معنى الإشارة ؛ كأنه قيل : نشير إليها متلوة عليك تلاوة متلبسة بالحق مقترنة بعيدة من الباطل واللعب والهزل ، كما قال وما هو بالهزل.
انتهى.
ويجوز أن تكون تلك إشارة إلى الدلائل المذكورة ؛ أي : تلك دلائله الواضحة على وجوده ووحدته وقدرته وعمله وحكمته نتلوها عليك ؛ أي : بتلاوة النظم الدال عليها.
{فَبِأَىِّ حَدِيث} من الأحاديث وخبر من الأخبار {بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِهِ} ؛ أي : بعد آيات الله وتقديم الاسم الجليل لتعظيمه ، كما في قولهم : أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد ، ونظيره قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (الأنفال : 41) ، فإن اسم الله هنا أيضاً ، مذكور بطريق التعظيم ، كما سبق.
فقول أبي حيان فيه إقحام الأسماء من غير ضرورة غير مفيد أو بعد حديث الله الذي هو القرآن حسبما نطق به قوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23) ، وهو المراد بآياته أيضاً ، ومناط العطف التغاير العنواني.
{يُؤْمِنُونَ} : يعني أن القرآن من بين الكتب السماوية معجزة باهرة فحيث لم يؤمنوا به ، فبأي كتاب بعده يؤمنون ؛ أي : لا يؤمنون بكتاب سواه.
وقيل : معناه القرآن آخر كتب الله ومحمد آخر رسله ، فإن لم يؤمنوا به ؛ فبأي كتاب يؤمنون ، ولا كتاب بعده ولا نبي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي الآية إشارة إلى أن الإيمان لا يمكن حصوله في القلب إلا بالله وكتابته في القلوب وبإراءته المؤمنين آياته ، وإلا فلا يحصل بالدلائل المنطقية ، ولا البراهين العقلية.
قال الإمام الرازي لحضرة الشيخ نجم الدين قدس سره : بم عرفت ربك؟ قال : بواردات ترد على القلوب ، فتعجز النفوس عن تكذيبها.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال : "من أعجب الخلق إيماناً؟ قالوا : الملائكة" قال عليه السلام : "وكيف لا تؤمن الملائكة ، وهم يعاينون الأمر ، قالوا : فالنبيون" قال عليه السلام : وكيف لا يؤمن النبيون ، والروح ينزل عليهم بالأمر من السماء" ، قالوا : فأصحابك؟ قال عليه السلام : "وكيف لا يؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً قوم يجيئون بعدي يؤمنون بي ، ولم يروني ويصدقونني ، ولم يروني ، فأولئك إخواني".
وفي الحديث إشارة إلى أن الإيمان المبني على الشواهد القلبية أعلى من الإيمان المبني على الدلائل الخارجية.
وفي الكل فضل بحسب مقامه ، فأهل الإيمان والتوحيد مطلقاً مغفور لهم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي عليه السلام أنه قال : يا أبا ذر جدد إيمانك بكرة وعشياً" ، فإن سريعاً يندرس الإسلام حتى لا يدري أحد ما الصلاة ، وما الصيام ، وأن واحداً منهم يقول : إن من كان قبلنا يقولون : لا إله إلا الله ، ويدخلون هذه البيوت ؛ أي : المساجد.
قيل :
437
يا رسول الله إذا لم يصلوا ، ولم يصوموا ، فما يغني عنهم قولهم : لا إله إلا الله.
قال عليه السلام : "بهذه الكلمة ينجون من نار جهنم.
وعن حذيفة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "مات رجل من بني إسرائيل من قوم موسى عليه السلام ، فإذا كان يوم القيامة يقول الله لملائكته ، انظروا هل تجدون لعبدي من حسنة يفوز بها اليوم ، فيقولون : إنا لا نجد سوى أن نقش خاتمة لا إله إلا الله ، فيقول الله تعالى : أدخلوا عبدي الجنة فقد غفرت له".
{وَيْلٌ} كلمة عذاب بالفارسية : (سختى عذاب).
{لِّكُلِّ أَفَّاكٍ} : كذاب.
والإفك : كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه.
{أَثِيمٍ} صيغة مبالغة بمعنى كثير الإثم كعليم بمعنى كثير العلم.
{رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لا إله إِلا هُوَ يُحْى وَيُمِيتُا رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
(8/338)
{يَسْمَعُ ءَايَـاتِ اللَّهِ} صفة أخرى لأفاك.
والمراد : آيات القرآن ؛ لأن السماع إنما يتعلق بها.
وكذا التلاوة في قوله : {تُتْلَى عَلَيْهِ} حال من آيات الله {ثُمَّ يُصِرُّ} ؛ أي : يقيم على كفره ويدوم عازماً عليه عاقداً.
قال في "المفردات" : الإصرار التعقد في الذنب والتشدد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله في الصرا ؛ أي : الشد والصرة ما يعقد فيها الدراهم {مُسْتَكْبِرًا} عن الإيمان بما سمعه من آيات الله والإذعان بما نطق به من الحق مزدرياً لها معجباً بما عنده من الأباطيل.
وكان النضر بن الحارث بن عبد الدار.
وقد قتل صبراً يشتري من أحاديث العجم مثل حديث رستم وإسفنديار ، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ، فوردت الآية ناعية عليه ، وعلى كل من يسير سيرته ما هم فيه من الشر والفساد ، وذلك التعميم لكلمة الإحاطة والشمول ، وكلمة ثم لاستبعاد الإصرار والاستكبار بعد سماع الآيات التي حقها أن تذعن لها القلوب وتخضع لها الرقاب ، فهي محمولة على المعنى المجازي ؛ لأنه الأليق بمرام المقام ، وإن كان يمكن الحمل على الحقيقة أيضاً ، واعتبار منتهى الإصرار.
{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} ؛ أي : بصير كأنه لم يسمعها ؛ أي : مشابهاً حاله حال من لم يسمعها ، فخفف وحذف ضمير الشأن.
والجملة من يصير تشبيهاً بغير السامع في عدم القبول والانتفاع.
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ؛ أي : أنذره على إصراره واستكباره بعذاب أليم ، فإن ذكر العذاب قرينة على الاستعارة استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر سرور في المخبر به للإنذار الذي هو صده بإدخال الإنذار في جنس البشارة على سبيل التهكم ، والاستهزاء هذا إذا أريد المعنى المتعارف للبشارة ، وهو الخبر السار ، ويجوز أن يكون على الأصل ، فإنها بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في بشرة الوجه بالتغيير ، وهو يعم خبر السرور والحزن.
ولذا قال في "كشف الأسرار" ؛ أي : أخبره خبراً يظهره أثر على بشرته من الترح.
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا} ؛ أي : إذا بلغه من آياتنا شيء ، وعلم أنه من آياتنا إلا أنه علمه ، كما هو عليه ، فإنه بمعزل من ذلك الكلام.
{اتَّخَذَهَا} ؛ أي : الآيات كلها.
{هُزُوًا} ؛ أي : مهزواً بها لا ما سمعه فقط ، أو الضمير للشيء والتأنيث باعتبار الآية.
يعني : (بآن افسوس كندو بصورتى باز نمايدكه از حق وصواب دور باشد).
كالنضر استهزأ بها وعارضها بحديث الفرس يرى العوام أنه لا حقيقة لذلك ، وكأبي جهل حيث أطعمهم الزبد والتمر.
وقال : تزقموا أفهذا ما يتوعدكم به محمد ، فحمل الزقوم على الزبد والتمر.
{أولئك} : إشارة إلى كل أفاك من حيث الإنصاف بما ذكر من القبائح والجمع باعتبار شمول كل كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار كل واحد.
438
{لَهُمْ} بسبب جناياتهم المذكورة {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذلهم ويذهب بعزهم وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُ} ؛ أي : جهنم كائنة من قدامهم ؛ لأنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم ؛ لأنهم معرضون عن ذلك مقبلون على الدنيا ، فإن الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف ، أو قدام ؛ أي : يسترها.
وقال بعضهم : وراء في الأصل مصدر جعل ظرفاً ويضاف إلى الفاعل ، فيراد به ما يتوارى به ، وهو خلفه وإلى المفعول ، فيراد به ما يواريه ، وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد.
وفي "القاموس" : الوراء يكون خلف وقدام ضد أولاً ؛ لأنه بمعنى ، وهو ما توارى عنك.
{وَلا يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفع {مَّا كَسَبُوا} من الأولاد والأموال {شَيْـاًا} من عذاب ، فيكون مفعولاً به أو لا يغني عنهم في ذلك شيئاً من الإغناء ؛ أي : إغناء قليلاً ، فيكون مصدراً ، يقال أغنى عنه إذا كفاه؟ {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} ؛ أي : ولا ينفعهم أيضاً ما عبدوه من دون الله من الأصنام وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم وفيه تهكم {وَلَهُمْ} فيما وراءهم من جهنم {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يعرف كنهه يعني : (شدت آن از حد متجاوزاست).
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَا هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ} .
{هَـاذَآ} ؛ أي : القرآن {هُدًى} ؛ أي : في غاية الكمال من الهداية ؛ كأنه نفسها كقولك زيد عدل {هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا} القرآنية {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن} ؛ أي : من شدة العذاب {أَلِيمٌ} بالرفع صفة عذاب.
وبالفارسية : (ازسخت ترين عذابي ألم رسانيده).
وفي الآيات إشارات :
(8/339)
منها : أن بعض الناس يسمع آيات الله في الظاهر إذ تتلى عليه ولا يسمعها بسمع الباطن ويتصامم بحكم الخذلان والغفلة ، فله عذاب أليم لاستكباره عن قبول الحق ، وعدم العمل بموجب الآيات ، وكذا إذا سمعها وتلاها بغير حضور القلب :
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
تعتيست اين كه بر لهجه وصوت
شوداز تو حضور خاصر فوت
فكر حسن غنا برد هوشت
متكلم شود فراموشت
نشود بردل توتا بنده
كين كلام خداست يابنده
ومن استمع بسمع الحق والفهم ، واستبصر بنور التوحيد ، فاز بذخر الدارين وتصدى لعز المنزلين.
ومنها : أن العالم الرباني إذا أفاد شيئاً من العلم ينبغي أن يكون في حيز القبول ، ولا يقابل بالعناد والتأول على المراد من غير أن يكون هناك تصحيح بإسناد ، وذلك فإن العبد يكاشف أموراً بتعريفات الغيب لا يتداخله فيها ريب ، ولا يتخالجه منها شك فمن استهان بها وقع في ذل الحجاب وجهنم البعد ، كما عليه أهل الإنكار في كل الأعصار حيث لا يقبلون أكثر ما ذكره مثل الإمام الغزالي.
والإمام المكي ، فيكونون كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض بموافقة الأهواء والأغراض.
ومنها : أن القرآن هداية لكن للمقرين لا للمنكرين ، فمن أقر بعباراته وإشاراته نجا من الخذلان والوقوع في النيران ، ومن أنكرها وقع في عذاب عظيم يذل فيه ويهان.
{اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} بأن جعله أملس السطح يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب ، ولا يمنع الغوص والحزق لميعانه فإنه لو جعل خشن السطح بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض ، لم يتيسر جري الفلك عليه ، وكذا لو جعله بحيث لا تطفو عليه الأخشاب ونحوها ،
439
بل تسفلت وغرقت فيه ، لم يتيسر ذلك أيضاً ولو جعله صلباً مصمتاً يمنع الغوص فيه لم يمكن تحصيل المنافع المترتبة على الغوص.
{لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} ؛ أي : بإذنه وتيسيره وأنتم راكبوها {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} بالتجارة والغوص على اللؤلؤ والمرجان ونحوها من منافع البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك بالإقرار بوحدانية المنعم بها.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى سخر بحر العدم لتجري فيه فلك الوجود بأمره ، وهو أمر كن والحكمة في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك سخر البحر والفلك له وسخره لنفسه ليكون خليفته ، ومظهراً لذاته وصفاته نعمة منه وفضلاً لإظهار الكنز المخفي ، فبحسب كل مسخر من الجزئيات والكليات يجب على العبد شكره ، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره ولا يستعمله في هوى نفسه ، وله أن يعتبر من البحر الصوري ، والذين يركبون البحر ، فربما تسلم سفينتهم ، وربما تغرق كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير يمشي به في رياح المشيئة مرفوع له شراع التوكل مرسي في بحر اليقين ، فإن هبت رياح العناية نجت السفينة إلى ساحل السعادة ، وإن هبت نكباه الفتنة لم يبق بيد الملاح شيء وغرقت في لجة الشقاوة ، فعلى العبد أن يبتغي فضل الله ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم ، كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} من الموجودات بأن جعلها مداراً لمنافعكم ودلت الآية على أن نسبة الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية جائزة.
{جَمِيعًا} إما حال من ما في السماوات وما في الأرض أو تأكيد له.
{مِنْهُ} صفة لجميعاً ؛ أي : كائناً منه تعالى ، أو حال من ما ؛ أي : سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه مخلوقة له أو خبر لمحذوف ؛ أي : هي جميعاً منه تعالى.
وفي "فتح الرحمن" جميعاً منه ؛ أي : كل إنعام فهو من فضله ؛ لأنه لا يستحق عليه أحد شيئاً ، بل هو يوجب على نفسه تكرماً.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} ؛ أي : فيما ذكر من الأمور العظام {لايَـاتٍ} عظيمة الشأن كبيرة القدر دالة على وجود الصانع وصفاته.
{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائع صنع الله ، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ، ويوفقون لشكرها : (دبر جمله جهان زمغز تابوست.
هر ذره كواه قدرت اوست).
روي : أنه عليه السلام مر على قوم يتفكرون ، فقال : تفكروا في الخلق ، ولا تتفكروا في الخالق.
وفي الحديث : "إن الشيطان يأتي أحدكم ، فيقول : من خلق السماوات ، فيقول الله ، ويقول : من خلق الأرض ، فيقول الله ويقول : من خلق الله ، فإذا افتتن أحدكم بذلك ، فليقل آمنت بالله ورسوله ، واعلم أن التفكر على العبادات وأفضلها ؛ لأن عمل القلب أعلى وأجل من عمل النفس ، ولذلك قال عليه السلام "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
(8/340)
وفي رواية : ستين سنة.
وفي رواية : سبعين سنة.
وروي : أن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قل : دخلت على أبي هريرة رضي الله عنه ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" ، ثم دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تفكر ساعة خير من عبادة سبع سنين ، ثم دخلت على أبي بكر رضي الله عنه ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة ، فقال المقداد : فدخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بما قالوا ، فقال : صدقوا ، ثم قال : ادعهم إليَّ فدعوتهم ، فقال لأبي هريرة : كيف تفكرك؟ ، وفيما ذا قال
440
في قول تعالى ، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 19) ، الآية.
فإن تفكرك خير من عبادة سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
ثم سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفكره ، فقال : تفكري في الموت ، وهول المطلع ، قال : تفكرك خير من عبادة سبع سنين ، ثم قال لأبي بكر : كيف تفكرك ، قال : تفكري في النار وفي أهوالها ، وأقول : يا رب اجعلني يوم القيامة من العظم بحال يملأ النار مني حتى تصدق وعدك ، ولا تعذب أمة محمد في النار ، فقال عليه السلام : تفكرك خير من عبادة سبعين سنة ، ثم قال : أرأف أمتي بأمتي أبو بكر.
فالفضل راجع إلى مراتب النيات.
يقول الفقير : وجه التخصيص في الأول أن اختلاف الليل والنهار المذكور في آية التفكر يدور على السنة ، فبمقدار بُعد التفكر جاء الثواب.
وفي الثاني : أن خوف الموت ، وما بعده ينتهي إلى الجنة ، أو إلى النار والجنة فوق سبع سماوات كما أن النار تحت سبع أرضين.
وفي الثالث : أن بعد قعر جهنم سبعون سنة على ما ورد في الحديث ، فلما كان الصديق رضي الله عنه بعيد التفكر بالنسبة إلى الأولين أنيب بما ذكر وجاء أجره مناسباً لتفكره.
وفي الآية إشارة إلى أن السماوات والأرض ، وما فيهن خلقت للإنسان ، فإن وجودها تبع لوجوده.
وناهيك من هذا المعنى أن الله تعالى أسجد ملائكته لآدم عليه السلام.
وهذا غاية التسخير وهم أكرم مما في السماوات والأرض ، ومثال هذا أن الله تعالى لما أراد أن يخلق ثمرة خلق شجرة ، وسخرها للثمرة لتحملها ، فالعالم بما فيه شجرة وثمرتها الإنسان ولعظم هذا المعنى.
قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ؛ أي : في هذا المعنى دلالات على شرف الإنسان وكماليته لقوم لهم قلوب منورة بنور الإيمان والعرفان إذ يتفكرون بتفكر سليم ، كما في "التأويلات النجمية".
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} .
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا} : اغفروا يعني : (در كذرانيد وعفو كنيد).
وهو مقول القول حذف لدلالة الجواب عليه ، وهو قوله : {يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (الجاثية : ) ، كما في قوله تعالى : {قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَـاوةَ} (إبراهيم : 31) ؛ أي : قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال صاحب "الكشاف" : وجوزوا أن يكون يقيموا بمعنى ليقيموا ، ويكون هذا هو المقول ، قالوا : وإنما جاز حذف اللام ؛ لأن الأمر الذي هو : قل عوض عنه ، ولو قيل : يقيموا ابتداء بحذف اللام لم يجز وحقيقة الرجاء تكون في المحبوب ، فهو هنا محمول على المجاز ، وهو التوقع والخوف.
والمعنى : يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون ، ولا يخافون وقائعه تعالى بأعدائه في الأمم الماضية لقولهم أيام العرب لوقائعها كيوم بعاث ، وهو كغراب ويثلث موضع بقرب المدينة ويومه معروف ، كما في "القاموس".
وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ، ووعدهم الفوز فيها وإضافتها إلى الله كبيت الله.
وهذه الآية نزلت قبل آية القتال ، ثم نسخت بها ، وذلك لأن السورة مكية بالاتفاق إلا أن الماوردي استثنى هذه الآية.
وقال : إنها مدنية ، نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ، وذلك أن عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهمَّ أن يبطش به ، فنزلت في حقه.
قال في "القاموس" : وبنو غفار ككتاب رهط أبي ذر الغفاري.
وقيل : نزلت حين قال رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ ما قال.
وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها : مريسيع مصغر مرسوع ، فأرسل ابن أبي غلامه يستقي فأبطأ عليه ، فلما أتاه ، قال له : ما حبسك ، قال : غلام عمر قعد على طرف البئر ، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي عليه السلام.
وقرب أبي بكر وعمر ، فقال : ابن أبيّ ما مثلنا ومثل
441
(8/341)
هؤلاء إلا كما قيل : سمن قلبك يأكلك ، فبلغ ذلك عمر ، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه ، فأنزلها الله.
(ودر تفسير امام ثعلبي مذكور است كه بعد از نزول آيت).
من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً : (فنحاص عاذور اليهودي بر سبيل طنز كفت خداى تعالى مكر محتاج است كه قرض ميطلبد ابن خبر يفاروق رضي الله عنه رسيده برجست وشمشير كشيد روى بجست وجوى او نهاد تاهر جابيند بقتلش رساند حضرت عليه السلام يطلب عمر فرستاد جون حاضر شد كفت اى عمر شمشير بنه كه حق سبحانه وتعالى بعفو فرموده وآيت بروى خواند عمر كفت يا رسول الله بدان خداى كه ترا بحق بخلق فرستاد كه ديكر اثر غضب درروى من نه بيند ودر مقابله كناه جز صفت عفو از من مشاهده نكند.
جويد بينى زخلق ودر كذارى.
تراز يبد طريق بردبارى.
اكرجه دامنت رامى دردخار.
توكل باش ودهان برخنده ميدار).
{لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} تعليل للأمر بالمغفرة.
والمراد بالقوم : المؤمنون والتنكير لمدحهم ، والثناء عليهم ؛ أي : أمروا بذلك ليجزي الله يوم القيامة قوماً ؛ أيَّ قوم لا قوماً مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والمنافقين والإغضاء عنهم بكظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، وما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم ، وقد جوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كانوا يكسبون سيئاتهم التي من جملتها ما حكي من الكلمة الخبيثة والتنكير للتحقير ، فإن قلت : مطلق الجزاء لا يصلح تعليلاً للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها.
قلت : لعل المعنى : قل للمؤمنين يتجاوزوا عن إساءة المشركين والمنافقين ، ولا يباشروا بأنفسهم لمجازاتهم ليجزيهم الله يوم القيامة جزاء كاملاً يكافي سيئاتهم ويدل على هذا المعنى.
الآية الآتية.
وأيضاً أن الكسب في أكثر ما ورد في القرآن كسب الكفار ، ويجوز أن يكون المعنى ليجزيهم الله وقت الجزاء كيون بدر ونحوه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي الآية إشارة إلى أن المؤمن إذا غفر لأهل الجرائم ، وأن لم يكونوا أهل المغفرة لإصرارهم على الكفر والأذى يصير متخلقاً بأخلاق الحق ، ثم الله تعالى يجزي كل قوم جزاء عملهم من الخير والشر ، إما في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة.
{مِنْ} : (هركه).
{عَمِلَ صَـالِحًا} ، وهو ما طلب به رضي الله عنه تعالى.
{فَلِنَفْسِهِ} ؛ أي : فنفع ذلك العمل الصالح وثوابه لنفسه عائد إليها.
{وَمَنْ أَسَآءَ} : (وهركه كارى بدكند) {فَعَلَيْهَا} ؛ أي : فضرر إساءته وعقابها على نفسه لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ} مالك أموركم لا إلى غيره.
{تُرْجَعُونَ} : تردون بالموت ، فيجازيكم على أعمالكم خيراً كان أو شراً ، فاستعدوا للقائه ففيه ترغيب على اكتساب العمل الصالح وترهيب عن ارتكاب العمل السيىء ، فمن الأول العفو والمغفرة للمجرم ، وصاحبه متصف بصفات الله تعالى.
ومن الثاني : المعصية والظلم وصاحبه متصف بصفات الشيطان ، فمن كان من الأبرار ، فإن الأبرار لفي نعيم ، ومن كان من الفجار ، فإن الفجار لفي جحيم.
والفجور نوعان :
فجوز صوري ، وهو ظاهر.
وفجور معنوي ، وهو إنكار أهل الله والتعرض لهم بسوء بوجه من التأول ، ونحو ذلك مما ظاهره صلاح وباطنه فساد ، فرحم الله أهل التسليم والرضا والقبول ، ومن ترك الحرام والشبهة والفضول.
وعن بعضهم : أنه كان يمشي في البرية ، فإذا هو بفقير يمشي حافي القدمين حاسراً الرأس عليه خرقتان متزر بإحداهما مرتدي بالأخرى ليس معه
442
زاد ولا ركوة ، قال : فقلت في نفسي : لو كان مع هذا ركوة وحبل إذا أراد الماء توضأ وصلى كان خيراً له ، ثم لحقت به ، وقد اشتدت الهاجرة ، فقلت له : يا فتى لو جعلت هذه الخرقة التي على كتفك على رأسك تتقي بها الشمس كان خيراً لك فسكت ومشى ، ولما كان بعد ساعة قلت له : أنت حاف أي شيء ترى في نعل تلبسها ساعة وأنا ساعة ، فقال : أراك كثير الفضول ، ألم تكتب الحديث؟ فقلت : بلى ، قال : فلم تكتب عن النبي عليه السلام من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ، فكست ومشينا فعطشت ، ونحن على ساحل ، فالتفت إليّ وقال : أنت عطشان ، فقلت : لا ، فمشينا ساعة ، وقد كظني العطش ؛ أي : جهدني وأوقعني في الشدة ، ثم التفت ، وقال : أنت عطشان ، فقلت : نعم ، وما تقدر تعمل معي في مثل هذا الموضع ، فأخذ الركوة مني ودخل البحر وغرف من البحر وجاءني به ، وقال : اشرب ، فشربت ماء أعذب من النيل وأصفى لوناً ، وفيه حشيش ، فقلت في نفسي : هذا ولي الله ، ولكني أدعه حتى إذا وافينا المنزل سألته الصحبة ، فوقف ، وقال : أيما أحب إليك أن تمشي أو أمشي ، فقلت في نفسي : إن تقدم فاتني ، ولكن أتقدم أنا وأجلس في بعض الموضع ، فإذا جاء سألته الصحبة ، فقال : يا أبا بكر إن شئت تقدم واجلس ، وإن شئت تأخر ، فإنك لا تصحبني.
ومضى وتركني ، فدخلت المنزل ، وكان به صديق لي وعندهم عليل ، فقلت لهم : رشوا عليه من هذا الماء ، فرشوا عليه فبرىء وسألتهم عن الشخص فقالوا : ما رأينا.
(8/342)
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
ففي هذه الحكاية فوائد فتفطن لها.
واعلم أنك لا تصل إلى مثل هذه المرتبة إلا بالإيمان الكامل والعلم النافع والعمل الصالح ، فمن فقد شيئاً منها حرم نعوذ بالله.
قال الشيخ سعدي :
يى نيك مردان ببايد شتافت
كه هركس كرفت اين سعادت بيافت
ولكن تودنبال ديو خسى
ندانم بى صالحا كى رسى
بيمبر كسى راشفاعت كرست
كه برجاده شرع بيغمبر ست
{إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى} .
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ} ؛ أي : التوراة.
قال سعدي المفتي : ولعل الأولى أن يحمل الكتاب على الجنس حتى يشمل الزبور والإنجيل أيضاً.
انتهى.
وذلك لأن موسى وداود وعيسى عليهم السلام كانوا في بني إسرائيل.
{وَالْحُكْمَ} ؛ أي : الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين أو فصل الخصومات بين الناس إذ كان الملك فيهم.
{وَالنُّبُوَّةَ} حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم تكثر في غيرهم ، فإن إبراهيم عليه السلام كان شجرة الأنبياء عليهم.
{وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} من اللذائذ كالمن والسلوى.
{وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر وتظليل الغمام ونظائرهما ، ولا يلزم منه تفضي لهم على غيرهم بحسب الدين والثواب ، أو على عالمي زمانهم ، فإنه لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ، ولا أحب إليه منهم.
وقد سبق تحقيق المقام في السورة السابقة.
{وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ مِّنَ الامْرِ} دلائل ظاهرة في أمر الدين ومعجزات قاهرة فمن بمعنى في كما في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ} ().
وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو العلم بمبعث النبي عليه السلام ، وما بين لهم من أمره ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصار أهل يثرب.
{فَمَا اخْتَلَفُوا} ، فما وقع بينهم الخلاف في ذلك الأمر.
{إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} بحقيقته وحقيته ، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لرسوخه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{بَغْيَا بَيْنَهُمْ} تعليل ؛ أي : عداوة وحسداً حدث بينهم لا شكاً فيه.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بالمؤاخذة والجزاء.
{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين.
{ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ} : (بس بعد از بني
443
إسرائيل ساختيم ترا يعنى مقرر كرديم سلوك تو).
{عَلَى شَرِيعَةٍ} ؛ أي : سنة وطريقة عظيمة الشأن.
{مِنَ الامْرِ} ؛ أي : أمر الدين.
{فَاتَّبِعْهَا} بإجراء أحكامها في نفسك ، وفي غيرك من غير إخلال بشيء منها.
وفي "التأويلات النجمية" : إنا أفردناك من جملة الأنبياء بلطائف ، فاعرفها وخصصناك بحقائق ، فأدركها وسننا لك طرائق ، فاسلكها وأثبتنا لك الشرائع فاتبعها ، ولا تتجاوز عنها ، ولا تحتج إلى متابعة غيرك ، ولو كان موسى وعيسى حياً لما وسعهما إلا اتباعك.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : الشريعة في الأمور محافظة الحدود فيها ، ومن الله الإعانة.
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ؛ أي : آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش كانوا يقولون له عليه السلام : ارجع إلى دين آبائك ، فإنهم كانوا أفضل منك.
{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّه إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ * وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} .
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا} لن يدفعوا {عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا} مما أراد بك من العذاب إن اتبعتهم.
قال بعضهم : يعني : إن أراد الله بك نعمة ، فلا يقدر أحد على منعها ، وإن أراد بك فتنة ، فلا يقدر أحد أن يصرفها عنك ، فلا تعلق بمخلوق فكرك ، ولا تتوجه بضميرك إلى غيرنا ، وثق بنا وتوكل علينا.
{وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالماً مثلهم ؛ لأن الجنسية علة الانضمام.
{وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ} الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من تولية خاصة بالتقوى والشريعة ، والإعراض عما سواه بالكلية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي "التأويلات النجمية" : سماهم الظالمين لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه وسمى المؤمنين المتقين ؛ لأنهم اتقوا عن هذا المعنى ، واتخذوا الله الولي في الأمور كلها.
(8/343)
{هَـاذَآ} : القرآن.
{بَصَآاـاِرَ لِلنَّاسِ} ، فإن ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب كأنه بمنزلة الروح والحياة ، فمن عري من القرآن ، فقد عدم بصره وبصيرته وصار كالميت والجماد الذي لا حس له ولا حياة ، فحمل البصائر على القرآن ، باعتبار أجزائه ونظيره قوله تعالى : {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} (الأنعام : 104) ؛ أي : القرآن ، وآياته.
وقوله تعالى في حق الآيات التسع لموسى عليه السلام.
قال : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر والبصائر جمع بصيرة.
وهو النور الذي به تبصر النفس المقولات ، كما أن البصر نور به تبصر العين المحسوسات.
ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى اتباع الشريعة ، فحمل البصائر عليه ؛ لأن المصدر المضاف من صيغ العموم ؛ فكأنه قيل : جميع اتباعاتها.
{وَهَدَى} من ورطة الضلالة.
{وَرَحْمَةً} عظيمة ونعمة كاملة من الله ، فإن الفوز بجميع السعادات الدنيوية والأخروية ، إنما يحصل به {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} من شأنهم الإيقان بالأمور.
وبالفارسية : (مر كروهى راكه بى كمان شوند يعنى از باديه كمان كنشته طالب سر منزل يقين باشند).
وفي "التأويلات النجمية" : المستعدين للوصول إلى مقام اليقين بأنوار البصيرة ، فإذا تلألأت انكشف بها الحق والباطل ، فنظر الناس على مراتب من ناظر بنور العقل ومن ناظر بنور الفراسة ، ومن ناظر بنور الإيمان ، ومن ناظر بنور الإيقان ، ومن ناظر بنور الإحسان ، ومن ناظر بنور العرفان ، ومن ناظر بنور العيان ، ومن ناظر بنور العين ، فهو على بصيرة شمسها طالعة وسماؤها عن السحاب مصحية.
انتهى.
وعن النبي عليه السلام : "القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم.
أما داؤكم ، فالذنوب ، وأما دواؤكم فالاستغفار" وأعظم الذنوب الشرك وعلاجه التوحيد ، وهو على مراتب بحسب الأفعال والصفات والذات ، وللإشارة إلى المرتبة الأولى.
قال تعالى :
444
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} () ، فإن التوكل نتيجة توحيد الأفعال ، والتوكل كله الأمر كله إلى مالكه ، والتعويل على وكالته.
وللإشارة إلى المرتبة الثانية.
قال تعالى : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 27 ـ 28) ، فإن الرضا لإرادته الأزلية وترك الاعتراض وسرور القلب بمر القضاء ثمرة توحيد الصفات.
ومن هذا المقام قال أبو علي الدقاق رحمه الله : التوحيد هو أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعة قطعة ، وأنت ساكت حامد.
وللإشارة إلى المرتبة الثالثة.
قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
حكي : أن واحداً من أصحاب أبي تراب النخشبي توجه إلى الحج ، فزار أبا يزيد البسطامي قدس سره ، فسأله عن شيخه ، فقال : إنه يقول : لو صارت السماء والأرض حديداً ما شككت في رزقي فاستقبحه أبو يزيد ؛ لأن فيه فناء الأفعال دون الصفات والذات ، وقال : كيف تقوم الأرض التي هو عليها فرجع فأخبر القصة لأبي تراب ، فقال : قل له : كيف أنت؟ فجاء وسأل ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم (بايزيد نيست) ، فلما رآه أبو تراب ، وكان في الاحتضار قال : آمنت بالله ، ثم توفي.
قال مولانا قدس سره :
هيج بغضى نيست در جانم زتو
زانكه اين را من نمى دانم زتو
آلت حقى توفاعل دست حق
جون زنم بر آلت حق طعن ودق
وقال أيضاً :
آدمى راكى رسد اثبات تو
اى بخود معروف وعارف ذات تو
فعليك بتدبر الآيات القرآنية والانتفاع بالبصائر النورانية لتكون من العلماء الربانية.
قال بعض الكبار : أربعة عالم حظه من الله ، الله وهو مقام السر والحقيقة.
قال الله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إله إِلا هُوَ} () ، وعالم حظه من الله العلم والمعرفة ، وهو مقام الروح والمعرفة ، وعالم حظه علم السير إلى الله ، وهو مقام النفس والطريقة وعالم حظه علم السير إلى الآخرة ، وهو مقام الطبيعة والشريعة ؛ لأنه بالأعمال الصالحة يحصل السير الأخروي ، وأعلى الكل هو الأول.
قال بعض الكبار : رأيت أبا يزيد قعد في مسجد بعد العشاء إلى الصبح ، فقلت : أخبرني عما رأيت ، فقال : أراني الله ما في السماوات والأرض ، ثم قال : ما أعجبك؟ فقلت : ما أعجبني غيرك ، فبعضهم طلب منك المشي على الماء وبعضهم كرامة أخرى ، وأنا لا أريد غيرك.
قال : فقلت له : لم لم تطلب منه معرفته ، فقال : مه لا أريد أن يعرفه غيره.
قال بعضهم : مقام التوحيد فوق مقام المعرفة.
حكي : أن اثنين من الفقراء التقيا ، فتكلما على المعارف الإلهية كثيراً ، ثم قال أحدهما للآخر : رضي الله عنك إذ حصل لي ذوق عظيم من من صحبتك من المعارف.
وقال الآخر : ولا رضى عنك إذا استقطعتني بصحبتك من مقام التوحيد إلى مقام المعرفة ، فإذا كملت المعرفة حصل الشهود والفناء والسكون.
قال الشيخ سعدي المفتي :
اى مرغ سحر عشق زبروانه بياموز
كان سوخته راجان شد وآوز نيامد
اين مدعيان در طلبش بى خبرانند
كانراكه خبر شد خبرى باز نيامد
وقال :
(8/344)
كر كسى وصف او زمن برسد
بى دل از بى نشان جه كويدباز
عاشقان كشتكان معشوقند
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
برنيايدز كشتكان آواز
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الجامعين للمراتب والواصلين إلى أعلى المطالب ، فإن له ملك الوجود ومنه الكرم والفيض والوجود والإرشاد إلى حقيقة والفناء والسجود.
{وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} .
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّـاَاتِ} : أم منقطعة ، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني.
والهمزة لإنكار الحسبان بطريق إنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه لا بطريق إنكار الوقوع ونفيه ، والاجتراح : الاكتساب.
445
ومنه الجوارح للأعضاء الكاسبة.
قال في "المفردات" : سمي الصائد من الكلاب والفهود والطير جارحة ، وجمعها جوارح إما لأنها تجرح وإما لأنها تكسب وسميت الأعضاء الكاسبة : جوارح تشبيهاً بها لأحد هذين.
انتهى.
والمراد بالسيئات : الكفر والمعاصي.
{أَن نَّجْعَلَهُمْ} أن نصيرهم في الحكم والاعتبار مع مالهم من مساوىء الأحوال ، وهو مع ما عمل فيه ساد مسد مفعولي الحسبان.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا} : مع ما لهم من محاسن الأعمال ونعاملهم معاملتهم في الكرامة ورفع الدرجة.
و(الكاف) : مفعول ثان للجعل.
{سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} ؛ أي : محيا الفريقين جميعاً ومماتهم حال من الضمير في الظرف والموصول معاً لاشتماله على ضميريهما على أن السواء بمعنى المستوي ، ومحياهم ومماتهم مرتفعان به على الفاعلية.
والمعنى : أم حسبوا أن نجعلهم كائنين مثلهم حال كون الكل مستوياً محياهم ومماتهم كلا لا يستوون في شيء منهما ، فإن هؤلاء في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا ، وفي رحمة الله ورضوانه في الممات.
ولذا قال عليه السلام لما رأى أصحاب الصفة في المسجد "المحيا محياكم والممات مماتكم" ، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي ، وهوانهما في المحيا وفي لعنة الله ، والعذاب الخالد في الممات (ع) : (كل وخار وكل وكوهر نه برابر باشد).
وكان كفار قريش يقولون : نحن أحسن حالاً من المؤمنين في الآخرة ؛ أي : على تقدير وقوع الساعة ، كما قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين ؛ أي : فإن العزيز في الدنيا عزيز في الآخرة.
وقد قيل : إن المراد إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ؛ لأن المسيئين والمحسنين مستوٍ محياهم في الرزق والصحة ، وإنما يفترقون في الممات.
{سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} ؛ أي : ساء حكمهم هذا على أن (ما) مصدرية والفعل للإخبار عن قبح حكمهم أو بئس شيئاً حكموا به ذلك على أن ساء بمعنى بئس وما نكرة موصوفة بمعنى شيء.
والفعل لإنشاء الذم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وبالفارسية : (بد حكميست كه ايشان ميكنند ونتيجة شرك وتوحيدرا برابر ميدارند (ع) نيست يكسان لاى زهر آميز باآب حيات).
وعن تميم الداري رضي الله عنه : أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح.
وعن الفضيل رحمه الله أنه بلغها ، فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ فلا يطمعن البطال في ثواب العمال ولا الجبناء في مقام الأبطال ولا الجاهل في ثواب العالم ، ولا النائم في ثواب القائم ، فعلى قدر اجتهاد المرء يزيد أجره وبقدر تقصيره ينحط قدره.
وفي بعض الكتب السابقة أنمنادياً ينادي كل يوم أبناء الخمسين زرع دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ، ماذا قدمتم؟ وما أخرتم؟ ، ثم أبناء الثمانين لا عذر لكم : ليت الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا وتجالسوا بينهم ، فتذكروا ما عملوا إلا أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
وفي الخبر : إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من عامه الذي يموت فيه فيسدده وييسره ، فإذا كان عند موته أتاة ملك الموت ، فقعد عند رأسه ، فقال : يا أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، فذلك حين يحب لقاء الله ويحب الله لقاءه.
وإذا أراد بعبد شراً بعث إليه شيطاناً من عامه الذي يموت فيه ، فأغواه ، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه ، فيقول : يا أيتها النفس المطمئنة الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، فتفرق في حسده فذلك حين يبغض لقاء الله ويبغض الله
446
لقاءه.
ويقال : إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة وأغناه بالقناعة وبصره بعيوب نفسه ، فمن أعطي ذلك ، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة ، كما أنه فرق بين مطيع وفاسق ، فكذا فرق بين مطيع ومطيع وللتفاضل في الإطاعة والنيات تتفاضل المقامات والدرجات.
(8/345)
ولذا يرى بعض أهل الجنة البعض ، كما يرى في الدنيا الكوكب الدري ، وعن عبيد بن خالد رضي الله عنه : أن النبي آخى بين رجلين ، فقتل أحدهما في سبيل الله ، ثم مات الآخر بعده بجمعة أو نحوها ، فصلوا عليه ، فقال عليه السلام : ما قلتم؟ قالوا : دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه ، فقال النبي عليه السلام ، فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله ، أو قال : صيامه بعد صيامه لما أن بينهما أبعد مما بين السماء والأرض".
وقد ورد في بعض الأخبار أن الموتى يتأسفون على انقطاع الأعمال عنهم حتى يتحسرون على رد السلام وثوابه ، فليحذر العاقل من حسرة السباق ، وفجيعة الفراق ، أما حسرة السباق فإنهم إذا قاموا من قبورهم ، وركب الأبرار نجائب الأنوار وقدمت بين أيديهم نجائب المقربين بقي المسبوق في جملة المحرومين.
وأما فجيعة الفراق ، فإنه إذا جمع الله الخلق في مقام واحد أمر ملكاً ينادي : أيها الناس امتازوا ، فإن المتقين قد فازوا.
كما قال : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) ، فيمتاز الولد من والديه ، والزوج من زوجته والحبيب من حبيبه ، فهذا يحمل مبجلاً إلى رياض النعيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وهذا يساق مسلسلاً إلى عذاب الجحيم.
قال بعض الأخيار : رأيت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي قدس سره في النوم بعد وفاته وعليه ثياب بيض ، وعلى رأسه تاج ، فقلت له : ما هذا البياض؟ فقال : شرف الطاعة ، قلت : والتاج.
قال عز العلم.
وعن أبي بكر الوراق قدس سره : طلبنا أربعة فوجدناها في أربعة : وجدنا رضا الله في طاعة الله تعالى ، وسعة المعاش في صلاة الضحى ، وسلاءة الدين في حفظ اللسان ونور القلب في صلاة الليل ، فعليك بالتدارك قبل فوت الوقت ، فإن الوقت سيف قاطع.
قال الشيخ سعدي :
سر ازجيب غفلت برآوركنون
كه فردانماني بخلجت نكون
قيامت كه نيكان باعلى رسند
زقعر ثرى بر ثريا رسند
تراخود بماند سر ازننك بيش
كه كردت برآيد عملهاى خويش
برادر زكار بدان شرم دار
كه در روى نيكان شوى سر مسار
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} ؛ أي : بسبب الحق ولأجل ظهوره وحقيقته بالأمر الإيجادي والتجلي الحي الأحذي ، فما من ذرة من ذرات العالم ، إلا والله سبحانه متجل فيها بأسمائه وصفاته ، لكنه لا يشاهده إلا أهل الشهود ، وبظهور هذا الحق والوجود زهق الباطل والعدم وعليه يدور سر قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (يونس : 3) ، فإن الله متعال عن الاستواء بنفسه كما يقول الظالمون.
{وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ} من خير وشر عطف على بالحق ؛ لأن فيه التعليل ؛ لأن الباء للسببية وبيانه أن الحكمة في خلق العالم هو الجزاء إذ لو لم يكن الجزاء كما يقول الكافرون لاستوى المطيع والعاصي ، فالجزاء مترتب على الطاعة والعصيان ، وهما موقوفان على وجود العالم إذ التكليف لا يحصل إلا في هذه الدار.
وقدسبق في سورة الدخان عند قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الدخان : 38).
{وَهُمْ} ؛ أي : النفوس المدلول عليها بكل نفس.
{لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب المحسن وزيادة عقاب
447
المسيء : (بلكه هر كس رافرا خور عمل اوجز ادهد).
وتسمية ذلك ظلماً مع أنه ليس كذلك على ما عرف من قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر بتنزيله منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ، فهذه الآية إخبار بأن التسوية في الجزاء سفه ، والله تعالى خلق العالم بالحق ليتميز المطيع من العاصي لا بالسفه ، فلا بد من المجازاة على وفق الأعمال بين عدل وفضل بلا ظلم وجهل ، فعليك بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة لا سيما التوحيد وذكر الله تعالى إذ به تحصل المعرفة المقصودة من خلق الثقلين ولفضل المعرفة.
قال عليه السلام في جواب من قال : أي الأعمال أفضل؟ العلم بالله" ، وبين معرفة ومعرفة فرق عظيم.
لذلك قال حافظ قبر أبي يزيد البسطامي قدس سره للسلطان محمود الغزنوي إن أبا جهل لم يبصر النبي عليه السلام إلا بأنه يتيم عبد المطلب وأبي طالب ، ولو نظر بأنه رسول الله وحبيب رب العالمين وعرف ذلك لآمن به ، ولا بد من العبادة من الإخلاص ، فمن عبد الله حباً أعلى رتبة ممن عبده خوف العقوبة.
يحكى أن محمدياً عبد الله أربعين سنة يجزى بأكثر من إسرائيلي عبد الله أربعمائة سنة ، فيقول الإسرائيلي : يا رب أنت العادل ، فيقول الله تعالى أنتم تخافون العقوبة العاجلة وتعبدونني وأمة محمد يعبدونني مع الأمن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال المولى الجامي :
جيست اخلاص آنكة كسب وعمل
باك سازى زشوب نفس ودغل
نه در آن صاحب غرض باشى
نه ازان طالب عوض باشى
كيسة خود از وبير دازى
ساية خود برونيندازى
{فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} .
(8/346)
{أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} ، وهو ما تهواه نفسه الخبيثة.
وقال الشعبي : إنما سمي الهوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار ، وهو تعجيب لحال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه عبده.
ففيه استعارة تمثيلية أو حذف أداة التشبيه.
وكان الأصل كإلهه ؛ أي : أنظرت فرأيته ، فإن ذلك مما يقتضي التعجب.
وسبق تحقيق الآية في سورة الفرقان.
وفيه إشارة إلى أن من وقف بنفسه في مرتبة من المراتب دون المشاهدة ، فقد صار من أهل الهوى وعبد ما سوى المولى.
وفي الحديث : "ما عبد تحت ظل السماء أبغض إلى الله من هوى".
قال بعضهم : ()
نون الهوان من الهوى مسروقة
فأسير كل هوى أسير هوان
وقال بعضهم : ()
فاعص هوى النفس ولا ترضها
إنك إن أسخطتها زانكا
حتى متى تطلب مرضاتها
وإنما تطلب عدوا نكا
قال الشيخ سعدي :
مراد هر كه برارى مطيع امر توشد
خلاف نفس كه كردن كشد جويافت مراد
وقال المولى الجامي :
هيج اذاى براه خلق
نيست بدتر زنفس بدفر ما
{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} وخذله عدلاً منه يعني : (كمراه ساخت وفرو كذاشت).
{عَلَى عِلْم} حال من الفاعل ؛ أي : حال كونه تعالى عالماً بضلاله وتبديله للفطرة الأصلية ، ويمكن أن يجعل حالاً من المفعول ؛ أي : علم من الضال بطريق الهداية بأن ضلّ عناداً نحو فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ونحوه ، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} بحيث لا يتأثر من المواعظ ولا يسمع الحق.
{وَقَلْبُهُ} بحيث لا يتفكر في الآيات والنذر ، ولا يفهم الحق.
448
{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً} مانعة عن الاستبصار والاعتبار ، وهو ما يغشى العين ويغطيها عن الإبصار والإدراك وتنكيرها للتنويع أو للتعظيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال بعض الكبار : ختم الله على سمعه ، فحرم من سماع خطابه ، وعلى قلبه فحرم من فهم خطابه وعلى عينيه ، فحرم من مشاهدة آثار القدرة في صنعه ، فلم ير الحق.
{فَمَن يَهْدِيهِ} : (بس كيست كه راه نمايد اين كس را).
{مِنا بَعْدِ اللَّهِ} ؛ أي : من بعد إضلاله إياه بموجب تعاميه عن الهدى وتماديه في الغي ؛ أي : لا يقدر ، فتعلموا أن الهداية لا يملكها أحد سواه ، أفلا تتعظون.
(آيا بند نمى يعنى يند كيريد ومتنبه شويد).
وفي الآية إشارة إلى الفلاسفة والدهرية والطبائعية ، ومن لم يسلك سبيل الاتباع ، ولم يستوف أحكام الرياضة بتأديب أرباب الطريقة على قانون الشريعة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية ، ولم يؤد به ويسلكه إمام مقتدي في هذا الشأن من أرباب الوصال والوصول ، بل اقتدى بأئمة الكفر والضلالة ، واقتفى آثارهم بالشبهات العقلية وحسبان البراهين القطعية ، فوقع في شبكة الشيطان ، فأخذه بزمام هواه وأضله في تيه مهواه ، وربما دعاة إلى الرياضة وترك الشهوات لتصفية العقل وسلامة الفكر فيمنيه إدراك الحقائق حتى يوبقه في وهدات الشبهات ، فيهيم في كل ضلالة ويضل في كل فج عميق ، وأصبح خسرانه أكثر من ربحه ونقصانه أوفر من رجحانه ، فهم في ضلال بعيد يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم زمامهم بيد هواهم أولئك أهل المكر استدرجوا من حيث لا يشعرون.
وفي المثنوي :
جيست حبل الله رها كردن هوا
كين هواشد صرصرى مر عادرا
خلق درزندان نشته از هواست
روح را در غيب خود اشكنجهاست
ليك تانجهى شكنجه در خفاست
جون رهيدى بينى اشكنج ودمار
زانكه ضد از ضد كردد آشكار.
.
.
جون رهاكردى هوى از بيم حق
درر سد سغراق.
.
.
.
از تسنيم حق
{وَقَالُوا} : يعني : منكري البعث من غاية غيهم وضلالهم ، وهم كفار قريش ومشركو العرب.
وفي "كشف الأسرار" : هذا من قول الزنادقة الذين قالوا : الناس كالحشيش.
{مَا هِىَ} ؛ أي : ما الحياة؟.
{إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} التي نحن فيها.
{نَمُوتُ وَنَحْيَا} ؛ أي : يصيبنا الموت والحياة فيها ، وليس وراء ذلك حياة ، وتأخير نحيا ؛ لأن فيها شبهة مراعاة الفاصلة ؛ ولأن الواو لمطلق الجمع.
وقد جوّز أن يريدوا به التناسخ ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان ، يعني : (احتمال داردكه) قائلان : أين مذهب (تناسخ داشته باشند ونزد ايشان آنست كه هركه مى ميرد روح أو بجسد ديكر تعلق ميكيرد وهم دردينا ظهور ميكند تا ديكر بميرد وديكر باز آيد وازشا كمونى كه بزعم ايشان بيغمبر ست نقل كرده اندكه كفت من خودرا هزار وهفتصد قالت ديده ام).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال الراغب : القائلون بالتناسخ قوم ينكرون البعث على ما أثبتته الشريعة ، ويزعمون أن الأرواح تنتقل من الأجساد على التأبيد ؛ أي : إلى الأجساد أخر.
وفي "التعريفات" : التناسخ عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر من غير تخلل زمان بين التعلقين للتعشق الذاتي بين الروح والجسد.
{وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ} ؛ أي : مرور الزمان ، وهو مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، ثم يعبر به عن كل مدة كبيرة ، وهو خلاف الزمان ، فإن الزمان يقع على المدة القليلة
449
والكثيرة.
(8/347)
قال في "القاموس" : الدهر الزمان الطويل والأبد الممدود ، وألف سنة.
والدهر عند الصوفية هو الآن الدائم ، ثم الذي هو امتداد الحضرة الإلهية ، وهو باطن الزمان وبه ويتجدد الأزل والأبد ، وكانوا يزعمون أن المؤثر في هلاك الأنفس ، وهو مرور الأيام والليالي وينكرون ملك الموت وقبضه للأرواح بأمر الله.
ويضيفون الحوادث إلى الدهر والزمان ويسبونه ويذمونه ويشتكون منه ، كما نطقت بذلك أشعارهم ، فنهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك بقوله : "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" ؛ أي : فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر.
قال الكاشفي : (مقلب دهور ومصرف آن حضرت عزت است جبل شانه ودهوررا در هيج كار اختيارى نيست) :
دهر ترادهر يناهى ترا
حكم ترا زيبد وشاهى ترا
دور زان كار نسازد بخوذ
جرح فلك برنفرازد بخود
اين همه فرمان ترابنده اند
درره امرتو شتابنده اند
قال بعضهم : ()
يا عالماً يعجب من دهره.
.
.
لا تلم الدهر على غدره
فإن مأموله آمر قد ينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة
يزداد أضعافاً على كفره
ومؤمن ليس له درهم
يزداد إيماناً على فقره
قال في "المفردات" : قوله عليه السلام : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر قد قيل : معناه أن الله فاعل ما يضاف إلى الدهر من الخير والشر والمسرة والمساءة ، فإذا سببتم الذي تعتقدون أنه فاعل ذلك ، فقد سببتموه تعالى.
وقال بعضهم : الدهر الثاني في الخبر غير الأول ، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل ، ومعناه أن الله تعالى هو الدهر ؛ أي : المصرف المدبر لكل ما يحدث والأول أظهر.
وفي الحديث : "قال الله لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما".
وهذا الحديث الأول سهل في تفسير الصوفية كما سبق ، فاعرف تفز.
{وَمَا لَهُم بِذَالِكَ} ؛ أي : بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا وإسناد الحياة والموت إلى الدهر.
{مِنْ عِلْمٍ} ، فأسند إلى عقل أو نقل.
ومن : مزيدة لتأكيد النفي.
{إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} ؛ أي : ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم شيء يصح أن يتمسك به في الجملة هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم.
وأما المؤمنون فقد أخذوا بالنصوص وسلكوا طريق اليقين وتجاوزوا عن برازخ الظن والتخمين.
وأثبتوا الحشر الصوري والمعنوي ؛ أي : الحشر المحسوس والصراط المحسوس والجنة والنار المحسوستين.
وكذا جمع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية والجمع بين المعقول والمحسوس أعظم في القدرة من نعيم وعذاب محسوسين بأكل وشرب ونكاح ولباس محسوسات ، وأتم في الكمال الإلهي ليستمر له سبحانه في كل صنف من الممكنات حكم عالم الغيب والشهادة ، ويثبت حكم الاسم الظاهر والباطن في كل صنف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وهذا معتقد الأنبياء والرسل ومؤمنيهم ، فمن اعتقد كاعتقادهم نجا وإلا هلك.
ومن لوازم هذا الاعتقاد والتوحيد إسناد كل حادثة إلى الله العزيز الحميد ، فإنه المؤثر في الكل ولذا نهى عن سب الريح إذ هي بيد ملك ، وهو بيد الله تعالى ، فجميع التصرفات راجع إليه.
حكي أن الحجاج : أرسل عبد الله الثقفي إلى أنس بن مالك رضي الله عنه يطلبه ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فقال له : أذله الله.
فإن العزيز من اعتز بطاعة الله ، والذليل من ذل بمعصيته ، ثم قام معه ، فلما حضر ، قال : أنت الذي تدعو علينا؟ قال : نعم.
قال : ومم ذلك؟ قال : لأنك عاصصٍ لربك تخالف سنة نبيك تعز أعداء الله وتذل أولياءه.
فقال : أقتلك
450
شر قتلة ، فقال أنس : لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك.
قال : ولم ذلك؟ قال : لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علمني دعاء.
وقال : من دعا به كل صباح لم يكن لأحد عليه سبيل ؛ أي : لم يضرّ به سم ولا سحر ولا سلطان ظالم.
وقد دعوت به في صباحي.
فقال الحجاج : علمنيه ، فقال : معاذ الله أن أعلمه ما دمت حياً ، وأنت حي ، فقال الحجاج : خلوا سبيله ، فقيل له : في ذلك ، فقال : رأيت على عاتقيه أسدين عظيمين قد فتحا أفواههما ، فدل هذا أن على التأثير بيد الله القدير لا في يد السلطان والوزير.
وإنما هو وهم المحجوب الناظر إلى جانب الأسباب والوسائل ، ثم إن أنساً رضي الله عنه لما حضره الموت ، قال لخادمه : إن لك علي حقاً ، حق الخدمة ، فعلمه الدعاء ، وقال له : "بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء".
وأنس رضي الله عنه من خدام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خدمه عشر سنين ، وانتقل إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله عنه ، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين وله مائة وثلاث سنين ، وهو أحد الستة المشهورين برواية الحديث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
(8/348)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} ؛ أي : على منكري البعث.
{ءَايَـاتِنَا} الناطقة بالحق الذي من جملته البعث.
{بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على ما نطقت أو مبينات له نحو قوله تعالى : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس : 79).
وقوله : {إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىا} (فصلت : 39) وغير ذلك.
{مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} جواب إذا.
وبه استدل أبو حيان على أن العامل في إذا ليس جوابها ؛ لأن ما النافية لها صدر الكلام واعتذر عن عدم دخول الفاء في الجواب بأنها خالفت أدوات الشرط في ذلك وحجتهم بالنصب على أنه خبر كان ، أي ما كان متمسكاتهم بشيء من الأشياء يعارضونها به.
وبالفارسية : (نباشد حجت ايشان).
{إِلا أَن قَالُوا} عناداً واقتراحاً {وَإِذَا تُتْلَى} : (بياريد بدران ما).
يعني : أحيوهم وابعثوهم من قبورهم.
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في أنا نبعث بعد الموت.
وقد سبق في سورة الدخان ؛ أي : إلى هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحجة ؛ لأنها إنما تطلق على الدليل القطعي وتسميته حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم ، أو لتنزيل التقابل منزلة التناسب للمبالغة ، فأطلق اسم الحجة على ما ليس بحجة من قبيل (تحية بينهم ضرب وجيع) ؛ أي : سماه حجة لبيان أنهم لا حجة لهم البتة ؛ لأن من كانت حجته هذا لا يكون له حجة البتة ، كما أن من ابتدأ بالضرب الوجيع في أول التلاقي لا يكون بينهم تحية البتة ، ولا تقصد بهذا الأسلوب إلا هذا المعنى ؛ كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة.
{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} ابتداء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر.
{ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} بعد البعث منتهين {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} للجزاء.
{لا رَيْبَ فِيهِ} ؛ أي : في جمعكم ، فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة والوعد المصدق بالمعجزات دل على وقوعها حتماً ، والإتيان بآبائهم حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال الكاشفي : (إحياء موتى موقتست بوقتى خاص بروجهى كه مقتضاى حكمت است بس اكر وقت اقتراح وجود نكيرد حمل بر عجز نبا يد كرد).
وقد سبق منا تعليله بغير هذا الوجه في سورة الدخان فارجع.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ذلك استدراك من قوله تعالى : لا ريب فيه بأن فيه شائبة ريب ما.
وفيه إشارة إلى أن الله يحييكم بالحياة الإنسانية ، ثم يميتكم
451
عن صفة الإنسانية الحيوانية ثم يجمعكم بالحياة الربانية إلى يوم القيامة ، وهي النشأة الأخرى لا ريب في هذا عند أهل النظر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم أهل النسيان والغفلة : ()
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحيا بالعلم ميت
وليس له حين النشور نشور
وفي الحديث : "أنتم على بينة من ربكم ما لم تظهر منكم سكرتان سكرة الجهل وسكرة حب الدنيا" ، فعلى العاقل أن يتنبه ، ويكون على يقين من ربه ويصدق الكتاب فيما نطق به ، ولصعوبة الإيمان بالغيب وقع أكثر الناس في ورطة التكذيب ولانغلاق أبواب البرزخ والمعاد كثر الرد والإنكار.
(8/349)
حكي : أن الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام سئل بعد موته في منام رآه السائل ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يهدى من قراءة القرآن للموتى ، فقال : هيهات وجدت الأمر بخلاف ما كنت أظن ، فالله تعالى قادر على كل شيء : (نفلست بير خراسان أحمد حربى قدس سره همساية كبرداشت بهرام نام مكرش يكى بتجارت فرستاده بود در رآه آن مال برده بودند مال بسيار بودان خبر بشيخ أحمد رسانيد ند يارانرا كفت اين همساية مارا جنين كار افتاده است بر خيزند تابرويم واوراغم خواركى كنيم اكرجه كبراست همساية است جون بدر سراى اورسيدند واورا ديدند آتشى مى سوخته ومتوجه كشته بهرام برخاست واستقبال كرد وبوسه برآستين شيخ داد واعزاز واكرام نمود ودر بند آن شدكه سفره بنهد بنداشت كه مكر از بهر جيزى خوردن آمده أندكه قحط بود شيخ احمد كفت خاطر فارغ داركه مابغم خواركى توآمده ايم كه شنيده ايم دزدان مال توبرده اند بهرام كفت مراسه شكر واجب است يكى آنكه ديكران ازمن بردند ومن از ديكران نبردم دوم آنكه يك نيمه برده اندونيمة ديكر بامنست سوم آنكه دين بامنست دنيا خود آيد ورود.
هنر بايد وفضل ودين وكمال.
كه كاه آيدوكه رود جاه ومال احمد كفت ازين سخن توبوى آشنايى مى آيد بس شيخ كفت اى بهرام جرا آتش رامى برستى كفت تافردا مارا نسوزد وبا من بى وفايى نكندكه جندين هيزم درخورد او داده ام تامرا بخداى رساند شيخ كفت غلط كرده كه آتش ضعيف است وجاهل وبى وفاست هر حسابى كه ازو بر كرفته باطلست اكر طفلى باره آب بروريزد يا مشتى خاك برو افكنداو از خود دفع نكند ، وبميرد از ضعف كسى كه جنين ضعيف بودتر ابجنان قوى جكونه تواند رسانيد كسى قوت ندارد كه بارة خاك رادفع كند تراواسطه جون بود حق تعالى راديكر نادانست اكر مشك واكر نجاست درو اندازى هردور ابسوز دونداندكه يكى بهترست وازهيزم تاعود فرق نكند وبى وفاست اينك هفتاد سالست تو آتش مى برستى ومن هركز نيرستيده ام بيا تاهر دودست درآتش كنيم تاتو مشاهده كنى كه هر دور ابسوزد ووفانكند كبررا سخن او خوش آمد وكفت تراجهار مسألة برسم اكر جواب دهى ايمان آورم احمد كفت بكو كفت خداى تعالى خلق راجرا آفريدو جون آفريد جرا رزق داد وجون رزق داد
452
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
جرا ميرانيد وجون ميرانيد جرا برانكيزد احمد كفت آفريد تا ورا شناسند ورزق دادتا اورا برازقى بداند وميرانيد تا اورا بقهارى شناسند وزنده كردانيد تا ورا بقادرى بدانند بهرام كبرجون اين سخن راشنود بى خود انكشت بر آوردو شهادت برزبان راند جون شيح ديد نعرة زد وبيهوش شد جون بهواش آمد بهرام كفت يا شيخ سبب نعرة زدن وبيهوش شدن جه بود كفت درين ساعت كه توانكشت بر داشتى بدر ونم خطاب كردند كه هان اى احمد بهرام كبر راكه هفتاد سال در كبرى كذشت ايمان آورد تا تراكه هفتاد سال در مسلمانى كذشت عاقبت جه خواهد آورد).
ومن الله العصمة والتوفيق لمرضاته والاستبصار بآياته وبيناته.
{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ * كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا} .
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : الملك المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما مخصوص بالله تعالى ، وهو تعميم للقدرة بعد تخصيصها.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} العامل في يوم يخسر ويومئذٍ بدل منه.
قال العلامة التفتازاني : مثل هذا لتأكيد أشبه وأنى يتأتى أن هذا مقصود بالنسبة دون الأول ، قلت : اليوم في البدل بمعنى الوقت.
والمعنى : وقت إذ تقوم الساعة ويحشر الموتى فيه ، وهو جزء من يوم تقوم الساعة ، فإنه يوم متسع مبدؤه من النفخة الأولى ، فهو بدل البعض والعائد مقدر ، ولما كان ظهور خسرهم وقت حشرهم يكون هو المقصود بالنسبة.
كذا في "حواشي سعدي المفتي" ، يقال : أبطل جاء بالباطل.
وقال شيئاً لا حقيقة له.
والمراد الذين يبطلون الحق ويكذبون بالبعث ومعنى يخسر المبطلون يظهر خسرانهم ثمة.
وبالفارسية : (زيان كنند تباه كاران وزيان ايشان آن بودكه بدوزخ باز كزدند).
قال في "الكبير" إن الحياة والعقل والصحة ؛ كأنها رأس المال والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح والكفار قد أتعبوا أنفسهم في طلب الدنيا ، فخسروا ربح الآخرة.
وفيه إشارة إلى إبطال الاستعداد الفطري (ع) على نفسه فليبك من ضاع عمره.
{وَتَرَى} رؤية عين {كُلُّ أُمَّة} من الأمم المجموعة ومؤمنيهم وكافريهم حال كونها.
{جَاثِيَةً} باركة على الركب من هول ذلك اليوم غير مطمئنة ؛ لأنها خائفة فلا تطمئن في جلستها عند السؤال والحساب يقال : جثا يجثو ويجثي جثواً وجثياً بضمهما جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
(8/350)
وعن ابن عباس رضي الله عنه : جاثية ؛ أي : مجتمعة بمعنى أن كل أمة لا تختلط بأمة أخرى ، يقال : جثوت الإبل وجثيتها جمعتها.
والجثوة بالضم الشيء المجتمع ، فإن قيل الجثو على الركب إنما يليق بالكافرين ، فإن المؤمنين لا خوف عليهم يوم القيامة ، فالجواب أن الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذا إلى أن يظهر كونه محقاً مستحقاً للأمن.
قال كعب لعمر أمير المؤمنين رضي الله عنه : إن جهنم تزفر زفرة يوم القيامة ، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى يقول : خليل الرحمن عليه السلام يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي.
قال الشيخ سعدي :
دران روز كز فعل برسند وقول
اولو العزم راتن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
تو عذر كنه راجه دارى بيا
{كُلُّ أُمَّة} كرر كل أمة ؛ لأنه موضع الإغلاظ والوعيد.
(تدعى إلى كتابها أي إلى صحيفة أعمالها فالإضافة مجازية للملابسة ؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه.
وفيه إشارة إلى عجز العباد وأن لا حول ولا قوة لهم فيما كتب الله لهم في الأزل وأنهم
453
لا يصيبهم في الدنيا والآخرة ، إلا ما كتب الله لهم على مقتضى أعيانهم الثابتة ، فلا يجرون في الأفعال إلا على القضاء.
قال الحافظ :
درين جمن نكنم سرزنش بخود رويى
جنانكه برور شم ميد هند ميرويم
{الْيَوْمَ} : معمول لقوله : {تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي : يقال لهم ذلك ، فمن كان عمله الإيمان جزاه الله بالجنة ، ومن كان عمله الشرك والكفر جزاه بالنار ، كما قال النبي عليه السلام "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك فيجثيان بين يدي الرب تعالى ، فيقول الله للإيمان انطلق أنت وأهلك إلى الجنة ، ويقول للشرك : انطلق أنت وأهلك إلى النار".
{كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} .
{هَـاذَا كِتَـابُنَا} إلخ من تمام ما يقال حينئذٍ ، وحيث كان كتاب كل أمة مكتوباً بأمر الله أضيف إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره ، وإلا فالظاهر أن يضاف إلى الأمة بأن يقال : كتابها كما فيما قبلها.
{يَنطِقُ عَلَيْكُم} ؛ أي : يشهد عليكم.
{بِالْحَقِّ} ؛ أي : من غير زيادة ولا نقص.
والجملة خبر آخر لهذا وبالحق حال من فاعل ينطق.
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} إلخ تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها ؛ أي : كنا فيما قبل نستكتب الملائكة.
{مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة صغيرة أو كبيرة ؛ أي : نأمر الملائكة بكتب أعمالكم وإثباتها عليكم ؛ لأن السين للطلب والنسخ في الأصل هو النقل من أصل ، كما ينسخ كتاب من كتاب ، لكن قد يستعمل للكتبة ابتداء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وقال بعضهم : ما من صباح ولا مساء إلا وينزل فيه ملك من عند إسرافيل إلى كاتب أعمال كل إنسان ينسخ عمله الذي يعمله في يومه وليلته ، وما هو لاق فيها كما قال عليه السلام : أول ما خلق الله القلم وكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول بر أو فجور وأحصاه في الذكر واقرؤوا : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ، فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله وكل ملائكة يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيعارضون به حفظة الله على عباده كل عشية خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم.
ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان ، فإذا أفني الورق مما قدر وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة ، فيطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً ، فترجع الحفظة فيجدونه قد مات.
ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما : ألستم قوماً عرباً؟ هل يكون الاستنساخ إلا من أصل ، وهو اللوح المحفوظ من التغير والتبدل والزيادة والنقصان على ما عليه كان بما كتبه القلم الأعلى ، وفيه دليل أن الحفظة يعلمون ما يقع في ذلك اليوم من العبد ، ويفعله قبل أن يفعله ، فإن قلت : إذا علمت الحفظة أعمال العبد من اللوح المحفوظ ، فما فائدة ملازمتهم العبيد وكتابتهم أعمالهم قلت : إلزام الحجة لا يحصل إلا بشهودهم فعل العبد في وقته المخصوص وكتابتهم على ما وقع.
قال بعضهم : إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد يقابلونه بما في أم الكتاب فما فيه ثواب وعقاب أثبت ، وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي.
وذلك قوله تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39) ، فعلى العبد أن يتدارك الحال قبل حلول الآجال ، فإنه سوف ينفذ العمر وينقلب الأمر.
قال الشيخ سعدي :
دريغست فرموده ديوزشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
روا دارى از جهل
454
وناباكيت
كه باكان نويسند نابا كيت
طريقى بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يك لحظه صورت نه بنددامان
جو بيمانه برشد بدور زمان
(8/351)
جعلنا الله وإياكم من المسارعين إلى أسباب رضاه والمسابقين إلى قبول أمره وهداه.
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} من الأمم ؛ لأنه تفصيل لما قبله : {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} ؛ أي : في جنته ؛ لأن الدخول حقيقة في الجنة دون غيرها من أقسام الرحمة ، فهو تسمية الشيء باسم حاله يعني : لما كانت الجنة محل الرحمة أطلق عليها الرحمة بطريق المجاز المرسل.
{ذَالِكَ} الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} : الظاهر كونه فوزاً إلا فوز وراءه.
يقول الفقير : وما الفوز العظيم؟ فهو دخول جنة القلب ولقاؤه تعالى في الدنيا والآخرة ، ولكن لما كان هذا الفوز غير ظاهر بالنسبة إلى العامة ، وكان الظاهر عندهم الفوز بالجنة قيل : هو الفوز المبين ، وإن اشتمل الفوز المبين على الفوزالعظيم ؛ لأن الجنة محل أنواع الرحمة.
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسرائيل مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} .
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ} ؛ أي : فيقال لهم بطريق التوبيخ والتقريع ألم تكن تأتيكم رسلي؟ أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه ثقة بدلالة القرينة عليه.
{فَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به.
{وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} ؛ أي : قوماً عادتهم الإجرام.
قال الشيخ السمرقندي في "بحر العلوم" ، فإن قلت : أهذه الآية تشمل الذي في أقاصي الروم والترك والهند من الذين لم تبلغهم الدعوة ، ولم يتل عليهم شيء من آيات الله؟ وهم أكثر عدداً من رمال الدهناء.
وما قولك فيهم؟ قلت : لا بل الظاهر عندي بحكم الآية أن هؤلاء معذورون مغفورون شملتهم رحمة الله الواسعة ، بل أقول : تشمل كل من مات في الفترة ، وكل أحمق وهرم وكل أصم أبكم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "أربعة كلهم نزل على الله بحجة وعذر : رجل مات في الفترة ، ورجل أدرك الإسلام هرماً ، ورجل أصم أبكم معتوه ، ورجل أحمق".
فاستوسع أيها السائل رحمة الله ، فإن صاحب الشرع هو الذي استوسع رحمة الله تعالى قبلنا ، ولم يضيق على عباده ولا تشغل بالتكفير والتضليل لسانك وقلبك كطائفة بضاعتهم مجرد الفقه يخوضون في تكفير الناس وتضليلهم ، وطائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين ، وزعموا وقد كذبوا وفي غمرتهم عمهوا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا المحررة في كتبنا ، فهو كافر ، فأولئك عليهم العويل والنياحة أيام حياتهم ومماتهم حيث ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده ، وجعلوا الجنة حصراً ووقفاً على طائفة الفقهاء وشرذمة المتكلمين ، وكفروا وضللوا الذين هم براء من الكفر والضلالة ، وقد ذهلوا أو جهلوا بقول النبي عليه السلام أمتي كلها في الجنة إلا الزنادقة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وقد روي أيضاً : "الهالك منها واحدة" ، ويقول عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً ، وبما قال أنس رضي الله عنه ، قال النبي عليه السلام : "إذا كان يوم القيامة يغفر الله لأهل الأهواء أهواءهم وحوسب الناس بأعمالهم إلا الزنادقة ، انتهى كلام السمرقندي في "تفسيره".
والزنديق هو من يقول ببقاء الدهر ؛ أي : لا يؤمن بالآخرة ، ولا الخالق ؛ أي : لا يعتقد إلهاً ولا بعثاً ولا حرمة شيء من الأشياء ويعتقد أن الأموال والحرم مشتركة.
وفي قبول توبته روايتان ، والذي ترجح عدم
455
(8/352)
قبول توبته كما في "فتاوى قارىء الهداية" وفي "الأصول" من لم تبلغه الدعوة ، فهو غير مكلف بمجرد العقل ، فإذا لم يعتقد إيماناً ولا كفراً كان معذوراً إذا لم يصادف مدة يتمكن فيها من التأمل والاستدلال بأن بلغ في شاهق الجبل ، ومات في ساعته ، وإذا أعانه الله بالتجربة وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذوراً ، وإن لم تبلغه الدعوة ؛ لأن الإمهال وإدراك مدة التأمل بمنزلة دعوة الرسل في حق تنبيه القلب من نوم الغفلة ، فإذا قصر في النظر لم يكن معذوراً وليس على حد الإمهال دليل يعتمد عليه ، وما قيل أنه مقدر بثلاثة أيام اعتباراً بالمرتد فإنه يمهل ثلاثة أيام ليس بقوي : لأن هذه التجربة تختلف باختلاف الأشخاص ؛ لأن العقول متفاوتة فرب عاقل يهتدي في زمان قليل إلى ما لا يهتدي إليه غيره في زمان طويل ، فيفوض تقديره إلى الله إذ هو العالم بمقدارها في حق كل شخص ، فيعفو عنه قبل إدراكها ، أو يعاقبه بعد استيفائها ، وعند الأشعرية إن غفل عن الاعتقاد حتى هلك ، أو اعتقد الشرك ، فلم تبلغه الدعوة كان معذوراً ؛ لأن المعتبر عندهم هو السمع دون العقل ، ومن قتل من لم تبلغه الدعوة ضمنه ؛ لأن كفرهم معفو عندهم ، فصاروا كالمسلمين في الضمان ، وعندنا لم يضمن وإن كان قتله حراماً قبل الدعوة ضمنه ؛ لأن غفلتهم عن الإيمان بعد إدراك مدة التأمل لا يكون عفواً ، وكان قتلهم مثل قتل نساء أهل الحرب ، فلا يضمن ، ثم الجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر إلينا يكون عذراً حتى لو لم يصل ولم يصم مدة ، ولم تبلغ إليه الدعوة لا يجب عليه قضاؤهما ؛ لأن دار الحرب ليس بمحل لشهرة أحكام الإسلام بخلاف الذمي إذا أسلم في دار الإسلام يجب عليه قضاء الصلاة ، وإن لم يعلم بوجوبها ؛ لأنه متمكن من السؤال عن أحكام الإسلام وترك السؤال تقصير منه ، فلا يكون عذراً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير : والذي تحرر من هذه التقريرات أن من لم تبلغه الدعوة ، فهو على وجهين : إما أن يمهل له قدر ما يتأمل في الشواهد ويعرف التوحيد أولاً ، فالثاني : معذور دون الأول ، وتكفي المعرفة المجردة وإن لم يكن هناك إيمان شرعي.
ولذا ورد في الخبر من مات ، وهو يعرف ، ولم يقل ، وهو يؤمن ، فدل على أن من عرف الله تعالى معرفة خالصة ليس فيها شرك نجا من النار.
ومعنى الإيمان الشرعي هو المتابعة لنبي من الأنبياء عليهم السلام.
وقس على هذا أحوال أهل الفترة ، فإنهم إن لم يخلوا بالتوحيد وبالأصول كانوا معذورين ، فقول من قال : ليأتين على جهنم زمان إلخ.
حق فإن الطبقة العالية من جهنم التي هي مقر عصاة المؤمنين تبقى خالية بعد مرور الأحقاب ، يعني : من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان ؛ أي : معرفة الله تعالى سواء سمي ذلك إيماناً شرعياً ، أم لا يخرج من النار ، فإذا لم يكفر أهل المعرفة المجردة ، فكيف أهل القبلة من المؤمنين بالإيمان الشرعي ما لم يدل دليل ظاهر أو خفي على كفره.
قال المولى الجامي في سلسلة الذهب :
هركه شد زاهل قبله برتوبديد
كه به آورده نبي كرويد
كرجه صد بدعت وخطا وخلل
بينى اورا زروى علم عمل ه
مكن اورا زسرزنش تكفير
مشمارش زاهل نار سعير
وربببنى كسى زاهل اصلاح
كه رود راه دين صباح ورواح
بيفين زاهل جنتش مشمار
ايمن از روز آخرش مكذار
مكر آنكس كه از رسول خدا
شد مبشر بجنة المأوى
قال الشيخ علاء الدولة في كتاب "العروة" : جميع الفرق الإسلامية أهل النجاة.
والمراد
456
من الناجية في حديث "ستفترق أمتي".
إلخ الناجية بلا شفاعة.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} أن ما وعده من الأمور الآتية ، فهو بمعنى الموعود.
{حَقٍّ} واقع لا محالة {وَالسَّاعَةُ} ؛ أي : القيامة التي هي أشهر ما وعده.
{لا رَيْبَ فِيهَآ} ؛ أي : في وقوعها لكونها مما أخبر به الصادق ، ولقيام الشواهد على وجودها.
{قُلْتُمْ} من غاية عتوكم يا منكري البعث من الكفار والزنادقة.
{مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} ؛ أي : أي شيء هي استغراباً لها.
{إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا} ؛ أي : ما نفعل فعلاً إلا ظناً فإن ظاهره استثناء الشيء من نفسه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي "فتح الرحمن" ؛ أي : لا اعتقاد لنا إلا الشك والظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان ويجيء بمعنى اليقين.
انتهى.
ومقابل الظن المطلق هو الاستيقان ولذا قال : {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ؛ أي : لإمكان الساعة ، يعني : (مارا يقينى نيست در قيام قيامت).
ولعل هؤلاء غير القائلين : ما هي إلا حياتنا الدنيا ، فمنهم من يقطع بنفي البعث والقيامة ، وهم المذكورون في الآية الأولى.
ومنهم : من يشك لكثرة ما سمعوه من الرسول عليه السلام من دلائل صحة وقوعه.
وهم المذكورون في هذه الآية.
(8/353)
قال في "التعريفات" : الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ، ويستعمل في اليقين والشك.
انتهى.
واليقين إيقان العلم ينفي الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالاً ، ولذلك لا يوصف به علم القديم ولا العلوم الضرورية إذ لا يقال : تيقنت أن السماء فوقي ، فعلى العاقل أن يرفع الشك عن الأمور التي أخبر الله بها ، ويكون على يقين تام منها.
وفي المثنوي :
وعدها باشد حقيق دلبذير
وعدها باشد مجازى تاسه كير
وعدة أهل كرم كنج روان
وعدة نا اهل شد رنج روان
ولا شك أن ليس من الله أصدق قيلاً ، فوعده للمؤمنين الموقنين يورث الفرح والسرور ، فإنهم وإن كانوا يخافون القيامة وأهوالها لكنهم يرجون رحمة الله الواسعة ، ولا يصلون إلى كمال تلك الرحمة إلا بوقوع القيامة ، فإنه هو الذي توقف عليه دخول الجنة ودرجاتهاونعيمها ولليقين مراتب الأولى : علم اليقين ، وهو العلم الحاصل بالإدراك الباطني بالفكر الصائب والاستدلال.
وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا نزيد هذه المرتبة العلمية إلا بمناسبة الأرواح القدسية ، فإذا بكون العلم عيناً ، وهي المرتبة الثانية التي يقال لها عين اليقين ، ولا مرتبة للعين إلا اليقين الحاصل ، من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة إلا بزوال حجاب الاثنينية ، فإذا بكون العين حقاً ، وهي المرتبة الثالثة التي يقال لها : حق اليقين وزيادة هذه المرتبة عدم ورود الحجاب بعده ، وعينه للأولياء حقه للأنبياء ، وأما باطن حق اليقين ، وهو حقيقة اليقين ، فهو لنبينا عليه السلام ، وهي المراتب لا تحصل إلا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الأكل وكثرة الذكر والسكوت بالفكر في ملكوت السماوات والأرض وبأداء السنن والفرائض ، وترك ما سوى الحق والفرض وتقليل المنام والعرض وأكل الحلال وصدق المقال ، والمراقبة بقلبه إلى الله ، فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة ، وكلها من الشريعة النبوية ، فلا بد من المتابعة له في قوله وفعله.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يايزيد بسطامي قدس سره كفت روح من بهمه ملكوت بر كذشت وبهشت ودوزخ بد ونمود بجيزى التفات نكرد وبجان هيج بيغمبر نرسيد الإسلام كردجون بروح باك مصطفى عليه السلام رسيدم آبجاصد هزاران درياى آتشين ديدم بى نهايت وهزاران حجاب ازنور ديدم اكر باول دريا قدم نهادمى بسوختمى لا جرم زان هيبت جنان مدهوش
457
شدم كه هيج نماندم با آنكه بحق رسيدم زهره نداشتم بمحمد عليه السلام رسيدن يعنى هركس بقدر خويش بخدا تواند رسيدكه حق باهمه است اما محمد عليه السلام دربيش شان درصدر خاص است تالاجرم وادى لا إله إلا الله قطع نكنى بوادى محمد رسول الله نتوانى رسيد وبحقيقت هرد ووادى يك انديس بايزيد كفت الهي هرجه ديدم همه من بوسم بامن بتوراه نيست وازخودى خود مرادر مكذارى مراجه بايدكرد فرمان آمد كه يا أبا يزيد خلاصى توازثوبى نواتدر متابعت دوست ما محمد عليه السلام بسته است ديده را بخاك قدم او اكتحال كن وبر متابعت أو مداومت نماى).
فظهر أنه كلما كان التصديق أقوى والمتابعة أوفر كان القرب أكثر ، ومن هذا عرف حال الكفار وأهل الإنكار في البعد والفراق نعوذ بالله الخلاق.
تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون†
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ * إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} .
{وَبَدَا لَهُمْ} ؛ أي : ظهر للكفار في الآخرة.
{سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا} من إضافة الصفة إلى موصوفها ؛ أي : أعمالهم السيئة على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة ، وعاينوا وخامة عاقبتها.
والمراد الشرك والمعاصي التي كانت تميل إليها الطبائع والنفوس وتشتهيها وتستحسنها ، ثم تظهر يوم القيامة في الصور القبيحة ، فالحرام في صورة الخنزير ، والحرص في صورة الفأرة والنملة والشهوة في صورة الحمار والعصفور والغضب في صورة الفهد والأسد والكبر في صورة النمر والبخل في صورة الكلب والحقد في صورة الجمل والأذية بلسانه في صورة الحية وشره الطعام والشراب ، والمنام في صورة الجاموس والبقر والعجب في صورة الدب واللواطة في صورة الفيل والحيلة في صورة الثعلب وسرقة الليل في صورة الدلق ، وابن عرس والرياء والدعوى في صورة الغراب ، والعقعق والبومة واللهو بالملاهي في صورة الديك ، والفكر بلا قاعدة في صورة القمل والبرغوث والنوح في صورة ما يقال بالفارسية : (شغال).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
والعلم بلا عمل كالشجرة اليابسة والرجوع من الطريقة الحقة في صورة تحول الوجه إلى القفا إلى غير ذلك من الصور المتنوعة بحسب الأعمال المختلفة ، فكل ما أثمر لهم في الآخرة إنما هو في زرع زرعوه في مزرعة الدنيا بأعمالهم السيئة ، ويجوز أن يراد بسيئات ما عملوا جزاؤها ، فإن جزاء السيئة سيئة ، فسميت باسم سببها.
{وَحَاقَ بِهِم} أحاط ونزل.
(8/354)
وقال أبو حيان : لا يستعمل إلا في المكروه.
يقال : حاق به يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً ، أحاط به كأحاق والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله.
{مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} من الجزاء والعقاب.
{وَقِيلَ} من جانب الحق {الْيَوْمَ} ، وهو يوم القيامة {نَنسَـاـاكُمْ} نترككم في العذاب ترك المنسي ، ففي ضمير الخطاب استعارة بالكناية بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب وعدم المبالاة بهم وقرينتها النسيان.
{كَمَا نَسِيتُمْ} في الدنيا {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَآ} ؛ أي : كما تركتم عدته ، ولم تبالوا بها ، وهي الإيمان والعمل الصالح وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه ؛ أي : نسيتم لقاء الله وجزاءه في يومكم هذا فأجري اليوم مجرى المفعول به ، وجعل ملقياً.
وفيه إشارة إلى أنهم زرعوا في مزرعة الدنيا بذر النسيان فأثمرهم في الآخرة ثمرة النسيان :
اكر بدكنى جشم نيكى مدار
كه هركز نيارد كز انكوربار
درخت زقوم اربجان برورى
مبندار هركز كز وبر خورى
رطب ناورد
458
جوب خرز هره بار
جه تخم افكنى برهمان جشم دار
{وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ} ومرجعكم ومكانكم جهنم.
وبالفارسية : (شما آتش است).
لأنها مأوى من نسينا ، كما الجنة مأوى من ذكرنا.
{وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} ؛ أي : ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها.
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ} .
{ذالِكُمْ} لعذاب {بِأَنَّكُمُ} ؛ أي : بسبب أنكم {ذَالِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَـاتِ} ؛ أي : مهزواً بها ، ولم ترفعوا لها رأساً بالتفكر والقبول.
{وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} ، فحسبتم أن لا حياة سواها :
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
نوشته اندبر ايوان جنة المأوى
كه هركه عشوة دنيا خريد واى بوى
{فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} ؛ أي : من النار والتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار.
{وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ؛ أي : يطلب منهم أن يعتبوا ربهم ؛ أي : يرضوه بالطاعة لفوات أوانه.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى أظهر على مخلصي عباده بعض آياته ، فلما رآها أهل الإنكار اتخذوها هزواً على ما هو عادتهم في كل زمان وغرتهم الحياة الدنيا إذ ما قبلوا وصية الله إذ قال : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، فاليوم لا يخرجون من نار القهر الإلهي ؛ لأنهم دخلوا فيها على قدمي الحرص والشهوات ، ولا هم يستعتبون في الرجوع إلى الجنة على قدمي الإيمان والعمل الصالح.
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} خاصة {رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَرَبِّ الارْضِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} كلها من الأرواح والأجسام والذوات والصفات ، فلا يستحق الحمد أحد سواه وتكرير الرب للتأكيد والإيذان بأن ربيته تعالى لكل منها بطريق الأصالة.
{وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : العظمة والقدرة والسلطان والعز لظهور آثارها وأحكامها فيهما وإظهارهما في موقع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يغلب.
{الْحَكِيمُ} في كل ما قضى وقدر ، فاحمدوه ؛ أي : لأن له الحمد وكبروه ؛ أي : لأن له الكبرياء وأطيعوه ؛ أي : لأنه غالب على كل شيء.
وفي كل صنعه حكمة جليلة.
وفي الحديث : "إنثلاثة أثواب اتزر بالعزة وارتدى بالكبرياء وتسربل بالرحمة ، فمن تعزز بغير الله أذله الله" فذلك الذي يقول الله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم.
ومن تكبر فقد نازع الله ، إن الله تعالى يقول : لا ينبغي لمن نازعني أن أدخله الجنة ، ومن يرحم الناس يرحمه الله ، فذلك الذي سربله الله سرباله الذي ينبغي له.
وفي الحديث القدسي يقول الله : "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ، فللعبد أن يتخلق بأخلاق الحق تعالى ، ولكنه محال أن يتخلق بهذين الخلقين ؛ لأنهما أزليان أبديان لا يتطرق إليهما التغير.
وفي خلق العبد تغيير ، وله بداية ونهاية ، وله مبدىء ومعيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال بعض الكبار : وصف الحق سبحانه وتعالى نفسه بالإزار والرداء دون القميص والسراويل ؛ لأن الأولين غير مخيطين ، وإن كانا منسوجين فهما إلى البساطة أقرب والثانيين مخيطان ، ففيهما تركيب ، ولهذا السر حرم المخيط على الرجل في الإحرام دون المرأة ؛ لأن الرجل وإن كان خلق من مركب فهو إلى البساطة أقرب ، وأما المرأة فقد خلقت من مركب محقق هو للرجل ، فبعدت عن البسائط والمخيط تركيب ، فقيل للمرأة أبقي على أصلك لا تلحقي الرجل.
وقيل للرجل : ارتفع عن تركيبك.
وفي تقديم الحمد على الكبرياء إشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يعرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقاً بإنعامه ، بل هو أكبر من حمد الحامدين وأياديه
459
أجل من شكر الشاكرين.
(8/355)
قال بعض العارفين : اعلم أن التكبير تنزيه ربك عن قيد الجهات والتحولات المختلفة ، وعن قيد التعينات العلمية والاعتقادية المتنوعة بحسب المراتب.
وعن سائر أحكام الحصر ما ظهر من ذلك المذكور وما بطن مما لا يتحقق بمعرفته إلا من عرف سر العبادات المشروعة وسر التوجهات الكونية إلى الحضرة الربانية ، فمعنى كل تكبير صلاتي الله أكبر من أن يتقيد بهذه التحولات العبادية ، والمراتب والتعينات الكونية.
وقال شيخ الإسلام : (خواهر زاده) : معنى الله أكبر ؛ أي : من يؤدي حقه بهذا القدر من الطاعة ، بل حقه الأعلى ، كما قالت الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك.
وفي "جامع المضمرات" : ليس المعنى على أنه أكبر من غيره حتى يقال : أكبر منه ، بل كل ما سواه ، فهو نور من أنوار قدرته كما حكي أنه عطس رجل عند الجنيد ، فقال : الحمد ، فقال الجنيد : الحمدرب العالمين ، موافقاً للقرآن ، فقال الرجل : وهل للعالم وجود حتى يذكر مع الله ، فمعنى الله أكبر ؛ أي : أكبر من أن يناله الحواس ويدرك جلاله بالعقل والقياس ، بل أكبر من أن يدرك كنه جلاله غيره ، بل أكبر من أن يعرفه ، فإنه لا يعرف الله إلا الله.
قال بعض الفضلاء : الصحيح ما عليه المحققون من أن اسم التفضيل إذا أطلق على الله تعالى فهو بمنزلة المعرف باللام في المعنى ، فهو بمعنى الله هو الأكبر ولا يسوغ فيه تقدير من فإنه حينئذٍ يقتضي أن يشاركه غيره في أصل الكبرياء ، وهو سبحانه منزه عن أن يشاركه غيره في شيء من صفاته ، كيف يتصور ذلك؟ ولا كبرياء في غيره تعالى ، بل شعار ما سواه كمال الصغار والاحتياج إلى جنابه تعالى فضلاً عن الاتصاف بالكبرياء والعظمة والكبر في حق ما سواه من أسوء الأخلاق الذميمة وتعالى الله أن يشاركه غيره في صفة هي كمال لخلقه تعالى فضلاً عن صفة هي ذميمة لهم ، بل اسم التفضيل في حقه تعالى دال على زيادة المبالغة والكمال المطلق الذي لا يتصور أن يشاركه فيه أحد مما سواه.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وكان عليه السلام : يزيد في تكبيرات صلاة العيدين ، فتارة يجعل الزوائد ستاً وأخرى أكثر ، وسره أن العرب يجتمعون في الأعياد من القبائل ويزاحمون على مطالعة جماله ويعظمونه أشد التعظيم ، فكان ينفي الكبرياء عن نفسه فيثبتهاتعالى بما يحصل له كمال الاطمئنان من الأعداد.
قال في "كشف الأسرار" : (بسمع عمر بن عبد العزيز رسانيد ندكه بسرتو انكشترى ساخته است ونكينى بهزار درم خريد بروى نشانده نامه نوشته بوى كه اى بسر شنيدم كه انكشترى ساخته ونكينى بهزاردرم خريده ودروى نشانده اكر رضاى من ميخواهى آن نكين بفروش وازبهاى آن هزار كرسنه راطعام ده واز بارة سيم خودرا انكشترى ساز وبر آن نقش كن كه :
رحم الله امرأً عرف قدر نفسه :
زيرا كبربا صفت خداوند ذي الجلالست
مرورا سزد كبريا ومنى
كه ملكش قديمست وذاتش غنى
يكى رابسر بر نهد تاج بخت
يكى رابخاك اندر آرد زتخت
بتهديد اكر بر كشد تيغ حكم
بما نندكر وبيان صم وبكم
بدر كاه لطف وبز ركيش بر
بزركان بزركى زسر
بدرد يقين بردعاى خيال
نماند سرا برده الاجلال
أي : لا يبقى من الحجب إلا حجاب العظمة ورداء الكبرياء ، فإنه لا يرتفع أبداً ، وإلا لتلاشى وجود الإنسان ، والتحق بالعدم في ذلك الآن ، فاعرف هذا بالذوق والوجدان.
460
تمت سورة الجاثية في الرابع عشر من شهر رمضان المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث عشرة ومائة وألف سورة الأحقاف أربع أو خمس وثلاثون آية مكية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434(8/356)
سورة الأحقاف
جزء : 8 رقم الصفحة : 460
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{حم} ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ{حم} .
وقال بعضهم : الحاء إشارة إلى حماية أهل التوحيد.
والميم إلى مرضاته منهم مع المزيد ، وهو النظر إلى وجهه الكريم.
وقال بعضهم : معناه حميت قلوب أهل عنايتي فصنتها عن الخواطر والهواجس فلاح فيها شواهد الدين وأشرقت بنور اليقين.
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن القرآن حياة الموتى ، كما قال أو كلم به الموتى.
وكذا حياة الموتى من القلوب ، فإن العلوم والمعارف والحكم حياة القلوب والأرواح والأسرار.
وأيضاً إلى الأسماء الحسنى ، فإن حاء وميم من حساب البسط تسعة وتسعون وأيضاً إلى الصفات السبع التي خلق الله آدم عليها ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
فالحاء حاء الحياة والميم ميم الكلام ، فأشير بالأول والآخر إلى المجموع ، يعني أن الله تعالى أنزل القرآن لتحصي أسماؤه الحسنى ، وتعرف صفاته العليا ويتخلق بأخلاقه العظمى.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} ؛ أي : القرآن المشتمل على هذه السورة ، وعلى سائر السور الجليلة.
وبالفارسية : (فردستان كتاب بعضى از بى بعض).
وهو مبتدأ خبره قوله : {مِنَ اللَّهِ} وما كان من الله فهو حق وصدق ، فإنه قال : ومن أصدق من الله قيلاً {الْعَزِيزُ} وما كان من العزيز ، فهو عزيز غالب على جميع الكتب بنظمه ومعانيه ، ودليل ظاهر لأرباب الظواهر والباطن.
{الْحَكِيمُ} : وما كان من الحكيم ، ففيه حكمة بالغة ؛ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة كما قال : {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ} (الحجر : 85) بما فيهما من حيث الجزئية منهما ، ومن حيث الاستقرار فيهما.
{وَمَا بَيْنَهُمَآ} من المخلوقات كالنار والهواء والسحاب والأمطار والطيور المختلفة ونحوها.
{إِلا} خلقاً ملتبساً {بِالْحَقِّ} ؛ أي : بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وإن جعلها مقراً للمكلفين ليعملوا ، فيجازيهم يوم القيامة لا بالعبث والباطل ؛ فإنه ما وجد شيء إلا لحكمة ، والوجود كله كلمات الله ولكل كلمة ظهر هو الصورة وبطن هو المعنى إلى سبعة أبطن ، كما ورد في الخبر "لكل حق حقيقة" ، فالوجود كله حق حتى أن النطق بكلمات لا معاني لها حق ، فإنها قد وجدت.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
والباطل هو المعنى الذي تحتها ، كقول من يقول : مات زيد ، ولم يمت ، فإن حروف الكلمة حق ، فإنها قد وجدت.
والباطل هو أن زيداً مات.
وهو المعنى الذي تحتها فالدنيا حق وحقيقتها الآخرة ، والبرزخ وصل بينهما وربط.
ومن ها هنا يعرف قول علي رضي الله عنه : الناس نيام إذا ماتوا تيقظوا ، فالرؤيا حق.
وكذا ما في الخارج من تعبيرها لكن كلاً منهما خيال بالنسبة إلى الآخرة لكونه من الدنيا ، وكونه خيالاً ، ومن الدنيا لا ينافي كونه حقاً ، وإنما ينافي كونه حقيقة.
ولذا قال يوسف الصديق عليه السلام : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً.
وقال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : إنما الكون خيال ، وهو حق في الحقيقة.
وفي الآية إشارة إلى أن المخلوقات كلها ما خلقت إلا لمعرفة الحق تعالى ، كما قال قائل : فخلقت لخلق لأعرف.
وفي الحديث : "لو عرفتم الله حق
461
معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ، ولهذه المعرفة خلقت سماوات الأرواح وأراضي النفوس ، وما بينهما من العقول والقلوب والقوى.
{وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على الحق بتقدير المضاف ؛ أي : بتقدير أجل معين ينتهي إليه أمور الكل ، وهو يوم القيامة ، وذلك لأن اقتران الخلق ليس إلا به لا بالأجل نفسه.
وفيه إيذان بفناء العالم وموعظة وزجر ؛ أي : فانتبهوا أيها الناس ، وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم؟
وإشارة بأن لكل عارف أجل مسمى لمعرفته وأكثره في هذه الأمة أربعون سنة ، فإنها منتهى السلوك ، فلا يغتر العبد بعلمه وعرفانه ، فإنه فوق كل ذي علم عليم ، ولكل حد نهاية ، والأمور مرهونة بأوقاتها وأزمانها.
وهذا بالنسبة إلى من سلك على الفطرة الأصلية وعصم من غلبة أحكام الإمكان ، وإلا فمن الناس من يجتهد سبعين سنة ، ثم لا يقف دون الغاية ، ثم إنه فرق بين أوائل المعرفة وأواخرها ، فإن حصول أواخرها يحتاج إلى مدة طويلة بخلاف أوائلها إذ قد تحصل للبعض في أدنى مدة ، بل في لحظة كما حصلت لسحرة فرعون ؛ فإنهم حيث رأوا معجزة موسى عليه السلام.
قالوا : آمنا برب العالمين.
حكي : أن إبراهيم بن أدهم قدس سره لما قصد هذا الطريق لم يك إلا مقدار سيره من بلخ إلى مرو الروذ حتى صار بحيث أشار إلى رجل سقط من القنطرة في الماء الكثير هنالك ، فوقف الرجل مكانه في الهواء ، فتخلص وإن رابعة البصرية كانت أمة كبيرة يطاف بها في سوق البصرة ، ولا يرغب فيها أحد لكبر سنها ، فرحمها بعض التجار ، فاشتراها بنحو مائة درهم وأعتقها ، فاختارت هذا الطريق وأقبلت على العبادة ، فما تمت لها سنة حتى زادها زهاد البصرة وقراؤها وعلماؤها لعظم منزلتها ، فهذه من العناية القديمة والإرادة الأزلية الغير المعللة بشيء من العلل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
فيض روح القدس ارباز مدد فرمايد
ديكران هم بكنند آنجه مسيحا ميكرد
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : لم يكن يتخلص عندي أحد الجانبين في مسألة خلق الأعمال وتعسر عندي الفصل بين الكتب الذي يقول به قوم ، وبين الخلق الذي يقول به قوم ، فأوقفني الله تعالى بكشف بصري على خلقة المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مخلوق ، وقال : هل هنا أمر يورث اللبس والحيرة.
قلت : لا يا رب ، فقال لي : هكذا جميع ما نراه من المحدثات ما لأحد فيه أثر ولا شيء من المخلوق ، فأنا الذي أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب ، فتكون على أمري خلقت النفخ في عيسى وخلقت التكون في الطائر.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : مشركو أهل مكة {عَمَّآ أُنذِرُوا} به وخوفوا من يوم القيامة ، وما فيه من الأهوال {مُّعْرِضُونَ} بترك الاستعداد له بالإيمان والعمل.(8/357)
وفيه إشارة إلى أن الإعراض عما أنذروا به كفر.
قال الفقهاء : إذا وصف الله أحد بما لا يليق به كالإمكان والحدوث والجسمية والجهات والظلم والنوم والنسيان والتأذي ونحو ذلك ، أو استهزأ باسم من أسمائه أو أمر من أوامره أو أنكر شيئاً من وعده ووعيده وما ثبت بدليل قطعي يكفر ولو زنى رجل ، أو عمل عمل قوم لوط ، فقال له الآخر : مكن ، فقال : (كنم ونيك أرم).
فهذا كفر ، ولو قيل لرجل : لا تعص الله ، فإن الله يدخلك النار ، فقال : (من از دوزخ نه انديشم يكفر).
ولو قيل الرجل : (بسيار مخور وبسيار مخب أو بسيار مخد) ، فقال : (جندان خورم وخسم وخندم خود خواهم يكفر).
لكون كل من الأكل والنوم والضحك الكثير منهياً عنه مميتاً
462
للقلب فرد القول فيه رد للنص حقيقة.
وفي آخر "فتاوى الظهيرية" : سئل الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل ، عمن يقول : أنا لا أخاف النار ، ولا أرجو الجنة ، وإنما أخاف الله وأرجوه ، فقال قوله : لا أخاف النار ، ولا أرجو الجنة غلط ، فإن الله تعالى خوف عباده بالنار بقوله تعالى : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} (آل عمران : 131) ، ومن قيل له : خف مما خوفك الله ، فقال : لا أخاف رداً لذلك كفر ، انتهى.
يقول الفقير : صرح العلماء بأن الإيمان من أجل خوف النار ورجاء الجنة لا يصح ؛ لأنه إيمان غير خالص ، فلو كان مراده من نفي الخوف والرجاء ، أن إيماني ليس بمبني عليهما لم يكفر ، بل أصاب حقيقة الإيمان على أن المراد من اتقاء النار في الحقيقة اتقاء الله تعالى ، فإن الله هو الذي يدخله النار بمقتضى وعيده على تقدير عصيانه ، فيؤول المعنى في الآية إلى قولنا : فاتقوا الله ولا تعصوه حتى لا يدخلكم النار ، نعم رد ظاهر النص كفر إذا لم يقدر على الخروج عن عهدته بتأويل مطابق للشرع ، ومن أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه : اتق الله ، فيقول في جوابه : عليك نفسك ؛ أي : الزم نفسك وأنت تأمرني بهذا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
روي : أن يهودياً قال لهارون الرشيد في سيره مع عسكره : اتق الله ، فلما سمع هارون قول اليهودي نزل من فرسه ، وكذا العسكر نزلوا تعظيماً لاسم الله العظيم ، وجاء في كتب الأصول إذا حلف على مس السماء انعقد اليمين لتوهم البر ؛ لأن السماء ممسوسة ، كما قال تعالى حكاية عن الجن ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} (الجن : 8) ، ثم يحنث ويلزمه موجب الحنث ، وهو الكفارة ، فيكون آثماً ؛ لأن المقصود باليمين تعظيم المقسم به ، وها هنا هتك حرمة الاسم.
انتهى.
فعلى العاقل أن يقبل قول الناصح ويخاف من الله ويعظم اسمه حتى يكون مظهر صفات لطفه ويعرف أنه تعالى لطيف ، فإذا كفر وأعرض يكون مظهر صفات قهره ، فيعرف أن الله تعالى قهار نسأل الله عفوه وعطاه ولطفه الواسع ورضاه.
{إِنَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ لايَـاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَـاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ ءَايَـاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} .
{قُلْ} للكافرين توبيخاً وتبكيتاً.
{أَرَءَيْتُمْ} : أخبروني.
وبالفارسية : (خبر ميد هيد مرا) {مَا تَدَّعُونَ} ؛ أي : ما تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} من الأصنام والكواكب وغيرها.
{أَرُونِىَ} : (بنما بيد بمن).
وهو تأكيد لأرأيتم.
{مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ} ؛ أي : كانوا آلهة وهو بيان الإبهام في ماذا ؛ أي : أي جزء من أجزاء الأرض تفردوا بخلقه دون الله ، فالمفعول الأول لأرأيتم قوله : ما تدعون.
والثاني : ماذا خلقوا ومآله أخبروني عن حال آلهتكم.
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} ؛ أي : شركة مع الله تعالى.
{فِى السَّمَـاوَاتِ} ؛ أي : في خلقها أو ملكها وتدبيرها حتى يتوهم أن يكون لهم شائبة استحقاق للعبودية ، فإن ما لا مدخل له في وجود شيء من الأشياء بوجه من الوجوه ، فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالكلية ، وإن كانوا من الأحياء العقلاء ، فما ظنكم بالجماد.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وجون ظاهر ست كه معبودان شما عاجزاند وايشان را درزمين وآسمان تصرفى نيست بس جرا دربرستش بامن شريك مى سازيد).
فإن قلت : فما تقول في عيسى عليه السلام ، فإنه كان يحيي الموتى ويخلق الطير ، ويفعل ما لا يقدر عليه غيره.
قلت : هو بأقدار الله تعالى وإذنه.
وذلك لا ينافي عجزه في نفسه وذكر الشرك في الجهات العلوية دون السفلية ؛ أي : دون أن يعم بالأرض أيضاً ؛ لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على اختصاص الله تعالى بخلقها لعلوها وكونها مرفوعة بلا عمد وأوتاد ، أو للاحتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية ، يعني : لو قال أم لهم شرك في الأرض لتوهم أن للسماوات دخلاً وشركة في إيجاد الحوادث السفلية هذا على
463
تقدير أن تكون أم منقطعة.
(8/358)
والأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل ، أم المتصلة لوجود دليله.
والتقدير : ألهم شرك في الأرض ، أم لهم شرك في السماوات؟ كما في "حواشي سعدي المفتي".
{ائْتُونِى بِكِتَـابٍ} إلخ.
تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي ، والباء للتعدية ؛ أي : ائتوني بكتاب إلهي كائن.
{مِّن قَبْلِ هَـاذَآ} ؛ أي : الكتاب أي : القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم ، يعني : أن جميع الكتب السماوية ناطقة بمثل ما نطق به القرآن.
{أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ؛ أي : بقية كائنة من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من لحم وشحم ؛ أي : على بقية لحم وشحم كانت بها من لحم وشحم ذاهب ذائب.
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في دعواكم ، فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو نقلي ، وحيث لم يقم عليها شيء منهما ، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها :
واحد اندر ملك اورا يارنى
بنكانش را جزا وسالارنى
نيست خلقش راد كركس مالكى
شركتش دعوى كند جز هالكى
وفيه إشارة إلى أن كل ما يعبد من دون الله من الهوى والشيطان وغيرهما لا يقدر على شيء في أرض النفوس وسماوات الأرواح ، فإن الله هو الخالق.
ومنه التأثير وبيده القلوب يقلبها كيف يشاء ، فإن شاء أقامها للحق وإن شاء أزاغها للباطل ، وليس لعبادة غير الله دليل من المعقول والمنقول ، ولم يجوزها أحد من أولي النهي والمكاشفة ، ومن ثمة اتفق العلماء من أهل الظاهر والباطن على وجوب الإخلاص حتى قالوا : الرغبة في الإيمان والطاعة لطلب الثواب والخوف من العقاب غير مقيدة فإن فيها ملاحظة غير الله فالعبادة إنما هيلا للجنة ولا للنار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَمِنْ} استفهام خبره قوله : {أَضَلَّ} : (كمراه ترست).
{مِمَّن يَدْعُوا} ويعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} ؛ أي : حال كونه متجاوزاً دعاء الله وعبادته.
{مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} : الجملة مفعول بدعواى هم أضل من كل ضلل حيث تركوا عبادة خالقهم السميع القادر المجيب الخبير إلى عبادة مصنوعهم العاري عن السمع والقدرة والاستجابة.
يعني : (اكر مشرك معبود باطل خودرا بخواند اثر استجابت از وظاهر نخواهد شد).
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} : غاية لنفي الاستجابة ؛ أي : ما دامت الدنيا ، فإن قيل : يلزم منه أن منتهى عدم الاستجابة يوم القيامة للإجماع على اعتبار مفهوم الغاية.
قلنا : لو سلم فلا يعارض المنطوق.
وقد دل قوله : وإذا حشر الناس الآية على معاداتهم إياهم ، فأنى الاستجابة ، وقد يجاب بأن انقطاع عدم الاستجابة حينئذٍ لاقتضائه سابقة الدعاء ولا دعاء ويرده قوله تعالى : {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} (الكهف : 52) إلا أن يخص الدعاء بما يكون عن رغبة ، كما في "حواشي سعدي المفتي".
وقال ابن الشيخ : وإنما جعل ذلك غاية مع أن عدم استجابتهم أمر مستمر في الدنيا والآخرة إشعاراً بأن معاملتهم مع العابدين بعد قيام الساعة أشد وأفظع مما وقعت في الدنيا إذ يحدث هناك العداوة والتبري ونحوه ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ، فإن اللعنة على الشيطان ، وإن كانت أبدية لكن يظهر يوم الدين أمر أفظع منها تنسى عنده ؛ كأنها تنقطع.
{وَهُمْ} ؛ أي : الأصنام.
{عَن دُعَآاـاِهِمْ} ؛ أي : عن دعاء الداعين المشركين وعبادتهم ، فالضمير الأول لمفعول يدعو ، والثاني : لفاعله.
والجمع فيهما باعتبار معنى من ، كما أن الإفراد فيما سبق
464
باعتبار لفظها.
{غَـافِلُونَ} لكونهم جمادات لا يعقلون ، فكيف يستجيبون.
وعلى تقدير كون معبوديهم أحياء كالملائكة ونحوهم ، فهم عباد مسخرون مشغولون بأحوالهم وضمائر العقلاء لإجرائهم الأصنام مجرى العقلاء ووصفها بما ذكر من ترك الاستجابة.
والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها وبعبدتها :
بى بهره كسى كه جشمه آب حيات
بكذا رد ورونهد بسوى ظلمات
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} عند قيام القيامة ، والحشر الجمع كما في "القاموس".
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الراغب : الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها ، ولا يقال : إلا في الجماعة وسمي القيامة يوم الحشر ، كما سمي يوم البعث ويوم النشر.
{كَانُوا} ؛ أي : الأصنام.
{لَهُمْ} ؛ أي : لعابديهم.
{أَعْدَآءِ} يضرونهم ولا ينفعونهم.
(خلاف آنجه كمان مى بردند بديشان ازشفاعت ومدد كارى).
{وَكَانُوا} ؛ أي : الأصنام {بِعِبَادَتِهِمْ} ؛ أي : بعبادة عابديهم.
{كَـافِرِينَ} ؛ أي : مكذبين بلسان الحال أو المقال على ما يروى أنه تعالى يحيي الأصنام فتتبرأ من عبادتهم وتقول : إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم ؛ لأنها الآمرة بالإشراك ، فالآية نظير ما تقدم في يونس.
(8/359)
وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون.
وفي الآية إشارة إلى النشور عن نوم الغفلة ، فإنه عنده يظهر أن جميع ما سوى الله أعداء ، كما قال إبراهيم الخليل عليه السلام ، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77).
وقال : إني بريء مما تشركون : (نفلست كه ابو يزيد بسطامي قدس سره درراه حج شترى داشت زاد وذخيره خودرا وازان عديلان خودرا برآنجانهاده بودكسى كفت ييجاره آن اشترك را بار بسيارست واين ظلمى تمامست بايزيد جون اين سخن ازو بشنود كفت اى جوا نمرد بردارنده بارا شترنيست فرونكرتا بارهيج بريشت اشترهست فرونكر بست باربيك كذا ربشت اشتر بر ترديد واورا از كرانى هيج خبر نبود مرد كفت سبحان الله جه عجب كارست بايزيد كفت اكر حقيقت حال خود از شما بنهان دارم زبان ملامت دراز كنيد واكر شمارا مكشوف كردانيم طاقت نداريد باشما جه بايد كدربس جون برفت وبمدينه زيارت كرد امرش آمدكه بخدمت ما در باز كشتن بايد جماعتى روى به بسطام نهاد خبر در شهر افتاد همه أهل بسطام تابد ووجايى استقبال اوشدند جون نزديك اورسيدند شيخ قرصى را ز آستين بكرفت وشهر رمضان بود بخوردن يستاد جمله آن بديدند ازوى بركشتند شيخ أصحاب را كفت نديدكه بمسئلة از شريعت كار بستم همه خلق مرارد كردند).
يقول الفقير : كان مراد أبي يزيد تنفير الناس حتى لا يشغلوه عن الله تعالى إذ كل ما يشغل السالك عن الله ، فهو عدو له ، ولا بد من اجتناب العدو بأي وجه كان من وجوه الحيل ، فجعل الإفطار في نهار رمضان وسيلة لهذا المقصد ، فإن قلت : كيف جاز له هتك حرمة الشهر بما وقع له من الإفطار في نهاره.
قلت : له وجهان :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
الأول : أنه لم يجد عند ملاقاتهم ما يدفعهم عنه سوى هذه الحيلة ، فأفطر وكفر تحصيلاً للأمر العظيم الذي هو القبول عند الله والإنس معه على الدوام على أنه إن كان مسافراً لا كفارة عليه إذ هو مرخص في الإفطار.
وبعضهم في مثل هذا المقام ارتكب أمراً بشيعاً عند العادة ، وهو الأوجب عند الإمكان ؛ لأنه يجب أن يكون ظاهر الشرع محفوظاً.
والوجه الثاني : أنه أفطر صورة لا حقيقة ، إذ كان قادراً على الإعدام والإفناء ، كما هو حال الملامية ونظيره شرب
465
الخمر ، فإنها تنقلب عسلاً عند الوصول إلى الحلقوم ؛ أي : بالنسبة إلا من كان قادراً على الاستحالة بإقدار الله تعالى ، لكن يعد أمثال هذا من أحوال الضعفاء دون الأقواء من الكمل فإنهم لا يفعلون ما يخالف ظواهر الشرع جداً نسأل الله العصمة.
{تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّا فَبِأَىِّ حَدِيثا بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِه يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} ؛ أي : على الكفار.
{ءَايَـاتِنَا} حال كونها {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على مدلولاتها من حلال وحرام وحشر ونشر وغيرها.
وقال الكاشفي : (در حالتى كه ظاهر باشد دلائل إعجازان).
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} ؛ أي : لأجله وشأنه ، ويجوز أن يكون المعنى : كفروا به والتعدية باللام من حمل النقيض على النقيض ، فإن الإيمان يتعدى بها كما في قوله : آمنتم له وغيره ، وهو عبارة عن الآيات المتلوة وضع موضع ضميرها تنصيصاً على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصول موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلاً بكمال الكفر والضلالة.
{لَمَّا جَآءَهُمْ} ؛ أي : في أول ما جاءهم من غير تدبر وتأمل.
{هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ؛ أي : ظاهر كونه سحراً وباطلاً لا حقيقة له ، وإذا جعلوه سحراً ، فقد أنكروا ما نطق به من البعث والحساب والجزاء ، وصاروا أكفر من الحمير ؛ أي : أجهل ؛ لأن الكفر من الجهل والعياذ بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ} بل : أيقولون افترى محمد القرآن؟ أي : اختلقه وأضافه إلى الله كذباً ، فقولهم : هذا منكر ومحل تعجب ، فإن القرآن كلام معجز خارج عن حيز قدرة البشر ، فكيف بقوله عليه السلام : ويفتريه.
واعلم أن كلاً من السحر والافتراء على الله أشنع من السحر.
{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على الفرض والتقدير.
{فَلا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا} ؛ أي : فلا تقدرون أن تدفعوا عني من عذاب الله شيئاً إذ لا ريب في أن الله تعالى يعاقبني حينئذٍ ، فكيف أفتري على الله كذباً وأعرض نفسي للعقوبة التي لا خلاص منها.
(8/360)
{هُوَ} تعالى : {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} .
يقال : أفاضوا في الحديث : إذا خاضوا فيه وشرعوا ؛ أي : تخوضون في قدح القرآن وطعن آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى.
{كَفَى بِهِ} ؛ أي : الله والباء صلة.
{شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم.
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله عليهم مع عظم جراءتهم.
وفيه إشارة إلى أن الذين عموا عن رؤية الحق وصموا عن سماع الحق رموا ورثة الرسل بالسحر وكلامهم بالافتراء ، وخاضوا فيهم ، ولما كان شاهد الحال الكل جازى الصادق في الدنيا والآخرة بالمزيد ، والكاذب بالخذلان والعذاب الشديد : (أبو يزيد بسطامي را قدس سره برسيدندكه قومى كويند كه كليد بهشت كلمة لا إله إلا الله است كفت بلى وليكن كليد بى دندان در باز نكشايد ودندان اوجهار جيزست زبان از دروغ وبهتان وغيبت دور ودل از مكر وخيانت صافى وشكم از حرم وشبهت خالى وعمل از هوا وبدعت باك).
فظهر أنه لا بد من تظهير الظاهر والباطن من الأنجاس والأرجاس بمتابعة ما جاء به خير الناس ، فإنما يفترق السحر والكرامة بهذه المتابعة ، كما قالوا : إن السحر يظهر على أيدي الفساق والزنادقة والكفار الذين هم على غير الالتزام بالأحكام الشرعية ومتابعة السنة ، فأما الأولياء فهم الذين بلغوا في متابعة السنة وأحكام الشريعة وآدابها الدرجة العليا.
قال الشيوخ قدس الله أسرارهم : أقل عقوبة المنكر على الصالحين أن يحرم بركتهم ، وقالوا : ويخشى عليه سوء الخاتمة نعوذ بالله
466
من سوء القضاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الأستاذ أبو القاسم الجنيد قدس سره : التصديق بعلمنا هذا ولاية ، يعني : الولاية الصغرى دون الكبرى والعجب من الكفار كفروا بآيات الله مع وضوح برهانها ، فكيف يؤمنون بغيرها من آثار الأولياء نعم إذا كان من الله تعالى توفيق خاص يحصل المرام.
حكي عن أبي سليمان الداراني قدس سره أنه قال : اختلفت إلى مجلس بعض القصاص فأثر كلامه في قلبي ، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء ، فعدت ثانياً فسمعت كلامه فبقي في قلبي أثر كلامه في الطريق ، ثم ذهب ثم عدت ثالثاً ، فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي ، فكسرت آلات المخالفة ولزمت الطريق ، ولما حكى هذه الحكاية للشيخ العارف الواعظ يحيى بن معاذ الرازي قدس سره قال : عصفور اصطاد كركياً يعني : بالعصفور القاص ، وبالكركي أبا سليمان الداراني ، فباب الموعظة مفتوح لكل أحد لكن لا يدخل بالقبول إلا من رحمه الله تعالى وأعظم المواعظ مواعظ القرآن.
قال المولى الجامي :
حق ازان حبل خواند قرآنرا
تابكيرى بسان حبل آنرا
بدرآيى زجاه نفس وهوى
كنى آهنك عالم بالا
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} : البدع بالكسر بمعنى البديع ، وهو من الأشياء ما لم ير مثله كانوا يقترحون عليه صلى الله عليه وسلّم آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عناداً ومكابرة ، فأمر عليه السلام بأن يقول لهم : ما كنت بدعاً من الرسل ؛ أي : لست بأول مرسل أرسل إلى البشر ، فإنه تعالى قد بعث قبلي كثيراً من الرسل وكلهم قد اتفقوا على دعوة عباد الله إلى توحيده وطاعته ، ولست داعياً إلى غير ما يدعون إليه ، بل أدعو إلى الله بالإخلاص في التوحيد والصدق في العبودية وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، ولست قادراً على ما لم يقدروا عليه حتى آتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب ، فإن من قبلي من الرسل ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم من الآيات ، ولا يخبرون قومهم إلا بما أوحي إليهم ، فكيف تنكرون مني إن دعوتكم إلى ما دعا إليه من قبلي من الأنبياء ، وكيف تقترحون علي ما لم يؤته الله إياي.
{وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ} ما : الأولى نافية ولا تأكيد لها.
والثانية : استفهامية مرفوعة بالابتداء خبرها يفعل ، وجوز أن تكون الثانية موصولة منصوبة بأدري ، والاستفهامية أقضى لحق مقام التبري من الدراية.
والمعنى : وما أعلم أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان ، وإلى من يصير أمري وأمركم في الدنيا ، فإنه قد كان في الأنبياء من يسلم من المحن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
ومنهم : من يمتحن بالهجرة من الوطن.
ومنهم : من يبتلى بأنواع الفتن ، وكذلك الأمم.
منهم : من أهلك بالخسف.
(8/361)
ومنهم : من كان هلاكه بالقذف وكذا بالمسخ وبالريح وبالصيحة والغرق وبغير ذلك ، فنفى عليه السلام علم ما يفعل به وبهم من هذه الوجوه ، وعلم من هو الغالب المنصور منه ومنهم ، ثم عرفه الله بوحيه إليه عاقبة أمره وأمرهم ، فأمره بالهجرة ووعده العصمة من الناس وأمره بالجهاد وأخبر أنه يظهر دينه على الأديان كلها ، ويسلط على أعدائه ويستأصلهم.
وقيل : يجوز أن يكون المنفي هي الدراية المفصلة ؛ أي : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين على التفصيل إذ لا علم لي بالغيب كان الإجمال معلوماً ، فإن جند الله هم الغالبون ، وأن مصير الأبرار إلى النعيم ، ومصير الكفار إلى الجحيم.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : والأظهر الأوفق لما ذكر من سبب النزول أن ما عبارة عما ليس في علمه من وظائف النبوة في الحوادث والواقعات الدنيوية دون
467
ما سيقع في الآخرة ، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة.
وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين.
هذا وقد روي عن الكلبي أن النبي عليه السلام رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر ، فأخبر أصحابه ، فحسبوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا :
سعد يا حب وطن كرجه حديث است صحيح
نتوان مرد بسختى كه من انجازادم
ومكثوا بذلك ما شاء الله فلم يروا شيئاً مما قال لهم ، فقالوا له عليه السلام وقد ضجروا من أذية المشركين حتى متى نكون على هذا؟ فقال عليه السلام : إنها رؤيا رأيتها كما يرى البشر ، ولم يأتني وحي من الله ، فنزل قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ؛ أي : أؤترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى ما رأيتها في المنام.
يقول الفقير : وعلى هذا يلزم أن يكون خطاب في بكم للمؤمنين ، وهو بعيد لما دل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها من أنه للكفار.
وفي الإشارة إلى فساد أهل القدر والبدع حيث قالوا : إيلام البرايا قبيح في العقل ، فلا يجوز ؛ لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول : أعظم البرايا أعلم قطعاً أني رسول الله معصوم ، فلا محالة يغفر لي ، ولكنه قال : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ليعلم أن الأمر أمره والحكم حكمه له أن يفعل بعباده ما يريد ولا يسأل عما يفعل.
وفي "عين المعاني" : وحقيقة الآية البراءة من علم الغيب.
قال المولى الجامي :
اي دل تاكى فضولى وبو العجبي
ازمن جه نشان عافيت مى طلبى
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
سركوشته بود خواه ولى خواه نبى
در وادى ما أدري ما يفعل بي
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ} ؛ أي : ما أفعل إلا اتباع ما يوحي إلى على معنى قصر أفعاله عليه السلام على اتباع الوحي لا قصر اتباعه على الوحي ، كما هو المتسارع إلى الأفهام ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب.
وقيل : عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذية المشركين.
والأول هو الأوفق لقوله تعالى : {وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} : أنذركم عقاب الله حسبما يوحى إلي {مُّبِينٌ} بين الإنذار لكم بالمعجزات الباهرة ، ففيه أنه عليه السلام أرسل مبلغاً وليس إليه من الهداية شيء ، ولكن الله يهدي من يشاء ، وإن علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى ، وأما إخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام ، فبواسطة الوحي والإلهام وتعليم الله سبحانه.
ومن هذا القبيل إخباره عليه السلام عن أشراط الساعة ، وما يظهر في آخر الزمان من غلبة البدع والهوى وأخباره عن حال بعض الناس كما قال عليه السلام : إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة ، فدخل عبد الله بن سلام ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله ، فأخبروه بذلك ، وقالوا : لو أخبرتنا بأوثق عملك الذي ترجو به ، فقال : إني ضعيف ، وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني ، وعن سيد الطائفة الجنيد البغدادي قدس سره قال لي خالي السري السقطي : تكلم على الناس ؛ أي : عظهم وكنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك ، فرأيت النبي عليه السلام في المنام.
وكان ليلة الجمعة ، فقال : تكلم على الناس ، فانتبهت وأتيت باب خالي ، فقال : لم تصدقنا حتى قيل لك : أي من جانب الرسول عليه السلام ، فقعدت من غد للناس فقعد على غلام نصراني متنكراً في صورة مجهولة.
وقال : أيها الشيخ : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلّم "اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله" ، قال : فأطرقت رأسي ورفعت ، فقلت : أسلم فقد حان وقت إسلامك ، فأسلم الغلام ، فهذا إنما وقع بتعريف الله تعالى ؛ أي : للشبلي والجنيد.
468
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُا وَلا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْـاًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
(8/362)
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} : أخبروني أيها القوم.
{إِن كَانَ} ما يوحى إليّ من القرآن في الحقيقة {مِنْ عِندِ اللَّهِ} لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون.
وفي "كشف الأسرار" : أن هنا ليس بشك كقول شعيب ، ولو كنا كارهين لو هناك ليس بشك ، بل هما من صلات المكارم.
{وَكَفَرْتُم بِهِ} ؛ أي : والحال أنكم قد كفرتم به ، فهو حال بإضمار قد من الضمير في الخبر وسط بين أجزاء الشرط مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر.
ويجوز أن يكون عطفاً على كان ، كما في قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ} (فصلت : 52) ، لكن لا على أن نظمه في سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه عندهم باعتبار حاله في نفسه ، بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم ، فإن كفرهم به متحق عندهم أيضاً ، وإنما ترددهم في أن ذلك كفر بما عند الله أم لا ، وكذا الحال في قوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} وما بعده من الفعلين ، فإن الكل أمور متحققة عندهم ، وإنما ترددهم في أنها شهادة وإيمان بما عند الله واستكبار منهم أم لا {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} عظيم الشأن {مِنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة {عَلَى مِثْلِهِ} ؛ أي : مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة المطابقة لما في القرآن من التوحيد والوعد والوعيد ، وغير ذلك ، فإنها عين ما فيه في الحقيقة كما يعرب عنه قوله تعالى : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 196).
وقيل : المثل صلة ، يعني عليه ؛ أي : يشهد شاهد على أنه من عند الله.
{فَـاَامَنَ} : الفاء للدلالة على أنه سارع في الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق ، وليس من كلام البشر.
{وَاسْتَكْبَرْتُمْ} : عطف على شهد شاهد وجواب الشرط محذوف.
والمعنى : أخبروني إن كان من عند الله.
وشهد على ذلك أعلم بني إسرائيل فآمن به من غير تلعثم واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة من أضل منكم بقرينة قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ} (فصلت : 52).
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} الذي يضعون الجحد والإنكار موضع الإقرار والتسليم وصفهم بالظلم للإشعار بعلية الحكم ، فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم وعنادهم بعد وضوح البرهان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لهم بحال إذ عند وجود الشاهد على حقية الدعوى تبطل الخصومة ، وذلك الشاهد في الآية عبد الله بن سلام بن الحارث حبر أهل التوراة ، وكان اسمه الخصين ، فسماه رسول الله عبد الله رضي الله عنه لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة أتاه ، فنظر إلى وجهه الكريم ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر ، فقال له : إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ، فقال عليه السلام : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته.
فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً ، ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت ، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك ، فجاء اليهود ، وهم خمسون ، فقال لهم النبي عليه السلام : "أي رجل عبد الله فيكم" قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : "أرأيتم إن أسلم عبد الله" قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً
469
رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر.
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله عليه السلام يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.
وفيه نزل وشهد شاهد إلخ.
وقال مسروق رضي الله عنه ، والله ما نزلت في عبد الله ، فإن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بالمدينة وأجاب الكلبي بأن الآية مدنية ، وإن كانت السورة مكية ، فوضعت في السورة المكية على ما أمر رسول الله عليه السلام.
وفي الآية إشارة إلى التوفيق العام ، وهو التوفيق إلى الإيمان بالله وبرسوله ، وما جاء به ، وأما التوفيق الخاص ، فهو التوفيق إلى العمل بالعلم المشروع الذي ندبك الشارع إلى الاشتغال بتحصيله سواء كان العمل فرضاً أم تطوعاً وغاية العمل والمجاهدات والرياضات تصفية القلب والتخلق بالأخلاق الإلهية والوصول إلى العلوم الذوقية ، فالإيمان بالله وبالأنبياء والأولياء أصل الأصول ، كما أن الإنكار والاستكبار سبب الحرمان والخذلان ، فإن أقل عقوبة المنكر على الصالحين أن يحرم بركتهم.
(8/363)
قال أبو تراب النخشبي قدس سره : إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبته الوقيعة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
جون خدا خواهدكه
برده كس درد
ميلش اندر طعنة باكان برد
وقال الشيخ العارف شاه شجاع الكرماني قدس سره : ما تعبد متعبد بأكبر من التحبب إلى أولياء الله تعالى ؛ لأن محبة أولياء الله دليل على محبة الله ، والله يهدي من يشاء إلى مقام المحبة والرضا ولا يهدي الظالمين المعاندين ؛ لأنهم من أهل سوء القضاء.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : كفار مكة من كمال استكبارهم {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : لأجلهم ، فليس الكلام على المواجهة والخطاب حتى يقال : ما سبقونا {لَّوْ كَانَ} ؛ أي : ما جاء به محمد عليه السلام من القرآن والدين {خَيْرًا} حقاً {مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} ، فإن معالي الأمور لا ينالها أيدي الأرذال ، وهم سقاط عامتهم فقراء وموالي ورعاة.
وبالفارسية : (بيشى نكر فتندى برماو مسارعت نكردندى بسوى آن دين ادانى قبائل وفقراء ناس بلكه مادران سابق بودمى جه رتبة ما ازان بزر كترو بزركى وشهرت ما بيشتر).
قالوه زعماً منهم أن الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية وزل عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية وملكات روحانية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية ، والإقبال على الآخرة بالكلية ، وأن من فاز بها ، فقد حازها بحذافيرها ، ومن حرمها ، فما له منها من خلاق.
يقول الفقير : الأولى في مثل هذا المقام أن يقال : إن الرياسة الدينية فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء بغير علل وأسباب ، فإن القابلية أيضاً إعطاء من الله تعالى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله ويترتب عليه ما بعده لا لقوله ، فسيقولون ، فإنه للاستقبال.
وإذ للمضي ؛ أي : وإذا لم يهتدوا بالقرآن ، كما اهتدى به أهل الإيمان ما قالوا : {فَسَيَقُولُونَ} غير مكتفين بنفي خيريته {هَـاذَآ} القرآن.
{إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالوا أساطير الأولين.
وبالفارسية : (ابن دروغ كهنه است يعنى بيشينيان نيز مثل اين كفته اند).
فقد جهلوا بلب القرآن وعادوه ؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا :
توز قرآن اى بسر ظاهر مبين
ديو آدم رانبيند جزكه طين
ظاهر قرآن جو شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
ومن كان مريضاً مر الفم يجد الماء الزلال مراً ، فلا ينبغي لأحد أن يستهين بشيء من الحق إذا لم يهتد عقله به ، ولم يدركه
470
فهمه ، فإن ذلك من محض الضلالة والجهالة ، بل ينبغي أن يطلب الاهتداء من الهادي ، وبجد فيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال بعض الكبار : قولهم : لو كان خيراً ما سبقونا إليه نوع من أنواع مكر النفس ليتوهم براءة ذمتها من إنكار الحق ، والتمادي في الباطل ، وإذا لم يهتدوا بما ليس من مشاربهم ، وما هم من أهل ذوق الإيمان بالقرآن وبالمواهب الربانية ، فسيقولون : هذا إفك قديم.
وعن بعض الفقهاء أنه قال : لو عاينت خارق عادة على يدي أحد لقلت : إنه طرأ فساد في دماغي ، فانظر ما أكثف حجاب هذا وما أشد إنكاره وجهله.
قال المولى الجامي :
كلى كه بهر كليم ازدرخت طور شكفت
توقع از خس وخاشاك ميكنى حاشاك
وقال : (مسكين فقيه ميكند انكار حسن دوست با و بكوكه ديده جانرا جلى كند).
{هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ * اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِه وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مِّنْه إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَا} .
{وَمِن قَبْلِهِ} ؛ أي : من قبل القرآن ، وهو خبر لقوله تعالى : {كِتَـابُ مُوسَى} : رد لقولهم : هذا إفك قديم ، وإبطال له ، فإن كونه مصدقاً لكتاب موسى مقرر لحقيته قطعاً ، يعني : كيف يصح هذا القول منهم.
وقد سلموا لأهل كتاب موسى أنهم من أهل العلم وجعلوهم حكماً يرجعون لقولهم في هذا النبي ، وهذا القرآن مصدق له أو له ولسائر الكتب الإلهية.
{إِمَامًا} حال من كتاب موسى ؛ أي : إماماً يقتدى به في دين الله {وَرَحْمَةً} لمن آمن به وعمل بموجبه.
{وَهَـاذَآ} الذي يقولون في حقه ما يقولون {كِتَابٌ} عظيم الشأن {مُّصَدِّقُ} ؛ أي : لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ، أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية.
{لِّسَانًا عَرَبِيًّا} : حال من ضمير كتاب في مصدق ؛ أي : ملفوظاً به على لسان العرب ليكون القوم عرباً.
(8/364)
{لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} متعلق بمصدق ، وفيه ضمير الكتاب ، أو الله أو الرسول.
{وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} في حيز النصب عطفاً على محل لينذر ؛ لأنه مفعول له ؛ أي : للإنذار والتبشير ، ومن الظالمين اليهود والنصارى ، فإنهم قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله وغيروا ذكر محمد صلى الله عليه وسلّم ونعمته في التوراة والإنجيل ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، فكان عليه السلام نذيراً لهم ، وبشيراً للذين آمنوا بجميع الأنبياء والكتب المنزلة ، وهدوا إلى الصراط المستقيم وثبتوا على الدين القويم إما الإنذار فبالنار وبالفراق الأبدي ، وإما التبشير فبالجنة وبالوصل السرمدي.
ولذا قال للمحسنين ، فإن الإحسان عبادة الله بطريق المشاهدة ، وإذا حصل الشهود حصل الوصل ، وبالعكس نسأل الله من فضله :
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
يكى را از صالحان برادرى وفات كرده بود اورا در خواب ديد وبرسيد كه حق تعالى باتوجه كرد كفت مرادر بهشت أورده است ميخورم ومى آشامم ونكاح ميكنم كفت ازين معنى نمى برسم ديدار بروردكار ديدى يانه كفت نى كسى كه آنجا أورا نشناخته است انيجا اورانمى بيند آن عزيز جون بيدار شد بر بهيمة خود سوار شد وبيش شيخ أكبر قدس سره الأطهر آمد در اشبيلية واين خواب را باز كفت وملازمت خدمت او كردتا آن مقدار كه ممكن بود از طريق كشفت وشهود نه از طريق دليل أهل نظر حق تعالى راشناخت وبعد ازان بمقام خود باز كشت سيد شريف جرجانى ميكفته كه تامن بصحبت شيخ زين الدين كلاله كه از مشايخ شيراز است نرسيدم از رفض نرستم وتا بصحبت خواجه علاء الدين عطار نببوستم خدايرا نشناختم).
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الحق حتى يستعد بسعادة الشهود ،
471
ويكون من أهل البشرى ، وعلى هذا جرى العلماء المخلصون وعباد الله الصالحون.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا} ؛ أي : جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصه العلم ، والاستقامة في أمور الدين التي هي منتهى العمل ، وثم للدلالة على تراخي رتبة العمل ووقف الاهتداء به على التوحيد.
قال ابن طاهر : استقاموا على ما سبق منهم من الإقرار بالتوحيد ، فلم يروا سواه منعماً ، ولم يشكروا سواه في حال ، ولم يرجعوا إلى غيره وثبتوا معه على منهاج الاستقامة.
{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه.
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات محبوب.
والمراد بيان دوام نفي الحزن.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين {أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} ملازموها {خَـالِدِينَ فِيهَآ} حال من المستكن في أصحاب {جَزَآءُ} منصوب إما بعامل مقدر ؛ أي : يجزون جزاء أو بمعنى ما تقدم ، فإن قوله تعالى : أولئك أصحاب الجنة في معنى : جازيناهم.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الحسنات العلمية والعملية.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أنهم قالوا : ربنا الله من بعد استقامة الإيمان في قلوبهم ، ثم استقاموا بجوارحهم على أركان الشريعة وبأخلاق نفوسهم على آداب الطريقة بالتزكية وبأوصاف القلوب على التصفية وبتوجه الأرواح على التحلية بالتخلق بأخلاق الحق ، فقالوا : ربنا الله باستقامة الإيمان ، ثم استقاموا بالنفوس على أداء الأركان ، وبالقلوب على الإيقان وبالأسرار على العرفان وبالأرواح على الإحسان وبالإخفاء على العيان وبالحق تعالى على الفناء من أنانيتهم ، والبقاء بهويته ، فلا خوف عليهم بالانقطاع ، ولا هم يحزنون على ما فات لهم من حظ الدارين أولئك أصحاب جنة الوحدة باقين فيها آمنين من الاثنينية جزاء بما كانوا يعملون في استقامة الأعمال مع الأقوال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الشيخ سعدي :
كر همه علم عالمت باشد
بى عمل مدعى وكذابى
وقال بعضهم (ع) :
كرامت نيابى مكر زاستقامت
قال بعض الكبار : كلما قرب العبد من الكمال اشتد عليه التكليف وعادت عليه البركات بالتعريف حتى يستغفر له الأملاك والأفلاك والسماوات والأرضون والحيتان في بحارها ، والوحش في قفارها ، والأوراق في أشجارها.
(8/365)
ولذلك قيل : ويل للجاهل إن لم يتعلم مرة ، وويل للعالم إن لم يعمل ألفاً ، قال عليه السلام : "فرض عليّ قيام الليل ، ولم يفرض عليكم ، ففيه تشديد الطاعة من حيث أكمليته ، فلا بد من العبودية والاستقامة عليها.
(ببرابو على سيادة قدس سره كفت اكرا ترا كويند بهشت خواهى ياد وركعت نماز نكر تابهشت اختيار نكنى دو ركعت نماز اختيار كن زيراكه بهشت نصيب تواست ونماز حق اوجل جلاله وهر كجا نصيب تودرميان آمدا كرجه كرامت بود روا باشدكه كمين كاء مكر كردد وكزارد حق أو بى غائلة ومكراست موسى عليه السلام جون بنزديك حضر عليه السلام آمد دوبار بروى اعتراض كرد يكى در حق آن غلام ديكر از جهت شكستن كشتى جون نصيب خود درميان نبود خضر صبر ميكرد امادر سوم حالت جون نصيب خود بيدا آمدكه لو شئت لاتخذت عليه أجراً خضر كفت مارابا توروى صحبت نماند هذا فراق بيني وبينك بس حذر كن كه جيزى از اغراض نفسانى وزينت دينا با عبادت آميخته كنى جمعى از ابدال در هوامى رفتند ممر ايشان برمر غزارى سبزه وخرم افتاد وجشمه آب صافى يكى از يشان را بخاطر كذشت وتمناى آن كرد كه ازان جشمه وضو سازدودران
472
روضه نماز كزارد في الحال ازميان آن جماعت بزمين افتاد وديكران اورار ها كردند ورفتند واو از مرتبة خود بازماند باين مقدار وبدانكه ابن سرى بغلت عجيب است تر معنى دقيق وحق تعالى تراباين حكايت يندداد اكر فهم كنى).
فالعبودية ترك التدبير وشهود التقدير وباقي ما يتعلق بالآية سبق في نظيرها في [غافر : 1]{حم} {الـم} نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أرباب الاستقامة ، ومن أصحاب دار المقامة إنه ذو الفضل والعطاء في الأولى والآخرة.
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ} عهدنا إليه وأمرناه بأن يحسن {بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا} ، فحذف الفعل واقتصر على المصدر دالاً عليه.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} الأم بإزاء الأب ، وهي الوالدة القريبة التي ولدته ، والوالدة البعيدة التي ولدت من ولدته.
ولهذا قيل لحواء عليها السلام هي أمنا ، وإن كان بيننا وبينها وسائط.
ويقال : لكل ما كان أصلاً لوجود الشيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدؤه أم {كَرْهًا} : حال من فاعل حملته : أي : حال كونها ذات كره ، وهو المشقة والصعوبة بريد حالة ثقل الحمل في بطنها لا في ابتدائها ، فإن ذلك لا يكون فيه مشقة ، أو حملته حملاً ذكره وكذا قوله : {وَوَضَعَتْهُ} ؛ أي : ولدته.
{كَرْهًا} وهي شدة الطلق.
وفي الحديث : "اشتدي أزمة تنفرجي" قال عليه السلام لامرأة مسماة بأزمة حين أخذها الطلق ؛ أي : "تصبري يا أزمة حتى تنفرجي" عن قريب بالوضع.
كذا في "المقاصد الحسنة".
{وَحَمْلُهُ} ؛ أي : مدة حمله في البطن.
{وَفِصَـالُهُ} وهو الفطام ؛ أي : قطع الولد عن اللبن.
والمراد به الرضاع التام المنتهي به ، فيكون مجازاً مرسلاً عن الرضاع التام بعلاقة أن أحدهما بغاية الآخر ومنتهاه ، كماأراد بالأمد المدة من قال : ()
كل حي مستكمل مدة العمر
ومردى إذا انتهى أمده
أي : هالك إذا انتهت مدة عمره ونظيره التعبير عن المسافة بالغاية في قولهم من لابتداء الغاية وإلى الانتهاء الغاية.
{ثَلَـاثُونَ شَهْرًا} تمضي عليها بمقاساة الشدائد لأجله.
والشهر مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال ، أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءاً من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة سمي به لشهرته.
وهذا دليل على أن أقل مدة الحمل ستة
473
أشهر لما أنه إذا حط منها للفصال حولان لقوله تعالى : {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِا لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة : 233) يبقى للحمل ذلك.
وبه قال الأطباء.
(8/366)
وفي الفقه : مدة الرضاع ثلاثون شهراً عند أبي حنيفة وسنتان عند الإمامين.
وهذا الخلاف في حرمة الرضاع أما استحقاق أجر الرضاع ، فمقدر بحولين لهما قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (البقرة : 233).
وله قوله تعالى : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا} : ذكر شيئين وهما : الحمل والفصال.
وضرب لهما مدة ثلاثين شهراً ، وكان لكل واحد منهما بكمالها كلأجل المضروب لدينين ، لكن مدة الحمل انتقصت بالدليل ، وهو قول عائشة رضي الله عنها : الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ، ولو بقدر ظل مغزل.
والظاهر أنها قالته سماعاً ؛ لأن المقادير لا يهتدي إليها بالرأي ، فبقي مدة الفصال على ظاهرها ، ويحمل قوله تعالى : {يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} (البقرة : 233) على مدة استحقاق أجرة الرضاع حتى لا يجب نفقة الإرضاع على الأب بعد الحولين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
والمراد : السنة القمرية على ما أفادته الآية ، كما قال : شهراً لا الشمسية.
وقال في "عين المعاني" : أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فبقي سنتان للرضاع.
وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة : المراد منه الحمل على اليد لو حمل على حمل البطن كان بيان الأقل مع الأكثر انتهى.
قيل : ولعل تعيين أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع ؛ أي : في الآية لانضباطهما وتحقق ارتباط النسب والرضاع بهما ، فإن من ولدت لستة أشهر من وقت التزوج يثبت نسب ولدها ، كما وقع في زمان علي كرم الله وجهه ، فحكم بالولد على أبيه ، فلو جاءت بولد لأقل من ستة لم يلزم الولد للزوج ويفرق بينهما ، ومن مص ثدي امرأة في أثناء حولين من مدة ولادته تكون المرضعة أماً له ، ويكون زوجها الذي لبنها منه أباً له.
قال في "الحقائق" الفتوى في مدة الرضاع على قولهما.
وفي "فتح الرحمن" : اتفق الأئمة على أن مدة الحمل ستة أشهر ، واختلفوا في أكثر مدته ، فقال أبو حنيفة سنتان.
والمشهورعن ملك خمس سنين.
وروي عنه أربع وسبع ، وعند الشافعي وأحمد أربع سنين وغالبها تسعة أشهر.
انتهى.
وفي "إنسان العيون" ذكر : أن مالكاً رضي الله عنه مكث في بطن أمه سنتين.
وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي.
وفي "محاضرات السيوطي" : إن مالكاً مكث في بطن أمه ثلاث سنين وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتني عشرة سنة تحمل أربع سنين.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} غاية لمحذوف ؛ أي : أخذ ما وصيناه به حتى إذا بلغ وقت أشده بحذف المضاف وبلوغ الأشد أن يكتهل ، ويستوفي السن الذي تستحكم فيه قوته وعقله وتمييزه وسن الكهولة ما بين الشباب وسن الشيخوخة.
قال في "فتح الرحمن" : أشده كمال قوته وعقله ورأيه وأقله ثلاث وثلاثون وأكثره أربعون.
{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ؛ أي : تمام أربعين بحذف المضاف.
قيل : لم يبعث نبي قبل أربعين ، وهو ضعيف جداً ، يدل على ضعفه أن عيسى ويحيى عليهما السلام بعثاً قبل الأربعين ، كما في "بحر العلوم" وجوابه أنه من إقامة الأكثر الأغلب مقام الكل ، كما في "حواشي سعد المفتي".
قال ابن الجوزي قوله : ما من نبي نبىء إلا بعد الأربعين موضوع ؛ لأن عيسى نبىء ورفع إلى السماء ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء ، انتهى.
وكذا نبىء يوسف عليه السلام ، وهو ابن ثماني عشرة سنة ، كما في التفاسير ، وقس على النبوة الولاية وقوة الإيمان والإسلام.
{قَالَ رَبِّ} : (كفت بروردكار من).
{أَوْزِعْنِى} ؛ أي : ألهمني.
وبالفارسية : (الهام ده مرا وتوفيق بخش).
وأصله : الإغراء بالشيء من قولهم : فلان موزع بكذا ؛ أي : مغرى به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقال الراغب : وتحقيقه أولعني بذلك والإيلاع سخت حريص شدن.
أو اجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران ؛ أي : أكفها.
{أَنِ اشْكُرْ} : (تاشكر كنم).
{نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ} ؛ أي : نعمة الدين والإسلام ؛ فإنها النعمة الكاملة ، أو ما يعمها وغيرها وجمع بين شكري النعمة عليه ، وعلى والديه ؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} ؛ أي : تقبله ، وهي الفرائض الخمس وغيرها من الطاعات والتنوين للتفخيم والتنكير.
وقال بعضهم : العمل الصالح المقرون بالرضا بذل النفس ، والخروج مما سوى الله إلى مشاهدة الله.
وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن للعبد أن يعمل عملاً يرضى به ربه إلا بتوفيقه وإرشاده.
{وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى} ذرأ الشيء كثر.
ومنه الذرية لنسل الثقلين ، كما في "القاموس" ؛ أي : واجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم ، ولذا استعمل بفي ، وإلا فهو يتعدى بنفسه ، كما في قوله : وأصلحنا له زوجه.
474
قال سهل : اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيداً حقاً.
وقال محمد بن علي : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً.
وفيه إشارة إلى أن صلاحية الآباء تورث صلاحية الأبناء.
(8/367)
قال الكاشفي : (اكثر مفسران برانندكه اين آيت خاص است بابي بكر الصديق رضي الله عندكه شش ماه درشكم مادر بوده ودوسال تمام شير خورده وهجده سال بملازمت حضرت بيغمبر عليه السلام رسيد وآن حضرت بيست ساله بود ودرسفر وحضر رقيق وقرين وى بود وجون سال مبارك آن حضرت رسالتبناه بجهل رسيد مبعوث كشت وصديق سى وهشت ساله بودبوى ايمان أورد جون جهل ساله شد كفت رب أوزعني).
إلخ.
فأجاب الله تعالى دعاءه ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله.
منهم : بلال الحبشي بن رباح (غلامى در بني مذحج مولد ايشان وعامر بن فهيرة از قبيلة از دبود مولد ايشان).
ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ، ولم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً (ودخترش) عائشة رضي الله عنها بشرف (فراش حضرت أشرف رسل مشرف شد وبسرش عبد الرحمن مسلمان كنت وبسر عبد الرحمن أبو عتيق محمد نبز مسلمان كنت وبدولت خدمت حضرت بيغمبر سرافرازى يافت).
وأدرك أبوه أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد رسول الله عليه السلام وآمنا به ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم (وسى قبائل نيزاز أولاد صديق در عالم هستند اغلب ايشان بشرف علم وصلاح آراسته).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عما لا ترضاه أو عما يشغلني عن ذكرك {وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين أخلصوا لك أنفسهم.
{أولئك} إشارة إلى الإنسان والجمع ؛ لأن المراد به الجنس المتصف بالوصف المحكي عنه ؛ أي : أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة.
{الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} من الطاعات واجبة ، أو مندوبة ، فإن المباحات حسن لا يثاب عليها.
وفي "ترجمة الفتوحات" : (وهر حركت كه كنى بايدكه بنيت قربت بحق تعالى باشد واكرجه اين حركت در امرى مباح باشد نيت قربت كن بحق تعالى ازين جهت كه تو اعتقاد دارى كه آن مباحت واكر مباح نمى بودبدان مشغول نمى شدى بدين نيت دران امر مباح مستحق ثواب شوى).
يقول الفقير : عندي وجه آخر في الآية ، وهو أن إضافة أحسن من إضافة الصفة إلى موصوفها ، كما في قوله : سيئات ما عملوا.
والتقدير : أعمالهم الحسنى ولا يلزم منه أن لا يتقبل منهم الأعمال الحسنة بل يكون فيه إشارة إلى كل أعمالهم أحسن عند الله تعالى بموجب فضله.
{وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ} ؛ أي : ما فعلوا قبل التوبة ، ولا يعاقبون عليها.
قال الحسن : من يعمل سوءاً يجز به إنما ذلك من أراد الله هوانه ، وأما من أراد كرامته ، فإنه يتجاوز عن سيئاته {فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ} ؛ أي : حال كونهم كائنين في عداد أصحاب الجنة منتظمين في سلكهم.
{وَعْدَ الصِّدْقِ} مصدر مؤكد لما أن قوله تعالى نتقبل ونتجاوز وعد من الله لهم بالتفضل والتجاوز.
{الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل.
قال الشيخ نجم الدين قدس سره في "تأويلاته".
في الآية إشارة إلى رعاية حق الوالدين على جهة الاحترام لما عليه لهما من حق التربية والإنعام ، ليعلم أن رعاية حق الحق تعالى على جهته التعظيم لما عليه له من حق الربوبية ، وإنعام الوجود أحق وأولى.
وقال بعضهم : دلت الآية على أن حق
475
الأم أعظم ؛ لأنه تعالى ذكر الأبوين معاً ، ثم خص الأم بالذكر وبين كثرة مشقتها بسبب الولد زمان حملها ووضعها وإرضاعها مع جميع ما تكابده في أثناء ذلك.
قال في "فتح الرحمن" : عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب.
والأب في واحدة جمعهما الذكر في قوله : بوالديه ، ثم ذكر الحمل للأم ، ثم أوضع لها ، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والرابع للأب.
وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر؟ قال : "أمك" ، ثم قال : ثم من؟ قال : "ثم أمك" ، ثم قال : ثم من؟ قال : "ثم أمك" ، ثم قال : ثم من؟ قال : "ثم أباك".
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال بعض الأولياء ، وهو إبراهيم الخواص قدس سره : كنت في تيه بني إسرائيل ، فإذا رجل يماشيني فتعجبت منه وألهمت أنه الخضر عليه السلام ، فقلت له : بحق الحق من أنت؟ قال : أخوك الخضر ، فقلت له : أريد أن أسألك ، قال : سل ، قلت : ما تقول في الشافعي؟ قال : هو من الأوتاد ؛ أي : من الأوتاد الأربعة المحفوظ بهم الجهات الأربع من الجنوب والشمال والشرق والغرب ، قلت : فما تقول في أحمد بن حنبل إمام السنة؟ ، قال : هو رجل صديق ، قلت : فما تقول في بشر بن الحارث؟ قال : رجل لم يخلف بعده مثله ، يعني : (ازبس اومثل اونبود).
قلت ، فبأي : وسيلة رأيتك؟ قال : ببرك أمك.
(8/368)
قال الإمام اليافعي : حكي أن الله سبحانه أوحى إلى سليمان بن داود عليهما السلام أن اخرج إلى ساحل البحر تبصر عجباً ، فخرج سليمان ، ومن معه من الجن والإنس ، فلما وصل إلى الساحل التفت يميناً وشمالاً ، فلم ير شيئاً ، فقال لعفريت غص في هذا البحر ، ثم ائتني بعلم ما تجد فيه فغاص فيه ، ثم رجع بعد ساعة.
وقال : يا نبي الله إني ذهبت في هذا البحر مسيرة كذا وكذا ، فلم أصل إلى قعره ولا أبصرت فيه شيئاً ، فقال لعفريت آخر : غص في هذا البحر وائتني بعلم ما تجد فيه ، فغاص ثم رجع بعد ساعة.
وقال مثل قول الأول : أنه غاص مثل الأول مرتين ، فقال لآصف بن برخيا ، وهو وزيره الذي ذكره الله تعالى في القرآن بقوله : حكاية عنه.
قال الذي عنده علم من الكتاب : ائتني بعلم ما في هذا البحر ، فجاءه بقبة من الكافور الأبيض لها أربعة أبواب باب من در وباب من جوهر وباب من زبرجد أخضر وباب من ياقوت أحمر ، والأبواب كلها مفتحة ، ولا يقطر فيها قطرة من الماء ، وهي في داخل البحر في مكان عميق مثل مسيرة ما غاص فيه العفريت الأول ثلاث مرات ، فوضعها بين يدي سليمان عليه السلام ، وإذا في وسطها شاب حسن الشباب نقي الثياب ، وهو قائم يصلي ، فدخل سليمان القبة وسلم على ذلك الشاب ، وقال له : ما أنزلك؟ في قعر هذا البحر ، فقال : يا نبي الله إنه كان أبي رجلاً مقعداً ، وكانت أمي عمياء ، فأقمت في خدمتهما سبعين سنة ، فلما حضرت وفاة أمي ، قالت : اللهم أطل حياة ابني في طاعتك ، فلما حضرت وفاة أبي ، قال : اللهم استخدم ولدي في مكان لا يكون للشيطان عليه سبيل ، فخرجت إلى هذا الساحل بعدما دفنتهما ، فنظرت هذه القبة موضوعة ، فدخلتها لأنظر حسنها ، فجاء ملك من الملائكة ، فاحتمل القبة وأنا فيها ، وأنزلني في قعر هذا البحر.
قال سليمان : ففي أي زمان كنت أتيت هذا الساحل؟ قال : في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام ، فنظر سليمان في التاريخ ، فإذا له ألفا سنة وأربعمائة سنة ، وهو شاب لا شيبة فيه ، قال : فما طعامك وشرابك في داخل هذا البحر؟ قال : يا نبي الله يأتيني كل يوم طير أخضر في منقاره شيء أصفر مثل رأس
476
الإنسان ، فآكله فأجد فيه طعم كل نعيم في دار الدنيا ، فيذهب عني الجوع والعطش والحر والبرد والنوم والنعاس والفترة والوحشة.
فقال سليمان : أتقف معنا أم نردك إلى موضعك ، فقال : ردني يا نبي الله ، فقال : رده يا آصف فرده ، ثم التفت ، فقال : انظروا كيف استجاب الله دعاء الوالدين ، فأحذركم عقوق الوالدين رحمكم الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الإمام السخاوي عن ابن عمر رضي الله عنه رفعه : أني سألت الله أن لا يقبل دعاء حبيب على حبيبه ، ولكن قد صح أن دعاء الوالد على ولده لا يرد ، فيجمع بينهما ، وجاء رجل إلى النبي عليه السلام ليستشيره في الغزو ، فقال : ألك والدة؟ قال : نعم ، قال : فالزمها فإن الجنة تحت قدميها :
جنت كه سراى مادرانست
زير قدمات مادرانست
روزى بكن اى خداى مارا
جيزى كه رضاى مادرانست
ومنه : الإعانة والتوفيق للخدمة المرضية بالنفوس الطيبة الراضية.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ مِّنَ الامْرِا فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
{وَالَّذِى} مبتدأ خبره قوله : أولئك ؛ لأن المراد به ؛ أي : بالموصول الجنس.
{قَالَ لِوَالِدَيْهِ} عند دعوتهما له إلى الإيمان ، ويدخل فيه كل عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه.
{أُفٍّ لَّكُمَآ} : (كراهيت وننك مرشمارا).
وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجره وكراهيته ، واللام لبيان المؤفف له كما في هيث لك ؛ أي : هذا التأفيف لكما خاصة.
وقال الراغب : أصل الأف كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر ، وما يجري مجراهما ، ويقال ذلك : لكل مستخف به استقذاراً له.
{أَتَعِدَانِنِى} : (آيا وعدمى دهيد مرا).
{أَنْ أَخْرِجْ} : أبعث من القبر بعد الموت {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى} ؛ أي : وقد دخلت أمة بعد أمة من قبلي ، ولم يبعث منهم واحد ، ولم يرجع ، والقرن القوم المقترنون في زمن واحد والخلو المضي.
(8/369)
{وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} ويسألانه أن يغيثه ويوفقه للإيمان.
{وَيْلَكَ} ؛ أي : قائلين له : ويلك ومعناه بالفارسية : (واى برتو).
وهو في الأصل دعاء عليه بالهلاك أريد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك وانتصابه على المصدر بفعل مقدر بمعناه لا من لفظه ، وهو من المصادر التي لم تستعمل أفعالها.
وقيل : هو مفعول به ؛ أي : ألزمك الله ويلك.
{مِن} ؛ أي : صدق بالبعث والإخراج من الأرض.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} ؛ أي : موعوده ، وهو البعث أضافه إليه تحقيقاً للحق وتنبيهاً على خطاه في إسناد الوعد إليهما.
{حَقٍّ} كائن لا محالة ؛ لأن الخلف في الوعد نقص يجب تنزيه الله عنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{فَيَقُولُ} : مكذباً لهما {مَا هَـاذَآ} الذي تسميانه وعد الله {إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة كأحاديث رستم وبهرام وإسفنديار.
{أولئك} القائلون هذه المقالات الباطلة {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ، وهو قوله تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : {فِى أُمَمٍ} حال من اغجرور في عداد أمم.
{خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} بيان للأمم {أَنَّهُمْ} جميعاً أي : هم والأمم {كَانُوا خَـاسِرِينَ} قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى الأم رؤوس أموالهم باتباع الشيطان.
والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف التحقيقي.
{ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍا وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ * هَـاذَا بَصَائرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
{وَلِكُلِّ} من الفريقين المذكورين {دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} مراتب من أجزية ما عملوا من الخير والشر ، فمن نعت الدرجات ، ويجوز أن تكون بيانية ، وما موصولة ، أو من أجل أعمالهم ، فما مصدرية ، ومن متعلق بقوله : لكل.
والدرجات في مراتب المثوبة وإيرادها هنا بطريق التغليب.
{وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ} وليعطيهم أجزية أعمالهم وافية تامة من وفاه حقه إذا أعطاه إياه وافياً تاماً.
477
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين ، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر ؛ كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
وفي الآية ذم لمن اتصف في حق الوالدين في التأفيف.
وفي ذلك تنبيه على ما وراءه من التعنيف ، فحكم أن صاحبه من أهل الخسران.
والخسران نقصان في الإيمان ، فكيف بمن خالف مولاه وبالعصيان آذاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفي الحديث : "إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم.
وقيل : لما دخل يعقوب على يوسف عليهما السلام لم يقم له ، فأوحى الله إليه ، أتتعاظم أن تقوم لأبيك؟ وعزتي لا أخرجت من صلبك نبياً ، كما في "الإحياء" قيل : إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يرجح حق الأب فيما يرجع إلى التعظيم والاحترام ؛ لأن النسب منه ، ويرجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام حتى لو دخلا عليه يقوم للأب ، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم ، كما في "منبع الآداب".
قال الإمام الغزالي : أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات ، ولم تجب في الحرام المحض حتى إذا كانا ينتقصان بانفرادك عنهما بالطعام ، فعليك أن تأكل معهما ؛ لأن ترك الشبهة ورع ورضا الوالدين حتم.
وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة ، إلا بإذنهما ، والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل ؛ لأنه على التأخير والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كان خروجك لطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ، ولم يكن في بلدك من يعلمك ، وذلك كمن يسلم ابتداء في بلد ليس فيه من يعلمه شرع الإسلام ، فعليه الهجرة ، ولا يتقيد بحق الوالدين ، ويثبت بولاية الحسبة للولد على الوالد ، والعبد على السيد ، والزوجة على الزوج ، والتلميذ على الأستاذ ، والرعية على الوالي لكن بالتعريف.
ثم الوعظ والنصح باللطف لا بالسب والتعنيف والتهديد ، ولا بمباشرة الضرب ، ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسوء المعاملة والجفاء ، ويعيناه على البر.
قال عليه السلام : رحم الله والداً أعان ولده على البر ؛ أي : لم يحمله على العقوق بسوء عمله.
قال الحسن البصري : من عقل الرجل أن لا يتزوج وأبواه في الحياة.
انتهى.
فإنه ربما لا يرضى أحدهما عنه بسبب زوجته ، فيقع في الإثم.
قال الحافظ :
هيج رحمى نه برادر به برادر دارد
هيج شوقي نه بدر رابه بسر مى بينم
دخترا نرا همه جنكست وجدل بامادر(8/370)
بسرا نرا همه بدخواه بدر مى بينم
وفي الحديث : "حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالدين على ولدهما ، ومن مات والداه وهو لهما غير بار ، فليستغفر لهما ويتصدق لهما ، حتى يكتب باراً بوالديه ، ومن دعا لأبويه في كل يوم خمس مرات فقد أدى حقهما ، ومن زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة كتب باراً".
كما في الحديث ودعاء الأحياء للأموات واستغفارهم هدايا لهم ، والموتى يعلمون بزوارهم عشية الجمعة ويوم الجمعة ، وليلة السبت إلى طلوع الشمس لفضل يوم الجمعة.
وينوي بما يتصدق من ماله عن والديه إذا كانا مسلمين ؛ فإنه لا ينقص من أجره شيء ، ويكون لهما مثل أجره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقال بعض الكبراء : يرمى الحجر في الطريق عن يمينه مرة وينوي عن أبيه وبآخر عن يساره ، وينوي عن أمه ، وكان يكظم غيظه يريد برهما ، ففيه دليل على أن جميع حسنات العبد يمكن أن تجعل من بر والديه إذا وجدت النية ، فعلى الولد أن يبرهما حيين وميتين ،
478
ولكن لا يطيعهما في الشرك والمعاصي :
جون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر از مودت قربى
كما قال تعالى : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (لقمان : 15) :
هزار خويش كه بيكانه از خدا باشد
فداى يك تن بيكانه كاشنا باشد
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ؛ أي : يعذبون بها فالعرض محمول على التعذيب مجازاً من قولهم عرض الأسارى على السيف ؛ أي : قتلوا وإلا فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والاطلاع والنار ليست منه.
وقيل : تعرض النار عليهم بأن يوقفوا بحيث تبدو لهم النار ومواقعهم فيها ، وذلك قبل أن يلقوا فيها ، فيكون من باب القلب مبالغة بادعاء كون النار مميزاً إذا قهر وغلبة.
يقول الفقير : لا حاجة عندي إلى هذين التأويلين ، فإن نار الآخرة لها شعور وإدراك بدليل أنها تقول : هل من مزيد؟ وتقول للمؤمنين جزيا مؤمن ، فإن نورك أطفأ ناري وأمثال ذلك.
وأيضاً لا بعد في أن يكون عرضهم على النار باعتبار ملائكة العذاب ، فإنهم حاضرون عندها بأسباب العذاب ، وأهل النار ينظرون إليهم ، وإلى ما يعذبونهم به عياناً ، والله أعلم.
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ} ؛ أي : يقال لهم ذلك على التوبيخ ، وهو الناصب للظرف ؛ أي : اليوم.
والمعنى : أصبتم وأخذتم ما كتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها.
وبالفارسية : (ببرديد وبخورديد جيزهاى لذيذ خودرا).
{فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} : (در زندكانى آن جهان خويش) {وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} ، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء منها ؛ لأن إضافة الطيبات تفيد العموم ، بالفارسية : (وبرخوردارى يافتيد بآن لذائذ يعني استيفاى لذات كرديد وهيج براى آخرت نكذاشتيد).
قال سعدي المفتي قوله : واستمتعتم بها كأنه عطف تفسيري لأذهبتم.
{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} ؛ أي : الهوان والحقارة ؛ أي : العذاب الذي فيه ذل وخزي {بِمَا كُنتُمْ} في الدنيا {تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} بغير استحقاق لذلك وفيه إشارة إلى أن الاستكبار إذا كان بحق كالاستبكار على الظلمة لا ينكر.
{وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} ؛ أي : تخرجون من طاعة الله ؛ أي : بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين.
علل سبحانه ذلك العذاب بأمرين أحدهما : الاستكبار عن قبول الدين الحق والإيمان بمحمد عليه السلام ، وهو ذنب القلب.
والثاني : الفسق والمعصية بترك المأمورات وفعل المنهيات ، وهو ذنب الجوارح.
وقدم الأول على الثاني ؛ لأن ذنب القلب أعظم تأثيراً من ذنب الجوارح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الكاشفي : (تنبيه است مر طالبان تجات راكه قدم از اندازه شرع بيرون تنهند.
باى از حدود شرع برون مى نهى منه.
خودرا اسير نفس وهو ميكنى مكن.
وفي الآية إشارة إلى أن للنفس طيبات من الدنيا الفانية وللروح طيبات من الآخرة الباقية ، فمن اشتغل باستيفاء طيبات نفسه في الدنيا يحرم في الآخرة من استيفاء طيبات روحه ؛ لأن في طلب استيفاء طيبات النفس في الدنيا إبطال استعداد الروح في استيفاء طيبات في الآخرة موعودة ، وفي ترك استيفاء طيبات النفس في الدنيا كمالية استعداد الروح في استيفاء طيبات في الآخرة موعودة ، فلهذا يقال لأرباب النفوس ، فاليوم تجزون عذاب الهون بأنكم استكبرتم في قبول دعوة الأنبياء في ترك شهوات النفس واستيفاء طيباتها لئلا تضيع طيبات أرواحكم ، وبما كنتم تخرجون من أوامر الحق ونواهيه ، ويقال للروح وأرباب القلوب : كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ، وبما كانت نفوسهم تاركة لشهواتها بتبعية الروح ، يقال لهم ولكم فيها
479
(8/371)
ما تشتهيه الأنفس ؛ أي : من نعيم الجنة ؛ فإنها من طيباتها وتلذ الأعين ، وهو مشاهدة الجمال والجلال ، وهي طيبات الروح.
كذا في "التأويلات النجمية".
والآية منادية بأن استيفاء الحظ من الدنيا ولذاتها صفة من صفات أهل النار ، فعلى كل مؤمن ذي عقل وتمييز أن يجتنب ذلك اقتداء بسيد الأنبياء وأصحابه الصالحين ، حيث آثروا اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة.
قال الصائب :
افتد هماى دولت اكر در كمندما
از همت بلند رها ميكنيم ما
قال الواسطي : من سره شيء من الألوان الفانية دق أو جل دخل تحت هذه الآية.
روي عن عمر رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو على سرير ، وقد أثر بجنبيه الشريط ، فبكى عمر ، فقال : "ما يبكيك يا عمر؟" ، فقال : ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول رب العالمين قد أثر بجنبيك الشريط ، فقال عليه السلام : "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة".
قالت عائشة رضي الله عنها : ما شبع محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأول بدعة حدثت بعده الشبع ، وقالت أيضاً : وقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً ، وما هو إلا الماء والتمر غير أنه جزى الله عنا نساء الأنصار خيراً.
كن ربما أهدين لنا شيئاً من اللبن.
قال في "كشف الأسرار" : (ملك زمين برسول الله عرض كردند واو بندكى اختيار كرد واز ملكى اعراض كرد وكفت).
أجوع يوماً وأشبع يوماً.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحماً معلقاً في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر؟ قلت : اشتهيت لحماً فاشتريته ، فقال عمر : أو كل ما اشتهيت يا جابر اشتريت ، أما تخاف هذه الآية؟ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
نفس را بدخوا بناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان سير كاهل ميكند مزدوررا
قال أبو هريرة رضي الله عنه : لقد رأيت سبعين نفساً من أصحاب الصفة رضي الله عنهم ما منهم رجل عليه رداء إما إزاراً وكساء قد ربطوه فيف أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها : ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وفي الحديث : "من قضى نهمته في الدنيا حيل بينه وبين شهوته في الآخرة ، ومن مد عينه إلى زينة المترفين كان مهيناً في ملكوت السماوات ، ومن صبر على الفوت الشديد أسكنه الله الفردوس حيث شاء.
قال الشيخ سعدي :
مبرورتن ار مردراى وهشى
كه اورا جومى برورى مى كشى
خور وخواب تنها طريق ددست
بربن بدون آبين تانجر دست
قناعت توانكر كند مردرا
خبركن حريص جهان كردرا
غدا كر لطيفست وكز سرسرى
جوديرت بدست اوفتد خوش خورى
كر ازاده برزمين خسب وبس
مكن نهر قال زمين بوس كس
مكن خانه برراه سيل اى غلام
كه كس رانكشت ابن همارت تمام
ومن الله العون في طريقه والوصول إليه بإرشاده وتوفيقه.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} ؛ أي : واذكر يا محمد لكفار مكة هوداً عليه السلام ليعتبروا من حال قومه.
وبالفارسية : (وياد بن برادر عاد يعنى بيغمبرى كه از قبيلة عاد بود).
فمعنا أخا عاد واحداً منهم في النسب لا في الدين ، كما في قولهم : يا أخا العرب وعاد هم ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهود هو ابن عبد الله ابن رباح بن الخلود بن عاد {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ} بدل اشتمال منه ؛ أي : وقت إنذاره إياه {بِالاحْقَافِ} بموضع يقال له : الأحقاف : (وآن ريكستاني بود نزديك حضرموت
480
بولايت يمن).
جمع : حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وإنما أخذ الحقف من احقوقف مع أن الأمر ينبغي أن يكون بالعكس ؛ لأن احقوقف أجلى معنى وأكثر استعمالاً ، فكانت له من هذه الجهة أصالة ، فأدخلت عليه كلمة الابتداء للتنبيه على هذا ، كما في "حواشي سعدي المفتي".
وعن بعضهم : كانت عاد أصحاب عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها : الشحر من بلاد اليمن ، وهو بكسر الشين وسكون الحاء ، وقيل : بفتح الشين ساحل البحر بين عمان وعدن ، وقيل : يسكنون بين عمان ومهرة وعمان بالضم والتخفيف بلد باليمن ، وأما الذي بالشام ، فهو عمان بالفتح والتشديد ومهرة موضع ينسب إليه الإبل المهرية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال في "فتح الرحمن" : الصحيح من الأقوال أن بلاد عاد كانت في اليمن ولهم كانت إرم ذات العماد ، والأحقاف جمع : حقف ، وهو الجبل المستطيل المعوج من الرمل ، وكثيراً ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى ؛ لأن الريح تصنع ذلك.
انتهى.
وعن علي رضي الله عنه شر وادٍ بين الناس وادي الأحقاف ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار وخير وادٍ : وادي مكة ، وواد نزل به آدم بأرض الهند.
وقال : خير بئر في الناس بئر زمزم ، وشر بئر في الناس بئر برهوت ، كذا في "كشف الأسرار".
(8/372)
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} ؛ أي : الرسل جمع نذير بمعنى : المنذر.
{مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ} ؛ أي : من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} ؛ أي : من بعده والجملة اعتراض بين المفسر والمفسر أو المتعلق والمتعلق مقرر لما قبله مؤكد لوجوب العمل بموجب الإنذار وسط بين إنذار قومه وبين قوله : {أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} مسارعة إلى ما ذكر من التقرير والتأكيد وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المحكية.
والمعنى : واذكر لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم.
وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه قومهم مثل ذلك فاذكرهم.
قال في "بحر العلوم" : أن مخففة من الثقيلة ؛ أي : أنه يعني أن الشأن ، والقصة لا تعبدوا إلا الله ، أو مفسرة بمعنى ؛ أي : لا تعبدوا إلا الله ، أو مصدرية بحذف الباء تقديره : بأن لا تعبدوا إلا الله والنهي عن الشيء إنذار عن مضرته.
انتهى.
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ؛ أي : هائل بسبب شرككم وإعراضكم عن التوحيد واليوم العظيم يوم نزول العذاب عليهم فعظيم مجاز عن هائل ؛ لأنه يلزم العظم ويجوز أن يكون من قبيل الإسناد إلى الزمان مجازاً ، وأن يكون الجر على الجوار.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} ؛ أي : تصرفنا من الأفك بالفتح مصدر أفكه يأفكه قلبه وصرفه عن الشيء {عَنْ ءَالِهَتِنَا} عن عبادتها إلى دينك.
وهذا مما لا يكون {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب العظيم والباء للتعدية.
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِه وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّه أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُا وَمَا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} في وعدك بنزوله بنا.
{قَالَ} ؛ أي : هود {إِنَّمَا الْعِلْمُ} ؛ أي : بوقت نزوله ، أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك.
{عِندَ اللَّهِ} وحده لا علم لي بوقت نزوله ، ولا مدخل لي في إتيانه وحلوله ، وإنما علمه عند الله تعالى ، فيأتيكم به في وقته المقدر له.
{وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك من غير وقوف على وقت نزوله.
{وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيث يقترحون علي ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.
وفي "التأويلات
481
النجمية" : تجهلون الصواب من الخطأ والصلاح من الفساد حين أدلكم على الرشاد.
وفي الآية إشارة إلى أن الأصنام ظاهرة وباطنة ، فالأصنام الظاهرة ظاهرة.
وأما الأصنام الباطنة ، فهي النفس وهواها وشهواتها الدنيوية الفانية ، والنهي عنها مطلقاً من وظائف الأنبياء عليهم السلام ؛ لأنهم بعثوا لإصلاح النفوس وتهييج الأرواح إلى الملك القدوس ويليهم ورثتهم ، وهم الأولياء الكرام قدس الله أسرارهم ، فهم بينوا أن عبادة الهوى تورث العذاب العظيم وعبادة الله تعالى تورث الثواب العظيم ، بل رؤية الوجه الكريم ، ولكن القوم من كمال شقاوتهم قابلونا بالرد والعناد ، وزادوا في الضلال والفساد ، فحرموا من الثواب مع ما لحقهم من العذاب.
وهذا من كمال الجهالة إذ لو كان للمرء عقل تام ومعرفة كاملة لما تبع الهوى وعبد المولى.
قال بعضهم : يجب عليك أولاً أن تعرف المعبود ، ثم تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته ، وما يجب له ، وما يستحيل في نعته ، فربما تعتقد شيئاً في صفاته يخالف الحق ، فتكون عبادتك هباء منثوراً ألا ترى أن بعضهم رأى الشيطان بين السماء والأرض فظنه الحق ، واستمر عليه مقدار عشرين سنة ، ثم لما تبين له خطأه في ذلك قضى صلوات تلك المدة.
وكذلك يجب عليك علم الواجبات الشرعية لتؤديها كما أمرت بها ، وكذا علم المناهي لتتركها : (شخصى بود صالح اما قليل العلم در حانة خود منقطع بود ناكاه بهيمة خريد واورابدان حاجتى ظاهرته بعد ازجند سال كسى ازوى برسيدتوا اين راجه ميكنى وترابوى شغلى وحاجتى نيست كفت دين خودرا باين محافظت مى كنم اوخود با ين بهيمة جمع مى آمده است تا از زنا معصوم ماند اورا اعلام كردندكه آن حرام است وصاحب شرع نهى فرموده است بسيار كريست وتوبه كرد وكفت ندا نستم بس برتو فرض عين است كه ازدين خود بازجويى وحلال وحرام را تمييز كنى تا تصرفات تو بر طريق استقامت باشد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
(8/373)
ويجب عليك أيضاً معرفة الأحوال والأخلاق القلبية والتحرز عن مذموماتها كالحسد والرياء والعجب والكبر وحب المال والجاه ونحو ذلك.
وتتخلق بممدوحاتها من التوكل والقناعة والرضا والتسليم واليقين ونحو ذلك ، ولا بد في هذا الباب من المعلم والمرشد خصوصاً في إصلاح الباطن :
درا بحلقة روشند لان عالم خاك
كه تاز جاجه دلرا كنى ز حادثه باك
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} : الفاء فصيحة ؛ أي : فأتاهم العذاب الموعود به ، فلما رأوه حال كونه {عَارِضًا} ؛ أي : سحاباً يعرض في أفق السماء ، أو يبدو في عرض السماء.
{مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} ؛ أي : متوجهاً تلقاء أوديتهم.
والإضافة فيه لفظية ، ولذا وقع صفة للنكرة.
{قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ؛ أي : يأتينا بالمطر ، والإضافة فيه أيضاً لفظية.
روى أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من وادٍ لهم ، يقال له : المغيث وكانوا قد حبس عنهم المطر ، فلما شاهدوها قالوا ذلك مستبشرين بها مسرورين {بَلْ هُوَ} ؛ أي : قال هود : ليس الأمر كذلك ، بل هو {مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} من العذاب.
وبالفارسية : (اين نه ابر باران دهنده است بلكه او آن جيزيست كه تعجيل مزكر ريد بدان).
{رِيحٌ} : خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي : (حوريح).
{فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفة لريح وكذا قوله : {تُدَمِّرُ} ؛ أي : تهلك.
{كُلِّ شَىْءٍ} مرت به من نفوسهم وأموالهم ، فالاستغراق عرفي ، والمراد : المشركون منهم.
{بِأَمْرِ رَبِّهَا} إذ لا حركة ولا سكون إلا بمشيئته
482
تعالى.
وأضاف الرب إلى الريح مع أنه تعالى رب كل شيء لتعظيم شأن المضاف إليه.
وللإشارة إلى أنها في حركتها مأمورة ، وأنها من أكابر جنود الله ، يعني : ليس ذلك من باب تأثيرات الكواكب والقرانات ، بل هو أمر حدت ابتداء بقدرةتعالى لأجل التعذيب.
{فَأَصْبَحُوا} ؛ أي : صاروا من العذاب بحال {لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ} : الفاء فصيحة ؛ أي : فجأتهم الريح فدمرتهم ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، يعني : (بس كشتند بحالى كه اكر كسى بديار ايشان رسيدى ديده نشدى مكر جايكاههاى ايشان يعني همه هلاك شدند وجايكا ايشان خالى بماند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{كَذَالِكَ} : الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الجزاء الفظيع ، يعني : الهلاك بعذاب الاستئصال.
{نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} قيل : أوحى الله تعالى إلى خزان الريح أن أرسلوا مقدار منخر البقر ، فقالوا : يا رب إذاً ننسف الأرض ومن عليها ، فقال تعالى مثل حلقة الخاتم ، ففعلوا ، فجاءت ريح بادرة من قبل المغرب ، وأول ما عرفوا به أنه عذاب أن رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير بها الريح بين السماء والأرض ، وترفع الظعينة في الجو حتى ترى كأنها جرادة ، فتدمغها بالحجارة ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، فأمال الله الأحقاف عليهم ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنهم الأحقاف ، فاحتملتم فطرحتهم في البحر.
وقد قالوا : من أشد منا قوة؟ فلا تستطيع الريح أن تزيل أقدامنا فغلبت عليهم الريح بقوتها ، فما أغنت عنهم قوتهم.
وفي المثنوي :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حقندكاه امتحان
بادرا ديدى كه با عادان جه كرد
آب را ديدى كه با طوفان جه كرد
روي : أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع ماء لا يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود ، وتلذ الأنفس وعمر هود بعدهم مائة وخمسين سنة.
وقد مرّ تفصيل القصة في سورة الأعراف ، فارجع ، والآية وعيد لأهل مكة على إجرامهم بالتكذيب ، فإن الله تعالى قادر على أن يرسل عليهم ريحاً مثل ريح عاد أو نحوها ، فلا بد من الحذر.
وعن عائشة رضي الله عنها : كان النبي عليه السلام إذا رأى ريحاً مختلفة تلون وجهه وتغير ودخل وخرج وأقبل وأدبر ، فذكرت ذلك له ، فقال : وما تدرون لعله ، كما قال الله تعالى : فلما رأوه عارضاً إلخ.
فإذا أمطرت سري عنه ، ويقول : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} (النمل : 63).
وفي الآية إشارة إلى أنه يعرض في سماء القلوب تارة عارض ، فيمطر مطر الرحمة يحيي به الله أرض البشرية فينبت منها الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة ، وتارة يعرض عارض ضده بسوء الأخلاق وفساد الأعمال ، فتكون أشخاصهم خالية عن الخير كالأخلاق والآداب والأعمال الصالحة وقلوبهم فارغة من الصدق والإخلاص والرضا والتسليم ، وهو جزاء القوم المعرضين عن الحق المقبلين على الباطل.
يقول الفقير : وفيه إشارة أيضاً إلى قوم ممكورين مقهورين يحسبون أنهم من أهل اللطف والكرم ، فيأمرون برفع القباب على قبورهم بعد موتهم ، أو يفعل بهم ذلك من جهة الجهلة ، فصاروا بحيث لا يرى إلا القبور.
والقباب وليس فيها أحد من الأحباب ، بلى من أهل العذاب ، ونعم ما قالوا لا تهيىء لنفسك قبراً وهيىء نفسك للقبر نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ويحفظنا مما يوجب أذاه ، ويخالف رضاه.
(8/374)
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةًا كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَـابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ} : (لتمكين دست دادن وجاى دادن).
والمعنى : أقدرنا عاداً وملكناهم.
483
وبالفارسية : (ايشان قدرت وقت داديم).
{فِيمَآ} ؛ أي : في الذي {ءَانٍ} نافية ؛ أي : ما.
{مَكَّنَّـاكُمْ} ؛ أي : يا أهل مكة.
{فِيهِ} من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات ، ومما يحسن موقع أن دون ما ها هنا التفصي عن تكرار لفظة ما ، وهو الداعي إلى قلب ألفها ها في مهما ، وجعلها زائدة أو شرطية على أن يكون الجواب : كان بغيكم أكثر مما لا يليق بالمقام.
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً} ليستعملوها فيما خلقت له ، ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ، ويستدلوا بها على شؤون منعمها عز وجلّ ، ويدوموا على شكرها.
ولعل توحيد السمع ؛ لأنه لا يدرك به إلا الصوت ، وما يتبعه بخلاف البصر حيث يدرك به أشياء كثيرة بعضها بالذات وبعضها بالواسطة ، والفؤاد يعم إدراك كل شيء ، والفؤاد من القلب كالقلب من الصدر سمي به لتفؤده ؛ أي : لتوقده تحرقاً.
{فَمَآ} نافية {أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل يقال : أغنى عنه.
كذا إذا كفاه.
قال في "تاج المصادر" : (الإغناء بى نيلز كردانيدن وواداشتن كسى را از كسى).
{وَلا أَبْصَـارُهُمْ} حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المنصوبة في صحائف العالم.
{وَلا أَفْـاِدَتُهُم} حيث لم يستعملوها في معرفة الله سبحانه.
{مِن شَىْءٍ} ؛ أي : شيئاً من الإغناء ومن مزيدة للتأكيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الكاشفي : (همين كه عذاب فرود آيد بش دفع نكرد از ايشان كوش وديدها ودلهاى ايشان جيزبرا از عذاب خداى).
{إِذْ كَانُوا} : (ازروى تقليد وتعصب).
{يَجْحَدُونَ بآيات اللَّهِ} قوله : إذ متعلق بما أغنى ، وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث أن الحكم مرتب على ما أضيف إليه ، فإن قولك : أكرمته إذ أكرمني في قوة قولك : أكرمته لإكرامه ؛ لأنك إذا أكرمته وقت إكرامه ، فإنما أكرمته فيه لوجود إكرامه فيه.
وكذا الحال في حيث.
{وَحَاقَ بِهِم} : نزل وأحاط.
{مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ، فيقولون ، فائتنا بما تعدنا إن كانت من الصادقين.
وفي الآية تخويف لأهل مكة ليعتبروا.
وفي المثنوي :
بس سباس اوراكه مارا درجهان
كرد بيدا از بس بيشينيان
تاشنيديم ازسياستهاى
بر قرون ماضيه اندر سبق
استخوان وبشم آن كركان عيان
بنكريد وبند كيريد اى مهان
عاقل از سر بنهد اين هستى وباد
جون شنيد انجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتى كيرند از اضلال او
وفي الآية إشارة إلى أن هذه الآلات التي هي السمع والبصر والفؤاد أسباب تحصيل التوحيد ، وبدأ بالسمع ؛ لأن جميع التكليف الوارد على القلب ، إنما يوجد من قبل السمع وثنى بالبصر ؛ لأنه أعظم شاهد بتصديق المسموع منه ، وبه حصول ما به التفكر والاعتبار غالباً تنبيهاً على عظمة ذلك ، وإن كان المبصر هو القلب.
[
ثم رجع إلى الفؤاد الذي هو العمدة في ذلك فتقديمها على جهة التعظيم له ، كما يقال : الجناب والمجلس ، وهما المبلغان إليه.
وعنه : وإنما شاركه هذان في الذكر تنبيهاً على عظم مشاركتهما إياه في الوزارة ولولاهما لما أمكن أن يبلغ قلب في القالب قلباً في هذا العالم ما يريد إبلاغه إليه ، فالسمع والبصر مع الفؤاد في عالم التكليف كالجسد والنفس مع الروح في عالم الخلافة ، ولا يتم لأحدهما ذلك إلا بالآخرين ، وإلا نقص بقدره.
والمراد : في جميع التكليف سلامة القلب والخطاب إليه من جهة كل عضو ، فعلى العاقل سماع الحق والتخلق بما يسمع والمبادرة إلى الانقياد للتكليفات في جميع الأعضاء ، وفعل ما قدر عليه من المندوبات ،
484
واجتناب ما سمع من المنهي عنه من المحرمات والتعفف عن المكروهات ، وترك فضلات المباحات ، فإن الاشتغال بفضول المباحات يحرم العبد من لذة المناجاة ، وفكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة ، فكيف تدبير الحرام إذا غير المسك الماء منع الوضوء منه؟ ، فكيف ولوغ الكلب ، وكل عضو يسأل عنه يوم القيامة ، فليحاسب العبد نفسه قبل وقت المحاسبة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
(8/375)
وروي : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده ، فأتى جبرائيل ، فقال : يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً.
فدعا النبي عليه السلام الأعرابي ، فقال : "اقتص مني" فقال الأعرابي : قد أحللتك بأبي أنت وأمي ، وما كنت لأفعل ذلك أبداً ، ولو أتيت على نفسي ، فدعا له بخير ، فكما يجب ترك الظلم باليد ونحوها ، فكذا ترك معاونة الظلمة.
وطلب بعض الأمراء من بعض العلماء المحبوسين عنده أن يناوله طيناً ليختم به الكتاب ، فقال : ناولني الكتاب أولاً حتى أنظر ما فيه ، فهكذا كانوا يحترزون عن معاونة الظلمة ، فمن أقر بآيات الله الناطقة بالحلال والحرام ، كيف يجترىء على ترك العمل ، فيكون من المستهزئين بها ، فالتوحيد والإقرار أصل الأصول ، ولكن قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر : 10) ، ولا كلام في شرف العلم والعمل خصوصاً الذكر.
قال موسى عليه السلام : يا رب أقريب أنت ، فأناجيك أم بعيد؟ فأناديك ، فقال : أنا جليس من ذكرني ، قال : فإنا نكون على حال نجلك أن نذكرك عليها كالجناية والغائط ، فقال : اذكرني على أي حال.
قال الحسن البصري : إذا عطس على قضاء الحاجة يحمد الله في نفسه ، كما في "إحياء العلوم".
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم} : يا أهل مكة.
وبالفارسية : (بدرستى كه نيست كرديم آنجه كردا كرد شمابود).
وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه {مِّنَ الْقُرَى} كحجر ثمود ، وهي منازلها ، والمؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط والظاهر من أهل القرى ، فيدخل فيهم عاد فإنهم أهلكوا ، وبقيت مساكنهم كما سبق.
{وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ} التي يعتبر بها ؛ أي : كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر.
وفي "كشف الأسرار" : وصرفنا الآيات بتكرير ذكرها وإعادة أقاصيص الأمم الخالية بتكذيبها وشركها.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي ؛ لأنها أسباب الرجوع إلى التوحيد والطاعة ، ولم يرجع أحد منهم ليعلم أن الهداية بيد الله يؤتيها من يشاء ، قالوا : لعل هذا تطميع لهم وتأميل للمؤمنين ، وإلا فهو تعالى يعلم أنهم لا يرجعون.
يقول الفقير : هذا من أسرار القدر ، فلا يبحث عنه ، فإن الله تعالى خلق الجن والإنس ليعبدوه ، فما عبده منهم إلا أقل من القليل ، ولما كان تصريف الآيات ، والدعوة بالمعجزات من مقتضيات أعيانهم فعله الله تعالى والأنبياء عليهم السلام.
والفرق بين الأمر التكليفي والأمر الإرادي أن الأول لا يقتضي حصول المأمور به بخلاف الثاني ، وإلا لوقع التخلف بين الإرادة والمراد ، وهو محال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَ} : القربان ما يتقرب به إلى الله واحده : مفعولي اتخذوا ضمير المفعول المحذوف.
والثاني : آلهة وقرباناً حال.
والتقدير : فهلا نصرهم وخلصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة حال كونها متقرباً بها إلى الله تعالى حيث كانوا يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وفيه تهكم بهم.
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} ؛ أي : غابوا عنهم ، وفيه تهكم آخر بهم كأن
485
عدم نصرتهم لغيبتهم ، أو ضاعوا عنهم ؛ أي : ظهر ضياعهم عنهم بالكلية.
{وَذَالِكَ} ؛ أي : ضياع آلهتهم عنهم وامتناع نصرتهم.
{إِفْكِهِمْ} ؛ أي : أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم.
{وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : عطف على إفكهم ؛ أي : وأثر افترائهم على الله أو أثر ما كانوا يفترونه عليه تعالى : (روى از تو هر كه تافت دكر آب رو نيافت).
وفي الآية إشارة إلى أن الأسباب والوسائل نوعان :
أحدهما : ما أذن الله تعالى في أن يتوسل العبد به إليه كالأنبياء والأولياء ، وما جاؤوا به من الوحي والإلهام.
فهذه أسباب الهدي كما قال تعالى : {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة : 35) ، {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119).
والثاني : ما لم يأذن فيه الله ، كعبادة الأصنام ونحوها ، فهذه أسباب الهوى ، كما نطقت بها الآيات ، ثم إن الله تعالى إنما يفعل عند الأسباب لا بالأسباب ليعلم العبد أن التأثير من الله ، فيستأنس بالله لا بالأسباب :
حق تعالى موسى را فرمودكاى موسى جون مرغ باش كه از سر درختان مى خورد وآب صافى بكارمى بدد وجون شب درآمد در شكافى مأوى مى سازد وبامن انس ميكيرد واز خلق مستوحش ميكرد واى موسى هركه بغير من اميد دارد هر آينه اميد او قطع كنم وهركه باغير من تكيه كند بشت اوراشكسته كنم وهركه باغير من انس كيرد وحشت اودراز كرادنم وهركه غير مرا دوست دارد هر آينه ازوى اعراض نمايم.
(8/376)
وفي الآية أيضاً تهديد وتخويف حتى لا يغفل المرء عن الله ، ولا يتكل على غيره ، بل يتأمل العاقبة ، ويقبل الدعوة : (حق تعالى به بني إسرائيل خطاب فرمودكه شمارا بآخرت ترغيب كرديم رغبت نكرديد ودردنيا بزهد فرموديم زاهد نشديد وبا آنش ترسانيديم ترس دردل نكر فتيد وبه بهشت تشويق كرديم آرزومند نشديد برشما نوحه كردان داديم نكرستيد بشارت باد كشتكا نرا كه حق تعالى شمشير بست كه در نيام نيامد وان دار جهنم است).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةًا كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَـابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـاذَا كِتَـابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِه ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} .
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} : أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار.
قال الراغب : النفر عدة رجال يمكنهم النفر ؛ أي : إلى الحرب ونحوها والجن بعض الروحانيين.
وذلك أن الروحانيين ثلاثة أخيار : وهم الملائكة وأشرارهم ، وهم الشياطين وأوساط فيهم أخيار وأشرار وهم الجن.
قال سعيد بن المسيب : الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث ، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون.
والشياطين ذكور وإناث يتوالدون ولا يموتون ، بل يخلدون في الدنيا كما خلد إبليس.
والجن يتوالدون ، وفيهم ذكور وإناث ويموتون.
يقول الفقير : يؤيده ما ثبت أن في الجن مذاهب مختلفة كالإنس حتى الرافضي ونحوه ، وإن بينهم حروباً وقتالاً ، ولكن يشكل قولهم : إبليس هو أبو الجن ، فإنه يقتضي أن لا يكون بينهم وبين الشياطين فرق إلا بالإيمان والكفر فاعرف.
{يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ} : حال مقدرة من نفراً لتخصيصه بالصفة ، أو صفة أخرى له ؛ أي : واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفراً كائناً من الجن مقدراً استماعهم القرآن.
{فَلَمَّا حَضَرُوهُ} ؛ أي : القرآن عند تلاوته.
{قَالُوا} : أي قال بعضهم لبعض.
{أَنصِتُوا} : الإنصات هو الاستماع إلى الصوت مع ترك الكلام ؛ أي : اسكتوا لسمعه.
وفيه إشارة إلى أن من شأنهم فضول الكلام واللغط كالإنس ورمز إلى الحرص المقبول.
قال بعض العارفين : هيبة الخطاب وحشمة المشاهدة حبست ألسنتهم ، فإنه ليس
486
في مقام الحضرة إلا الخمول والذبول.
{فَلَمَّا قَضَى} : أتم وفرغ من تلاوته.
{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} انصرفوا إلى قومهم مقدرين إنذارهم عند رجوعهم إليه ، يعني : آمنوا به ، وأجابوا إلى ما سمعوا ورجعوا إلى قومهم منذرين ، ولا يلزم من رجوعهم بهذه الصفة أن يكونوا رسل رسول الله عليه السلام إذ يجوز أن يكون الرجل نذيراً ، ولا يكون نبياً أو رسولاً من جانب أحد ، فالنذارة في الجن من غير نبوة.
وقد سبق بقية الكلام في سورة الأنعام عند قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس ، الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
روي : أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث ، فنهض سبعة نفر أو ستة نفر من أشراف جن نصيبين ورؤسائهم.
ونصيبين : بلد قاعدة ديار ربيعة ، كما في "القاموس".
وقال في "إنسان العيون" : هي مدينة بالشام.
وقيل : باليمن.
أثنى عليها رسول الله عليه السلام بقوله : "رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها ، فدعوت الله أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها".
وقيل : كانوا من ملوك جن نينوى بالموصل وأسماؤهم على ما في "عين المعاني" : (شاصر ناصر دس مس از دادنان احقم وكفته اندنه عدد بود وهشتم عمرو ونهم سرف وزوبعة بفتح الزاي المعجمة ، والباء الموحدة از ايشان بوده واوبسر ابليس است).
وقال في "القاموس" : الزوبعة : اسم شيطان ، أو رئيس الجن ، فتكون الأسماء عشرة ، لكن الأحقم بالميم أو الإحقب بالباء وصف لواحد منهم لا علم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : (تسعة سليط شاصر ماصر حاصر حسا مسا عليم ارقم ادرس) ، فضربوا في الأرض حتى بلغوا تهامة ، وهي بالكسر مكة شرفها الله تعالى ، وأرض معروفة لا بلد ، كما في "القاموس" : ثم اندفعوا إلى وادي نخلة عند سوق مكة شرفها الله تعالى ، وأرض معروفة لا بلد ، كما في "القاموس" ، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة عند سوق عكاظ ، ونخلة محلة بين مكة والطائف ، ونخلة الشامية واليمانية واديان على ليلة من مكة وعكاظ ، كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة ، وتستمر عشرين يوماً تجتمع قبائل العرب قيتعاكظون ؛ أي : يتفاخرون ويتناشدون ، ومنه : الأديم العكاظي ، فوافوا ؛ أي : نفر الجن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ أي : صادفوه ووجدوه ، وهو قائم في جوف الليل يصلي ؛ أي : في وسطه ، وكان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
(8/377)
وفي رواية : يصلي صلاة الفجر إذ كان إذ ذاك مأموراً بركعتين بالغداة وبركعتين بالعشي ، فهي غير صلاة الفجر التي هي إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء إذ الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب.
كانت في أوائل الوحي وليلة الإسراء كانت بعد ذلك بسنين عديدة ، فاستمعوا لقراءته عليه السلام ، وكان يقرأ طه وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم على الإسلام ، والقيام على من خالفه من قومه ، فلم يجيبوه إلى مطلوبه وأغروا به سفهاءهم ، فآذوه عليه السلام أذى شديداً ودقوا رجليه بالحجارة حتى أدموها ، كما سبق.
نبذة منه في آخر التوبة ، وكان أقام بالطائف يدعوهم ، عشرة أيام وشهراً وأقام بنخلة أياماً ، فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد : كيف تدخل عليهم يعني : قريشاً ، وهم قد أخرجوك ؛ أي : كانوا سبباً لخروجك ، وخرجت لتستنصرهم ، فلم تنصر ، فقال : يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه ، فسار عليه السلام إلى جبل حراء وبعث إلى مطعم بن عدي ، وقد مات كافراً قبل بدر بنحو سبعة أشهر ، يقول له : إني داخل مكة في جوارك ، فأجابه إلى ذلك ، فدخل عليه السلام مكة ، ثم تسلح
487
مطعم وبنوه ، وهم ستة أو سبعة وخرجوا حتى أتوا المسجد الحرام ، فقام مطعم على راحلته ، فنادى يا معشر قريش : إني قد أجرت محمداً ، فلا يؤذيه أحد منكم ، ثم بعث إلى رسول الله عليه السلام أن ادخل ، فدخل وطاف بالبيت وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله ومطعم وولده مطيفون به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وكان من عادة العرب حفظ الجوار.
ولذا قال أبو سفيان لمطعم أجرنا من أجرت ، ثم إن مرور الجن به عليه السلام في هذه القصة ، ووقوفهم مستمعين لم يشعر به عليه السلام ، ولكن أنبأه الله باستماعهم وذكر اجتماعهم به عليه السلام في مكة مراراً ، فمن ذلك ما روي : أن النفر السبعة من الجن لما انصرفوا من بطن نخلة جاؤوا إلى قومهم منذرين ، ثم جاؤوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله عليه السلام ، وهو بمكة ثلاثمائة أو اثنا عشر ألفاً ، فانتهوا إلى الحجون ، وهو موضع فيه مقابر مكة ، فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله ، فقال : إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك ، فوعده عليه السلام ساعة من الليل ، ثم قال لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة ، وأنذرهم ، فمن يتبعني قالها : ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فقام معه ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون خط لي خطاً برجله.
وقال لي : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، فإنك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة.
وفي رواية : لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ، ثم جلس وقرأ عليهم : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} () ، أو سورة الرحمن ، وسمعت لغطاً شديداً ، حتى خفت على رسول الله ، واللغط بالغين المعجمة والطاء المهملة اختلاط أصوات الكلام حتى لا يفهم وغشيته عليه السلام ، ثم انقطعوا كقطع السحاب ، فقال لي عليه السلام : "هل رأيت شيئاً"؟ قلت : نعم ، رجالاً سوداً ؛ كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان ، الواحد منه زطي ، فقال : أولئك جن نصيبين ، قلت : سمعت منهم لغطاً شديداً ، حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تفرعهم بعصاك وتقول : اجلسوا ؛ أي : فما سببه ، فقال : "إن الجن تداعت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ ، فحكمت بينهم بالحق".
وقال أبو الليث ، فلما رجع إليه ، قال : يا نبي الله ، سمعت هدتين ؛ أي : صوتين.
قال عليه السلام : إما إحداهما ، فإني سلمت عليهم وردوا عليّ السلام.
وأما الثانية : فإنهم سألوا الرزق ، فأعطيتهم عظماً وأعطيتهم روثاً رزقاً لدوابهم ؛ أي : أن المؤمنين منهم لا يجدون عظماً ذكر اسم الله عليه إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجد فيها حبها يوم أكلت أو يعود البعر خضراً لدوابهم.
ولهذا نهى عليه السلام عن الاستنجاء بالعظم والروث ، وأما الكافرون منهم : فيجدون اللحم على العظم الذي لم يذكر اسم الله عليه.
وعن قتادة : لما أهبط إبليس ، قال : أي رب لقد لعنته فما علمه ، قال : السحر ، قال : فما قراءته ، قال : الشعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
در قيامت نرسد شعر بفرياد كسى
كر سراسر سخنش حكمت يونان كردد
قال : فما كتابته ، قال : الوشم وهو غرز الإبر في البدن ، وذر النيلج عليه ، قال : فما طعامه؟ قال : كل ميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه ؛ أي : من طعام الإنس يأخذه سرقة ، قال : فما شرابه؟ قال : كل مسكر ، قال : فأين مسكنه؟ قال : الحمام ، قال : فأين محله؟ قال : في الأسواق ، قال : فما صوته ، قال : المزمار ، قال : فما مصايده؟ قال : النساء فالحمام أكثر محل إقامته والسوق محل تردده في بعض الأوقات.
والظاهر أن كل من لم يؤمن من الجن مثل إبليس فيما ذكر ، قال في "إنسان العيون" في أكل الجان ثلاثة أقوال : يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد ؛ أي : الابتلاع.
والثاني : لا يأكلون ولا
488
(8/378)
يشربون ، بل يتغذون بالشم ، والثالث : أنهم صنفان : صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب ، وإنما يتغذون بالشم ، وهو خلاصتهم.
وفي "آكام المرجان" : أن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون ، وكون الرقيق رقيقاً.
واللطيف لطيفاً لا يمنع عن الأكل والشرب ، وأما الملائكة فهم أجسام لطيفة لكنهم لا يأكلون ولا يشربون لإجماع أهل الصلاة على ذلك وللأخبار المروية في ذلك.
قال العلماء أنه عليه السلام بعث إلى الجن قطعاً ، وهم مكلفون.
وفيهم العصاة والطائعون ، وقد أعلمناأن نفراً من الجن رأوه عليه السلام ، وآمنوا به وسمعوا القرآن فهم صحابة فضلاء من حيث رؤيتهم وصحبتهم ، وحينئذٍ يتعين ذكر من عرف منهم في الصحابة رضي الله عنهم.
كذا في "شرح النخبة" لعلي القاري.
{قَالُوا} ؛ أي : عند رجوعهم إلى قومهم.
يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا} فيه إطلاق الكتاب على بعض أجزائه إذ لم يكن القرآن كله منزلاً حينئذٍ.
{أُنزِلَ مِنا بَعْدِ} كتاب {مُوسَى} ، قيل : قالوه لأنهم كانوا على اليهودية وأسلموا.
وقال سعدي المفتي في "حواشيه".
قلت : الظاهر أنه مثل قول ورقة بن نوفل : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، فقد قالوا في وجهه أنه ذكر موسى مع أنه كان نصرانياً تحقيقاً للرسالة ؛ لأن نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى ، فإن اليهود ينكرون نبوته أو ؛ لأن النصارى يتبعون أحكام التوراة ، ويرجعون إليها ، وهذان الوجهان متأتيان هنا أيضاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام ، فلذا قالوا : من بعد موسى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال سعدي المفتي : لعله لا يصح عن ابن عباس ، فإنه في غاية البعد إذ النصارى أمة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها ، فكيف يجوز أن لا يسمعوا بأمر عيسى.
وقال في "إنسان العيون" قولهم : من بعد موسى بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة ، انتهى.
يقول الفقير : قد صح أن التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب ، فإنها لم تشتمل على ذلك ، إنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وتوحيده.
ومن ثمة قيل لها : صحف.
وإطلاق الكتب عليها مجاز كما صرح به في "السيرة الحلبية" ، فلما كان القرآن مشتملاً على الأحكام والشرائع أيضاً ، صارت الكتب الإلهية كلها في حكم كتابين التوراة والقرآن ، فلذا خصصوا موسى بالذكر ، وفيه بيان لشرف الكتابين وجلالتهما.
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ؛ أي : موافقاً لما قبله من التوراة والكتب الإلهية في الدعوة إلى التوحيد والتصديق وحقية أمر النبوة والمعاد وتطهير الأخلاق ونحو ذلك.
{يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ} من العقائد الصحيحة.
{وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إليه لا عوج فيه ، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
قال ابن عطاء : يهدي إلى الحق في الباطن ، وإلى طريق مستقيم في الظاهر.
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِه ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى} .
يا قَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} يعني : محمداً صلى الله عليه وسلّم أو أرادوا ما سمعوه من الكتاب ، فإنه كما أنه هاد كذلك ، هو داع إلى الله تعالى.
{وَءَامِنُوا بِه يَغْفِرْ لَكُم} ؛ أي : الله تعالى {مِّن ذُنُوبِكُمْ} ؛ أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما كان في خالص حق الله ، فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان بل برضى أربابها ، يعني : إذا أسلم الذمي لا يغفر عنه حقوق العباد بإسلامه ، وكذا لا تغفر عن الحربي إذا كان الحق مالياً ، قالوا : ظلامة الكافر وخصومة الدابة أشد ؛ لأن المسلم إما أن يحمل عليه ذنب خصمه بقدر حقه ، أو يأخذ من حسناته.
489
والكافر لا يأخذ من الحسنات ، ولا ذنب للدابة ، ولا يؤهل لأخذ الحسنات ، فتعين العقاب.
{وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} معد للكفرة ، وهو عذاب النار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرْضِ} ؛ أي : فليس بمعجز له تعالى بالهرب ، وإن هرب كل مهرب من أقطارها ، أو دخل في أعماقها.
{وَلَيْسَ لَه مِن دُونِه أَوْلِيَآءُ} بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى من ، فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد إلى الآحاد.
{أولئك} الموصوفون بعدم إجابة الداعي.
{فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} ؛ أي : ظاهر كونه ضلالاً بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.
(8/379)
وفي الحديث : "ألا أخبركم عني وعن ملائكة ربي البارحة حفوا بي عند رأسي وعند رجلي وعن يميني وعن يساري" ، فقالوا : يا محمد تنام عينك ولا ينام قلبك ، فلتعقل ما نقول ، فقال بعضهم لبعض : اضربوا لمحمد مثلاً ، قال قائل : مثله كمثل رجل بنى داراً وبعث داعياً يدعو ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل مما فيها ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل مما فيها وسخط السيد عليه ، ومحمد الداعي ، فمن أجاب محمداً دخل الجنة ، ومن لم يجب محمداً لم يدخل الجنة ، ولم يأكل مما فيها ، ويسخط السيد عليه.
وفي الآية دليل بيّن على أنه عليه السلام مبعوث إلى الجن والإنس جميعاً ، ولم يبعث قبله نبي إليهما وأما سليمان عليه السلام ، فلم يبعث إلى الجن ، بل سخروا له.
وفي "فتح الرحمن" : ولم يرسل عليه السلام إلى الملائكة صرح به البيهقي في الباب الرابع من "شعب الإيمان".
وصرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه.
)
وفي "تفسير الإمام الرازي" ، و"البرهان النسفي" حكاية الإجماع.
قال ابن حامد : من أصحاب أحمد : ومذهب العلماء إخراج الملائكة عن التكليف والوعد والوعيد ، وهم معصومون كالأنبياء بالاتفاق إلا من استثني كإبليس وهاروت وماروت على القول بأنهم من الملائكة.
انتهى.
وفي الحديث : "أرسلت إلى الخلق كافة" والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر.
قال الجلال السيوطي : وهذا القول ؛ أي : إرساله للملائكة رجحته في كتاب "الخصائص" وقد رحجه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي ، وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة ، ورجحه أيضاً البارزي ، وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات ، وأزيد على ذلك أنه مرسل لنفسه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
يقول الفقير : اختلف أهل الحديث في شأن الملائكة ، هل هم من الصحابة أو لا؟ فقال البلقيني : ليسوا داخلين في الصحابة ، وظاهر كلامهم كالإمام الرازي أنهم داخلون ، ففيه أن الإمام كيف يعد الملائكة من الصحابة؟ وقد حكي الإجماع على عدم الإرسال وبعيد أن يكونوا من صحابته وأمته عليه السلام من غير أن يرسل إليهم.
واختلف في حكم مؤمني الجن ، فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لقوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف : 31) حيث صرح باقتصارهم على المغفرة والإجارة.
وبه قال الحسن البصري رحمه الله حيث قال : ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا تراباً مثل البهائم.
قال الإمام النسفي في "التيسير" توقف أبو حنيفة في ثواب الجن ونعيمهم.
وقال : لا استحقاق للعبد على الله ، وءنما ينال بالوعد ولا وعد في حق الجن إلا المغفرة والإجارة ، فهذا يقطع القول به ، وأما نعيم الجنة ، فموقوف على قيام الدليل.
انتهى.
قال سعدي المفتي : وبهذا تبين
490
أن أبا حنيفة متوقف لا جازم بأنه لا ثواب لهم ، كما زعم البيضاوي ، يعني أن المروي عن أبي حنيفة أنه توقف في كيفية ثوابهم لا أنه قال : لا ثواب لهم.
وذلك أن في الجن مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً وعبدة أوثان ، فلمسلميهم ثواب لا محالة ، وإن لم نعلم كيفيته ، كما أن الملائكة لا يجازون بالجنة ، بل بنعيم يناسبهم على أصح قول العلماء ، وأما رؤوية الله تعالى ، فلا يراه الملائكة والجن في رواية كما في "إنسان العيون".
والظاهر أن رؤيتهم من وادٍ ورؤية لبشر من وادٍ ، فمن نفى الرؤية عنهم نفاها بهذا المعنى ، وإلا فالملائكة أهل حضور وشهود ، فكيف لا يرونه ، وكذا مؤمنو الجن وإن كانت معرفتهم دون معرفة الكمل من البشر على ما صرح به بعض العلماء.
وفي "البزازية" : ذكر في التفاسير توقف الإمام الأعظم في ثواب الجن ؛ لأنه جاء في القرآن فيهم يغفر لكم من ذنوبكم ، والمغفرة لا تستلزم الإثابة.
قالت المعتزلة : أوعد لظالميهم ، فيستحق الثواب صالحوهم.
قال الله تعالى : {وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الجن : 15) ، قلنا : الثواب فضل من الله تعالى لا بالاستحقاق ، فإن قيل قوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 57) بعد عد نعم الجنة خطاب للثقلين ، فيرد ما ذكرتم ، قلنا : ذكر أن المراد منه التوقف في المآكل والمشارب والملاذ ، والدخول فيه كدخول الملائكة للسلام والزيارة والخدمة والملائكة يدخلون عليهم من كل باب الآية ، انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
والصحيح كما في "بحر العلوم" : والأظهر كما في "الإرشاد" : أن الجن في حكم بني آدم ثواباً وعقاباً لأنهم مكلفون مثلهم ، ويدل عليه قوله تعالى في هذه السورة لكل درجات مما عملوا ، والاقتصار ؛ لأن مقصودهم الإنذار ، ففيه تذكير بذنوبهم : (واز حمزة بن حبيب رحمه الله برسيدندكه مؤمنان جن را ثواب هست فرمودكه آرى وآيت لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان بخواند وكفت الانسيات للإنس والجنيات للجن).
فدل على تأني الطمث من الجن ؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.
(8/380)
وفي "آكام المرجان" : في أحكام الجان اختلف العلماء في مؤمني الجن ، هل يدخلون الجنة على أقوال أحدها؟ إنهم يدخلونها ، وهو قول جمهور العلماء.
ثم اختلف القائلون بهذا القول إذا دخلوا الجنة هل يأكلون فيها ويشربون؟ فعن الضحاك : يأكلون ويشربون ، وعن مجاهد أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة؟ قال : يدخلونها ، ولكن لا يأكلون ولا يشربون ، بل يلهمون التسبيح والتقديس ، فيجدون فيه ما يجده أهل الجنة من لذة الطعام والشراب ، وذهب الحارث المحاسبي إلى أن الجن الذين يدخلون الجنة يكونون يوم القيامة بحيث نراهم ولا يروننا عكس ما كانوا عليه في الدنيا.
والقول الثاني : أنهم لا يدخلونها ، بل يكونون في ربضها ؛ أي : ناحيتها وجانبها يراهم الإنس من حيث لا يرونهم.
والقول الثالث : أنهم على الأعراف كما جاء في الحديث : "أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب ، وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد هم على الأعراف حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار".
ذكره صاحب "الفردوس الكبير".
وقال الحافظ الذهبي : هذا حديث منكر جداً.
وفي الحديث : "خلق الله الجن ثلاثة أصناف صنفاً حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنفاً كالريح في الهواء وصنفاً عليه الثواب والعقاب ، وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف : صنفاً كالبهائم ، كما قال تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} إلى قوله : {أولئك كَالانْعَـامِ} (الأعراف : 179) ، الآية.
وصنفاً أجسادهم كأجساد بني آدم وأرواحهم كأرواح الشياطين وصنفاً في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله".
رواه أبو الدرداء رضي الله عنه.
والقول الرابع : التوقف.
491
واحتج أهل القول الأول بوجوه الأول العمومات كقوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقوله عليه السلام من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً دخل الجنة ، فكما أنهم يخاطبون بعمومات الوعيد بالإجماع ، فكذلك يخاطبون بعمومات الوعد بالطريق الأولى ، ومن أظهر حجة في ذلك قوله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ * فَبِأَىِّ} () إلى آخر السورة.
والخطاب للجن والإنس فامتن عليهم بجزاء الجنة ووصفها لهم وشوقهم إليها ، فدل ذلك على أنهم ينالون ما امتن عليهم به إذا آمنوا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقد جاء في حديث : أن رسول الله عليه السلام قال لأصحابه لما تلا عليهم هذه السورة : "الجن كانوا أحسن رداً منكم ما تلوت عليهم من آية إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب".
والثاني : ما استدل به ابن حزم من قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} (البينة : 7 ـ ـ 8) إلى آخر السورة.
قال : وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين ، ومن المحال أن يكون الله يخبرنا بخبر عام ، وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين لنا ذلك هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله لنا ، فكيف ، وقد نص على أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة.
والثالث : سبق من خبر الطمث.
والرابع : ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخلق أربعة ، فخلق في الجنة كلهم ، وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار ، فأما لذين في الجنة كلهم ، فالملائكة ، وأما الذين في النار كلهم ، فالشياطين ، وأما الذين في الجنة والنار ، فالإنس والجن لهم الثواب ، وعليهم العقاب.
والخامس : أن العقل يقوي ذلك وإن لم يوجبه ، وذلك أن الله سبحانه قد أوعد من كفر منهم وعصى النار ، فكيف لا يدخل من أطاع منهم الجنة ، وهو سبحانه الحكم العدل ، فإن قيل : قد أوعد الله من قال من الملائكة : إني إله من دونه بالنار ، ومع هذا ليسوا في الجنة في الجواب أن المراد بذلك إبليس دعا إلى عبادة نفسه ، فنزلت الآية فيه ، وهي ومن يقل منهم إني إله من دونه ، فذلك نجزيه جهنم ، وأيضاً أن ذلك وإن سلمنا إرادة العموم منه ، فهذا لا يقع من الملائكة ، بل هو شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، وهو نظير قوله : إن أشركت ليحبطن عملك ، والجن يوجد منهم الكافر ، فيدخل النار.
واحتج أهل القول الثاني بقوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ} إلخ.
حيث لم يذكر دخول الجنة ، فدل على أنهم لا يدخلونها.
والجواب : أنه لا يلزم من سكوتهم أو عدم علمهم بدخول الجنة نفيه.
وأيضاً : إن الله أخبر أنهم ولوا إلى قومهم منذرين فالمقام مقام الإنذار لا مقام بشارة.
وأيضاً : إن هذه العبارة لا تقتضي نفي دخول الجنة ؛ لأن الرسل المتقدمين كانوا ينذرون قومهم بالعذاب ، ولا يذكرون دخول الجنة ؛ لأن التخويف بالعذاب أشد تأثيراً من الوعد بالجنة ، كما أخبر عن نوح في قوله : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود : 26) ، وعن هود {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء : 135) ، وعن شعيب {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} (هود : 84) ، وكذلك غيرهم ، وأيضاً : إن ذلك يستلزم دخول الجنة ؛ لأن من غفر ذنوبه وأجير من العذاب ، وهو مكلف بشرائع الرسل ، فإنه يدخل الجنة.
(8/381)
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقد سبق دليل القول الثالث والرابع والعلم عند الله الملك المتعال وإليه المرجع والمآل.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـاـاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : الهمزة للإنكار ، والواو : للعطف على مقدر يستدعيه المقام والرؤية قلبية ؛ أي : ألم يتفكروا ، ولم يعلموا علماً جازماً ، في حكم المشاهدة والعيان.
{أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ابتداء من غير مثال {وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} ؛ أي : لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً ، أو لم يعجز عنه يقال : عييت بالأمر
492
إذا لم تعرف وجهه وأعييت تعبت.
وفي "القاموس" : أعيى الماشي كل.
وفي "تاج المصادر" : العي بكسر العين : (اندر ماندن).
والماضي : عيى وعي.
والنعت : عيي على فعيل وعى على فعل بالفتح ، والإعياء : (درماندن ومانده شده ودررفتن ومانده كردن).
وأعيى عليه الأمر.
انتهى.
وحكي في سبب تعلم الكسائي النحو على كبره أنه مشى يوماً حتى أعيى ، ثم جلس إلى قوم ليستريح ، فقال : قد عييت بالتشديد بغير همزة ، فقالوا له : لا تجالسنا وأنت تلحن.
قال الكسائي : وكيف قالوا إن أردت من التعب؟ فقل : أعييت وإن أردت من انقطاع الحيلة والتعجيز في الأمر ، فقل : عييت مخففاً ، فقام من فوره وسأل عمن يعلم النحو ، فأرشدوه إلى معاذ ، فلزمه حتى نفد ما عنده ، ثم خرج إلى البصرة إلى الخليل بن أحمد.
يقول الفقير : الظاهر أن المراد بالعي هنا اللغوب الواقع في قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38) والقرآن يفسر بعضه بعضاً فالإعياء مرفوع محال ؛ لأنه لو كان لاقتضى ضعفاً واقتضى فساداً {بِقَـادِرٍ} خبر أن ووجه دخول الباء اشتمال النفي الوارد في صدر الآية على أن وما في حيزها ؛ كأنه قيل : أوليس الله بقادر {عَلَى أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى} ولذا أجيب عنه بقوله : {بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} تقريراً للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود يعني أن الله تعالى إذا كان قادراً على كل شيء كان قادراً على إحياء الموتى ؛ لأنه من جملة الأشياء وقدرته تعالى لا تختص بمقدور دون مقدور فبلى يختص بالنفي ويفيد إبطاله على ما هو المشهور ، وإن حكى الرضي عن بعضهم أنه جاز استعمالها في الإيجاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ؛ أي : يعذبون بها ، كما سبق في هذه السورة ، ويوم ظرف عامله قول مضمر ؛ أي : يقال لهم يومئذٍ {أَلَيْسَ هَـاذَا} العذاب الذي ترونه {بِالْحَقِّ} ؛ أي : حقاً وكنتم تكذبون به ، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : وما نحن بمعذبين {قَالُوا بَلَى} ؛ أي : إنه الحق {وَرَبُّنَا} وهو الله تعالى أكدوا جوابهم بالقسم ؛ لأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيته ، كما في الدنيا وأنى لهم ذلك.
{قَالَ} الله تعالى ، أو خازن النار {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} ؛ أي : أحسوا به إحساس الذائق المطعوم {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} به في الدنيا.
والباء للسببية ، ومعنى الأمر الإهانة بهم والتوبيخ لهم على ما كان في الدنيا من الكفر والإنكار لوعد الله ووعيده.
قال ابن الشيخ : الظاهر أن صيغة الأمر لا مدخل لها في التوبيخ ، وإنما هو مستفاد من قوله : بما كنتم تكفرون.
وفي الآية إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا معذبين بعذاب البعد والقطيعة ، وإفساد الاستعداد الأصلي لقبول الكمالات وبلوغ القربات ، ولكن ما كانوا يذوقون مرارة ذلك العذاب وحرقته لغلبة الحواس الظاهرة ، وكلالة الحواس الباطنة ، كما أن النائم لا يحس قرص النملة وعض البرغوث ، وهنا ورد : "الناس نيام فإذا ماتوا تيقظوا".
واعلم كما أن الموت حق واقع لا يستريبه أحد ، فكذا الحياة بعد الموت ولا عبرة بإنكار المنكر ، فإنه من الجهل وإلا فقد ضرب الله له مثلاً بالتيقظ بعد النوم ، ولذا ورد النوم أخو الموت.
ثم إن الحياة على أنواع : حياة في الأرحام ينفخ الله الروح ، وحياة في القبور بنفخ إسرافيل في الصور وحياة للقلوب بالفيض الروحاني وحياة للأرواح بالسر الرباني ولن يتخلص أحد من العذاب الروحاني والجسماني إلا بدخول جنة الوصل الإلهي الرباني ، وهو إنما يحصل
493
(8/382)
بمقاساة الرياضات والمجاهدات ، فإن الجنة حفت بالمكاره : (نقلست كه يكروز حسن بصري ومالك بن دينار وشقيق بلخي نزد رابعه عدوية شدند واو رنجور بود حسن كفت ليس بصادق في دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه شقيق كفت) ليس بصادق في دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه مالك (كفت) ليس بصادق في دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه (رابعة را كفتند تو بكو كفت) ليس بصادق في دعواه من لم ينس الضرب في مشاهدة مولاه (وابن عجب نبودكه زنان مصر در شاهده مخلوق درد زخم نيافتند اكركس در شاهده خالق بدين ضعت بود عجب نبود) فعلم من هذا المرء إذا كان صادقاً في دعوى طلب الحق ، فإنه لا يتأذى من شيء مما يجري على رأسه ، ولا يريد من الله إلا ما يريد الله منه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
عاشقانرا كردر آتش مى نشاند قهر دوست
تنك جشمم كرنظر در جشمة كوثر كنم
وإن الصادق لا يخلو من تعذيب النفس في الدنيا بنار المجاهدة ، ثم من إحراقها بالكلية بالنار الكبرى التي هي العشق والمحبة ، فإذا لم يبق في الوجود ما يتعلق بالإحراق كيف يعرض على النار يوم القيامة لتخليص الجوهر ونفسه مؤمنة مطمئنة ، ومن الله العون والإمداد.
{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـاـاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ * ذَالِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا} .
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} : الفاء : جواب شرط محذوف.
والعزم في اللغة : الجد والقصد مع القطع ؛ أي : إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر ، فاصبر على ما يصيبك من جهتهم كما صبر أولو الثبات والحرم من الرسل ، فإنك من جملتهم بل من عليهم ، ومن للتبيين ، فيكون الرسل كلهم أولي عزم وجد في أمر الله.
قال في "التكملة".
وهذا لا يصح لإبطال معنى تخصيص الآية ، وقيل : من للتبعيض على أنهم صنفان أولو عزم وغير أولي عزم.
والمراد بأولي العزم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ومشاهيرهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، وقد نظمهم بعضهم بقوله : ()
أولو العزم نوح والخليل بن آزر
وموسى وعيسى والحبيب محمد
قال في "الأسئلة المقحمة" : هذا القول هو الصحيح ، وقيل : هم الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذية قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النار ، وعلى ذبح ولده ، والذبيح على الذبح ويعقوب على فقد الولد ، ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وموسى ، قال قومه : إنا لمدركون ، قال : كلا ، إن معي ربي سيهدين ، ويونس على بطن الحوت وداود بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها صلوات الله عليهم أجمعين.
وقال قوم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت منه ألا يرى أنه قيل للنبي عليه السلام ، {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) ولا آدم لقوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال في "حواشي ابن الشيخ" : ليس بصحيح ؛ لأن معنى قوله : ولم نجد له عزماً قصداً إلى الخلاف ، ويونس لم يكن خروجه بترك الصبر لكن توقياً عن نزول العذاب ، انتهى.
وفيه ما فيه كما لا يخفى على الفقيه.
قال بعضهم : أولو العزم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم فأوحى الله إلى الأنبياء : إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل ، فشق ذلك
494
على الأنبياء ، فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم أنجيتكم ، وأنزلت العذاب ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل ، فسلط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمنشار ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من أحرق بالنار.
وقيل غير ذلك ، والله تعالى أعلم وأحكم.
(8/383)
يقول الفقير : لا شك أن الله تعالى فضل أهل الوحي بعضهم على بعض ببعض الخصائص ، وإن كانوا متساوين في أصل الوحي والنبوة ، كما قال تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة : 253) ، وكذا باين بينهم في مراتب الابتلاء ، وإن كان كل منهم لا يخلو عن الابتلاء من حيث أن أمر الدعوة مبني عليه ، فأولو العزم منهم فوق غيرهم من الرسل ، وكذا الرسل فوق الأنبياء ، وأما نبينا عليه السلام ، فأعلى أولي العزم دل عليه قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) ، فإن كونه على خلق عظيم يستدعي شدة البلاء.
وقد قال : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" ، ففرق بين عزم وعزم.
وقوله تعالى : {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) مع قوله : {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} (الأنبياء : 87) دل على أن يونس عليه السلام قد صدر منه الضجرة.
وقول يوسف عليه السلام فاسأله : {مَا بَالُ النِّسْوَةِ} (يوسف : 50)؟ دل على أنه صدر منه التزكية ، وقول لوط عليه السلام : {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود : 80) على أنه ذهل عن أن الله تعالى كان ركنه الشديد ، وقس على هذا المذكور قول عزيز {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (البقرة : 259) ، ونحو ذلك ، فظهر أن الأنبياء عليهم السلام متفاوتون في درجات المعارف ومراتب الابتلاء ، وطبقات العزم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال بعضهم : أولو العزم من لا يكون في عزمه فسخ ، ولا في طلبه نسخ كما قيل لبعضهم بم وجدت ما وجدت.
قال : العزيمة كعزيمة الرجال ؛ أي : الرجال البالغين مرتبة الكمال.
{وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ؛ أي : لكفار مكة بالعذاب ، فإنه على شرف النزول بهم وأمهلهم ليستعدوا بالتمتعات الحيوانية للعذاب العظيم ، فإني أمهلهم رويداً ، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال.
؛ أي : لم يمكثوا في الدنيا والتمتع بنعيمها {إِلا سَاعَةً} يسيرة وزماناً قليلاً {مِّن نَّهَار} لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته ، يعني : أن هول ما ينزل بهم ينسيهم مدة اللبث ، وأيضاً : إن ما مضى وإن كان دهراً طويلاً لكنه يظن زماناً قليلاً ، بل يكون كأن لم يكن فغاية التنعم الجسماني هو العذاب الروحاني ، كما في البرزخ ، والعذاب الجسماني أيضاً ، كما في يوم القيامة.
قافلة عمر جون نمايان نيست
دواسبه رفتن ليل ونهار را درياب
{بَلَاغٌ} خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة ، أو تبليغ من الرسول ، فالعبد يضرب بالعصا.
والحر يكفيه الإشارة {فَهَلْ يُهْلَكُ} ؛ أي : ما يهلك.
وبالفارسية : (بس آيا هلاك كرده خواهند شد بعذاب واقع كه نازل شود يعني نخوا هند شد).
{إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ؛ أي : الخارجون عن الاتعاظ به أو عن الطاعة.
وقال بعض أهل التأويل ؛ أي : الخارجون من عزم طلبه إلى طلب ما سواه.
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بيّن.
وفي "الفردوس" قال ابن عباس رضي الله عنهما ، قال النبي عليه السلام : إذا عسر على المرأة ولادتها أخذ إناء نظيف وكتب عليه ؛ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} (الأحقاف : 35) إلخ.
495
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} (النازعات : 46) إلخ.
{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَابِ} () إلخ.
ثم يغسل وتسقى منه المرأة وينضح على بطنها وفرجها كما في "بحر العلوم".
وقال في "عين المعاني" قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا عسر على المرأة الولادة ، فليكتب هاتان الآيتان في صحيفة ، ثم تسقى ، وهي هذه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله ، الحكيم ، الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، سبحان الله رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَاغٌا فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف : 35) ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَااهَا} (النازعات : 46).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفي شرعة الإسلام المرأة التي عسرت عليها الولادة يكتب لها في جام ، وهو طبق أبيض من زجاج أو فضة ، ويغسل ويسقى ماؤه : باسم الله الذي لا إله إلا هو العليم الحكيم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمدرب العالمين ؛ كأنهم يوم يرون إلخ.
ومر عيسى ابن مريم ببقرة اعترض ولدها في بطنها ، فقالت : يا كلمة الله ادعو الله أن يخلصني ، فقال عيسى : يا خالق النفس من النفس خلصها ، فألقت ما في بطنها ، فإذا عسرت على المرأة الولادة ، فليكتب لها هذا ، وكذا إذا عسرت على الفرس والبقر وغيرهما.
قال في "آكام المرجان" : يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله ، وذكره بالمداد المباح ، ويغسل ويسقى كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
انتهى.
واحترز بكتاب الله وذكره عما لا يعرف معناه من لغات الملل المختلفة ، فإنه يحتمل أن يكون فيه كفر واحترز بالمداد المباح عن الدم ونحوه من النجاسات ، فإنه حرام بل كفر ، وكذا تقليب حروف القرآن وتعكيسها.
نعوذ بالله ثم من لطائف القرآن الجليل ختم السورة الشريفة بالعذاب القاطع لدابر الكافرين ، والحمدحمداً كثيراً إلى يوم الدين وإلى أبد الآبدين.
تمت سورة الأحقاف بعون ذي الألطاف في عاشر شوال المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث عشرة بعد المائة ويليها سورة محمد صلى الله عليه وسلّم وتسمى سورة القتال أيضاً.
مدنية ، وقيل : مكية ، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفي شرعة الإسلام المرأة التي عسرت عليها الولادة يكتب لها في جام ، وهو طبق أبيض من زجاج أو فضة ، ويغسل ويسقى ماؤه : باسم الله الذي لا إله إلا هو العليم الحكيم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمدرب العالمين ؛ كأنهم يوم يرون إلخ.
ومر عيسى ابن مريم ببقرة اعترض ولدها في بطنها ، فقالت : يا كلمة الله ادعو الله أن يخلصني ، فقال عيسى : يا خالق النفس من النفس خلصها ، فألقت ما في بطنها ، فإذا عسرت على المرأة الولادة ، فليكتب لها هذا ، وكذا إذا عسرت على الفرس والبقر وغيرهما.
قال في "آكام المرجان" : يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله ، وذكره بالمداد المباح ، ويغسل ويسقى كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
انتهى.
واحترز بكتاب الله وذكره عما لا يعرف معناه من لغات الملل المختلفة ، فإنه يحتمل أن يكون فيه كفر واحترز بالمداد المباح عن الدم ونحوه من النجاسات ، فإنه حرام بل كفر ، وكذا تقليب حروف القرآن وتعكيسها.
نعوذ بالله ثم من لطائف القرآن الجليل ختم السورة الشريفة بالعذاب القاطع لدابر الكافرين ، والحمدحمداً كثيراً إلى يوم الدين وإلى أبد الآبدين.
تمت سورة الأحقاف بعون ذي الألطاف في عاشر شوال المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث عشرة بعد المائة ويليها سورة محمد صلى الله عليه وسلّم وتسمى سورة القتال أيضاً.
مدنية ، وقيل : مكية ، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461(8/384)
سورة محمد
وآياتها ثمانية وثلاثون
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه من صد صدوداً ، فيكون التأكيد والتفسير لما قبله أو منعوا عن ذلك من صده كالمطعمين يوم بدر ، فإن مترفيهم أطعموا الجنود يستظهرون على عداوة النبي عليه السلام والمؤمنين ، فيكون مخصصاً لعموم قوله : الذين كفروا.
والظاهر أنه عام في كل من كفر وصد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 495
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} ؛ أي : أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها أصلاً ، لا بمعنى أنه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن بذلك ، بل بمعنى أنه حكم ببطلانها وضياعها.
قل ما كانوا يعملونه من أعمال البر ، كصلة الأرحام ، وقري الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم ليس لها أثر من أصلها لعدم مقارنتها للإيمان وأبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله عليه السلام والصد عن سبيله بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ، وهو الأوفق بقوله : {فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد : 8) ، وقوله تعالى : {فَإِذَا لَقِيتُمُ} ، إلخ.
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعلم كل من آمن وعمل صالحاً من المهاجرين وأهل الكتاب وغيرهم ، وكذا يعم الإيمان بجميع الكتب الإلهية.
{وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أخص
496
بالذكر الإيمان بذلك مع اندارجه فيا قبله تنويهاً بشأن المنزل عليه ، كما في عطف جبرائيل على الملائكة وتنبيهاً على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به ، وأنه الأصل في الكل ، ولذلك أكد بقوله تعالى : {وَهُوَ} ؛ أي : ما نزل على محمد {الْحَقِّ} حال كونه {مِّن رَّبِّهِمُ} بطريق حصر الحقية فيه والحق مقابل الباطل {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّاَاتِهِمْ} ؛ أي : سترها بالإيمان والعمل الصالح {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} ؛ أي : حالهم في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الراغب في "المفردات" البال التي يكترث لها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا ؛ أي : ما اكترثت ، ويعبر عن البال بالحال الذي ينطوي عليه الإنسان ، فيقال : ما خطر كذا ببالي.
وفي "القاموس" : البال : الحال.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّآ أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ} .(8/385)
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما مر من إضلال الأعمال وتكفير السيئات وإصلاح البال ، وهو مبتدأ خبره قوله : {بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : كائن بسبب أن الكافرين {اتَّبَعُوا الْبَـاطِلَ} ؛ أي : الشيطان ففعلوا ما فعلوا من لكفر والصد ، فبيان سببية اتباعه للإضلال المذكور متضمن لبيان مسببيتهما لكونه أصلاً مستتبعاً لهما قطعاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : وبسبب أن المؤمنين {اتَّبَعُوا الْحَقَّ} الذي لا محيد عنه كائناً {مِّن رَّبِّهِمُ} ففعلوا ما فعلوا من الإيمان به وبكتابه ، ومن الأعمال الصالحة ، فبيان سببية اتباعه لما ذكر من التكفير والإصلاح بعد الإشعار بسببية الإيمان والعمل الصالح له متضمن لبيان مسببيتهما له لكونه مبدىء ومنشاىء لهما حتماً ، فلا تدافع بين الإشعار والتصريح في شيء من الموضعين.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الضرب البديع.
{يَضْرِبُ اللَّهُ} ؛ أي : يبين.
قال الراغب : قيل ضرب الدراهم اعتباراً بضربها بالمطرقة ، ومنه ضرب المثل ، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
{لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} ؛ أي : أحوال الفريقين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهي اتباع الأولين الباطل وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحق ، وفوزهم وفلاحهم.
وفي الخبر : "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه".
والحق يقال على أوجه :
الأول : يقال : لموجد الشيء بحسب ما تقضيه الحكمة.
ولذا قيل : في الله تعالى هو الحق.
والثاني : يقال : للموجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولذلك قيل : فعل الله تعالى كله حق نحو قولنا الموت حق ، والبعث حق ، ويدخل فيه جميع الموجودات ، فإنه لا عبث في فعل الحكيم تعالى وبطلان بعض الأشياء إضافي لا حقيقي حتى الشيطان ونحوه.
والثالث : يقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه كقولنا اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق.
والرابع : يقال للفعل.
والقول الواقع بحسب ما يجب وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب كقولنا : فعلك حق وقولك حق.
والباطل نقيض الحق في هذه المعاني ، فالإيمان حق ؛ لأنه مما أمر الله به ، والكفر باطل ، لأنه مما نهى الله عنه وقس عليه الأعمال الصالحة والمعاصي.
والإيمان عبارة عن قطع الإشراك بالله مطلقاً ، والعمل الصالح ما كانتعالى خالصاً ، وكان الكبار يبذلون مقدورهم فيه ؛ لأن ما كان لرضى الله تعالى مفتاح السعادة في الدارين.
قال موسى عليه السلام : يا رب فأي عبادك أعجز ، قال : الذي يطلب الجنة بلا عمل والرزق بلا دعاء ، قال : وأي عبادك أبخل ، قال : الذي يسأله سائل ، وهو يقدر على إطعامه ، ولم يطعمه والذي يبخل بالسلام على أخيه :
497
كويند باز كشت بخيلان بود بخاك
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : وبسبب أن المؤمنين {اتَّبَعُوا الْحَقَّ} الذي لا محيد عنه كائناً {مِّن رَّبِّهِمُ} ففعلوا ما فعلوا من الإيمان به وبكتابه ، ومن الأعمال الصالحة ، فبيان سببية اتباعه لما ذكر من التكفير والإصلاح بعد الإشعار بسببية الإيمان والعمل الصالح له متضمن لبيان مسببيتهما له لكونه مبدىء ومنشاىء لهما حتماً ، فلا تدافع بين الإشعار والتصريح في شيء من الموضعين.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الضرب البديع.
{يَضْرِبُ اللَّهُ} ؛ أي : يبين.
قال الراغب : قيل ضرب الدراهم اعتباراً بضربها بالمطرقة ، ومنه ضرب المثل ، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
{لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} ؛ أي : أحوال الفريقين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهي اتباع الأولين الباطل وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحق ، وفوزهم وفلاحهم.
وفي الخبر : "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه".
والحق يقال على أوجه :
الأول : يقال : لموجد الشيء بحسب ما تقضيه الحكمة.
ولذا قيل : في الله تعالى هو الحق.
والثاني : يقال : للموجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولذلك قيل : فعل الله تعالى كله حق نحو قولنا الموت حق ، والبعث حق ، ويدخل فيه جميع الموجودات ، فإنه لا عبث في فعل الحكيم تعالى وبطلان بعض الأشياء إضافي لا حقيقي حتى الشيطان ونحوه.
والثالث : يقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه كقولنا اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق.
والرابع : يقال للفعل.
والقول الواقع بحسب ما يجب وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب كقولنا : فعلك حق وقولك حق.
والباطل نقيض الحق في هذه المعاني ، فالإيمان حق ؛ لأنه مما أمر الله به ، والكفر باطل ، لأنه مما نهى الله عنه وقس عليه الأعمال الصالحة والمعاصي.
والإيمان عبارة عن قطع الإشراك بالله مطلقاً ، والعمل الصالح ما كانتعالى خالصاً ، وكان الكبار يبذلون مقدورهم فيه ؛ لأن ما كان لرضى الله تعالى مفتاح السعادة في الدارين.
(8/386)
قال موسى عليه السلام : يا رب فأي عبادك أعجز ، قال : الذي يطلب الجنة بلا عمل والرزق بلا دعاء ، قال : وأي عبادك أبخل ، قال : الذي يسأله سائل ، وهو يقدر على إطعامه ، ولم يطعمه والذي يبخل بالسلام على أخيه :
497
كويند باز كشت بخيلان بود بخاك
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
حاشا كه هيج خاك بذيرد بخيل را
يقول الفقير : مجرد الإنفاق والإطعام لا يعتبر إلا إذا كان مقارناً بالخلوص ، وطلب الرضا ألا ترى أن قريشاً أطعموا الكفار في وقعة بدر ، فعاد إنفاقهم خيبة وخساراً ؛ لأنه كان في طريق الشيطان لا في طريق الله تعالى ، فأحبط أعمالهم ، وكذا مجرد الإمساك لا يعد بخلاً إلا إذا كان ذلك إمساكاً عن المستحق ألا ترى كيف قال الله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} (النساء : 5) ، فحذرهم في غير محل الإسراف ، ولا سرف في الخير ، ثم إن أعمال المبتدعة باطلة أيضاً ؛ لأنها على زيغ وانحراف عن سننها ، وإن كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، فالكفر والبدعة والمعاصي أقبح الأشياء ، كما أن الإيمان والسنة والطاعة أحسن الأشياء.
(بشر حافى قدس سره كفت رسول الله را عليه السلام بخواب ديدم مرا كفت اى بشر هيج دانى كه جرا خداى تعالى ترا بر كزيد ازميان اقران وبلند كردانيد كفتم نه يا رسول الله كفت بسبب آنكه متابعت سنت من كردى وصالحا نرا حرمت نكاه داشتى وبرادرانر نصيحت كردى وأصحاب وأهل بيت مرا دوست داشتى حق تعالى ترابدين سبب بمقام ابرار رسانيد).
ثم إن طريق اتباع الحق إنما يتيسر باتباع أهل الحق ، فإنهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلّم في التحقق بالحق والإرشاد إليه ، فمن اتبع أهل الحق اهتدى ، ومن اتبع أهل الباطل ضل ، فالأول أهل جمال الله تعالى والملك خادمه.
والثاني : أهل جلال الله تعالى ، والشيطان سادنه ، فعلى العاقل الرجوع إلى الحق وصحبة أهله ، كما قال تعالى : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يخدمون الحق بالحق ، ويعصمنا من البطالة والبطلان والزيغ المطلق إنه هو الحق الباقي وإليه التلاقي.
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : اللقاء : (ديدن وكار زار كردن ورسيدن).
قال الراغب : اللقاء : يقال في الإدراك بالحس بالبصر والبصيرة ؛ أي : فإذا كان الأمر كما ذكر من ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم ، فإذا لقيتموهم في المحاربة يا معشر المسلمين.
{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافاً ءلى المفعول والألف واللام بدل من الإضافة ؛ أي : فاضربوا رقابهم بالسيف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والمراد : فاقتلوهم ، وإنما عبر عن القتل بضرب الرقاب تصويراً له بأشنع صورة ، وهو جز الرقبة وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه ، وإرشاداً للغزاة إلى أيسر ما يكون منه.
وفي الحديث : "أنا لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق".
{حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} .
قال في "الكشاف" : الإثخان كثرة القتل ، والمبالغة فيه من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة.
وفي "المفردات" يقال : ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ ، ولم يستمر في ذهابه ، ومنه استعير قولهم : أثخنته ضرباًواستخفافاً.
والمعنى حتى إذا أكثرتم قتلهم وأغلظتموه على حذف المضاف أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض.
{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} : الوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به ويشد من القيد.
قال في "الوسيط" : الوثاق اسم من الإيثاق ، يقال : أوثقه إيثاقاً إذا شد أسره كيلا يفلت.
فالمعنى : فأسروهم واحفظوهم.
وبالفارسية : (بس استوار كنيد بندرا يعنى
498
بكيريد ايشانرا باسيرى وبند كنيد محكم تابكر يزيد).
وقال أبو الليث : يعني إذا قهرتموهم وأسرتموهم فاستوثقوا أيديهم من خلفهم كيلا يفلتوا ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل.
{فَإِمَّا مَنَّا} ؛ أي : تمنون مناً ، وهو أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئاً {بَعْدَ} ؛ أي : بعد شد الوثاق.
{وَإِمَّا فِدَآءً} ؛ أي : تفدون فداء هو أن يترك الأمير الأسير الكافر ، ويأخذ مالاً أو أسيراً مسلماً في مقابلته.
يقال : فداه يفديه فدى وفداء وافتداه وفاداه : أعطى شيئاً ، فأنقذه.
والفداء : ذلك المعطى ، ويقصر كما في "القاموس".
(8/387)
وقال الراغب : الفدى والفداء حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه ، كما يقال : فديته بمالي وفديته بنفسي ، وفاديته بكذا.
انتهى.
قال الشيخ الرضي : المطلوب من شد الوثاق إما قتل أو استرقاق ، أو من أو فداء ، فالإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخصال الأربع ، وهذا التخيير ثابت عند الشافعي ، ومنسوخ عندنا بقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة : 5) قالوا : نزل ذلك يوم بدر ، ثم نسخ ، والحكم إما القتل أو الاسترقاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال في "الدرر" : وحرم منهم فداؤهم وردهم إلى دارهم ؛ لأن رد الأسير إلى دار الحرب تقوية لهم على المسلمين في الحرب ، فيكره كما يكره بيع السلاح لهم.
وفي المن خلاف الشافعي ، وأما الفداء ، فقبل الفراغ من الحرب جاز بالمال لا بالأسير المسلم ، وبعده لا يجوز بالمال عند علمائنا ، وبالنفس عند أبي حنيفة ، ويجوز عند محمد وعن أبي يوسف روايتان ، وعن مجاهد : ليس اليوم من ولا فداء إنما الإسلام أو ضرب العنق.
وعن الصديق رضي الله عنه : لا أفادي وإن طلبوا بمدين من ذهب ، وكتب إليه في أسير التمسوا منه الفداء ، فقال : اقتلوه ؛ لأن أقتل رجلاً من المشركين أحب إليّ من كذا ، وقد قتل عليه السلام يوم فتح مكة ابن الأخطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة بعدما وقع في منعة المسلمين ، فهو كالأسير.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أوزار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع ، يعني الخيل أسند وضعها إليها ، وهو لأهلها إسناداً مجازياً وأصل الوزر بالكسر : الثقل وما يحمله الإنسان ، فمسى الأسلحة أوزاراً ؛ لأنه تحمل ، فيكون جعل مثل الكراع من الأوزار من التغليب وحتى غاية عند الشافعي لأحد الأمور الأربعة ، أو للمجموع.
والمعنى : أنهم لا يتركون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون مع المشركين حرب بأن لا يبقى لهم شوكة ، وأما عند أبي حنيفة ، فإنه حمل الحرب على حرب بدر ، فهي غاية للمن والفداء.
والمعنى : يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، وتنقضي وإن حملت على الجنس ، فهي غاية للضرب والشد.
والمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى يضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة.
وقال الكاشفي : (تابنهد اهل حرب سلاح حرب را يعنى دين اسلام بهمه جار سد وحكم قتال نماند وآن نزديك نزول عيسى عليه السلام خواهد بود جه در خبر آمده كه آخر قتال امت من بادجال است).
فما دام الكفر فالحرب قائمة أبداً {ذَالِكَ} ، أي : الأمر ذلك أو افعلوا ذلك {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ} لو للمضي وإن دخل على المستقبل {انتَصَرَ مِنْهُمْ} : لانتقم منهم بغير قتال بأن يكون ببعض أسباب الهلكة والاستئصال من خسف أو رجفة أو حاصب أو غرق أو موت ذريع ونحو ذلك.
ويجوز أن يكون الانتقام بالملائكة بصيحتهم أو بصرعهم أو بقتالهم من حيث لا يراهم الكفار ، كما وقع
499
في بدر {وَلَـاكِنِ} لم يشأ ذلك : (تابيازمايد).
{بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} فأمركم بالقتال وبلاكم بالكافرين لتجاهدوهم فتستوجبوا الثواب العظيم بموجب الوعد ، والكافرين بكم ليعاجلهم على أيديكم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الآية إشارة إلى كافر النفس حيثما وجدتموه ، وهو يمد رأسه إلى مشرب من مشارب الدنيا ونعيمها ، فاضربوا عنق ذلك الرأس وادفعوه عن ذلك المشرب حتى إذا غلبتموهم ؛ أي : النفوس وسخرتموهم ، فشدوهم بوثاق أركان الشريعة وآداب الطريقة ، فإنه بهذين الجناحين يطير صاحب الهمم العلية إلى عالم الحقيقة ، فإما مناً على النفوس بعد الوصول بترك المجاهدة ، وإما فداء بكثرة العبادة عوضاً عن ترك المجاهدة بعد الظفر بالنفوس ، وأما قتل النفوس بسيف المخالفة ، فإنه في مذهب أرباب الطلب يجوز كل ذلك بحسب نظر كل مجتهد ، فإن كل مجتهد منهم مصيب.
وذلك إلى أن يجد الطالب المطلوب ، ويصل العاشق إلى المعشوق ، بأن جرى على النفس بعد الظفر بها مسامحة في إغفاء ساعة وإفطار يوم ترويحاً للنفس من الكد وإجماعاً للحواس قوة لها على الباطل ، فيما يستقبل من الأمر ، فذلك على ما يحصل به استصواب من شيخ المريد ، أو فتوى ، أو فراسة صاحب الوقت ، ولو شاء الله لقهر النفوس بتجلي صفات الجلال بغير سعي المجاهد في القتال ، ولكن إلخ.
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : استشهدوا يوم بدر ويوم أحد وسائر الحروب.
{فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ} ؛ أي : فلن يضيعها بل يثيب عليها.
(8/388)
{قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِا ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَه إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآاـاِهِمْ غَـافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَـافِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} .
{سَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا إلى أرشد الأمور ، وفي الآخرة إلى الثواب.
وعن الحسن بن زياد يهديهم إلى طريق الثواب في جواب منكر ونكير ، وفيه أن أهل الشهادة لا يسألون {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ؛ أي : شأنهم وحالهم بالعصمة والتوفيق ، والظاهر أن السين للتأكيد ، والمعنى : يهديهم الله البتة إلى مقاصدهم الأخروية ، ويصلح شأنهم بإرضاء خصمائهم لكرامتهم على الله بالجهاد والشهادة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} : الجملة مستأنفة ؛ أي : عرفها لهم في الدنيا بذكر أوصافها بحيث اشتاقوا إليها ، أو بينها لهم بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه ، كأنه كان ساكنه منذ خلق.
وفي الحديث : "لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا".
وفي "المفردات" : عرفه جعل له عرفاً ؛ أي : رائحة طيبة ، فالمعنى زينها لهم وطيبها.
وقال بعضهم : حددها لهم وأفرزها من عرف الدار ، فجنة كل منهم محددة مفرزة ، ومن فضائل الشهداء أنه ليس أحد يدخل الجنة ، ويحب أن يخرج منها ، ولو أعطي ما في الدنيا جميعاً إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرده الله إلى الدنيا مراراً ، فيقتل في سبيل الله ، كما قتل أولاً ، لما يرى من عظيم كرامة الشهداء على الله تعالى ، ومن فضائلهم أن الشهادة في سبيل الله تكفر ما على العبد من الذنوب التي بينه وبين الله تعالى.
وفي الحديث : "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين".
والمراد بالدين : كل ما كان من حقوق الآدميين كالغصب وأخذ المال بالباطل ، وقتل العمد ، والجراحة وغير ذلك من التبعات ، وكذلك الغيبة والنميمة والسخرية ، وما أشبه ذلك ، فإن هذه الحقوق كلها لا بد من استيفائها لمستحقها.
وقال القرطبي : الدين الذي يحبس صاحبه عن الجنة هو الذي قد ترك له وفاء ، ولم يوص به أو قدر على الأداء ، فلم يؤده ، أو أدانه على سفه أو سرف ومات ، ولم يوفه وأما من أدان في حق واجب كفاقة وعسر ، ومات ولم يترك وفاء ، فإن الله
500
لا يحبسه عن الجنة شهيداً كان أو غيره ويقضي عنه ويرضي خصمه ، كما قال عليه السلام : "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
وفي الآية حث على الجهادين الأصغر والأكبر.
ومن قتله العدو الظاهر صار شهيداً ، ومن قتله العدو الباطن ، وهو النفس صار طريداً كما قيل :
وآنكه كشت كافران باشد شهيد
كشته نفس است نزد حق طريد
نسأل الله العون على محاربة النفس الأمارة والشيطان.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ} ؛ أي : دينه ورسوله {يَنصُرْكُمُ} على أعدائكم ويفتح لكم.
{وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} في مواطن الحرب ومواقفها أو على حجة الإسلام.
واعلم أن النصرة على وجهين :
الأول : نصرة العبد ، وذلك بإيضاح دلائل الدين وإزالة شبهة القاصرين وشرح أحكامه ، وفرائضه وسننه وحلاله وحرامه ، والعمل بها ، ثم بالغزو والجهاد لإعلاء كلمة الله وقمع أعداء الدين ، إما حقيقة كمباشرة المحاربة بنفسه ، وإما حكماً بتكثير سواد المجاهدين بالوقوف تحت لوائهم ، أو بالدعاء لنصرة المسلمين وخذلان الكافرين ، بل يقول : اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل المسلمين ، ثم بالجهاد الأكبر بأن يكون عوناًعلى النفس حتى يصرعها ويقتلها ، فلا يبقى من هواها أثر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والثاني : نصرة الله تعالى ، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار الآيات والمعجزات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم ، وحضرة الكريم والأمر بالجهاد الأصغر والأكبر والتوفيق للسعي فيهما طلباً لرضاه لا تبعاً لهواه وبإظهاره على أعداء الدين وقهرهم في إعلاء كلمة الله العليا ، وإيتاء رشده في إفناء وجوده الفاني في الوجود الباقي بتجلي صفات جماله وجلاله.
قال بعض الكبار : زلل الأقدام بثلاثة أشياء : بشرك الشرك لمواهب الله ، والخوف من غير الله ، والأمل في غيره ، وثبات الأقدام بثلاثة أشياء : بدوام رؤية المفضل والشكر على النعم ، ورؤية التقصير في جميع الأحوال ، والخوف منه والسكون إلى ضمان الله فيما ضمن من غير انزعاج ، ولا احتياج ، فعلى العاقل نصرة الدين على مقتضى العهد المتين.
قال الحافظ :
بيمان شكن هرآينه كردد شكسته حال
إن العهود لدى أهل النهى ذمم
(8/389)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُه فَلا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيه كَفَى بِه شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِه وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل عَلَى مِثْلِه فَـاَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا} .
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ} : خوارى ورسوايى وهلاك ونا ميدى مرايشان راست.
قال في "كشف الأسرار" : أتعسهم الله فتعسوا تعساً ، والإتعاس هلاك (كردن وبرورى افكند).
وفي "الإرشاد" : وانتصابه بفعل واجب حذفه سماعاً ؛ أي : فقال : تعساً لهم ، والتعس : الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط ، ورجل تاعس وتعس والفعل كمنع وسمع وتعسه الله وأتعسه.
{وَأَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ} عطف عليه داخل معه في حيز الخبرية للموصول.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يعني : (كم ونابود وباطر كرد الله تعالى عملهاى ايشانرا).
{ذَالِكَ} ؛ أي : ما ذكر من التعس وإضلال الأعمال {بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أنهم {كَرِهُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء.
{فَأَحْبَطَ} الله {أَعْمَـالَهُمْ} لأجل ذلك ؛ أي : أبطلها كرره إشعاراً بأنه يلزم الكفر بالقرآن ، ولا ينفك عنه بحال.
والمراد بالأعمال طواف البيت وعمارة المسجد الحرام وإكرام الضيف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين ومواساة اليتامى والمساكين ونحو ذلك مما هو في صورة البر ، وذلك بالنسبة إلى كفار قريش ، وقس عليهم أعمال سائر
501
الكفرة إلى يوم الدين.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} كفار العرب {فِى الأرْضِ} ؛ أي : أقعدوا في أماكنهم ، ولم يسيروا فيها إلى جانب الشام واليمن والعراق.
{فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المكذبة كعاد وثمود وأهل سبأ ، فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام ؛ كأنه قيل : كيف كان عاقبتهم ، فقيل : استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
يقال : دمره وأهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به.
قال الطيبي : كأن في دمر عليهم تضمين معنى أطبق ، فعدي بعلى ، فإذا أطبق عليهم دماراً لم يخلص مما يختص بهم أحد.
وفي "حواشي سعدي المفتي" : دمر الله عليهم ؛ أي : أوقع التدمير عليهم.
{وَلِلْكَـافِرِينَ} ؛ أي : ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم {أَمْثَـالُهَا} ؛ أي : أمثال عواقبهم ، أو عقوباتهم لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه ، بل مثله وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس السائرة لتلحق نعيم صفاتها الذميمة كرهوا ما أنزل الله من موجبات مخالفات النفس والهوى وموافقات الشرع ، ومتابعة الأنبياء ، فأحبط أعمالهم لشوبها بالشرك والرياء والتصنع والهوى ، أو لم يسلكوا في أرض البشرية ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من القلوب والأرواح لما تابعوا الهوى ، وتلوثوا بحب الدنيا أهلكهم الله في أودية الرياء وبوادي البدعة والضلال.
وللكافرين من النفوس اللئام في طلب المرام أمثالها من الضلال والهلاك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/390)
{ذَالِكَ} إشارة إلى ثبوت أمثال عقوبة الأمم السابقة لهؤلاء.
وقال بعضهم : ذلك المذكور من كون المؤمنين منصورين مظفرين ومن كون الكافرين مقهورين مدمرين.
{بِأَنَّ اللَّهَ} ؛ أي : بسبب أنه تعالى : {مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : ناصر لهم على أعدائهم في الظاهر والباطن بسبب إيمانهم {وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ} ؛ أي : بسبب أنهم {لا مَوْلَى لَهُمْ} ؛ أي : لا ناصر لهم ، فيدفع عنهم العذاب الحال بسبب كفرهم ، فالمراد ولاية النصرة لا ولاية العبودية ، فإن الخلق كلهم عباده تعالى ، كما قال : {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ} () ؛ أي : مالكهم الحق وخالقهم ، أو المعنى لا مولى لهم في اعتقادهم حيث يعبدون الأصنام ، وإن كان مولاهم الحق تعالى في نفس الأمر ، ويقال : أرجى آية في القرآن هذه الآية ؛ لأن الله تعالى ، قال : مولى الذين آمنوا ، ولم يقل مولى الزهاد والعباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد ، والمؤمن ، وإن كان عاصياً ، فهو من جملة الذين آمنوا.
ذكره القشيري قدس سره.
واعلم أن الجند جندان جند الدعاء وجند الوغى ، فكما أن جند الوغى منصورون بسبب أقويائهم في باب الديانة والتقوى ، ولا يكونون محرومين من ألطاف الله تعالى ، كذلك جند الدعاء مستجابون بسبب ضعفائهم في باب الدنيا ، وظاهر الحال ، ولا يكونون مطرودين عن باب الله ، كما قال عليه السلام : "إنكم تنصرون بضعفائكم".
قال الشيخ سعدي : (دعاء ضعيفان أميدوار.
زبازوى مردى به آيد بكار).
ثم اعلم أن الله تعالى هو الموجود الحقيقي ، وما سواه معدوم بالنسبة إلى وجوده الواجب ، فالكفار لا يعبدون إلا المعدوم كالأصنام والطاغوت ، فلذا لا ينصرون ، والمؤمنون يعبدون الموجود الحقيقي ، وهو الله تعالى ، فلذا ينصرهم في الشدائد ، وأيضاً إن الكفار يستندون إلى الحصون والسلاح والمؤمنون يتوكلون على القادر القوي الفتاح ، فالله معينهم على كل
502
حال.
روي : أن النبي عليه السلام كان بعد غزوة تحت شجرة وحيداً ، فحمل عليه مشرك بسيف ، وقال : من يخلصك مني ، فقال النبي عليه السلام : "الله" ، فسقط المشرك والسيف ، فأخذه النبي عليه السلام ، فقال : "من يخلصك مني"؟ فقال : لا أحد ، ثم أسلم".
وروي : أن زيد بن ثابت رضي الله عنه خرج مع رجل من مكة إلى الطائف ، ولم يعلم أنه منافق ، فدخلا خربة وناما ، فأوثق المنافق يد زيد وأراد قتله ، فقال زيد : يا رحمن أعني ، فسمع المنافق قائلاً ، يقول : ويحك لا تقتله ، فخرج المنافق ، ولم ير أحداً ، ثم وثم ، ففي الثالثة قتله فارس ، ثم حل وثاقه.
وقال : أنا جبريل كنت في السماء السابعة حين دعوت الله فقال الله تعالى : أدرك عبدي فالله ولي الذين آمنوا قال الله تعالى في التوراة في حق هذه الأمة لا يحضرون قتالاً إلا وجبريل معهم ، وهو يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة للكفار ، بل ظاهره كل قتال صدر من جميع الأمة ، يعني إذا كانوا على الحق والعدل ، ثم إن المجلس الذي تحضره الملائكة ، وكذا المعركة يقشعر فيه الجلد ، وتذرف فيه العينان ، ويحصل التوجه إلى الحضرة العليا ، فيكون ذلك سبباً لاستجابة الدعاء ، وحصول المقصود من النصرة وغيرها.
نسأل الله المعين أن يجعلنا من المنصورين آمين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةًا وَهَـاذَا كِتَـابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} بيان لحكم ولايته تعالى للمؤمنين وثمرتها الأخروية.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} ؛ أي : ينتفعون في الدنيا بمتاعها أياماً قلائل ويعيشون {وَيَأْكُلُونَ} حريصين غافلين عن عواقبهم {كَمَا تَأْكُلُ الانْعَـامُ} في مسارحها ومعالفها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح والأنعام.
جمع نعم بفتحتين ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
{وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} ؛ أي : منزل ثواء وإقامة ، والجملة إما حال مقدرة من واو يأكلون أو استئناف ، فإن قلت : كيف التقابل بينه وبين قوله : إن الله يدخل ، إلخ.
قلت : الآية والله أعلم من قبيل الاحتباك ذكر الأعمال الصالحة ، ودخول الجنة أولاً دليلاً على حذف الفاسدة ودخول النار ثانياً ، والتمتع والمثوى ثانياً ، دليلاً على حذف التمتع والمأوى أولاً.
(8/391)
قال القشيري : الأنعام تأكل بلا تمييز من أي موضع وجد كذلك الكافر لا تمييز له أمن الحلال وجد أم من الحرام؟ ، وكذلك الأنعام ليس لها وقت ، بل في كل وقت تقتات وتأكل كذلك الكافر أكول ، كما قال عليه السلام : "الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معي واحد" ، والأنعام تأكل على الغفلة فمن كان في حالة أكله ناسياً لربه فأكله كأكل الأنعام.
قال الحدادي : الفرق بين أكل المؤمن والكافر ، أن المؤمن لا يخلو أكله عن ثلاث الورع عند الطلب واستعمال الأدب والأكل للسبب ، والكافر يطلب للنهمة ويأكل للشهوة وعيشه في غفلة.
وقيل : المؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ويتريد الكافر يتمتع ويتمنع.
وقيل : من كانت همته ما يأكل فقيمته ما يخرج منه.
قال الكاشفي : في الآية يعني : (همت ايشان مصرو فست بخوردن وعاقل بايدكه خوردن اوبراى زيستن باشد يعنى بجهت قوام بدن وتقويت قواى نفسانى طعام خورد ونظر اوبرانكه بدن تحمل طاعت داشته باشد وقوتهاى نفسانى در استدلال بقدرت ربانى ممد ومعان بودنه آنكه عمر خود طفيل خوردن شناسد ودر مرعاى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا مانند جهار بايان جز خوردن وخواب مطمح نظرش نباشد ونعم ما قيل.
خوردن براى زيستن وذكر
503
دنست.
تو معتقد كه زيستن از بهر خوردنست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والحاصل ليس للذين كفروا هم إلا بطونهم وفروجهم ، ولا يلتفتون إلى جانب الآخرة فهم قد أضاعوا أيامهم بالكفر والآثام وأكلوا وشربوا في الدنيا كالأنعام ، وأما المؤمنون فقد جاهدوا في الله بالطاعات ، واشتغلوا بالرياضيات والمجاهدات ، فلا جرم أحسن الله إليهم بالجنات العاليات ، ومن هنا يظهر سر قوله عليه السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فلما عرف المؤمن أن الدنيا سجن ونعيمها زائل حبس نفسه على طاعة الله ، فكان عاقبته الجنات والنعيم الباقي ، ولما كان الكافر منكر الآخرة اشتغل في الدنيا باللذات ، فلم يبق له في الآخرة إلا الحبس في الجحيم وأكل الزقوم ، وكان الكبار يقنعون بيسير من الغذاء ، كما حكي أن أويساً القرني رضي الله عنه كان يقتات ويكتسي مما وجد في المزابل ، فرأى يوماً كلباً يهتز ، فقال : كل ما يليك وأنا آكل ما يليني ، فإن دخلت الجنة ، فأنا خير منك ، وإن دخلت النار ، فأنت خير مني.
قال عليه السلام : "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش ، فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهدة في سبيل الله ، وأنه ليس من عمل أحب إلى الله تعالى من جوع وعطش ، كما في "مختصر الإحياء".
وفي المثنوي :
زين خورشها اندك اندك بازبر
زين غذاى خربود نى آن حر
تا غذاى اصل را قابل شوى
لقمهاى نور را آكل شوى
وقال الجامي :
جوع باشد غذاى اهل صفا
محنت وابتلاى اهل هوا
جوع تنوير خانة دل تست
اكل تعمير حانه كل تست
خانة دل كذاشتى بى نور
خانة كل جه ميكنى معمور
وقال الشيخ سعدي :
باندازه خورزادا كر مردمى
جنين برشكم آدمى با خمى
درون جاى قوتست وذكر ونفس
توبندارى از بهر نانست وبس
ندارند تن بروران آكهى
كه بر معده باشد زحكمت تهى
ومن أوصاف المريدين المجاهدة ، وهو حمل النفس على المكاره البدنية من الجوع والعطش والعري ، ولا بد من مقاساة الموتات الأربع : الموت الأبيض ، وهو الجوع ، والموت الأحمر : وهو مخالفة الهوى ، والموت الأسود ، وهو تحمل الأذى ، والموت الأخضر وهو طرح الرقاء بعضها على بعض ؛ أي : لبس الخرقة المرقعة هضماً للنفس ما لم تكن لباس شهرة ، فإن النبي عليه السلام نهى عن الشهرتين في اللباس اللين الأرفع والغليظ الأقوى ، لأنه اشتهار بذلك وامتياز عن المسلمين له قد ، وقال عليه السلام : كن في الناس كواحد من الناس قال إبراهيم بن أدهم قدس سره للقمة تتركها من عشائك مجاهدة لنفسك خير لك من قيام ليلة هذا اذا كان حلالاً ، وإما إذا كان حراماً فلا خير فيه البتة ، فما ملىء وعاء شر من بطن مليء بالحلال وبالجوع يحصل الصمت ، وقلة الكلام والذلة والانكسار من جميع الشهوات ، ويذهب الوساوس ، وكل آفة تطرأ عليك من نتائج الشبع ، وأنت لا تدري قديماً كان أو حديثاً ، فإن المعدة حوض البدن يسقي منه هذه الأعضاء التي هي مجموعة ، فالغذاء الجسماني هو ماء حياة الجسم على التمام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
ولذلك قال سهل قدس سره : إن سره الخلوة في الماء ، وأنت لا تشك أن صاحب الزراعة لو سقاها فوق حاجتها ، وأطلق الماء عليها جملة واحدة هلكت ، ولو منعها الماء فوق الحاجة أيضاً هلكت سواء كان من الأرض ، أو من السماء وقس عليه الامتلاء من الطعام ، ولو كان حلالاً.
نسأل الله الحماية والرعاية.
{وَكَأَيِّن} كلمة مركبة من
504
الكاف وأي بمعنى كم الخبرية.
(8/392)
قال المولى الجامي في "شرح الكافية" : إنما بنى كأين لا كاف التشبيه دخلت على أي ، وأي في الأصل كان معرباً ، لكنه انمحى عن الجزءين معناهما الإفرادي ، فصار المجموع كاسم مفرد ، بمعنى كم الخبرية ، فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في من لا تنوين تمكن ، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط.
انتهى.
ومحلها الرفع بالابتداء.
{مِن قَرْيَةٍ} تمييز لها.
{هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ} صفة لقربة {الَّتِى أَخْرَجَتْكَ} : صفة لقريتك ، وهي مكية ، وقد حدف منهما المضاف ، وأجرى أحكامه عليهما ، كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى : {أَهْلَكْنَـاهُمْ} ؛ أي : وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين كانوا سبباً لخروجك من بينهم ، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها ، كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه السلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها.
{فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} بيان لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار أثر بيان عدم خلاصهم منهم بأنفسهم ، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات ، وهو حكاية حال ماضية.
وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم : لما خرج رسول الله عليه السلام من مكة إلى الغار التفت إلى مكة.
وقال : أنت أحب البلاد إلى الله ولي ، ولولا أن المشركين أخرجوني ما خرجت منك ، فأنزل الله هذه الآية ، فتكون الآية مكية وضعت بين الآيات المدنية.
وفي الآية إشارة إلى الروح وقريته ، وهي الجسد فكم من قالب هو أقوى وأعظم من قالب قد أهلكه الله بالموت ، فلا ناصر لهم في دفع الموت ، فإذا كان الروح خارجاً من القالب القوي بالموت ، فأولى أن يخرج من القالب الضعيف ، كما قال تعالى : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء : 78) ؛ أي : في أجسام ضخمة ممتلئة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
سيل بى ونهاررا در زيل بل آرام نيست
ما بغفلت زير طاق آسمان اسوده ايم
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا} .
{أَفَمَن كَانَ} : (آيا هركه باشد).
{عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} : الفاء للعطف على مقدر يقضيه المقام ، ومن عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين ؛ أي : أليس الأمر كما ذكر ، فمن كان مستقراً على حجة ظاهرة ، وبرهان نير من مالك أمره ومربيه ، وهو القرآن وسائر المعجزات والحجج العقلية.
{كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِهِ} من الشر وسائر المعاصي مع كونه في نفسه أقبح القبائح ، يعني : شيطان ونفس (اورا آرايش كرده است).
والمعنى : لا مساواة بين المهتدي والضال.
{وَاتَّبِعُوا} بسبب ذلك التزيين.
{أَهْوَآءَهُم} الزائغة ، وانهمكوا في فنون الضلالات من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلاً عن حجة تدل عليها وجمع الضمير باعتبار معنى من ، كما أن إفراد الأولين باعتبار لفظها.
وفي الآية إشارة إلى أهل القلب ، وأهل النفس ، فإن أهل القلب بسبب تصفية قلوبهم عن صدأ الأخلاق الذميمة رأوا شواهد الحق ، فكانوا على بصيرة من الأمر ، وأما أهل النفس فزين لهم البدع ، ومخالفات الشرع واتبعوا أهواءهم في العقائد القلبية والأعمال القالبية ، فصاروا أضل من الحمير حيث لم يهتدوا لا إلى الله تعالى ولا إلى الجنة.
وقال أبو عثمان : البينة هي النور الذي يفرق المرء بين الإلهام والوسوسة ، ولا يكون إلا لأهل الحقائق في الإيمان وأصل البينة للنبي عليه السلام ، كما قال تعالى : {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم : 81) ، وقال تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم : 11).
قال بعض الكبار :
505
إنما لم يجمع لنبي من الأنبياء عليهم السلام ما جمع لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من العلوم ؛ لأن مظهره عليه السلام (رحماني).
والرحمن : أول اسم صدر بعد الاسم العليم ، فالمعلومات كلها يحتوي عليها الاسم الرحمن ، ومن هنا تحريم زينة الدنيا عليه صلى الله عليه وسلّم لكونها زائلة ، فمنع من التلبس بها ؛ لأن مظهره الرحماني ينافي الانقضاء ويلائم الأبد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
از ما مجوى زينت ظاهر كه جون صدف
ما اندرون خانه بكوهر كرفته ايم
(8/393)
{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} عبر عن المؤمنين بالمتقين إيذاناً بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها ، وترك السيئات عن آخرها ومثلها وصفها العجيب الشأن ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي : مثل الجنة الموعودة للمؤمنين وصفتها العجيبة الشأن ما تسمعون فيما يتلى عليكم.
وقوله : {فِيهَآ} ؛ أي : في الجنة الموعودة إلى آخره مفسر له.
{أَنْهَـارٌ} جمع نهر بالسكون ، ويحرك مجرى الماء الفائض.
{مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ} من أسن الماء بالفتح من باب ضرب ، أو نصر أو بالكسر إذا تغير طعمه وريحه تغيراً منكراً في "عين المعاني" من أسن غشي عليه من رائحة البئر.
وفي "القاموس" : الآسن من الماء الأجن ؛ أي : المتغير الطعم واللون.
والمعنى : من ماء غير متغير الطعم والرائحة واللون ، وإن طالت إقامته بخلاف ماء الدنيا ، فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه ، وفي أوانيه مع أنه مختلف الطعوم مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها ، وقد يكون متغيراً بريح منتنة من أصل خلقته ، أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه كذا في المناسبات.
يقول الفقير : قد صح أن المياه كلها تجري من تحت الصخرة في المسجد الأقصى ، فهي ماء واحد في الأصل عذب فرات سائغ للشاربين ، وإنما يحصل التغير من المجاري ، فإن طباعها ليست متساوية دل عليها قوله تعالى : {وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ} وتجاور أجزائها لا يستلزم اتحادها في نفس الأمر ، بل هي متجاورة مختلفة ، ومثلها العلوم ، فإنها إذا مرت بطبع غير مستقيم تتغير عن أصلها ، فتكون في حكم الجهل ، ومن هذا القبيل علوم جميع أهل الهوى والبدع والضلال.
{وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بأن كان قارصاً ، وهو الذي يقرص اللسان ويقبضه أو حازراً بتقديم الزاي ، وهو الخامض أو غير ذلك ، كألبان الدنيا.
والمعنى : لم يتغير طعمه بنفسه عن أصل خلقته ، ولو أنهم أرادوا تغييره بشهوة اشتهوها تغير.
{وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ} وهو ما أسكر من عصير العنب ، أو عام أي لكل مسكر ، كما في "القاموس".
{لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} : أما تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب وطبيب ، أو مصدر نعت به ؛ أي : لذيذة ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار ، كما في خمر الدنيا ، وإنما هي تلذذ محض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال الحافظ :
مادر بياله عكس رخ يار ديده ايم
اى بى خبرز لذت شرب مدام ما
يقول الفقير :
باده جنت مثال كوثرست اى هوشيار نيست
اندر طبع كوثر آفت سكر وخمار
{وَأَنْهَـارٌ مِّنْ عَسَلٍ} هو لعاب النحل وقيئه ، كما قال ظهير الفارابي :
بدان غرض كه دهن خوش كنى زغايت حرص
نشته مترصد كه في كندزنبور
وعن علي رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحلة وظاهر هذا أنه من غير الفم.
قال في "حياة الحيوان" : وبالجملة أنه يخرج من بطون النحل ، ولا ندري أمن فمها أم من غيره ،
506
وقد سبق جملة النقل في سورة النحل.
{مُّصَفًّى} لا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها خلقه الله مصفى لا أنه كان مختلطاً ، فصفي.
قال بعضهم في الفرق بين الخالص والصافي : إن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ، والصافي قد يقال لما لا يشوب فيه فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ من أشربة الدنيا ؛ لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجرداً عما ينقصها ، أو ينغصها مع الوصف بالغزارة والاستمرار ، وبدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلاد العرب وشدة حاجتهم إليها ، ولما كان خلوها عن تغير أغرب نفاه بقوله : غير آسن ، ولما كان اللبن أقل ، فكان جريه أنهاراً أغرب ثنى به ، ولما كان الخمر أعز ثلث به ، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به.
قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة.
ونهر الفرات : نهر لبنهم.
ونهر مصر : نهر خمرهم ، ونهر سيحان : نهر عسلهم.
وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس هنا مما في الجنة سوى الأسامي.
قال كعب : قلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف أنهار الجنة ، فقال : على حافاتها كراسي وقباب مضروبة وماؤها أصفى من الدمع ، وأحلى من الشهد وألين من الزبد ، وألذ من كل شيء ، فيه حلاوة عرض كل نهر مسيرة خمسمائة عام ، تدور تحت القصور والحجال لا يرطب ثيابهم ، ولا يوجع بطونهم ، وأكبر أنهارها : نهر الكوثر ، طينه المسك الأذفر وحافتاه الدر والياقوت.
قال الكاشفي : (ارباب اشارات كفت اندكه جنانجه أنهار اربعة درزمين بهشت بزير شجرة طوبى روانست جهار جوى نيزدر زمين دل عارف درزير شجرة طيبه أصلها ثابت وفرعها في السماء جاريست ازمنبع قلب آب انابت واز ينبوع صدر لبن صفوت واز خمخانة سر خمر محبت واذ حجر روح عسل مودت).
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
آب صبرت جوى آب خلد شد
جوى شير خلد مهر تست وود
ذوق طاعت كشت جوى انكبين
مستى وشوق توجوى خمر بين
(8/394)
اين سببها جون بفرمان توبود
جارجوهم مرترا فرمان نمود
(ودر بحر الحقائق فرموده كه آب اشارت بحيات دل است ولبن بفطرت اصليه كه بحموضت هوى وتفاهت بدعت متغير نكشته وخمر جوشن محبت الهى وعسل مصفى حلاوت قرب).
يقول الفقير : يفهم من هذا وجه آخر لترتيب الأنهار ، وهو أن تحصل حياة القلب بالعلم أولاً ، ثم تظهر صفوة الفطرة الأصلية ، ثم يترقى السالك من محبة الأكوان إلى محبة الرحمن ، ثم يصل إلى مقام القرب والجوار الإلهي.
وقيل : التجلي العلمي لا يقع إلا في أربع صور : الماء واللبن والخمر والعسل.
فمن شرب الماء يعطى العلم اللدني ، ومن شرب اللبن يعطى العلم بأمور الشريعة ، ومن شرب الخمر يعطى العلم بالكمال ، ومن شرب العسل يعطى العلم بطريق الوحي والعلم إذا حصل بقدر استعداد القابل أعطاه الله استعداد العلم الآخر ، فيحصل له عطش آخر.
ومن هذا قيل : طالب العلم كشارب ماء البحر ، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ، ومن هذا الباب ما نقل عن سيد العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره من أنه قال : ()
شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} () ، وأما الري في العلم فإضافي لا حقيقي.
قال بعض
507
العارفين : من شرب بكأس الوفاء لم ينظر في غيبته إلى غيره ومن شرب بكأس الصفاء خلص من شوبه وكدورته ، ومن شرب بكأس الفناء عدم فيه القرار ، ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه ، فلم يطلب مع لقائه شيئاً آخر لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات جلاله وكبريائه ، ولما ذكر ما للشرب ذكر ما للأكل ، فقال : {وَلَهُمْ} ؛ أي : للمتقين {فِيهَآ} ؛ أي : في الجنة الموعودة مع ما فيها من فنون الأنهار.
{مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ؛ أي : صنف من كل الثمرات على وجه لا حاجة معه من قلة ، ولا انقطاع.
وقيل : زوجان انتزاعاً من قوله تعالى : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن : 52) ، وهي جمع ثمرة ، وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر ، ويقال لكل نفع يصدر عن شيء ثمرة ، كقولك : ثمرة العلم العمل الصالح ، وثمرة العمل الصالح الجنة.
{وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة كائنة.
{مِّن رَّبِّهِمُ} ؛ أي : المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وآثارها بحيث لا يخشون لهما عاقبة بعقاب ولا عتاب ، وإلا لتنغص العيش عليهم يعني : (ببوشد ذنوب ايشانرا نه بران معاقبه كندونه معاتبه نمايد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفيه تأكيد لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية.
قال في "فتح الرحمن" : قوله : ومغفرة عطف على الصنف المحذوف ؛ أي : ونعيم أعطته المغفرة وسببته ، وإلا فالمغفرة إنما هي قبل الجنة.
وفي "الكواشي" : عطف على أصناف المقدرة للإيذان بأنه تعالى راضضٍ عنهم مع ما أعطاهم ، فإن السيد قد يعطي مولاه مع ما سخطه عليه.
قال بعض العارفين : الثمرات عبارة عن المكاشفات والمغفرة عن غفران ذنب الوجود كما قيل :
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
بندار وجود ماكنا هيست عظيم
لطفى كن واين كنه زما در كذران
{كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ} : خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد الكريم ، كمن هو خالد في النار التي لا يطفأ لهيبها ، ولا يفك أسيرها ، ولا يؤنس غريبها ، كما نطق به قوله تعالى : {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد : 12).
وبالفارسية : (آيا هركه درجنين نعمتى باشد مانند كسى است كه اوجاودانست درآتش دوزخ).
{وَسُقُوا} الجمع باعتبار معنى من ؛ أي : سقوا بدل ما ذكر من أشربة أهل الجنة.
{مَآءً حَمِيمًا} حاراً غاية الحرارة.
{فَقَطَّعَ} : (بس باره باره ميكند آب از فرط حرارت).
{أَمْعَآءَهُمْ} : (رودهاى ايشانرا).
جمع معيّ : بالكسر والقصر ، وهو من أعفاج البطن ؛ أي : ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة قيل : إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وانمازت فروة رؤوسهم ؛ أي : انعزلت وانفرزت ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، فخرجت من أدبارهم ، فانظر بالاعتبار أيها الغافل عن القهار ، هل يستوي الشراب العذب البارد والماء الحميم المر ، وإنما ابتلاهم الله بذلك ، لأن قلوبهم كانت خالية عن العلوم والمعارف الإلهية ممتلئة بالجهل والغفلة ، ولا شك أن اللذة الصورية الأخروية إنما تنشأ من اللذة المعنوية الدنيوية ، كما أشار إليه مالك بن دينار قدس سره بقوله : خرج الناس من الدنيا ، ولم يذوقوا أطيب الأشياء.
قيل : وما هو؟ قال : معرفة الله تعالى ، فبقدر هذا الذوق في الدنيا يحصل الذوق في الآخرة ، فمن كمل له الذوق كمل له النعيم.
قال أبو زيد البسطامي قدس سره : حلاوة المعرفة الإلهية خير من جنة الفردوس وأعلى عليين.
واعلم أن الإنسان لو حبس في بيت حمام حار لا يتحمله ، بل يؤدي إلى موته ، فكيف حاله إذا حبس في دار جهنم التي حرارتها فوق كل حرارة ، لأنها سجرت بغضب القهار ، وكيف حاله إذا سقي
508
(8/395)
مثل ذلك الماء الحميم.
وقد كان في الدنيا بحيث لا يدفع عطشه كل بارد ، فلا ينبغي الاغترار بنعيم الدنيا إذا كان عاقبته الجحيم والحميم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الخبر : أن مؤمناً وكافراً في الزمان الأول انطلقا يصيدان السمك ، فجعل الكافر يذكر آلهته ويأخذ السمك حتى أخذ سمكاً كثيراً ، وجعل المؤمن يذكر الله كثيراً فلا يجيء شيء ، ثم أصاب سمكة عند الغروب ، فاضطربت ووقعت في الماء ، فرجع المؤمن وليس معه شيء ، ورجع الكافر ، وقد امتلأت شبكته ، فأسف ملك المؤمن الموكل عليه ، فلما صعد إلى السماء أراه الله مسكن المؤمن في الجنة ، فقال : والله ما يضره ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا وأداه مسكن الكافر في جهنم ، فقال الله : ما يغني عنه ما أصابه من الدنيا بعد أن يصير إلى هذا :
نعيم هر دو جهان بيش عاشقان بدوجو
كه آن متاع قليلست واين بهاى كثير
{وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أولئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِا وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} .
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يقال : استمع له ، وإليه ؛ أي : أصغى ، وهم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاوناً منهم.
{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ} جمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما قبله باعتبار لفظه {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يعني : علماء الصحابة كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وابن عباس وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
{مَاذَا قَالَ ءَانِفًا} ؛ أي : ما الذي قال الساعة على طريق الاستهزاء ، وإن كان بصورة الاستعلام.
وبالفارسية : (جه كفت بيغمبر اكنون يعنى ما فهم نكرديم سخن اورا واين بروجه سخريت ميكفنند).
وآنفاً من قولهم أنف الشيء ، لما تقدم منه مستعار من الجارحة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال الراغب : استأنفت الشيء أخذت آنفه ؛ أي : مبدأه.
ومنه : ماذا قال آنفاً ؛ أي : مبتدأ انتهى.
قال بعضهم : تفسير الآنف بالساعة يدل على أنه ظرف حالي لكنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها ، كما قاله صاحب "الكشاف" ، وفي "القاموس" ، قال : آنفاً كصاحب وكتف وقرىء بهما ؛ أي : مذ ساعة ؛ أي : في أول وقت يقرب منا.
انتهى.
وبه يندفع باعتراض البعض ، فإن الساعة ليست محمولة على الوقت الحاضر في مثل هذا المقام ، وإنما يراد بها ما في تفسير صاحب "القاموس".
ومن هنا قال بعضهم : يقال : مر آنفاً ؛ أي : قريباً أو هذه الساعة ؛ أي : إن شئت قل هذه الساعة ، فإنه بمعنى الأول ، فاعرف {أولئك} الموصوفون بما ذكر {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ختم عليها لعدم توجهها نحو الخير أصلاً ، ومنه الطابع للخاتم.
قال الراغب : الطبع أن يصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم ، وهو أعم من الختم وأخص من النقش والطابع والخاتم ، ما يطبع به ويختم.
والطابع فاعل ذلك {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} الباطلة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} إلى طريق الحق وهم المؤمنون {زَادَهُمْ} ؛ أي : الله تعالى {هُدًى} بالتوفيق والإلهام.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} ؛ أي : خلق التقوى فيهم ، أو بين لهم ما يتقون منه.
قال ابن عطاء قدس سره : الذين تحققوا في طلب الهداية أوصلناهم إلى مقام الهداية وزدناهم هدى بالوصول إلى الهادي.
{وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ * أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
(8/396)
{فَهَلْ يَنظُرُونَ} ؛ أي : المنافقون والكافرون.
{إِلا السَّاعَةَ} ؛ أي : ما ينتظرون إلا القيامة {أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} ، وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة ؛ أي : تباغتهم بغتة.
والمعنى : أنهم لا يتذكرون بذكر أحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة ، وما فيها من عظائم الأمور ، وما ينتظرون للتذكر إلا إتيان
509
نفس الساعة بغتة.
{فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} تعليل لمفاجأتها لا لإتيانها مطلقاً على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذا جاء أشراطها ، فلم يرفعوا لها رأساً ، ولم يعدوها من مبادىء إتيانها ، فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة ، والأشراط جمع شرط بالتحريك ، وهو العلامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والمراد بها : مبعثه عليه السلام وأمته آخر الأمم فمبعثه يدل على قرب انتهاء الزمان.
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاـاهُمْ} حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذٍ كقوله يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ؛ أي : وكيف لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة على أن أنى خبر مقدم وذكراهم مبتدأ وإذا جاءتهم اعتراض وسط بينهما رمزاً إلى غاية سرعة مجيئها وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئه مطلقاً لا مقيداً بقوله : البغتة.
وروي عن مكحول عن حذيفة ، قال : سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : متى الساعة؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن لها أشراط تقارب الأسواق" ، يعني : كسادها ومطر لا نبات ، يعني : مطر من غير حينه وتفشو الفتنة وتظهر أولاد البغية ، ويعظم رب المال ، وتعلو أصوات الفسقة في المساجد ، ويظهر أهل المنكر على أهل الحق.
وفي الحديث : "إذا ضيعت الأمانة ، فانتظر الساعة ، فقيل : كيف إضاعتها ، فقال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة :
بقومى كه نيكى بسندد خداى
دهد خسرو عال نيك راى
جو خواهدكه ويران كند عالمى
كند ملك دربنجة ظالمى
وقال الكلبي : أشراط الساعة كثرة المال والتجارة وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام.
وفي الحديث : "ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً".
والدجال : شر غائب ينتظر ، والساعة أدهي وأمر انتهى ، وقيامة كل أحد موته ، فعليه أن يستعد لما بعد الموت قبل الموت ، بل يقوم بالقيامة الكبرى التي هي قيامة العشق والمحبة التي تهلك عندها جميع ما سوى الله ، ويزول تعيين الوجود المجازي ، ويظهر سر الوجود الحقيقي.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسارعين إلى مرضاته والأعضاء والقوى تساعد لا من المسومين في أمره والأوقات تمر وتباعد.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ} ؛ أي : الشأن الأعظم {لا إله إِلا اللَّهُ} ؛ أي : انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبوداً بحق غير الملك الأعظم ؛ أي : إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية والعمل بموجبه كقوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة : 5) ؛ أي : ثبتنا على الصراط لمستقيم وقدم العلم على العمل تنبيهاً على فضله واستبداده بالمزية عليه لا سيما العلم بوحدانية الله تعالى ، فإنه أول ما يجب على كل أحد والعلم أرفع من المعرفة ، ولذا قال : فاعلم دون فاعرف ؛ لأن الإنسان قد يعرف الشيء ولا يحيط به علماً ، فإذا علمه وأحاط به علماً ، فقد عرفه والعلم بالألوهية من قبيل العلم بالصفات ؛ لأن الألوهية صفة من الصفات ، فلا يلزم أن يحيط بكنهه تعالى أحد ، فإنه محال إذ لا يعرف الله إلا الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال بعض الكبار : لما كان ما تنتهي إليه معرفة كل عارف مرتبة الألوهية ، ومرتبة أحديتها المعبر عنها بتعين الأول لاكنه ذاته وغيب هويته ، ولا إحاطة صفاته أمر في كتابه العزيز نبيه ، لذا هو أكمل
510
(8/397)
الخلق قدراً أو منزلة ، وقابلية ، فقال : فاعلم أنه لا إله إلا الله تنبيهاً له ، ولمن يتبعه من أمته على قدر ما يمكن معرفته من جناب قدسه ، ويمكن الظفر به ، وهو مرتبة الألوهية وما وراءها من حضرة الغيب المطلق وغيب الهوية خارج عن طوق الكون إذ ليس وراءها اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف ولا حكم ، وليس في قوة الكون المقيد أن يعطي غير ما يقتضيه تقييده ، فكيف يمكن له أن يدرك حضرة الغيب المطلق ، وغيب الهوية ، ولما كان حصول التوحيد الذي هو كمال النفس موجباً للإجابة.
قال تعالى معلماً أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ، ليحصل التعاون على ما خلق العباد له من العبادة.
{وَاسْتَغْفِرِ} ؛ أي : اطلب الغفران من الله {لِذَنابِكِ} ، وهو كل مقام عاللٍ ارتفع عليه السلام عنه إلى أعلى وما صدر عنه عليه السلام من ترك الأولى ، وعبر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل ، كيف لا وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإرشاداً له عليه السلام إلى التواضع وهضم النفس واستقصاء العمل {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} ؛ أي : لذنوب أمتك بالدعاء لهم وترغيبهم فيما يستدعي غفرانهم ؛ لأنهم أحق الناس بذلك منك ؛ لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره إذ لمكمل الغير مثل أجر ذلك الغير ، وفي إعادة صلة الاستغفار على اختلاف متعلقيه جنساً.
وفي حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه إشعار بعراقتهم في الذنب وفرط افتقارهم إلى الاستغفار ، وهو سؤال المغفرة وطلب الستر ، إما من إصابة الذنب ، فيكون حاصله العصمة والحفظ ، وإما من إصابة عقوبة الذنب ، فيكون حاصله العفو والمحو.
قال بعضهم للنبي عليه السلام أحوال ثلاثة :
الأول : مع الله ، فلذا قيل وحده.
والثاني : مع نفسه ولذا أمر بالاستغفار لذنبه.
والثالث : مع المؤمنين ولذا أمر بالاستغفار لهم ، وهذه أرجى آية في القرآن ، فإنه لا شك أنه عليه السلام ائتمر بهذا الأمر وأنه لا شك أن الله تعالى أجابه فيه ، فإنه لو لم يرد إجابته فيه لما أمره بذلك :
هركرا جون توبيشوا باشد
نا اميد ازخدا جراباشد
جون نشان شفاعت كبرى
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يافت برنام ناميت طغرا
امتان با كناهكا ريها
بتودارند اميد واريها
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} ؛ أي : مكانكم الذي تتقلبون عليه في معاشكم ومتاجركم في الدنيا ، فإنها مراحل لا بد من قطعها.
وبالفارسية : (وخداى ميداند جاى رفتن وكرديدن شمادر دنيا كه جون ميكرديد از حال بحال).
{وَمَثْوَاـاكُمْ} في العقبى ، فإنها موطن إقامتكم.
وبالفارسية : (وآرامكاه شمادر عقبى بهشت است يا دوزخ).
فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم في الدنيا والآخرة ، فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به ، فإنه المهم لكم في المقامين.
قال في "بحر العلوم" : الخطاب في قوله : فاعلم واستغفر للنبي عليه السلام ، وهو الظاهر ، أو لكل من يتأتى منه العلم والاستغفار من أهل الإيمان وينصره الخطاب بلفظ الجمع في قوله : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاـاكُمْ} .
انتهى.
وفي "كشف الأسرار" : يعني : (يا محمد آنجه بنظر واستدلال دانسته از توحيد ما بخير نيز بدان ويقين باش كه الله تعالى يكانه ويكتاست درذات وصفات ودر حقايق سلمى أورده كه جون عالمى را كويند اعلم مرادبان ذكر باشد يعني يادكن آنجه دانسته).
وقال أبو الحسين النوري قدس سره : والعلم الذي دعي إليه المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم هو علم الحروف وعلم الحروف في لام ألف وعلم لام ألف في الألف وعلم الألف
511
في النقطة وعلم النقطة في المعرفة الأصلية ، وعلم المعرفة الأصلية ، في علم الأول وعلم الأول في المشيئة ، وعلم المشيئة في غيب الهوية ، وهو الذي دعاه إليه ، فقال : فاعلم ، فالهاء راجع إلى غيب الهوية.
انتهى.
(اكر كسى كويد ابراهيم خليل را عليه السلام كفتند اسلم جواب دادكه اسلمت مصطفى حبيب را كفتند فاعلم نكفت علمت جواب آنست كه خليل رونده بود درراه كه انى ذاهب إلى ربى در وادى تفرقت مانده لا جرم جوابش خود بايست داد وحبيب ربوده حق بوددر نقطه جمع نواخته اسرى بعبده حق اورا بخود باز نكذاشت از بهر او جواب دادكه آمن الرسول).
والإيمان هو العلم وإخبار الحق تعالى عنه أنه آمن وعلم أتم من إخباره بنفسه علمت قوله ، واستغفر لذنبك ؛ أي : إذا علمت أنك علمت فاستغفر لذنبك هذا ، فإن الحق على جلال قدره لا يعلمه غيره :
تراكه داندكه تراتو دانى تو
ترانداندكس تراتو دانى كس
(8/398)
وفي "التأويلات النجمية" : فاعلم بعلم اليقين أنه لا إله بعلم اليقين إلا الله بحق اليقين ، فإذا تجلى الله بصفة علمه الذاتي للجهولية الذاتية للعبد تفنى ظلمة جهوليته بنور علمه ، فيعلم بعلم الله أن لا موجود إلا الله ، فهذه مظنة حسبان العبد أن العالم يعلم أنه لا إله إلا الله ، فقيل له : واستغفر لذنبك بأنك علمت وللمؤمنين والمؤمنات بأنهم يحسبون أن يحسنوا علم لا إله إلا الله ، فإن من وصفه وما قدروا الله حق قدره ، والله يعلم متقلب كل روح من العدم بوصف خاص إلى عالم الأرواح في مقام مخصوص به ومثوى كل روح إلى أسفل سافلين قالب خاص بوصف خاص ، ثم متقلبه من أسفل سافلين القالب بالإيمان ، والعمل الصالح ، أو بالكفر والعمل الطالح إلى الدرجات الروحانية ، أو الدركات النفسانية ، ثم مثواه إلى عليين القرب المخصوص به ، أو إلى سجين البعد المخصوص به مثاله ، كما أن لكل حجر ومدر وخشب يبنى به دار متقلباً مخصوصاً به وموضعاً من الدار مخصوصاً به ليوضع فيه لا يشاركه فيه شيء آخر كذلك لكل روح منقلب مخصوص به لا يشاركه فيه أحد.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وقال البقلي : واستغفر من وجودك في مطالعتي ووجود وصالي ، فإن بقاء الوجود الحدثاني في بقاء الحق أعظم الذنوب.
وفي "الأسئلة المقحمة" : المراد الصغائر والعثرات التي هي من صفات البشرية ، وهذا على قول من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام : (ودر معالم أورده كه آن حصرت مأمور شد باستغفار با آنكه مغفورست نا امت درين سنت بوى قندا كننده).
يعني : واستغفر لذنبك ليستن بك غيرك : (ودر تبيان آوورد كه مراد آنست كه طلب عصمت كن ازخداى تاثرا از كاهان نكاه دارد).
وقيل : من التقصير في حقيقة العبودية التي لا يدركها أحد ، وقال بعض الكبار : الذنب المضاف إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم هو ما أشير إليه في قوله : فاعلم ولا يفهمه إلا أهل الإشارة.
يقول الفقير : لعله ذنب نسبة العلم إليه في مرتبة الفرق إذ هو الحق في مرتبة الجمع ، لذا قيل في الروضة المنيفة عند رأسه الشريف عليه السلام : لا تجوز السجدة لمخلوق إلا لباطن رسول الله فإنه الحق.
والذنب المضاف إلى المؤمنين والمؤمنات هو قصورهم في علم التوحيد بالنسبة إلى النبي المحترم صلى الله عليه وسلّم ثم هذه الكلمة كلمة التوحيد ، فالتوحيد لا يماثله ولا يعادله شيء ، وإلا لما كان واحداً ، بل كان اثنين فصاعداً وإذا أريد بهذه الكلمة التوحيد الحقيقي ، لم تدخل في الميزان ؛ لأنه ليس له مماثل ومعادل ، فكيف
512
تدخل فيه؟
وإليه أشار الخبر الصحيح عن الله تعالى ، قال الله تعالى : لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله.
فعلم من هذه الإشارة أن المانع من دخولها في ميزان الحقيقة هو عدم المماثل والمعادل ، كما قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} (الشورى : 11) ، وإذا أريد بها التوحيد الرسمي تدخل في الميزان ؛ لأنه يوجد لها ضد بل أضداد كما أشير إليه بحديث صاحب السجلات التسعة والتسعين ، فما مالت الكفة إلا بالبطاقة التي كتبها الملك فيها فهي الكلمة المكتوبة المنطوقة المخلوقة ، فعلم من هذه الإشارة أن السبب لدخولها في ميزان الشريعة ، هو وجود الضد والمخالف ، وهو السيئات المكتوبة في السجلات ، وإنما وضعها في الميزان ليرى أهل الموقف في صاحب السجلات فضلها ، لكن إنما يكون ذلك بعد دخول من شاء الله من الموحدين النار ، ولم يبق في الموقف إلا من يدخل الجنة ؛ لأنها لا توضع في الميزان لمن قضى الله أن يدخل النار ، ثم يخرج بالشفاعة ، أو بالعناية الإلهية ، فإنها لو وضعت لهم أيضاً لما دخلوا النار أيضاً ، ولزم الخلاف للقضاء ، وهو محال ووضعها فيه لصاحب السجلات اختصاص إلهي يختص برحمته من يشاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/399)
واعلم أن الله تعالى ما وضع في العموم إلا أفضل الأشياء وأعمها نفعاً ؛ لأن يقابل به أضداداً كثيرة ، فلا بد في ذلك الوضع من قوة ما يقابل به كل ضد ، وهو كلمة لا إله إلا الله ، ولهذا كانت أفضل الأذكار ، فالذكر بها أفضل من الذكر بكلمة الله ، الله وهو هو عند العلماء بالله ؛ لأنها جامعة بين النفي والإثبات وحاوية على زيادة العلم والمعرفة ، فعليك بهذا الذكر الثابت في العموم ، فإنه الذكر الأقوى ، وله النور الأضوى ، والمكانة الزلفى ، وبه النجاة في الدنيا والعقبى ، والكل يطلب النجاة وإن جعل البعض طريقها ، فمن نفى بلا إله عين الخلق حكماً ، لا علماً فقد أثبت كون الحق حكماً وعلماً ، والإله من جميع الأسماء ، ما هو إلا عين واحد هي مسمى الله الذي بيده ميزان الرفع والخفض.
ثم اعلم أن التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له صلى الله عليه وسلّم بالرسالة وبين الكلمتين مزيد اتفاق يدل على تمام الاتحاد والاعتناق.
وذلك أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطأ كانت اثني عشر حرفاً على عدد أشهر السنة يكفر كل حرف منها شهراً ، وإن نظرنا إليها نطقاً ، كانت أربعة عشر تملأ الخافقين نوراً ، وإن نظرنا إليها بالنظرين معاً كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش موفق ، وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى ، فمن لم يجمعهما اعتقاده لم يقبل إيمانه وإسلام اليهود والنصارى مشروط بالتبري من اليهودية والنصرانية بعد الإتيان بكلمتي الشهادة وبدون التبري لا يكونان مسلمين ، ولو أتيا بالشهادتين مراراً ؛ لأنهما فسرا بقولهما بأنه رسول الله إليكم لكن هذا في الذين اليوم بين ظهراني أهل الإسلام ، أما إذا كان في دار الحرب ، وحمل عليه رجل من المسلمين فأتى بالشهادتين ، أو قال : دخلت في دين الإسلام ، أو في دين محمد عليه السلام ، فهذا دليل توبته ، ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله تعالى ، والشفع الذي هو الخلق أنشأه الله تعالى أزواجاً ، ومنها : أن أحرفها اللفظية أربعة عشر حرفاً على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض ، والمقصود منها ، مسمى الجلالة الذي هو الإله
513
الحق والجلالة الدالة عليه خمسة أحرف على عدد دعائم الإسلام الخمس ووتريته ثلاثة أحرف دلالة على التوحيد.
ومنها أنه إن لم يفعل فيها شيئاً شفهياً ليمكن ملازمتها لكونها أعظم مقرب إلى الله ، وأقرب موصل إليه مع الإخلاص ، فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ، ولا يعلم جليسه بذلك أصلاً ؛ لأن غيرك لا يعلم ما في وراء شفتيك إلا بإعلامك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
ومنها : أن هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بالرسالة سبع كلمات ، فجعلت كل كلمة منها نابعة من باب من أبواب جهنم السبعة.
ومنها : أن عدد حروفها مع قرينتها أربعة وعشرون وساعات اليوم والليلة كذلك فمن الها فقد أتى بخير ينجيه من المكاره في تلك الآيات.
قال المولى الجامي : (نقطه بصورت مكس است وكلمة شهادت از نقطه معراست يعنى اين شهد از آلايش مكس طبعان معراست).
وقال بعض العارفين : لا يجوز لشخص أن يتصدر في مرتبة الشيخوخة إلا إن كان عالماً بالكتاب والسنة عارفاً بأمراض الطريق عارفاً بمقامات التوحيد الخمسة والثمانين نوعاً عارفاً باختلاف السالكين وأوديتهم حال كونهم مبتدئين وحال كونهم متوسطين ، وحال كونهم كاملين ، ويجمع كل ذلك قولهم ما اتخذ الله ولياً جاهلاً قط ، ولو اتخذه لعلمه.
قال الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : ليس في طريق الشيخ الحاجي بيرام الرقص حال التوحيد وليس في طريقنا أيضاً ، بل نذكر الله قياماً وقعوداً ، ولا نرقص وفق قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 196).
وقال : الرقص والأصوات كلها إنما وضعت لدفع الخواطر ، ولا شيء في دفعها أشد تأثيراً من التوحيد فطريقنا طريق الأنبياء عليهم السلام ، فنبينا عليه السلام لم يلقن إلا التوحيد.
وقال في "إحياء العلوم" : الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ، ولكن حسنات الإبرار سيئات المقربين ، ومن أحاط بعلم علاج القلوب ووجوه التلطف بها للسياقة إلى الحق علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه انتهى.
وأراد بأمثال هذه الأمور السماع والغناء واللهو المباح ونحو ذلك.
وقال حضرة الشيخ افتاده قدس سره : إذا غلبت الخواطر واحتجت إلى نفسها فاجهر بذكر النفي وخافت الإثبات ، أما إذا حصلت الطمأنينة وغلب الإثبات على النفي ، فاجهر بالإثبات ، فإنه المقصود الأصلي وخافت النفي.
(8/400)
يقول الفقير : قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه : ينبغي أن يبدأ النفي من جانب اليسار ويحول الوجه إلى اليمين ، ثم يوقع الإثبات على اليسار أيضاً ، وذلك لأن الظلمة في اليسار فبابتداء النفي منه تطرح تلك الظلمة إلى طرف اليمين ، وهو التخلية التي هي سر الخلوتية والنور في اليمين ، فبتحويل الوجه إلى جانبها ، ثم الميل في الإثبات إلى اليسار يطرح ذلك النور إلى جانب اليسار الذي هو موضع الإيمان ؛ لأنه في يسار الصدر ، وهي التجلية التي هي سر الجلوتية ، وهذا لأننا في قولهم النفي في طرف اليمين ، والإثبات إلى طرف اليسار ؛ لأن النفي من في طرف اليمين حقيقة ، وإنما الابتداء من اليسار ، وهذا الابتداء لا ينافي كون النفي من طرفها ، فاعرف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
ومن آداب الذكر أن يكون الذاكر في بيت مظلم وأن ينظر بعين قلبه إلى ما بين حاجبيه ، وفي ذلك سر ينكشف لمن ذاقه.
قال بعض الأكابر : من قال في الثلث الأخير من ليلة الثلاثاء : لا إله إلا الله ألف مرة بجمع همة وحضور قلب وأرسلها إلى ظالم عجل الله دماره وخرب دياره وسلط عليه الآفات وأهلك بالعاهات.
ومن قال : ألف مرة لا إله إلا الله ، وهو على طهارة في كل صبيحة يسر الله
514
عليه أسباب الرزق وكذا من قالها عند منامه العدد المذكور باتت روحه تحت العرش تتغذى من ذلك العالم حسب قواها ، وكذلك من قالها عند وقوف الشمس ضعف منه شيطان الباطن.
وفي الحديث : "لو يعلم الأمير ما له في ذكر الله لترك إمارته ، ولو يعلم التاجر ما له في ذكر الله لترك تجارته ، ولو أن ثواب تسبيحه قسم على أهل الأرض لأصاب كل واحد منهم عشرة أضعاف الدنيا".
وفي حديث آخر : "للمؤمنين حصون ثلاثة ذكر الله وقراءة القرآن ، والمسجد ، والمراد بالمسجد : مصلاه سواء كان في بيته ، أو في الخارج.
كذا أوله بعض الكبار.
قال الحسن البصري : حادثوا هذه القلوب بذكر الله ؛ فإنها سريعة الدثور والمحادثة.
بالفارسية : (بزدودن والدثور زنك افكندن كارد وشمشير).
وقال الجامي :
يادكن آنكه درشب
اسرى باحبيب خدا خليل خدا
كفت كوى ازمن اى رسول كرام
امت خويش راز بعد سلام
كه بودباك وخوش زمين بهشت
ليك آنجا كسى درخت نكشت
خاك او باك وطيب افتاده
ليك هست از درختا ساده
غرس أشجار آن بسعى جميل
بسمله حمد له است بس تهليل
هست تكبير نيزازان أشجار
خوش.
.
.
.
.
.
.
.
.
كسى كش جزاين نباشد كار
باغ جنات تحتها الأنهار
سبز وخرم شودازان اشجار
وفي الحديث : "استكثروا من قوله : لا إله إلا الله والاستغفار ، فإن الشيطان ، قال : قد أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله ، والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء حتى يحسبون أنهم مهتدون ، فلا يستغفرون".
وفي الحديث : "جددوا إيمانكم" ، قالوا : يا رسول الله كيف نجدد إيماننا ، قال : "أكثروا من قول لا إله إلا الله" ، ولما بعث عليه السلام معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أوصاه.
وقال : "إنكم ستقدمون على أهل الكتاب ، فإن سألوكم عن مفتاح الجنة فقولوا : لا إله إلا الله".
وفي الحديث : إذا قال العبد المسلم : لا إله إلا الله خرقت السماوات حتى تقف بين يدي الله ، فيقول الله : اسكني اسكني ، فتقول : كيف أسكن ، ولم تغفر لقائلها ، فيقول : ما أجريتك على لسانه إلا وقد غفرت له" ، وفي طلب المغفرة للمؤمنين والمؤمنات تحصيل لزيادة الحسنة لقوله عليه السلام : "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الخبر : من لم يكن عنده ما يتصدق به فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنه صدقة.
وكان عليه السلام : يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة.
وفي رواية : مائة مرة ، ويستغفر للمؤمنين خصوصاً للشهداء ويزور القبور ، ويستغفر للموتى ويعرف من الآية أنه يلزم الابتداء بنفسه ، ثم بغيره.
قال في ترجمة "الفتوحات" : (بعد از رسل هيجكس را آن حق نيست مادر وبدررا ومع هذا نوح عليه السلام دردعاى نفس خودرا مقدم داشت).
قال : رب اغفر لي ولوالدي وإبراهيم عليه السلام : (فرمود) واجبني وبني أن نعبد الأصنام.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ابتدأ بنفس خود كرد والداعي للغير لا ينبغي أن يراه أحوج إلى الدعاء من نفسه وإلا لداخله العجب ، فلذا أمر الداعي بالدعاء لنفسه أولاً ، ثم لغيره.
اللهم اجعلنا من المغفورين.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ * وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه بِالاحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ} .
(8/401)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} اشتياقاً منهم إلى الوحي وحرصاً على الجهاد ؛ لأن فيه إحدى الحسنيين اما الجنة والشهادة وإما الظفر والغنيمة.
{لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} ؛ أي : هلا نزلت تؤمر فيها بالجهاد.
وبالفارسية : (جرا فر وفرستاده نمى شود سورة درباب قتال با كفار).
{فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} بطريق الأمر به ؛ أي : سورة مبينة لا تشابه ،
515
ولا احتمال فيها بوجه آخر سوى وجوب القتال.
عن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال ، فهي محكمة لم تنسخ.
{رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ؛ أي : ضعف في الدنيا ، أو نفاق ، وهو الأظهر فيكون المراد الإيمان الظاهري الزعمي ، والكلام من إقامة المظهر مقام المضمر.
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ؛ أي : تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً كدأب من أصابته غشية الموت ؛ أي : حيرته وسكرته إذا نزل به وعاين الملائكة.
والغشي : تعطل القوى المتحركة والحساسة لضعف القلب ، واجتماع الروح إليه بسبب يحققه في داخل ، فلا يجد منقذاً ، ومن أسباب ذلك امتلاء خانق أو مؤذ بارد ، أو جوع شديد ، أو آفة في عضو مشارك كالقلب والمعدة ، كذا في "المغرب".
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الآية إشارة إلى أن من أمارات الإيمان تمني الجهاد والموت شوقاً إلى لقاء الله ، ومن أمارات الكفر والنفاق كراهة الجهاد كراهية الموت.
{فَأَوْلَى لَهُمْ} ؛ أي : فويل لهم ، وبالفارسية : (بس واى برايشان باد ودوزخ مريشا نراست).
وهو أفعل من الولي ، وهو القرب ، فمعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه.
وقيل : فعلى من آل ، فمعناه الدعاء عليهم بأن يؤول إلى المكروه أمرهم.
قال الراغب : أولى كلمة تهدد وتخوف يخاطب به من أشرف على الهلاك ، فيحث به على عدم التعرض ، أو يخاطب به من نجا منه ، فينهى عن مثله ثانياً ، وأكثر ما يستعمل مكرراً ، وكأنه حث على تأمل ما يؤول إليه أمره ليتنبه المتحرر زمنه.
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كلام مستأنف ؛ أي : أمرهم طاعةولرسوله ، وقول معروف بالإجابة لما أمروا به من الجهاد أو طاعة ، وقول معروف خير لهم أو حكاية لقولهم ويؤيده قراءة أبي ، يقولون : طاعة ، وقول معروف ؛ أي : أمرنا ذلك ، كما قال في النساء ، {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ} (النساء : 81) {فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ} : العزم العزيمة : الجد وعقد القلب إلى إمضاء الأمر والعزيمة تعويذ ؛ كأنه تصور أنك قد عقدت على الشيطان أن يمضي إرادته منك.
والمعنى : فإذا جدوا في أمر الجهاد وافترض القتال وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازاً ، كما في قوله تعالى : {إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} (لقمان : 17) ، وعامل الظرف محذوف ؛ أي : خالفوا وتخلفوا.
وبالفارسية : (بسجون لازم شد امر قتال وعزم كردن اصحاب جهاد ايشان خلاف ورزيده يازنان درخانها نشستند).
{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} ؛ أي : فيما قالوا من الكلام المنبىء عن الحرص على الجهاد بالجري على موجبه.
وبالفارسية : (بس اكر راست كفتندى باخداى در اظهار حرص برجهاد).
{لَكَانَ} : أي الصدق.
{خَيْرًا لَّهُمْ} من الكذب والنفاق والقعود عن الجهاد ، وفيه دلالة على اشتراك الكل فيما حكي عنهم من قوله تعالى : {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} (محمد : 20) ، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض.
واعلم أنه كما يلزم الصدق والإجابة في الجهاد الأصغر إذا كان متعيناً عليه كذلك يلزم ذلك في الجهاد الأكبر إذا اضطر إليه ، وذلك بالرياضيات والمجاهدات على وفق إشارة المرشد أو العقل السليم ، وإلا فالقعود في بيت الطبيعة والنفس سبب الحرمان من غنائم القلب والروح.
وفي بذل الوجود حصول ما هو خير منه ، وهو الشهود والأصل الإيمان واليقين : (نقلست كه روزى حسن بصري نزد حبيب عجمى آمد بزيارت حبيب دوقرص جوين باياره نمك بيش حسن نهاد حسن خوردن كرفت سائل بدر آمد حبيب آن دو قرص بدان نمك بدان سائل داد حسن همجنان بماند كفت اى
516
حبيب تومر دشايسته اكر باره علم داشتى مى بودى كه نان ازبيش مهمان بركرفتى وهمه را بسائل دادى باره شايد داد بان وبارة بمهمان حبيب هيج نكفت ساعتى بود غلامى بيامد وخوانى برسر نهاد وترى وحلوى ونان باكيزه وبا نصددرم نقد دربيش حبيب نهاد حبيب درم بدر ويشان داد وخوان بيش حس نهاد وحسن باره نان خورد حبيب كفت اي استاد تونيك مردى اكر باره يقين داشتى به بودى باعلم بهم يقين بايد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يعني : أن من كان له يقين تام عوضه الله تعالى خيراً من مفقوده وتداركه بفضله وجوده ، فلا بد من بذل المال والوجود في الجهاد الأصغر والأكبر.
قال الحافظ :
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
(8/402)
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه بِالاحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} ؛ أي : يتوقع منكم يا من في قولهم مرض.
وبالفارسية : (بس آيا شايد وتوقع هست از شما اي منافقان).
{إِن تَوَلَّيْتُمْ} : أمور الناس وتأمرتم عليهم ؛ أي : إن صرتم متولين لأمور الناس وولاة وحكاماً عليهم متسلطين ، فتوليتم من الولاية.
{أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تحارصاً على الملك وتهالكاً على الدنيا ، فإن من شاهد أحوالكم الدالة على الضعف في الدين والحرص على الدنيا حين أمرتم بالجهاد الذي هو عبارة عن إحراز كل خير وصلاح ودفع كل شر وفساد وأنتم مأمورون شأنكم الطاعة والقول المعروف يتوقع منكم إذا أطلقت أعنتكم ، وصرتم آمرين ما ذكر من الإفساد وقطع الأرحام والرحم رحم المرأة ، وهو منبت الولد ووعاؤه في البطن ، ثم سميت القرابة ، والوصلة من جهة الولاد رحماً بطريق الاستعارة لكونهم خارجين من رحم واحد ، وقرأ عليّ رضي الله عنه : إن توليتم بضم تاء وواو وكسر لام ؛ أي : ولي عليكم الظلمة ملتم معهم وعاونتموهم في الفتنة ، كما هو المشاهد في هذا الإعصار.
وقال أبو حيان : الأظهر أن المعنى إن عرضتم أيها المنافقون عن امتثال أمر الله في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم ؛ لأن من أرحامكم كثيراً من المسلمين ، فإذا لم تعينوهم قطعتم أرحامكم.
{أولئك} إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذاناً بأن ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ؛ أي : أبعدهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم.
والإصمام : (كركردن).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ} لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق والإعماء : (كور كردن).
قيل : لم يقل أصم آذانهم ؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الآذان ذهاب السماع ، فلم يتعرض لها ، ولم يقل أعماهم ؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأبصار ، وهي الأعين ذهاب الأبصار.
قال سعدي المفتي : إصمام الآذان غير إذهابها ، ولا يلزم من أحدهما الآخر والصمم والعمى يوصف بكل منهما الجارحة ، وكذلك مقابلهما من السماع والإبصار ، ويوصف به صاحبها في العرف المستمر.
وقد ورد التنزيل على الاستعمالين.
اختصر في الإصمام ، وأطنب في الإعماء مع مراعاة الفواصل.
وفي الآية إشارة إلى أهل الطلب وأصحاب المجاهدة إن أعرضتم عن طلب الحق أن تفسدوا في أرض قلوبكم بإفساد استعدادها لقبول الفيض الإلهي وتقطعوا أرحامكم مع أهل الحب في الله ، فتكونوا في سلك أولئك الذين ، إلخ.
وهذا كما قال الجنيد قدس سره : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ، ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته
517
أكثر مما ناله.
يقول الفقير : وقع لي في الحرم النبوي على صاحبه السلام : أني قعدت يوماً عند الرأس المبارك على ما هو عادتي مدة مجاورتي.
فرأيت بعض الناس يسيئون الأدب في تلك الحضرة الجليلة ، وذلك من وجوه كثيرة ، فغلبني البكاء الشديد ، فإذا هذه الآية تقرأ على أذني أولئك الذين لعنهم الله ، يعني أن المسيئين للأدب في مثل هذا المقام محرومون من درجات أهل الآداب الكرام.
وفي المثنوي :
از خدا جوييم توفيق أدب
بى أدب محروم كشت از لطف رب
بى ادب تنها نه خودرا داشت بد
بلكه آتش در همه آفاق زد
هركه بى باكى كند در راه دوست
رهزن مردان شده نامرد اوست
{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِه رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءا بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ كَذَالِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ} .
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} التدبر النظر في دبر الأمور وعواقبها ؛ أي : ألا يلاحظون القرآن ، فلا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا في المعاصي الموبقة {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} ، فلا يكاد يصل إليها ذكر أصلاً ، وبالفارسية : (بلكه بر دلهاى ايشان است قفلهاى آن يعنى جيزى كه دلهارا بمنزلة قفلها باشد وآن ختم) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/403)
وطبع الهيست بران
دركه خدابست بروى عباد
هيج كليدش نتواند كشاد
قفل كه اوبر در دلها زند
كيست كه بردارد ودرواكند
والأقفال : جمع قفل بالضم ، وهو الحديد الذي يغلق به الباب ، كما في "القاموس".
قال في "الإرشاد" : أم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ بعدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر والهمزة للتقرير وتنكير القلوب ، إما لتهويل حالها وتفظيع شأنها بإبهام أمرها في الفساد والجهالة ؛ كأنه قيل على قلوب منكرة لا يعرف حالها ، ولا يقادر قدرها في القسوة.
وإما لأن المراد قلوب بعض منهم ، وهم المنافقون وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة التي من الحديد إذ هي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح.
وفي "التأويلات النجمية" : أفلا يتدبرون القرآن ، فإن فيه شفاء من كل داء ليفضي بهم إلى حسن العرفان ويخلصهم من سجن الهجران أم على قلوب أقفالها ، أم قفل الحق على قلوب أهل الهوى ، فلا يدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، ولا يحصل لهم فهم الخطاب ، وإذا كان الباب متقفلاً فلا الشك ، والإنكار الذي فيها يخرج ولا الصدق واليقين الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم ، انتهى.
(نقلست كه بشرحا في قدس سره بخانه خواهر او بيامد كفت اى خواهر بريام ميشوم وقدم بنهادوباى جند بر آمد وبيستاد وتاروز همجينان ايستاده بود جون روزشد فرود آمد ونيماز جماعت رفت بامداد باز آمد خواهرش برسيدكه ايستادن تراسبب جه بود كفت درخاطرم آمد در بغداد جندين كس اندكه نام ايشان بشرست يكى جهود ويكى ترسا ويكى مع مرا نام بشراست وبجنين دولتى رسيده واسلام يافنه درين حيرت مانده بودم كه ايشان جه كرده اندازين دولت محروم ماندند ومن جه كرده ام كه بدين دولت رسيدم).
يعني : أن انفتاح أقفال القلوب من فضل علام الغيوب ولا يتيسر لكل أحد مقام القرب والقبول ورتبة الشهود والوصول وعدم تدبر القرآن إنما هو من آثار الخذلان ومقتضيات الأعيان وإلا فكل طلب ينتهي إلى حصول إرب.
قال الصائب : (تواز فشاندن تخم اميد دست مدار.
كه دركرم نكندا ابرنو بهارا مساك).
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَـارِهِم} : الارتداد
518
والردة : الرجوع في الطريق الذي جاء منه.
لكن الردة تختص بالكفر والارتداد يستعمل فيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي غيره الأدبار جمع دبر ودبر الشيء خلاف القبل ، وكنى بهما عن العضوين المخصوصين ، والمعنى : أن الذين رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، وهم المنافقون الموصوفون بمرض القلوب وغيره من قبائح الأفعال والأحوال ، فإنهم قد كفروا به عليه السلام.
{مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} بالدلائل الظاهرة والمعجزات القاهرة {الشَّيْطَـانُ سَوَّلَ لَهُمْ} جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً ؛ لأن أي : سهل لهم ركوب العظائم من السول ، وهو الاسترخاء.
وقال الراغب : السول الحاجة التي تحرص عليها النفس والتسويل تزيين النفس لما تحرص عليه ، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن.
{وَأَمْلَى لَهُمْ} وأمد لهم في الأماني والآمال ، وقيل : أمهلهم الله ، ولم يعاجلهم بالعقوبة.
قال الراغب : الإملاء والإمداد ومنه قيل للمدة الطويلة : ملاوة من الدهر ، وملوة من الدهر.
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءا بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ كَذَالِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَـارُهُمْ وَلا أَفْـاِدَتُهُم مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بآيات اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَا بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ} .
(8/404)
{ذَالِكَ} الارتداد كائن {بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أن المنافقين المذكورين.
{قَالُوا} سراً.
{لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} ؛ أي : لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول عليه السلام مع علمهم ، بأنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم.
{سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامْرِ} ، وهو ما أفاده قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ونلا نطيع فيكم أحداً أبداً ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويودونهم ، وأرادوا بالبعض الذي أشاروا إلى عدم إطاعتهم فيه إظهار كفرهم وإعلان أمرهم بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارهم ، فإنهم كانوا يأبون ذلك قبل مساس الحاجة الضرورية الداعية إليه لما كان لهم في إظهار الإيمان من المنافع الدنيوية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} ؛ أي : إخفاءهم لما يقولون لليهود.
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة} ؛ أي : يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيلة ، فكيف يفعلون إذا قبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه؟ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ} بمقامع الحديد وأدبارهم وظهورهم وخلفهم.
قال الكاشفي : (مى زنند رويهاى ايشان كه از حق بكر دانيده اند ويشتهاى ايشان كه بر اهل حق كرده اند).
والجملة حال من فاعل توفتهم ، وهو تصوير لتوفيهم على أهوال الوجوه وأفظعها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره.
{ذَالِكَ} التوفي الهائل.
وبالفارسية : (اين قبض ارواح ايشان بدين وصف).
{بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أنهم {اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} من الكفر والمعاصي ، يعني : (متابعت كردند آن جيزى راكه بخشم أورد خداى تعالى را يعنى موجب غضب وى كردد).
{وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} ؛ أي : ما يرضاه من الإيمان والطاعة حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع اليهود.
{فَأَحْبَطَ} لأجل ذلك {أَعْمَـالَهُمْ} التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات ، أو بعد ذلك من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها ، فالكفر والمعاصي سبب لإحباط الأعمال وباعث على العذاب والنكال.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الفاجر تنسل روحه كالسفود من الصوف المبلول والميت الفاجر يظن أن بطنه قد ملئت شوكاً ، وكان نفسه يخرج من ثقب أبرة ، وكأنما السماء انطبقت على لأرض ، وهو بينهما ، ولهذا سئل كعب الأحبار عن الموت ، فقال : كغصن شجر ذي شوك
519
أدخل في جوف رجل ، فجذبه إنسان شديد البطش ذو قوة فقطع ما قطع ، وأبقى ما أبقى.
وقال النبي عليه السلام : "لسكرة من سكرات الموت أمر من ثلاثمائة ضربة بالسيف وعند وقت الهلاك يطعنه الملائكة بحربة مسمومة قد سقيت سماً من نار جهنم ، فتفر النفس وتنقبض خارجة فيأخذها الملك في يده ، وهي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر النخلة شخصاً إنسانياً يناولها الملائكة الزبانية ، وهي ملائكة العذاب.
هذا حال الكافر والفاجر ، وأما المؤمن المطيع ، فعلى خلاف هذا ؛ لأنه أهل الرضا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال ميمون بن مهران : شهدت جنازة ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف ، فلما وضع على المصلى ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى وقع على أكفانه ، ثم دخل فيها ، فالتمس ، ولم يوجد فلما سوي عليه سمعنا صوتاً ، وما رأينا شخصاً يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ، فعلى العاقل أن يتهيأ للموت ، ولا يضيع الوقت.
قال الصائب :
تراكر حاصل هست ازحيات خود غنيمت دان
كه من از حاصل دوران غم بى حاصلى دارم
{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَا بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى} .
(8/405)
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ؛ أي : المنافقون ، فإن النفاق مرض قلبي كالشك ونحوه.
{أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَـانَهُمْ} ، فأم منقطعة وأن مخففة من أن والأضغان جمع ضغن بالكسر ، وهو الحقد ، وهو إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها وبه شبه الناقة ، فقالوا : ذات ضغن.
والمعنى : بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن لن يخرج الله أحقادهم ، ولن يبرزها لرسول الله وللمؤمنين ، فتبقى أمورهم مستورة ؛ أي : أن ذلك مما يكاد يدخل تحت الاحتمال.
وفي بعض الآثار : لا يموت ذو زيغ في الدين حتى يفتضح ، وذلك لأنه كحامل الثوم ، فلا بد من أن تظهر رائحته ، كما أن الثابت في طريق السنة كحامل المسك إذ لا يقدر على إمساك رائحته.
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خودفاش كردد ببوى
{وَلَوْ نَشَآءُ} إراءتهم.
وبالفارسية : (واكر ماخواهيم).
{لارَيْنَـاكَهُمْ} لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية.
{فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـاهُمْ} بعلامتهم التي نسمهم بها.
قال في "القاموس" : السومة بالضم ، والسمية والسيما والسيميا بكسرهن العلامة وذكر في السوم.
وعن أنس رضي الله عنه ما خفي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم.
ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكون فيهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى وجه كل منهم مكتوب هذا منافق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي "عين المعاني" : وعلى جبهة كل واحد مكتوب كهيئة الوشم : هذا منافق واللام لام الجواب كررت في المعطوف للتأكيد والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ} : اللام جواب قسم محذوف ولحن القول فحواه ، ومعناه وأسلوبه أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية ، يعني : (بشناسى توايشازا در كردانيدن سخن از صوب صواب بجهت تعريض وتوريت).
ومنه قيل للمخطىء لاحن لعدله بالكلام عن سمت الصواب.
وفي الحديث : "لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" أي أذهب بها في الجهات.
قال في "المفردات" : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه ، إما بإزالة الإعراب أو التصحيف ، وهو المذموم ، وذلك أكثر استعمالاً ، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى ، وهو محمود من حيث البلاغة عند أكثر الأدباء ، وإليه قصد بقول الشاعر ، فخير الأحاديث ما كان
520
لحناً ، وإياه قصد بقوله : ولتعرفنهم في لحن القول ، ومنه قيل : للفطنة لما يقتضي فحوى الكلام لحن.
انتهى.
وفي "المختار" : اللحن : الخطأ في الإعراب ، وبابه قطع ، واللحن بفتح الحاء الفطنة ، وقد لحن من باب طرب.
وفي الحديث : "لعل أحدكم ألحن بحجته" ؛ أي : أفطن بها.
انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب ، ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب.
قال بعض الكبار : الأكابر والسادات يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه ؛ لأن الله يقول : ولتعرفنهم في لحن القول {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـالَكُمْ} ، فيجازيكم بحسب قصدكم ، وهذا وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين.
وفي الآية إشارة إلى أن من مرض القلوب الحسبان الفاسد والظن الكاذب ، فظنوا أن الله لا يطلع على خبث عقائدهم ، ولا يظهره على رسوله ، وليس الأمر كما توهموه ، بل الله فضحهم وكشف تلبيسهم بالإخبار والتعريف مع أن المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف ينظر بنور التحقيق ، والنبي عليه السلام ينظر بالله ، فلا يستتر عليه شيء ، فالأعمال التي تصدر بخيانة النيات لها شواهد عليها ، كما سئل سفيان بن عيينة رحمه الله ، هل يعلم الملكان الغيب؟ فقال : لا ، فقيل له : فكيف يكتبان ما لا يقع من عمل القلب؟ فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه إذا هم العبد بحسنه فاح من فيه رائحة المسك ، فيعلمون ذلك ، فيكتبونها حسنة ، فإذا هم بسيئة استقر عليها قلبه فاح منه ريح النتن ، ففي كل شيء شواهد ألا ترى أن الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله كان إذا قدم له طعام فيه شبهة ، ضرب عرقه على أصبعه وكأم أبي يزيد السبطامي رحمهما الله ما دامت حاملاً بأبي يزيد لا تمتد يدها إلى طعام حرام ، وآخر ينادي ، ويقال له : تورع وآخر يأخذه الغثيان ، وآخر يصير الطعام أمامه دماً ، وآخر يرى عليه سواداً ، وآخر يراه خنزيراً إلى أمثال هذه المعاملات التي خص الله بها أولياءه وأصفياءه ، فعليك بالمراقبة مع الله والورع في المنطق ، فإنه من الحكمة ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/406)
قال مالك بن أنس رضي الله عنه : من عد كلامه من عمله ، قل كلامه ، والتزم أربعة الدعاء للمسلمين بظهر الغيب وسلامة الصدر وخدمة الفقراء ، وكان مع كل أحد على نفسه قال بعض الكبار : أنصت لحديث الجليس ، ما لم يكن هجراً ، فإن كان هجراً ، فانصحه في الله إن علمت منه القبول ، بألطف النصح ، وإلا فالاعتذار في الانفصال ، فإن كان ما جاء به حسناً ، فحسن الاستماع ، ولا تقطع عليه حديثه :
سخن را سرست اى خرد مندوبن
مياور سخن درميان سخن
خداوند تدبير وفرهنك وهوش
نكويت سخن تانبيند خموش
{قَالُوا يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يا قَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِه يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ وَلَيْسَ لَه مِن دُونِه أَوْلِيَآءُا أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} .
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} بالأمر بالقتال ونحوه من التكاليف الشاقة إعلاماً لا استعلاماً أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العذاب.
{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ} على مشاق الجهاد علماً فعلياً يتعلق به الجزاء.
وقد سبق تحقيق المقام بما لا مزيد عليه من الكلام.
{وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} الإخبار بمعنى المخبر بها ؛ أي : ما يخبر به عن أعمالكم ، فيظهر حسنها وقبحها ؛ لأن الخبر على حسب المخبر عنه إن حسناً فحسن وإن قبيحاً فقبيح.
ففيه إشارة إلى أن بلاء الإخبار كناية عن بلاء الأعمال.
قال الكاشفي : (نامى از ماييم خبرها شمارا كه ميكوييد درايمان يعنى تاصدق وكذب آن همه آشكارا شود).
وكان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبلنا ،
521
فإنك إن بلوتنا هتكت أستارنا وفضحتنا.
وفيه إشارة إلى أنه بنار البلاء يخلص إبريز الولاء.
قيل : البلاء للولاء كاللهب للذهب ، فإن الابتلاء والامتحان نتبين جواهر الرجال ، فيظهر المخلص ويفتضح المنافق ، وعند الامتحان يكرم الرجل ، أو يهان ، والله تعالى عالم بخصائص جواهر الإنسان من الأزل إلى الأبد ؛ لأنه خلقها على أوصافها من السعادة والشقاوة ، ألا يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير وبتغير أحوال الجواهر في الأزمان المختلفة لا يتغير علم الله ، فإنه تعالى يراهم في حالة واحدة ، وتغيرات الأحوال كلها ، كما هي بحيث لا يشغله حالة عن حالة ، وإنما يبلو للإعلام والكشف عن حقيقة الحال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال بعض الكبار : العارفون يعرفون بالأبصار ما تعرفه الناس بالبصائر ، ويعرفون بالبصائر ما لم يدرك أحد في النادر ، ومع ذلك ، فلا يأمنون على نفوسهم من نفوسهم ، فكيف يأمنون على نفوسهم من مقدورات ربهم؟ مما يقطع الظهور ، وكان الشيخ عبد القادر الجبيلي قدس سره يقول : أعطاني الله تعالى ثلاثي عهداً وميثاقاً أن لا يمكر بي ، فقيل له : فهل آمنت مكره بعد ذلك ، فقال : حالي بعد ذلك كحالي قبل العهد ، والله عزيز حكيم ، فإذا كان حال العارف الواقف هكذا فما حال الجاهل الغافل ، فلا بد من اليقظة :
بر غفلت سياه دلان خنده مى زند
غافل مشو زخنده دندان نماى صبح
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} ؛ أي : منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : عن دين الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى.
{وَشَآقُّوا الرَّسُولَ} وعادوه وخالفوه وصاروا في شق غير شقه.
والمخالفة أصل كل شر إلى يوم القيامة.
{مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} بما شاهدوا نعته عليه السلام في التوراة ، وبما ظهر على يديه من المعجزات ، ونزل عليه من الآيات ، وهم قريظة والنضير ، أو المطعمون يوم بدر وهم رؤساء قريش.
{لَن يَضُرُّوا اللَّهَ} بكفرهم وصدهم {شَيْـاًا} من الأشياء يعني : (زيانى نتواند رسانيد خدا يرا جيزى يعنى از كفر ايشان اثر ضررى بدين خداى وبيغمبر او نرسد بلكه شرر آن شر بديشان عائد كردد).
أو شيئاً من الضرر ، أو لن يضروا رسول الله بمشاقته شيئاً ، وقد حذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته.
{وَسَيُحْبِطُ} السين لمجرد التأكيد {أَعْمَـالَهُمْ} ؛ أي : مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله ، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا يتم لهم إلا القتل كما لقريظة وأكثر المطعمين ببدر والجلاء عن أوطانهم كما للنضير.
(8/407)
{وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ وَلَيْسَ لَه مِن دُونِه أَوْلِيَآءُا أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في العقائد والشرائع كلها ، فلا تشاقوا الله ورسوله في شيء منها.
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ} ؛ أي : بمثل ما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق والرياء والمن والأذى والعجب وغيرها.
وفي الحديث : "إن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" :
در هر عملى كه عجب ره يافت
رويشن زره قبول بر تافت
اى كشته بكار خويش مغرور
وزدركه قرب كشته مهجور
تاجند زعجب وخود نمايى
وزد بدبه منى ومايى
معجب مشو از طريق تلبيس
كز عجب بجه فتاد إبليس
وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر على ما زعمت المعتزلة والخوارج ، فإن جمهورهم على أن بكبيرة واحدة تحبط جميع الطاعات ، حتى أن من عبد الله طول عمره ، ثم شرب جرعة من خمر ، فهو كمن لم يعبده قط.
وفي الآية إشارة إلى أن كل عمل وطاعة ، لم يكن بأمر الله وسنة
522
رسوله ، فهو باطل لم يكن له ثمرة ؛ لأنه صدر عن الطبع ، والطبع ظلماني ، وإنما جاء لشرع ، وهو نوراني ليزيل ظلمة الطبع بنور الشرع ، فيكون مثمراً وثمرته أن يخرجكم من الظلمات إلى النور ؛ أي : من ظلمات الطبع إلى نور الحق فعليك بالإطاعة واستعمال الشريعة وإياك والمخالفة والإهمال : (نقلست كه احمد حنبل وشافعي رضي الله عنها نشسته بودند حبيب عجمى از كوشه در آمد أحمد كفت من اورا سؤالى كنم شافعى كفت ايشانرا سؤال نشايد كردكه ايشان قومى عجب باشند احمد كفت جاره نيست جون حبيب فرا رسيد احمد كفت جه كويى در حق كسى كه ازين بنج نماز يكى ازو فوت شده است ونمى داندكه كدامست حبيب كفت هذا قلب غفل عن الله فليؤدب يعنى اين دل كسى بودكه از خداوند غافل بود اورا ادب بايد كرد در جواب او متحير شد شافعى كفت نكفتم كه ايشانرا شؤال نشايد كرد).
والجواب في الشريعة أن يقضي صلاة ذلك اليوم ، فالتي توافقها تكون قضاء لها ، والبواقي من النوافل نسأل الله الإطاعة والانقياد في كل حال على الاطراد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله تعالى ورسوله {وَصُدُّوا} الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الموصل إلى رضاه {ثُمَّ مَاتُوا} وفارقوا الدنيا {وَهُمْ كُفَّارٌ} : الواو : للحال.
{فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} في الآخرة ؛ لأنهم ماتوا على الكفر ، فيحشرون على ما ماتوا عليه ، كما ورد : "تموتون كما تعيشون وتحشرون كما تموتون" ، وهو حكم يعم كل من مات على الكفر ، وإن صح نزوله في أصحاب القليب ، وهو كأمير البئر ، أو العادية القديمة منها ، كما في "القاموس".
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والمراد : البئر التي طرح فيها جيف الكفار المقتولين يوم بدر ، وأما البئر التي سقي منه المشركون ذلك اليوم ، وهي بئر لماء ، فهي منتنة الآن ، سمعته من بعض أهل بدر حين مروري بها.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَـاغٌ} .
{فَلا تَهِنُوا} من الوهن وهو الضعف.
والفاء فصيحة ؛ أي : إذا تبين لكم بما يتلى عليكم أن الله عدوهم يبطل أعمالهم ، فلا يغفر لهم ، فلا تهنوا ؛ أي : لا تضعفوا فإن من كان الله عليه لا يفلح {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} مجزوم بالعطف على تهنوا ، والسلم بفتح السين وكسرها لغتان بمنى الصلح ؛ أي : ولا تدعوا الكفار إلى الصلح فوراً ، فإن ذلك فيه ذلة ، يعني : (طلب صلح مكنيد از ايشان كه نشأنه ضعف وتذلل شما بود).
(8/408)
{وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} جمع الأعلى بمعنى ، الأغلب أصله : أعليون فكرهوا الجمع بين أخت الكسرة والضمة ؛ أي : الأغلبون.
وقال الكلبي : آخر الأمر لكم ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وهي جملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الانتهاء ، وكذا قوله تعالى : {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} ، فإن كونهم الأغلبين وكونه تعالى معهم ؛ أي : ناصرهم في الدارين من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة ، وكذا توفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يعرب عنه قوله تعالى : {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ} : (الوتر كم وضائع كردن) ؛ أي : ولن يضيعها من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم ، فأفردته منه من الوتر الذي هو الفرد.
وفي "القاموس" : وتر الرجل أفزعه وأدركه بمكروه ووتره ماله نقصه إياه انتهى ، وعبر عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة أبرز الغاية اللطف بتصوير الصواب بصورة الحق المستحق ، وتنزيل ترك الإثابة بمنزلة إضاعة
523
أعظم الحقوق وإتلافها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الحديث : "إنما هي أعمالكم ثم أؤديكم إياها" ، وهي ضمير القصة ، يعني ما جزاء أعمالكم إلا محفوظ عندي لأجلكم ، ثم أؤديه إليكم وافية كاملة.
وعن أبي ذر رضي الله عنه رفعه يقول الله تعالى : إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادي ، فلا تظالموا ، فإذا كان الله منزهاً عن الظلم ونقص جزاء الأعمال ، فليطلب العبد نفساً ، بل لا ينبغي له أن يطلب الأجر ؛ لأن الله تعالى أكرم الأكرمين ، فيعطيه فوق مطلوبه :
توبندكى جو كدايان بشرط مزدمكن
كه دوست خود روش بنده برورى داند
وفي المثنوي :
عاشقانرا شادمانى وغم اوست
دست مزد واجرت خدمت هم اوست
غير معشوق از تماشايى بود
عشق نبود هرزه سودايى بود
عشق آن شعله است كوجون بر فروخت
هرجه جز معشوق باقى جمله سوخت
قال أبو الليث رحمه الله في "تفسيره" : وفي الآية دليل على أن أيدي المسلمين إذا كانت عالية على المشركين لا ينبغي أن يجيبوهم إلى الصلح ؛ لأن فيه ترك الجهاد ، وإن لم تكن يدهم عالية ، فلا بأس بالصلح لقوله تعالى : {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال : 61) ؛ أي : وإن مالوا إلى الصلح ، فمل إليه ، وكذا قال غيره.
هذا نهي للمسلمين عن طلب صلح الكافرين.
قالوا : هو دليل على أنه عليه السلام لم يدخل مكة صلحاً ؛ لأنه نهى عن الصلح.
وكذا قال الحدادي في "تفسيره" في سورة النساء : لا يجوز مهادنة العدو وترك أحد منهم على الكفر من غير جزية إذا كان بالمسلمين قوة على القتال وأما إذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على أنفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها إليهم ؛ لأن حظر الموادعة كان بسبب القوة ، فإذا زال السبب زال الخطر.
انتهى.
والجمهور : على أن مكة فتحت عنوة ؛ أي : قهراً لا صلحاً لوقوع القتال بها ، ولو كان صلحاً لما قال عليه السلام : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" إلى آخر الحديث.
{إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} عند أهل البصيرة {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور لا اعتبار بها ولا ثبات لها إلا أياماً قلائل.
وبالفارسية : (جزاين نيست كه زندكانى دنيا بازيست نابايدار ومشغولى بى اعتبار) يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً ، واللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.
وفي الخبر أن الله تعالى خلق ملكاً وهو يمد لا إله من أول الدنيا ، فإذا قال : إلا الله قامت القيامة.
وفيه إشارة إلى أن الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها لا وجود لها في الحقيقة ، وإنما هي أمر عارض زائل ، والله هو الأزلي الأبدي {وَإِن تُؤْمِنُوا} أيها الناس بما يجب به الإيمان {وَتَتَّقُوا} عن الكفر والمعاصي {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} ؛ أي : ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الآية حث على طلب الآخرة العلية الباقية وتنفير عن طلب الدنيا الدنية الفانية :
مكن تكيه بر ملك وجاه وحشم
كه بيش از تو بودست وبعد از توهم
بدنيا توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حسرت خورى
{وَلا يَسْـاَلْكُمْ} ؛ أي : الله تعالى {أَمْوَالَكُمْ} الجمع المضاف من صيغ العموم ، فالمراد : جميع أموالكم بحيث يخل أداؤها بمعاشكم ، إنما اقتصر على شيء قليل منها ، وهو ربع العشر ، أو العشر تؤدونها إلى فقرائكم ، فطيبوا بها نفساً.
(8/409)
{إِن يَسْاَلْكُمُوهَا} أَمْوَلَكُمْ * ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَنَكُمْ * هَآ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَلَكُم} ؛ أي : أموالكم {فَيُحْفِكُمْ} ؛ أي : يجهدكم بطلب الكل.
وبالفارسية : (بس مبالغه كند درخواستن يعنى كويد همه ارا نفقه كنيد).
وذلك
524
فإن الإحفاء والإلحاف : المبالغة بلوغ الغاية ، يقال : أحفى شاربه ؛ أي : استأسله ؛ أي : قطعه من أصله.
{تَبْخَلُوا} بها فلا تعطوا {وَيُخْرِجْ} ؛ أي : الله تعالى ويعضد القراءة بنون العظمة ، أو البخل ؛ لأنه سبب الأضغان.
{أَضْغَانَكُمْ} ؛ أي : أحقادكم.
وقد سبق تفسيره في السورة.
قال في "عين المعاني" ؛ أي : يظهر أضغانكم عند الامتناع.
وقال قتادة : علم الله أن ابن آدم ينقم ممن يريد ماله.
ويقال : ويخرج ما في قلوبكم من حب المال.
وهذه المرتبة لمن يوقى شح نفسه ، فأما الأحرار عن رق الكونين ، ومن علت رتبتهم في طلب الحق ، فلا يسامحون في استبقاء ذرة ويطالبون ببذل الروح والتزام الغرامات ، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم} ها : تنبيه بمعنى : (آكاه باشيد وكوش داريد).
وأنتم : كلمة على حدة وهو مبتدأ خبره قوله : {هَاؤُلاءِ} : أي أنتم أيها المخاطبون ، هؤلاء الموصوفون ، يعني في قوله تعالى : {إِن يَسْاَلْكُمُوهَا} ، الآية.
{تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} استئناف مقرر لذلك حيث ذل على أنهم يدعون لإنفاق بعض أموالهم في سبيل الله ، فيبخل ناس منهم أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين ؛ أي : ها أنتم الذين تدعون ، ففيه توبيخ عظيم وتحقير من شأنهم ، والإنفاق في سبيل الله يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما.
{مَّن يَبْخَلُ} بالرفع لأن من هذه ليست بشرط أي ناس يبخلون ، وهو في حيز الدليل على الشرطية الثانية كأنه قيل : الدليل عليه إنكم تدعون إلى أداء ربع العشر فمنكم ناس يبخلون به {وَمَن يَبْخَلْ} بالجزم ؛ لأن من شرط {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} فإن كلا من نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه ، والبخل يستعمل بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدي ؛ أي : فإنما أمسك الخير عن نفسه بالبخل {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ} عنكم وعن صدقاتكم دون من عداه {وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} إليه وإلى ما عنده من الخير ، فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع ، فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
قال الجنيد قدس سره : الفقر يليق بالعبودية والغنى يليق بالربوبية ، ويلزم الفقر من الفقر أيضاً ، وهو الغنى التام ، ولذلك قال ابن مشيش للشيخ أبي الحسن الشاذلي قدس الله سرهما : لئن لقيته بفقرك لتلقينه بالصنم الأعظم ، وبتمام الفقر يصح الغنى عن الغير ، فيكون متخلقاً بالغنى.
وفي "التأويلات النجمية" : والله الغني لذاته بذاته ، ومن غناه تمكنه من تنفيذ مراده واستغناؤه عما سواه وأنتم الفقراء إلى الله في الابتداء ليخلقكم.
وفي الوسط ليربيكم ، وفي الانتهاء ليغنيكم عن أنانيتكم ويبقيكم بهويته ، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد :
مراورا رسد كبريا ومنى
كه ملكش قديسمت وذاتش غنى
ولما كان الله غنياً جواداً أحب أن يتخلق بأخلاقه فأمرهم بالبذل والإنفاق ، فإن السخاء سائق إلى الجنة والرضى والقربة : (در خبر ست كه خالد بن وليد از سفرى بازآمد ازجانب روم وجماعتى ازايشان اسير آورده رسول عليه السلام برايشان اسلام عرضه كرد قبول نكردند بفرمود تاجند كس را ازايشان بكشتند بآخر جوانى را بياوردندكه اورابكشند خالد ميكويد تيغ بركشيدم تابزنم رسول عليه السلام كفت آن يكى رامزان يا خالد كفتم يا رسول الله درميان اين قوم هيج كس در كفر قوى ترازين جوان نبوده است رسول
525
فرمود جبريل امده وميكويد كه اين يكى رامكش كه او درميان قوم خويش جوانمرد بوده است وجوا نمردرا كشتن روانيست آن جوان كفت جه بوده است كه مرابياران خود نرسانيديد كفتند درحق تووحى آمده است اى بشير ترا درين سراى با كافر جوانمرد عتاب نيست ومارا دران سراى با مؤمن جوا نمرد حساب نيست آن جوان كفت اكنون بدانستم كه دين شما حقست وراست ايمان برمن عرضه كنيد كه از جوانمردى من جز قوم من خبر ندا شتند اكنون يقين همى دانم كه اين سيد راست كويست أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله بس رسول خدا فرمودكه آن جوانمرد خلعت ايمان ببركت جوا نمردى يافت) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
جوانمرد اكر راست خواعى وليست
كرم بيشه شاه مردان عليست
{وَإِن تَتَوَلَّوْا} عطف على أن تؤمنوا ؛ أي : وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى وعما دعاكم إليه ورغبكم فيه من الإنفاق في سبيله.
{يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ؛ أي : يذهبكم ويخلق مكانكم قوماً آخرين {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} في التولي عن الإيمان والتقوى والإنفاق ، بل يكونوا راغبين فيها وكلمة ثم للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب لتقارب الناس في الأحوال ، واشتراك الجل في الميل إلى المال ، والخطاب في تتولوا لقريش والبدل الأنصار ، وهذا كقوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ، أو للعرب والبدل : العجم وأهل فارس.
كما روي أنه عليه السلام سئل عن القوم ، وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا ؛ أي : معلقاً بالنجم المعروف لتناوله رجال من فارس ، فدل على أنهم الفرس الذين أسلموا ، وفيه فضيلة لهذه القبيلة.
وفي الحديث : "خيرتان من خلقه في أرضه : قريش خيرة الله من العرب ، وفارس خيرة الله من العجم" ، كما في "كشف الأسرار" : (ودر لباب آوردكه أبو الدرداء رضي الله عنه بعد از فرائت اين آيت مى كفت ابشروا يا بني فروخ ومراد بارسيانند).
قال في "القاموس" : فروخ كتنور أخو إسماعيل وإسحاق أبو العجم الذين في وسط البلاد ، انتهى.
وفيه إشارة إلى منقبة قوم يعرفون (بخواجكان) ونحوهم من كبار أهل الفرس وعظماء أهل الله منهم ، وهم كثيرون.
ومنهم : الشيخ سعدي الشيرازي.
وقد تقطب من الفجر إلى الظهر ثم تركه باختياره على ما في "الواقعات المحمودية" ، ثم هذا يدل على أنتعالى قد استبدل بأولئك الكفار غيرهم من المؤمنين.
وقيل : معناه : وإن تتولوا كلكم عن الإيمان ، فحينئذٍ يستبدل غيركم.
قال تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الزخرف : 33) ، الآية.
قال بعضهم : لا يستقر على حقيقة بساط العبودية إلا أهل السعادة ألا تراه يقول : {وَإِن تَتَوَلَّوْا} ، الآية.
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان خلق ملولاً غير ثابت في طلب الحق وإن من خواصهم من يرغب في طلب الحق بالجد والاجتهاد من حسن استعداده الروحاني ، ثم في أثناء السلوك بمجاهدة النفس ومخالفة هواها بظمأ النهار وسهر الليل تمل النفس من مكايده الشيطان وطلب الرحمة ، فيتولى عن الطلب بالخذلان ، ويبتلى بالكفران إن لم يكن معاناً بجذبة العناية وحسن الرعاية ، فالله تعالى قادر على أن يستبدل به قوماً آخرين في الطلب صادقين وعلى قدم العبودية ثابتين وقد داركتهم جذبات العناية موفقين للهداية ، وهم أشد رغبة وأعز رهبة منكم ، ثم لا يكونوا أمثالكم في الإعراض
526
بعد الإقبال والإنكار بعد الإقرار وترك الشكر والثناء ، بل يكونوا خيراً منكم في جميع الأحوال إظهاراً للقدرة على ما يشاء والحكمة فيما يشاء كذا في "التأويلات النجمية".
527
جزء : 8 رقم الصفحة : 496(8/410)
تفسير سورة الفتح
جزء : 8 رقم الصفحة : 527
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
سورة الفتح سبع وعشرون آية مدنية بلا خلاف نزلت في رجع رسول الله عن مكة عام الحديبية وقال الزهري نزلت سورة الفتح من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة في شأن الحديبية قال البقاعي نزلت بضجنان بفتح الضاد المعجمة والجيم والنونين.
في القاموس ضبجنان كسكران جبل قرب مكة وفي إنسان العيون نزلت بكراع الغميم وهو موضع على ثلاثة أميال من عسفان وهو كعثمان موضع عن مرجلتين من مكة فإن قلت إذا لم تنزل بالمدينة كيف تكون مدنية قلت المدني في الاصطلاح ما نزل بعد الهجرة نزل بالمدينة أو غيرنا كما أن المكي ما نزل قبلها كما في حواشي سعدي المفتي {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحاً بحرب أو بدونه فإنه ما لم يظفر منغلق مأخوذ من فتح باب الدار قال في عين المعاني الفتح هو الفرج المزيل للهم لأن المطلوب كالمنغلق فإذا نيل انفتح وفي المفردات الفتح إزالة الإغلاق والإشكال وذلك ضربان أْدهما يدرك بالبصر نحو فتح الباب والغلق والغفل والمتاع نحو قوله ولما فتحوا متاعهم والثاني ما يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغم وذلك ضربان أحدهما في الأمور الدنيوية كغم يفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه والثاني فتح المستغلق من العلوم نحو قولك فلان فتح من العلم باباً مغلقاً انتهى وءسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقاً وإيجاداً والمراد فتح مكة وهو المروي عن أنس رضي الله عنه بشربه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند انصرافه من الحديبية والتعبير عنه بصيغة الماضي على سنن سائر الأخبار الربانية للإيذان تحققه لا محالة تأكيداً للتبشير كما أن تصدير الكلام بحرف التحقيق كذلك وفيه من الفخامة
2(9/1)
المنبئة عن عظمة شأن المخبر جل جلاله وعز سلطانه ما لا يخفى وحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح قال الإمام الراغب إنا فتحنا لك يقال عنى فتح مكة ويقال بل عنى ما فتح على النبي عليه السلام من العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقام المحمود التي صارت سبباً لغفران ذنوبه انتهى وسيجيء غير هذا {فَتْحًا مُّبِينًا} أي بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقاً بين الحق والباطل وقال بعضهم المراد بالفتح المبين هو الصلح مع قريش في غزوة الحديبية وهي كدوهية وقد تشدد بئر قرب مكة حرسها الله تعالى أو شجرة حدباء كانت هنالك كما في القاموس سمى المكان باسمها وسببها أنه صلى الله عليه وسلّم رأى في المنام أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين أي بعضهم محلق وبعضهم مقصر وإنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وطاف هو وأصحابه واعتمر وأخبر بذلك أصحابه فلرحوا ثم أخبر أصحابه أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر وخرج عليه السلام بعد أن اغتسل ببيته ولبس ثوبين وركب راحلته القصوى من عند بابه ومعه ألف وأربعمائة من المسلمين على الصحيح وأبطأ عليه كثير من أهل البوادي خشية قريش وساق عليه السلام معه العدى سبعين بدنة وكان خروجه يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة فلما وصل إلى ذي الحليفة وهو ميقات المدنيين صلى بالمسجد الذي ركعتين وأحرم بالعمرة وأحرم معه غالب أصحابه ومنهم من لم يحرم إلا من الجحفة وهو ميقات أهل الشام وإنما خرج معتمراً ليأمن أهل مكة ومن حولها من حربه وليعلموا أنه عليه السلام إنما خرج زائر للبيت فلما كان الأصحاب في بعض المحال أقبلوا نحوه عليه السلام وكان بين يديه ركوة يتوضأ منها فقال : مالكم فقالوا : يا رسول الله ليس عندنا ماء نشرب ولا ماء نتوضأ منه إلا في ركوتك فوضع رسول الله يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه الشريفة أمثال العيون فشربوا وتوضأوا حتى قال جابر رضي الله عنه : لو كنا مائة ألف فكفانا وهو أَجب من نبع الماء لموسى عليه السلام من الحجر فءن نبعه من الحجر متعارف معهود وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد وإنما لم يخرجه عليه السلام بغير ملامسة ماء تأدباً مع الله لأنه المنفرد بإبداع المعدومات من غير أصل وأرسل عليه السلام بشر بن سفيان إلى مكة عيناً له فلما كانوا بعسفان جاء وقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك فلبسوا جلود النمر أي أظهروا العداوة والحقد واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش وهي قبيلة عظيمة من العرب ومعهم زادهم ونساؤهم وأولادهم ليكون ادعى لعدم الفرار وقد نزلوا بذي طوى وهو موضع بمكة مثلث الطاء ويصرف كما في القاموس يعاهدون الله أن لا ندخلها عليهم عنوة أبداً فقال عليه السلام : أشيروا علي أيها الناس أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه وقال المقداد : يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فقال عليه السلام فامضوا على اسم الله فساروا ثم قال : هل من رجل يخرجنا عن طريق إلى غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم وهو ناجية بن جندب :
3
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/2)
أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقاً وعراً ثم أفضوا إلى أرض سهلة ثم أمر رسول الله أن يسلكوا طريقاً يخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكة فسلكوا ذلك الطريق فلما نزلوا بالحديبية نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ماء فاشتكى الناس إلى رسول الله العطش وكان الحر شديداً فأخرج عليه السلام سهماً من كنانته ودفعه إلى البراء بن عازب وأمره أن يغرزه في جوف البئر أو تمضمض رسول الله ثم مجه في البئر فجاش الماء ثم امتلأت البئر فشربوا جميعاً ورويت إبلهم وفي التفاسير ولم ينفد ماؤها بعد وفي "إنسان العيون" : فلما ارتحلوا من الحديبية أخذ البراء السهم فجف الماء كان لم يكن هناك شيء فلما اطمأن رسول الله بالحديبية أتاه بديل بن ورقاء وكان سيد قومه فسأله ما الذي جاء به فأخبره أنه لم يأت يريد حرباً إنما جاء زائراً للبيت فلما رجع إلى بريش لم يستمعوا وأرسلوا الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش فلم يعتمدوا عليه أيضاً وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي عظيم الطائف ومتمول العرب ولما قام عروة بالخبر من عنده عليه السلام وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يغسل يديه إلا ابتدروا وضوءه أي كادوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه أي يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ولا يجدون النظر إليه تعظيماً له فقال : يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه أخاف أن لا تنصروا عليه فقالت له قريش : لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور ولكن نرده عامنا هذا ونرجع من قابل فقال : ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة ثم انصرف هو ومن معه إلى الطائف وأسلم بعد ذلك ودعا عليه السلام خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش وحمله عليه السلام علي بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقر وأجمل رسول الله وأرادوا قتل خراش فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله وأخبره بما لقى ثم دعا رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وما بمكة من نبي عدي ابن كعب أحد بمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه فإن بني عمه يمنعونه فدعا عليه السلام عثمان فبعثه إلى أشراف قريش يخبرهم بالخبر وأمر عليه السلام عثمان أن يأتي رجالاً مسلمين بمكة ونساء مسلمات ويدخل عليهم ويخبرهم أن الله قرب أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة ومعه عشرة رجال من الصحابة بإذن رسول الله ليزوروا أهاليهم هناك فلقي عثمان قبل أن يدخل مكة أبان بن سعيد فأجازه حتى يبلغ رسالة رسول الله وجعله بين يديه فأتى عظماء قريش فبلغهم الرسالة وهم يرددون عليه أن محمداً لا يدخل علينا أبداً فلما فرغ عثمان من تبليغ الرسالة قالوا له : إن شئت فطف بالبيت فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام فبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل وكذا من معه من العشرة فقال عليه السلام لا نبرح حتى نناجز القوم أي نقاتلهم فأمره الله بالبيعة فنادى مناديه أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس
4
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
فأخرجوا على اسم الله فثاروا إلى رسول الله وهو تحت شجرة من أشجار السمر بضم الميم شجر معروف فبايعوه على عدم الفرار وإنه إما الفتح وإما الشهادة وبايع عليه السلام عن عثمان أي : على تقدير عدم صحة القوم بقتله فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال : اللهم إن هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك وسيجيء معنى المبايعة وقيل لها بيعة الرضوان لأن الله تعالى رضي عنهم وقال عليه السلام : "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وقال أيضاً : لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية" وأول من بايع سنان ابن أبي سنان الأسدي فقال للنبي عليه السلام : أبايعك على ما في نفسك؟ قال : وما في نفسير قال : اضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل وصار الناس يقولون : نبايعك على ما بايعك عليه سنان.
(9/3)
ـ روي ـ أن عثمان رضي الله عنه رجع بعد ثلاثة أيام فبايع هو أيضاً وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله فبعث قريش أربعين رجلاً عليهم مكرز بن حفص ليطوفوا بعسكر رسول الله ليلاً رجاء أن يصيبوا منهم أحداً ويجدوا منهم غرة أي غفلة فأخذهم محمد بن مسلمة إلا مكرزاً فإنه أفلت وأتى بهم إلى رسول الله فحبسوا وبلغ قريشاً حبس أصحابهم فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنبل والحجارة وقتل من المسلمين ابن رسم رمى بسهم فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلاً وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله جمعاف فيهم سهيل بن عمرو فلما رآه عليه السلام قال لأصحابه : سهل أمركم وكان يحب الفأل بمثل هذا فقال سهيل : يا محمد إن ما كان من حبس أصحابك أي عثمان والعشرة وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأى ذوي رأينا بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم وكان من سفهائنا فابعث إلينا من أصحابنا الذين أسروا أولاً وثانياً فقال عليه السلام : "إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي" فقالوا : نفعل فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك فبعثوا من كان عندهم وهو عثمان والعشرة فأرسل رسول الله أصحابهم ولما علمت قريش بهذه البيعة كبرت عليهم وخافوا أن يحاربوا وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل فيقيم ثلاثاً فبعثوا سهيل بن عمرو ثانياً ومعه مكرز بن حفص وحويط بن عبد العزي إلى رسول الله ليصالحه على أن يرجع من عامه هذا لئلا يتحدث العرب بأنه دخل عنوة ويعود من قابل فلما رآه عليه السلام مقبلاً قال : أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل أي ثانياً فالتأم الأمر بينهم على الصلح وإن كان بعض الأصحاب لم يرضوا به في أول الأمر حتى قالوا علام نعطي الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء النقيصة والخصلة المذمومة في ديننا وهم مشركون ونحن مسلمون فأشار عليه السلام بالرضى ومتابعة الرسول ثم دعا عليه السلام علياً فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : لا أعرف هذا أي الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم فكتبها لأن قريشاً كانت تقولها ثم قال رسول الله : "اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن غمرو" فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "امح رسول الله" فقال : والله ما أمحوك أبداً فقال : "أرنيه" فأراه إياه فمحاه رسول الله بيده الشريفة وقال : "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو وقال أنا والله رسول الله وإن كذبتموني وأنا محمد بن عبد الله وكان الصلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيه الناس ويكف
5
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/4)
بعضهم عن بعض ومن أني محمداً من قريش ممن هو على دين محمد بغير إذن وليه رده إليه ذكراً كان أو أنثى ومن أتى قريشاً ممن كان مع محمد أي مرتداً ذكراً كان أو أنثى لم ترده إليه" وسبب الأول أن في رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير له في الصلوة بالمسجد الحرام والطواف بالبيت فكان هذا من تعظيم حرمات الله وسبب الثاني أنه ليس من المسلمين فلا حاجة إلى رده وشرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة أي صدوراً منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة بل منطوية على الوفاء بالصلح وأنه لا إسلال ولا إغلال أي لا سرقة ولا خيانة قال سهيل : وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة وأنه إذا كان عام قابل خرج منها قريش فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثة أيام معك سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس لا تدخلها بغيرهما وكان المسلمون لا يشكون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت ذلك العام للرؤيا التي رآها رسول الله فلما رأوا الصلح وما تحمله رسول الله في نفسه دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون خصوصاً من اشتراط أن يرد إلى المشركين من جاء مسلماً منهم وكانت بيعة الرضوان قبل الصلح وأنها سبب الباعث لقريش عليه ولما فرغ رسول الله من الصلح وأشهد عليه رجالاً من المسلمين قام إلى هديه فنحره وفرق لحم الهدى على الفقراء الذين حضروا الحديبية وفي رواية بعث إلى مكة عشرين بدنة مع ناجية رضي الله عنه حتى نحرت بالمروة وقسم لحمها على فقراء مكة ثم جلس رسول الله في قبة من أديم أحمر فحلق رأسه خداش الذي بعض إلى قريش كما تقدم ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس تبركاً وأخذت أم عمارة رضي الله عنها طاقات منه فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ بإذن الله تعالى فلما رأوا رسول الله قد نحر رافعاً صوته باسم الله والله أكبر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون وقصر بعضهم كعثمان وأبي قتادة رضي الله عنهما وقال عليه السلام : "اللهم ارحم المحلقين دون المقصرين قال" قال : لأنهم لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت بخلاف المقصرين أي لأن الظاهر من حالهم أنهم أخروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوا بعد طوافهم وأرسل الله ريحاً عاصفة احتملت شعورهم فألقتها في قرب الحرم وإن كان أكثر الحديبية في الحرم فاستبشروا بقبول عمرتهم وأقام عليه السلام بالحديبية تسعة عشر أو عشرين يوماً ثم انصرف قافلاً إلى المدينة فلما كان بين الحرمين وأتى بكراع الغميم على ما في "إنسان العيون" وغيره أنزلت عليه سورة الفتح وحصل للناس مجاعة هموا أن ينحروا ظهورهم فقال عليه السلام : "ابسطوا أنطاعكم وعباءكم ففعلوا ثم قال : من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينشره" ودعا لهم ثم قال : "قربوا أوعيتكم" فأُذوا ما شاء الله وحشوا أوعيتهم وأكلوا حتى شبعوا وبقي مثله وقال عليه السلام لرجل من أصحابه : "هل من وضوء" بفتح الواو وهو ما يتوضأ به فجاء بأداوة وهي الركوة فيها ماء قليل فأفرغها في قدح ووضع راحته الشريفة في ذلك الماء قال الراوي : فتوضأنا كلنا أي الألف والأربعمائة نصبه صباً شديداً ولما أنزلت سورة الفتح قال عليه السلام لأصحابه : "أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وفي رواية لقد أنزلت علي
6
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
سورة ما يسرني بها حمر النعم والحمر بسكون الميم جمع أحمر والنعم بفتحتين تطلق على جماعة الإبل لا واحد لها من لفظها والمراد بحمر النعم الإبل الحمل وهي من أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منها ثم قرأ السورة عليهم وهنأهم وهنأوه يعني إيشانرا تهنيه كفت وأصحاب نيزويرا مبارك بادكفتند.
وتكلم بعض الصحابة وقال : هذا ما هو بفتح لقد صدونا عن البيت وصد هدينا فقال عليه السلام لما بلغه يئس الكلام بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم وسألوك القضية أي الصلح والتجأوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح أنسيتم يوم يحد وأنا أدعوكم في أخراكم أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون فقال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبأمره منا وقال له عمر رضي الله عنه : ألم تقل أنك تدخل مكة آمناً قال : بلى أفقلت لكم من عامي هذا قالوا لا قال : فهو كما قال جبريل فإنكم تأتونه وتطوفون به أي لأنه جاءه الوحي بمثل ما رأى وذكر بعضهم أنه عليه السلام لما دخل مكة في العام العاقل وحلق رأسه قال هذا الذي وعدتكم فلما كان يوم الفتح وأخذ المفتاح قال هذا الذي قلت لكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/5)
يقول الفقير : لا شك أن الأصحاب رضي الله عنهم لم يشكوا في أمر النبي عليه السلام ولم يكن كلامهم معه من قبيل الاعتراض عليه وإنما سألوه استعلاماً لما دخلهم شيء مما لا يخلو عنه البشر فإن الأمر عميق وإلا فأدنى مراتب الإرادة في باب الولاية ترك الاعتراض فكيف في باب النبوة ولله تعالى حكم ومصالح في إيراد إنا فتحنا بصيغة الماضي فإنه بظاهره ناطق بفتح الصلح وبحقيقته مشير إلى فتح مكة في الزمان الآتي وكل منهما فتح أي فتح وحاصل ما قال العلماء أنه سمي الصلح فتحاً مع أنه ليس بفتح لا عرفاً لأنه ليس بظفر على البلد ولا لغة لأنه ليس بظفر للمنغلق كيف وقد أحصروا ومنعوا من البيت فنحروا وحلقوا بالحديبية وأي ظفر في ذلك فالجواب أن الصلح مع المشركين فتح بالمعنى اللغوي لأنه كان منغلقاً ومتعذراً وقت نزولهم بالحديبية إلا أنه لما آل الأمر إلى بيعة الرضوان وظهر عند المشركين اتفاق كلمة المؤمنين وصدق عزيمتهم على الجهاد والقتال ضعفوا وخافوا حتى اضطروا إلى طلب الصلح وتحقق بذلك غلبة المسلمين عليهم مع أن ذلك الصلح قد كان سبباً لأمور أخر كانت منغلقة قبل ذلك منها إن المشركين اختلطوا بالمسلمين بسببه فسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في مدة قليلة خلق كثير كثر بهم سواد أهل الإسلام حتى قالوا دخل في تلك السنة في الإسلام مثل من دخل فيه قبل ذلك وأكثر وفرغ عليه السلام بهذا الصلح لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع خصوصاً خيبر واغتنم المسلمون واتفقت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس غلبت فيها الروم على فارس وكانت غلبتهم عليهم من دلائل النبوة حيث كان عليه السلام وعد بوقوع تلك الغلبة في بضع سنين وهو ما بين الثلاث إلى التسع فكانت كما وعد بها فظهر بها صدقه عليه السلام فكانت من جملة الفتح وسر به عليه السلام والمؤمنين لظهور أهل الكتاب على المجوس إلى غير ذلك من
7
فتوحات الله الجليلة ونعمه العظيمة {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} غاية للفتح من حيث أنه مترتب على سعيه عليه السلام في إعلاء كلمة الله مكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب قال بعضهم لما لم يظهر وجه تعليل الفتح بالمغفرة جعل الفتح مجازاً مرسلاً عن أسباب الفتح ليغفر لك فالفتح معلول مترتب على الأفعال المؤدية إلى المغفرة وإن المغرفة علة حاملة على تلك الأفعال فصح جعلها علة لما ترتب على تلك الأفعال وهو الفتح وجعل الزمخشري فتح مكة علة للمغفرة وهو أوفق للمذهب الحق لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض على مذهبم فليست اللام على حقيقتها بل هي إما للصيرورة والعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائبة في ترتبها على متعلقها وأيضاً أن العلة الغائبة لها جهتا علية ومعلولية على ما تقرر فلا لوم على من نظر إلى جهة المعلولية كالزمخشري لظهور صحته كما في حواشي سعدي المفتي والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه تعالى من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته تعالى قال ابن الشيخ في إظهار فاعل قوله ليغفر لك وينصرك إشعار بأن كل واحد من المغفرة والنصرة متفرع على الألوهية وكونه معبوداً بالحق والمغفرة ستر الذنوب ومحوها قال بعض الكبار : المغفرة أشد عند العارفين من العقوبة لأن العقوبة جزاء فتكون الراحة عقيب الاستيفاء فهو بمنزلة من استوفى حقه والغفران ليس كذلك فإنك تعرف أن الحق عليك متوجه وأنه أنعم عليك بترك المطالبة فلا تزال خجلاً ذا حياء ولهذا إذا غفر الله تعالى للعبد ذنبه أحال بينه وبين تذكره وأنساه إياه وأنه لو تذكره لاستحيى ولا عذاب على النفوس أعظم من الحياء حتى يود صاحب الحياء أنه لم يكن شيئاً كما قالت مريم الكاملة : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً هذ حياء من المخلوقين فكيف بالحياء من الله تعالى فيما فعل العبد من المخالفات ومن هذا الباب ما حكي أن الفضيل قدس سره وقف في بعض حجاته ولم ينطق بشيء فلما غربت الشمس قال : واسوأتاه وإن عفوت ، قال الصائب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
هركز نداد شرم مرا رخصت نكاه
در هجر ووصل روى بديوار داشتم
{مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين على ما قاله أبو سعيد الخراز قدس سره : وفي المثنوي :
آنكه عين لطف باشد برعوام
قهر شد برعشق كيشان كرام
(9/6)
قال بعضهم : أي جميع ما صدر منك قبل النبوة وبعدها مما يطلق عليه الذنب قال في شرح المواقف : حمله على ما تقدم على النبوة وما تأخر عنها لا دلالة للفظ عليه إذ يجوزان أن يصدر عنه قبل النبوة صغيرتان إحداهما متقدمة على الأخرى انتهى.
وفيه أنه يصح أن يطلق على كل من الصغيرتين أنهما قبل النبوة قان التقدم والتأخر إضافي وهو اللائح قال أهل الكلام : إن الأنبياء معصومون من الكفر قبل الوحي وبعده بإجماع العلماء ومن سائر الكبائر عمداً بعد الوحي وإما سهواً فجوزه الأكثرون وإما الصغائر فتجوز عمداً عند الجمهمر وسهوراً بالاتفاق وإما قبل الوحي فلا دليل بحسب السمع أو العقل على امتناع صدور الكبيرة وقال عطاء الخراساني ما تقدم من ذنبك أي ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك روي أن آدم لما اعترف
8
بالخطيئة قال : يا رب بحق محمد أن تغفر لي فقال الله : يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلفه قال : لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى إسمك إلا اسم أحب الخلق إليك فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي فغفرت لك ولولا محمد لما خلقتك رواه البيهقي في دلائله وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك وشفاعتك : (سلمى قدس سره فرمودكه ذنب آدم رابوى اضافت كرده ذر وقت زلت در صلب وى بوده وكناه امت را بوى اسناد فرموده أو يش رودكار ساز ايشانست).
وقال ابن عطاء قدس سره لما بلغ عليه السلام سدرة المنتهى ليلة المعراج قدم هو وأخر جبريل فقال لجبريل تتركني في هذا الموضع وحدي فعاتبه الله حين سكن إلى جبريل فقال : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيكون كل من الذنبين بعد النبوة وقال سفيان الثوري رحمه الله ما تقدم ما عملت في الجاهلية وما تأخر ما لم تعمله قال في كشف الأسرار ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره وضرب من لقيه ومن لم يلقه انتهى لكن فيه أنه خارج من أدب العبارة فالواجب أن يقال ما تقدم أي ما عملت قبل الوحي وقيل ما تقدم من ذنب يوم بدر وما تأخر من ذنب يوم حنين حيث قال يوم بدر : اللهم أن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً وكرره مراراً فأوحى الله إليه من أين تعلم أني لو أهلكتها لا أعبد أبداً؟ فكان هذا الذنب المتقدم وقال يوم حنين بعد أن هزم الناس ورجعوا إليه لو لم أرمهم أي الكفار بكف الحصى لم يهزموا فأنزل الله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وهو الذنب المتأخر لكن فيه أن المتأخر متأخر عن الوقعة فيكون وعداً بغفران ما سيقع منه قال في بحر العلوم وأبعد من هذا قول أبي على الرود بادي رحمه الله : لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير أبو علي قدس سره من كبار العارفين : فكيف يصدر عنه ما هو أبعد عند العقول بل كلامه من قبيل قوله : من عرف الله عرف كل شيء يعني لاو تصورت معرفة الله لأحد وهي لا تتصور حقيقة وكذا لو تصور منه عليه السلام ذهب لغفر له لكنه لا يتصور لأنه في جميع أحواله إما مشتمل بواجب أو بمندوب لا غير فهو كالملائكة في أنه لا يصدر منه المخالفة ولي معنى آخر في هذا المقام وهو أن المراد بالمغفرة الحفظ والعصمة أزلاً وأبداً فيكون المعنى ليحفظك الله ويعصمك من الذنب المتقدم والمتأخر فهو تعالى إنما جاء بما تقدم إشارة إلى أنه عليه السلام محفوظ معصوم في اللاحق كما في السابق فاعرفه وفي الفتوحات المكية استغفار الأنبياء لا يكون عن ذنب حقيقة كذنوبنا وإنما هو عن أمر يدق عن عقولنا لأنه لا ذوق لنا في مقامهم فلا يجوز حمل ذنوبهم على ما نتعقله نحن من الذنب انتهى.
ومؤاخذة الله عباده في الدنيا والآخرة تطهير لهم ورحمة وف يحق الأنبياء من جهة العصمة والحفظ والعقاب لا يكون إلا في مذنب والعقوبة تقتضي التأخر عن المتقدم لأنها تأتي عقبه فقد تجد العقوبة الذنب في المحل وقد لا تجده إما بأن يقلع عنه وإما أن يكون الاسم العفو والغفور استوليا عليه بالاسم الرحيم فزال فترجع العقوبة حاسرة ويزول عن المذنب اسم المذنب لأنه لا يسمى مذنباً إلا
9
(9/7)
في حال قيام الذنب به كما في كتاب الجواهر والدرر للشعراني وقال الشعراني في الكبريت الأحمر قلت : ويجوز حمل نحو قوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر على نسبة الذنب إليه من حيث أن شريعته هي التي حكمت بأنه ذنب فلولا أوحي به إليه ما كان ذنباً فجميع ذنوب أمته يضاف إليه وإلى شريعته بهذا التقدير وكذلك ذنب كل نبي ذكره الله وقد قالوا لم يعص آدم وإنما عصى بنوه الذين كانوا في ظهره فما كان قوله ليغفر لك إلخ إلا تطميناً له عليه السلام أن الله قد غفر جميع ذنوب أمته التي جاءت بها شريعته ولو بعد عقوبة بإقامة الحدود عليهم في دار الدنيا كما وقع لما عز ومن الواجب على كل مؤمن انتحال الأجوبة للأكابر جهده وذلك ما يحبه الله ويحبه من أحبنا عنه فافهم هذا اعتقادنا الذي نلقي الله عليه إن شاء الله تعالى انتهى.
وفي التأويلات النجمية : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً يشير إلى فتح باب قلبه عليه السلام إلى حضرة ربوبيته بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك أي : ليستر لك بأنوار جلاله ما تقدم من ذنب وجودك من بدأ خلق روحك وهو أول شيء تعلقت به القدرة كما قال أول ما خلق الله روحي وفي رواية نوري وما تأخر أي : من ذنب وجودك إلى الأبد وذنب الوجود هو الشركة في الوجود وغفره ستره بنور الوحدة لمحو آثار الاثنينية انتهى.
وقال بعض الأكابر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
اعلم أن فتوح رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة : أولها : الفتح القريب وهو فتح باب القلب بالترفي في مقام النفس وذلك بالمكاشفات الغيبية والأنوار اليقينية وقد شاركه في ذلك أكثر المؤمنين ، وثانيها : الفتح المبين بظهور أنوار الروح وترقي القلب إلى مقامه وحينئذٍ تترقى النفس إلى مقام القلب فتستتر صفاتها المظلمة بالأنوار القلبية وتنتفي بالكلية وذلك معنى قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فالسابقة الهيئات المظلمة على فتح باب القلب والمتأخرة الهيئات النورانية المكتسبة بالأنوار القلبية التي تظهر في التلوينات فيخفى حالها ولا تنتفي هذه بالفتح القريب وإن انتفت الأولى لأن مقام القلب لا يكمل إلا بعد الترقي إلى مقام الروح واستيلاء أنواره على القلب فيظهر تلوين القلب وينتفي تلوين النفس بالكلية ويحصل في هذا الفتح مغانم المشاهدات الروحية والمسامرات السرية ، وثالثها : الفتح المطلق المشار إليه بقوله : إذا جاء نصر الله والفتح وهو فتح باب الوحدة بالفناء المطلق والاستغراق في عين الجمع بالشهود الذاتي.
وظهور النور الإحدى فمن صحت له متابعة النبي عليه السلام أثابه الله مغانم كثيرة وفتوحات فإن حسن المتابعة سبب لفيضان الأنوار الإلهية بواسطة روحانية النبي عليه السلام.
قال الشيخ سعيد قدس سره :
خلاف يميبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
مندار سعدى كه راه صفا
توان رفت جزبرى مصطفى
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وذلك أن الفلاسفة والبراهمة والرهابنة ادعوا معرفة الله والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء وإرشاد الله تعالى فانقطعوا دون الوصول إليه ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة وغيرهما مما أفاضه عليه من النعم الدينية والدنيوية {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة وأصل الاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلاً قبل
10
(9/8)
{وَيَنصُرَكَ اللَّهُ} إظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ولإظهار كمال العناية بشأن النصر كما يعرب عنه تأكيده بقوله تعالى : {نَصْرًا عَزِيزًا} أي : نصراً فيه عزة ومنعة فعزيزاً للنسبة أي ذا عز قال في فتح الرحمن : النصر العزيز هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه والنصر غير العزيز هو الذي معه الحماية ودفع العدو فقط انتهى أو نصراً قوياً منيعاً على وصف المصدر بوصف صاحبه أي المنصور مجازاً للمبالغة ولم يجعل وصفاً بوصف الناصر لقلة الفائدة فيه لأن القصد بيان حال المخاطب لا المتكلم أو نصراً عزيزاً صاحبه ثم الظاهر إن المراد من ذلك النصر هو ما ترتب على فتح مكة من النصر على الأعداء كهوازن وغيرهم ونصر أمته على الأكاسرة والقياصرة وكانت الحكمة في قتال بعض الرسل لمن خالفهم إنما هي لمخالفة ما فطروا عليه من التوحيد الموجبة تلك المخالفة لفساد ذلك الفطر الذي هم فيه بأعمالهم وأحوالهم الفاسدة التي لا يحصل منها إلا حل نظام الأسباب وتبديد ما ذلك الشخص مأمور بحفظه عن ذلك كله فالنبي رحمة للخلق ولو بعث بالسيف وقس عليه سائر من تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ابن عطاء قدس سره : جمع الله لنبيه في هذه السورة نعماً مختلفة من الفتح المبين وهو من أعلام الإجابة والمغفرة وهي من أعلام المحبة وإتمام النعمة وهي من أعلام الاختصاص والهداية وهي من أعلام التحقق بالحق والنصر وهو من أعلام الولاية فالمغفرة تبرئة من العيوب وإتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة والهداية هي الدعوة إلى المشاهدة والنصرة هي رؤية الكل من الحق من غير أن يرجع إلى ما سواه نسأل الله أن ينصرنا ببذل الوجود المجازي في وجوده الحقيقي {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} بيان لما أفاض عليهم من مبادي الفتح من الثبات والطمأنينة يعني أنزلها {فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} بسبب الصلح والأمن بعد الخوف لأنهم كانوا قليلي العدة بسبب أنهم معتمرون وكان العدو مستعدين لقتالهم مع مالهم من القوة والشوكة وشدة البأس فثبتوا وبايعوا على الموت بفضله الله تعالى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وقال الكاشفي ونحوه :
ون در صلح حديببه صحابه خالى ازدغدغه وترددى نبودند حق سبحانه وتعالى فرمود هو الذي إلخ.
فالمراد ثبتوا واطمأنوا بعد أن ماجوا وزلزلوا حتى عمر الفاروق رضي الله عنه على ما عرف في القصة وذلك القلق والاضطراب إنما هو لما دهمهم من صد الكفار ورجوعهم دون بلوغ مقصودهم وكانوا يتوقعون دخول مكة في ذلك العام آمنين للرؤيا التي رآها عليه السلام على ما سبق {لِيَزْدَادُوا} تازيادت كند {إِيمَانًا} مفعول يزدادوا كما في قوله تعالى : وازدادوا تسعاً {مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي : يقيناً منضماً إلى يقينهم الذي هم غليه بر سوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها ومن ثمة قال عليه السلام : لو وزن إيمان أبي بكر مع الثقلين لرجح وكلمة مع في إيمانهم ليست على حقيقتها لأن الواقع في الحقيقة ليس انضمام يقين إلى يقين لامتناع اجتماع المثلين بل حصول نوع يقين أقوى من الأول فإن له مراتب لا تحصى من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات ثم لا ينفي الأول ما قلنا وذلك ما في مراتب البياض ما حقق في مقامه ففيها استعارة أو المعنى أنزل فيها السكون إلى ما جاء به النبي عليه السلام من الشرائع ليزدادوا إيماناً بها مقروناً مع إيمانهم بالوحدانية واليوم الآخر فكلمة القرآن حينئذٍ على حقيقتها والقرآن في الحقيقة
11(9/9)
لتعلق الإيمان بزيادة متعلقه فلا يلزم اجتماع المثلين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول ما أتاهم به النبي عليه السلام التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد حتى أكمل لهم دينهم كما قال : اليوم أكملت لكم دينكم فازدادوا إيماناً مع إيمانهم فكان الإيمان يزيد في ذلك الزمان بزيادة الشرائع والأحكام وأما الآن فلا يزيد ولا ينقص بل يزيد نور ويقوى بكثرة الأعمال وقوة الأحوال فهو كالجوهر الفرد فكما لا يتصور الزيادة والنقصان في الجوهر الفرد من حيث هو فكذا في الإيمان وأما قوله تعالى : ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فالكفر بالطاغوت هو عين الإيمان بالله في الحقيقة فلا يلزم أن يكون الإيمان جزءاً قال بعض الكبار الإيمان الحقيقي هو إيمان الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها ويتحقق بالخاتمة وما بينهما يزيد الإيمان فيه وينقص والحكم للخاتمة لأنها عين السابقة فيحمل قول من قال أن الإيمان لا يزيد ولا ينقض على إيمان الفطرة الذي حقيقته ما مات عليه ويحمل قول من قال أن الإيمان يزيد وينقص على الحالة التي بين السابقة والخاتمة من حين يتعقل التكاليف فتأمل ذلك فإنه نفيس انتهى وقال حضرة الهدائي قدس سره في مجالسة المنيفة ليزداد إيماناً وجدانياً ذوقياً عينياً مع إيمانهم العلمي الغيبي فإن السكينة نور في القلب يسكن به إلى ما شاهده ويطمئن وهو من مبادي عين اليقين بعد علم اليقين كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور وفي المفردات قيل إن السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما ورد أن السكينة لتنطق على لسان عمر وقال بعض الكبار : السكينة تطلق على ثلاثة أشياء بالاشتراك اللفظي أو لها ما أعطى بنوا إسرائيل في التابوت كما قال تعالى أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم قال المسرون هي ريح ساكنة طبيعة تخلع قلب العدو بصوتها رعباً إذا التقى الصفان وهي معجزة لأنبيائهم وكرامة لملوكهم والثاني شيء من لطائف صنع الحق يلقى على لسان المحفث الحكمة ما يلقى الملك الوحي على قلوب الأنبياء مع ترويح الأسرار وكشف السر والثالث هي التي أنزلت على قلب النبي عليه السلام وقلوب المؤمنين وهي شيء يجمع نوراً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين كما قال تعالى فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين انتهى وقال بعض الكبار إن الأنبياء والأولياء مشتركون في تنزل الملائكة عليهم ومختلفون فيما نزلت به فأن ملك الإلهام لا ينزل على الأولياء بشرع مستقل أبداً وإنما ينزل عليهم بالانباع وبإفهام ما جاء بهم نبيهم مما لم يتحقق الأولياء بالعلم به فكل فيض ونور وسكينة إنما ينزل من الله تعالى بواسطة الملك أو بلا واسطته وإن كان فرق عظيم بين حال النبي والولي فأنه كما أن النبي أفضل وأولى فكذا وارده أقوى وأولى نسأل الله فضله وسكينته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 2 من صفحة 12 حتى صفحة 24
هرآنكه يافت زفضل خدا سكينت دل
نماند در حرم سينه اش تردد وغل
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} الجنود جمع جند بالضم وهو جمع معد للحرب أي مختص به تعالى جنود العالم يدبر أمرها كيفما يشاء يسلط بعضها على بعض تارة ويوقع فيما بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وقال الكاشفي : ومرخدا يراست لشكرهاى آسمانها از ملائكة وجنود زمين ازمؤمنان مجاهد س اى أهل إيمان جهاد كنيد ربنصرت الهي واثق باشيدكه
12
هركه لشكر آسمان وزمين در حكم وى بود بلكه ذرات كون ساه وى بوده باشند اولياى خودرا در وقت غزابا عداى خود فرونكذارد.
نصرت از وطلب كه بميدان قدرتش
هرذره بهلواني وهرشه صدريست
(9/10)
قال بعضهم : كل ما في السموات والأرض بمنزلة الجند له لو شاء لا تنصر به كما ينتصر بالجند وتأويل الآية لم يكن صد المشركين رسول الله عن قلة جنود الله ولا عن وهن نصره لكن عن علم الله واختياره انتهى وفي فتح الرحمن ولله جنود السموات والأرض فلو أراد نصر دينه بغيركم لفعل وقال بعضهم : همم سموات أرواح العارفين وقصور أرض قلوب المحبين وأنفاسهم جنوده ينتقم بنفس منهم من جميع أعدائه فيقهرهم دعا نوع عليه السلام على قومه فقال لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فهلك به أهل الأرض جميعاً إلا من آمن ودعا موسى عليه السلام على القبط فقال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فصارت حجارة ولم يؤمنوا حتى رأوا العذاب الأليم وقال سيد البريات عليه أفضل التحيات حين رمى الحصى على وجوه الأعداء شاهت الوجوه فانهزموا بإذن الله تعالى وكذا حال كل ولي وارث قاهر من أهل الأنفاس بل كل ذرة من العرش إلى النرى جند من جنوده تعالى حتى لو سلط نملة على حية عظيمة لهلكت وقد قيل الدبة إذا ولدت ولدها رفعته في الهواء يومين خوفاً من النمل لأنه تضعه لحمة كبيرة غير متميزة الجوارح ثم تميز أولاً فأولاً وإذا جمع بين العقرب والفارة في إناء زجاج قرضت الفأرة إبرة العقرب فتسلم منها ويكفي قصة البعوض مع نمرود.
وفي المثنوي :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حفندكاه امتحان
بادرا ديديكه باعادان ه كرد
آب را ديديكه باطوفان ه كرد
آنه برفرعون زدآن بحركين
وآنه باقارون نموداست اين زمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
آنه باآن يلبانان يل كرد
وآنه شه كله نمرود خورد
وآنكه سنك انداخت داودى بدست
كشف ششصد اره ولشكر شكست
سنك مى باريد با عداى لوط
تاكه درآب سيه خوردند غوط
دست بركافر كواهى مى دهد
لشكر حق مى شود سرمى نهد
كربكويد شم راكور افشاره
دردشم از توبرآرد صددمار
كربدندان كويد اوبنما وبال
س به بينى توزندان كوشمال
فلا بد من التوكل على الله فإنه عون كل ضعيف وحسب كل عاجز قال بعضهم ما سلط الله عليك فهو من جنوده أن سلط عليك نفسك أهلك بنفسك وإن سلط عليك جوارحك أهلك حوارحك بجوارحك وإن سلط نفسك على قلبك قادتك في متابعة الهوى وطاعة الشيطان وإن سلط قلبك على نفسك وجوارحك زمها بالأدب فألزمها العبادة وزينها بالإخلاص في العبودية {وَكَانَ اللَّهُ} از لاو ابدا {عَلِيمًا} مبالغاً في العلم بجميع الأمور {حَكِيمًا} في تقديره وتدبيره فكان بمعنى كان ويكون أي دالة على الاستمرار والوجود بهذه الصفة لا معينة وقتاً ماضياً وقال بعض الكبار ولله جنود السموات من الأنوار القدسية والامدادات الروحانية وجنود الأرض من الصفات النفسانية والقوى الطبيعية فيغلب بعضها على بعض فإذا غلب الأولى على الأخرى حصلت السكينة وكمال اليقين وإذا عكس وقع الشك والريب وكان الله عليماً بسر آثرهم ومقتضيات استعداداتهم وصفاء فطرة الفريق الأول وكدورة نفوس الفريق
13
الثاني حكيماً فيما فعله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/11)
وفي التأويلات النجمية : ولله جنود السموات والأرض أي كلها دالة على وحدانيته تعالى وهي جنود الله بالنصرة لعبادة في الظفر بمعرفته وكان الله عليماً بمن هوا أهل النصرة للمعرفة حكيماً فيما حكم في الأزل لهم {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له تعالى من معنى التصرف والتدبير أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} هذا بإزاء قوله ليغفر لك الله أي يغطيها ولا يظهرها قبل أن يدخلهم الجنة ليدخلوها مطهرين من الآثام وتقديم الإدخال على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس من حيث أن النخلية قبل التحلية للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى {وَكَانَ ذَالِكَ} أي ما ذكر من الإدخال والتكفير {عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره لأنه منتهى ما يمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر والفوز الظفر مع حصول السلامة وعند الله حال من فوزا لأنه صفته في الأصل فلما قدم عليه صار حالاً أي كائناً عند الله تعالى أي في علمه وقضائه {وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ} من أهل المدينة {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ} من أهل مكة عطف على يدخل والتعذيب هو ما حصل لهم من الغيظ بنصر المؤمنين وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب وقد تثاقل كثير منهم فلم يخرجوا معه عليه السلام ثم اعتذروا فقالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ولو صدقوا عند الناس فما صدقوا عند الله وقد قال تعالى يوم ينفع الصادقين صدقهم أي صدقهم عند الله لا عند الخلق ولذلك قال عليه السلام : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم إشارة إلى مقام التحقيق والتصديق فإن الدعوى بغير برهان كذب".
برهان ببايد صدق را
ورنه زعواها ه سود
{الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} صفة لطائفتي أهل النفاق وأهل الشرك وظن السوء منصوب على المصدر والإضافة فيه كالإضافة في سيف شجاع من حيث أن المضاف إليه في الحقيقة هم موصوف هذا المجرور والتقدير سيف رجل شجاع فكذا التقدير هنا ظن الأمر السوء وهو أن الله لا ينصر رسوله ولا يرجعهم إلى مكة فاتحين وإلى المدينة سالمين كما قال بل ظننتم أن لن ينقلب الرسل والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وبالفارسية : كمان بردند بخدا كمان بد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وقال في كشف الكشاف أن ظن السوء مثل رجل صدق أي الظن السيء الفاسد المذموم انتهى وعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته ولا عكسها لأن الصفة والموصوف عبارتان عن شيء واحد فإضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه.
وفي التأويلات النجمية : الظانين بالله ظن السوء في ذاته وصفاته بالأهواء والبدع وفي أفعاله وأحكامه بالظلم والعبث قال بعض العارفين مثال من أحسن في الله ظنه مثال من سلط الله عليه الشيطان ليفتنه ويمتحنه فلما جاءه الشيطان أخبره بأنه رسول من عند الله وأنه رسول رحمة وقال : جئتك لأشد عضدك في الخير وألهمك رشدك لتكون عند ربك في درجة العرش فحسن بربه ظنه وخر ساجداً فصبر الله له الشيطان ملكاً كما ظن كما روى أن الجن صنعت لسليمان عليه السلام أرضاً وصفحتها بالزمرد الأخضر وخصبتها باللؤلؤ والجواهر
14
(9/12)
لتفتنه بها وهو لا يعلم فرأى ان ذلك من مواهب ربه له في دار الدنيا فخر ساجداًفأثبتها الله له أرضاً مقدسة كما ظن الى أن مات على حسن ظنه بربه ومثال من أساء بربه ظنه مثال من أرسل الله إليك ملك رحمة ليرشده للخير فقال إنما أنت شيطان حيث تغويني فصير الله له الملك شيطاناً كما ظن وفي الحديث أنا عند ظن عبدي بي وقال عليه السلام قبل موته بثلاثة أيام : "لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله وهو من إمارات اليقين".
در روايت آمده است از بعض صحابه رسول عليه السلام كه رسول اورا خبر داده بودكه تو والى شوى در مصر حكم كنى وقتى قلعه را حصار كرده بودند وآن صحابي نيز در ميان بو دسائر اصحابرا كفت مردار كفه منجنيق نهيدو بسوى كفار در قلعه اندازيد ون من آنجا رسم قتال كنم ودر حصار بكشايم ون از سبب اين جرأت رسيدند كفت رسول صلى الله عليه وسلّم مراخبرداده است كه من والى مصر شوم وهنوز نشدم يقين ميدانم كه نميرم تا والى نشوم فهم كن كه قوت ايمان اينست والا ازروى عرف معلوم است كه ون كسى را در كفه منجنيق نهند وبيندازند حال اوه باشد.
ظاهر وباطن ما آينه يكديكرند.
سينه صاف ترازاب روانم دادند {عَلَيْهِمْ دَآاـاِرَةُ السَّوْءِ} أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم فقد أكذب الله ظنهم وقلب ما يظنونه بالمؤمنين عليهم بحيث لا يتخطاهم ولا يظفرون بالنصرة أبداً وهذا كقوله تعالى ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وبالفارسية : وبرين كمان برند كانست كردش بديعنى ايشان منكوب ومغلوب خواهندشد.
قال المولى أبو السعود في التوبة قوله عليهم دائرة السوء دعاء عليهم بنجوما ار ادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله تعالى : غلبت أيديهم بعد قول اليهود ما قالوا انتهى فإن قلت كيف يحمل على الدعاء وهو للعاجز عرفا والله منزله عن العجز قلت هذا تعليم من الله لعباده إنه يجوز الدعاء عليهم كقوله : قاتلهم الله ونحوه قال ابن الشيخ السوء بالفتح صفة مشبهة من ساء يسوء بضم العين فيها سوأ فهو سوء ويقابله من حيث المعنى قولك حسن يحسن حسناً فهو حسن وهو فعل لازم بمعنى قبح وصار فاسداً رديئاً بخلاف ساءه يسوءه سوأ ومساءة أي أحزنه نقيض سره فإنه متعد ووزنه في الماضي فعل بفتح العين ووزن ما كان لازماً فعل بضم العين وفعل يأتي فاعله على فعل كصعب صعوبة فهو صعب والسوء بضم السين مصدر لهذا اللازم والسوء بضم السين مصدر لهذا اللازم والسوء بالفتح مشترك بين اسم الفاعل من اللازم وبين مصدر المتعدى وقيل السوء بالفتح والضم لغتان من ساء بمعنى كالكره والكره والضعف والضعف خلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء وإما المضموم فجار مجرى الشر المناقض للخير ومن ثمة أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموماً وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل المذكور وإما دائرة السوء بالضم فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة يصح أن يقع عليه اسم السوء كقوله تعالى إن أراد بكم أو أراد بكم رحمة كما في بعض التفاسير والدائرة عبارة عن الخط المحيط تعالى إن أراد بكم سوأ أو أراد بكم رحمة كما في بعض التفاسير والدائرة عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة والمصيبة المحيطة لمن وقعت هي عليه فمعنى الآية يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بالشيء أو بمن فيها بحيث لا سبيل إلى الانفكاك عنها بوجه إلا أن أكثر استعمالها
15
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/13)
أي الدائرة في المكروه كما أن أكثر استعمال الدولة في المحبوب الذي يتداول ويكون مرة لهذا ومرة لذاك والإضالة في دائرة السوء من إضافة العام إلى الخاص للبيان كما في خاتم فضة أي دائرة من شر لا من خير وقال أبو السعود في التوبة السوء مصدر ثم أطلق على كل ضرر وشر وأضيفت إليه الدائرة ذماً كما يقال رجل سوء لأن من درات عليه يذمها وهي من إضافة الموصوف إلى صفته فوصفت في الأرض بالمصدر مبالغة ثم أضيفت إلى صفتها كقوله تعالى : ما كان أبوك امرأ سوء وقيل معنى الدائرة يقتضي معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه فإنما هو إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا قال بعضهم غضبه تعالى إرادة العقوبة لهم في الآخرة وكونهم على الشرك والنفاق في الدنيا وحقيقته أن للغضب صورة ونتيجة إما صورة فتغير في الغضبان يتأذى به ويتألم وإما نتيجة فإهلاك المغضوب عليه وإيلامه فعبر عن ننتيجة الغضب بالغضب على الكناية بالسبب على المسبب {وَلَعَنَهُمْ} طردهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} وآماده كرديم براى ايشان دوزخ را.
والواو في الفعلين الآخيرين مع أن حقهما الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها إذ اللعن سبب الإعداد والغضب سبب اللعن للإيذان باستقلال كل منهما في الوعيد وأصالته من غير استتباع بعضهما لبعض {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} أي جهنم والمصير المرجع وبالفارسية وبدباز كشتيست دوزخ {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} أي بليغ العزة والقدرة على كل شيء {حَكِيمًا} بليغ الحكمة فيه فلا يفعل ما يفعل الأعلى مقتضى الحكمة والصواب وهذه الآية إعادة لما سبق قالوا فائدتها التنبيه على أنتعالى جنوداً للرحمة ينزلهم ليدخل بهم المؤمنين الجنة معظماً مكرماً وأن له تعالى جنوداً للعذاب يسلطهم على الكفار يعذبهم بهم في جهنم والمراد ههنا جنود العذاب كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة فإن عادته تعالى أن يصف نفسه بالعزة في مقام ذكر العذاب والانتقام قال في برهان القرآن الأول متصل بإنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين فكان الموضع موضع علم وحكمة وقد تقدم ما اقتضاه الفتح عند قوله وينصرك الله نصراً عزيزاً وأما الثاني والثالث الذي بعده فمتصلان بالعذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم فكان الموضع موضع عز وغلبة وحكمة وفي كشف الأسرار يدفع كيد من عادى نبيه والمؤمنين بما شاء من الجنود هو الذي جند البعوض على نمرود والهدهد على بلقيس وروى أن رئيس المنافقين عبد الله ابن أبي ابن سلول قال : هب أن محمداً هزم اليهود وغلب عليهم فكيف استطاعته بفارس والروم فقال الله تعالى : ولله جنود السموات والأرض أكثر عدداً من فارس والروم.
(
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وقال الكاشفي) : ومرخد ايراست لشكرهاى آسمان وزمين يعني هركه در آسمانها وزمينهاست همه مملوك ومسخر ويند نانه لشكريان مرسردار خودرا تكرار اين سخن جهت وعده مؤمنانست تابنصرت الهي مستظهر باشند وبراى وعيد مشركان ومنافقان تا از تكذيب رباني خائف كردند وفي الآية إشارة إلى ما أعد الله من عظائم فضله وعجائب صنعه في سموات القلوب وأرض النفوس يمد بها أولياءه وينصرهم بها على أنفسهم ليفوزوا بكمال قربه ويخذله بها أعداءه ويهلكهم في أودية
16
الأهوية ليصيروا إلي كما بعده وكان الله عزيز أذل أعداءه حكيماً فيما يعز أولياءه كما في التأويلات النجمية.
واعلم أن الله تعالى قد جعل في النار مائة دركة في مقابلة درج الجنة ولكل دركة قوم مخصوصون لهم من الغضب الإلهي الحال بهم آلام مخصوصة تصل إليهم من أيدي الملائكة الموكلين بهم نعوذ بالله من سخطه وعذابه ونسأله الأولى من نعيمه وثوابه وللغضب درجات منها وقطع الإمداد العلمي المستلزم لتسليط الجهل والهوى والنفس والشيطان والأحوال الذميمة لأنه موقت إلى النفس الذي قبل آخر الأنفاس في حق من يختم له بالسعادة ومنها ما يتصل إلى حين دخولهم جهنم وفتح باب الشفاعة ومنها ما يقتضي الخلود في النار.
(قال الحافظ) :
دارم از لطف ازل جنت فردوس طمع
كره دربانىء ميخانه فراوان كردم
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/14)
والله غفور رحيم لمن تاب ورجع إلى الصراط المستقيم {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} أي على أمتك لقوله تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا يعني على تصديق من صدقه وتكذيب من صدقه وتكذيب من كذبه أي مقبولا قوله في حقهم يوم القيامة عند الله تعالى سواء شهد لهم أو عليهم كلما يقبل قول الشاهد العدل عند الحاكم وهو حال مقدرة فإنه عليه السلام إنما يكون شاهداً وقت التحمل والأداء وذلك متأخر عن زمان الإرسال بخلاف غيره مما عطف عليه فإنه ليس من الأحوال المقدرة {وَمُبَشِّرًا} على الطاعة بالجنة والثواب وعلى أهل الطلب بالوصول {نَذِيرًا} على المعصية بالنار والعذاب وعلى أهل الاعراض بالقطية وفي التوراة ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرز اللاميين أنت عبدي ورسولي سميتك بالمتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح لها أعيناً عميا وآذاناً صماً وقلوباً غلناً سرخيل انبيا وسهدار اتقيا.
سلطان باركاه دنى قائدامم {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخطاب للنبي عليه السلام ولأمته فيكون تعميماً للخطاب بعد التخصيص لأن خطاب أرسلناك للنبي خاصة ومثله قوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء خصه عليه السلام بالنداء ثم عمم الخطاب على طريق تغليب المخاطب على الغائبين وهم المؤمنون فدلت الآية على أنه عليه السلام يجب أن يؤمن برسالة نفسه كما ورد في الحديث أنه عليه السلام أشهد أني عبد الله ورسوله قال اسليلي في الأمالي إنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل وإمانه به أي بالعلم الضروري فإذا عرف نبوة نفسه وآمن بها وجب عليه أن يؤمن بما أنزل إليه من ربه كما قال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ويجوز أن يكون الخطاب للأمة فقط فإن قلت كيف يجوز تخصيصهم الخطاب الثاني بالأمة في مقام توجيه الخطاب الأول إليه عليه السلام بخصوصه قلت إن خطاب رئيس القوم بمنزلة خطاب من معه من اتباعه فجاز أن يخاطب الأتباع في مقام تخصيص الرسل بالخطاب لأن المقصود سماعهم {وَتُعَزِّرُوهُ} وتقووه تعالى بتقوية دينه ورسوله قال في المفردات التعزير النصرة من التعظيم قال تعالى وتعزروه والتعزير دون الحد وذلك يرجع الأول فإٌّ ذلك تأديب والتأديب نصرة بقهر عدوه فإن أفعال الشر عدو الإنسان فمتى قمعته عنها فقد نصرته وعلى هذا الوجه قال النبي عليه السلام : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال : أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً قال : تكفه عن الظلم انتهى وفي القاموس
17
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/15)
التعزير ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب والتفخيم والتعظيم ضد والإعانة كالعزر والتقوية والنصر انتهى وقال بعضهم : أصله المنع ومنه التعزير فإنه منع من معاودة القبيح يعني وتمنعوه تعالى أي دينه ورسوله حتى لا يقوى عليه عدو {وَتُوَقِّرُوهُ} وتعظموه باعتقاد أنه متصف بجميع صفات الكمال منزه عن جميع وجوه النقصان قال في القاموس : التوقير التبجيل والوقار كسحاب الرزانة انتهى يعني السكون والحلم فأصله من الوقر الذي هو الثقل في الأذن {وَتُسَبِّحُوهُ} وتنزهوه تعالى عما لا يليق به ولا يجوز إطلاقه عليه من الشريك والولد وسائر صفات المخلوقين أو تصلوا له من السبحة وهي الدعاء وصلاة التطوع قال في القاموس : التسبيح الصلاة ومنه فلولا أنه كان من المسبحين أي من المصلين {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أي غدوة وعشيا فالبكرة أول النهار والأصيل آخره أو دائماً فإنه يراد بهما الدوام وعن ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر وفي عين المعاني البكرة صلاة الفجر والأصيل الصلوات الأربع فتكون الآية مشتملة على جميع الصلوات المفروضة وجوز بعض أهل التفسيران يكون ضمير وتعزروه وتوقروه للرسول عليه السلام ولا وجه له لأنه تفكيك إذ ضمير رسوله وتسبحوه تعالى قطعاً وعلى تقدير أن يكون له وجه فمعنى تعظيم رسول الله وتوقيره حقيقة اتباع سنته في الظاهر والباطن والعلم بأنه زبدة الموجودات وخلاصتها وهو المحبوب الأزلي وما سواه تبع له ولذا أرسله تعالى شاهداً فإنه لما كان أول مخلوق خلقه الله كان شاهداً بوحدانية الحق وربوبيته وشاهداً بما أخرج من العدم إلى الوجود من الأرواح والنفوس والإجرام والأركان والأجسام والأجساد والمعادن والنبات والحيوان والملك والجن والشيطان والإنسان وغير ذلك لئلا يشذ عنه ما يمكن للمخلوق دركه من أسرار أفعاله وعجائب صنع وغرائب قدرته بحيث لا يشاركه فيه غيره ولهذا قال عليه السلام : "علمت ما كان وما سيكون لأنه شاهد الكل وما غاب لحظة وشاهد خلق آدم عليه السلام ولأجله قال : كنت نبياً وآدم بين الماء والطين أي كنت مخلوقاً وعالماً بأني نبي وحكم لي بالنبوة وآدم بين أن يخلق له جسد وروح ولم يخلق بعد واحد منهما فشاهد خلقه وما جرى عليه من الإكرام والإخراج من الجنة بسبب المخالفة وما تاب الله عليه إلى آخر ما جرى عليه وشاهد خلق إبليس وما جرى عليه من امتناع السجود لآدم والطرد واللعن بعد طول عبادته ووفور علمه بمخالفة أمر واحد فحصل له بكل حادث جرى على الأنبياء والرسل والأم فهوم وعلوم ثم أنزل روحه في قالبه ليزداد له نور على نور فوجود كل موجود من وجود وعلوم كل نبي وولي من علومه حتى صحف آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم من أهل الكتب الإلهية" وقال بعض الكبار أن مع كل سعيد رقيفة من روح النبيّ صلى الله عليه وسلّم هي الرقيب العتيد عليه فإعراضه عنها بعدم إقباله عليها سبب لانتهاكه ولما قبض الروح المحمدي عن آدم الذي كان به دائماً لا يضل ولا ينسى جرى عليه ما جرى من النسيان وما يتبعه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم "إذا أراد الله أنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم وإليه ينظر قوله عليه السلام لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ينزع منه الإيمان ثم يزني".
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
واعلم أن كل نبي له الولاية
18
والنبوة فإن كان رسولاً فله الولاية والنبوة والرسالة فعالم رسالته هو كونه واسطة بين الله وخلقه وكذلك إن كان رسولاً إلى نفسه أو أهله أو قومه أو إلى الكافة فليس مع الرسول من عالم الرسالة إلا قدر ما يحتاج إليه المرسل إليهم وما عدا ذلك فهو عالم ولايته فيما بينه وبين الله ولما تفاضلت الأمم تفاضلت الرسل ويأتي النبي يوم القيامة ومعه أمته وآخر معه قومه وآخر معه رهطه وهو ما دون العشرة وآخر معه ابنه وآخر معه رجل وآخر استتبع فلم يتبع ودعا فلم يجب لإتيانه في الوقت الشديد الظلمة ولما جاء نبينا عليه السلام نوراً من الله نور العالم ظواهرها وبواطنها فكانت أمته أسعد الأمم وأكثرها ولذا تجيء في ثمانين صفا وباقي الأمم من لدن آدم عليه السلام في أربعين صفا وقد قال تعالى في حقه مبشراً فإنه لما أرسله إلى الأحمر والأسود بشرهم بأن لهم في متابعته الرتبة المحبوبية التي هي مخصوصة به من بين سائر الأنبياء والمرسلين فقد قال تعالى ونذيراً لئلا ينقطعوا عنه تعالى بشيء من الدارين كما انقطع أكثر الأمم ولم يكونوا على شيء.
قال الكمال الخجندي :
مرد تاروى نيارد زدو عالم بخداى
مصطفى وراكزين همه عالم نشود
(9/16)
نسأل الله أن يجعلنا على حظ وافر من الإقبال إليه والوقوف لديه {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} المبايعة باكسى بيع ويا بيعت وعهد كردن اي يعاهدونك على قتال قريش تحت الشجرة وبالفارسية : بدرستي كه آنانكه بيعت ميكنند باتودر حديبية سميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً بالمعاوضة المالية أي مبادلة المال بالمال في اشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة فهم التزموا طاعة النبي عليه السلام والثبات على محاربة المشركين والنبي عليه السلام وعدلهم بالثواب ورضىقال بعض الأنصار عند بيعة العقبة : تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت فقال عليه السلام : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني ومما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم فقال ابن رواحة رضي الله عنه : فإذا فعلنا فما لنا فقال : لكم الجنة قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} يعني أن من بايعك بمنزلة من بايع الله كأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة كما قال تعالى أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك لأن المقصود ببيعة رسوله هو وجه الله وتوثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه قال ابن الشيخ لما كان الثواب إنما يصل إليهم من قبله تعالى كان المقصود بالمبايعة منه عليه السلام المبايعة مع الله وأنه عليه السلام إنما هو سفير ومعبر عنه تعالى وبهذا الاعتبار صاروا كأنهم يبايعون الله وبالفارسية جزين نيست كه بيعت ميكنند باخداى ه مقصود بيعت اوست وبراى طلب رضاى اوسث.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
قال سعدي المفتي : الظاهر والله أعلم أن المعنى على التشبيه أي كأنهم يبايعون الله وكذا الحال في قوله : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي كأن يد الله حين المبايعة فوق أيديهم حذف أداة التشبيه للمبالغة في التأكيد وذكر اليد لأخذهم بيد رسول الله حين البيعة على ما هو عادة العرب عند المعاهدة والمعاقدة وفيه تشريف عظيم ليد رسول الله التي تعلو أيدي المؤمنين المبايعين حيث عبر عنها بيد الله كما أن وضعه عليه السلام يده اليمنى على يد اليسرى لبيعة عثمان رضي الله عنه تفخيم لشأن عثمان حيث وضعت يد رسول الله موضع يده ولم ينل تلك الدولة العظمى أحد من الأصحاب فكانت غيبته رضي الله عنه في تلك الوقعة خيراً له من الحضور وقال بعضهم : فيه استعارة تخييلية لتنزهه تعالى
19
عن الجارحة وعن سائر صفات الأجسام فلفظ الله في يد الله استعارة بالكناية عن مبايع من الذين يبايعون بالأيدي ولفظ اليد استعارة تخييلية أريد به الصورة المنتزعة الشبيهة باليد مع أن ذكر اليد في حقه تعالى لاجتماعه مع ذكر الأيدي في حق الناس مشاكلة ازداد بها حسن التخييلية ثم إن قوله يد الله فوق أيديهم على كل من القولين تأكيد لما قبله والمقصود تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما وحقيقته أن الله تعالى لو كان من شأنه التمثيل فتمثل للناس لفعل معه عين ما فعل مع نبيه من غير فرق فكان العقد مع النبي صورة العقد مع الله بل حقيقته كما ستجيء الإشارة إليه وقال الراغب في المفردات يقال فلان يد فلان أي وليه وناصره ويقال لأولياء الله هم أيدي الله وعلى هذا الوجه قال الله تعالى : إن الذين يبايعونك الآية ويؤيد ذلك ما روى لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها انتهى فيكون المعنى قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم كأنه قيل ثق يا محمد بنصرة الله لك لا بنصرة أصحابك ومبايعتهم على النصرة والثبات وقال بعضهم : اليد في الموضعين بمعنى الإلأحسان والصنيعة فالمعنى نعمة الله عليهم في الهداية إلى الإيمان وإلى بيعة الرضوان فوق ما صنعوا من البيعة كقوله تعالى : بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقال السدي يأخذون بيد رسول الله ويبايعونه ويد الله أي حفظ تلك المبايعة عن الانتقاض والبطلان فوق أيديهم كما أن أحد المتبايعين إذا مديده إلى الآخر لعقد البيع يتوسط بينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ يديهما إلى أن يتم العقد لا يترك واحداً منهما أن يقبض يده إلى نفسه ويتفرق عن صاحبه قبل انعقاد البيع فيكون وضع الثالث يده على يديهما سبباً لحفظ البيعة فلذلك قال تعالى : يد الله فوق أيديهم يحفظهم ويمنعهم عن ترك البيعة ما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين وقال أهل الحقيقة : هذه الآية كقوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله فالنبي عليه السلام قد فنى عن وجوده بالكلية وتحقق بالله في ذاته وصفاته وأفعاله فكل ما صدر عنه صدر عن الله فمبايعته مبايعة الله كما أن إطاعته إطاعة الله سلمى قدس سره فرموده كه ابن سخن در مقام جمعست وحق سبحانه مرتبه جمع را براى هي كس تصريح نكرده الا براى آنكه اخص واشرف موجوداتست.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/17)
ولهذا السر يقول عليه السلام يوم القيامة : "أمتي أمتي" دون نفسي نفسي لأنه لم يبق بقية الوجود أصلاً وفيه أسوة حسنة للكمل من أفراد أمته فاعرف جداً فمعنى يد الله فوق أيديهم أي قدرته الظاهرة في سورة قدرة النبي عليه السلام فوق قدرتهم الظاهرة في صور أيديهم لأنه مظهر الاسم الأعظم المحيط الجامع وكل الأسماء تحت حيطة هذا الاسم الجليل فيد النبي عليه السلام مع غيره كيد السلطان مع ما سواه وهو أي قوله يد الله فوق أيديهم زيادة التصريح في مقام عين الجمع لحصول هذا المعنى الإطلاقي مما قبله والحاصل أن الله تعالى جعل نبيه صلى الله عليه وسلّم مظهراً لكمالاته ومرآة لتجلياته ولذا قال عليه السلام : "من رآني فقد رأى الحق" ولما فنى عليه السلام عن ذاته وصفاته وأفعاله كان نائباً عن الحق في ذاته وصفاته وأفعاله كما قيل (ع) نائبست ودست اودست خداى.
وفي هذا المقام قال الحلاج : أنا الحق وأابو بزيد سبحاني سبحاني ما أعظم شاني وأبو
20
سعيد الخراز ليس في الجبة غير الله قال الواسطي : أخبر الله بهذه الآية أن البشرية في نبيه عارية وإضافة لا حقيقة يعني فظاهره مخلوق وباطنه حق ولذا يجوز السجدة لباطنه دون ظاهره إذ ظاهره من عالم التقييد وباطنه من عالم الإطلاق وإذا كانت الصلاة جائزة على الموتى فما ظنك بالأحياء فاعرف جداً فإنه إنما جازت الصلاة على الموتى لاشتمالهم على حصة من الحقيقة المحمدية الجامعة الكلية {فَمَن نَّكَثَ} لنكث نقض نحو الحبل والغزل استعير لنقض العهد أي فمن نقض عهده وبيعته وأزال إبراهيم وأحكامه {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} فإنما يعود ضرر نكثه على نفسه لأن الناكث هو لا غير {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} بضم الهاء فإنه أبقى بعد حقد الواو إذ أصله هو توسلاً بذلك إلى تفخيم لام الجلالة أي ومن أوفى بعهده وثبت عليه وأتمه {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} هي الجنة وما فيها من رضوان الله العظيم والنظر إلى جماله الكريم ويحتمل أن يراد بنكث العهد ما يتناول عدم مباشرته ابتداء ونقضه بعد انعقاده لما روى عن جابر رضي الله عنه أنه قال : بايعنا رسول الله بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر فما نكث أحد منا البيعة الا جد ابن قيس وكان منافقاً احتبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع الفوم أي إلى المبايعة حين دعوا إليها.
در موضح آورده كه سه يز راجع باهل آن ميشوديكى مكركه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله دوم ستم كه إنما يغيكم على أنفسكم سيوم نقض عهدكه فمن نكث على نفسه ودر عهد ويمان كفته اند.
يمان مشكن كه هركه يميان بشكست.
ازاى درافتاد وبرون رفت زدست.
آنرا كه بدردست بوديميان الست.
نشكسته بهي حال هرعهدكه بست.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
كما قال الحافظ :
ازدم صبح ازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
وقال :
يميان شكن هر آينه كردد شكسته حال
ان العهود لدى اهل النهى ذمم
قال بعض الكبار : هذه البيعة نتيجة العهد السابق المأخوذ على العباد في بدء الفطرة فيضرهم النكث وينفعهم الوفاء قال الشيخ إسمعيل بن سودكين في شرح التجليات الأكبرية قدس الله سرهما : المبايعون ثلاثة : الرسل والشيوخ والورثة والسلاطين والمبايع في هؤلاء الثلاثة على الحقيقة واحد وهو الله تعالى وهؤلاء الثلاثة شهود الله تعالى على بيعة هؤلاء الاتباع وعلى هؤلاء الثلاثة شروط يجمعها القيام بأمر الله وعلى الاتباع الذين بايعوهم شروط يجمعها المتابعة فيما أمروا به فأما الرسل والشيوخ فلا يأمرون بمعصية أصلاً فإن الرسل معصومون من هذا والشيوخ محفوظون وأما السلاطين فمن الحق منهم بالشيوخ كان محفوظاً وإلا كان مخذولاً وما هذا فلا يطاع في معصية والبيعة لازمة حتى يلقوا الله تعالى ومن نكث الاتباع من هؤلاء فحسبه جهنم خالداً فيها لا يكلمه الله ولا ينظر إليه وله عذاب أليم هذا كما قال أبو سليمان الداراني قدس سره : هذا حظه في الآخرة وأما في الدنيا فقد قال أبو يزيد البسطامي قدس سره في حق تلميذه لما خالفه : دعوا من سقط من عين الله فرؤي بعد ذلك مع المخنثين وسرق فقطعت يده هذا لما نكث أين هو ممن وفي بيعته مثل تلميذ الداراني قيل له : ألق نفسك في التنور فألقى نفسه فيه فعاد عليه برداً وسلاماً هذه نتيجة الوفاء انتهى.
يقول الفقير : ثبت بهذه الآية سنة المبايعة وأخذ التلقين من المشايخ الكبار وهم الذين جعلهم الله قطب إرشاد بأن أوصلهم إلى التجلي
21(9/18)
العيني بعد التجلي العلمي إذ لا فائدة في مبايعة الناقصين المحجبين لعدم اقتدارهم على الإرشاد والتسليك وعن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما قالا : كنا عند رسول الله عليه السلام فقال : "فيكم غريب" يعني : أهل كتاب قلنا : لا يا رسول الله فأمر بغلق الباب فقال : "ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا الله" فرفعنا أيدينا ساعة ثم وضع رسول الله يده ثم قال : "الحمد اللهم إنك بعثتني بهذا الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد" ثم قال : "أبشروا فإن الله قد غفر لكم" كما في ترويح القلوب لعبد الرحمن البسطامي قدس سره وعن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثي عهد بيعته فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله قال : ألا تبايعون رسول الله فبسطنا أيدينا وقلنا : على مم نبايعك؟ قال : "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتقيموا الصلوات الخمس وتطيعوا واسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس ولقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه" رواه مسلم والترمذي والنسائي كما في الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمه الله وعن عبادة بن الصامت قال : أخبرني أبي عن أبيه قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم كما في عوارف المعارف للسهروردي قدس سره وقوله وأن لا ننازع الأمر أهله أي إذا فوض أمر من الأمور إلى من هو أهل لذلك الأمر لا ننازع فيه ونسلم ذلك الأمر له وقوله : حيث كنا أي عند الصديق والعدو والأقارب وإلا باعد كما في حواشي زين الدين الحافي رحمه الله وأخذ من التقرير المذكور أخذ اليد في المبايعة وذلك بالنسبة إلى الرجال دون النساء لما روى أن النساء اجتمعن عند النبي عليه السلام وطلبن أن يعادهن باليد فقال : لا تمس يدي يد المرأة ولكن قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة فبايعهن بالكلام ثم طلبن منه البركة فوضع يده الشريفة في الماء ودفعه إليهن فوضعن أيديهن فيه كذا ذكره الشيخ عبد العزيز الديرني في الروضة الانيفة وكذا في ترجمة الفتوحات حيث قال ورسول عليه السلام وفات كرد ودست او بهي زن نا محرم نرسيد وبازنان مبايعه بسخن مى كرد وقول اوبايك زن نان بودكه باهمه انتهى وقال في انسان العيون بايعه عليه السلام ليلة العقبة الثانية السبعون رجلاً وبايعه المرأتان من غير مصافحة لأنه صلى الله عليه وسلّم كان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن فإذا أحرزن قال : اذهبن فقد بايعتكن انتهى وفي الاحياء ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة ولمجالس الذكر إذا خيفت الفتنة إذ منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها : إن رسول الله ما منعهن من الجماعات فقالت : لو علم رسول الله ما أحدثن بعده لمنعهن انتهى فحضورهن مجالس الوعظ والذكر من غير حائل يمنع من النظر إذا كان محظوراً منكراً فيكف مس أيديهن كما في مشيخة هذا الزمان ومبتدعته وربما يمسون المسك لأجل النساء اللاتي يحضرن مجالسهم ويبايعنهم كما سمعنا من الثقات والعياذ بالله تعالى ولنعد إلى تحرير المقام قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان وحكي الأستاذ أبو القاسم القشيري عن شيخه أبي علي الدقاق قدس
22
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
سرهما أنه قال : الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تتورق ولا تثمر وهو كما قال ويجوز أنها تمثر كالأشجار التي في الأودية والجبال ولكن لا يكون لفاكهتها طعم فاكهة البساتين والغرس إذا نقل من موضع إلى موضع آخر يكون أحسن وأكثر ثمرة لدخول التصرف فيه وقد اعتبر الشرع وجود التعليم في الكلب المعلم وأحل ما يقتله بخلاف غير المعلم وسمعت كثيراً من المشايخ يقولون : من لم ير مفلحاً لا يفلح ولنا في رسول الله أسوة حسنة فأصحاب رسول الله تلقوا اعلوم والآداب من رسول الله كما روى عن بعض الصحابة علمنا رسول الله كل شيء حتى الخراءة بكسر الخاء المعجمة يعني قضاء الحاجة فلا بد لطالب الحق من أديب كامل وأستاذ حاذق يبصره بآفات النفوس وفساد الأعمال ومداخل العدو فإذا وجد مثل هذا فليلازمه وليصحبه وليتأدب بآدابه ليسري من باطنه إلى باطنه حال قوى كسراج يقتبس من سراج ولينسلخ من إرادة نفسه بالكلية فإن التسليم له تسليمولرسوله لأن سلسلة التسليم تنتهي إلى رسول الله وإلى الله "في المثنوي" :
كفت طوبى من رآني مصطفى
والذي يبصر لمن وجهي رأى
ون راغى نور شمعى را كشيد
هركه ديدانرا يقين آن شمع ديد
همنين تاصد راغ ارنقل شد
ديدن آخر لقاى اصل شد
خواه نوراز واسين بستان بجان
هي فرقى نيست خواه ازشمعدان
(9/19)
وفي الحديث الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن لم يدرك بيعة رسول الله فمسح الحجر فقد بايع الله ورسوله وفي رواية الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه قال السخاوي معنى الحديث : أن كل ملك إذا قدم عليه قبلت يمينه ولما كان الحاج والمعتمر يتعين لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده ولله المثل الأعلى وكذلك من صافحه كان له عند الله عند كما أن الملك يعطي الهدية والعهد بالمصافحة انتهى.
يقول الفقير : لا شك أن الكعبة عند أهل الحقيقة إشارة إلى مرتبة الذات الأحدية والذات الأحدية قد تجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بجميع أسمائها وصفاتها فكانت الكعبة صورة رسول الله والحجر الأسود صورة يده الكريمة وأما حقيقة سر الكعبة والحجر فذاته الشريفة ويمينه المباركة ومن هنا نعرف أن الإنسان الكامل أفضل من الكعبة وكذا يده أولى من الحجر ولما انتقل النبي عليه السلام خلفه ورثته بعده فهم مظاهر هذين السرين فلا بد من تقبيل الحجر في الشريعة ومن تقبيل يد الإنسان الكامل في الحقيقة فإنه المبايعة الحقيقة فإنها عين المبايعة مع الله ورسوله ثم إذا وقعت المبايعة للمبايع في ذلك أو أن ارتضاع وزمان انفطام فلا يفارق من بايعه إلا بعد حصول المقصود بأن ينفتح له باب الفهم من الله ومتى فارق قيل أو أن انقطام يناله من الإعلال في الطريق بالرجوع إلى الدنيا ومتابعة الهوى ما ينال المفطوم لغير أوانه في الولادة الطبيعية وكذا الحال في العلم الظاهر فإنه لا بد فيه من التكميل ثم الإذن من الأستاذ للتدريس قال في الأشباه لما جلس أبو يوسف للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلاً فسأله عن مسائل خمس :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
الأولى : قصار جحد الثوب ثم جاء به مقصوراً هل يستحق الأجر أو لا؟ فأجاب أبو يوسف : يستحق الأجر فقال له الرجل : أخطأت فقال : لا يستحق فقال : أخطأت ثم قال له الرجل : إن كانت القصارة قبل الجحود استحق وإلا لا.
23
الثانية : هل الدخول في الصلاة بالفرض أو بالسنة؟ فقال : أخطأت فقال : بالسنة فقال : أخطأت فتحير أبو يوسف فقال الرجل : بهما لأن التكبير فرض ورفع اليدين سنة.
الثالثة : طير سقط في قدر على النار فيه لحم ومرق هل يؤكلان أو لا؟ فقال : يؤكلان فخطأه فقال : لا يؤكلان فخطأه ثم قال : إن كان اللحم مطبوخاً قبل سقوط الطير يغسل ثلاثاً ويؤكل وترمى المرقة وإلا يرمى الكل.
الرابعة : مسلم له زوجة ذمية ماتت وهي حامل منه تدفن في أي المقابر؟ فقال أبو يوسف : في مقابر المسلمين فخطأه فقال : في مقابر أهل الذمة فخطأه فتحير فقال : تدفه في مقابر اليهود ولكن يحول وجهها عن القبلة حتى يكون وجه الولد إلى القبلة لأن الولد في البطن يكون وجهه إلى ظهر أمه.
الخامسة : أم ولد لرجل تزوجت بغير إذن مولاها فمات المولى هل تجب العدة من المولى؟ فقال : تجب فخطأه فقال : لا تجب فخطأه ثم قال : الرجل إن كان الزوج دخل بها لا تجب وإلا وجبت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال : تزببت قبل أن تحصرم.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 3 من صفحة 24 حتى صفحة 34
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/20)
قال الشيخ سعدي : يكى درصنعت كشتى كيرى بسر آمده بود وسيصد وشصت بند فاخر درين علم بدانستى وهر روز بنوعى كشتى كرفتى مكر كوشه خاطرش باجمال يكى از شاكردان ميل داشت سيصدو نجاه ونه بند اورا آموخت مكريك بندكه در تعليم آن دفع انداختى وتهاون كردى في الجملة سر درقوت وصنعت بسر آمد وكسى را با او مجال مقاومت نماند تا بحدى كه يش ملك كفت استادرا فضيلتي كه برمنست ازروى بزركيست وحق تر بيت وكرنه بقوت ازوكمتر نيستم وبصنعت با وبرابر ملك را اين سخن سنديده نيامد بفرمود تا مصارعه كنند مقامى متسع ترتيب كردند واركان دولت واعيان حضرت وزور آلأران آن اقليم حاضر شدند سر ون يل مست در آمد بصدمتى كه اكركوه آهنين بودى ازجاى بركندى استاد دانست كه جوان ازو بقوت برترست بدان بند غريب كه ازونهان داشته بود بر اودر آويخت وبدودست بر كرفت از زمين بر بالاى سر بردو بر زمين زدغريو از خلق برخاست ملك فرمود تا استادرا خلعت ونعمت بى قياس دادندو سررا زجرو ملامت كردكه بارورنده خويش دعوى مقاومت كردى وبسر نبردى كفت اى خداوند مرا بزور دست ظفر نيافت بلكه ازعلم كشتى دقيقه مانده بودكه زمن دريغ همى داشت امر وزبدان دقيقه برمن دست يافت استاد كفت ازبهر نين روزنهان داشتم فعلم أن التلميذ لا يبلغ درجة استاذه في زمانه فللاستاذ العلو من كل وجه.
مريدان بقوت زطفلان كمند.
مشايخ و ديوار مستحكمند.
قال في كشف النور عن أصحاب القبور وأما هذا الزي المخصوص الذي اتخذه كل فريق من الصوفية كلبس المرقعات ومئازر الصوف والميلويات فهر امر قصدوا به التبرك بمشايخهم الماضية فلا ينهون عنه ولا يؤمرون به فإن غالب ملابس هذا الزمان من هذا القيل كالعمائم التي اتخذها الفقهاء والمحدثون والعمائم التي اتخذها العساكر والجنود والملابس التي يتخذها عوام الناس وخواصهم فإنها جميعها مباحة وليس فيها شيء يوافق السنة إلا القليل ولا نقول إنها بدعة أيضاً لأن البدعة هي الفعلة المخترعة في الدين على خلاف ما كان عليه النبي عليه السلام وكانت عليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم وهذه الهيئات والملابس والعمائم
24
(9/21)
ليست مبتدعة في الدين بل هي مبتدعة في العادة ولا هي مخالفة للسنة ايضاً على حسب ما عرف الفقهاء السنة بأنها كل فعلة فعلها النبي عليه السلام على وجه العبادة لا العبادة ولم يكن النبي عليه السلام يلبس العمامة على سبيل العبادة ولا يلبس الثياب المخصوصة على طريق العادة وإنما القصد بذلك ستر العولة ودفع أذية الحر والبرد ولهذا ورد عنه لبس الصوف والقطن وغير ذلك من الثياب العالية والسافلة فليس مخالفته في ذلك لمخالفة سنة وإن كان الاتباع في جميع ذلك أفضل لأنه مستحب انتهى قال في العوارف لبس الخرقة أي من يد الشيخ علامة التفويض والتسليم ودخوله في حكم الشيخ دخوله في حكم الله تعالى وحكم رسوله عليه السلام وإحياء سنة المبايعة مع رسول الله قالت أم خالد : أتى النبي عليه السلام بثياب فيها خمص سوداء صغيرة وهي كساء أسود مربع له علمان فإن لم يكن معلماً فليس بخميصة عليه السلام من ترون أكسو هذه فكست القوم فقال عليه السلام : "ائتوني بأم خالد" قالت : فأتى بي فألبسنيها بيده فقال : إبلي واخلقي يقولها مرتين وجعل ينظر إلى علم الخميصة أصفر وأحمر ويقول : يا أم خالد هذا سناء والسناء هو الحسن بلسان الحبشة ولا خفاء بأن لبس الخرقة على الهيئة التي يعمدها الشيوخ في هذا الزمان لم يكن في زمن رسول الله وهذه الهيئة والاجتماع لها والاعتداد بها من استحسان الشيوخ وقد كان طبقة من السلف الصالحين لا يعرفون الخرقة ولا يلبسونها المريدين فمن يلبسها فله مقصد صحيح وأصل من السنة وشاهد من الشرع ومن لا يلبسها فله رأي وله في ذلك مقصد صحيح وكل تصاريف المشايخ محمولة على السداد والصواب ولا تخلو عن نية خالصة فيها انتهى كلام العوارف باختصار وقال الشيخ زين الدين الحافي في حواشيه قد صح واشتهر بنقل الأولياء كابراً عن كابر على ما هو مسطور في إجازات المشايخ أن رسول الله ألبس علياً الخرقة الشريفة وهو ألبس الحسن البصري وكميل بن زياد رضي الله عنهما وفي المقاصد الحسنة أن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً فضلاً عن أن يلبسه الخرقة قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الضرورة من اللباس الظاهر ما يستر السوآت والرياش ما يزيد على ذلك مما تقع به الزينة والضروري من اللباس الباطن وهو تقوى المحارم مطلقاً ما يواري سوأة الباطن والريش لباس مكارما لأخلاق مثل نوافل العبادات كالصفح والإصلاح فأراد أهل الله أن يجمعوا بين اللبستين ويتيزنوا بالزينتين ليجمعوا بين الحسنيين فيثابوا من الطرفين فلبسوا الخرقة وألبسوها ليكون تنبيهاً على ما يريدونه من لباس بواطنهم وجعلوا ذلك أصلاً وأصل هذا اللباس عندي ما ألقي في سري أن الحق لبس قلب عبده فإنه قال ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي فإن الثوب وسع لابسه وظهر هذا الجمع بين اللبستين في زمان الشبلي وابن حفيف إلى هلم جرا فجرينا على مذهبهم في ذلك فلبسناها من أيدي مشايخ جمة سادات بعد أن صحبناهم وتأدبنا بآدابهم ليصح اللباس ظاهراً وباطناً انتهى باختثار نسأل الله سبحانه أن يجعل لباس التقوى لباساً خيراً لنا وأن يصح نياتنا وعقائدنا وأعمالنا وأحوالنا أنه هو المعين لأهل الدين إلى أن يأتي اليقين
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاعْرَابِ} السين للاستقبال يقال خلفتة بالتشديد تركته خلفي وخلفوا أثقالهم تخليفاً خلوها وراء ظهورهم والتخليف بالفارسية :
25
(9/22)
واس كذشتن ودر اينجا مراد از مخلفون بازس كردكان خداى يعني ايشان كه باز س كرده انداز صحبث رسول عليه السلام ازباديه نشينان.
خلفهم الله عن رسول الله كما قال كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع الخالفين قال في المفردات العرب أولاد اسمعيل عليه السلام والأعراب جمعه في الأصل وصار ذلك اسماً لسكان البادية وقيل في جميع الأعراب أعاريب والأعرابي صار اسماً في التعراف للمنسوبين إلى سكان البادية انتهى وفي القاموس العرب بالضم وبالتحريك خلاف العجم مؤنث وهم سكان الأمصار والأعراب منهم سكان البادية ويجمع على أعاريب انتهى وفي مختار الصحاح العرب جيل من الناس والنسبة إليهم عربي وهم أهل الأمصار والأعراب منهم سكان البادية خاصة والنسبة إليهم أعرابي وليس الاعراب جمعاً لعرب بل هو اسم جنس انتهى وقال ابن الشيخ في سورة التوبة : العرب هو الصنف الخاص من بني آدم سواء سكن البادي أم القرى وأما الأعراب فإنه لا يطلق إلا على من يسكن البوادي فالأعراب جمع أعرابي كما أن العرب جمع عربي والمجوس جمع مجوسي واليهود جمع يهودي بحذف ياء النسبة في الجمع ويدل على الفرق بين العرب والأعراب قوله عليه السلام : "حب العرب من الإيمان" وقوله تعالى : أشد كفراً ونفاقاً حيث مدح العرب وذم الأعراب الذين هم سكان البادية فعلى هذا يكون العرب أعم من الأعراب وقيل العرب هم الذين استوطنوا المدن والقرى والأعراب أهل البدو فعلى هذا القول يكونان متباينين انتهى والمراد هنا هم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والدئل بالكسر تخلفوا عن رسول الله عليه السلام حين استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه عند إرادته المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً حذراً من قريش أن يتعرضوا له بحرب ويصدوه عن البيب واحرم عليه السلام وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد الحرب وتثاقلوا عن الخروج وقالوا : أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم فأوحى الله إليه عليه السلام بأنهم سيعتلون أي عند وصولك إلى المدينة ويقولون : {شَغَلَتْنَآ} مشغول كرد مارا.
والشغل العارض الذي يذهل الإنسان وقد شغل فهو مشغول {أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} ولم يكن لنا من يخلفنا فيهم ويقوم بمصالحهم ويحميهم من الضياع والأموال جمع مال وهو كل ما يتملكه الناس من دارهم أو دنانير أو ذهب أو فضة أو حنطة أو خبز أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك والمال العين هو المضروب وسمي المال مالاً لكونه بالذات تميل القلوب إليه وفي التلويح المال ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة أو ما خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
والأهلون جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذوو أقرباه وقد يجمع الأهل على أهال وآهال واهلات ويحرك كأرضات على تقدير تاء التأنيث أي على أن أصله أهلة كما في أرض فحكمه حكم تمرة حيث يجوز في تمرات تاء التأنيث أي على أن أصله أهلة كما في أرض فحكمه حكم تمر حيث يجوز في تمرات تحريم الميم {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن ذلك باختيار بل عن اضطرار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في الاعتذار وسؤال الاستغفار يعني أنه تكذيب لهم فيما يتضمنه من الحكم من أنا مؤمنون حقاً معترفون بذنوبنا فالشك والنفاق هو الذي خلفهم لا غير وفي الآية إشارة إلى أن القلوب
26
وفي التلويح المال ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة أو ما خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة انتهى والأهلون جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذو واقرباه وقد يجمع الأهل على أهال وآهال وأهلات ويحرك كأرضات على تقدير تاء التأنيث أي على أن أصله أهلة كما في أرض فحكمه حكم تمرة حيث يجوز في تمرات تحريك الميم {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن ذلك باختيار بل عن اضطرار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في الاعتذار وسؤال الاستغفار يعني أنه تكذيب لهم فيما يتضمنه من الحكم من أنا مؤمنون حقاً معترفون بذنوبنا فالشك والنفاق هو الذي خلفهم لا غير وفي الآية إشارة إلى أن القلوب الغافلة عن الله يقولون أي أهلها بألسنتهم ما ليس له حقيقة ولا شعور لقلوبهم على حقيقة ما يقولون فإنهم يقولون ويريدون به معنى آخر كقولهم شغلتنا أموالنا وأهولونا مجازاً يريدون به اعتذاراً لتخلفهم ولقولهم شغلتنا حقيقة وذلك أن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن ذكر الله والائتمار بأوامره وعن متابعة النبي عليه السلام وهم مأمورون بها.
قال المولى الجامي :
مكن تعلق خاطر بنقش صفحه دهر
جريده وارهمى زى وساده وش مى باش
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/23)
{قُلْ} رداً لهم عند اعتذارهم إليك بأباطيلهم {فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا} أي فمن يقدر لأجلكم من مشيئة الله وقضائه على شيء من النفع {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} أي ما يضركم من هلاك الأهل والمال وضياعهم حتى تتخلفوا عن الخروج لحفظهما ودفع الضرر عنهما {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا} أي ومن يقدر على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم فأي حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا} أي ليس الأمر كما تقولون بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملون من الأعمال التي من جملتها تخلفكم وما هو من مباديه فمن ترك أمر الله ومتابعة رسوله وقعد طلباً للسلامة دخل في الآية ثم لم يجد خلاصاً من الضرر والبلاء فإن الله تعالى قادر على إيصال المكروه ولو بغير صورة القتال فلا بد من الصدق والعمل بالإخلاص والتوكل على الله تعالى فإن فيه الخلاص.
تقلست كه بكروز كسان حجاج ظالم حسن بصري را رضي الله عنه طلب كردند حسن در صومعه حبيب عجمي قدس سره نهان شد حبيب را كفتند امروز حسن را ديدى كفت ديدم كفتند كجاست كفث درين صومعه شد در صومعه رفتند ندانكه طلب كردند حسن رانيا فتند نانكه حسن كفت هفت باردست برمن نهادند ومرانديدند وبيرون آمدند وكفتند اي حبيب آنه حجاج باشما كند سزاي شماست تارا دروغ ميكوييد حبيب كفت او دريش من درين جاشدا كر شمانمي دانيد ونمى بينيد مراه جرم عوانان ديكر باره طلب كردند نيا فتند حسن از صومعه بيرون آمد كفت اي حبيب حق استاذي نكاه داشتى ومرابعوانان غمز مكيردى كفت اي استاذ بروكه براست كفتن خلاص يا فتى كه اكر دروغ ميكفتمى هردو كرفتار خواستيم شدن.
قال الحافظ :
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشث صبح نخست
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
حسن كفت ه كردى كه مرانديديند كفت نه بار آية الكرسي ونه بار آمن الرسول ونه بار قل هو الله أحد بخواندم وباز كفتم كه خدايا حسن را بتو سردم كه نكاهش دارى وهكذا يحفظ الله أولياءه الصادقين وينصرهم ويترك أعداءه الكافرين ويخذلهم {بَلْ ظَنَنتُمْ} الخ بدل من كان الله الخ مفسر لما فيه من الابهام أي بل ظننتم أيها المخلفون {أَن لَّن يَنقَلِبَ} لن برجع وبالفارسية : بلكه كمان ميبرديد آنكه باز نكردد {الرَّسُولُ} صلى الله عليه وسلّم {وَالْمُؤْمِنُونَ} الذين معه وهم ألف وأربعمائة {إِلَى أَهْلِيهِمْ} بسوى أهالى خود بمدينه {أَبَدًا} هركزاي بأن يستأصلهم المشركون بالكي فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم فلأجل ذلك تخلفكم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة {وَزُيِّنَ ذَالِكَ فِى قُلُوبِكُمْ} وراسته شد اين كمان دردلهاى شما يعني شيطان بياراست.
وقبلتموه واشتغلتم بشأن أنفسكم
27
غير مبالين بهم {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وكمان برد ديد كمان بد.
المراد به إما الظن الأول والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء وإلا فهو من عطف الشيء على نفسه أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم الصحة رسالته عليه السلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم حول فكره ما ذكر من الاستئصال فبهذا التعميم لا يلزم التكرار {وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا} أي هالكين عند الله مستوجبين سخطه وعقابه على أنه جمع بائر من بار بمعنى هلك كعائذ وعوذ وهي من الإبل والخيل الحديثة النتاج أو فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم فإن البور الفاسد في بعض اللغات وقيل البور مصدر من بار كالهلك من هلك بناء ومعنى ولذا وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث فيقال رجل بورو قوم بوروفي المفردات البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر بالبوار عن الهلاك وكانوا قوماً بوراً أي هلكى انتهى وفيه إشارة إلى أن كل من ظن أنه يصيبه في الغزو قتل أو جراحة أو ما يكره من المصائب ثم يتخلف عن الغزو فإنه من الهالكين وقد استولى الشيطان على قلبه فزين في قلبه الحياة الدنيا ليؤثرها على الحياة الأخروية التي أعدت للشهداء والدرجات العلي في الجنة والقربات في جوار الحق تعالى.
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب.
براحتى نرسيد آنكه زحمتى نرسيد آنكه زحمتى نكشيد
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/24)
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} كلام مبتدأ من جهته تعالى ومن شرطية أو موصولة أي ومن لم يؤمن بهما كدأب هؤلاء المخلفين {فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ سَعِيرًا} أي لهم وإنما وضع موضع الضمير العائد إلى من الكافرون إيذاناً بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله وهو كافر فإنه مستوجب السعير أي النار الملتهبة وتنكيره للتهويل للدلالة على أنه سعير لا يكتنه كنهها أو لأنها نار مخصوصة كما قال ناراً تلظى فالتنكير للتنويع {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وما فيهما يتصرف في الكل كيف يشاء وبالفارسية : مرخدا يراست ادشاهى آسمانها وزمينها زمام أمور ممالك علوى وسفلى در قبضه قدرت اوست {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له وهو فضل منه {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن يعذبه وهو عدل من غير دخل لأحد في شيء منهما وجوداً وعدماً وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في استغفاره عليه السلام لهم {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} مبالغاً في المغفرة والرحمة لمن يشاء ولا يشاء إلا لمن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله وأما من عداه من الكافرين فهم بمعزل من ذلك قطعاً فالآية نظير قوله تعالى في الأحزاب ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً أي يعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم أي إن لم يتوبوا فإن الشرك لا يغفر البتة أو يتوب عليهم أي يقبل توبتهم إن تابوا فالله تعالى يمحو بتوبة واحدة ذنوب العمر كله ويعطي بدل كل واحدة منها حسنة وثواباً قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ومن الظمئان الوارد ومن العقيم الوالد ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وبقاع أرضه خطاياه وذنوبه"
كرآيينه ازآه كردد تباه
شود روشن آيينة دل بآه
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى
28
ندارد فغان زير وب
وفي هذا المعنى قال الكمال الخجندي :
تراه سود بروز جزا وقايه وحرز
كه از وقاية عفوش حمايتي نرسيد
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وفي الآية إشارة إلى أن من أطفأ سعير نفسه وشعلة صفاتها بماء الذكر وترك الشهوات يؤمن قلبه وينجو من سعير النفس وهو حال من آمن بالله ورسوله وإلا فيكون سعير نفسه وشعلة صفاتها مستولية على القلب فتحرقه وما تبقى من آثاره شيئاً وهو حال من لم يؤمن بالله ورسوله ولله ملك سموات القلوب وأرض النفوس يغفر لنفس من يشاء ويزكيها عن الصفات الذميمة ويجعلها مطمئنة قابلة لجذبة ارجعي ويعذب قلب من يشاء باستيلاء صفات النفس عليه ويقلبه كما لم يؤمن به وكان الله غفوراً لقلب من يشاء رحيماً لنفس من يشاء يؤتى ملك نفس من يشاء لقلبه وينزع ملك قلب من يشاء ويؤتيه لنفسه {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} المذكورون {إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} ظرف لما قبله لا شرط لما بعده وانطلقتم أي ذهبتم يقال انطلق فلان إذا مر متخلفاً وأصل الطلاق النخلية من وثاق كما يقال حبس طلقاً ويضم أي بلا قيد ولا وثاق والمغانم جمع مغنم بمعنى الغنيمة أي الفتى أي سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لنحوزوها حسبما وعدكم إياها وخصكم بها عوضاً عما فاتكم من غنائم مكة إذا انصرفوا منها على صلح ولم يصيبوا منها شيئاً فالسين يدل على القرب وخيبراً قرب مغانم انطلقوا إليها فهي هي فإن قيل كيف يصح هذا الكلام وقد ثبت أنه عليه السلام أعطى من قدم مع جعفر رضي الله عنه من مهاجري الحبشة وكذا الدوسيين والأشعريين ولم يكونوا ممن حضر الحديبي قلنا كان ذلك باستنزال أهل الحديبية عن شيء من حقهم ولولا أن بعض خيبر كانت صلحاً لما قال موسى بن عقبة ومن تبعه ما قالوا وكان ما أعطاهم من ذلك كما في حواشي سعدى المفتي {ذَرُونَا} بكذاريد مارا.
أمر من يذر الشيء أي يتركه ويقذفه لقلة اعتداره به ولم يستعمل ماضيه إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّهِ} بأن يشاركوا في المغانم التي خصها بأهل الحديبية فإنه عليه السلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها واوآئل المحرم من سنة سبع ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة فخصها بهم حسبما أمره الله تعالى فالمراد بكلام الله ما ذكر من وعده تعالى غنائم خيبر لأهل الحديبية خاصة لا قوله تعالى لن تخرجوا معي أبداً فإن ذلك في غزوة تبوك {قُلْ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/25)
اقنا طالهم {لَّن تَتَّبِعُونَا} أي لا تتبعونا فإنه نفى في معنى النهي للمبالغة وقال سعدي المفتي : لن ليس للتأكيد سيما إذا أريد النهي والمراد لن تتبعونا في حيبر أو ديمومتهم على مرض القلوب وقال أبو الليث : لن تتبعونا في المسير إلى خيبر إلا متطوعين من غير أن يكون لكم شركة في الغنيمة {كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ} همنين كفته است خداي تعالى {مِن قَبْلُ} أي عند الانصراف من الحديبية {فَسَيَقُولُونَ} للمؤمنين عند سماع هذا النهي {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي ليس ذلك النهي حكم الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم الحسد تمني زوال النعمة عمن يستحق لها وربما يكون من ذلك سعي في إزالتها وروى المؤمن يغبط والمنافق يحسد وقال بعض الكبار : لا يكون الحسد على المرتبة إلا بين الجنس الواحد لا بين الجنسين ولذلك كان أول ابتلاء ابتلى الله به
29
عباده بعثة الرسول إليهم منهم لا من غيرهم لتقوم الحجة على من جحد قال تعالى : ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً يعني لو كان الرسول إلى البشر ملكاً لنزل في صورة رجل حتى لا يعرفوا أنه ملك لأنهم لو رأوه ملكاً لم يقم بهم حسد {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون قال الراغب الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم والفقه بأحكام الشريعة وفقه أي فهم فقهاً {إِلا قَلِيلا} أي إلا فهماً قليلاً وهم فطنتهم لأمور الدنيا وهو وصف لهم بالجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين وعن علي رضي الله عنه أقل الناس قيمة أقلهم علماً.
واعلم أن العلم إنما يزداد بصحبة أهله ولما تخلف المنافقون عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصفهم الله بعدم الفقه فلا بد من مجالسة العلماء العاملين حتى تكون الدنيا وراء الظهر ويجعل الرغبة في الآخرة وقد قال عليه السلام : "اطلبوا العلم ولو بالصين" فكلما بعد المنزلة كثر الخطى وعن بعضهم قال : رأيت في الطواف كهلاً قد أجهدته العبادة وبيده عصا وهو يطوف معتمداً عليها فسألته عن بلده فقال خراسان ثم قال لي : في كم تقطعون هذا الطريق : قلت في شهرين أو ثلاثة فقال : أفل تحجون كل عام؟ فقلت له : وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال : مسيرة خمس سنين قلت : هذا والله هو الفضل المبين والمحبة الصادقة فضحك وأنشأ يقول :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
زرمن هويت وان شطت بك الدار
وخال من دونه حجب واستار
لا يمنعك بعد عن زيارته
إن المحب لمن يهواه زوار
وفي الآية إشارة إلى أن الدنيا من مظان الحسد وهو من رذائل النفس وفي الحديث "ولا تحاسدوا" أي على نعم الله تعالى مالاً أو علماً أو غير ذلك إلا أن يقع الغبطة على المال المبذول وفي سبيل الله والعلم المعمول به المنشور "ولا تناجشوا" النجش هو أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرآثها وقيل هو تحريض الغير على شر "ولا تباغضوا" إلا أن يكون البغض في الله قال الشيخ الكلاباذي معنى لا تباغضوا ولا تختلفوا في الأهواء والمذاهب لأن البدعة في الدين والضلال عن الطريق يوجب البغض عليه "ولا تدابروا" أي لا تقاطعوا فإن التدابر التقاطع وإن يولي الرجل صاحبه دبره فيعرض عنه كما في الفائق أو لا تغتا بواو صفة الأخوة التقابل كما قال تعالى : إخواناً على سرر متقابلين وكما قال عليه السلام : "وكونوا عباد الله إخوانا" قال الحافظ :
رحمى نه برادر ببرادر دارد
هي شوقى نه در رابه سرمى بينم
دختر انراهمه جنكست وجدل بامادر
سرا نراهمه بدخواه در مى بينم
نسأل الله السلامة والعافية {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعْرَابِ} كرر ذكرهم بهذا العنوان لذمهم مرة بعد أخرى فإن التخلف عن صحبة الرسول عليه السلام شناعة أي شناعة {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} بحرب كروهى {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أولى قوة في الحرب وبالفارسية : كروهى بازور سخت.
وهم بنوا حنيفة كسفينة أبو حي كما في القاموس والمراد أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب أو هم غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله والمشركون لقوله تعالى : {تُقَـاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} استئناف كأنه قيل : لماذا فأجيب ليكون أحد الأمرين إما المقاتلة أبداً أو الإسلام لا غير وإما من عدا المرتدين
30
(9/26)
والمشركين من العرب فينتهي قتالهم بالجزية كما ينتهي بالإسلام يعني أن المراد بقوم أولى بأس شديد هم المرتدون والمشركون مطلقاً سواء كانوا مشركي العرب أو العجم بناء على أن من عدا الطائفتين المذكورتين وهم أهل الكتاب والمجوس ليس الحكم فيهم أن يقتلوا إلى أن يسلموا بل تقبل منهم الجزية بخلاف المرتدين ومشركي العرب والعجم فإنه لا تقبل منهم الجزية بل يقاتلون حتى يسلموا وهذا عند الشافعي وإما عند أبي حنيفة رحمه الله فمشركوا العجم تقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب والمجوس والذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إنما هم مشركوا العرب والمرتدون فقط عنده وفي الآية دليل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذ لم يتفق دعوة المخلفين إلى قتال أولى الباس الشديد لغيره من الخلفاء وقد وعدهم الثواب على طاعته وأوعدهم على مخالفته بقوله فإن تطيعوا الخ ومن أوجب الله طاعته يكون إماماً حقاً فيكون أبو بكر إماماً حقاً إلا إذا ثبت أن المراد بأولى البأس أهل حنين وهم ثقيف وهوازن فلا دلالة للآية حينئذ على إمامة أبي بكر لأن الدعوة إلى قتالهم كانت في حياته عليه السلام لأنه غزاهم عقيب فتح مكة فيكون المخلفون ممنوعين من خيبر مدعوين إلى قتال أهل حنين أي فيخص دوام نفي الاتباع بما فيه غزوة خيبر كما قال محيي السنة وقيل : هم فارس والروم ومعنى يسلمون ينقادون فإن الروم نصارى وفارس مجوس تقبل منهم الجزية فتكون الآية دليلاً على إمامة عمر رضي الله عنه لأنه هو الذي قاتلهم ودعا الناس إلى قتالهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَإِن تُطِيعُوا} س اكر فرمان بريد كسى راكه خواننده شماست بقتال آن كروه {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ} بدهد شمارا خداى {أَجْرًا حَسَنًا} هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْا} أي تعرضوا عن الدعوة وبالفارسية واكر روى باكردنانيد وشت بر داعى كنيد {كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ} في الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} لتضاعف جرمكم وبيان المقام إنه عليه السلام لما قال لهم لن تتبعونا دعت الحاجة إلى بيان قبول توبة من رجع منهم عن النفاق فجعل تجعلى لهذا القبول علامة وهو أنهم يدعون بعد وفاته عليه السلام إلى محاربة قوم أولى قوة في الحرب فمن أجاب منهم دعوة إمام ذلك الزمان وحاربهم فإنه يقبل توبته ويعطي الأجر الحسن فلولا هذا الامتحان لاستمر حالهم على النفاق كما استمرت حالة ثعلبة عليه فإنه قد امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي عليه السلام واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة فلعله تعالى علم من ثعلبة أن حاله لا تتغير فلم يبين لتوبته علامة وعلم من أحوال الأعراب أنها تتغير فبين لتغيرها علامة وقال بعضهم : إن عثمان رضي الله عنه قد قبل من ثعلبة وهو مجتهد معذور في ذلك ولعله وقف على إخلاصه والعلم عند الله تعالى ولما حكم داود وسليمان عليهما السلام في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم والنفش الرعي بالليل فحكم داود بشيء وحكم سليمان بأمر آخر وقال الله تعالى : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً فأخذنا من هنا وأمثاله إن كل مجتهد مصبب وإن لم يكن نصافي الباب قال بعضهم : لا تنكروا على أحد حاله ولا لباسه ولا طعامه ولا غير ذلك إلا بإجازة الشرع وسلموا لكل أحد حاله وما هو فيه ففيهم سائحون وتائبون وعابدون وحامدون وساجدون ومسبحون ومستغفرون ومحققون فقد يكون الإنكار سبب الإيحاش
31
والوحشة سبب انقطاعهم عن باب الخالق ويرحم البعض بالبعض.
قال الحافظ :
عيب رندان مكن اى زاهد اكيزه سرشت
كه كناه دكران بر تونخوا هند نوشت
من اكرنيكم وكربد توبرو خودرا باش
هركسى آن درود عاقبت كاركه كشت
نا ميدم مكن از سابقه لطف ازل
توه دانى فلم صنع بنامت ه نوشت
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/27)
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس المتخلفة عن الطاعات والعبادات من الفرائض والنوافل لو دعيت إلى الجهاد في سبيل الله أو الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس والشيطان والدنيا تقاتلونهم بنهى النفس عن الهوى وترك الدنيا وزينتها فإن أجابوا وأطاعوا فقد استوجبوا الأجر الحسن وإن أعرضوا عن الطاعات والعبادات يعذبهم الله بعذاب أليم يتألمون به في الدنيا والآخرة {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى} لما وعد على التخلف نفي الحرج عن الضعفاء والمعذورين فقال : ليس على الأعمى وهو فاقد البصر {حَرَجٌ} إثم في التخلف عن الغزو لأنه كالطائر المقصوص الجناح لا يمتنع عن من قصده والتكليف يدور على الاستطاعة وأصل الحرج والحراج مجتمع الشيء كالشجر وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللاثم حرج {وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ} لما به من العلة اللازمة إحدى الرجلين أو كليتهما وقد سقط عمن ليس له رجلان غسلهما في الوضوء فكيف بالجهاد والأعرج بالفارسية لنك.
من العروج لأن الأعرج ذاهب في صعود بعد هبوط وعرج كفرح إذا صار ذلك خلقة له وقيل للضبع عرجاء لكونها في خلقتها ذات عرج وعرج كدخل ارتقى وأصابه شيء في رجليه فمشى مشي العارج أي الذاهب في صعود وليس ذلك بخلقة أو يثلث في غير الخلقة كما في القاموس {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} لأنه لا قوة به وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف الممدودة مزيد اعتناى بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة {وَمَنْ} وهركه {يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيما ذكر من الأوامر والنواهي في السر والعلانية {يُدْخِلْه جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} قال بعض الكبار : إنما سميت الجنة جنة لأنها ستر بينك وبين الحق تعالى وحجاب فإنها محل شهوات الأنفس وإذا أراد أن يريك ذاتك حجبك عن شهوتك ورفع عن عينيك سترها فغبت عن جنتك وأنت فيها ورأيت ربك والحجاب عليك منك فأنت الغمامة على شمسك فاعرف حقيقة نفسك {وَمَن يَتَوَلَّ} عن الطاعة وبالفارسية : وهركه اعراض كند از فرمان خدا ورسول {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} لا يقادر قدره وبالفارسية عذابي دردناك كه دردان منقطع نكر ددوالم آن منقضى نشود وآن عذاب حرمانست ه بمخالفت امر خدا از دولت لقامهجور وبنافرمانى رسول از سعادت شفاعت محروم خواهدماند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
مسوز آتش محروميم كه هي عذاب.
زروى سوزو الم ون عذاب حرمان نيست.
وفي الآية إشارة إلى أصحاب الأعذار من أرباب الطلب فمن عرض له مانع يعجزه عن السير بلا عزيمة منه وهمته في الطلب ورغبته في السير وتوجهه إلى الحق باق فلا حرج عليه فيما يعتريه فيكون أجره على الله وذلك قوله تعالى : ومن يطع الله ورسوله يعني بقدر الاستطاعة يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يغني يعرض عن الله وينقض عهد الطلب
32
بعذبه عذاباً أليماً كما قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي قدس سره : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول : من عرفه طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين وقد قالوا مرتد الطريقة أعظم ذنباً من مرتد الشريعة وقال الجنيد : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله وقال بعضهم في الآية إشارة إلى الأعمى الحقيقي وهو من لا يرى غير الله لا الآخرة التي أشير إليها بالعين ولا الدنيا التي أشير إليها بالعين اليسرى وهو معذور باستعمال الرخص والدخول في الرفاهية كما قال بعض الكبار : إن المحقق لا يجوع نفسه إلا اضطراراً سيما إذا كان في مقام الهيبة وكسر الصفات فإنه يكثر أكثله لشدة سطوات نيران الحقائق في قلبه بالعظمة وشهودها وهي حالة المقربين ولكن قد يقلل عمداً على قصد المحاق بأهله الأنس بالله فهو بذلك يجتمع بالسالك انتهى وإلى الأعرج الحقيقي وهو من وصل إلى منزل المشاهدة فضرب بسيوف الوحدة والإطلاق على رجل الاثنينية والتقيد فتعطل آلاته بالفناء فتقاعد هناك وهم الأفراد المشاهدون فلا حرج لهم أن لا ينزلوا إلى مقام المجاهدين أيضاً ومن هنا يعرف سر قولهم الصوفي من لا مذهب له فإن من لا مذهب له لا سير له ومن لا سير له لا يلزم له آلة وإلى المريض الحقيقي وهو الذي أسقمه العشق والمحبة وهو معذور إذا باشر الروحانيات مثل السماع واستعمال الطيب والنظر إلى المستحسنات فإن مداواته أيضاً تكون من قبيل العشق والمحبة لأن العشق أمرضه فيداوي بالعشق أيضاً كما قيل :
تداويت من ليلي بليلي من الهوا
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/28)
وقال بعضهم : من كان له عذر في المجاهدة فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فاعرف ذلك {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} رضى العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ورضي الله عن العبد هو أن يراه مؤتمراً لأمره منتهياً عن نهيه وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم وكانوا ألفاً وأربعمائة على الصحيح وقيل ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان وقال بعض الكبار : سميت بيعة الرضوان لأن الرضى فناء الإرادة في إرادته تعالى وهو كمال فناء الصفات وذلك أن الذات العلية محتجبة بالصفات والصفات بالأفعال والأفعال بالأكوان والآثار فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الواحدة فصار موحداً مطلقاً فاعلاً ما فعل وقارئاً ما قرأ ما دام هذا شهوده فتوحيد الأفعال مقدم على توحيد الصفات وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات وإلى هذه المراتب الثلاث أشار صلى الله عليه وسلّم بقوله في سجوده : وأعوذ بعفوك عن عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك فاعلم ذلك فإنه من لباب المعرفة {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} منصوب برضى وصيغة المضارع لاستحضار صورتها وتحت الشجرة متعلق به والشجر من النبت ماله ساق والمراد بالشجر هنا سمرة أي أم غيلان وهي كثيرة في بوادي الحجاز وقيل سدرة وكان مبايعتهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفروا
33
وروى على الموت دونه قال أبو عيسى الحديثين صحيح فبايعه جماعة على الموت أي لا نزال نقاتلهم بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا : لا نفر.
يقول الفقير : عدم الفرار لا يستلزم الموت فلا تعارض وآن أصحاب را أصحاب الشجرة كويند وكان علامة أصحاب رسول الله معه في الغزاة أن يقول : يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة وآن ساعت كه دست عهد بيعت كرفتند يا رسلو فرمان آمد از حق تعالى تادر هاى آسمان بكشادند وفرشتكان از ذروه فلك نظاه كردند واز حق فرمان آمد بطريق مباهات كه أي مقربان افلاك نظر كنيد بآن كروه كه از بهر اعزاز دين اسلام والاى كلمه حق ميكوشند جان بذل كرده وتن سبيل ودل فدا ودر وقت قتال روى نشانه نيزه كرده وسينه سر ساخته :
شراب ازخون وجام ازكاسه سر
بجاى بانك رود آوازاسان
بجاى دسته كل دشنه وتيغ
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
بجاى قرطه برتن درع وخفتان
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 4 من صفحة 34 حتى صفحة 42
كواه باشيد اى مقربان كه من از ايشان خشنودم ودر قيامت هريكى را ازايشان در امت محمد ندان شفاعت دهم كه ازمن خشنود كردند وازين عهدتا آخر دور هر مؤمنى كه آن بيعت بشنود وبدل بامر ايشان درقبول آن بيعت موافق بود من آن مؤمن راهمان خلعت دهم كه اين مؤمنا نرا دادم.
وعند تلك المبايعة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أنتم اليوم خير أهل الأرض" واستدل بهذا الحديث على عدم حياة الخضر عليه السلام حينئذ لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : يقول الفقير : نبوة الخضر منقضية كنبوة عيسى عليهما السلام فعلى تقدير حياته يكون من اتباعه عليه السلام وأمته كما قال عليه السلام : لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي وثبت أن عيسى من أصحابه عليه السلام وعند نزوله في آخر الزمان يكون من أمته فإن قلت بحضور الخضر بين الأصحاب في تلك المبايعة وإن لم يعرفه أحد فإلا أمر ظاهر وإن قلت بعدم الحضور فلا يلزم رجحان الأصحاب عليه من كل وجه إذ بعض من هو فاضل مفضول من وجه قال في إنسان العيون : صارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها شجرة الرضوان وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمان خلافته أن ناساً يصلون عندها فتوعدهم وأمر بها فقطعت خوف ظهور البدعة انتهى وروى الإمام النسفي رحمه الله في التيسير إنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا اين ذهبت.
يقول الفقير : يمكن التوفيق بين الروايتين بأنهم لما عميت عليهم ذهبوا يصلون تحت شجرة على ظن أنها هي شجرة البيعة فأمر عمر رضي الله عنه بقطعها وفي كشف النور لابن النابلسي : إما قول بعض المغرورين بأننا نخاف على العوام إذا اعتقد وأولياً من الأولياء وعظموا قبره والتمسوا البركة والمعونة منه أن يدركهم اعتقاد أن الأولياء تؤثر في الوجود مع الله فيكفرون ويشركون بالله تعالى فننهاهم عن ذلك ونهدم قبور الأولياء ونرفع البنايات الموضوعة عليها ونزيل الستور عنها ونجعل الإهانة للأولياء ظاهراً حتى تعلم العوام الجاهلون أن هؤلاء الأولياء لو كانوا مؤثرين في الوجود مع الله تعالى لدفعوا عن أنفسهم هذه الإهانة التي نفعلها معهم فاعلم أن هذا الصنيع
34(9/29)
كفر صراح مأخوذ من قول فرعون على ماحكاه الله تعالى لنا في كتابه القديم وقال فرعون ذووني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وكيف يجوز هذا الصنيع من أجل الأمر الموهوم وهو خوف الضلال على العامة انتهى.
يقول الفقير : التوفيق بين هذا وبين ما فعله عمر رضي الله عنه أن الذي يصح هو اتباع الظن لا الوهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} عطف على يبايعونك لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك لا على رضى فإن رضاه تعالى عنهم مترتب على علمه تعالى بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص عند مبايعتهم له عليه السلام قال بعضهم : إن من الفرق بين علم الحق وعلم عبيده أن علمهم لم يكن لهم إلا بعد ظهورهم وحصول صورتهم وأما علم الحق تعالى فكان قبل وجود الخلق وبعدهم فليس علمه تعالى بعناية من غيره بخلاف العبد {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} عطف على رضى أي فأنزل عليه الطمأنينة وسكون النفس بالربط على قلوبهم وقيل بالصلح قال البقلى في عرائسه رضي الله عنهم في الأزل وسابق علم القدس ويبقى رضاه إلى الأبد لأن رضاه صفته الأزلية الباقية الأبدية لا نتغير بتغير الحدثان ولا بالوقت والزمان ولا بالطاعة والعصيان فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالشرية والشهوات لأن أهل الرضى محروسون برعايته لا يجري عليهم نعوت أهل البعد وصاروا متصفين بوصف رضاه فرضوا عنه كما رضي عنهم وهذا بعد قذف أنوار الأنس في قلوبهم بقوله : فأنزل السكينة عليهم قال ابن عطاء رضي الله عنهم فأرضاهم وأوصلهم إلى مقام الرضى واليقين والاطمئنان فأنزل سكينته عليهم لتسكن قلوبهم إليه {وَأَثَابَهُمْ} واداش داد ايشانرا فإن الاثابة بالفارسية اداش دادن.
والثواب ما يرجع إلى الانسان من جواء عمل يستعمل في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير والإثابة تستعمل في المحبوب وقد قيل ذلك في المكرون نحو فأثابكم غماً بغم على الاستعارة {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر غب انصرافهم من الحديبي {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي وأثابهم مغانم خيبر وكانت ذات عقار وأشجار أخذوها من اليهود مع فتح بلدتهم فقسمت عليهم {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} غالباً {حَكِيمًا} مراعياً لمقتضى الحكمة في أحكامه وقضاياه وقال ابن الشيخ حكيماً في أمره حكم لهم بالظفر والغنيمة ولأهل خيبير بالسبي والهزيمة {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي ما يفيئه على المؤمنين إلى يوم القيامة والإفاءة مال كسى غنيمت كردن {تَأْخُذُونَهَا} في أوقاتها المقدرة لكل واحد مناه
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ} أي غنائم خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ} أي أيدي أهل خيبر وهم سبعون ألفاً وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان حيث جاءوا لتصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا والحلفاء بالحاء المهملة جمع حليف وهو المعاهد للنصر فإن الحلف العهد بين القوم وقيل أيدي أهل مكة بالصلح وبالفارسي ودست مردمانرا از شما كوتاه كرد.
وقال في المفردات الكف كف الناس وهي ما بها يقبض ويبسط وكففته دفعته بالكف وتعورف الكف باردفع على أي وجه كان بالكف وبغيرها حتى قيل رجل مكفوف لمن قبض بصره قال سعدي المفتي إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر
35
لا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجعه عليه السلام من الحديبي وإن كان قبله على أنها من الإخبار عن الغيب فالإشارة بهذه تنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة والتعبير بالمضي للتحق {وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} عطف على علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين أي فعجل لكم هذه أو كف أيدي الناس عنكم لتغتنموها ولتكون إنارة للمؤمنين ويعرفون بها صدق الرسول في وعده إياه عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم وفتح مكة وهو دخول المسجد الحرام ويجوز أن تكون الواو واعتراضية على أن تكون اللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف {وَيَهْدِيَكُمْ} بتلك الآية {صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وما تذرون وفي الآية إشارة إلى ما وعد الله عباده من المغانم الكثيرة بقوله : ادعوني أستجب لكم فكل واحد يأخذها بحسب مطمح نظره وعلو همته فمن كانت همته الدنيا فهي له معجلة وماله في الآخرة من خلق ومن كانت همته الآخرة فله نصيب من حظ الدارين وربما يكف الله أيدي دواعي شهوات النفس عن المؤمنين ليكونوا من أهل الجنة كما قال تعالى ونهى النفس عن الهوا فإن الجنة هي المأوى ولو وكلهم إلى أنفسهم لاتبعوا الشهوات وهي دركات الجحيم إذ حفت الناس بالشهوات وفي ترك الدنيا وشهوات النفس آية للمؤمنين حيث يهتدي بعضهم بهدي بعض ويصلون على هذا الصراط المستقيم إلى حضرة ربوبية.
قال الشيخ سعدي :
ي نيك مردان ببايدشتافت(9/30)
هران كين سعادت طلب كردايافت
وليكن تودنبال ديوخسى
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ندانم كه در صالحان كى رسى
يمبر كسى راشفاعت كرست
كه برجاده شرع يغمبرست
ثم إن خيبر حصن معروف قرب المدينة على ما في القاموس وقال في إنسان العيون هو على وزن جعفر سميت باسم رجل من العماليق نزلها يقال له خيبر وهو اخو يثرب الذي سميت باسمه المدينة وفي كلام بعض خيبر بلسان اليهود الحصن ومن ثم قيل لها خيابر لاشتمالها على الحصون وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد والبريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال.
يقول الفقير : وكل ميلين ساعة واحدة بالساعات النجومي لأنه عد من المدينة إلى قبا ميلان وهي ساعة واحدة فتكون الثمانية البرد ثماني وأربعين ساعة بتلك الساعات وفي القاموس البرد فرسخان واثنا عشر ميلاً انتهى ولما رجع عليه السلام من الحديبية أقام شهراً أي بقية ذي الحجة وبعض المحرم من سنة سبع ثم خرج إلى خيبر وقد استنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة فقال عليه السلام : لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا ، أي لا تعطون منها شيئاً ثم أمر منادياً ينادي بذلك فنادى به وأمر أيضاً أنه لا يخرج الضعيف ولا من له مركب صعب حتى أن بعضهم خالف هذا الأمر فنفر مركوبه فصرعه فاندقت فخذه فمات فأمر عليه السلام بلالاً رضي الله عنه أن ينادي في الناس الجنة لا تحل العاص ثلاثاً وخرج معه
36
عليه السلام من نسائه أم سلمة رضي الله عنها ولما أشرف على خيبر وكان وقت الصبح رأى عمالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم وهي القفف الكبيرة قالوا : محمد والخميس أي : الجيش العظيم معه قيل له : الخميس لأنه خمسة أقسام : المقدمة والساقة والميمنة والميسرة وهما الجناحان والقلب وادبروا أي العمال هرباً إلى حصونهم وكانوا لا يظنون أن رسول الله يغزوهم وكان بها عشرة آلاف مقاتل فقال عليه السلام : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين وإنما قاله بالوحي كما نطق به قوله تعالى فعجل لكم هذه وابتدأ من حصونهم بحصون النطاة وأمر بقطع نخلها فقطعوا اربعمائة نخلة ثم نهاهم عن القطع ومكث عليه السلام سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة فلم يرجع من أعطى له الراية بفتح ثم قال : لأعطين الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبانه يفتح الله على يديه فتطاولها أبو بكر وعمر وبعض الصحابة من قريش فدعا عليه السلام علياً رضي الله عنه وبه رمد فتفل في عينيه ثم أعطاه الراية وكانت بيضاء مكتوب فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله بالسواد فقال علي : علام أقاتلهم يا رسول الله؟ قال : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلوا فقد حقنوا دماءهم وأموالهم وألبسه عليه السلام درعه الحديد وشد سيفه ذا الفقار في وسطه ووجهه إلى الحصن وقال لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم أي من الإبل النفيسة التي تصدق بها في سبيل الله فخرج علي رضي الله عنه بالراية يهرول حتى ركزها تحت الحصن الحارث أحو مرجب وكان معروفاً بالشجاعة فتضاربا فقتله علي وانهزم اليهود إلى الحصن :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
صعوه كريا عقاب سازدجنك
دهد ازخون خودرش رارنك
ثم خرج إليه مرحب سيد اليهود وهو يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح البطل المجرب
أي تام السلاح معروف بالشجاعة وقهر الفرسان وارتجر علي رضي الله عنه وقال :
أنا الذي سمتني أمي حيدره
ضرغام آجام وليث قسوره
وضرب علياً فطرح ترسه من يده فتناول علي بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده يقاتل حتى قتل مرحباً وفتح الله عليه الحصن وهو حصن ناعم من حصون النطاة وألقى الباب من يده وراء ظهره ثمانين شبراً وذلك بالقوة القدسية وفيه بيان شجاعة علي حيث قتل شجيعاً بعد شجيع ونعم ما قيل :
كرله شاطر بود خروس بجنك
ه زند يش بازروبين نك
كربه شيرست كرفتن موش
ليك موشست درمصاف لنك
ثم انتقل عليه السلام من حصن ناعم إلى حصن العصب من حصون النطاق فأقاموا على محاصرته يومين حتى فتح الله وما بخيبر حصن أكثر طعاماً منه كالشعير السمن والتمر والزيت والشحم والماشية والمتاع ثم انتقلوا إلى حصن قلة وهو حصن بقلة وهو آخر حصرن النطاق فقطعوا عنهم ماءهم ففتحه الله ثم سار المسلمون إلى حصار الشق بفتح الشين المعجمة وهو أعرف عند الله اللغة من الكسر ففتحوا الحصن الأول من حصونه ثم حاصروا حصن البرآء وهو
37
(9/31)
الحصن الثاني من حصني الشق فقاتلوا قتالاً شديداً حتى فتحه الله ثم حاصروا حصون الكثيبة وهي ثلاثة حصون : القموص كصبور والوطيح وسلالم بضم السين المهملة وكان أعظم حصون خيبر القموص وكان منيعاً حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد علي رضي الله عنه ومنه سبيت صفية رضي الله عنها وانتهت المسلمون إلى حصار الوطيح بالحاء المهملة سمي باسم الوطيح بن مارن رجل من اليهود وسلالم آخر حصون خبر ومكثروا على حصارهما أربعة عشر يوماً وهذان الحصنان فتحا صلحاً لأن أهلهما لما أيقنوا بالهلاك سألوا رسول الله عليه السلام الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم وأن لا يصحب أحداً منهم إلا ثوب واحد على ظهره فصالحهم عليه ووجدوا في الحصنين المذكورين مائة درع وأربعمائة سيف وألف رمح وخمسمائة قوس عربية بجعابها وأشياء أخر غالية القيمة وهي ما في الخزانة أبي الحقيق مصغراً وأرسل عليه السلام إلى أهل فدك وهي محركة قرية بخيبر يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم فتصالحوا معه عليه السلام على أن يحقن دماءهم ويخليهم ويخلون بينه وبين الأموال ففعل ذلك رسول الله وقيل تصالحوامعه على أن يكون لهم النصف في الأرض ولرسول الله النصف الآخر وكان فدك الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى الثاني كان له نصفها لأن لم تؤخذ بمقاتلة وكان عليه السلام ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج منها أيمهم ولما مات عليه السلام وولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة سألته فاطمة رضي الله عنها أن يجعل فدك أو نصفها لها فأبى وروي لها أنه عليه السلام قال : أنا معاشر الأنبياء لا نورث أي لا نكون مورثين ما تركناه صدقة أي على المسلمين ثم إن النبي عليه السلام أمر بالغنائم التي غنمت قبل الصلح فجمعت وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبايا منها صفي بنت ملكهم حي بن أخطب من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام فهداها الله فأسلمت ثم أعتقها رسول الله وتزوجها وكانت رأيت أن القمر وقع في حجرها فكان ذلك رسول الله وجعل وليمتها حيساً في نطع الحيس تمر وأقط وسمن ودخل بها رسول الله في منزل الصهباء في العود والصهباء موضع قرب خيبر كما في القاموس وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه متوشحاً سيفه يحرسه ويطوف حول قبته حتى أصبح رسول الله فرأى مكان أبي أيوب فقال مالك : يا أبي أيوب قال : يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بجاهلية فبت أحفظك فقال عليه السلام : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني قال السهيلي رحمه الله فحرس الله تعالى أبا أيوب بهذه الدعوة حتى أن الروم لتحرس قبره ويستسقون به فيسقون فإنه غزا مع يزيد بن معاوي سنة خمسين فلما بلغوا القسطنينية مات أبو أيوب هناك فأوصى يزيد أن يدفنه في أقرب موضع من مدينة الروم فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مساغاً دفنوه فسألتهم الروم عن شأنهم فأخبروهم أنه كبير من أكابر المسلمين الصحابة فقالت ليزيد : ما حمقك وأحمق من أرسلك آمنت أن ننبشه بعدك فخرق عظامه فحلف لهم يزيد لئن فعلوا ذلك ليهد من كل كنيسة بأرض العرب وينبش قبورهم فحينئذ حلفوا له بنبيهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا وقال صاحب روضة الأخبار : مات
38
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/32)
أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه بالقسطنطينية سنة إحدى وخمسين مرابطاً مع يزيد بن معاوية مرض فلما ثقل مرضه قال لأصحابه : إذا أنا مت فاحملوني فإذا صادفتهم العدو فادفنوني تحت أقدامكم ففعلوا وقبره قريب من سورها معروف معظم وكان الروم يتعادون قبره ويستشفون به انتهى.
يقول الفقير : ثبت أن قبر أبي أيوب إنما تعين بإشارة الشيخ الشهير بآق شمس الدين قدس سره وقد كان مع الفاتح السلطان محمد العثماني في زمان الفتح وهذا يقتضى أن يكون محل قبره المنيف مندرساً بمرور الأيام ولنعد إلى تمام القصة ونهى النبي عليه السلام عن إتيان الحبالى حتى تضع وعن غير الحبالة حتى تستبرأ بحيضة ونهى عن إتيان المسجد لمن أكل الثؤم والبصل وعن بعضهم ما أكل نبي قط ثؤماً ولا بصلاً يقول الفقير : يدخل فيه الدخان الشائع شربه في هذا الزمان بل رأى تحته أكره من رائحة الثؤم والبصل فإذا كان دخول المسجد ممنوعاً مع رائحتهما دفعا لاذى الناس والملائكة فمع رائحة الدخان أولى وظاهر أن الثؤم والبصل من جنس الأغذية ولا كذلك الدخان ومحافظة المزاج بشربه إنما عرفت بعد الإدمان المولد للأمراض الهائلة فليس لشاربه دليل في ذلك أصلاً فكما أن شرب الخمر ممنوع أولاً وآخراً حتى لو تاب منها ومرض لا يجوز أن يشربها ولو مات من ذلك المرض يؤجر ولا يأثم فكذا شرب الدخان وليس استطابته إلا من خباثة الطبع فإن الطباع السليمة تستقذره لا محالة فتب إلى الله وعد حتى لا يراك حيث نهاك ووقت عليه السلام قص الشارب وتقليم الأظفار واستعمال النورة بأن لا يترك ذلك أربعين يوماً وقدم عليه صلى الله عليه وسلّم بعد فتح خيبر ابن عمه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة وقد كان هاجر إليها معه الأشعريون فقام عليه السلام إلى جعفر وقبله بين عينيه واعتنقه وقال : والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر وليس حديث القيام معارضاً لحديث من سره أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار لأن هذا الوعيد إنما توجه للمشركين ولمن يغضب أن لا يقام له وكان من جملة من قدم معهم من الحبشة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه السلام وذلك أن أم حبيبة كانت ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فارتد عن الإسلام هناك وتنصر ومات على ذلك وبقيت هي على إسلامها ورأت في المنام كان قائلاً يقول لها : يا أم المؤمنين فعلمت بأن رسول الله يتزوجها فأرسل عليه السلام في المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشي بالتخفيف ملك الحبشة وكان مؤمناً ليزوجها منه عليه السلام فزوجها وأصدقها أربعمائة دينار ولما قدم رسول الله خيبر كان الثمر أخضر فأكثر الصحابة من أكله فأصابتهم الحي فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال : بردوا لها الماء في الشنان أي في القرب ثم صبوا منه عليكم بين أذاني الفجر واذكروا اسم الله عليه ففعلوا فذهبت عنهم وفي هذا الغزوة أراد عليه السلام أن يتبرز فأمر إلى شجرتين متباعدتين حتى اجتمعتا فاستتر بهما ثم قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها وفي خيبر كان أكله من الشاة المسمومة وذلك أن زينب ابنة الحارث أخي مرحب سمتها وأكثرت في الذراعين والكتف لما عرفت أنه عليه السلام كان يحب الذراع والكتف لكونهما أبعد من الأذى واحدتها له
39
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
عليه السلام وكان قد صلى المغرب بالناس فلما انتهش من الذراع وازدرد لقمة ازدرد بشر ما في فيه ومات من أكل معه وهو بشر بن البراء واحتجم رسول الله بين الكفتين في ثلاثة مواضع وقال الحجامة في الرأس هي المعينة أمرني بها جبرائيل حين أكلت طعام اليهودية وقد احتجم في غير هذه الواقعة مراراً واحتجم وسط رأسه وكان يسمها منقذاً وذلك أنه لما سحره اليهودي ووصل المرض إلى الذات المقدسة أمر بالحجامة على قبة رأسه المباركة واستعمال الحجامة في كل متضرر بالسحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة وفي الحديث الحجامة في الرأس شفاء من سبع من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووضع الضرس وظلمة يجدها في عينيه والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد والأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم وعن أبي هريرة مرفوعاً من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء والحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء ويكره في الأربعاء والسبت ثم أرسل رسول الله إلى تلك اليهودية فقال : أسممت هذه الشاة فقالت : من أخبرك؟ قال : أخبرتني هذه التي في يدي أي الذراع قالت : نعم قال : ما حملك على ما صنعت؟ قالت : قتلت أبي وعمر وزوجي ونلت من قومي ما نلت فقلت : إن كان ملكاً استرحنا منه وإن كان نبياً فسيخبر فعفا عنها :
زخوان معجزا وكرنوا له طلبي
حديث بره برياشنوكه ما حضرست
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/33)
فلما مات بشر أمر بها فقتلت وصليت وقى الأحياء أطعم عليه السلام السم فمات الذي أكل معه وعاش هو عليه السلام بعده أربع سنين انتهى قال الشيخ الشهير بأفتاده قدس سره : إنما لم يؤثر السم في عمر حين جاء من قيصر لأنه رضي الله عنه إنما شرب بحقيقته لا ببشريته وإنما أثر في النبي عليه السلام بعد تنزله إلى حالة بشريته وذلك إرشاده عليه السلام وإن كان في عالم التنزل غير أن تنزله كان في مرتبة الروح وهي أعدل المراتب فلم يؤثر فيه حتى مضى عليه اثنتا عشرة سنة فلما احتضر عليه السلام تنزل إلى أدنى المراتب لأن الموت إنما يجري على البشرية فلما تنزل إلى تلك المرتبة أثر فيه انتهى فانتقل عليه السلام من الدنيا بالشهادة فأحرز جميع المراتب من النبوة والرسالة والصديقية والشهادة يقول الفقير قوله اثنتا عشرة سنة وهكذا قال صاحب المحمدية وهو مخالف لما سبق عن الإحياء والحق ما في الإحياء لأن قصة السم كانت في خيبر وقصة خيبر في السنة السابعة من الهجرة فغير هذا وجهه غير ظاهر كما لا يخفى ولما كان زمان خلافة عمر رضي الله عنه ظهر خيانة أهل خيبر فأجلى يهود فدك ونصارى نجران لأنه عليه السلام قال : لا يبقى دينان في جزيرة العرب وجزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات أو ما بين عدل أبين إلى أطراف الشام طولاً ومن جدة إلى ريف العراق عرضاً كما في القاموس {وَأُخْرَى} عطف على هذه أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} وهي مغانم هوازن في غزوة حنين فإنهم لم يقدروا عليها إلى عام الحديبية وإنما قدروا عليها عقيب فتح مكة ومصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة أي من تكرار الهزيمة والرجوع إلى
40
القتال قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها يقال جال القوم جولة انكشفوا ثم كروا {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} صفة أخرى لأخرى مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته تعالى بعد بيان صعوبة مثالها بالنظر إلى قدرتهم أي قد قدر الله عليها واستولى وأظهركم عليها وقيل : حفظها عليكم لفتحكم ومنعها من غيركم يعني جميع فتوح المسلمين قال ابن عباس رضي الله عنهما ومنه فتح قسطنطينية ورومية وعمورية ومد آثم فارس والروم والشام أما قسطنطينية فمشهورة وهي الآن دار السلطنة للسلاطين العثمانية وأما رومية ويقال لها رومية الكبرى فمدينة عظيمة من مدن الروم مثل قسطنطينية وما عمورية بفتح العين المهملة وضم الميم المشددة وبالراء فقد قال الإمام اليافعي في المرآة هي التي يسميها أهل الروم انكورية وهي مدنية كبيرة كانت مقر ملوكهم فتحها المعتصم بالله قال الراغب : الإحاطة على وجهين أحدهما في الأجسام نحو احطت بمكان كذا وتستعمل في الحفظ نحو كان الله بكل شيء محيطاً أي حافظاً له في جميع جهاته وتستعمل في المنع نحو إلا أن يحاط بكم أي إلا أن تمنعوا والثاني في العلم نحو أحاط بكل شيء علماً فالإحاطة بالشيء علماً هو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وكيفيته وغرضه المقصود به وبإيجاده وما يكون به ومنه وذلك ليس يكون إلاوقال : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فنفى عنهم ذلك {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشيء دون شيء أي منتهية عند غير متجاوزة عنه لأن علتها لا تنتهي فتأمل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/34)
اعلم أن المغازي غزوة حنين وهو اسم موضع قريب من الطائف ويقال لها لغزوة حنين غزوة هوازن ويقال لها غزوة أوطاس باسم الموضع الذي كانت به الواقعة في آخر الأمر وسببها أنه لما فتح الله على رسوله مكة أطاعت له قبائل العرب إلا هوازن وثيفاً فإن أهلهما كانوا طغاة مردة فاجتمعوا إلى حنين فلما وصل خبرهم إلى رسول الله عليه السلام تبسم وقال تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى فأجمع على السير إلى هوازن وخرج في اثني عشر ألفاً فلما قربوا من محل العدو صفهم وأعطى لواء المهاجرين علياً رضي الله عنه ولواء الخزرج الحباب بن المنذر رضي الله عنه ولواء الأوس أسيد بن حضير رضي الله عنه وركب عليه السلام بغلته الشهباء التي يقال لها فضة قد أهداها له صاحب البلقاء وقيل هي دلدل التي أهداها له المقوقس ولبس درعين والمغفر والدرعان هما ذات الفضول والسغدية بالسين المهملة والغين المعجمة وهي درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جاروت فلما كان بحنين وذلك عند غبش الصبح أي ظلمته وانحدروا في الوادي خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه فحملوا عليهم حملة رجل واحد ورموهم بالنيل وكانوا رماة لا يسقط لهم سهم فأخذ المسلمون راجعين منهزمين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول الله ذات اليمين ومعه نفر قليل منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل فقال عليه السلام : يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة يعني الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وكان صيحاً يسمع صوته من ثمانية أميال فأجابوا لبيك لبيك حتى انتهى إليه جمع فاقتتلوا ثم قبض عليه السلام قبضة من تراب واستقبل بها وجوههم فقال : شاهت الوجوه حم لا ينصرون انهزموا ورب محمد ورماهم
41
بالتراب فملئت أعينهم من التراب فولوا مدبيرن فتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ولما انهزم القوم عسكر بعضهم بأوطاس فبعث النبي عليه السلام في آثارهم أبا عامر الأشعري رضي الله عنه ورجع رسول الله إلى معسكر يمشي في المسلمين ويقول : من يدلني على رجل خالد بن الوليد حتى دل عليه فوجده قد أسند إلى مؤخرة رحله لأنه أثقل بالجراحة فتفل عليه السلام في جرحه فبرىء وأمر عليه السلام بالسبي والغنائم أن تجمع فجمع ذلك كله وأخذوه إلى الجعرانة بالكسر والعين المهملة موضع بين مكة والطائف سمي بريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة وهي المرادة في قوله تعالى : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها وكانت بها إلى أن انصرف رسول الله من غزوة الطائف ثم لما أتاها قسم تلك الغنائم وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفاً والغنم أكثر من أربعين ألفاً والفضة أربعة آلاف أوقية وأحرم من الجعرانة بعمرة بعد أن أقام بها ثلث عشرة ليلة وقال : اعتمر منها سبعون نبياً وقد اعتمر عليه السلام بعد الحجرة أربع عمر أولادها عمرة الحديبية والثانية عمرة القضاء من العام المقبل والثالثة عمرة الجعرانة والرابعة عمرته عليه السلام مع حجة الوداع وباقي البيان في غزوة حنين وما يتصل بها قد سبق في أوائل التوبة عند قوله : لقد نصركم الله الخ
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{وَلَوْ قَـاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُوا} أي أهل مكة ولم يصالحوكم وقيل حلفاء خيبر من بني أسد وغطفان {لَوَلَّوُا الادْبَـارَ} أي لانهزموا ولم يكن قتال وبالفارسية هر آينه بر كردانيدندى شتهارا بكريز يعني هزيمت كردندى.
فإن تولية الأدبار كناية عن الانهزام وكذا في الفارسية كما قال.
آن نه من باشم كه روز جنك بيني شت من.
ودبر الشيء خلاف القبل كالظهر والخلف {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يحرسهم {وَلا نَصِيرًا} ينصرهم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن خلا ومضى من الأمم وهو قوله لأغلبن أنا ورسلي فسنة الله مصدر مؤكد لفعله المحذوف {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أي تغييراً بنقل الغلبة من الأنبياء إلى غيرهم :
محالست ون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذا ردترا
هره در ازل مقر رشده لا محاله كائن خواهد شد ودست تصرف هيكس رقم تغيير وتبديل بر صفحات آن نخواهد كشيد :
تغيير بحكم ازلي راه نيابد
تبديل بفرمان قضا كار ندارد
در دائرة أمركم وبيش نكنجد
باسر قدر جون ورا كارندارد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 5 من صفحة 42 حتى صفحة 52
(9/35)
وفي الآية إشارة إلى مقاتلة النفوس المتمردة فالله تعالى ناصر السالكين على قتال النفوس وقد قدر النصرة في الأزل فلا تبديل لها إلى الأبد فالمنصور من نصره الله والمقهور من قهره الله ونصرة الله على أنواع فمنها نصرة في الظالم فمن بعضهم كنا في المدينة يتكلم في بعض الأوقات في آيات الله تعالى المنعم بها على أوليائه وكان رجل ضرير بالقرب منا يسمع ما نقول فتقدم إلينا وقال : أنست بكلامكم اعلموا أنه كان لي عيال وأطفال فخرجت إلى البقيع احتطب فرأيت شاباً عليه فميص كتان ولعله في أصبعه فتوهمت أنه تائه فقصدت أن
42
أسلبه ثوبه فقلت له : انزع ما عليك فقال لي : مر في حفظ فقلت له الثانية والثالثة فقال ولا بد قلت : ولا بد فأشار بأصبعيه إلى عيني فسقطتا فقلت : بالله عليك من أنت فقال : أنا ابراهيم الخواص وإنما دعا إبراهيم الخواص على اللص بالعمى ودعا ابراهيم بن أدم للذي ضربه بالجنة لأن الخواص شهد من اللص أنه لا يتوب إلا بعد العقوبة فرأى العقوبة أصلح له وابن أدهم لم يشهد توبة الضارب في عقوبته فتفضل عليه بالدعاء له فتوة منه وكرماً فحصلت البركة والخير بدعائه للضارب فجاءه مستغفراً معتذراً فقال له إبراهيم : الرأس الذي يحتاج إلى الاعتذار تركته ببلخ يعني أن نخوة الشرف وكبر الرياسة الواقعة في رأسي حين كنت ببلخ قد استبدلت بها تواضع المسكنة والانكسار ومنها نصرة في الباطن فعن أحمد ابن أبي الحواري رحمه الله قال : كنت مع أبي سليمان الداراني قدس سره في طريق مكة فسقطت مني السطيحة أي المزادة فأخبرت أبا سليمان بذلك فقال : يا راد الضالة فلم ألبث حتى أتى رجل يقول : من سقطت منه سطيحته فإذا هي سطيحتي فأخذتها فقال أبو سليمان : حسبت أن يتركنا بلا ماء يا أحمد فمشينا قليلاً وكان برد شديد وعلينا الفراء فرأينا رجلاً عليه طمران رثان وهو يترشح فقال له أبو سليمان : نواسيك ببعض ما علينا فقال الحر والبرد خلقان من خلق الله تعالى أن أمرهما غشياني وأن أمرهما تركاني وأنا أسير في هذه البادية منذ ثلاثين سنة ما ارتعدت ولا انتفضت يلبسني فيحاً من محبته في الشتاء ويلبسني في الصيف مذاق برد محبت :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
جمعى كه شت كرم بعشق نيند
ناز سمور ومنت سنجاب مى كشند
يا داراني أشير إلى ثوب وتدع الزهد تجد البرد ياداراني تبكي وتصيح وتستريح إلى الترويح فمضى أبو سليمان وقال : لم يعرفني غيره قيل في هذه الحكاية ما معناه إنه لما حقق الله يقين أبي سليمان في رد السطيحة صانه من العجب بما رأه من حال هذا الرجل حتى صغر في عينيه حال نفسه وتلك سنة الله في أوليائه يصونهم من ملاحظة الأعمال ويصغر في أينهم ما يصفو لهم منا لأحوال وينصرهم في تذكي نفوسهم عن سفساف الأخلاق رضي الله عنهم ونفعنا بهم وسلك بنا مسالك طريقتهم إنه هو الكريم المحسان {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي كفار مكة {عَنكُمْ} أي بأن حملهم على الفرار منكم مع كثرة عددهم وكونهم في بلادهم بصدد الذنب عن أهليهم وأولادهم {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} بأن حملكم على الرجوع عنهم وتركهم {بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي في داخلها {مِنا بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ} أي جعلكم ظافرين غالبين {عَلَيْهِمْ} وبالفارسية : س ازانكه ظفر داد شمار او غالب ساخت.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
مع أن العادة المستمرة ظفره وذلك أن عكرمة ابن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله عليه السلام خالد بن الوليد على جند وسماه يومئذ سيف الله فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد ذكره الطبراني وابن أبي حاتم في تفسيريهما قال سعدي المفتي : لم يصح هذا والمذكور في كتب السير وغيرها من الصحاح أن خالد بن الوليد كان يوم الحديبية طليعة للمشركين أرسلوه في مائتي فارس فدنا في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله فأمر رسول الله عباد بن بشر رضي الله عنه
43
(9/36)
فتقدم في خيله فقام بإزائه وصف أصحابه وحانت العصر فصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف فكيف يصح ما يذكره وقد صح أن إسلام خالد بن الوليد كان بعد الحديبية في السنة الثامنة أو قبلها انتهى وكذا قال في انسان العيون خالد بن الوليد أسلم بعد وقعة الحديبية وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت يعني أن جماعة من أهل مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة فلما كان الكف عن الوجه المذكور في غاية البعد قال تعالى وهو الذي الخ على طريق الحصر استشهاداً به على ما تقدم من قوله ولو قاتلكم الخ أو هم ثمانون رجلاً طلعوا على رسول الله من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه بغتة ويقتلوا الأصحاب فأخذهم رسول الله فخلى سبيلهم فيكون المراد ببطن مكة وادي الحديبية لأن بعضها من الحرم وفي المفردات أصل البطن الجارعة ويقال للجهة السفلى بطن وللجهة العليا ظهر وبه شبه بطن الأمر وبطن الوادي والبطن من العرب اعتباراً بأنهم شخص واحد فإن كل قبله منهم كعضو بطن وفخد وكاهل انتهى يقول الفقير : لا شك أن وادي الحديبية واقع في الجهة السفلى من مكة لأنه في جانب جدة المحروسة فيكون المراد بالبطن تلك الجهة لا داخل مكة والمعنى والله تعالى أعلم أن الله هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم من الحديبية التي هي الجهة السفلى من مكة من بعد أن أقدركم عليهم بحيث لو قاتلتموهم غلبتهم عليهم بإذنه تعالى على ما كان في علمه كما قال ولو قاتلكم الخ وسيأتي سر الكف في الآية التي تلي هذه {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من مقاتلتكم وهزمكم إياهم أو لا طاعة لرسوله وكفكم عنهم ثانياً لتعظيم بيته الحرام وصيانة أهل الإسلام {بَصِيرًا} عالماً لا يخفى عليه شيء فيجازيكم بذلك وقال بعض العلماء من بعد أن أظفركم عليهم يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً وأما أن السورة نزلت قبله فلا يخالف لأنه من الأخبار عن الغيب كقوله : إنا فتحنا لك نعم يرد عليه منع دلالته على العنوة فقد يكون الظفر على البلد بالصلح وكذلك قال الزمخشري في أول السورة الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب كما في حواشي سعدي المفتي وقال في بحر العلوم ويدل على أنها فتحت عنوة قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لأن لفظ الفتح إذا ورد مطلقاً لا يقع إلا على ما فتح عنوة انتهى.
يقول الفقير : هذا ليس من قبيل الفتح المطلق ولو سلم فالفتح المطلق لا يدل عليه ولذا قارنه تعالى بالنصرة في سورة النصر فإن النصر يقتضي القهارية لا الفتح وقال في عين المعاني وقد فتحت صلحاً عند الشافعي قلنا بل عنوة لقوله عليه السلام لأصحابه احصدوهم بالسيف حصداً إلا أنه لم يضع الجزية على أهلها ولا الخراج على أراضيها كما هو مذهبنا فيما يفتح عنوة لأن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عندنا وأما سواد الكوفة أرض العجم انتهى وقصة فتح مكة على الإجمال أن الفتح كان في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة وكان السبب في ذلك نقض عهد وقع من جانب قريش وذلك أن شخصاً من بني بكر هجا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصار
44
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/37)
يتغنى به فسمعه غلام من خزاعة وكانوا مسلمين فضربه فشبحه فثار الشر بين الحيين وأمد قريش لبني بكر على خزاعة فبيتوا خزاعة أي أتوهم ليلاً على غفلة فقتلوا منهم عشرين ولم يكن ذلك برأي أبي سفيان رئيس قريش وعند ما بلغه الخبر قال حديثني زوجتي هند أنهار رأت رؤيا كرهتها رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة بالخاء العمجمة بمكة والحاء المهملة جبل بمعلاة مكة وقال : ليغزو يا محمد فكره القوم ذلك وخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم المدينة وقص على رسول الله القصة فقال عليه السلام : "نصرت يا عمرو بن سالم" ودمعت عينا رسول الله وكان يقول خزاعة مني وأنا منهم قالت عائشة رضي الله عنها : أترى قريشاً تجترىء على نقض العهد الذي بينك وبينهم فقال عليه السلام : "ينقضون العهد الأمر يريده الله" فقلت : خير قال : خير ولما ندمت قريش على نقض العهد أرسلوا أبا سفيان ليشدّ العقد ويزيد في المدة فقال عليه السلام : "نحن على مدتنا وصلحنا" ولم يقبل ذلك من أبي سفيان ولا أحد من أصحابه فرجع إلى مكة وأخبر القصة وقال : والله قد أبى علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوماً لملك عليهم أطوع منهم له ثم إن رسول الله تشاور مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في السير في مكة وأخفى الأمر عن غيرهما فقال أبو بكر هم قومك يا رسول الله فأشار إلى عدم السير وحضه عمر حيث قال : هم رأس الكفرة زعموا أنك ساحر وأنك كذاب وذكر له كل سوء كانوا يقولونه وأيم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة فعند ذلك ذكر عليه السلام أن أبا بكر كإبراهيم وكان في الله ألين من اللبن وأن عمر كنوح وكان في الله أشد من الحجر وأن الأمر أمر عمر وأشار عليه السلام بطي السر وأمر أصحابه بالجهاز وأرسل إلى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة ولما قدموا قال عليه السلام : "اللهم خذ العيون والاخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها" ثم مضى لسفره لعشر خلون من رمضان أو غير ذلك وكان العسكر عشرة آلاف فيهم بالمهاجرون والأنصار جميعاً وأفطر عليه السلام في هذا السفر بالكديد وهو كأمير محل بين عسفان وقديد كزبير مصغراً وأمر بالإفطار وعد مخالفته في ذلك عصياناً لحرارة الهواء ولما فيه من القوة على مقاتلة العدو وفي قديد عقد عليه السلام الألوهية والرايات ودفعها للقبائل ثم سار حتى مر بمر الظهران وهو موضع على مرحلة من مكة وقد أعمى الله الاخبار عن قريش إجابة لدعائه فلم يعلموا بوصوله وكان ذلك منه عليه السلام شفقة على قريش حتى لا يضنوا بالمقاتلة وأمر عليه السلام أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان العباس عم النبي عليه السلام قد خرج قبل ذلك بعياله مسلماً أي مظهراً للإسلام مهاجراً فلقي رسول الله بالجحفة وهو بتقديم الجيم ميقات أهل الشأم فرجع معه إلى مكة وأرسل أهله وثقله إلى المدينة وقال له عليه السلام : "هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة" وبعث قريش أبا سفيان يتجسس الأخبار وقالوا : إن لقيت محمداً فخذلنا منه أماناً فلما وصل ءلى مر الظهران ليلاً قال : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكرا هذ كيران عرفة وكان بينه وبين العباس مصادقة فلما لقيه أخذ بيده وذهب به إلى رسول الله ليأخذ منه أماناً له فلما أتاه قال عليه السلام : اذهب به يا عباس
45
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/38)
إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به فلما أتى به عرض النبي عليه السلام عليه الإسلام فتوقف فقال العباس له : ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يضرب عنقك فهداه الله فشهد شهادة الحق فأسلم ثم قال : يا رسول الله أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم قال عليه السلام : نعم من كف يده وأغلق داره فهو آمن فقال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً قال : "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل دار حكيم بن حزام وهو من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام فهو آمن" وعقد عليه السلام لأبي رويحة الذي آخى بينه وبين بلال رضي الله عنه لواء وأمره أن ينادي : "من ينادي من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن" وذلك توسعة للأمان أضيق المسجد ودار أبي سفيان واستثنى عليه السلام جماعة من النساء والرجال أمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة منهم ابن خل ونجوه لأن الكعبة لا تعيذ عاصياً ولا تمنع من إقامة حد واجب وكانوا طعاة مردة مؤذين لرسول الله لسلام أشد الأذى فعفا عمن آمن وقتل من أصر وقال عليه السلام للعباس : احبس أبا سفيان في مضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها فأول من مر خالد بن الوليد في بني سليم مصغراً ثم قبيلة بعد قبيلة براياتهم حتى مر رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار وعمر رضي الله عنه يقول : رويداً حتى يلحق أولكم آخركم قال أبو سفيان : سبحان الله يا عباس من هؤلاء هذا رسول الله في الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية ثم نزعت منه وأعطيت لابنه قيس وكان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبالة وكان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس فقال أبو سفيان ما لا حد بهؤلاء قبل ولا طاقة وقال : يا عباس لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً فقال العباس : إنها النبوة وأمر عليه السلام خالد بن الوليد أن يدخل مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة وقال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم وجمع قريش نساً بالخدم ليقاتلوا ولما لقيهم خالد منعوه الدخول ورموه بالنبل فصاح خالد في أصحابه فقتل من قتل وانهزم من لم يقلت حتى وصل خالد إلى باب المسجد وقال عليه السلام في ذلك اليوم : احصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا ودخل عليه السلام مكة وهو راكب على ناقته القصواء مردفاً أسامة بن زيد بكرة يوم الجمعة وعن بعضهم يوم الاثنين معتماً بعمامة سوداء وقبل غير ذلك والأول أنسب بمقام المعرفة والفناء واضعاً رأسه الشريف على رحله تواضعاً تعالى حتن رأى ما رأى من فتح الله مكة وكثرة المسلمين ثم قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة وعن عائشة رضي الله عنها : دخل رسول الله يوم الفتح من كداء وهو كسماء بأعلى مكة واغتسل لدخول مكة وسار وهو يقرأ سورة الفتح حتى جاء البيت وطاف به سبعاً على راحلته ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها واستلم الحجر بمحجن في يده وهو العصا المعوجة ولم يطف ماشياً لتعليم الناس كيفية الطواف وصلى عليه السلام بالمقام ركعتين وهو يومئذ لاصق بالكعبة في جابن الباب ثم أخره إلى المحل المعروف الآن بمقام إبراهيم والظاهر أن مقام إبراهيم وهو الحجر الذي انغمس فيه قدم إبراهيم عليه السلام عندما بنى البيت قد محى أثره بكثرة مسح الأيدي ثم فقد ومقام ابراهيم الآن مخل ذلك الحجر
46
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وأما الحجر الموضوع هناك فموضوع وكان في داخل الكعبة وخارجها وفوقها يومئذ ثلاثمائة وستون صنماً لكل حي من أحياء العرب صنم وكان هبل أعظم الأصنام وكان من عقيق إلى جنب البيت من جهة بابه وهو الآن مطروح تحت باب السلام القديم يطأه الناس إلى يوم القيامة لقول أبي سفيان يوم أحد مفتخراً بذلك أعل هبل اعل هبل وذلك لأن من أعزه الناس أذله الله فجاء عليه السلام ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منهم فيخر لوجهه وكان يقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً وأمر علياً رضي الله عنه فصعد الكعبة وكسر ما فوقها ودخل عليه السلام الكعبة بعد أن أرسل بلالاً إلى عثمان ابن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة فدخلها عليه السلام وصلى ركعتين ودعا في نواحيها كلها وكان في الكعبة كثيره حتى صورة ابراهيم واسماعيل ومريم وصور الملائكة فأمر عليه السلام عمر رضي الله عنه فمحاها كلها وكانت الكعبة بيت الأصنام ألف سنة ثم صارت مسجد أهل الاسلام ألف سنة أخرى وكانت تشكو إلى الله تعالى مما فعله الناس من الشرك حتى أنجز الله وعده لها وفيه إشارة إلى كعبة القلب فإنها كانت بيت الاصنام قبل الفتح والأمداد الملكوتي وأعظم الأصنام الوجود.
قال الشيخ المغربي :
بود وجود مغربي لات ومنات او بود
نيستبتي وود او درهمه سومنات تو
وقال الحجندي :
بشكن بت غرور كه دردين عاشقان
بك بت كو كنندبه از صد عبادتست
وقال :
مدعى نيست محرم دريار
خادم كعبه بولهب نبود
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/39)
وجلس رسول الله يوم الفتح على الصفا يبايع الناس فجاء الكبار والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام أي على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وعلى سائر الأحكام ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعفا عليه السلام عمن كان مؤذياً له منذ عشرين سنة ودعا له بالمغفرة وقال عليه السلام : "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم حلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر ووضع هذين الجبلين فهي حرام ءلى يوم القيامة فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرة لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد يكون بعدي ولا تحل لي إلا هذه الساعة أي من صبيحة يوم الفتح إلى العصر غضباً على أهلها ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب وأقام بمكة بعد فتحها تسعة عشر أو ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة في مدة إقامة" ثم خرج إلا هوازن وثقيف كما مر وولى أمر مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه وعمره إحدى وعشرون سنة وأمره أن يصلي بالناس وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة وترك معاذ بن جبل رضي الله عنه معه معلماً للناس السنن والفقه وبه ثبت الاستخلاف وعليه العمل إلى يومنا هذا فإن النبي إنما يبعث لرفع الجهل وقس عليه أولى جعلنا الله وإياكم من الوراثين {هُمُ} أي قريش {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي منعوكم عن أن تطوفوا به {وَالْهَدْىَ} أي وصدوا الهدى وهو بالنصب عطف على الضمير المنصوب في صدوكم والهدي بسكون الدال جمع هدية كتمر وتمرة
47
وجدي وجدية وهو مختص بما يهدي إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى من النعم أيسره شاة وأوسطه بقرة وأعلاه بدنة يقال أهديت له وأهديت إليه ويجوز تشديد الباء فيكون جمع هدية (معكوفاً) حال من الهدي أي محبوساً يقال عكفته عن كذا إذا حبسته ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بدل اشتمال من الهدي أو منصوب بنزع الخافض أي محبوساً من أن يبلغ مكانه الذي يحل فيه نحره أي يجب فالمحل اسم للمكان الذي ينحر فيه الهدي فهو من الحلول لا من الحل الذي هو ضد الحرمة قال في المفردات حل الدين حلولاً وجب أداؤه وحللت نزلت من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول والمحلة مكان النزول انتهى وبه استدل أبو حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم فإن بعض الحديبية كان من الحرم قال في بحرالعلوم : الحديبية طرف الحرم على تسعة أميال من مكة وروى أن خيامه عليه السلام كانت في الحل ومصلاه في الحرم وهناك نحرت هداياه عليه السلام وهي سبعون بدنة والمراد صدها عن محلها المعهود الذي هو مني للحاج وعند الصفا للمعتمر وعند الشافعي لا يختص دم الاحصار بالحرم فيجوز أن يذبح في الموضع الذي احصر فيه.
بين تعالى استحقاق كفار مكة للعقوبة بثلاثة أشياء : كفرهم في أنفسهم وصد المؤمنين عن إتمام عمرتهم وصد هديهم عن بلوغ المحل فهم مع هذه الأفعال القبيحة كانوا يستحقون أن يقاتلوا أو يقتلوا إلا أنه تعالى كف أيدي كل فريق عن صاحبه محافظة على ما في مكة من المؤمنين المستضعفين ليخرجوا منها أو يدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات كما قال تعالى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/40)
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم وهو صفة الرجال ونساء جميعاً وكانوا بمكة وهم اثنان وسبعون نفساً يكتمون إيمانهم {أَن تَطَـاُوهُمْ} بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم أي توقعوا بهم وتهلكوهم فإن الوطأ عبارة عن الإيقاع والإهلاك والإبادة على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم لأن الوطأ تحت الأقدام مستلزم للاهلاك ومنه قوله عليه السلام : "اللهم اشدد وطأتك على مضر أي خذهم أخذاً شديداً" وفي المفردات أي ذللهم ووطىء امرأته كناية عن المجامعة صار كالتصريح للعرف {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم} أي من جهتهم معطوف على قوله أن تطأوهم {مَّعَرَّةُ} مفعلة من عره إذا عراه ودهاه بما يكرهه ويشق عليه وفي المفردات العر الجرب الذي يعر البدن أي يعترضه ومنه قيل للمضرة معرة تشبيهاً بالعر الذي هو الجرب والمعنى مشقة ومكروه كوجوب الدية أو الكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتعيير الكفار وسوء حالتهم والإثم بالتقصير في البحث عنهم قال سعدي المفتي : قلت في المذهب الحنفي : لا يلزم بقتل مثله شيء من الدية والكفارة وما ذكره الزمخشري لا يوافق مذهبه انتهى وقال بعضهم : أوجب الله على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة فقال تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بأن تطأوهم أي غير عالمين بهم فيصيبكم بذلك مكروه لما كف أيديكم عنهم وفي هذا الحذف دليل على شدة غضب الله تعالى على كفار مكة كأنه قيل : لولا حق المؤمنين موجود لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف والقياس بناء على أن
48
الحذف للتعميم والمبالغة {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ} متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف كأنه قيل عقيبه لكن كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة بقسيمها {مَن يَشَآءُ} وهم المؤمنون فإنهم كانوا خارجين من الرحمة الدنيوية التي من جملتها الأمن مستضعفين تحت أيدي الكفرة وأما الرحمة الأخروية فهم وإن كانوا غير محرومين منها بالكلية لكنهم كانوا قاصرين في إقامة العبادة كما ينبغي فتوفيقهم لإقامتها على الوجه الأتم إدخال لهم في الرحمة الأخروية
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{لَوْ تَزَيَّلُوا} الضمير للفريقين أي لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض من زاله يزيله فرقه وزيلته فتزيل أي فرقته فتفرق {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها وفي الآية إشارتان إحداهما : أن من خاصية النفس أن تصد وجه الطالب عن الله تعالى وتشوب الخيرات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله بالرياء والسمعة والعجب لئلا تبلغ محل الصدق والإخلاص والقبول والثانية أن استبقاء النفوس لاستخلاص الأرواح وقواها مع أن بعض صفات النفس قابلة للقبض الإلهي فيلزم الحذر من إفساد استعدادها لقبول الفيض وعند التزكية فصفة لا يصلح إلا قلعها كالكبر والشره والحسد والحقد وصفة تصلح للتبديل كالبخل بالسخاوة والحرص بالقناعة والغضب بالحلم والجبانة بالشجاعة والشهوة بالمحبة قال البقلي : انظر كيف شفقة الله على المؤمنين الذين يراقبون الله في السراء والضراء ويرضون ببلائه كيف حرسهم من الخطرات وكيف أخفاهم بسره عن صدمات قهره وكيف جعلهم في كنفه حتى لا يطلع عليه أحد وكيف يدفع ببركتهم البلاء عن غيرهم فعلى المؤمن مراعاتهم في جميع الزمان والتوسل بهم إلى الله المنان فإنهم وسائل الله الخفية :
بخود سرفرو برده همون صدف
نه ما نند در يا بر آورده كف
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/41)
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منصوب باذكر على المفعولية أي اذكر وقت جعل الكافرين يعني أهل مكة {فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} أي الأنفة والتكبر فعيلة من حمى من كذا حمية إذا أنفق منه وفي المفردات عبر عن القوة الغضبي إذا ثارت وكثرت بالحمية يقال حميت على فلان أي غضبت عليه انتهى وذلك لأن في الغضب ثوران دم القلب وحرارته وغليانه والجار والمجرور إما متعلق بالجعل على أنه بمعنى الإلقاء أو بمحذوف أو مفعول ثان على أنه بمعنى التصيير أن جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم {حَمِيَّةَ الْجَـاهِلِيَّةِ} بدلمن الحمية أي حمية الملة الجاهلية وهي ما كانت قبل البعثة والحمية الناشئة من الجاهلية التي تمنع إذعان الحق قال الزهري : حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم أو منعهم من دخول مكة وقال مقاتل : قال أهل مكة قد قتلوا بناءنا وإخوننا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب إنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلون علينا فهذه حمية الجاهلية التي دخلت في قلوبهم {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} عطف على جعل والمراد تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع الكفرة أي فأنزل الله عليهم الثبات والوقار فلم يلحق بهم ما لحق الكفار فصالحوهم ورضوا أن يكتب الكتاب على ما أرادوا
49
يروى أنه لما أبى سهيل ومن معه أن يكتب في عنوان كتاب الصلح البسملة وهذا ما صالح عليه رسول أهل مكة بل قالوا : كتب باسمك اللهم وهذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "اكتب ما يريدون فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وحلموا مع أن أصل الصلح لم يكن عندهم بمحل من القبول في أول الأمر على ما سبق في أول السورة مفصلاً" {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} أي لكمة الشهادة حتى قالوها وهذا إلزام الكرم واللطف لا إلزام الإكراه والعنف وأضيفت إلى التقوى لأنها سببها إذ بها يتوقى من الشرك ومن النار فإن أصل التقوى الاتقاء عنها وقد وصف الله هذه الأمة بالمتقين في مواضع من القرآن العظيم باعتبار هذه الكلمة وبسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله من شعار هذه الأمة وخواصها اختارها لهم وصار المشركون محرومين منها حيث لم يرضوا بأن يكتب في كتاب الصلح ذلك وعن الحسن كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد فإن المؤمنين وفوا حيث نقضوا العهد وعاونوا من حارب حليف المؤمنين والمعنى على هذا وألزمهم كلمة أهل التقوى وهي العهد الواقع في ضمن الصلح ومعنى إلزامها إياهم تثبيتهم عليها وعلى الوفاء بها قال أهل العربية الكلمة قد تستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي ارتبط بعضه ببعض فصار ككلمة واحدة كتسميتهم القصيدة بأسرها كلمة ومنه يقال كلمة الشهادة قال الرضي وقد تطلق الكلمة مجازاً على القصيدة والجملة يقال كلمة شاعر وقال تعالى وتمت كلمة ربك والكلمة عند أهل العربية مشتقة من الكلم بمعنى الجرح وذلك لتأثيرها في النفوس وعند المحققين عبارة عن الأرواح والذوات المجردة عن المواد والزمان والمكان لكون وجودها بكلمة كن في عالم الأمر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب والدليل على ذلك قوله تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ولمراد بكلمة التقوى ههنا حقيقة التقوى وماهيتها فإن الحقيقة من حيث هي مجردة عن اللهوا حق المادية والتشخصات فالله تعالى ألزم المؤمنين حقيقة التقوى لينالوا بها قوة اليقين والتجرد التام وصفاء الفطرة الأصلية
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} متصفين بمزيد استحقاق لها في سابق حكمه وقدم علمه على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً وقيل : أحق بها من الكفار {وَأَهْلَهَا} عطف تفسير أي المستأهل لها عند الله والمختص بها من أهل الرجل وهو الذي يختص به وينسب إليه قيل : إن الذين كانوا قبلنا لا يمكن د منهم أن يقول لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك وكان قائلها يمد بها صوته حتى ينقطع النفس التماس بركتها وفضلها وجعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاءوا وهو قوله وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها من الأمم السالفة وقال مجاهد ثلاث لا يحجبن عن الرب : لا إله إلا الله من قلب مؤمن ، ودعوة الوالدين ، ودعوة المظلوم كما في كشف الأسرار.
وفي المثنوي :
بحرو حدانست جفت وزوج نيست
كوهر وما هيش غير موج نيست
أي محال وأي محال اشراك أو
دورازان دريا وموج اك أو
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} بليغ العلم بكل شيء من شأنه أن يتعلق به العلم فيعلم حق كل شيء
50
(9/42)
فيسوقه إلى مستحقه ومن معلوماته أنهم أحق بها أي من جميع الأمم لأن النبي عليه السلام كان خلاصة الموجودات وأصلها وهو الحبيب الذي خلقت الموجودات بتبعيته والكلمة هي صورة الجذبة التي توصل الحبيب بالحبيب والمحب بالمحبوب فهي بالنبوة أحق لأنه هو الحبيب لتوصله إلى حبيبه وأمته أحق بها من الأمم لأنهم المحبوب لتوصل المحب بالمحبوب وهم أهلها لأن أهل هذه الكلمة من يفني بذاته وصفاته ويبقى بإثباتها معها بلا أنانيته وما بلغ هذا المبلغ بالكمال إلا النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيقول : "أما أنا فلا أقول أنا وأمته" لقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وكان الله بكل شيء عليماً في الأزل فبنى وجود كل إنسان على ما هو أهله فمنهم أهل الدنيا ومنهم أهل الآخرة ومنهم أهل الله وخاصته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
كذا في التأويلات النجمية قال أبو عثمان كلمة التقوى كلمة المتقين وهي شهادة أن لا إله إلا الله ألزمها الله السعداء من أولياء المؤمنين وكانوا أحق بها وأهلها في علم الله إذ خلقهم لها وخلق الجنة لأهلها وقال الواسطي كلمة التقوى صيانة النفس عن المطامع ظاهراً وباطناً وقال الجنيد : من أدركته عناية السبق في الأزل جرى عليه عيون المواصلة وهو أحق بها لما سبق إليه من كرامة الأزل وقال بعض العارفين : اعلم أن الله تعالى أسند الفعل في جانب الكفار إليهم فقال : إذ جعل الذين كفروا وفي جانت المؤمنين أسنده إلى نفسه فقال : فأنزل الله سكينته إشارة إلى أن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولاً لهم فليس لهم من يدبر أمرهم وأما المؤمنون فالله تعالى وليهم ومدبر أمرهم وأيضاً فالحمية الجاهلية ليست إلا من النفس لأن النفس مقر الأخلاق الذميمة وأما السكينة والوقار والثبات والطمأنينة فمن الله ثم إن الله تعالى قال : فأنزل الله بالفاء لا بالواو إشارة إلى أن أنزل السكينة بمقابلة جعل الحمية كما تقول أكرمني فأكرمته إشارة إلى أن إكرامك بمقابلة إكرامه ومجازاته وفي ذلك تنبيه على أن قوماً إذا طغوا وظلموا فالله تعالى يحسن إلى المظلومين وينصرهم فيعطيهم السكينة والوقار وكمال اليقين وذلك عين النعيم في مقابلة انزعاج الظالمين وحقدهم واضطرابهم وذلك هو العذاب الأليم فهم اختاروا ذلك العذاب لأنفسهم فالله تعالى اختار للمؤمنين النعيم الدائم والمراد بكلمة التقوى كل كلمة تقي النفس عما يضرها من الأذكار كالتوحيد والأسماء الإلهية ولذلك ورد في الحديث من أحصاها دخل الجنة وأفضلها لا إله إلا الله كما قال عليه السلام : "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي شهادة أن لا إله إلا الله" ثم إن قوله تعالى وكانوا أحق بها وأهلها إشارة إلى أنا لأسماءا لإلهية ينبغي أن لا تعلم ولا تلقن إلا أهلها ممن استعد لها واستحقها بالأمانة والديانة والصلاح روى أن الحجاج أحضر أنساً رضي الله عنه فقال : أنت الذي تسبني؟ قال : نعم لأنك ظالم وقد خالفت سنة رسول الله عليه السلام فقال : كيف لو قتلتك أسوء قتلة قال : لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك ولكنك لا تقدر فإن رسول الله علمني دعاء من قرأه كان في حفظ الله وقد قرأته فقال الحجاج : ألا تعلمني إياه فقال : لا أعلمك ولا أعلمه أحداً في حياتك حتى لا يصل إليك ثم خرج فقالوا : لم لم تقتله فقال : رأيت وراءه أسدين عظيمين فخفت منهما وروى أن عالماً طلب من بعض المشايخ أن يعلمه الاسم الأعظم فأعطاه شيئاً مغطى وقال أو صله إلى مريدي فلان فأخذه ثم إنه فتحه في الطريق لينظر ما فيه
51
فخرج منه فأرة فرجع بكمال الغيظ فلما رآه الشيخ تبسم وقال : يا خائن الآن لم تكن أميناً لفأرة فكيف تكون أميناً للاسم الأعظم فالكبار يحفظون الأسماء والأدعية من غير أهلها لئلا يجعلوها ذريعة إلى الأغراض الفاسدة النفسانية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
قال سعدي :
كسى رابا خواجه نست جنك
مدستش جرامى دهى وب وسنك
سنك آخر كه باشد كه خواش نهند
بقرماى تا استخوانش نهند
وفي المثنوي :
ند دزدى حرف مردان خدا
تا فروشى وستانى مرحبا
ون رخت رانيست در خوبى اميد
خواه كلكونه نه وخواهى مديد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 6 من صفحة 52 حتى صفحة 61
(9/43)
{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا} صدق بتعدي إلى مفعولين إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر يقال صدقك في كذا أي ما كذبك فيه وقد يحذف الجار ويوصل الفعل كما في هذها لآية أي صدقه عليه السلام في رؤياه وتحقيقه أراه الرؤيا الصادقة وهي ما سبق في أول السورة من أنه عليه السلام رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم هذا فلما تأخر ذلك قال بعض المنافقين : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت وهو دليل قاطع على أن الرؤيا حق وليس بباطل كما زعم جمهور المتكلمين والمعتزلة فتباً لهم كما في بحر العلوم قالوا : إن خلت الرؤيا عن حديث النفس وكان هيئة الدماغ صحيحة والمزاج مستقيماً كانت رؤيا من الله مثل رؤيا الأنبياء والأولياء والصلحاء وفي الحديث الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة {بِالْحَقِّ} أي صدقاً ملتبساً بالغرض الصحيح والحكمة البالغة التي هي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه أو حال كون تلك الرؤيا ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام لأن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدور له وهو العام القابل وقد جوز أن يكون قسماً بالحق الذي هو من أسماء الله أو بنقيض الباطل وقوله : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} جواب وهو على الأولين جواب قسم محذوف أي والله لتدخلنه في العام الثاني {إِن شَآءَ اللَّهُ} تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لكي يقولوا في عداتهم مثل ذلك لا لكونه تعالى شاكاً في وقوع الموعود فإنه منزه عن ذلك وهذا معنى ما قال ثعلب استثنى الله فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون وفيه أيضاً تعريض بأن دخولهم مبني على مشيئته تعالى ذلك لا على جلادتهم وقوتهم كما قال في الكواشي استثنى أعلاماً أنه لأفعال إلا الله انتهى أو للاشعار بأن بعضهم لا يدخلونه لموت أو غيبة أو غير ذلك فكلمة أن للتشكيك لا للشك وقال الحدادي الاستثناء قد يذكر للتحقيق تبكراً كقولهم قد غفر الله لك إن شاء الله ولا تعلق لمن يصحح الأيمان بالاستثناء لأنه خير عن الحال فالاستثناء فيه محال كما في عين المعاني وروى أن النبي عليه السلام كان إذا دخل المقابر يقول : السلام عليكم أهل القبور وأنا إنشاء الله بكم لاحقون فيستثنى على وجه التبرك وإن كان اللحوق مقطوعاً به وقيل معناه لاحقون بكم في الوفاة على الإيمان فإن شرطية
52
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ويمكن ان يقال تعليق اللحوق بالمشيئة بناء على ان اللحوق بخصوص المخاطبين ويتحصل من هذا ان الاستثناء من الأمن لا من الدخول لأن الدخول مقطوع لا إلا من حال الدخول وقال بعضهم إن هنا بمعنى إذ كما في قوله إن أردن تحصناً وقال ابن عطية وهذا احسن في معناه لكن كون أن بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب وفيه وجه آخر وهو أنه حكاية لما قاله ملك الرؤيا لرسول الله فقوله لتدخلن الآية تفسير للرؤيا كأنه قيل هو قول الملك له عليه السلام في منامه لتدخلن وإذا كان التعليق من كلام الملك لتبرك فلا إشكال أو حكاية لما قاله عليه السلام لأصحابه كأنه قيل قال النبي بناء على تلك الرؤيا التي هي وحي لتدخلن الخ يعني لما قص رؤياه على أصحابه استأنف بأن قال لتدخلن الخ {ءَامِنِينَ} من الأعادي حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض وكذا قوله : {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} أي جميع شعورها والتحليق والتحلاق بسيار ستردن سركما في تاج المصادر والحلق العضو المخصوص وحلقه قطع حلقه ثم جعل الحلق لقطع الشعر وجزه فقيل حلق شعره وحلق رأسه أي أزال شعره {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها والقصر خلاف الطول وقص شعره حز بعضه أي محلقاً بعضكم ومقصراً آخرون وإلا فلا يجتمع الحلق والتقصير في كل واحد منهم فالنظم من نسب حال البعض إلى الكل يعني أن الواو ليست لاجتماع الأمرين في كل واحد منهم بل لاجتماعهما في مجموع القوم ثم إن قوله محلقين ومقصرين من الأحوال المقدرة فلا يرد أن حال الدخول هو حال الإحرام وهو لا يجامع الحلق والتقصير وقدم الحلق على التقصير وهو قطع أطراف الشعر لأن الحلق أفضل من التقصير وقد حلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأسه بمعنى وأعطى رأسه أبا طلحة الأنصاري وهو زوج أم سليم وهي والدة أنس بن مالك فكان آل أنس يتهادون به بينهم وروى أنه عليه السلام حلق رأسه أربع مرات والعادة في هذا الزمان في أكثر البلاد حلق الرأس للرجل عملاً بقوله عليه السلام تحت كل شعرة نجاس فخللوا الشعر وانقوا البشرة وإنما قلنا للرجل لأن حلق شعر المرأة مثلة وهي حرام كما أن حلق لحية الرجل كذلك {لا تَخَافُونَ} حال مؤكدة من فاعل لتدخلن أو استئناف جواباً عن سؤال أنه كيف يكون الحال بعد الدخول أي لا تخافون بعد ذلك من أحد {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/44)
عطف على صدق والفاء للترتيب الذكري فالتعرض لحكم الشيء إنما يكون بعد جري ذكره والمراد بعلمه تعالى العلم الفعلي المتعلق بأمر حادث بعد المعطوف عليه أي فعل عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية إلى تقديم ما يشهد بالصدق علماً فعلياً {فَجَعَلَ} لأجله {مِن دُونِ ذَالِكَ} أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجدالحرام الخ وبالفارسية س ساخت براى شما يعني مقرر كرد يش ازين يعني قبل از دخول در مسجد حرام بجهت عمره قضا {فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر مضى عليه السلام بعد خمس عشرة ليلة كما في عين المعاني والمراد بجعله وعده وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا حسبما قال ولتكون آية للمؤمنين وأما جعل ما في قوله ما لم تعلموا عبارة عن الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل
53
كما جنح إليه الجمهور فتأباه الفاء فإن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعاً كما في الإرشاد وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى امتحن المؤمن والمنافق بهذه الرؤيا إذ لم يتعين وقت دخولهم فيه فأخر الدخول تلك السنة فهلك المنافقون بتكذيب النبي عليه السلام فيما وعدهم بدخول المسجد الحرام وازداد كفرهم ونفاقهم وازداد إيمان المؤمنين بتصديق النبي عليه السلام مع إيمانهم وانتظروا صدق رؤياه فصدق الله رسوله الرؤيا بالحق فهلك من هلك عن بينة وحي من حي عن بينة ولذلك قال تعالى لعلم ما لم تعلموا يعني من تربية نفاق أهل النفاق وتقوية إيمان أهل الإيمان فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً من فتوح الظاهر والباطن فلا بد من الصبر فإن الأمور مرهونة بأوقاتها :
صد هزاران كميا حق آفريد
كيميايي همو صبر آدم نديد
نيست هر مطلوب از طالب دريغ
جفت تابش شمس وجفت آب ميغ
وقد صبر عليه السلام على أذى قومه وهكذا حال كل وارث قال معروف الكرخي قدس سره : رأيت في المنام كأني دخلت الجنة ورأيت قصراً فرشت مجالسه وأرخيت ستوره وقام ولدانه فقلت لمن هذا؟ فقيل : لأبي يوسف فقلت : بم استحق هذا؟ فقالوا : بتعليمه الناس العلم وصبره على أذاهم ثم إن الصدق صفة الله تعالى وصفة خواص عباده وأنه من أسباب الهداية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ـ حكي ـ عن إبراهيم الخواص قدس سره أنه كان إذا أراد سفراً لم يعلم أحداً ولم يذكره وإنما يأخذ ركوته ويمشي قاد حامد الأسود : فبينما نحن معه في مسجد تناول ركوته ومشى فإتبعته فلما وافينا القادسي قال لي : يا حامد إلى أين؟ قلت : يا سيدي خرجت لخروجك قال : أنا أريد مكة إن شاء الله قلت : وأنا أريد إن شاء الله مكة فلما كان بعد أيام إذا بشام قد انضم إلينا فمشى معنا يوماً وليلة لا يسجدسجدة فعرفت إبراهيم وقلت : إن هذا الغلام لا يصلي فجلس وقال : يا غلام مالك لا تصلي والصلاة أوجب عليك من الحج؟ فقال : يا شيخ ما علي صلاة قلت : ألست بمسلم؟ قال : لا قلت فأي شيء أنت؟ قال : نصراني ولكن إشارتي في النصرانية إلى التوكل وادعت نفسي أنها قد أحكمت حال التوكل فلم أصدقا فيما ادعت حتى أخرجتها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود أثير ساكني وامتحن خاطري فقام إبراهيم ومشى وقال : دعه معك فلم يزل يسايرنا حتى وفينا بطن مرو فقام إبراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له : ما اسمك؟ قال : عبد المسيح فقال : يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعني الحرم وقد حرم الله على أمثالك الدخول فيه قال : تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والذي أردت أن تستكشفه من نفسك قد بان لك فاحذر أن تدخل مكة فإن رأيناك بمكة أنكرنا عليك قال حامد : فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا إلى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات إذ به قد أقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح الوجوه حتى وقف علينا فأكب على إبراهيم يقبل رأسه فقال له : ما وراءك يا عبد المسيح فقال له : هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له إبراهيم : حدثني حديثك قال : جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم فساعة وقعت عيني على
54
(9/45)
الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى دين الإسلام فأسلمت واغتسلت وأحرمت وها أنا أطلبك يومي فالتفت إلي إبراهيم وقال : يا حامد انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام ثم صحبنا حتى مات بين الفقراء ومن الله الهداية والتوفيق {هُوَ} أي الله تعالى وحده {الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني إن الله تعالى بجلال ذاته وعلو شأنه اختص بإرسال رسوله الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه {الْهُدَى} أي كونه ملتبساً بالتوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله فيكون الجار متعلقاً بمحذوف أو بسببه ولأجله فيكون متعلقاً بأرسل {وَدِينِ الْحَقِّ} أي وبدين الإسلام وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته مثل عهذا بالحريق والأصل الدين الحق والعذاب المحرق ومعنى الحق الثابت الذي هو ناسخا لأديان ومبطلها {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} اللام في الدين للجنس أي ليعلى الدين الحق ويغلبه على جنس الدين بجميع أفراده التي هي الأديان المختلفة بنسخ ما كان حقاً من بعض الأحكام المتبدلة بتبدل الأعار وإظهار بطلان ما كان باطلاً أو بتسليط المسلمين على أهل سائر الأديان ولق أنجز الله وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ولا يبقى إلا مسلم أو ذمة للمسلمين وكم ترى من فتوح أكثر البلاد وقهر الملوك الشداد ما تعرف به قدرة الله تعالى وفي الآية فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه سيفتح لهم من البلاد ويعطيهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه فتح مكة وقد أنجز كما أشير إليه آنفاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
واعلم أن قوله ليظهره إثبات السبب الموجب للإرسال فهذه اللام لام الكمة والسبب شرعاً ولام العلة عقلاً لأن أفعال الله تعالى ليست بمعللة بالأعراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة فنزل ترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له {وَكَفَى بِاللَّهِ} أي الذين له الإحاطة بجميع صفات الكمال {شَهِيدًا} على أن ما وعده كائن لا محالة أو على نبوته عليه السلام بإظهار المعجزات وإن لم يشهد الكفار وعن ابن عباس رضي الله عنهما شهد له بالرسالة وهو قوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} فمحمد مبتدأ ورسول الله خبره وهو وقف تام والجملة مبينة للمشهود به وقيل محمد خبر مبتدأ محذوف وقوله رسول الله بدل أو بيان أو نعت أي ذلك الرسول المرسل بالهدي ودين الحق محمد رسول الله قال في تلقيح الأذهان : أعلم الله سبحانه محمداً عليه السلام أنه خلق الموجودات كلها من أجله أي من أجل ظهوره أي من أجل تجليه به حتى قال : ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الإنس والجن وقال الشيخ الشهير : فاتاده قدس سره لما تجلى الله وجد جميع الأرواح فوجد أولاً روح نبينا صلى الله عليه وسلّم ثم سائر الأرواح فلقن التوحيد فقال : لا إله إلا الله فكرمه الله بقوله : محمد رسول الله فأعطى الرسالة في ذلك الوقت ولذا قال عليه السلام : كنت نبياً وآدم بين الماء والطين انتهى ومعنى الحديث أنه كان نبياً بالفعل ولا عالماً بنبوته إلا حين بعث بعد وجوده ببدنه العنصري واستكمال شرائط النبوة فكل من بدا بعد وجود المصطفى عليه السلام فهم نوابه وخلفاؤه مقدمين
55
كالأنبياء والرسل أو مؤخرين كأولياء الله الكمل قال عليه السلام : "أنا من نور الله والمؤمنون من فيض نوري فهو الجنس العالي والمقدم وما عداه التالي والمؤخر كما قال كنت أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً" فرسول الله هو الذي لا يساوي رسول لأنه رسول إلى جميع الخلق من أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدمه بالقوة فيها وبالفعل بالآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه وقد أخذ على الأنبياء كلهم المثاق بأن يؤمنوا به أن أدركوه وأخذه الأنبياء على أممهم وي الحديث أنا محمد وأحمد ومعنى محمد كثير الحمد فإن أهل السماء والأرض حمدوه ومعنى أحمد أعظم حمداً من غير لأنه حمد الله بمحامد لم يحمد بها غيره كما في شرح المشارق لابن الملك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
قال الجامي :
محمدت ون بلا نهايه زحق
يافت شد نام آواز ان مشتق
(9/46)
واسمه في العرش أبو القاسم في السموات أحمد وفي الأرض محمد قال علي رضي الله عنه : ما اجتمع قوم في مشورة فلم يدخلوا فيها من اسمه إلا لم يبارك لهم فيها وأشار ألف أحمد إلى كونه فاتحاً ومقدماً لأن مخرجه مبدأ المخارج وأشار ميم محمد إلى كونه خاتماً ومؤخر الان مخرجها ختام المخارج كما قال : نحن الآخرون السابقون وأشار الميم أيضاً إلى بعثته عند الأربعين قول بعضهم أكرم الله من الصبيان أربعة بأربعة أشياء : يوسف عليه السلام بالوحي في الجب ويحيى عليه السلام بالحكمة في الصباوة وعيسى عليه السلام بالنطق في المهد وسليمان عليه السلام السلام بالفهم وأما نبينا عليه السلام فله الفضيلة العظمى والآية الكبرى حيث أن الله أكرمه بالسجدة عند الولادة والشهادة بأنه رسول الله وكل قول يقبل الاختلاف بين المسلمين إلا قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنه غير قابل للاختلاف فمعناه متحقق وإن لم يتكلم به أحد وكذا أكرمه بشرح الصدر وختم النبوة وخدمة الملائكة والحور عند ولادته وأكرمه بالنبوة في عالم الأرواح قبل الولادة وكفاه بذلك اختصاصاً وتفصيلاً فلا بد للمؤمن من تعظيم شرعه وإحياء سنته والتقرب إليه بالصلوات وسائر القربات لينال عند الله الدرجات وكانت رابعة العدوية رحمها الله تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وتقول : ما أريد بها ثواباً ولكن ليسر بها رسول الله عليه السلام ويقول للأنبياء : انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها في اليوم والليلة ومن تعظيمه عمل المولد إذا لم يكن فيه منكر قال الإمام السيوطي قدس سره يستحب لنا إظهار الشكر لمولده عليه السلام انتهى.
وقد اجتمع عند الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري رحمه الله في مدحه عليه السلام :
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب
على ورق من خط أحسن من كتب
وأن تنهض الأشراف عند سماعه
قياماً صفوفاً أو جثياً على الركب
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
فعند ذلك قام الإمام السبكي وجميع من بالمجلس فحصل أنس عظيم بذلك المجلس ويكفي ذلك في الاقتداء وقد قال ابن حجر الهيثمي أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة قال السخاوي لم يفعله أحد من القرون الثلاثة
56
وإنما حدث بعد ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر من بركاته عليهم كل فضل عظيم قال ابن الجوزي من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية رحمه الله كتاباً في المولد سماه التنوير بمولد البشير النذير فأجازه بألف دينار وقد استخرج له الحافظ ابن حجر أصلاً من السنة وكذا الحافظ السيوطي ورداً على الفاكهاني المالكي في قوله : إن عمل المولد بدعة مذمونة كما في إنسان العيون {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي مع رسول الله عليه السلام وهو مبتدأ خبره قوله : {أَشِدَّآءُ} غلاظ وهو جمع شديد {عَلَى الْكُفَّارِ} كالأسد على فريسته {رُحَمَآءُ} أي متعاطفون وهو جمع رحيم {بَيْنَهُمْ} كالوالد مع ولده يعني أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلاب ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة كقوله تعالى : أذلة على المؤمنين عزة على الكافرين فلو اكتفى بقوله : أشداء على الكفار لربما أوهم الفظاظة والغلظة فكمل بقوله رحماء بينهم فيكون من أسلوب التكميل وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثبابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه وذكر في التوراة في صفة عمر رضي الله عنه قرن من حديد أمين شديد وكذا أبو بكر رضي الله عنه فإنه خرج لقتال أهل الردة شاهراً سيفه راكباً راحلته فهو من شدته وصلابته على الكفار.
قال الشيخ سعدي :
نه ندان درشتي كن كه از توسير كردند
ونه ندان نرمى كن كه برتود ليرشوند
درشتى ونرمي بهم دربهست
ور كزن كه جراج ومرهم نهست
وقال بعضهم :
هست نرمى آفت جان سمور
وزدرشتى ميبردجان خار شت
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/47)
وفي الحديث المؤمنون هينون لينون مدح النبي بالسهولة واللين لأنهما من الأخلاق الحسنة فإن قلت : من أمثال العرب لا تكن رطباً فتعصر ولا يابساً فتكسر وعلى وفق ذلك ورد قوله عليه السلام : "لا تكن مراً فتعقى ولا حلواً فتسترط" يقال : أعقيت الشيء إذا أزلته من فيك لمرارته واسترطه أي ابتلعه وفي هذا نهى عن اللين فما وجه كونه جهة مدح قلت لا شبهة في أن خير الأمور أوسطها وكل طرفي الأمور ذميم أي المذموم هو الإفراط والتفريط لا الاعتدال والاقتصاد نسأل الله العمل بذلك {تَرَاـاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} جمع راكع وساجد أي تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات فهما حالان لأن الرؤية بصرية وأريد بالفعل الاستمرار والجملة خبر آخر أو استئناف {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إما خبر آخر أو استئناف مبني على سؤال نشأ عن بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل ماذا يريدون بذلك فقيل : يبتغون فضلاً من الله ورضواناً أي ثواباً ورضى وقال بعض الكبار قصدهم في الطاعة والعبادة الوصول والوصال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال الراغب : الرضوان الرضى الكثير {سِيمَاهُمْ} فعلى من ساه إذا أعلمه أي جعله ذا علامة والمعنى علامتهم وسمتهم وقرىء سيمياؤهم
57
بالياء بعد الميم والمد وهما لغتان وفيها لغة ثالثة هي السيماء بالمد وهو مبتدأ خبر قوله : {فِى وُجُوهِهِم} أي ثابتة في وجوههم من أثر السجود
حال من المستكن في الجار وأثر الشيء حصول ما يدل على وجوده كما في المفردات أي من التأثير الذي تؤثره كثرة السجود وما روى عن النبي عليه السلام من قوله : لا تعلموا صوركم أي لا تسموها إنما هو فيما إذا اعتمد بجبهته على الأرض ليحدث فيها تلك السمة وذلك محض رياء ونفاق والكلام فيما حدث في جبهة السجاد الذين لا يسجدون إلا خالصاً لوجه الله وكان الإمام زين العابدين رضي الله عنه وهو علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم وكذا علي بن عبد الله بن العباس يقال لهما : ذو الثفنات لما أحدثت كثرة سجودهما في مواضعة منهما أشباه ثفنات البعير والثفنة بكسر الفاء من البعير الركبة وما مس الأرض من أعضائه عند الإناخلاة وثفنت يده ثفناً إذا غلظت عن العمل وكانت له خمسمائة أصل زيتون يصلي عند كل أصل ركعتين كل يوم قال قائلهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ديار علي والحسين وجعفر
وحمزة والسجاد ذي الثفنات
قال عطاء : دخل في الآية تن حافظ على الصلوات الخمس وقال بعض الكبار سيما المحبين من أثر السجود فإنهم لا يسجدون لشيء من الدنيا والعقبى إلامخلصين له الدين وقيل صفرة الوجوه من خشية الله وقيل ندى الطهور وتراب الأرض فإنهم كانوا يسجدون على التراب لا على الأثواب وقيل استنارة وجوههم من طول ما صلوا بالليل قال عليه السلام : من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ألا ترى أن من سهر بالليل وهو مشغول بالشراب واللعب لا يكون وجهه في النهار كوجه من سهر وهو مشغول بالطاعة وجاء في باب الإمامة أنه يقدم إلا علم ثم ألا قرأتم الأورع ثم الأسن ثم الأصبح وجهاً أي أكثرهم صلاة بالليل لما روي من الحديث قيل لبعضهم ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً قال : لأنهم خلوا بالرحمن فأصابهم من نوره كما يصيب القمر نور الشمس فينور به.
در نفحات مذكوراست كه ون ارواح ببركت قرب الهي صافي شد انوار موافقت بر اشباخ ظاهر كردد :
درويش را كواه ه حاجت كه عاشقت
رنك رخش زدوربه بين وبدان كه هست
وقال سهل المؤمن من توجهمقبلاً عليه غير معرض عنه وذلك سيما المؤمنون وقال عامر بن عبد القيس كادوجه المؤمن يخبر عن مكتون عمله وكذلك وجه الكافر وذلك قوله سيماهم في وجوههم وقال بعضهم : ترى على وجوههم هيبة القرب عهدهم بمناجاة سيدهم وقال ابن عطاء : ترى عليهم خلع الأنوار لائحة وقال عبد العزيز المكي : ليست هي النحولة والصفرة لكنها نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي انتهى ولا شك أن هذه الأمة يقومون يوم القيامة غراً مخجلين من آثار المضوء وبعضهم يكون وجوههم من أثر السجود كالقمر ليلة البدر وكل ذلك من تأثير نور القلب وانعكاسه ولذا قال :
آن سياهى كزى ناموس حق ناقوس زد
در عرب بو الليل بوداندر قيامت بوالنهار
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة {مَثَلُهُمْ} أي وصفهم العجيب الشان الجاري في الغرابة مجرى الأمثال {فِى التَّوْرَاـاةِ} حال من مثلهم والعامل معنى الإشارة والتوراة اسم
58
(9/48)
كتاب موسى عليه السلام قال : من جوز أن تكون التوراة عربية أنها تشتق من ورى الزند فوعلة منه على أن التاء مبدلة من الواو سمي التوراة لأنه يظهر منه النور والياء لبني إسرائيل وفي القاموس وورية النار وريتها ما تورى به من خرقة أو حطبة والتوراة تفعلة منه انتهى وقال بعضهم : فوعلة منه لا تفعله لقلة وجود ذلك {وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ} عطف على مثلهم الأول كأنه قيل ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل وتكرير مثلهم لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يعني بهمين نعمت در كتاب موسى وعيسى مسطور ندتاكه معلوم امم كردند وبايشان مده ورشوند.
والانحيل من نجل الشيء أظهره سمى الانجيل انجيلا لأنه أظهر الدين بعدما درش أي عفا رسمه {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـاَهُ} يقال زرع كمنع طرح البذر وزرع الله أنبت والزرع الولد والمزروع والجمع زروع وموضعه المزرعة مثلثة الراء وهو الخ تمثيل مستأنف أي هم كزع اخرج افراخه أي فروعه وأغصانه وذلك إن أول ما نبت من الزرع بمنزلة الأم وما تفرع وتشعب منه بمنزلة أولاده وأفراخه وفي المفردات شطأه فروع الزرع وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي جانيه وجمعه أشطاء وقوله : أخرج شطأه أي أفراخه انتهى وقيل هو أي الزرع الخ تفسير لقوله ذلك على أنه إشارة مبهمة وقيل خبر لقوله تعالى ومثلهم في الإنجيل على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى مثلهم في التوراة {فَـاَازَرَهُ} المنوى في آزره ضمير الزرع أي فقوى الزرع ذلك الشطأ وبالفارسية : س قوى كرد كشت آن بك شاخ را.
إلا أن الإمام النسفي رحمه الله جعل المنوى في آزر ضمير الشطأ قال فآزره أي فقوى الشطأ أصل الزرع بالتفافه عليه وتكاتفه وهو صريح في أن الضمير المرفوع للشطأ أي فقوى الشطأ أصل الزرع بالتفافه عليه وتكاثفه وهو صريح في أن الضمير المرفوع للشطأ والمنصوب للزرع وهو من الموازرة بمعنى المعاونة فيكون وزن آزر فاعل من الأزر وهو القوة أو من الإيزار وهي الإعانة فيكون وزنه أعل وهو الظاهر لأنه لم يسمع في مضارعه يوازر بل يوزر
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَاسْتَغْلَظَ} فصار غليظاً بعدما كان دقيقاً فهو من باب استحجر الطين بعني أن السين للتحول {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فاستقام على قصبته جمع ساق وهو أصوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} حال أي حال كونه يعجب زراعه الذين زرعوه أي يسرهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره وطول قامته وبالفارسية بشكفت آردمزارعانرا وهناتم المثل وهو مثل ضربه الله لأصحابه رسول الله قلوا في بدء الإسلام ثم كروا واستحكما فترقى أمرهم يوماً فيوماً بحيث أعجب الناس وقيل مكتوب في التوراة سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وفي الأسئلة المقحمة كيف ضرب الله المثل لأصحاب النبي عليه السلام بالزرع الذي أخرج شطأه ولماذا لم يشبههم بالخيل والأشجار الكبار المثمرة والجواب لأن أصحاب النبي كانوا في بدء الأمر قليلين ثم صاروا يزدادون ويكثرون كالزرع الذي يبدو ضعيفاً ثم ينمو ويخرج شطأه ويكثر لأن الزرع يحصد ويزرع كذلك المسلمون منهم من يموت ثم يقوم مقامه غيره بخلاف الأشجار الكبار فإنها تبقى بحالها سنين ولأنه تنبت من الحبة الواحدة سنابل وليس ذلك في غير الزرع انتهى فكما أن أعمالهم نامية فكذا أجسادهم ألا ترى أنه قتل مع الإمام الحسين رضي الله عنه عامة أهل بيته لم ينج إلا ابنه زين العابدين علي رضي الله عنه لصغره فأخرج الله من صلبه الكثير
59
الطيب وقيل يزيد بن المهلب وإخوتهم وذراريهم ثم مكث من بقي منهم نيفاً وعشرين سنة لا يولد فيهم أنثى ولا يموت منهم غلام وعن عكرمة أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله عنهم {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الغيظ أشد غضب وهو الحرارة التي بجدها الإنسان من ثوران دم قلبه غاظه يغيظه فاغتاظ وغليظه فتغيظ وأغاظه وغايظه كما في القاموس وهو علة لما يعرب عنهالكلام من تشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه أي جعلهم الله كالزرع في النماء والقوة ليغيظ بهم مشركي مكة وكفار العرب والعجم وبالفارسية : تا لله رسول خويش وياران اوكافر انرا بدرد آرده.
ومن غيظ الكفار قول عمر رضي الله عنه لأهل مكة بعدما أسلم : لا نعبد الله سراً بعد اليوم وفي الحديث : أرح أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقم حياء عثمان وأقضاهم علي وأقرأهم أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولكل أمة أمين هذه الأم أبو عبيدة ابن الجراح وقيل قوله ليغيظ بهم الكفار وعلة لما بعده من قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا} فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد للمؤمنين في الآخرة مع مالهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك أشد غيظ.
(9/49)
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير : نظير الكفار مقصور على ما في الدنيا مما يتنافس يه ويتحاسد وكيف لا يغيظم ما أعد للمؤمنين في الآخرة وليسوا بمؤمنين باليوم الآخر ومنهم للبيان كما في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان يعني همه ايشانرا وعد فرمود آمر زش كناه ومزدى بزرك.
وهو الجنة ودرجاتها فلا حجة فيه للطاعنين في الأصحاب فإن كلهم مؤمنون ولما كانوا يبتغون من الله فضلاً ورضواناً وعدهم الله بالنجاة من المكروه والفو بالمحبوب وعن الحسن محمد رسول الله والذين معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه كان معه في الغار ومن أنكر صحبته كفر أشداء على الكفار عمر بن الخطاب لأنه كان شديداً غليظاً على أهل مكة رحماء بينهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان رؤفاً رحيماً ذا حياء عظيم تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه تاحدى كه هرشب آوازهزار تكبير احرام ازخلوت وى باسماع خادمان عتبه عليه اش ميرسيد يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية العشرة المبشرة بالجنة وفي الحديث يا علي أنت في الجنة وشيعتك في الجنة وسيجيء بعدي قوم يدعون ولايتك لهم لقب يقال له الرافضة فإذا أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون قال : يا رسول الله ما علامتهم قال : يا علي إنه ليست لهم جمعة ولا جماعة يسبون أبا بكر وعمر قال : مالك بن أنس رضي الله عنه : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية قال أبو العالية : العمل الصالح في هذه الآية حب الصحابة وفي الحديث : يا علي إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والداً وعمر مشيراً وعثمان سنداً وأنت يا علي ظهراً فأنتم أربعة قد أخذ ميثاقكم في الكتاب لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا فاجر أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تغامزوا كما في كشف الأسرار وفي الحديث : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه المدربع الصاع والنصيف نصف الشيء والضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم إلا إلى المد والمعنى أن أحدكم لا يدرك بإنفاق
60
مثل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفي حديث آخر الله الله في أصحابي لا تتخدوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذ أي يأخذه الله للتعذيب والعقاب وفي الصواعق لابن حجر وكان للنبي عليه السلام مائة ألف وأربعة عشر ألف صحابي عند موته انتهى وفي حديث الأخوة قال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول الله قال : لا أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي آمنوا بي ولم يروني وقالللعامل منهم أجر خمسين منكم قالوا : بل منهم يا رسول الله قال : بل منكم رددوها ثلاثاً ثم قال : لأنكم تجدون على الخير أعواناً كما في تلقيح الأذهان.
يقول الفقير : يلزم من هذا الخبر أن يكون الاوان أفضل من الأصحاب وهو خلاف ما عليه الجمهور قلت : الذي في الخبر من زيادة الأجر للعامل من الاخوان عند فقدان الأعوان لا مطلقاً فلا يلزم من ذلك أن يكونوا أفضل من كل وجه في كل زمان قال في فتح الرحمن وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية وهي محمد رسول الله إلى آخر السورة أول حرف المعجم فيها ميم من محمد وآخرها صاد من الصالحات وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاساً الآية وليس في القرآن آيتان في كل آية حروف المعجم غيرهما من دعا الله بهما استجيب له وعن النبيّ صلى الله عليه وسلّم من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد رسول الله فتح مكة وقال ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله تعالى ذلك العام ومن الله العون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير : نظير الكفار مقصور على ما في الدنيا مما يتنافس يه ويتحاسد وكيف لا يغيظم ما أعد للمؤمنين في الآخرة وليسوا بمؤمنين باليوم الآخر ومنهم للبيان كما في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان يعني همه ايشانرا وعد فرمود آمر زش كناه ومزدى بزرك.
(9/50)
وهو الجنة ودرجاتها فلا حجة فيه للطاعنين في الأصحاب فإن كلهم مؤمنون ولما كانوا يبتغون من الله فضلاً ورضواناً وعدهم الله بالنجاة من المكروه والفو بالمحبوب وعن الحسن محمد رسول الله والذين معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه كان معه في الغار ومن أنكر صحبته كفر أشداء على الكفار عمر بن الخطاب لأنه كان شديداً غليظاً على أهل مكة رحماء بينهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان رؤفاً رحيماً ذا حياء عظيم تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه تاحدى كه هرشب آوازهزار تكبير احرام ازخلوت وى باسماع خادمان عتبه عليه اش ميرسيد يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية العشرة المبشرة بالجنة وفي الحديث يا علي أنت في الجنة وشيعتك في الجنة وسيجيء بعدي قوم يدعون ولايتك لهم لقب يقال له الرافضة فإذا أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون قال : يا رسول الله ما علامتهم قال : يا علي إنه ليست لهم جمعة ولا جماعة يسبون أبا بكر وعمر قال : مالك بن أنس رضي الله عنه : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية قال أبو العالية : العمل الصالح في هذه الآية حب الصحابة وفي الحديث : يا علي إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والداً وعمر مشيراً وعثمان سنداً وأنت يا علي ظهراً فأنتم أربعة قد أخذ ميثاقكم في الكتاب لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا فاجر أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تغامزوا كما في كشف الأسرار وفي الحديث : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه المدربع الصاع والنصيف نصف الشيء والضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم إلا إلى المد والمعنى أن أحدكم لا يدرك بإنفاق
60
مثل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفي حديث آخر الله الله في أصحابي لا تتخدوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذ أي يأخذه الله للتعذيب والعقاب وفي الصواعق لابن حجر وكان للنبي عليه السلام مائة ألف وأربعة عشر ألف صحابي عند موته انتهى وفي حديث الأخوة قال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول الله قال : لا أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي آمنوا بي ولم يروني وقالللعامل منهم أجر خمسين منكم قالوا : بل منهم يا رسول الله قال : بل منكم رددوها ثلاثاً ثم قال : لأنكم تجدون على الخير أعواناً كما في تلقيح الأذهان.
يقول الفقير : يلزم من هذا الخبر أن يكون الاوان أفضل من الأصحاب وهو خلاف ما عليه الجمهور قلت : الذي في الخبر من زيادة الأجر للعامل من الاخوان عند فقدان الأعوان لا مطلقاً فلا يلزم من ذلك أن يكونوا أفضل من كل وجه في كل زمان قال في فتح الرحمن وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية وهي محمد رسول الله إلى آخر السورة أول حرف المعجم فيها ميم من محمد وآخرها صاد من الصالحات وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاساً الآية وليس في القرآن آيتان في كل آية حروف المعجم غيرهما من دعا الله بهما استجيب له وعن النبيّ صلى الله عليه وسلّم من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد رسول الله فتح مكة وقال ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله تعالى ذلك العام ومن الله العون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
تفسير سورة الحجرات
ثماني عشرة آية مدنية بإجماع من أهل التأويل
جزء : 9 رقم الصفحة : 60
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} تصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم بشأنه وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع إلى المحافظة ورادع عن الإخلال به {لا تُقَدِّمُوا} أمراً من الأمور {بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولا تقطعوه إلا بعد أن يحكما به ويأذنا فيه فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل وإما مقتدين بالنبي المرسل ولفظ اليدين بمعنى الجهتين الكائنتين في سمت يدي الإنسان وبين اليدين بمعنى بين الجهتين والجهة التي بينهما هي جهة الإمام والقدام فقولك جلست بين يديه بمعنى جلست أمامه وبمكان يحاذي يديه قريباً منه وإذا قيل بين يدي الله امتنع أن يراد الجهة والمكان فيكون استعارة تمثيلية شبه ما وقع من بعض الصحابة من القطع في أمر من الأمور الدينية قبل أن يحم به الله ورسوله بحال من يقتدم في المشي في الطريق مثلاً لوقاحته على من يجب أن يتأخر عنه ويقفو أثره تعظيماً له فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن المشبه بها {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كل ما تأتون وما تذررن من الأقوال والأفعال {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ}(9/51)
61
لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأدعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب ويجوز أن يكون معنى لا تقدموا لا تفعلوا التقديم بالكلية على أن الفعل لم يقصد تعلق بمفعوله وإن كان متعدياً قال المولى أبو السعود وهو أوفى بحق المقام لإفادة النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني وقد جوز أن يكون التقديم لازماً بمعنى التقدم ومنه مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منهم ومنه وجه بمعنى توجه وبين بمعنى تبين نهى عن التقدم لأن التقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة واستقلال في الامر فيكون التقدم بين يدي الله ورسوله منافياً للإيمان وقال مجاهد والحسن : نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة كأنه قيل : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي عليه السلام وذلك أن ناساً ذبحوا قبل صلاة النبي عليه السلام فأمرهم أن يعيدوا الذبح وهو مذهبنا إلا أن تزول الشمس وعند الشافعي يجوز إذا مضى من الوقت ما يسع الصلاة وعن البراء رضي الله عنه خطبنا النبي عليه السلام يوم النحر فقال : إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس في النسك في شيء وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم قال مسروق كنا عند عائشة يوم الشك فأتى بلبن فنادتني وفي بحر العلوم قالت للجارية : اسقيه عسلاً فقلت : إني صائم فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم وتلت هذه الآية وقالت : هذه في الصوم وغيره وقال قتادة إنا ناساً كانوا يقولون : لو أنزل في كذا أو صنع في كذا ولو نزل كذا وكذا في معنى كذا ولو فعل الله كذا وينبغي أن يكون كذا فكره الله ذلك فنزلت وعن الحسن لما استقر رسول الله بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدئوا بالمسألة حتى يكون المبتدىء والظاهر أن الآية عام في كل قول وفعل ولذا حذف مفعول لا تقدموا ليذهب ذهن السامع كل مذهب مما يمكن تقديمه من قول أو فعل مثلاً إذا جرت مسألة في مجلسه عليه السلام لا تسبوه بالجواب وإذا حضر الطعام لا تبدئوا بالأكل قبله وإذا ذهبتم إلى موضع لا تمشوا أمامه إلا لمصلحة دعت إليه ونحو ذلك مما يمكن فيه التقدم قيل : لا يجوز تقدم الأصغار على الأكابر إلا في ثلاثة مواضع إذا ساروا ليلاً أو رأوا خيلاً أي جيشاً أو دخلوا سيلاً أي ماء سائلاً وكان في الزمان الأول إذا مشى الشاب أمام الشيخ يخسف الله به الأرض ويدخل في النهي المشي بين يدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء دليله ما روى عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : رآني رسول الله عليه السلام أمشي أمام أبي بكر رضي الله عنه فقال : تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير أو أفضل من أبي بكر رضي الله عنه كما في كشف الأسرار وأكثر هذه الروايات يشعر بأن المراد بين يدي رسول الله وذكر الله لتعظيمه والإيذان بجلالة محل عنده حيث ذكر اسمه تعالى توطئة وتمهيداً لذكر اسمه عليه السلام ليدل على قوة اختصاصه عليه السلام برب العزة وقرب منزلته من حضرته تعالى فإن إيقاع ذكره تعالى موقع ذكره عليه السلام بطريق العطف تفسير للمراد يدل عليها لا محالة كما يقال : أعجبني زيد وكرمه
62
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
في موضع أن يقال اعجبني كرم زيد للدلالة على قوة اختصاص الكرم به وقال ابن عباس رضي الله عنهما معنى الآية لا تقولوا الاف الكتاب والسنة.
يقول الفقير : لعله من باب الاكتفاء والمقصو ولا تفعلوا خلافهما أيضاً فإن كلاً منهما من قبيل التقدم لحدود الله وحدود رسوله وبهذا المعنى في هذه الآية ألهمت بين النوم واليقظة والله أعلم وفي الآية بيان رأفة الله على عباده حيث سماهم المؤمنين مع معصيتهم فقال : ياأيها الذين آمنوا ولم يقل ياأيها الذين عصوا وهذا نداء مدح كما في تفسير أبي الليث وأيضاً فيها وعيد لمن حكم بخاطره بغير علم بالفرق بين الإلهام والوسواس ويقول : إنه الحق فألزموه ومقصوده الرياء والسمعة ومن شرط المؤمن أن لا يرى رأيه وعقله واختباره فوق رأي النبي والشيخ ويكون مستسلماً لما يرى فيه مصلحة ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته ومن أدب المريدان أن يتكلم بين يدي الشيخ فإنه سبب سقوطه من أعين الأكابر قال سهل : لا تقولوا قبل أن يقول وإذا قال فاقبلوا منه منصتين له مستمعين إليه واتقوا الله في إهمال حقه وتضييع حرمته أن الله سميع لما تقولون عليم بما تعملون وقال بعضهم : لا تطلبوا وراء منزلته منزلة فإنه لا يوازيه أحد بل لا يدانيه.
شم اواز حيا كوش اواز حكمت زبان اوز ثنا وتسبيح ودل اواز رحمت دست اواز سخاموى اواز مشك بويا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/52)
قيمت عطار ومشك اندر جهان كاسد شود.
ون برافشاند صبا زلفين عنبر ساى تو يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ} شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي عليه السلام بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل والصوت هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين فإن الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطبع يسمى نفساً بفتح الفاء وإن خرج بالإرادة وعرض له تموج بتصادم جسمين يسمى صوتاً والصوت الاختياري الذي يكون للإنسان ضربان ضرب باليد كصوت العود وما يجري مجراه وضرب بالفم فالذي بالفم ضربان نطق وغيره فغيره النطق كصوت الناي والنطق إما مفرد منا لكلام وإما مركب كأحد الأنواع من الكلام والمعنى لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه السلام بصوته والباء للتعدية وقال في المفردات تخصيص الصوت بالنهي لكونه أعم من النطق والكلام ويجوز أنه خصه لأن المكروه رفع الصوت لا رفع الكلام وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس من بني تميم قدم على النبيّ عليه السلام فقال أبو بكر رضي الله عنه : استعمله على قومه أي بتقديمه عليهم بالرياسة فقال عمررضي الله عنه : لا تستعمله يارسول الله بل القعقاع بن معبد فتكلما عند النبي عليه السلام حتى ارتفعت أصواتهما فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي فقال : ما أردت خلافك فنزلت هذه الآية فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي لم يسمع كلامه حتى يستفهمه وقال أبو بكر : آليت على نفسي أن لا أكلم النبي أبداً إلا كأخي السرار يعني سوكند ياد كردم كه بعد ازين هركز بارسول خدا سخن بلند نكويم مكر نانكه باهمرازي نهان سخن كويند {وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ} إذا كلمتموه وتكلم هو أيضاً
63
والجهر يقال لظهور الشيء بإفراد الحاسة البصر نحو رأيته جهاراً أو حاسة السمع نحو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم بل اجعلوا صوتكم أخفض من صوته وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة جهالة النبو فنهوا عن جهر مخصوص مقيد وهوالجهر المماثل لجهر اعتادوه فيما بينهم لا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يتكلموا بالهمس والمخافتة فالنهي الثاني أيضاً مقيد بما إذا نطق ونطقوا والفرق مدلول النهي الأول حرمة رفع الصوت فوق صوته عليه السلام ومدلول الثاني حرمة أن يكون كلامهم معه عليه السلام في صفة الجهر كالكلام الجاري بينهم ووجوب كون أصواتهم أخفض من صوته عليه السلام بعد كونه ليست بأرفع من صوته وهذا المعنى لا يستفاد من النهي الأول فلا تكرار والمفهوم من الكشاف في الفرق بينهما أن معنى النهي الأول أنه عليه السلام إذا نطق نطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم فوق الحد الذي يبلغ إليه صوته عليه السلام وأن تغضوا من أصواتكم بحيث يكون صوته عالياً على أصواتكم ومعنى الثاني أنكم إذا كلمتموه وهو عليه السلام ساكت فلا تبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينكم بل لينوا لقول ليناً يقارب الهمس الذي يضاد الجهر
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/53)
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ} تا باطل نشود عملهاى شما بسبب اين جرأت.
وهو علة إما للنهي على طريق التنازع فإن كل واحد من قوله لا ترفعوا ولا تجهروا يطلبه من حيث المعنى فيكون علة للثاني عند البصريين وللأول عند الكوفيين كأنه قيل انتهوا عما نهيتم عنه لخشية حبوط أعمالكم أو كراهته كما في قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا فحذف المضاف ولام التعليل وإما علة للفعل المنهى كأنه قيل انتهوا عن الفعل الذي تفعلونه لأجل حبوط أعمالكم فاللام فيه لام العاقبة فإنهم لم يقصدوا بما فعلوه من رفع الصوت والجهر حبوط أعمالهم إلا أنه لما كان بحيث قد يؤدي إلى الكفر المحبط جعل كأنه فعل لأجله فأدخل عليه لام العلة تشبيهاً لمؤدي الفعل بالعلة الغائية وليس المراد بما نهى عنه من الرفع والجهر ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة فإن ذلك كفر بل ما يتوهم أن يؤدي إليه مما يجري بينهم في أثناء المحاورة من الرفع والجهر خلا أن رفع الصوت فوق صوته عليه السلام لما كان منكراً محضاً لم يقيد بشيء يعني أن الاستخفاف به عليه السلام كفر لا الاستخفاف بأمر الرفع والجهر بل هو المؤدي إلى المنكر لأنهم إذا اعتادوا الرفع والجهر مستخفين بأمرهما ربما انضم إلى هذا الاستخفاف قصد الإهانة به عليه السلام وعدم المبالاة وكذا ليس المراد ما يقع الرفع والجهر في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو نحو ذلك فإنه مما لا بأس به إذ لا يتأذى به النبي عليه السلام فلا يتناوله النهي ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين إصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتاً ـ يروى ـ أن غارة أتتهم يوماً أي في المدينة فصاح العباس : يا صباحاه فأسقط الحوامل لشدة صوته وكان يسمع صوته من ثماني أميال ما هو في الفتح وعن ابن العباس رضي الله عنهما
64
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في إذنه وقر وكان جهوري الصوت أي جهيره ورفيعه وربما كان يكلم رسول الله فيتأذى بصوته وعن أنس لما نزلت الآية فقد ثابت وتفقده عليه السلام فأخبر بشأنه فدعاه عليه السلام فسأله فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وأنه رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط فقال عليه السلام : "لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة وصدق رسول الله فإن ثابتاً مات بخير حيث قتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له : اعلم أن فلاناً لرجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهو في ناحية من العسكر وعنده فرس مشدود يرعى وقد وضع على درعي برمة فائت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وائت أبا بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله وقل له أن علي ديناً لفلان حتى يقضي ديني وفلان من عبيدي حر فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه الوصية
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/54)
{وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} " حال من فاعل تحبط أي والحال أنكم لا تشعرون بحبوطها والشعور العلم والفطنة والعشر العلم الدقيق.
ودانستن از طريق حس.
وفيه مزيد تحذير لما نهوا عنه استدل الزمخشري بالآية على أن الكبيرة تحبط الأعمال الصالحة إذ لا قائل بالفصل والجواب أنه من باب التغليظ والمراد أنهم لا يشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحيط وليس كسائر المعاصي وأيضاً أنه من باب ولا تكونن ظهيراً للكافرين يعني أن المراد وهو الجهر والرفع والمقرونان بالاستهانة والقصد إلى التعريض بالمنافقين قال الراغب : حبط العمل على اضرب أحدها أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامة غناء كما أشار إليه تعالى بقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منيوراً والثاني أن تكون أعمالاً أخروية لكن لم يقصد صاحبها بلا وجه كما روى يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له : بم كان اشتغالك قال : بقارءة القرآن فيقال له : كنت تقرأ ليقال فلان قارىء وقد قيل ذلك فيومر به إلى النار والثالث أن تكون أعمالاً صالحة لكن بأزارئها سيئات توفي عليها وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان انتهى وحبط عمله كسمع وضرب حبطاً وحبوطاً بطل وأحبطه الله أبطله كما في القاموس وقال الراغب : أصل الحبط من الحبط وهو أن تكثر الدابة من الكلأ حتى تنتفخ بطنها فلا يخرج منها شيء قال البقلي في العرائس اعلمنا الله بهذا التأديب أن خاطر حبيبه من كمال لطافته ومراقبة جمال ملكوته كان يتغير من الأصوات الجهرية وذلك من غاية شغله بالله وجمع همومه بين يدي الله فكان إذا جهر أحد عنده يتأذى قلبه ويضيق صدره من ذلك كأنه يتقاعد سره لحظة عن السير في ميادين الأزل فخوفهم الله من ذلك فإن تشويش خاطره عليه السلام سبب بطلان الأعمال ومن العرش إلى الثرى لا يزن عند خاطره ذرة واجتماع خاطر الأنبياء والأولياء في المحبة أحب إلى الله من أعمال الثقلين وفيه حفظ الحرمة لرسول الله وتأديب المريدين بين يدي أولياء الله.
يقول الفقير ولكمال لطافته عليه السلام كان الموت عليه
65
أشد إذ اللطيف يتأثر مما لا يتأثر الكثيف كما قال بعضهم قد شاهدنا أقواماً من عرب البوادي يسلخ الحكام جميع جلد أحدهم ولا يظهر ضجراً ولو سلخ أكبر الأولياء لصاح إلا أن يؤخذ عقله بمشاهدة تمنع إحساسه انتهى ومن هنا عرف أن لكل من الجهر والخفاء محلاً فشديد النفس له الجهر ولينه له الإخفاء كما في حال النكر وليس كل أحد صاحب مشاهد وقال سهل : لا تخاطبوه إلا مستفهمين ثم إن الأصحاب رضي الله عنهم كانوا بعد هذه الآية لا يكلمونه عليه السلام إلا جهراً يقرب من السر والهمس وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام لأنه حي في قبره وكذا القرب منه عليه السلام في المواجهة عند السلام بحيث كان بينه وبينه عليه السلام أقل من أربعة أذرع وكره بعضهم رفع الصوت في مجالس الفقهاء تشريفاً لهم إذ هم ورثة الأنبياء قال سليمان بن حرب ضحك إنسان عند حماد بن زيد وهو يحدث بحديث عن رسول الله فغضب حماد وقال : إني أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله وهو ميت كرفع الصوت عنده وهو حي وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم وحاصله أن فيه كراهة الرفع عند الحديث وعند المحدث مع أن الضحك لا يخلو من السخرية والهزل ومجلس الجد لا يحتمل مثل ذلك ولو دخل السلف مجالس هذا الزمان من مجلس الوعظ والدرس واجتماع المولد ونحو ذلك خرجوا من ساعتهم لما رأوا من كثرة المنكرات وسوء الأدب.
بزركان كفته اند من ترك الاداب رد عن الباب نهصد هزار ساله طاعت ابليس بيك بي ادبى ضايع شد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
نكاه دار ادب در طريق عشق ونياز
كه كفته اند طريقت تمام آدابست
نسأل الله الكريم أن يجعلنا متحلين بحلية الأدب العظيم {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب من الإخلال به والغض النقصان من الطرف والصوت وما في الإناء يقال غض طرفه خفضه وغض السقاء نقص مما فيه والمعنى أن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله مراعاة للأدب وخشية من مخالفة النهي {أولئك} مبتدأ خبره قوله : {الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميزا بريزه من خبثه فهو من إطلاق المقيد وهو إخلاص الذهب وإرادة المطلق :
دربوته امتحان كرم بكدازى
منت دارم كه بي غشم ميسازى
(9/55)
وقال في الأساس محن الأديم مدده حتى وسعه وبه فسر قوله تعالى : امتحن الله قلوبهم أي شرحها ووسعها وعن عمر رضي الله عنه : اذهب عنها الشخزتن أي نزع عنها محبة الشهوات وصفاها عن دنس سوء الأخلاق وحلاها بمكارمها حتى انسلخوا عن عادات البشرية {لَهُمْ} في الآخرة {مَغْفِرَةٍ} عظيمة لذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} التنكير للتعظيم أي ثابت لهم غفران وأجر عظيم لا يقادر لغضهم وسائر طاعاتهم فهو استئناف لبيان جزاء الغاضين مدحاً لحالهم وتعريضاً بسوء حال من ليس مثلهم وفي الآية إشارة إلى غض الصوت عند الشيخ المرشد أيضاً لأنه الوارث وله الخلافة ولا يقع الغض إلا من أهل السكينة والوقار وقال الحسين قدس سره : من امتحن الله قلبه بالتقوى كان شعاره القرآن ودثاره الإيمان وسراجه التفكر
66
وطيبه التقوى وطهارته التوبة ونظافته الحلال وزينته الورع وعلمه الآخرة وشغله بالله ومقامه مع الله وصومه إلى الممات وإفطاره من الجنة وجمعه الحسنات وكنزه الإخلاص وصمته المراقبات ونظره المشاهدات قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر التقوى كل عمل يقيك من النار وإذا وقاك من النار وقاك من الحجاب وإذا وقاك من الحجاب شاهدت العزيز الوهاب روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لن يزال قلب ابن آدم ممتلئاً حرصاً إلا الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى قال الراوي فلقد رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله لا يركب إلى زراعة له وأنها منه على فراسخ وقد أتى عليه سبعون سنة وروي أنه عليه السلام قال : لا يزال قلب ابن آدم جديداً في حب الشيء وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى وهم قليل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
يعني هميشه دل آدم نوى باشد درجب يزى واكره نكرسته باشد هردو نبر كردنش ازيرى وبزركى مكر آتانكه امتحان كرداست خدا قلوب ايشان ازبراى تقوى واند كند ايشان :
وجود تو شهريست رنيك وبد
تو سلطان ودستور دانا خرد
هما نا كه دونان كردن فراز
درين شهر كبرست وسودا وآز
و سلطان عنايت كند بابدان
كجا ماند آسايش بخردان
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} المناداة والنداء خواندن {مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ} أي من خارجها من خلفها أو قدامها لأن وراء الحجرة عبارة عن الجهة التي يواريها شخص الحجرة بجهتها أي من أي ناحي كانت من نواحيها ولا بد أن تكون تلك الجهة خارج الحجرة لأن ما في داخلها لا يتوارى عمن فيها بحثة الحجرة واشتراك الوراء في تينك الجهتين معنوي لا لفظي لكن جعله الجوهري وغيره من الأضداد فيكون اشتراكه لفظياً ومن ابتدائية دالة على أن المناداة نشأت من جهة الوراء وأن المنادى داخل الحجرة لوجوب اختلاف المبدأ والمنتهى بحسب الجهة وإذا جرد الكلام عن حرف الابتداء جاز أن يكون المنادى أيضاً في الخارج لانتفاء مقتضى اختلافهما بالجهة والمراد حجرات أمهات المؤمنين وكانت لكل واحدة منهما حجرة فتكون تسعاً عددهن جمع حجرة بمعنى محجورة كقبضة بمعنى مقبوضة وهي الموضع الذي يحجره الإنسان لنفسه بحائط ونحوه ويمنع عبره من أن يشاركه فيه من الحجر وهو المنع وقيل للعقل حجر لكون الإنسان في منع منه مما تدو إليه نفسه ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه عليه السلام من ورائها أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه السلام لأنهم لم يتحققوا إمكانه فناداه بعض من وراء هذه وبعض من وراء تلك فأسند فعل الإبعاض إلى الكل وقيل الذي ناداه عينة بن حصين الفزاري وهو الأحمق المطاع وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة أي تتبعه والأقرع بن حابس وهو شاعر بني تميم وفدا على رسول الله في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا : يا محمد اخرج إلينا فنحن الذين مدحنا زين وذمنا شين فاستيقظ فخرج وقال لهم : ويحكم ذلك أي الله الذي مدحه زين وذمه شين وإنما أسند النداء إلى الكل وإنما أسند النداء إلى الكل لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم وقال سعدي المفتي : إنما يحتاج إلى التأويل إذا أريد باستغراق الجمع
67
الاستغراق الإفرادي وأما لو أريد الاستغراق المجوعي فلا ولذلك قالوا مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد بالآحاد وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم فقال : هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله أن يهلكهم فنزلت الآية ذماً لهم وبقي هذا الذم إلى الأبد وصدق رسول الله في قوله ذلكم الله
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/56)
{أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} قال في بحر العلوم في قوله أكثر دلالة على أنه كان فيهم من قصد بالمحاشاة وهو بالفارسية استثنا كردن.
وعلى قلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل إذا القلة تجري مجرى النفي في كلامهم ويؤيده الحديث السابق فيكون المعنى كلهم لا يقعلون إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب بل تأدبوا معه بأن يجلسوا على بابه حتى يخرج إليهم كما قال تعالى الفا : {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} الصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} لو مختص بالفعل على ما ذهب إليه المبرد والزجاج والكوفيون فما بعد لو مرفوع على فاعلية لا على الابتداء على ما قاله سيبويه والمعنى ولو تحقق صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغياً بخروجه عليه السلام فإنها مختصة بما هو غاية للشيء في نفسه ولذلك تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى نصفها وثلثها بخلاف إلى فإنها عامة وفي إليهم إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم {لَكَانَ} أي الصبر المذكور {خَيْرًا لَّهُمْ} من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثواب والثناء والإسعاف بالمسئول إذ روى أنهم وفدوا شافعين في أساري بني العنبر قال في القاموس : العنبر أبو حي من تميم قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث رسول الله عليه السلام سرية إلى حي بني العنبر وأمر عليهم عينية بن حصين فلما علموا أنه توجه نحوهم هبروا وتركوا عيالهم فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله قائلاً في أهله فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون والإجهاش كريستن راساختن.
يقال : اجهش إليه إذا فزع إليه وهو يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وكان لكل امرأة من نساء رسول الله بيت وحجرة فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبرائيل فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً فقال عليه السلام لهم : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم قالوا : نعم قال سبرة : أنا لا أحكم بينهم وعمى شاهد وهو أعور بن بشامة بن ضرار فرضوا به فقال الأعور : فأنا أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال عليه السلام : قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم وقال مقاتل : لكان خيراً لهم لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بليغ المغفرة والرحمة واسعهما فلن تضيق ساحتهما عن هؤلاء المسيئين للأدب إن تابوا وأصلحوا قال الكاشفي : والله غفور وخداى تعالى آمرزنده است كسى راكه توبه كند ازبى ادبى رحيم مهربانست باهل ادب كه تعظيم سيد اولوا الألباب ميكنند ه ادب جاذب رحمتست وحرمت جالب نعمت :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
سرمايه ادب بكف آوركه اين متاع
آنراكه هست سوء ادب نايدش بكف
68
وفي هذا المقام أمور :
الأول : أن في هذها لآية تنبيهاً على قدره قدره عليه السلام والتأدت معه بكل حال فهم إنما نادوه لعدم عقل يعرفون به قدره ولو عرفوا قدره لكانوا كما في الخبر يقرعون بابه بالأظافير وفي المناداة إشارة إلى أنهم رأوا من ورأوه من وراء الحجاب ولو كانوا من أهل الحضور والشهود لما نادوه كما قال بعضهم :
كارنادان كوته انديش است
يا دكردن كسى كه دريش است
قال أبو عثمان المغربي قدس سره : الأدب عند الأكابر وفي مجلس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلي والخير في الأولى والعقبى فكما لا بد من التأدب معه عليه السلام فكذا مع من استن بسنته كالعلما العالمين وكان جماعة من العلماء يجلسون على باب غيرهم ولا يدقون عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احتراماً قال أبو عبيدة القاسم بن سلام : ما دققت الباب على عالم قد كنت أصبر حتى يخرج إلي لقوله تعالى : ولو أنهم الخ وفي الحديث أدبني ربي فأحسن تأديبي إلى أدبني أحسن تأديب فالفاء تفسير لما قبله قال بعض الكبار من الحكمة توقير الكبير ورحمة الصغير ومخاطبة الناس باللين وقال إن كان خليلك فوقك فاصحبه بالحرمة وإن كان كفؤك ونظيرك فاصحبه بالوفاء وإن كان دونك فاحصبه بالمرحمة وإن كان عالماً فاحسبه بالخدمة والتعظيم وإن كان جاهلاً فاحصبه بالسياسة وإن كان غنياً فاحصبه بالزهد وإن كان فقيراً فاحصبه بالجود وإن صحبت صوفياً فاحسبه بالتسليم قال بعض الحكماء عاشروا الناي معاشرة إن متم بكوا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم.
(9/57)
والثاني ذم الجهل ومدح العقل والعلم فإن شرف العقل مدرك بضرورة العقل والعلم والحسن حتى إن أكبر الحيوانات شخصاً وأقواها أبداً إذا رأى الإنسان احتشمه وخاف منه لإحساسه بأنه مستول عليه بحيلته وأقرب الناس لي يا أرجة بهائم أجلاف العرب والترك تراهم بالطبع يبالغون في توقير شيوخهم لأن التجربة دميزتهم عنهم بمزيد علم ولذلك روى في الأثر الشيخ في قوله كالنبي في أمته نظراً إلى قوة علمه وعقله لا بقوة شخصه وجماله وشوكته وثروته.
وفي المثنوي :
كشتى بي لنكر آمد مردشر
كه زباد كنيابد او حذر
لنكر عقلست عاقل را امان
لنكرى دريوزه كن از عاقلان
قال بعض الكبار العاقل كلامه وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم به أمره على قلبه فينظر فيه فإن كان له أي لنفعه أمضاه وإن كان عليه أي لضره أمسكه والأحمق كلامه على طرف لسانه وعقله في حجره إذا قام سقط قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لسان العاقل في قلبه وقلب الأحمق في فمه والأدب صورة العقل ولا شرف مع سوء الأدب ولاداء اعيى من الجهل وإذا تم العقل نقص الكلام :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
هركرا اندكست مايه عقل
بيهده كفتنش بودسيار
مردوا عقل ون بيفزايد
درمجامع بكاهدش كفتار
وفي الحديث كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر وفي حديث آخر وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
والثالث ما قال بعض الكار
69
تدبر سر قوله تعالى ولو أنهم صبروا الآية ولا تنظر إلى سبب النزول وانتظر خروجه مرة ثانية لقيام الساعة وفتح باب الشفاعة في هذه الدار نوماً أو يقظة في الآخرة وهو الشافع فيهما وفي الحافرة وقد ثبت أن الناس يلتجئون يوم القيامة إلى الأنبياء ثم وثم إلى أن يصلوا إليه فلا يصلون إلى المراد إلا عنده وفي الحديث أنا أول ولد آدم خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وخطيهم إذا أنصتوا وأنا مبشرهم إذا إبلسوا وأنا شفيعهم إذا حشروا ولواء الكرم بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر يطوف على ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون :
سرخيل انبياء وسهدار اتقيا
سلطان باركاه دنى قائد الأمم
وإنما كان خدامه ألفاً لتحققه بألف اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ} أي فاسق كان {يُنَبَّؤُا} أي نبأ كان والنبأ الخبر.
يعني خبري بياردكه موحش بود وموجب تألم خاطر.
فالتنكير للتعميم وفيه إيذان بالاحتراز عن كل فاسق وإنما قال إن جاءكم بحرف الشك دون إذا ليدل على أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا على هذه الصفة لئلا يطمع فاسق في مكالمتهم بكذب ما وقال ابن الشيخ إخراج الكلام بلفظ الشرط المحتمل الوقوع لندرة مثله فيما بين أصحابه عليه السلام {فَتَبَيَّنُوا} أي إن جاءكم فاسق بخبر يعظم وقعه في القلوب فتعرفوا وتفحصوا حتى يتبين لكم ما جاء به أصدق هوام كذب ولا تعتمدوا على قوله المجرد لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه روى أن الوليد بن عقبة بن أبي معبط أخا عثمان لأمه وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال : هل أريدكم فعزله عثمان عنهم بعثه عليه السلام مصدقاً إلى بني المصطلق أي آخذاً وقابضاً لصدقاتهم وزكاتهم وكان بينه وبينهم أحنة أي حقد وبغض كأمن في الجاهلية بسبب دم فلما سمعوا بقدومه استقبلوه ركباناً فحسب أنهم مقاتلوه فرجع هارباً وقال لرسول الله عليه السلام : قد رتدوا ومنعوا الزكاة وهموا بقتلي فهم عليه السلام بقتالهم فنزلت وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد بعد رجوع الوليد بن عقبة عنهم في عسكر وقال له : أخر عنهم قومك إليهم بالعسكر وادخل عليهم ليلاً متجسساً هل ترى شعائر الإسلام وآدابه فإن رأيت منهم ذلك فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يفعل بالكفار ففعل ذلك خالد وجاءهم وقت المغرب فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ووجدهم مجتهدين باذلين وسعهم ومجهودهم في امتثال أمر الله فأخذ منهم صدقاتهم وانصرف إلى رسول الله وأخبره الخبر فنزلت
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{أَن تُصِيبُوا} حذار أن تصيبوا {قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ} حال من ضمير تصيبوا أي ملتبسين بجهالة بحلهم وكنة قصتهم {فَتُصْبِحُوا} أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم مما أسند إليهم {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ} في حقهم {نَـادِمِينَ} مغتمين غماً لازماف متمنين أنه لم يقع فإن تركيب هذه الأحرف الثلاثة يدور مع الدوام مثل أدمن الأمر إذا أدامه ومدن المكان إذا أقام به ومنه المدينة يعني إن الندم غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام على ما وقع مع تمني
70
(9/58)
أنه لم يقع ولزومه قد يكون لقوته من أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه وسببه عن الخاطر وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب وفي الآية دلالة على أن الجاهل لا بد أن يصير نادماً على ما فعله بعد زمان وفي ترتيب الأمر بالتبين على فسق المخبر إشارة إلى قبول خبر الواحد العدل في بعض المواد ورد عليه السلام شهادة رجل في كذبة واحدة وقال : إن شاهد الزور مع العشار في النار وقال عليه السلام : من شهد شهادة زور فعليه لعنة الله ومن حكم بين اثنين فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله وما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما إن كافراً فهو كما قال وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إياه كما في كشف الأسرار وفي الآية أيضاً إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمام والمغتاب للناس :
كسى يش من درجهان عاقلست
كه مشغول خود وز جهان غافلست
كسى راكه نام آمد اندرميان
به نيكوترين نام ونعتش بخوان
ازان همنشين تاتوانى كربز
كه مرفتنه خفته را كفت خيز
ميان دوكس جنك ون آتش است
سخن ين بدبخت هيزم كش است
ميان دوتن آتش آفروختن
نه عقلست خود درميان سوختن
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 8 من صفحة 71 حتى صفحة 81
فلا بد من النبيين والتفحص ليظهر حقيقة الحال ويسلم المرء من الوبال ويفتضح الكذاب الدجال وفي الحديث التبين من الله والعجلة من الشيطان وفيها أيضاً إشارة إلى تسويلات النفس الفاسقة الأمارة بالسوء ومجيئها كل ساعة بنبأ شهوة من شهوات الدنيا فتبينوا ربحها وخسرانها من قبل أن تصيبوا قوماً من القلوب وصفاتها بجهالة ما فيهامن شفاء النفوس وحياتها ومرض القلوب ومماتها فتصبحوا صباح القيامة وأنتم على ما فعلتم نادمون {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} وبدانيدكه درميان شماست رسول الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وفائدة الأمر الدلالة على أنهم نزلوا منزلة الجاهلين لمكانه لتفريطهم فيما يجب من تعظيم شأنه فيكون قوله تعالى : {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ} استئنافاً وقال بعضهم : إن بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما بعده من قوله تعالى لو يطيعكم الخ فإنه حال من أحد الضميرين في فيكم الأول المرفوع المستتر فيه العائد إلى رسول الله المنتقل إليه من عامله المحذوف لأن التقدير كائن فيكم أو مستقر والثاني المجرور البارز والمعنى أي على الحال أن فيكم رسول الله كائناً على حالة يجب عليكم تغييرها أو كائنين على حالة الخ وهي أنكم تريدون أن يتبع عليه السلام رأيكم في كثير من الحوادث ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهد والهلاك فعلى هذا يكون قوله لو يطيعكم الخ دليل وجوب تغيير تلك الحال أقيم مقام الحال وفيه إيذان بأن بعضهم زينوا لرسول الله الإيقاع بيني المصطلق تصديقاً لقول الوليد وإنه عليه السلام لم يطع رأيهم والعنت محركة الفساد والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان كما في القاموس يقال عنت فلان إذا وقع في أمر يخاف منه التلف كما في المفردات فهو من الباب الرابع مثل طرب يطرب طرباً وقال الزمخشري : هو الكسر بعد الجبر كما في تاج المصادر العنت بزه مند شدن ودركارى افتيدن كه ازان بيرون نتواند آمد وشكسته شدن استخوان س ازبر وقوله لمن خشي
71
العنت منكم يعني الفجور والزنى ومنه الأسير من المسلمين في دارالحرب إذا خشي العنت على نفسه والفجور لا بأس بأن يتزوج امرأة منهم والتركيب يدل على مشقة وصيغة المضارع في لو يطيكم للدلالة على أن امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته عليه السلام لأن عنتهم إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعن لهم من الأمور إذ فيه اختلال أمر الإيالة وانقلاب الرئيس مرؤوساً لا من إطاعته في بعض ما يرونه نادراً بل فيها استمالتهم بلا معرة قال في علم البلاغة : لو للشرط في الماضي أي لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضا مع القطع بانتفاء الشرط فيلزم انتفاء الجزاء فيلزم عدم الثبوت والمضي في جملتها إذا الثبوت ينافي التعليق والاستقبال ينافي الماضي فلا يعدل في جملتيها عن الفعلية لما ضوية إلا لنكتة فدخولها على المضارع نحو لو يطيعكم الخ لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتاً فوقتاً والفعف هو الإطاعة يعني أن امتناع عنتكم بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم فإن المضارع يفيد الاستمرار ودخول لو عليه امتناع الاستمرار
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/59)
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} الخ تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك بياناً لبراءتهم من أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم وهم الكاملون الذين لا يعتمدون على كل ما سمعوه من الإخبار والتحبيب دوست كردانيدن.
اي ولكنه تعالى جعل الإيمان محبوباً لديكم {وَزَيَّنَهُ} وحسنه {فِي قُلُوبِكُمْ} حتى رسخ حبه فيها ولذلك أتيتم بما يليق به من الأقوال والأفعال وفي عين المعاني في قلوبكم دون ألسنتكم مجردة رداً على الكرامية وقيل دون جوارحكم رداً على الشفعوية {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ولذلك اجتنبتم ما لا يليق به مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها والتكريه هنا بمعنى التبغيض والبغض ضد الحب فالبغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه والحب انجذاب النفس إلى شيء الذي ترغب فيه ولما كان في التحبيب والتكريه معنى إنهاء المحبة والكراهة وإيصالهما إليهم استعملا بكلمة إلى قال في فتح الرحمن معنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق والكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد أي العدل بظلم نفسه والعصيان الامتناع من الانقياد وهو شامل لجميع الذنوب والفسوق مختص بالكبائر {أولئك} المستثنون بقوله ولكن الله الخ {هُمُ الراَّشِدُونَ} أي السالكون إلى الطريق السوي الموصل إلى الحق وفي الآية عدول وتلوين حيث ذكر أولها على وجه المخاطبة وآخرها على المغايبة حيث قيل أولئك هم الراشدون ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح كما قال أبو الليث {فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي وإنعاماف تعليل لحبب وكره وما بينهما اعتراض لا للراشدين فإن الفضل فعل الله والرشد وإن كان مسبباً عن فعله وهو التحبيب والتكريه مسند إلى ضميرهم يعني أن المراد بالفاعل من قام به الفعل وأسند هو إليه لا من أوجده ومن المعلوم أن الرشد قائم بالقوم والفضل والإنعام قائمان به تعالى فلا اتحاد {وَاللَّهُ عَلِيمُ} مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل والتمايز {حَكِيمٌ} يفعل كل ما يفعل بموجب الحكمة.
وقال الكاشفي : والله عليم وخداى تعالى داناست بصدق وكذب حكيم محكم كارست درامور بند كان وازحكمتهاى
72
اوست كه بتحقيق اخبار ميفر ما يدكه از خبرهاى ناراست انواع فتنهامى زايد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
هركز سخنان فتنة انكيزمكو
وآن راست كه هست فتنه ان نيزمكو
خامش كن وكراره ندارى زسخن
شوخى مكن وتند مشو تيزمكو
وفي الآية دليل على أن من كان مؤمناً لا يحب الفسق والمعصة وإذا ابتلى بالمعصي فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك ل لحبه للمصية بل ربما يعصى حال الحضور لأن فيه نفاذ قضائه تعالى.
شيخ أكبر قدس سره الأطهرمى فرمايدكه بعضى ازصالحان مراخبر دادكه بفلان عالم در آمدم واو برنفس خود مسرف بود شيخ فرمودكه من آن عالم مسرف رانيزمى دانم وباوى اجتماع اتفاق افتاده بودآن عزيز صالح ميكويدكه ون بدر خانه اورسيدم ابا كردازان سبب كه برصورتى نا مشروع نشسته بود كفتم اره نيست ازديدن او كفت بكوييدكه من بره حالم كفتم لا بداست دستورى داد در آمدم وآن خمرايشان تمام شده بود بعضى ازحاضران كفت بفلاني رقعه بنويس كه قدرى بفرستدآن عالم كفت نكنم ونمى خواهم برمعصيت حق تعالى مصر باشم والله والله كه هي كاسه نمى خورم الاكه درعقب آن توبه ميكنم ومنتظر كاس ديكر نباشم وبانفس خوددر ان باب سخن نمى كويم وق بارديكر دورمى رسد وساقى مى آيد در نفس خودنكاه ميكنم اكرراى من بران قرار ميكيردكه بكيرم مى ستانم ووق فارغ شدم باز بحق رجوع ميكنم وتوبه مى آدم در مرور اوقات درخاطر من نيست كه عصيان كنم آن عزيز مى كويدكه باوجود عصيان واسراف او تعجب نمودم كه كونه ازمثل اين حضور غافل نشد س حذر كنى ازاصرار كردن بركناه بلكه درهر حالت توبه كنى وبحق تعالى بازكرد وبراثر هرعصيانى عذرى بخواه :
طريقى بدست آروصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يكلحظه صورت نبندد امان
ويمانه رشد بدور زمان
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/60)
{وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي تقاتلوا والجمع حيث لم يقل اقتتلتا على التثنية والتأنيث باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع والطائفة من الناس جماعة منهم لكنها دون الفرقة كما دل عليه قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وطائفتان فاعل فعل محذول وجوباً لا مبتدأ لأن حرف الشرط لا يدخل إلا على الفعل لفظاً أو تقديراً والتقدير وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فحذف الأول لئلا يلزم اجتماع المفسر والمفسر وأصل القتل إزالة الروح عن الجسد {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} تنى الضمير باعتبار اللفظ والصلاح الحصول على الحالة المستقيمة النافعة والإصلاح جعل الشيء على تلك الحالة وبالفارسية بإصلاح آوردن.
أي فأصلحوا بين تينك الطائفتين بالنصح والدعاء إلى حكم الله قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : من وصل أخاه بنصيحة في دينه ونظر له في صلاح دنياه فقد أحسن صلته وقال مطرف : وجدنا أنصح العبادالملائكة ووجدنا أغش العبادالشياطين يقال : من كتم السلطان نصحه والأطباء مرضه والإخوان بثه فقد خان نفسه والإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا من أعظم الطاعات وأتم القربات وكذا نصرة المظلوم وفي الحديث إلا أخبركم بأفضل من درجة الصيام
73
والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال : "إصلاح ذات البين" وقال لقمان يا بني كذب من يقول إن الشر يطفي الشر فإن كان صادقاً فليوقد نارين ثم لينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى وإنما يطفىء الماء النالا وفي الحديث : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له منها ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها وقال بعض العارفين : سعى الإنسان في مصالح غيره من أعظم القربات إلى الله تعالى وتأمل في موسى عليه السلام لما خرج يمشي في الظلمة في حق أهله ليطلب لهم ناراً يصطلون بها ويقضون بها إلا أمر الذي لا يقضي إلا بها في العادة كيف أنتج له ذلك الطلب سماع كلام ربه من غير واسطة ملك فكلمه الله في عين حاجته وهي النار ولم يكن يخطر له هذا المقام بخاطر فلم يحصل له إلا في وقت السعي في مصالح العيال وذلك ليعلمه الله بما في قضاء حوائج العائلة من الفضل فيزيد حرصاً في سعيه في حقهم لأنهم عبيده على كل حال وكذلك لما وقع لموسى الفرار من الأعداء الذين طلبوا قتله أنتج له ذلك الفرار الحكم والرسالة كما قال ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وذلك لأن فراره كان سعياً في حق الغير الذي هو النفس الناطقة المالكة تدبير هذا البدن فإن فرار الأكابر دائماً إنما يكون في حق الغير لا في حق أنفسهم فكان الفار من موسى النفس الحيوانية وكذلك لما خرج الخضر عليه السلام يرتاد الماء للجيش الذي كان معه حين فقدوا الماء فوقع بعين الحياة فشرب منها عاش إلى زمننا هذا والحال أنه كان لا يعرف ما خص الله به شارب ذلك الماء من الحياة فلما عاد وأخبر أصحابه بالماء سارعوا إلى ذلك الموضع ليستقوا منه فأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يهتدوا إلى موضعه كما قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
سكندر رانمى بخشند آبى
بزور وزر ميسر نيست اين كار
فانظر ما أنتج له سعيه في حق الغير واعمل عليه والآية نزلت في قتال أحدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه السلام بالسعف وهي أغصان النخل إذا يبست والنعال فقال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام مر يوماً على ملأ من الأنصار فيهم عليه السلام بن أبي المنافق ورسول الله عليه السلام على حماره فوقف عليهم يعظهم فبال حماره أوراث فأمسك عليه السلام بن أبي أنفه وقال : نح عنا نتن حمارك فقد آذيتنا بنتنه فمن جاءك منا فعظه فسمع ذلك عليه السلام بن رواحة رضي الله عنه فقال : ألحمار رسول الله تقول هذا؟ والله إن بول حمار رسول الله أطيب رائحة منك فمر عليه السلام رطال الكلام بين عليه السلام بن أبي المنافق الخزرجي وعليه السلام بن رواحة الأوسي حتى استبا وتجالدا وجاء قوم كل واحد منهما من الأوس والخزرج وتجالدوا بالعصي أو بالنعال والأيدي أو بالسيف أيضاً فنزلت الآية فرجع إليهم رسول الله فقرأها عليهم وأصلح بينهم فإن قيل عبد الله بن أبي كان منافقاً والآية في طائفتين من المؤمنين قلنا إحدى الطائفتين هي عبد الله بن أبي وعشيرته ولم يكن كلهم منافقين فالآية تتناول المؤمنين منهم أو المراد بالمؤمنين من أظهر الإيمان سواء كان مؤمناً حقيقة أو ادعاء وقيل في سبب
74
(9/61)
النزول غير هذا ويحتمل أن تكون الروايات كلها صحيحة ويكون نزول الآية عقيب جميعها وقال ابن بحر : القتال لا يكون بالنعال والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان انتهى.
يقول الفقير : فسروا القتل بفعل يحصل به زهوق الروح كالضرب بآلة الحرب والمحدد ولو من خشب ونحو ذلك مما يفرق الا جزاء ولا شك أن السعف من قبل الخشب المحدد وأما النعال فإن بعضها يعمل عمل الخشب المحدد كما شاهدنا في نعال بعض الأعراب على أن التقال قد يستعمل مجازاً في المحاربة والمضاربة فقد وقع القتال مطلقاً في زمن النبي عليه السلام وأما حرف الشرط فإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين إلا فرضاً مع أن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم فالآية عامة في جميع المسلمين إلى يوم القيامة على تقدير القتال فاعرف {فَإِنا بَغَتْ} أي تعدت يقال بغى عليه بغياً علا وظلم وعدل عن الحق واستطال كما في القاموس وأصل البغي طلب ما ليس بمستحق فإن البغي الطلب {إِحْدَاـاهُمَا} وكانت مبطلة
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{عَلَى الاخْرَى} وكانت محقة ولم تتأثر أي الباغية بالنصيحة {فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى} أي قاتلوا الطائفة الباغية {حَتَّى تَفِىاءَ} أي ترجع فإن الفيء الرجوع إلى حالة محمودة {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي إلى حكمه الذي حكم به في كتابه العزيز وهو المصالحة ورفع العداوة أو إلى ما أمر به وهو الإطاعة المدلول عليها بقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا امر منكم فأمر الله على الأول واحد الأمور وعلى الثاني واحدا لأوامر وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس أي إزالتها إياه فإن الشمس كلما ازدادت ارتفاعاً ازداد الظل انتساخاً وزوالاً وذلك إلى أن توازي الشمس خط نصف النهار فإذا زالت عنه وأخذت في الانحطاط أخذ الظل في الرجوع والظهور فلما كان الزوال سبباً لرجوع ما اتسخ من الظل أضيف الظل إلى الزوال فقيل فيء الزوال وأطلق أيضاً على الغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين وتلك الأموال وإن لم تكن أولاً للمسلمين لكنها لما كانت حقهم ليتوسلوا بها إلى طاعته تعالى كانت كأنها لهم أولاً ثم رجعت.
ومر الأصمعي بحي من أحياء العرب فوجد صبياً يلعب مع الصبيان في الصحراء ويتكلم الفصاحة فقال الأصمعي : أين أباك يا صبي فنظر إليه الصبي ولم يجب ثم قال : أين أبيك فنظر إليه ولم يجب كالأول ثم قال أين أبوك فقال : فاء إلى الفيفاء لطلب الفيىء فإذا فاء الفيىء فاء أي رجع {فَإِن فَآءَتْ} إليه وأقلعت عن القتال حذاراً من قتالكم {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} والإنصاف بفصل ما بينهما على حكم الله ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر.
قال الحافظ :
جويبار ملك راآب سر شمشيرتست
خوش درخت عدل بنشان بيخ بدخواهان بكن
قال كيخسرو : أعظم الخطايا محاربة من يطلب الصلح وتقييد الإصلاح بالعدل ههنا دون الأول لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وهي تورث الأحن في الغالب وقد أكد ذلك حيث قيل : {وَأَقْسِطُوا} أي وأعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون من أقسط إذا أزال القسط بالفتح أي الجور يقال إذا جاء القسط بالكسر أي العدل زال القسط بالفتح أي الجور وقال بعضهم : الاقساط أن يعطي قسط غيره أي نصيبه وذلك إنصاف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
75
أي العادلين الذين يؤدون لكل ذي حق حقه فيجازيهم بأحسن الجزاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
قال الكاشفي :
عدل راشكر هست جان افزاى
عدل مشاطه ايست ملك اراى
عدل كن زانكه در ولايت دل
در يغمبرى زند عادل
وقال الحافظ :
شاه رابه بود از طاعت صد ساله وزهد
قدر يكساعته عمرى كه درو داد كند
قال بعض الكبار : كل من كان فيه صفة العدل فهو ملك وإن كان الحق ما ستخلفه بالخطاب الإلهي فإن من الخلفاء من أخذ المرتبة بنفسه من غير عهد إلهي إليه بها وقام بالعدل في الرعايا استناداً إلى الحق كما قال عليه السلام : ولدت في زمان الملك العادل يعني كسرى فسماه ملكاً ووصفه بالعدل ومعلوم أن كسرى في ذلك العدل على غير شرع منزل لكنه نائب للحق من وراء الحجاب وخرج بقولنا وقام بالعد في الرعايا من لم يقم بالعدل كفرعون وأمثاله من المنازعين لحدود الله والمغالبين لجنابه بمغالبة رسله فإن هؤلاء ليسوا بخلفاء الله تعالى كالرسل ولا نواباً له كالملوك العادلة للهم إخوان الشياطين قال بعضهم :
شه كرى از ظلم ازان ساده است
كه در عهد او مصطفى زاده است
(9/62)
أي كان عدله من انعكاس نور أنيته صلى الله عليه وسلّم فاعرف جداً وفي الآية دلالة على أن الباغي لا يخرج بالبغي عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين فاسقة لا محالة إذ اقتتلتا وقد سماهما مؤمنين وبه يظهر بطلان ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج من خروج مرتكب الكبيرة عن الإيمان ويدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي أعلمنا أهل الجمل وصفين أمشركون هم فقال لا من الشرك فروا فقيل أمنافقون هم فقال : لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل : فما حالهم قال إخواننا بغوا علينا وأيضاً فيها دلالة على أن الباغي إذا أمسك عن الحرب ترك لأنه فاء إلى أمر الله وأنه يجب معاونة من بغى عليهم بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة بدلالة قوله فأصلحوا بينهما فإن النصح والدعاء إلى حكم الله إذا وجب عند وجود البغي من الطائفتين فلأن يجب عند وجوده من إحداهما أولى لأن ظهور أثره فيها أرحى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
واعلم أن الباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العادل وبيانه في الفقه في باب البغاة قال سهل رحمه الله في هذه الآية : الطائفتان هما الروح والقلب والعقل والطبع والهوى والشهوة فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على العقل والقلب والروح فيقاتل العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ليكون الروح والعقل غالباً والهوى والشهوة مغلوباً وقال بعضهم : النفس إذا ظلمت على القلب باستيلاء شهواتها واستعلائها في فسادها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة فيعفى عنها لأنها هي المطية إلى باب الله ولا بد من العدل بين القلب والنفس لئلا يظلم القلب على النفس كما لا يظلم النفس على القلب لأن لنفسك عليك حقاً نسأل الله إصلاح البال واعتدال الحال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} جمع الآ(لأخ وأصله المشارك الآخر في الولادة من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع ويستعار في كل مشارك لغيره
76
في القبيلة أو في الدين أو في صنعة أو في معاملة أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات والفرق بين الخلة والأخوة أن الصداقة إذا قويت صارت إخوة فإن ازدادت صارت خلة كما في إحياء العلوم وسئل الجنيد قدس سره عن الأخ فقال : هو أنت في الحقيقة إلا أنه غيرك في الشخص قال بعض أهل اللغة : الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة ويقع أحدهما موقع الآخر وفي الحديث وكونوا عباد الله إخواناً والمعنى إنما المؤمنون منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية كما أن الأخوة من النسب منتسبون إلى أصل واحد هو الأب الموجب للحياة الفانية فالآية من قبيل التشبيه البليغ المبتني على تشبيه الإيمان بالأب في كونه سبب الحياة كالأب {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الفاء للإيذان بأن الأخوة الدينية موجبة للإصلاح ووضع المظهر مقام المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به منا لإصلاح وفي التأويلات النجمية واتقوا الله في إخوتكم في الدين بحفظ عهودهم ورعاية حقوقهم في المشهد والمغيب والحياة والممات {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجين أن ترحموا على تقواكم كما ترحمون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
واعلم أن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب بحيث لا تعتبر أخوة النسب إذا خلت عن أخوة الإسلام ألا ترى أنه إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين لا لأخيه الكافر وكذا إذا مات أخ الكافر وذلك لأن الجامع الفاسد لا يفيد الأخوة وأن المعتبر الأصلي الشرعي لا يرى أن ولدي الزنى من الرجل واحد لا يتوارثان وهذا المعنى يستفاد من الآية أيضاً لأن إنما للحصر فكأنه قيل : لا أخوة إلا بين المؤمنين فلا إخوة بين المؤمن والكافر وكسب المرتد حال إسلامه لوارثه المسلم لاستناده إلى ما قبل الردة فيكون توريث المسلم من المسلم وأما كسبه حال ردته فهو فيىء يوضع في بيت المال لأنه وجد بعد الردة فلا يتصور إسناده إلى ما قبلها وفي الحديث كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسيب.
مراد باين نسب دين وتقواست نه نسب آب وكل والا ابو لهب رادر ان نصيب بودى.
(9/63)
كما في كشف الأسرار قال بعض الكبار : القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ثلاثة أقسام لأنها إا قرابة في الصورة فقط أو في المعنى فقط أو في الصورة والمعنى فأما القرابة في الصورة فلا يخلو إا أن تكون بحسب طينته كالسادات الشرفاء أو بحسب دينه وعلمه كالعلماء والصالحين والعباد وسائر المؤمنين وكل منهما نسبة صورية وأما قرابته عليه السلام في المعنى فهم الأولياء لأن الولي هو ولده الروحي القائم بما تهيأ لقبوله من معناه ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم سلمان منا أهل البيت إشارة إلى القرابة المعنوية وأما القرابة في الصورة والمعنى معافهم الخلفاء والأئمة القائمون مقامه سواء كان قبله كأكابر الأنبياء الماضين أو بعده كالأولياء الكاملين وهذه أعلى مراتب القرابة وتليها القرابة الروحية ثم القرابة الصورية الدينية ثم قرابة الطينية فإن جمعت ما قبلها فهي الغاية وقال بعضهم إن الله خلق الأرواح من عالم الملكوت والأشباح من عالم الملك
77
ونفخ فيها تلك الأرواح وجعل بينها النفوس الأمارة التي ليست من قيل الأرواح ولا من قبيل الأشباح وجعلها مخالفة للأرواح ومساكنها أي الأشباح فأرسل عليها جند العقول ليدفع بها شرها وهي العقول المجردة والأخروية وإلا فالعلوق الغريزية والدينوية لا تقدر عن الدفع بل هي معينة للنفس فإذا امتحن الله عباده المؤمنين هيج نفوسهم الأمارة ليظهره حقائق درجاتهم من الإيمان والأخوة وأمرهم أن يعينوا العقل والروح والقلب على النفس حتى تنهزم لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً فهم كنفس واحدة لأن مصادرهم مصدر واحد وهو آدم عليه السلام ومصدر روح آدم نور الملكوت ومصدر جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال ولذلك يصعد الروح إلى الملكوت الجسم إلى الجنة ما قال عليه السلام : "كل شيء يرجع إلا أصله".
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وفي التأويلات النجمية : اعلم أن أخوة النسب إنما تثبت إذا كان منشأ النطف صلباً واحداً فكذلك أخوة الدين منشأ نطفها صلب النبوة وحقيقة نطفها نور الله فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب ليصيروا كنفس واحدة كما قال عليه السلام : "المؤمنون كنفس واحدة إن اشتكى عضو واحد تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر" :
بني آدم أعضاى يكديكرند
كه در آفرينش زيك جوهرند
و عضوى بدر دآورد روزكار
دكر عضوها رانماند قرار
ومن حق الأخوة في الدين أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ويسرك ما سره ويسوءك ما ساءه وأن لا تحوجه إلى الاستعانة بك وإن استعان تعنه وتنصره ظالماً أو مظلوماً فمنعك إياه عن الظلم فذلك نصرك ءياه وفي الحديث : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ومن حقه أن لا تقصر في تفقد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مسألتك وأن لا تلجئه إلى الاعتذار بل تبسط عذره فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره وتتوب عنه إذا أذنب وتعوده إذا مرض وإذا أشار إليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة كما قالوا :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهمو
لأية حرب أم باى مكان
والاستنجاد يارى خواستن.
قيل لفيلسوف : ما الصديق؟ فقال : اسم بلا مسمى وقال فضيل لسفيان : دلني على من أركن إليه فقال : ضالة لا توجد وقال أبو إسحاق الشيرازي :
سألت الناس عن خل وفي
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر
فإن الحر في الدنيا قليل
قيل : أبعد الناس سفراً من كان سفره في طلب أخ صالح قال أعرابي : اللهم احفظني من الصديق فقيل له في ذلك قال الحذر منه أكثر من الحذر من العدو قال علي رضي الله عنه : إخوان هذا الزمان
78
جواسيس العيوب وقد أحسن من قال : الأخ الصالح خير لك من نفسك لأن النفس أمارة بالسوء والأخ لا يأمرك إلا بخير وقيل : الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين وشبر بشبر يسع المتحابين كما قال الحكماء : ده درويش در كليمى بخسبند ودو ادشاه در اقليمي نكنجند.
(9/64)
واعلم أن المواخاة أمر مسنون من لدن النبي عليه السلام فإنه آخى بين المهاجرين والأنصار يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ} السخرية أن يحقر الإنسان أخاه ويستخفه ويسقطع عن درجته ويعده ممن لا يلتفت إليه أي لا يستهزىء {قَوْمٍ} أي منكم وهو اسم جمع لرجل {مِن قَوْمٍ} آخرين أيضاً منكم والتنكير إما للتعميم أو للتبعيض والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض لما أنها مما يجري بين بعض وبعض فإن قلت : المنهى عنه هو أن يسخر جماعة من جماعة فيلزم أن لا يحرم سخرية واحد من واحد قلت : اختيار الجمع ليس للاحتراز عن سخرية الواحد من الواحد بل هو لبيان الواقع لأن السخرية وإٌّ كانت بين اثنين إلا أن الغالب أن تقع بمحضر جماعة يرضون بها ويضحكون بسببها بدل ما وجب عليهم من النهي شركاء الساخر في تحمل الوزر ويكونون والإنكار ويكونون بمنزلة الساخرين حكماً فنهوا عن ذلك يعني أنه من نسبة فعل البعض إلى الجميع لرضاهم به في الأغلب أو لوجوده فيما بينهم والقوم مختص بالرجاء لأنهم قوامون على النساء ولهذا عبر عن الإناث بما هو مشتق من النسوة تفتح النون وهو ترك العمل ويؤيده قول زهير :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وما أدري ولست أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
{عَسَى} شايد {أَن يَكُونُوا} باشند {خَيْرًا مِّنْهُمْ} تعليل للنهي أي عسى أن يكون المسخور منهم خيراً عند الله من الساخرين ولا خبر لعسى لإغناء الاسم عنه {وَلا نِسَآءٌ} أي ولا تسخر نساء من المؤمنات وهو اسم جمع لامرأة {مِّن نِّسَآءٍ} منهن وإنما لم يقل امرأة من رجل ولا بالعكس للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة مستقبح شرعاً حتى منعوها عن حضور الجماعة ومجلس الذكر لأن الإنسان إنما يسخر ممن يلابسه غالباً {عَسَى أَن يَكُنَّ} أي المسخور منهن {خَيْرًا مِّنْهُنَّ} أي من الساخرات فإن مناط الخميرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب فلا يجترىء أحد على استحقار أحد فعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله واستهانة من عظمه الله.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أنه لا عبرة بظاهر الخلق فلا تنظر إلى أحد بنظر الازراء والاستهانة والاستخفاف والاستحقار لأن في استحقار أخيك عجب نفسك مودع كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام فأعجبه نفسه فقال : أناخ ير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فلعن إلى الأبد لهذا المعنى فمن حقر أخاه المسلم وظن أنه خير منه يكون إبليس وقته وأخوه آدم وقته ولهذا قال تعالى : عسرى أن يكونوا خيراً منهم فبالقوم يشير إلى أهل المحبة وأرباب السلوك فإنهم مخصوصون بهذا الاسم كما قال تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يعني لا ينظر المنتهى من أرباب الطلب بنظر الحقارة إلى المبتدىء والمتوسط عسى
79
أن يكونوا خيراً منهم فإن الأمور بخواتيمها ولهذا قال أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري وقال عليه السلام : رب أشعت أغبر ذي طمرين لا يوبه به لو أقسم على الله لا يره قال معروف الكرخي يوماً لتلميذه السري السقطي قدس الله سرهما : إذا كانت لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي ومن هنا أخذوا قولهم على ظهر المكاتيب بحرمة معروفالكرهي والله أعلم.
يقول البغداديون : قبر معروف ترياق مجرب وبالنساء يشير إلى عوام المسلمين لأنه تعالى عبر عن الخواص بالرجال في قوله : رجال لا تلهيهم تجارة وقوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه يعني لا ينبغي لمسلم ما أن ينظر إلى مسلم ما بنظر الحقارة عسى أن يكن خيراً منهن إلى هذا المعنى يشير.
ثم نقول إن للملائكة شركة مع إبليس في قولهم لآدم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك كان في نظرهم إليه بالحقارة إعجاب أنفسهم مودعاً ولكن الملائكة لم يصروا على ذلك الأعجاب وتابوا إلى الله ورجعوا مما قالوا فعالجهم الله تعالى بإسجادهم لآدم لأن في السجود غاية الهوان والذلة للساجد وغاية العظمة والعزة للمسجود فلما كان في تحقير آدم هو أنه وذلته وعزة الملائكة وعظمتهم أمرهم بالسجود لأن علاج العلل بأضدادها فزال عنهم علة العجب وقد أصر إبليس على قوله وفعله ولم يتب فأهلكه الله بالطرد واللعن فكذلك حال من ينظر إلى أخيه المسلم بنظر الحقارة.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
من بشم حقارت نكاه بر من مست
كه نيست معصيت وزهدبى مشيت او
(9/65)
قال ابن عباس رضي الله عنه : نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه : كان في إذنه وقر فكان إذا أتى مجلس رسول الله عليه السلام وقد سبقوه بالمجلس وسعوا له حتى يجلس إلى جنبه عليه السلام يسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي عليه السلام من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء لا يجد مجلساً فيقوم على رجليه فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله يتخطى رقاب الناس وهو يقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى إلى رسول الله بينه وبينه رجل فقال له : تفسخ فلم يفعل فقال : من هذا؟ فقال له الرجل : أنا فلان فقال : بل أنت ابن فلانة يريد اماله كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل ونكس رأسه فأنزل الله هذه الآية.
ـ وروي ـ أن قوله تعالى ولا نساء من نساء نزل في نساء النبي عليه السلام عيرن أم سلمة بالقصر أو أن عائشة رضي الله عنها قالت : إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة وقيل : إن الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلماً بعد فتح مكة فكان المسلمون إذا رأوه قالوا : هذا ابن فرعون هذه الأمة فشكا ذلك للنبي عليه السلام فقال عليه السلام : لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات ونزلت الآية :
هميشه در صدد عيب جويى خويشم
نبوده ايم ى عيب ديكران هركز
قال أبو الليث ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء فلا يجوز لأحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق الله وعن ابن مسعود البلاء موكل بالقول وإني لأخشى لو سخرت
80
من كلب أن أْول كلباً وذلك لأن المؤمن ينبغي أن ينظر إلى الخالق فإنه صنع لا إلى المخلوق فإنه ليس بيده شيء في الحسن والقبح ونحوهما قيل للقمان : ما أقبح وجهك فقال : تعيب بهذا على النقش أو على النقاش نسأل الله الوقوف عند أمره ونعوذ به من قهره.
قال الحافظ :
نظر كردن بدرويشان منافى بزركى نيست
سليمان بانان حشمت نظرها كرد بامورش
يشير إلى التواضع والنظر إلى الأدانى بنظر الحكمة {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} اللمز الطعن باللسان وفي تاج المصادر عيب كردن.
والإشارة بالعين ونحوه والغابر يفعل ويفعل ولم يخص السخرية بما يكون باللسان فالنهي الثاني من عطف الخاص على العام بجعل الخاص كأنه جنس آخر للمبالغة ولهذا قيل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
والمعنى أولا يعب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة والأفراد المنتشرة بمنزلة أعضاء تلك النفس فيكون ما يصيب واحداً منهم كأنه يصيب الجميع إذا اشتكى عضو واحد من شخص تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر فمتى عاد مؤمناً فكأنما عاب نفسه كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم (ع) عيب هركس كه كنى هم بتومى كردد باز.
وفي التأويلات النجمية إنما قال أنفسكم لأن المؤمنين كنفس واحدة إن عملوا شراً إلى أحد فقد عملوا إلى أنفسهم وإن عملوا خيراً إلى أحد فقد عملوا إلى أنفسهم كما قال تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.
قال الحافظ :
عيب رندان مكن اى زاهد اكيزه سرشت
كه كناه دكران برتو نخوا هند توشت
ويجوز أن يكون معنى الآية ولا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه أي تسبب للمز نفسه وإلا فلا طعن باللسان لنفسه منه فهو من إطلاق المسبب وإرادة السبب وقال سعدي المفتي : ولا يبعد أن يكون المعنى لا تلمزوا غيركم فإن ذلك يكون سبباً لأن يبحث الملموز عن عيوبكم فيلمزكم فتكونوا لامزين أنفسكم فالنظم حينئذ نظير ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه السلام : "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال : "نعم يسب ابا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" انتهى.
يقول الفقير : هو مسبوق في هذا المعنى فإن الإمام الراغب قال في المفردات : اللمز الاغتياب وتتبع المعايب أي لا تلزموا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه انتهى ولا يدخل في الآية ذكر الفاسق لقوله عليه السلام : اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس.
يقول الفقير : إشارة التعليل في الحديث إلى أن ذكر الفاجر بما فيه من العيوب إنما يصح بهذا الغرض الصحيح وهو أن يحذر الناس منه ومن عمله وإلا فالإمساك مع أن في ذكره تلويث اللسان الطاهر ولذا نقل عن بعض المشايخ أنه لم يلعن الشيطان إذ ليس فيه فائدة سوء اشتغال اللسان بما لا ينبغي فإن العداوة له إنما هي بمخالفته لا بلعنته فقط وفي الحديث طوبى لمن يشغله عيبه عن عيوب الناس وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لا يخلو عن العيب قيل لسقراط : هل من ءنسان لا عيب فيه قال : لو كان إنسان لا عيب فيه لكان لا يموت ولذا قال الشاعر :
81
ولست بمستبق أخاً لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/66)
أي لا مهذب في الرجال يخلو من التفرق والعيوب فمن أراد أخاً مهذباً وطلت صديقاً منقحاً لا يجده فلا بد من الستر.
قال الصائب :
زديدن كرده ام معزول شم عيب بينى را
اكر برخارمى يم كل بيخارمى بينم
وقال :
بعيب خويش اكراره بردمى صائب
بعيب جويى مردم ه كارداشتمى
{وَلا تَنَابَزُوا بِالالْقَـابِ} النبز بسكون الباء مصدر نبزه بمعنى لقبه وبالفارسية لقب نهادن.
وتنابزوا بالألقاب لقب بعضهم بعضاً فإن التنابز بالفارسي يكد يكررا بقلب خواندن.
وبفتحها اللقب مطلقاً أي حسناً كان أو قبيحاً ومنه قيل في الحديث قوم نبزهم الرافضة أي لقبهم ثم خص في العرف باللقب القبيح وهو ما يكره المدعو أن يدعى به وللقب ما سمي به الإنسان بعد اسمه العلم من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه والمعنى ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء قالوا : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى وفيه ءشارة إلى أن اللقب الحسن لا ينهى عنه مثل محيى الدين وشمس الدين وبهاء الدين وفي الحديث من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه {بِئْسَ اسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ} الاسم هنا ليس ما يقابل اللقب والكنية ولا يقابل الفعل والحرف بل بمعنى الذكر المرتفع لأنه من السمو يقال : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم أي ذكره والفسوق هو المخصوص بالذم وفي الكلام مضاف مقدر وهو اسم الفسوق أي ذكره والمعنى بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به.
وفي التأويلات النجمية بئس الاسم اسم يخرجهم من الإيمان والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسوق إلى المؤمنين خصوصاً إذ روى أن الآية نزلت في صفية بنت حيى رضي الله عنها أتت رسول الله باكية فقالت : إن النساء يقلن لي وفي عين المعاني قالت لي عائشة رضي الله عنها : يا يهودية بنت يهوديين فقال عليه السلام : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليه السلامم السلام أو الدلالة على أن التنابز مطلقاً لا بالكفر والفسوق خصوصاً وخالد الفاسق ونحو ذلك والعجب من العرب يقولون للمؤمنين من أهل الروم نصارى فهم داخلون في الذم ولا ينفعهم الافتخار بالأنساب فإن التفاضل بالتقوى كما سيجيء ونعم ما قيل :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وما قيل :
ه غم زمنقصت صورت اهل معنى را
و جان زروم بود كوتن ازحبش مى باش
وفي الحديث من عير مؤناً بذنب تاب منه كان حقاً على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة وفي الفقه لو قال رجل لصالح : يا فاسق ويا ابن الفاسق ويا فاجر ويا خبيث ويا مخنث ويا مجرم ويا مباحى ويا جيفة ويا بليد ويا ابن الخبيثة ويا ابن الفاجرة ويا سارق ويا لص ويا
82
كافر ويا زنديق ويا ابن القحبة ويا ابن قرطبان ويا لوطى ويا ملاعب الصبيان ويا آكل الربا ويا شارب الخمر وهو بريء منه ويا ديوث ويأبي نماز ويا منافق ويا خائن ويا مأوى الزواني ويا مأوى اللصوص ويا حرام زاده يعزر في هذا كله في الفتاوي الزيني سئل عن رجل قال لآخر يا فاسق وأراد أن يثبت فسقه بالبينة ليدفع التعزير عن نفسه هل تسمع بينته بذلك انتهى وهو ينافي ظاهر ما قالوا من أن المقول له لو لم يكن رجلاً صالحاً وكان فيه ما قيل فيه من الأوصاف لا يلزم التعزير {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى عنه {فَأُوالَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب والظالم أعم من الفاسق والفاسق أعم من الكافر.
وفي التأويلات النجمية ومن لم يتب يعني من مقالة إبليس وفعاله بأن ينظر إلى نفسه بالعجب وإلى غيره بالحقارة فأولئك هم الظالمون فيكونون منخرطين في سلك اللعنة والطرد مع إبليس ما قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين انتهى وفيه دلالة بينة على أن الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمخة فلا بدمن توبة نصوح من جميع القبائح والمعاصي لا سيما ما ذكر في هذا المقام.
قال الصائب :
سرماية نجات بودتوبه درست
باكشتى شكسته بدرياه ميروى
ومن أصر أخذ سريعاً لأن أقرب الأشياء صرعة الظلوم وأنفذ السهام دعوة المظلوم وتختلف التوبة على حسب اختلاف الذنب فبعض الذنوب يحتاج إلى الاستغفار وهو ما دون الكفر وبعضها يحتاج معه إلى تجديد الإسلام والنكاح إن كانت له امرأة وكان بعض الزهاد يجدد عند كل ذنب إيماناً بالله وتبرئاً من الكفر احتياطاً كما في زهرة الرياض.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/67)
يقول الفقير يشير إليه القول المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ولا شك أن الأنبياء معصومون من الكفر قبل الوحي وبعده بإجماع العلماء ومن سائر الكبائر عمداً بعد الوحي فاستغفارهم لا يكون إلا عما لا يليق بشأنهم من ترك الأولى ونحوه على ما فصل في أول سورة الفتح فدل قوله واستغفرك لما لا أعلم على أنه قد يصدر من الإنسان الذنب وهو لا يشعر وذلك بالنسبة إلى الأمة قد يكون كفراً وقد يكون غيره فكما لا بد من الاستغفار بالنسبة إلى عامة الذنوب فكذا لا بد من تجديد الإسلام بالنسبة إلى الكفر وإن كان ذلك احتياطاً إذ باب الاحتياط مفتوح في كل شأن إلا نادراً وقد صح أن إتيان كلمة الشهادة على وجه العادة لا يرفع الكفر فلا بد من الرجوع قصداً عن قول وفعل ليس فيهما رضى الله وهو باستحضار الذنب إن علم صدوره منه أو بالاستغفار مطلقاً إن صدر عنه ولو كان ذلك كفراً على أنا نقول إن إمكان صدور الكفر عام للعوام والخواص ما داموا لم يصلوا إلى غاية العايات وهي مرتبة الذات الأحدية وإليه يشير قول سهل التستري قدس سره ولوصلوا ما رجعوا ألا ترى أن إبليس كفر بالله مع تمكن يده في الطاعات خصوصاً في العرفان فإنه أفحم كثيراً من أهل المعرفة لكنه كان من شأنه الكفر والرجوع إلى المعصية لأنه لم يدخل عالم الذات ولو دخل لم يتصور ذلك منه إذ لا كفر بعد الإيمان العياني ولهذا قال عليه السلام : "اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً ليس بعده كفر" فاعرف يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}
83
أي كونوا على جانب منه وأبعدوا عنه فإن الاجتناب بالفارسية بايك سوشدن.
والظن اسم لما يحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جداً لم تتجاوز حد التوهم وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتأمل في كل ظن ظن حتى يعلم أنه من أي قبيل وتوضيح المقام أن كثيراً لما بين بقوله من الظن كان عبارة عن الظن فكان المأمور باجتنابه بعض الظن إلا أنه علق الاجتناب بقوله كثيراً لبيان أنه كثير في نفسه ولا بد لنا من الفرق بين تعريف الظن الكثير وتنكيره فلو عرف وقيل اجتنبوا الظن الكثير يكون التعريف للإشارة إلى ما يعرفه المخاطب بأنه ظن كثير غير قليل ولو نكر يكون تنكيره للأفراد والبعضية ويكون المأمور باجتنابه بعض أفراد الظن الموصوف بالكثرة من غير تعيينه أي بعض هو وفي التكليف على هذا الوجه فائدة جليلة وهي أن يحتاط المكلف ولا يجترىء على ظن ما حتى يتبين عنده أنه مما يصح اتباعه ولا يجب الاجتناب عنه ولو عرف لكان المعنى اجتنبوا حقيقة الظن الموصوف بالكثرة أو جميع أفراده لا ما قل منه وتحريم الظن المعرف تعريف الجنس والاستغراق لا يؤدي إلى احتياط المكلف لكون المحرم معيناً فيجتنب عنه ولا يجتنب عن غيره وهو الظن القليل سواء كان ظن سوء وظن صدق ومن المعلوم أن هذا المعنى غير مراد بخلاف ما لو نكر الظن الموصوف بالكثرة فإن المحرم حينئذ اتباع الفرد المبهم من أفراد تلك الحقيقة وتحريمه يؤدي إلى احتياط المكلف إلى ين يتبين عنده أن ما يخطر بباله من الظن من أي نوع من أنواع الظن فإن من الظن ما يجب اتباعه كحسن الظن بالله تعالى وفي الحديث أن حسن الظن من الإيمان والظن فيما لا قاطع فيه من العمليات كالوتر فإنه لما ثبت بخبر الواحد لم يكن مقطوعاً به فقلنا بالوجوب فلا يكفر جاحده بل يكون ضالاً وبمتدعاً لرده خبر الواحد ويقتص لكونه فرضاً عملياً وفي الأشباه ويكفر بإنكار أصل الوتر والأضحية انتهى ومن الظن ما يحرم كالظن في الإلهيات أي بوجود الإله وذاته وصفاته وما يليق به من الكمال وفي النبوات فمن قال آمنت بجميع الأنبياء ولا أعلم آدم نبي أم لا يكفر وكذا من آمن بأن نبينا عليه السلام رسول ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً وكالظن حيث يخالفه قاطع مثل الظن بنبوة الحسنين أو غيرهما من خلفاء هذه الأمة وأوليائها مع وجود قوله تعالى وخاتم النبيين وقوله عليه السلام : "لا نبي بعدي" أي لا مشرعاً ولا متابعاً فإن مثل هذا الظن حرام ولو قطع كان كفراً وكظن السوء بالمؤمنين خصوصاً بالرسول عليه السلام وبورثته الكمل وهم العلماء بالله تعالى قال تعالى : وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً وقال عليه السلام : "إن الله حرم من المسلم عرضه ودمه وأن يظن به ظن السوء" والمراد بعضه جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويتحامى أن ينتقص.
قال الصائب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
بدكمانى لازم بد باطنان افتاده است
كوشه از خلق جا كردم كمين ند اشتند
ومن الظن ما يباح كالظن في الأمور المعاشية يعني ظن درامور دنيا ومهمات معاش ودرين صورت بدكمانى موجب سلامت وانتظام مهام است واز قبيل حزم شمرده اند كما قيل :
بدنفس مباش وبد كمان باش
وزفتنه ومكردر امان باش
84
(9/68)
وفي كشف الأسرار المباح كالظن في الصلاة والصوم والقبلة أمر صاحبه بالتحري فيها والبناء على غلبة الظن وفي تفسير الكاشفي تحردرى أمر قبله وبنا نهادن بر غلبه ظن در امور اجتهاديه مندوبست.
ومعنى التحري لغة الطلب وشرعا طلب شيء من العبادات بغالب الرأي عند تعذر الوقول على حقيقته {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يستحق العقاب عليه وذلك البعض كثير وهو تعليل للأمر بالاجتناب بطريق الستئناف التحقيقي والاثم الذنب يستحق العقوبة عليه وهمزته منلقلبة من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكثرها فإن قلت أليس هذا ميلاً إلى مذهب الاعتزال؟ قلت : بلى لولا التشبيه أي في كأنه قاله سعدي المفتي وقال أيضاً تبع المصنف في ذلك الزمخشري واعترض عليه بأن تصريف هذه الكلمة لا تنفك عنه الهمزة بخلاف الواوي وأنها من باب علم والواوي من باب ضرب قلت والزمخشري نفسه ذكرها في الأساس في باب الهمزة انتهى ودلت الآية على أن أكثر الظنون من قبيل الإثم لأن الشيطان يلقى الظنون في النفس فتظن النفس الظن الفاسد وعلى أن بعض الظن ليس باثم بل هو حقيقته وهو ما لم يكن من قبيل النفس بل كان باللراسة الصحيحة بأن يرى القلب بنور اليقين ما جرى في الغيب وفي الحديث أن في كل أمة محدثين أو مروعين على الشك من الراوي فإن يكن في هذها لأمة فإن عمر منهم والمحدث المصيب في رأيه كأنما حدث بالأمر المروع الذي يلقى الأمر في روعه أي قلبه وفي فتح الرحمن ولا يقدم على الظن إلا بعد النظر في حال الشخص فإن كان موسوماً بالصلاح فلا يظن به السوء بأدنى توهم بل يحتاط في ذلك ولا تظنن السوء إلا بعد أن لا تجد إلى الخير سبيلاً.
قال الصائب :
سيلاب صاف شدزهم آغوشيء محيط
باسينه كشاده كدورت ه ميكند
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وأما الفساق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم وفي منهاج العابدين للإمام الغزالي قدس سره إذا كان ظاهر الإنسان الصلاح والستر فلا حرج عليك في قبول صلاته وصدقته ولا يلزمك البحث بأن تقول قد فسد الزمان فإن هذا سوء ظن بذلك الرجل المسلم بل حسن الظن بالمؤمنين مأمور به انتهى وفي الحديي من أتاه رزق من غير مسألة فرده فإنما يرده على الله قال الحسن : لا يرد جو آئز الأمراء الأمرائى أو أحمق وكان بعض السلف يستقرض لجميع حوائجه ويأخذ الجوائز ويقضي بها دينه والحيلة فيه أن يشتري بمال مطلق ثم ينقد ثمنه من أي مال شاء وعن الإمام الأعظم أن المبتلي بطعام السلطان والظلمة يتحرى إن وقع في قلبه حله قبل وأكل وإلا لا لقوله عليه السلام استفت قلبك قال الشيخ أبو العباس قدس سره : من كان من فقراء هذا الزمان أكالاً لأموال الظلمة مؤثراً للسماع ففيه نزغة يهودية قال تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت قال سفيان الثوري رضي الله عنه : الظن ظنان أحدهما إثم وهو أن تظن وتتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم به والمراد بأن بعض الظن إثم ما أعلنته وتكلمت به من الظن وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام فيه وأنت اليوم في زمان أعمل وأسكت وظن بالناس ما شئت أي لأنهم أهل لذلك والمظنون موجود فيهم وعنه أيضاً أن صحبة الأشرار تورث حسن الظن بالأخيار وطلب المتوكل اجارية
85
الدقاق بالمدينة وكان من أقران الجنيد ومن أكابر مصر فكاد يزول عقله لفرط حبها فقالت لمولاها : أحسن الظن بالله وبي فإني كفيلة لك بما تحب فحملت إليه فقال لها المتوكل : اقرئي فقرأت أن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ففهم المتوكل ما أرادت فردها.
(9/69)
ـ وروي ـ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلم إحدى نسائه فمر به رجل دعاه رسول الله فقال : يا فلان هذه زوجتي صفية وكانت قد زارته في العشر الأول من رمضان فقال : يا رسول الله إن كنت أظن بغيرك فإني لم أكن أظن بك فقال عليه السلام : "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم" كما في الاحياء وفيه إشارة إلى الحذر من مواضع التهم صاينة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم من الغيبة وإلى الاتقاء عن تزكية النفس فإن النفس والشيطان لهما شأن عجيب في باب المكر والإغواء وإلقاء الفتنة والفساد نسأل الله المنان أن يجعلنا في أمان {وَلا تَجَسَّسُوا} أصله لا تتجسسوا حذف منه إحدى التاءين أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين وعيوبهم تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب فإن جس الخبر طلبه والتفحص عنه فإذا نقل إلى باب التفعل يحدث معنى التكلف منضماً إلى ما فيه من معنى الطلب يقال جسست الأخبار أي تفحصت عنها وإذا قيل تجسستها يراد معنى التكليف كالتلمس فإنه تفعل من اللمس وهو المس باليد لتعرف حال الشيء فإذا قيل تلمس يحدث معنى التكلف والطلب مرة بعد أخرى وقد جاء بمعنى الطلب في قوله وأنا لمسنا السماء وقرىء بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولتقاربهما بثال للمشاعر الحواس بالحاء والجيم وفي المفردات أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والسقم ومن لفظ الجس اشتق الجاسوس وهو أخص من الحس لأنه تعرف ما يدرك الحس والجس تعرف حال ما من ذلك وفي الإحياء التجسس بالجيم في تطلع الأخبار وبالحاء المهملة في المراقبة بالعين وفي إنسان العيون التحسس للإخبار بالحاء المهملة أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه وبالجيم أن يفحص عنها بغيره وجاء تحسسوا ولا تجسسوا انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وفي تاج المصادر التجسس والتحسس خبر جستن.
وفي القاموس : الجس تفحص الأخبار كالتجسس ومنه الجاسوس والجسيس لصاحب سر الشر ولا تجسسوا أي خذوا ما ظاهر ودعوا ما ستر الله تعالى أو لا تبحصوا عن بواطن الأمور أو لا تبحثوا عن العورات والحاسوس الجاسوس أو هو في الخير وبالجيم في الشر انتهى وفي الحديث لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته.
قال الصائب :
خيانتهاى نهان ميكشد آخر برسوايى
كه دزد خانكى راشحنه در يازار ميكيرد
وعن جبرائيل قال يا محمد لو كانت عبادتنا على وجه الأرض لعلمنا ثلاث خصال : سقي الماء للمسلمين وإعانة أصحاب العيال وستر الذنوب على المسلمين وعن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود رضي الله عنه : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط يعني ه ميكويى در حق او.
تقطر لحيته خمراً فقال ابن مسعود رضي الله عنه : أنا قد نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيء نأخذه به وفي الحديث اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا والعورات بالتسكين جمع عورة
86
وهي عورة الإنسان وما يستحي منه من العثرات والعيوب وفي الحديث اللهم لا تؤمنا مكرك ولا تنسنا ذكرك ولا تهتك عنا سترك ولا تجعلنا من الغافلين وعنه عليه السلام من قال عند منامه هذا الدعاء بعث الله إليه ملكاً في أحب الساعات إليه فيوقظه كما في المقاصد الحسنة قال في نصاب الاحتساب ويجوز للمحتسب أن يتفحص عن أحوال السوقية من غير أن يخبره أحد بخيانتهم فإن قيل ينبغي أن لا يجوز لأنه تجسس منهي فنقول التجسس طلب الخير للشر والأذى وطلب الخبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس كذلك فلا يدخل تحت النهي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/70)
يقول الفقير وهو مخالف لما سبق عن ابن مسعود رضي الله عنه فإن قلت ذلك لكونه غير آمر ومأمور قلت : دل قوله تأخذوه به على ولايته من أي وجه كان إذ لا يأخذه إلا الوالي أو وكيله ويجوز أن يقال : لو طلب ابن مسعود خبر الوليد لنفسه للنهي عن المنكر لكان له وجه فلما جاء خبره في صورة السعاية والهتك أعرض عنه أو رأى الستر في حق الوليد أولى فلم يستمع إلى القائل وكان عمر رضي الله عنه يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح من خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فجاء به إلى الباب فنظر وقال له : كيف ترى أن نعمل فقال : أرى والله أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه لأنا تجسسنا واطلعنا على عورة قوم ستروا دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله فقال : ما أراك إلا قد صدقت فانصرفا فالمحتسب لا يتجسس ولا يتسور ولا يدخل بيتاً بلا إذن فإن قيل ذكر في باب من يظهر البدع في البيوت أنه يجوز للمحتسب الخول بلا إذن فنقول ذلك فيما ظهر وأما إذا خفي فلا يدخل فإن ما ستره الله لا بد وأن يستره العبد هذا في عيوب الغير وأما عيوب النفس فالفحص عنها لازم للإصلاح والتزكي وقد عدوا انكشاف عيوب النفس أولى من الكرامات وخوارق العادات فإنه ما دام لم تحصل التزكي للنفس لا تفيد الكرامة شيئاً بل ربما يوقعها في الكبر والعجب والتطاول فنعوذ بالله تعالى من شرورها وفجورها وغرورها {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} الاغتياب غيبت كردن والغيبة بالكسر اسم من الاغتياب وفتح الغين غلط إذ هو بفتحها مصدر بمعنى الغيبوبة والمعنى ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته وخلفه وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها فقال : أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته أي قلت عليه ما لم يفعله والحاصل أن الغيبة والاغتياب هو أن يتكلم إنسان خلف إنسان مستور بما فيه من عيب أي بكلام صادق من غير ضرورة قوية إلى ذكره ولو سمعه لغمه وإن كان ذلك الكلام كذباً يسما بهتاناً وهو الذي يتر الديار بلاقع أي خرابا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} انتصاب ميتاً عتلى الحالية من اللحم واللحم المنفصل عن الحي يوصف بأنه ميت لقوله عليه السلام ما أبين من حي فهو ميت وقيل من الأخ على مذهب من يجوز الحال من المضاف إليه مطلقاً وشدده نافع أي قرأ ميتاً بالتشديد والكلام تمثيل وتصوير لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعاً وعقلاً وشرعاً يعني شبه الاغتياب من حيث اشتماله على تناول عرض المغتاب بأكل لحم
87
الإنسان ميتاً تشبيهاً تمثيلياً وعبر بالهيئة المشبه بها عن الهيئة المشبهة ولا شك أن الهيئة المشبه بها أفحش جنس التناول وأقبحه فيكون التمثيل المذكور تصويراً للاغتياب بأقبح الصور وذلك أن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه كما يتألم جسمه من قطع لحمه بل عرضه أشرف من لحمه ودمه فإذا لم يحسن للعاقل أكل لحوم الناس لم يحسن له قرض عرضهم بالطريق الأولى خصوصاً أن أكل الميتة المتاهى في كراهة النفوس ونفور الطباع ففيه إشارة إلى أن الغيبة عظيمة عند الله وفي قوله ميتاً إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلمه فكيف يحرم فدفعه بأن أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلمه ومع هذا هو فيي غاية القبح لكونه بمراحل عن رعاية حق الأخوة كذا في حواشي ابن الشيخ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
يقول الفقير : أن يقال أن الاغتياب وإن لم يكن مؤلماً للمغتاب من حيث عدم اطلاعه عليه لكنه في حكم الإيلام إذ لو سمعه لغمه على أنا نقول أن الميت متألم وإن لم يكن فيه روح كما أن السن وهو الضرس متألم إذا كان وجعاً وإن لم يكن فيه حياة فاعرف {فَكَرِهْتُمُوهُ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل كأنه قيل وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه فأضمر كلمة قد لتصحيح دخول الفاء في الجزاء فالمقصود من تحقيق استكراههم وتقذرهم من المشبه به الترغيب والحث على استكراه ما شبه به وهو الغيبة كأنه قيل إذا تحققت كراهتكم له فليتحقق عندكم كراهة نظيره الذي هو الاغتياب {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما صدر عنكم من قبل وهو عطف عتلى ما تقدم من الأوامر والنواهي {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة حيث يجعل التائب كمن لم يذنب ولا يخص ذلك بتائب دون تائب بل يعم الجميع وإن كثرت ذنوبهم فصيغة المبالغة باعتبار المتعلقات.
(9/71)
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيىء لهما طعامهما وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيىء لهما شيئاً فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً فقال : لا غلبتني عيناي قالا له : انطلق إلى رسول الله فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله وسأله طعاماً فقال عليه السلام : انطلق إلى أسامة بن زيي وقل له إن كان عنده فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله على رحله وطعامه فأتاه فقال : ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة شيء ولكن بخل به فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عنهم شيئاً فلما رجع قالوا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها وسميحة كجهينة بالحاء المهملة بئر بالمدينة غزيرة الماء على ما في القاموس ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله من الطعام فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما والعرب تسمي الأسود أخرض والأخضر أسود وخضرة اللحم من قبيل الأول كأنه عليه السلام أراد باللحم لحم الميت وقد اسود بطول المكث تصوير الاغتياب بهما بأقبح الصور ويحتمل أنه عليه السلام أراد بالخضرة النضارة أي نضارة اللحم أو نضارة تناوله وفي الحديث الدنيا حلوة
88
خضرة نضرة أي غضة طرية ناعمة قالا : والله يا رسول ما تناولنا يومنا هذا لحماً قال عليه السلام ظللتما تأكلان لحم أسامة وسلمان أي أنكما قد اغتبتماهما فأنزل الله الآية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
آنكس كه لواء غيبت افراخته است
از كوشت مردكان غدا ساخته است
وانكس كه بعيب خلق رداخته است
زانكست كه عيب خويش نشتاخته است
وفي الحديث الغيبة أشد من الزنى قالوا : وكيف؟ قال : إن الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه ما فيي كشف الأسرار وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيبة أدام كلاب الناس وكان أبو الطيب الطاهري يهجو بني سامان فقال له نضر بن أحمد : إلى متى تأكل خبزك بلحوم الناس فخجل ولم يعد.
قال الصائب :
كسى كه اك نسازد دهن زغيبت خلق
همان كليتد در دوزخست مسواكش
قال الشيخ سعدي في كتاب الكلستان : ياد دارم كه در عهد طفوليت متعب بودم وشب خيز ومولع زهد ويرهيز تاشبي درخدمت در نشسته بودم وهمه شب ديده بهم نبسته ومصحف عزيز دركنار كرفته وطائفة كردما خفته در را كفتم كه ازاينان يكى سر برنمى آردكه دو ركعت نماز بكزارد ودر خواب غفلت نان رفته اندكه كويى نخفته اند بلكه مره كفت اى جان درا كر تونيز بحفتى به كه دروستين خلق افتى :
اكر شم دلت را بركشايى
نه بينى هي كس عاجز تراز خويش
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل فقال : هم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" وفي الحديث خمس يفطرون الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة رواه أنس وأول من اغتاب إبليس اغتاب آدم وكان ابن سيرين رحمه الله قد جعل على نفسه إذا اغتاب أن يتصدق بنار ومما يجب التنبيه له أن مستمع الغيبة كقائلها فوجب على من سمعها أن يردها كيف وقد قال النبي عليه السلام : "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" وقال عليه السلام : "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" وعن ميمون أنه أتى بجية زنجي في النوم فقيل له : كل منها فقال : لم قيل : لأنك اغتبت عب فلان فقال : ما قلت فيه شيئاً قيل : لكنك استمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً أن يغتاب عنده أحداً وعن بعض المتكلمين ذكره بما يستخف به إنما يكون غيبة إذا قصد الأضرار والشماتة به أما إذا ذكره تأسفاً لا يكون غيبة وقال بعضهم : رجل ذكر مساويء أخيه المسلم على وجه الاهتمام ومثله في الواقعات وعلل بأنه إنما يكون غيبة أن لو أراد به السب والنقص قال السمرقندي في تفسيره قلت : فيما قالوه خطر عظيم لأنه مظنة أن يجر إلى ما هو محض غيبة فلا يؤمن فتركها رأساً أقرب إلى التقوى وأحوط انتهى.
وفي هدية المهديين رجل لو اغتاب فريقاً لا يأثم حتى يغتاب قوماً معروين ورجل يصلي ويؤذي الناس بالي أو اللسان لا غيبة له إن ذكر بما فيه وإن أعلم به السلطان حتى يزجره لا يأثم انتهى وفي
89
المقاصد الحسنة ثلاثة ليست لهم غيبة الإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته انتهى وعن الحسن لا حرمة لفاجر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/72)
ـ وروي ـ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واذكر الفاجر بما فيه ليحذره الناس كما في الكواشي وإذا جاز نقص عرض الفاسق بغيبته فأولى أن يجوز نقص عرض الكافر كما في شرح المشارق لابن الملك وسلك بعضهم طريق الاحتياط فطرح عن لسانه ذكر الخلق بالمساوي مطلقاً كما حكي أنه قيل لابن سيرين : مالك لا تقول في الحجاج شيئاً فقال : أقول فيه حتى ينجيه الله بتوحيده ويعذبني باغتيابه ومن هنا أمسك بعضهم عن لعن يزيد وكان فضيل يقول : ما لعنت إبليس قط أي وإن كان ملعوناً في نفس الأمر كما نطق به القرآن فكيف يلعن من اشتبه حاله وحال خاتمته وعاقبته يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أي من آدم وحواء عليهما السلام أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في الانتساب إلى ذكر وأنثى أياً كانا فلا وجه للتفاخر بالنسب :
الناس من جهة التمثال اكفاه
ابو همو آدم والام حواء
فان يكن لهمو من أصلهم نسب
يفاخرون به فالطين والماء
از نسب آدمياني كه تفاخر ورزند
ازره دانش وانصاف ه دور افتادند
نرسد فخر كسى رابنسب برد كرى
ونكه دراصل زيك آدم وحوازادند
نزلت حين أمر النبي عليه السلام بلالاً رضي الله عنه ليؤذن بعد فتح مكة فعلا ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد وكان من الطلقاء : الحمد الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام : أما وجد رسول الله سوى هذا الغراب يعني بلالاً وخرج أبو بكر بن أبي داود في تفسير القرآن أن الآية نزلت في أبي هند حين أمر رسول الله بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله تتزوج بناتنا مواليها فنزلت وفيه إشارة إلى أن الكفاءة في الحيقة إنما هي بالداينة أي الصلاح والحسب والتقوى والعدالة ولو كان مبتدعاً والمرأة سنية لم يكن كفؤاً لها كما في النتف وسئل الرستغفني عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال فقال : لا يجوز كما في مجمع الفتاوى {وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآاـاِلَ} وشمارا شاخ شاخ كرديم وخاندان خانان.
والشعب بفتح الشين الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة بكسر العين تجمع البطون والبطون تجمع الأفخاذ والفخذ تجمع الفضائل والفضيلة تجمع العشائر وليس بعد العشيرة حييوصف به كما في كشف الأسرار فخزيمة شعب وكنانة وقبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذوا العباس فضيلة وسميت الشعوب لأن القبائل تتشعب منا كتشعب أغصان الشجرة وسميت القبائل لأنها يقبل بعضها على بعض من حيث كونها من أب واحد وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب والأسباط من بني إسرائيل والشعوب من قحطان والقبائل من عدنان {لِتَعَارَفُوا} أصله لتتعارفوا حذفت إحدى التاءين أي ليعرف بعضكم بعضاً بحسب الإنسان فلا يعتزي أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل وتدعوا التفاوت
90
والتفاضل في الأنساب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وقال الكاشفي : يعني دوكس كه بنام منتحد باشن بقيله متميز ميشوند نانه زيد تميمي از زيد قرشي {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ} تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقي كأن قيل إن الأكرم عنده تعالى هو الأتقى وإن كان عبداً حبشياً أسود مثل بلال فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى وبفضل الله ورحمته بل بالله تعالى ألا ترى إلى قوله عليه السلام : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي ليس الفخر ليس بالسيادة والرسالة بل العبودية فإنها شرف أي شرف وكفى شرفاً تقديم العبد على الرسول في قوله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(9/73)
ـ وروي ـ أن رسول الله عليه السلام مر في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله فاشتراه رجل فكان رسول الله يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال : محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل هو كابه أي متهيىء للموت الذي هو لاحق به فجاءه وهو في بقية حركته وروحه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت الآية {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ} بكم وبأعمالكم {خَبِيرٌ} ببواطن أحوالكم قال ابن الشيخ في حواشيه والنسب وإن كان معتبراً عرفاً وشرعاً حتى لا تتزوج الشريفة بالنبطي قال في القاموس النبط محركة جيل ينزلون بالبطائح بين العراقين وهو نبطي محركة انتهى إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز وهو الإيمان والتقوا كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس فالفاسق وإنك ان قرشي النسب وقارون النشب لا قدر له عند المؤمن التقي وإن ك ان عبداً حبشياً والأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها من حيث أنه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك بخلاف غيره كالمال مثلاً فإنه قد يحصل للفقير مال فيبطل افتخار المفتخر به عليه وكذا الأولاد والبساتين ونحوها فلذلك خص الله النسب بالذكر وأبطل اعتبار غيره بطريق الأولى انتهى وفي الحديث أن ربكم واحد وأبوكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى وعلى هذا إجماع العلماء كما في بحر العلوم هركرا تقوى بيشتر قدم أودر مرتبه فضل يشتر.
الشرف بالفضل والأدب لا بالأصل والنسب :
با دب باش تا بزرك شوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
كه بزركى نتيجة ادبست
قال بعض الكبار : المفاضلة بين الخلق عند الله لنسبتهم فهم من حيث النسبة واحد ومن حيث النسب متفاضلون إن أرمكم عند الله أتقاكم ولا يصح التفاضل بالأعمال فقد يسبق التابع المتبوع ولوك ان الشرف للأشياء من حيث شأنها أو مواطنها لكان الشرف لإبليس على آدم في قوله : خلقتني من نار وخلقته من طين ولكن لما كان الشرف اختصاصاً إلهياً لا يعرف إلا من جانب الحق تعالى جهل إبليس في مقالته تلك وصح الشرف لآدم عليه السلام والخيرية وسئل عيسى عليه السلام : أي الناس أشرف فقبض قبضتين من تراب ثم قال : أي هذين أشرف ثم جمعهما وطرحهما وقال الناس : كلهم من تراب وأكرمهم عند الله أتقاكم قال سليمان الفارسي رضي الله عنه :
91
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وفي الحديث أن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم :
ره راست باينه بالاى راست
كه كافر هم از روى صورت وماست
وقال عليه السلام : "ياأيها الناس إنما الناس رجل مؤمن تقي كريم على الله وفاجر تقي هين على الله" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
ـ وروي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس يحشرون يوم اليامة ثم يوقفون ثم يقول الله لهم : طالما كنتم تكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم إني رفعت نسبي وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عني أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم لا بل فلان ابن فلان وفلان ابن فلان فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم سيعاهل الجمع اليوم من أصحاب الكرم أين المتقون كما فيي كشف الأسرار قال الكاشفي : أربعة لا يعبأ الله بهم يوم القيامة : زهد خصى وتقوى جندي وأمانة امرأة وعبادة صبي وهو محمول على الغالب كما في المقاصد الحسنة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/74)
قال في التأويلات النجمية يشير بقوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى إلى خلق القلوب إنها خلقت من ذكر وهو الروح وأنثى وهي النفس وجعلناكم شعوباً وقبائل أي جعلناها صنفين : صنف منها شعوب وهي التي تميل إلى أمها وهي النفس والغالب عليها صفات النفس وصنف منها قبائل وهي التي تميل إلى أبيها وهو الروح والغالب عليها صفات الروح لتعارفوا أي لتتعارفوا أصحاب القلوب وأرباب النفوس لا لتتكاثروا وتتنافسوا وتباهوا بالعقول والأخلاق الروحانية الطبيعية فإنها ظلمانية لا يصلحج شيء منها للتفاخر به ما لم يقرن به الإيمان والتقوى فإن تنورت الأفعال والأخلاق والأحوال بنور الإيمان والتقوى فلم تكن الأفعال مشوبة بالرياء ولا الأخلاق مصحوبة بالأهواء ولا الأحوال منسوبة إلى الإعجاب فعند ذلك تصلح للتفاخر والمباهاة بها كما قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال عليه السلام : "الكرم التقوى فأتاهم من يكون أبعدهم من الأخلاق الإنسانية وأقربهم إلى الأخلاق الربانية والتقوى هو لتحرز والمتقي من يتحرز عن نفسه بربه وهو أكرم على الله من غيره" انتهى.
{قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا} الأعراب أهل البادية وقد سبق تفصيله في سورة الفتح وإلحاق التاء بالفعل المسند إليهم مع خلوه عنها في قوله وقال نسوة في المدينة للدلالة على نقصان عقلهم بخلاهن حيث لمن امرأة العزيز في مراودتها فتاها وذلك يليق بالعقلاء نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدب فأظهروا الشهادتين فكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وأتيناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنوا فلان يرون الصدق ويمنون عليه عليه السلام ما فعلوا {قُلْ} رداً لهم {لَّمْ تُؤْمِنُوا} إذ الإيمان هو التصديق بالله وبرسوله المقارن للثقة بحقيقة المصدق وطمأنينة القلب ولم يحصل لكم ذلك وإلا لما مننتم على ما ذكرتم من الإسلام وترك المقاتلة كما ينبىء عنه آخر السورة يعني أن التصديق الموصوف مسبوق بالعلم بقبح الكفر وشناعة المقاتلة وذلك بأبي المن وترك المقاتلة فإن العاقل لا يمن
92
بترك ما يعلم قبحه {وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أسلم بمعنى دخل في السلم كأصبح وأمسى وأشتى أي قولوا دخلنا في السلم والصلح والانقياد مخافة أنفسنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة وترك المحاربة مشعر به أي بالانقياد والدخول المذكور وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أولم تؤمنوا ولكن أسلمتم ليتقابل جملتا الاستدراك للاحتراز عن النهي عن التلفظ بالإيمان فإن ظاهره مستقبح سيما ممن بعث للدعوة إلى القول به وللتفادي عن إخراج قولهم مخرج التسليم والاعتداد به مع كونه تقولاً محضاً قال سعدي المفتي والظاهر أن النظم من الاحتباك حذف من الأول ما يقابل الثاني ومن الثاني ما يقابل الأول والأصل قل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا وهذا من اختصارات القرآن
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ} حال من ضمير قولوا أي ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم وما في لما من معنى التوقع مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالإخلاص وترك النفاق {لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَـالِكُمْ شَيْـاًا} أي لا ينقصكم شيئاً من أجورها من لات يليت ليتا إذا نقص قال الإمام معنى قوله لا يلتكم أنكم إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة المقرونة بالإخلاص وترك النفاق فهو تعالى يأتكم بما يليق بفضله من الجزاء لا ينقص منه نظراً إلى ما في حسناتكم من النقصان والتقصير وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهماً مثلاً وأعطاه الملك درهماً أو ديناراً انتسب الملك إلى قلة العطاء بل إلى البخل فليس معنى الآية أن يعطي من الجزاء مثل عملكم من غير نقص بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص ويؤيد ما قاله قوله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما فرط من المطيعين {رَّحِيمٌ} بالتفضل عليهم قال في بحر العلوم في الآية إيذان بأن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالإيذان ليس بأيمان.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان بل هو نور يدخل القلوب إذا شرح الله صدر العبد للإسلام كما قال تعالى فهو على نور من ربه وقال عليه السلام في صفة ذلك النور إذا وقع في القلب انفسخ له واتسع قيل يا رسول الله هل لذلك النور علامة يعرف بها؟ قال : بلى التجا في عن دارالغرور والإنابة إلى دار الخلود واستعداد الموت قبل نزوله ولهذا قال تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فهذا دليل على أن محل الإيمان القلب انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/75)
وفي علم الكلام ذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان التصديق القلب وإنما الإقرار شرط لا جزؤه لإجراء الأحكام في الدنيا كالصلاة عليه في وقت موته لما أن تصديق القلب أمر باطن لا يطلع عليه أحد لا بد له من علامة فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله لوجود التصديق القلبي وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا لانتفاء شرطه وأما من جعل الإقرار ركناً من الإيمان فعنده لا يكون تارك الإقرار مؤمناً عند الله ولا يستحق النجاة من خلود النار ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق هو مؤمن في أحكام الدنيا وإن لم يكن مؤمناً عند الله وهذا المذكور من أن الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار باللسان لإجراء الأحكام هو اختيار الشيخ أبي
93
منصور رحمه الله والنصوص معاضدة لذلك قال الله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال الله تعالى وقلبه مطمئن بالإيمان وقال الله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقال عليه السلام : "اللهم ثبت قلبي على دينك أي على تصديقك" وقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه حين قتل : "من قاللا إله إلا الله هل شققت قلبه" وفي فتح الرحمن حقيقة الإيمان لغة التصديق بما غاب وشرعاً عند أبي حنيفة رحمه الله تصديق بالقلب وعمل باللسان وعند الثلاثة عقد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان فدخل كل الطاعات انتهى قال ابن الملك في شرح المشارق ثم الإقرار باللسان ليس جزء من الإيمان ولا شرطاً له عند بعض علمائنا بل هو شرط لإجراء أحكان المسلمين على المصدق لأن الإيمان عمل القلب وهو لا يحتاج إلى الإقرار وقال بعضهم : إنه جزء منه لدلالة ظواهر النصوص عليه إلا أن الإقرار لما كان جزءاً له شائبة العرضية والتبعية اعتبروا في حالة الاختيار جهة الجزئية حتى لا يكون تاركه مع تمكنه منه مؤمناً عند الله وإن فرض أنه مصدق وفي حالة الاضطرار جهة العرضية فيسقط وهذا معنى قولهم الإقرار ركن زائد إذ لا معنى لزيادته إلا أن يحتمل السقوط عند الإكراه على كلمة الكفر فإن قيل ما الحكمة في جعل عمل جارحة جزء من الإيمان ولم عين به عمل اللسان دون أعمال سائر الأركان قلنا لما اتصف الإنسان بالإيمان وكان التصديق عملاً لباطنه جعل عمل ظاهره داخلاً فيه تحقيقاً لكمال اتصافه به وتعين له فعل اللسان لأنه مجبول للبيان أو لكونه أخف وأبين من عمل سائر الجسد نعم يحكم بإسلام كافر لصلاته بجماعة وإن لم يشاهد إقراره لأن الصلاة المسنونة لا تخلو عنه وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام المقدسي : النطق بكلمتي الشهادة واجب فمن علم وجوبها وتمكن من النطق بهما فلم ينطق فيحتمل أن يجعل امتناعه من النطق بهما كامتناعه من الصلاة فيكون مؤمناً غير مخلد في النار لأن الإيمان هو التصديق المحض بالقلب واللسان ترجمانه وهذا هو الأظهر إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" ولا يعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا يعدم بترك الفعل الواجب انتهى.
وقال سهل رضي الله عنه : ليس في الإيمان أسباب إنما الأسباب في الإسلام والمسلم محبوب للخلق والمؤمن غني عن الخلق وقال بعض الكبار : المسلم في عموم الشريعة من سلم الناس من لسانه ويده وفي خصوصها من سلم كل شيء من لسانه بما يعبر عنه ويده فيما له فيه نفوذ اقتدار والمؤمن منور الباطن وإن عصى والكافر مظلم الباطن وإن أتى بمكارم الأخلاق ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فما عرف الله كما ينبغي وقال بعض الكبار : كل من آمن عن دليل فلا وثوق بإيمانه لأنه نظري لا ضروري فهو معرض للشبه القادحة فيه بخلاف الإيمان الضروري الذي يجده المؤمن في قلبه ولا يقدر على دفعه وكذا القول في كل علم حصل عن نظر وفكر فإنه مدخول لا يسلم من دخول الشبه عليه ولا من الحيرة فيه ولا من القدح في الأمر الموصل إليه ولا بد لكل محجوب من التقليد فمن أراد العلم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليكثر من الطاعات والنوافل حتى يحبه الحق فيعرف الله بالله ويعرف جميع أحكام الشريعة بالله لا بعقله ومن لم يكثر مما ذكر
94
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/76)
فليقلد ربه فيما أخبر ولا يؤول فإنه أولى من تقليد العقل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدقوه واعترفوا بأن الحق معه من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك في الخبر مع التهمة للمخبر فظهر الفرق بين الريب والشك فإن الشك تردد بين نقيضين لا تهمة فيه وفيه إشارة إلى أن فيهم ما يوجب نفي الإيمان عنهم وهو الاتياب وثم للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط بل وفيما يستقبل فهي كما في قوله تعالى ثم استقاموا {وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعته على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معاً كالحج والجهاد {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة {هُمُ الصَّـادِقُونَ} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم فهو قصر أفراد وتكذيب لأعراب بني أسد حيث اعتقدوا الشركة وزعموا أنهم صادقون أيضاً في دعوى الإيمان.
واعلم أن الآية الكريمة شاملة لمجامع القوى التي وجب على كل أحد تهذيبها وأصلاحها تظهيراً لنفسه الحاصل به الفوز بالفلاح والسعادة كلها كما قال تعالى : قد أفلح من زكاها وهي قوة التفكر وقوة الشهوة وقوة الغضب اللاتي إذا أصلحت ثلاثتها وضبطت حصل العدل الذي قامت به السموات والأرض فإنها جميع مكارم الشريعة وتزكية النفس وحسن الخلق المحمود ولأصالة الأولى وجلالتها قدمت على الأخيرتين فدل بالإيمان بالله ورسوله مع نفي الارتياب على العلم اليقيني والحكمة الحقيقية التي لا يتصور حصولها إلا بإصلاح قوة التفكر ودل بالمجاهدة بالأموال على العفة والجود التابعين بالضرورة لإصلاح قوة الشهوة وبالمجاهدة بالأنفس على الشجاعة والحلم التابعين لإصلاح قوة الحمية الغضبي وقهرها وإسلامها للدين وعليه دل قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فإن العفو عمن ظلم هو كمال الحلم والشجاعة وإعطاء من حرم كمال العفة والجود ووصل من قطع كمال الفضلة والإحسان.
واعلم أيضاً أن جميع كمالات النفس الإنسانية محصورة في القوى الثلاث وفضائلها الأربع إذ العقل كماله العلم والعفة كالها الورع والشجاعة كمالها المجاهدة والعدل كماله الإنصاف وهي أصول الدين على التحقيق وفي الآية رد للدعوى وحث على الاتصاف بالصدق قال بعضهم : لولا الدعاوى ما خلقت المهاوي فمن ادعى فقد هوى فيها وإن كان صادقاً ألا تراه يطالب بالبرهان ولو لم يدع ما طولب بدليل.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
حديث مدعيان وخيال همكاران
همان حكايت زرد وزو بور يابافست
وفي الحديث يا أبا بكر عليك بصدق الحدث والوفاء بالعهد وحفظ الأمانة فإنها وصية الأنبياء.
قال الحافظ :
طريق صدق بياموز ازاب صافي دل
بر استى طلب آزادكى وسر ومن
وأتى رسول الله التجار فقال : يا معشر التجار إن الله باعثكم يوم القيامة فجاراً إلا من صدق ووصل وأدى الأمانة وفي الحديث التجار هم الفجار قيل ولم يا رسول الله وقد أحل الله البيع فقال : لأنهم يحلفون فيأثمون ويتحدثون فيكذبون.
قال الصائب :
95
كعبه دركام نخستين كند استقبالت
از سر صدق اكر همنفس دل باشى
فإذا صدق الباطن صدق الظاهر إذ كل إناء يترشح بما فيه وكل أحد يظهر ما فيه بفيه {قُلْ} .
ـ روي ـ أنه لما نزلت الآية السابقة جاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قله تعالى : قل يا محمد لهم : {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} دخلت الباء لأن هذا التعليم بمعنى الإعلام والإخبار أي أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه بقولكم آمنا والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم والاستفهام فيه للتوبيخ والإنكار أي لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء وفيه إشارة إلى أن التوقيف في الأمور الدينية معتبر واجب وحقيقتها موكولة إلى الله فالأسامي منه تؤخذ والكلام منه يطلب وأمره يتبع {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} حال من فاعل تعلمون مؤكدة لتشنيعهم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/77)
وفي التأويلات التجمية والله يعلم ما في سموات القلوب من استعدادها في العبودية وما في أرض النفوس من تمردها عن العبودية والله بكل شيء جبلت القلوب والنفوس عليه عليم لأنه تعالى أودعه فيها عند تخمير طينة آدم بيده انتهى قال بعض الكبار : لا تضف إلى نفسك حالاً ولا مقاماً ولا تخبر أحداً بذلك فإن الله تعالى كل يوم هو في شأن في تغيير وتبديل يحول بين المرء وقلبه فربما أزالك عما أخبرت به وعزلك عما تخليت ثباته فتخجل عند من أخبرته بذلك بل احفظ ذلك ولا تعلمه إلى غيرك فإن كان الثبات والبقاء علمت أنه موهبة فلتشكر الله ولتسأله التوفيق للشكر وإن كان غير ذلك كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور تيقظ وتأديب انتهى فظهر من هذا أن الإنسان يخبر غالباً بما ليس فيه أو بما سيزول عنه والعياذ بالله من سوء الحال ودعوى الكمال قال بعضهم : إياكم ثم إياكم والدعوات الصادقة والكاذبة فإن الكاذبة تسود الوجه والصادقة تطفى نور الإيمان أو تضعفه وإياكم والقول بالمشاهدات والنظر إلى الصور المستحسنات فإن هذا كله نفوس وشهوات ومن أحدث في طريق القوم ما ليس فيها فليس هو منا ولا فينا فاتبعوا ولا تبتدعوا وأطيعوا ولا تمرقوا ووحدوا ولا تشركوا وصدقوا الحق ولا تشكوا واصبروا ولا تجزعوا واثبتوا ولا تتفرقوا واسألوا ولا تسأموا وانتظروا ولا تيأسوا وتواخوا ولا تعادوا واجتمعوا على الطاعة ولا تفرقوا وتطهروا من الذنوب ولا تلطخوا وليكن أحدكم بواب قلبه فلا يدخل فيه إلا ما أمره الله به وليحذر أحدكم ولا يركن وليخف ولا يأمن وليفتش ولا يغفل {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} أي يعدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثواباً ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود به قطع حاجته مع قطع النظر أن يعوضه المحتاج بشيء وقيل : النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وهو رطلان يقال من عليه منة أي أثقله بالنعمة قال الراغب : المنة النعمة الثقيلة ويقال ذلك على وجهين : أحدهما أن يكون ذلك بالفعل فيقال من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله
96
تعالى لقد منّ الله على المؤمنين وذلك في الحقيقة لا يكون إلا تعالى والثاني أن يكون ذلك بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة ولقبح ذلك قيل : المنة تهدم الصنيعة ولحسن ذكرها عند الكفران قيل إذا كفرت النعمة حسنت المنة وقوله تعالى يمنون عليك الخ فالمنة منهم بالقول ومنة الله عليكم بالفعل وهو هدايته إياهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُمْ} أي لا تعدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم فنصبه بنزع الخافض {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} على ما زعمتم من أنكم أرشدتم إليه وبالفارسية بلكه خداي تعالى منت مينهد برشما كه راه نموده است شمار بايمان {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في ادعاء الإيمان وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم وفي سياق النظم الكريم من اللطف ما لا يخفى فإنهم لما سمعوا ما صدر عنهم ءيماناً ومنوا به نفى كونه إيماناً وسماه إسلاماً فقال : يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام أي دخول في السلم ولي بجير بالمنة لأنه ليس له اعتداد شرعاً ولا يعد مثله نعمة بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية إليه لا لهم وسئل بعض الكبار عن قوله تعالى : بل الله يمن عليكم مع أنه تعالى جعل المن إذا وقع منا على بعضنا من سفساف الأخلاق فقال في جوابه : هذا من علم التطابق ولم يقصد الحق به المن حقيقة إذ هو الكريم الجواد على الدوام على من أطاع وعلى من عصى وفي الحديث ما كان الله ليدلك على مكارم الأخلاق ويفعل معكم خلاف ذلك وفي الحديث أيضاً ما كان الله لينهاكم عن الرياء ويأخذه منكم قال ذلك لمن قال له يا رسول الله إني صليت بالتيمم ثم وجدت الماء أفأصلي ثانياً فمعنى الآية إذا دخلتم في حضرة المن على رسولكم بإسلامكم فالمنلا لكم وإن وقع منكم شيء من سفساف الأخلاق رد الحق أعمالكم عليكم لا غير.
وفي التأويلات النجمية : يمنون عليك إن استسلموا لك ظاهرهم قل لا تمنوا على إسلامكم أي تسليم ظاهركم لي لأنه ليس هذا من طبيعة نفوسكم المتمردة بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إذا كتب في قلوبكم الإيمان فانعكس نور الإيمان من مصباح قلوبكم إلى مشكاة نفوسكم فتنورت واستضاءت بنور الإسلام فإسلامكم في الظاهر من فرع الإيمان الذي أودعته في باطنكم إن كنتم صادقين أي إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان انتهى قال الجنيد رحمه الله : المن من العباد تقريع وليس من الله تقريعاً وإنما هو من الله تذكير النعم وحث على شكر المنعم.
قال الشيخ سعدي :
شكر خداى كن كه موفق شدى بخير
زانعام وفضل اونه معطل كذاشت
منت منه كه خدمت سلطان همي كنى
منت شناس ازوكه بخدمت بداشتت
(9/78)
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} في سركم وعلانيتكم فيكف يخفى عليه ما في ضمائركم وقال بعض الكبار : والله بصير بما تعملون في الظاهر أنه من نتائج ما أودعه في باطنكم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
درزمين كرنى شكرور خودنى است
ترجمان هرزمين نبت وى است
فمن لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً وإن رآها من ربه بربه لربه كان توحيداً وفقنا الله لذلك بمنه وجوده قال البقلى ليس لله
97
غيب إذ الغيب شيء مستور غيب إذ الغيب شيء مستور وجميع الغيوب عيان له تعالى وكيف يغيب عنه وهو موجده يبصره ببصره القديم والبصر هناك واحد قال في كشف الأسرار إز سورة الحجرات تا آخر قرآن مفصل كويند.
وبه قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن الله أَطاني السبع الطول مكان التوراة والسبع الطول كصرد من البقرة إلى الأعراف والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعاً لأنهما سورة واحدة عنده كما في القاموس وأعطاني الما بين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور والمثاني وفضلني ربي بالمفصل وفي رواية أخرى قال عليه السلام إني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه السلام وأعطيت فواتح الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش والمفصل ناقلة أي عطية.
وفي فتح الرحمن سورة الحجرات أول المفصل على الراجح من مذهب الشافعي وأحد الأقوال المعتمدة عن أبي حنيفة وعنه قول آخر معتمدات أو له قوله ق قاله عليه السلام : "فضلني ربي بالمفصل" والمفصل من القرآن ما هو بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن وسميت مفصلاً لكثرة المفصولات فيها بسطر بسم الله الرحمن الرحيم لأنها سور قصار يقرب تفصيل كل سورة من الأخرى فكثر التفصيل فيها انتهى وقال بعضهم : المفصل السبع السابع سمي به لكثرة فصوله وهو من سورة محمد أو الفتح أو ق إلى آخر القرآن وطوال المفصل إلى البروج والأوساط منها إلى لم يكن والقصار منها إلى الآخر وقيل :
طوال از لا تقدم تا عبس دان
س اوسط از عبس تالم يكن خوان
قصار از لم يكن تا آخر آيد
بخوان اين نظم را تا كردد آسان
والذي عليه الجمهور أن طوال المفصل من سورة الحجرات إلى سورة البروج والأوساط من سورة البروج إلى سورة لم يكن والقصار من سورة لم يكن إلى آخر القرآن.
ـ روي ـ أن القراء لما قسموا القرآن في زمن الحجاج إلى ثلاثين جزاء قسموه أيضاً إلى سبعة أقسام وعن السلف الصالحين من ختم على هذا الترتيب الذي نذكره ثم دعا تقبل حاجته وهو الترتيب الذي كان يفعله عثمان رضي الله عنه يقرأ يوم الجمعة من أوله إلى سورة الأنعام ويوم السبت من سورة الأنعام إلى سورة يونس ويوم الأحد من سورة يونس إلى سورة طه ويوم الاثنين من سورة طه إلى سورة العنكبوت ويوم الثلاثاء من سورة العنكبوت إلى سورة الزمر ويوم الأربعان من سورة الزمر إلى سورة الواقعة ويوم الخميس من سورة الواقعة إلى آخره وقيل أحزاب القرآن سبعة الحزب الأول ثلاث سور والثاني خمس سورة والثالث سبع سور والرابع تسع سور والخامس إحدى عشرة سورة والسادس ثلاث عشرة سورة والسابع المفصل من ق وفي فتح الرحمن وأحزاب القرآن ستون قيل إن الحجاج لما جد في نقط المصحف زاد تحزيبه وأمر الحسن ويحيى بن يعمر بذلك وأما وضع الأعشار فيه فحكي أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل إن الحجاج فعل ذلك وكانت المصاحف العثمانية مجردة من النقط والشكل فلم يكن فيها أعراب وسبب ترك الأعراب فيها والله أعلم استغناؤهم عنه فإن القوم كانوا عرباً لا يعرفون اللحن ولم يكن في زمنهم نحو وأول من وضع النحو وجعل الأعراب في المصاحف أبو الأسود الدؤلي التابعي البصري.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
ـ حكي ـ أنه سمع قارئاً أن الله بريء من المشركين ورسوله بكسر
98
(9/79)
اللام فأعظمه ذلك وقال عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ثم جعل الأعراب في المصاحف وكان علاماته نقطاً بالخمر غير لون المداد فكانت علامة الفتحة نقطة فوق الحرف وعلامة الضمة نقطة في نفس الحرب وعلامة الكسرة نقطة تحت الحرف وعلامة الغنة نقطتين ثم أحدث الخليل بن أحمد الفراهيدي بعد هذا هذه الصور الشدة والمدة والهمزة وعلامة الكون وعلامة الوصل ونقل الأعراب من صورة النقط إلى ما هو عليه الآن وأما النقط فاول من وضعها بالمصحف نصر بن عاصم الليثي بأمر الحجاج بن يوسف أمير العراق وخراسان وسببه أن الناس كانوا يقرأون في مصحف عثمان نيفاً وأربعين سنة إلى يوم عبد الملك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق فأمر الحجاج أن يضعوا لهذه الأحرف المشتبهة علامات فقام بذلك نصر المذكور فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها وكان يقال له نصر الحروف وأول ما أحدثوا النقط على الباء والتاء وقالوا لا بأس به هو نور له ثم أحدثوا نقطاً عند منتهى الآي ثم أحدثوا الفواتح والخواتم فأبوا الأسود هو السابق إلى أعرابه والمبتدىء به ثم نصر بن عاصم وضع النقط بعده ثم الخليل بن أحمد نقل الأعراب إلى هذه الصورة وكان مع استعمال النقط والشكل يقع التصحيف فالتمسوا حبلة فلم يقدروا فيها إلا على الآخذ من أفواه الرجال بالتلقين فانتدب جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة وبالغوا في الاجتهاد وجمعوا الحروف والقراءات حتى بينوا الصواب وأزالوا الأشكال رضي الله عنهم أجمعين وأول من خط بالعربية يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وأول من استخرج الخط المعروف بالنسخ ابن مقلة وزير المقتدر بالله ثم القاهر بالله فإنه أول من نقل الخط الكوفي إلى طريقة العربية ثم جاء ابن البواب وزاد في تعريب الخط وهذب طريقة ابن مقله وكساها بهجة وحسنا ثم ياقوت المستعصمي الخطاب وختم فن الخط وأكمله ثم جاء الشيخ حمد الله إلا ما سيوي فأجاد الخط بحيث لا مزيد عليه إلى الآن ولله در القائل :
خط حسن جمال مرأى
إن كان لعالم فأحسن
الدر من النبات أحلى
والدر مع البنات ازين
ومن الله التوفيق للكمالات والحتم بأنواع السعادات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
تفسير سورة ق
خمس وأربعون آية مكية
جزء : 9 رقم الصفحة : 98
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
أي هذه سورة ق أي مسماة بق وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى وقال محمد بن كعب هو مفتاح أسماء الله تعالى مثل القادر والقدير والقديم والقاهر والقهار والقريب والقابض والقاضي والقدوس والقيوم أي أنا القادر الخ وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل قسم أقسم الله به أي القائم بالقسط وقيل معناه قل يا محمد والقرآن
99
المجيد وقيل قف يا محمد على أداء الرسالة وعند أمرنا ونهينا ولا نتعدهما والعرب تقتصر من كلمة على حرف قال الشاعر : قلت لها قفي فقالت : ق أي وقفت وقيل هو أمر من مفاعلة قفا أثره أي تبعه والمعنى اعمل بالقرآن وأتبعه وقيل معناه قضى الأمر وما هو كائن كما قالوا في حم وقيل المراد بحق القلب الذي يرقم القرآن في اللوح المحفوظ وفي الصحائف.
وقال الكاشفي : حروف مقطعه جهت فرقت است ميان كلام منظوم ومنثور أمام علم الهدى فرموده كه سامع بمجرد استماع اين حروف استدلال ميكند برآنكه كلامه كه بعد ازومى آيد منثورست نه منظوم س در ايراد اين حروف رد جما اعتيست كه قرآنرا شعر كفتند.
وقال الأنطاكي ق عبارة عن قربه لقوله ونحن أقرب إليه يعني قسم است بقرب الهي كه سر ونحن أقرب إليه بدين سوره ازان خبر ميدهد.
وقال ابن عطاء : اقسم بقوة قلب حبيبه حيث تحمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله أي بخلاف موسى عليه السلام فإنه خر صعقاً في الطور من سطوة تجلي النور.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99(9/80)
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أن لكل سالك من السائرين إلى الله تعالى مقاماً في القرب إذا بلغ إلى مقامه المقدر له يشار إليه بقوله ق أي قف مكانك ولا تجاوز حدك والقسم قوله والقرآن المجيد أي قف فإن هذا مكانك والقرآن المجيد فلا تجاوز عنه وقال بعض الكبار ق إشارة إلى قول هو الله أحد أي إلى مرتبه الأحدية التي هي التعين الأول وص إشارة إلى الصمد أي إلى مرتبة الصمدية التي هي التعين الثاني والصافات إشارة إلى التعينات الباقية التابعة للتعين الثاني.
يقول الفقير أشار بقوله ق إلى قيامه عليه السلام بين يدي الله تعالى في الصف الأول قبل كل شيء مفارقاً لكل تركيب منفرداً عن كل كون منقطعاً عن كل وصف ثم إلى قدومه من ذلك العالم الغيبي الروحاني إلى هذا المقام الشهادي الجسماني كما أشار إليه المجيء الآتي وقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه حين خلقه : أي نور نبيك يا جابر أقامه قدامه في مقام القرب اثني عشر ألف سنة وهو تفصيل عدد حروف لا إله إلا الله وحروف محمد رسول الله فإن عدد حروف كل منهما اثنا عشر وكذا أفاد أنه أقامه في مقام الحب اثني عشر ألف سنة وفي مقام الخوف والرجاء والحياء كذلك ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب فأقام نوره في كل حجاب ألف سنة وهي مقامات العبودية وهي حجاب الكرامة والسعادة والهيبة والرحمة والرأفة والعلم والحلم والوقار والسكينة والصبر والصدق واليقين فعبد ذلك النور في كل حجاب ألف سنة فكل هذا العدد من طريق الإجمال اثنان وسبعون وإذا انضم إليه المنازل الثماني والعشرون على ما أشير إليه في الجلد الأول يصير المجموع مائة وإليه الإشارة بالقاف فهو مائة رحمة ومائة درجة في الجنة اختص بها الحبيب عليه السلام في الحقيقة إذ كل من عداه فهو تبع له فكما أنهم تابعون له عليه السلام في مقاماته الصورية الدورية المائة لأنه أول من خلقه الله ثم خلق المؤمنين من فيض نوره فكذلك هم تابعون له في الدرجات العلوية المبنية على المراتب السلوكية السيرية وفي كل هذه المنازل دار بالقرآن لأن الكلام النفسي تنزل إليه مرتبة بعد مرتبة إلى أن أنزله روح القدس على قلبه في هذا العالم الشهادي تشريفاً له من الوجه العام والخاص وإلى كل هذا المقامات رقي بالقرآن كما يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا وإن منزلك
100
عند آخر آية تقرأها ولا شك أنه كان خلقه القرآن فلذا مجد وشرف بمجد القرآن وشرفه فاعرف هذا فإنه من مواهب الله تعالى ويجوز أن يكون معنى ق من طريق الإشارة احذروا قاف العقل والزموا شين العشق كما قال بعضهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قفل در نشاط وسرورست قاف عقل
دندانه كليد بهشت است شين عشق
وقال جماعة من العلماء قاف جبل محيط بالأرض كأحاطة العين بسوادها وهو أعظم جبال الدنيا خلقه الله من زمرد أخضر أو زبر جد أخضر منه خضرة السماء والسماء ملتزقة به فليست مدينة من المدائن وقرية من القرى إلا وفيها عرق من عروقه وملك موكل به واضع يديه على تلك العروق فإذا أراد الله بقوم هلاكاً أوحى إلى ذلك الملك فحرك عرقاً فخسف بأهلها والشياطين ينطلقون ءلى ذلك الزبرجد فيأخذون منه فيبثونه في الناس فمن ثم هو قليل.
وفي المثنوي :
رفت ذو القرنين سوى كوه قاف
ديداورا كز زمرد بود صاف
كرد عالم خلقه كشته او محيط
ماند حيران اندران خلق بسيط
كفت توكوهى دكرها يستند
كه به يش عظم توبازيستند
كفت ركهاى من اندان كوهها
مثل من نبوند در حسن وبها
من بهر شهرى ركى درام نهان
بر عروقم بسته اطراف جهان
حق و خواهد زلزل شهر مرا
كويد أو من برجهانم عرق را
س بجنبانم من آن رك را بقهر
كه بدان رك متصل كشتست شهر
ون بكويد بس شود ساكن ركم
ساكنم وزروى قفل اندرتكم
همو مرهم ساكن بس كاركن
ون خردساكن وزوجنبان سخن
نزد آنكس كه نداند عقاش اين
زلزله هست از بخارات زمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/81)
قال أبي بن كعب الزلزلة لا تخرج إلا من ثلاثة إما لنظر الله بالهيبة إلى الأرض وإما لكثرة ذنوب بني آدم وإما لتحريك الحوت الذي عليه الأرضون السبع تأديباً للخلق وتنبيهاً ، قال ذو القرنين : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله تعالى فقال أن شأن ربنا لعظيم وأن من ورائي مسيرة خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضاً لولا ذلك لاحترقت من نار جهنم والعياذ بالله تعالى منها يعني اسكندر كفت يا قاف از عظمة الله باما يزى بكوى كفت ياذا القرنين كار خداوند ما عظيم است واز اندازه وهم وفهم بيرونست بعظمت او خبر كجارسد وكدام عبارت بوصف اورسد كفت آخر آنه كمتراست ودرتحت وصف آيد يزى بكوى كعفت وراى من زميني است آفريده انصد ساله راه طول آن وانصد ساله راه عرض آن همه كوهها اندربران برد واكرنه آن برف بودى من از حرارت دوزخ ون ارزيز بكدا ختمى ذو القرنين كفت ردنى يا قاف نكته ديكر بكوى ازعظمت وجلال او كفت جبريل امين كمر بسته در حجب هببت ايستاده هرساعتى ازعظمت وسياست دركاه جبروت برخود يلرز درعده بروى افتد رب العالمين ازان رعده وى صد هزار ملك بيافريند
101
صفها بركشيده در حضرت بنعت هيبت سردريش افكنده وكوش برفرمان نهاده تايكبار از حضرت عزت ندا آيدكه سخن كوبيد همه كويند لا إله إلا الله وبيش ازاين نكويند اينست كه رب العالمين كفت يوم يقوم الروح والملائكة صفاً إلى قوله وقال صوايا يعني لا إله إلا الله وقيل خضرة السماء من الصخرة التي تحت الأرض السفلي تحت الثور وهو المشار إليه بقوله تعالى : إنها إن تك مثقال حية من خردل فتكن في صخرة الآية وجعل الله السماء خضراء لتكون أوفق للأبصار لأن النظر إلى الخضرة يقوي البصر في الحكمة وكل صنع الله لحكمة فائدة لأهل العالم وفي الحديث ثلاث يجلون البصر : النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن قال ابن عباس رضي الله عنهما : والأثمد عند النوم وبالجملة أن الألوان سوى البياض مما يعين البصر على النظر وعن خالد بن عبد الله أن ذا القرنين لما بنى الاسكندرية رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها فكان لباسهم فيها السواد من نصوع بياض الرخام فمن ذلك لبس الرهبان السواد كما في أوضح المسالك لابن ساهى قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر لما خلق الله الأرض على الماء تحركت ومالت فخلق الله تعالى من الأبخرة الغليظة الكثيفة الصاعدة من الأرض بسبب هيجانها الجبال فسكن ميل الأرض وذهبت تلك الحركة التي لا يكون معها استقرار فطوق الأرض بجبل محيط بها وهو من صخرة خضراء وطوق الجبل بحية عظيمة رأسها بذنبها رأيت من الابدال من صعد جبل قاف فسألته عن طوله علواً فقال : صليت الضحى في أسفله والعصر في أعلاه يعني بخطوة الابدال فالخطوة عند الابدال من المشرق إلى المغرب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
يقول الفقير : لعل هذا من قبيل البسط في السير وإلا فقد ثبت أن السماء الدنيا متصلة به وما بين السماء والأرض كما بين المشرق والمغرب وهي مسيرة خمسمائة عام فكيف تسع هذه المسيرة تلك الخطوات المتضاعفة وفي الخبر أن لقاف في السماء سبع شعب لكل سماع شعبة منها فالسموات السبع مقببة على شعبه وخلق الله ستة جبال من وراء قاف وقاف سابعها وهي موتودة بأطراف الأرض على الصخرة وقاف وراءها على الهواء وقيل خلق الله جبل قاف كالحصن المشرف على الملك ليحفظ أهل الأرض من فيح جهنم التي تحت الأرض السابعة.
يقول الفقير فيه إشارة إلى حال قطب الأقطاب رضي الله عنه فإنه مشرف على جميع الرجال من حيث جمعية اسمه وعلو رتبته وبه يحفظ الله العالم من الآفات الصورية والمعنوية كما أن جبل قاف مشرف على سائر الجبال وبه يحفظ الله أهل الأرض بالغدو والآصال ومن خلف ذلك الجبل بحر محيط بجبل قاف وحوله جبل قاف آخر والسماء الثانية مقببة عليه وكذلك من وراء ذلك بحار محدقات بجبل قاف على عدد السموات وأن كل سماء منها مقببة عليه وأن في هذه البحار وفي سواحلها ويبسها المحدقة بها ملائكة لا يحصى عددهم إلا الله ويعبدون الله حق عبادته ومن جبل قاف ينفجر جميع عيون الأرض فيشرب منه كل بر وفاجر فيجده العبد حيث توجه وفي البعض مثل ذلك وما رآه جبل قال فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا وقال بعض المفسرين أنسبحانه من وراء جبل قاف أرضاً بيضاء كالفضة المجلاة طولها مسيرة أربعين يوماً للشمس
102
وبها ملائكة شاخصون إلى العرش لا يعرف الملك منهم من إلى جانبه من هيبة الله تعالى ولا يعرفون ما آدم وما إبليس هكذا إلى يوم القيامة وقيل أن يوم القيامة تبدل أرضنا هذه بتلك الأرض.
ـ وروي ـ أن الله تعالى خلق ثمانية آلاف عالم الدنيا منها عالم واحد وأن الله تعالى خلق في الأرض ألف أمة سوى الجن والأنس ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وكل مستفيض منه تعالى :
نان هن خوان كرم سترد
كه سيمرغ درقاف قسمت خورد
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/82)
{وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} أي ذي المجد والشرف على سائر الكتب على أن يكون للنسب كلابن وتامر أو لأنه كلام المجيد يعني أن وصف القرآن بالمجد وهو حال المتكلم به مجاز في الإسناد أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس وشرف على أن يكون مثل بنى الأمير المدينة في الإسناد إلى السبب قال الإمام الغزالي رحمه الله : المجيد هو الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل عطاؤه ونواله فكان شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجيداً وهو الماجد أيضاً ولكن أحدهما أدل على المبالغة وجواب القسم محذوف أي أنك يا محمد لنبي منذر أي مخوف من عذاب الله تعالى {بَلْ عَجِبُوا} أي فراعنة قريش ومتعنتوهم {أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي لأن جاءهم منذر من جنسهم لا من جنس الملك وهو إضراب عما ينبىء عنه الجواب أي أنهم شكوا فيه ولم يكتفوا بالشك والتردد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة وقال بعضهم : جواب القسم محذوف ودليل ذلك قوله بل لأنه لنفى ما قبله فدل على نفي مضمر وتقديره أقسم بجبل قاف الذي به بقاء دنياكم وبالقرآن الذي به بقاء دينكم ما كذبوك ببرهان وبمعرفة بكذبك بل عجبوا الخ والعجب نظر النفس لأمر خارج عن العادة {فَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار وهذا إشارة إلى كونه عليه السلام منذراً بالقرآن وحاصله كون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا وكون ما أنذر به هو البعث بعد موت كل شيء بليغ في الخروج عن عادة إشكاله وهو من فرط جهلهم لأنهم عجبوا أن يكون الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً وأنكروا البعث مع أن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك ثم أن إضمار الكافرين أولاً للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم من المقال وأنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة انصرف ءليهم إذ لا يصدر إلا عنهم فلا حاجة إلى إظهار ذكرهم وءظهارهم ثانياً للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} أي أحين نموت فتفارق أرواحنا أشباحنا ونصير تراباً لا فرق بيننا وبين تراب الأرض نرجع ونبعث كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ والهمزة للإنكار أي لا نرجع ولا نبعث
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{ذَالِكَ} إشارة إلى محل النزاع أي مضمون الخبر برجوعها {رَجْعُ} الرجع متعد بمعنى الرد بخلاف الرجوع أي رد إلى الحياة وإلى ما كنا عليه {بَعِيدٌ} جداً عن الأوهام أو العادة أو الإمكان أو عن الصدق غير كائن لأنه لا يمكن تمييز
103
(9/83)
ترابنا من بقية التراب {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارْضُ مِنْهُمْ} رد لاستبعادهم وإزاحة له أي نحن على ذلك في غاية القدرة فإن من عم علمه ولطفه حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا عبر بمن لأن الأرض لا تأكل عجب الذنب فإنه كالبذر لأجسام بني آدم وفي الحديث كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب فمنه خلق وفيه يركب والعجب بفتح العين وسكون الجيم أصل الذنب ومؤخر كل شيء وهو ههنا عظم لا جوف له قدر ذرة أو خردلة يبقى من البدن ولا يبلى فإذا أراد الله الإعادة ركب على ذلك العظم سائر البدن وأحياه أي غير أبدان الأنبياء والصديقين والشهداء فإنها لا تبلى ولا تتفسخ إلى يوم القيامة على ما نص به الأخبار الصحيحة قال ابن عطية وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة وهذا هو الحق وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه قال ابن عطية وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت غيرها فكيف كانت تشهد الجلود والأيدي والأرجل على الكفرة إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود وسئل شيخ الإسلام ابن حجر : هل الأسجدا إذا بليت وفنيت وأراد الله تعالى إعادتها كما كانت أولاً هل تعود الأجسام الأول أم يخلق الله للناس أجساداً غير الأجساد الأول فأجاب أن الأجساد التي يعيدها الله هي الأجساد الأول لا غيرها قال وهذا هو الصحيح بل الصواب ومن قال غيره عندي فقد أخطأ فيه لمخالفته ظاهر القرآن والحديث قال أهل الكلام أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية التي صار الإنسان معها حال التولد وهي العناصر الأربعة ويعيد روحه إليه سواء سمي ذلك الجمع إعادة المعدوم بعينه أولم يسم فإن قيل البدن الثاني ليس هو الأول لما ورد في الحديث من أن أهل الجنة جرد مرد وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد فيلزم التناسخ وهو تعلق روح الإنسان ببدن إنسان آخر وهو باطل قلنا إنما يلزم التناسخ إن لو لم يكن البدن الثاني مخلوقاً من الأجزاء الأصلية للبدن الأول يقول الفقير : البدن معاد على الأجزاء الأصلية وعلى بعض الفضلة أيضاً وهو العجب المذكور فكأنه البدن الأول فلا يلزم التناسخ جداً والتغاير في الوصف لا يوجب التغايئر في الذات فقد ثبت أن الخضر عليه السلام يصير شاباً على كل مائة سنة وعشرين سنة مع أن البدن هو البدن الأول وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس إذا مرت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة واختلف القائلون بحشر الأجسام فمنهم من ذهب إلى أن الإعادة تكون في الناس مثل ما بداهم بنكاح وتناسل وابتداء بخلق من طين ونفخ كما جرى من خلق آدم وحواء وخلق البنين من نسل ونكاح إلى آخر مولود في العالم البشرى كل ذلك في مدة قصيرة على حسب ما يقدره الحق تعالى وإليه ذهب الشيخ أبو القاسم بن قسي في كتاب خلع النعلين له في قوله تعالى كما بدأكم تعودون ومنهم من قال وهو القول الأصح بالخبر المروي أن السماء تمطر مطراً شبه المني فينشأ منه النشأة الآخرة كما أن النشأة الدنيا من نقطة تنزل من بحر الحياة إلى أصلاب الآباء ومنها إلى أرحام الأمهات فيتكون من قطر بحر الحياة تلك النقطة جسد في الرحم
104
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/84)
وقد علمنا أن النشأة الأول أوجدها الله تعالى على غير مثال سبق وركبها في أي صورة شاء وهكذا النشأة الآخرة يوجدها الحق على غير مثال سبق مع كونها محسوسة بلا شك فينشىء الله النشأة الآخرة على عجب ألذنب الذي بيقى من هذه النشأة الدنيا وهو أصلها فعليه تتركب النشأة الآخرة فقوله تعالى كما بدأكم تعودون راجع إلى عدم مثال سابق كما في النشأة الأولى مع كونها محسوسة بلا شك إذ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من صفة نشأة أهل الجنة والنار ما يخالف هذه النشأة الدنيا وقوله وهو أهون عليه : لا يقدح فيما قلنا لأن البدء إن كان عن اختراع فكر وتدبير كانت إعادته إلى أن يخلق خلقاً آخر مما يقارب ذلك ويزيد عليه أقرب إلى الاختراع في حق من يستفيد الأمور بفكرة والله متعال عن ذلك علواً كبيراً فهو الذي يفيد العالم ولا يستفيد ولا يتجدد له علم بشيء بل هو عالم بتفاصيل ما لا يتناهى بعلم كلي فعلم التفصيل في عين الإجمال وهكذا ينبغي لجلاله أن يكون قال أبو حامد الغزالي رحمه الله أن العجب المذكور في الخبر والنفس وعليها ينشأ النشأة الآخرة أي كلما يتكون شجر كثير الأصول والأغصان من الحبة الصغيرة في الطين كذلك جسد الإنسان من حبة العجب الذي لا يقبل البلى فعبر عنه الإمام بالنفس لأنه مادتها وعنصرها هكذا أوله البعض وقال غيره مثل أبي يزيد الرقراقي المراد من العجب جوهر فرد وجزء واحد لا يقبل القسمة والبلى فيه قوة القابلية الهيولانية بل هو صورة هيولي النفس الحيوانية الحاملة لاجزاء العناصر التي في الهيكل المحسوس فيبقيه الخالق ويعصمه من التغير والبلى في عالم الكون والفساد بل خلقه من أول خلق النشأة الدنيوية إلى الأبدان الجنانية وعليه مدار الهيكل يبقى من هذه النشأة الدنيا لا يتغير وعليه ينشأ النشأة الآخرة وكل ذلك محتمل لا يقدح في شيء من الأصول الشرعية في الأحكام الأخروية وتوجيهات معقولة يحتمل أن يكون كل منها مقصود الشارع بقوله عجب الذنب وقال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر والذي وقع لي به الكشف الذي لا أشك فيه أن المراد بعجب الذنب هو ما يقوم عليه النشأة ونو لا يبلى أي لا يقبل البلى والفناء فإن الجواهر والذوات الخارجة إلى الوجود من العدم لا تنعدم أعيانها ولكن تختلف عليها الصور الشهادية والبرزخية بالامتزاجات التي هي أعراض تعرض لها بتقدير العزيز العليم فإذا تهيأت هذه الصور بالاستعداد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش بالنارية التي هي فيه لقبول الاشتعال والصور البرزخية كالسرج مشتعلة بالأرواح التي فيها فينفخ اسرافيل نفخة واحدة فتمر تلك النفخة على تلك الصور البرزخية فتطفئها وتمر النفخة التي تليها وهي الأخرى إلى الصور المستعدة للاشتعال وهي النشأة الأخرى فتشعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون نسأل الله تعالى أن يبعثنا آمنين بجاه النبي الأمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ} بالغ في الحفظ لتفاصيل الأشياء كلها أو محفوظ من التغير والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} اضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة
105
بالمعجزات الباهرة فالأفظعية لكون الثاني تكذيباً للأمر الثابت من غير تدبر بخلاف الأول فإنه تعجب {لَمَّا جَآءَهُمْ} من غير تأمل وتفكر تقليداً للآباء وبعد التأمل تمرداً وعناداً وجاء بكلمة التوقع إشعاراً بأنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه الشاهد على حقيقته فكذبوا به بغياً وحسداً {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} من مرج الخاتم في أصبعه إذا جرج بالجيمين كفرح أي قلق وجال واضطرب من سعته بسبب الهزال أي في أمر مضطرب لإقرار له من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم فلا يهتدون إلى الحق ولذا يقولون تارة إنه شاعر وتارة ساحر وأخرى كاهن ومرة مفتر لا يثبتون على شيء واحد وهذا اضطرابهم في شأن النبي عليه السلام صريحاً وبتضمن اضطرابهم في شأن القرآن أيضاً فإن نسبتهم إياه إلى الشعر ونحوه إنما هي بسببه واعلم أن الاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على البطلان كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقيقة فإن الحسن ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم وعن علي رضي الله عنه قال له يهودي ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فقال إنما اختلفنا عنه لا فيه ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وسئل بزرجمهر الحكيم : كيف اضطربت أمور آل ساسان وفيهم مثلك؟ قال : استعانوا بأصاغر العمال على أكابر الأعمال فآل أمرهم إلى ما آل.
كما قال الشيخ سعدي :
ندم اكر بشنوى اى ادشاه
درهمه دفتر به ازين ند نيست
جز بخر مند مفر ما عمل
كره عمل كار خردمند نيست
(9/85)
واضطربوا في حق الحلاج رضي الله عنه وكذبوا بالحق فافتوا بالقتل فمرج أمرهم حيث أحرفت دار الوزير وقتل ثم دار الأمر على الخليفة ففعل به ما فعل واضطربوا في شأن سلطان العلماء والد المولى جلال الدين الرومي فنفوه من بلخ ثم نفاهم الله من الأرض وأوقعهم في ويل طويل من تسلط عدو مستأصل وكان فيهم صاحب التفسير الكبير فاختلفى لكنه ظهر أمر الله عليه أيضاً وما نفع الاختفاء وفيه يقول المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
درنان ننكى وانكه اين عجب
فخر دين خواهد كه كويندش لقب
واضطربوا في شأن الرسول عليه السلام حتى قتلهم الله تعالى وجعل مكة خالصة للمؤمنين {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} أي أغفلوا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث {إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ} بحيث يشاهدونها كل وقت أي إلى آثار قدرة الله في خلق العالم وإيجاده من العدم إلى الوجود وفوقهم ظرف لينظروا أو حال من السماء {كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا} أي رفعناها بغير عمد {وَزَيَّنَّـاهَا} بما فيها من الكواكب المرتبة على نظام بديع {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} من فتوق لملاستها وسلامتها من كل عيب وخلل كما قال : هل ترى من فطور وهذا لا ينفي وجود الأبواب والمصاعد فإنها ليست من قبيل العيب والخلل ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل والفروج جمع فرج وهو الشق بين الشيئين كفرجه الحائط والفرج ما بين الرجلين وكنى به عن السوئة وكثر حتى صار كالصريح فيه واستعير الفرج للثغر وكل مخافة وسمي القباء المشقوق
106
فروجاً ولبس رسول الله عليه السلام فروجاً من حرير ثم نزعه {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} أي بسطناها وفرشناها على وجه الماء مسيرة خمسمائة عام من تحت الكعبة وهذا دليل على أن الأرض مبسوطة وليست على شكل الكرة كما في كشف الأسرار وفيه أنه لا منافاة بين بساطتها وكريتها لسعتها كما عرف في محله {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت أرسيت بها الأرض إذ لو لم تكن لكانت مضطربة مائلة إلى الجهات المختلفة كما كانت قبل إذ روى أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت من رسا الشيء أي ثبت والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن القاءها لإرساء ارض بها وفيه إشارة إلى رجال الله فإنهم أوتاد الأرض والعمد المعنوي للسماء فإذا انقرضوا ولم يوجد في الأرض من يقول الله الله فسدت السموات والأرض {وَأَنابَتْنَا} وأخرجنا {فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج} صنف وقوله أزواجاً من نبات شتى أي أنواعاً متشابهة {بَهِيجٍ} حسن طيب من الثمار والنباتات والأشجار كما قال في موضع آخر ذات بهجة أي يبتهج به لحسنة أي يسر والبهجة حسن اللون وظهور السرور فيه وابتهج بكذا أي سر به سروراً بأن أثره على وجهه كما في المفردات
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} علتان للأفعال المذكورة معنى على التنازع وإن انتصبتا عن الفعل الأخير أو بفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيراً وتذكيراً.
يعني از براى بينايى يعني بنظر اعتبار واستدلال نكرستن واز براى ياد كردن وندكر فتن ويجوز أن يكونا نصبا على المصدرية من فعلهما المقدر أي نبصرهم ونذكرهم {لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنائعه وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى مقام التبصرة والذكرى إنما هو بالعبودية والإنابة التي هي مبنى الطريقة وأساسها قال بعضهم : التبصرة معرفة منن الله عليه والذكرى عدها على نفسه في كل حال ليشتغل بالشكر فيما عومل به عن النظر إلى شيء من معاملته.
كفته اند تبصرة وذكرى دونام اند شريعت وحقيقت را تبصره حقيقت است وذكرى شريعت بواسطه وحقيقت بمكاشفه شريعت خدمت است بر شريطه وحقيقت غربت است بر مشاهده شريعت بى يدي است وحقيقت في خورى اهل شريعت فريضه كزاران ومعصيت كدازان أهل حقيقت از خويشت كريزان وبيكى تازان قبله اهل شريعت كعبه است قبله أهل حقيقت فوق العرش ميدان حساب أهل شريعت موقف است وميدان حساب أهل حقيقت حضرة سلطان ثمره اهل شريعت بهشت ثمره اهل حقيقت لقا ورضاى رحمن.
فعلى العاقل أن يتبصر بالذكر الحكيم ويتفكر في صنعه العظيم ويوحده توحيداً يليق بجنابه الكريم وينيب إليه إنابة لا رجوع بعدها إلى يوم مقيم.
نقلست كه يرى يش شقيق بالخى رحمه الله آمد وكفت كناه بسياردارم وميخوا هم كه توبه بكنم وى كفت دير آمدى بر كفت زود آمدم كفتارا كفت از بهر آنكع هركه يش ازمرك بيايد بتوبه زود امده باشد شقيق كفت نيك آمدى ونيك كفتى :
بارهاى خويش رايزى سبك كردان كه نيست
تنكناى مرك را كنجايى اين بارها
107
وقال الشيخ سعدى :
بياتا بر آريم دستى زدل
كه نتوان بر آورد فردا زكل
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/86)
أيقظنا الله تعالى وإياكم من نوم الغفلة {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا} أي كثير النافع حياة الاناسي والدواب والأرض الميتة وفي كشف الأسرار مطراً يثبت في أجزاء الأرض فينبع طول السنة {فَأَنابَتْنَا بِهِ} أي بذلك الماء {جَنَّـاتٍ} كثيرة أي أشجاراً ذوات ثمار فذكر لمحل وأراد الحال كما قال فأخرجنا به ثمرات وبالفارسية بوستانها مشتمل بر اشجار وأثمار {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} من حذف الموصوف للعلم به على ما هو اختيار البصريين في باب مسجد الجامع لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه وأصل الحصيد قطع الزرع والحصيد بمعنى المحدود وهو هنا مجاز باعتبار الأول والمعنى وحب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما مما يقتات به وتخصيص انبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات {وَالنَّخْلَ} عطف على جنات وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار وقد سبق بعض أوصافها في الصورة يس وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل {بَاسِقَـاتٍ} طوالا في السماء عجيبة الخلق وهو حال مقدرة فإنها وقت الانبات لم تكن طوالا يقال بسقت الشجرة بسوقا إذا طالت وفي المفردات الباسق هو الذاهب طولا من جهة الانقطاع ومنه بسق فلان على أصحابه علاهم ويجوز أن يكون معنى باسقات حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من باب أفعل فهو فاعل {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أي منضود بعضه فوق بعض والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر والجملة حال من النخل يقال نضدت المتاع بعضه على بعض ألقيته فهو منضود ومنضد والمنضد السرير الذي ينضد عليه المتاع ومنه استعير طلع نضيد كما في المفردات والنضد والتنضيد وبالفارسية برهم نهادن.
والطلع شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود والطرف محدد أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها وقشره يسمى الكفرى بضم الكاف والفاء معاً وتشديد الراء وما في داخله الاغريض لبياضه كما في القاموس قال في بحر العلوم : الطلع ما يطلع من النخلة وهو لكم قبل أن يشق ويقال لما يظهر منا لكم طلع أيضاً وهو شيء أبيض يشبه بلونه الأسنان وبرائحته المنى {رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ} أي لرزقهم علة لقوله تعالى فأنبتنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكرة تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أهم وأقدم من تمتعه به من حيث الرزق :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
خوردن براى زيستن وذكر كردنست
تو معتقدكه زيستن از بهر خوردنست
يقول الفقير المقصود من الآية الأولى هو الاستدلال على القدرة بأعظم الأجرام كما دل عليه النظر وذكر الانبات فيها بطريق التبع فناسب التعليل بالتبصرة والتذكير ومن الثانية بيان الانتفاع بمنافع تلك الأجرام فناسب التعليل بالرزق ولذا أخرت عن أولى لأن منافع الشيء مترتبة على خلفه قال أبو عبيدة : نخل الجنة نضيد ما بين أصلها إلى فرعها بخلاف نخل الدنيا فإن ثمارها رؤوسها كلما نزعت رطبة عادت ألين من الزبد وأحلى من العسل فنخل الدنيا تذكير لنخل
108
الجنة وفي كل منهما رزق للعباد كما قال تعالى : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتًا} تذكير ميتا باعتبار البلد والمكان أي أرضا جدبة لانماء فيها أصلاً بأن جعلنا بحيث ربت وأنبتت أنواع النبات والأزهار فصارت تهتز بها بعدما كانت جامدة هامدة.
ـ روي ـ أبو هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا جاءهم المطر فسالت الميازيب قال لا محل عليكم العام أي لا جدب.
يعني تنكى نيست بر شما امسال {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} جملة قدم فيها الخبر للقصد الى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الأحياء إلى مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا شيء مخالف لها وقد روي أن الله يمطر السماء أربعين ليلة كمني الرجال يدخل في الأرض فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم ثم يحييهم ويخرجهم من تحت الأرض وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء عن حياة الموتى بالخروج تفخيم لشأن الانبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس.
قال الكاشفي : واكر كسى تأمل كند در احياى دانه ما نند مرده درخاك مدفونست وظهور او بعد ازخفا دور نيست كه بشمه از حيات اموات ى نواند برد :
كدام دانه فروشدكه برنيا مدباز
رابدانه انسانيت كمان باشد
فروشدن وبديدى بر آمدن بنكر
غروب شمس وقمر رارا زيان باشد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 12 من صفحة 109 حتى صفحة 118
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/87)
وفي الآية إشارة إلى تنزيل ماء الفيض الإلهي من سماء الأرواح فإن الله ينبت به حبات القلوب وحب المحبة المحصود به محبة ما سوى الله من القلوب وشجرة التوحيد لها طلع نضيد من أنواع المعارف رزقاً للعباد الذي يبيتون عند ربهم يطعمهم ويسقيهم ويحيي بذلك الفيض بلدة القلب الميت من نور الله كما قال أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نور الآية كذلك الخروج من ظلمات الوجود إلى نور واجب الوجود فافهم جدا {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي قبل أهل مكة {قَوْمُ نُوحٍ} قوم نوح كه بني شيت وبني قابيل بودند تكذيب كردند مر نوح {وَأَصْحَـابُ الرَّسِّ} قبل كانت الرس بئراً بعدن لامة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عدل حسن السيرة يقال له العنيس كزبير وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك لأنها كانت بكرات كثيرة منصوبة عليها جمع بكرة بالفتح وهي خشبة مستديرة في وسطها محز يستقى عليها ورجال كثيرون موكلون بها وأبازن بالزاي والنون من رخام وهي تشبه الحياص كثيرة تملأ للناس قال في القاموس إلا بزن مثلثة الأول حوض يغتسل فيه وقد يتخذ من نحاس معرب آب زن انتهى وآخر للدواب وآخر للبقر والغنم والهوام يستقون عليها بالليل والنهار يتداولون ولم يكن لهم ماء غيره فطال عمر الملك فلما جاءه الموت طلى بدهن لتبقى صورته ولا تتغير وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم فلما مات شق ذلك عنهم ورأوا أن أمرهم قد فسد وضبحوا جميعاً بالبكاء واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة فكلمهم وقال : إني لم أمت ولكني قد تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي ففرحوا أشد الفرح وأمر لخاصته أن يضربوا حجاباً بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته فنصبوه صنماً
109
من وراء حجاب لا يأكل ولا يشرب وأخبرهم أنه لا يموت أبداً وأنه اله لهم وذلك كله ويتكلم به الشيطان على لسانه فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق فكلما تكلم بأصح منهم زجر وقهر فاتفقوا على عبادته فبعث الله لهم نبياً كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة وكان اسمه حنظلة ابن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له وأن الشيطان فيه وقد أضلهم الله وأن الله تعالى لا يتمثل بالخلق وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكاًوأوعدهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته فآذوه وعادوه وهو يتعدهم بالموعظة والنصيحة حتى قتلوه وطرحوه في بئر وعند ذلك حلت عليهم النقمة فباتوا أشباعي رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها وهو بالكسر الحبل فصاحوا بأجمعهم وضبح النساء والولدان وضبحت البهائم عطشا حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك وخلفهم في أرضهم السباع وفي منازلهم الثعالب والضباع وتبدلت لهم جناتهم وأموالهم بالسدر والشوك شوك العضاة والقتاد الأول بالكسر أم غيلان أو نحوه والثاني كسحاب شجر صلب شوكه كالابر فلا تسمع فيها إلا عزيف الجن أي صوتهم وهو جرس يسمع في المفاوز بالليل والازئير الاسد أي صوته من الصدر نعوذ بالله من سطواته ومن الاصرار على ما يوجب نقماته كذا في التكملة نقلاً عن تفسير المقرى وقيل الرس بئر قرب اليمامة أو بئر بأذربيجان او واد كما قال الشاعر فهن لوادي الرس كاليد للفهم.
وقد سبق بعض الكلام عليه في سورة الفرقان فارجع
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/88)
{وَثَمُودُ} وقوم ثمود صالح راو هو ثمود بن عاد وهو عاد الآخرة وعاد هو عاد ارم وهو عاد الأولى {وَعَادٌ} وقوم عاد هودرا {وَفِرْعَوْنُ} وفرعون موسى را وهرون را والمراد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده من الجماعة {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} يعني اصهار او مراورا والصهر زوج بنت الرجل وزوج اخته وقيل اخوانه قومه لاشتراكهم في النسب لا في الدين قال عطاء ما من أحد من الأننبياء إلا ويقوم معه قومه إلا لوطاً عليه السلام يقوم وحده {وَأَصْحَـابُ الايْكَةِ} هم من بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين وكانوا يسكنون أيكة أي غيضة تنبت السدر والاتراك وقد مر في سورة الحجر {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} الخميري ملك اليمن وقد سبق شرح حالهم في سورة الدخان {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الاقوام المذكورين كذبوا رسلهم وكذب جميعهم جميع الرسل بالمعنى المذكور وافراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لانفاقهم على التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للك وهذا على تقدير رسالة تبع ظاهر وإما على تقدير عدمها وهو الأظهر فمعنى تكذيب قومه الرسل تكذيبهم لمن قبلهم من الرسل المجمعين على التوحيد والبعث إلى ذلك كان يدعوهم تبع {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب والوعيد يستعمل في الشر خاصة بخلاف الوعد فإنه يكون في الخير والشر وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يعني لا تحزن بتكذيب الكفار إياك لأنك لست بأول نبي كذب وكل أمة كذبت رسولها واصبر على أذاهم كما صبروا تظفر بالمراد كما ظفروا وتهديد لأهل مكة يعني احذروا
110
يا أهل مكة من مثل عذاب الأمم الخالي فلا تكذبوا رسول الله فإن الاشتراك في العمل يوجب الاشتراك في الجزاء.
واعلم أن عموم أهل كل زمان الغالب عليهم الهوى والطبيعة الحيواني فهم أهل الحس لا أهل العقل ونفوسهم متمردة بعيدة عن الحق قريبة إلى الباطل كلما جاء إليهم رسول كذبوه وعلى ما جاء به قاتلوه فحق عليهم عذاب ربهم بما كفروا بأنعم الله فما أعباه إهلاكهم وفيه تسلية للأولياء أيضاً من طريق الإشارة وتهديد لأهل الإنكار ولعمري إنهم في أيديهم كالأنبياء في أيدي الكفار ولكن الصبر مفتاح الفرج فكما أن الكفار مسخوا وخسفوا وأخذوا بأنواع النكال فكذا أهل الإنكار مسخ الله بواطنهم وخسف بهم الأرض يعني أرض البشرية الكثيفة الظلمانية وأخذوا بأصناف الخذلان وهم لا يدرون أنهم كذلك بل يحسبون أنهم ناجون من كل المهالك لزيادة عماهم وحيرتهم نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المصدقين ويثبتنا على طريق أهل اليقين ويفيض علينا من بركاتهم ويشرفنا بآثار حركاتهم {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ} العي بالأمر العجز عنه يقال عي بالأمر وعيى به إذا لم يهتد لوجه عمله وقد مر في قوله ولم يعي بخلقهن والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل اقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الخلق الثاني وهو الإعادة وبالفارسية أياماً عاجز شده ايم ورنج يافته بآفرينش اول خلق تافرومانيم از آفرينش ثاني.
وفي عين المعاني الخلق الأول آدم عليه السلام وهم يقرون به.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي التأويلات النجمية أفاغتاص علينا فعل شيء حتى نعيى بالبعث أو يشق علينا البعث أي ليس كذلك {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} يقال جددت الثوب إذا قطعته على وجه الإصلاح وثوب جديد أصله المقطوع ثم جعل لكل ما أحدث إنشاؤه وخلق جديد إشارة إلى النشأة الثانية وقوبل الجديد بالخلق لما كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثواب ومنه قيل لليل والنهار الجديدان والأجدان كما في المفردات والجملة عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة إذ لم تجر العادة بالإعادة في هذه الدار وهذا قياس فاسد كما لا يخفى.
قال الكاشفي : مشركان مكه معترف بودند بانكه حق تعالى مبدع خلق است در اول س ما يدكه كسى كه قادر بودبر آفرنش جمعى بي ماده ومددى راتوا ناتوا نانبود بر اعاده ايشان بجمع مواد ورد حيات بآن وبي شبهه ما بران قوت داريم بلكه كافران درشك وشبهه اند بسبب وساوس شيطاني از آفريدن نويعنى بعث وحشره آنرا مخالف عادت مى بينند.
وتنكير خلق لتفخيم شأنه والإشعاد بخروجه عن حدود العادات أو الإيذان بأنه حقيق بأن يبعث عنه ويهتم بمعرفته ولا يقعد على لبس.
(9/89)
واعلم أن هذا الخلق الجديد حاصل في الدنيا أيضاً سواء كان في الاعراض أو في الأجسام وهو مذهب الصوفية ومذهب المتكلمين فإنهم جوزوا انتفاء الأجسام في كل آن ومشاهدة بقائها بتجدد الأمثال أي الأجسام الأخر كما جوزوا انتفاء الاعراض في كل آن ومشاهدة بقائها بتجده الأمثال أي الأعراض الأخرى كما أنه جائز في الأعراض التي هي غير قائمة بذواتها كذلك جائز في الجواهر
111
التي هي قائمة بذواتها وفي هذا المعنى.
قال في المثنوي :
صورت از معنى و شيراز يشه دان
ياوآ واز وسخن زانديشه دان
اين سخن وآزازاو ازاوا نديشه خواست
توندانى بحر انديشه كجاست
ليك ون موج سخن ديدى لطيف
بحرآن دانى كه باشدهم شريف
ون زدانش موج انديشه بتاخت
از سخن وآوازاو صورت بساحت
از سخن صورت بزاد وبازمرد
موج خودرا باراندر بحر برد
صورت از بى صورتى آمد برون
بازشدكه انا اليه راجعون
س ترا هر لحظه مرك ورجتيست
مصطفى فرمود دنيا ساعتيست
فكر ماتيريست ازهودر هوا
درهواكى ايه آيد تاخدا
هر نفس نومى شود دنيا وما
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
بى خبر ازنوشدن اندربقا
عمر همون جوى نوتوميرسد
مستمرى مى نمايد درجسد
آن زتيزى مستمر شكل آمدست
ون شرركش تيز نبانى بدست
شاخ آتش را بنبانى بساز
درنظر آتش نما يدس دراز
اين درازى مدت ازتيزى صنع
مى نمايد سرعت انكيزى صنع
قال الإمام الشعراني رضي الله عنه في كتاب الجواهر تقليب العالم واقع في كل نفس من حال إلى حال فلا يثبت على حالة واحدة زمانا فردا لكن التغيير إنما يقع في الصفات لا في الأعيان فلم يزل الحق تعالى خلاقاً على الدوام انتهى ومنه يعرف طواف الكعبة ببعض الرجال واستقبالها لهم كما وقع ذلك لرابعة العدوية رضي الله عنها وغيرها وحقيقة هذا المقام لا تتضح إلا بالكشف التام ومن الله الملك العلام الفيض والإلهام {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُهُ} أي ما تحدث به نفسه وهو ما يخطر بالبال والوسوسة الصوت الخفي والخطرة الرديئة ومنه وساوس الحلى وبالفارسية وميدانيم آن يزى راكه وسوسه ميكندمر اورابدان نفس اوار انديشهاى بد.
والضمير لما أن جعلت موصولة والباء كما في صوت بكذا وهمس به يعني أنها صلة أو للإنسان إن جعلت مصدرية والباء للتعدية أي ما تجعله موسوساً فإن النفس تجعل الإنسان قائماً به الوسوسة قال في الكشاف ما مصدرية لأنهم يقولون حدث نفسه بكذا كما يقولون حدثته به نفسه وفيه إشارة إلى أن الله تعالى كما يعلم حال الإنسان قبل خلقه علماً ثبوتياً كذلك يعلمه بعد خلقه علماً فعلياً فيه ما توسوس به نفسه فإنه مخلوق الله أيضاً لا يخفى عليه مخلوقه مطلقاً ودخل فيما توسوس به نفسه شهواته المطلوب لاستيفاؤها وسوء خلقه واعتقاده الفاسد وغير ذلك من أوصاف النفس توسوس بذلك لتشوش عليه قلبه ووقته وفيه دخل آدم عليه السلام فإن الله تعالى خلقه وعلم ما وسوست به نفسه في أكل الشجرة وذلك بإلقاء الشيطان قال بعض الكبار ليس للشيطان على باطن الأنبياء من سبيل فخواطرهم لا حظ للشيطان فيها فهو يأتيهم في ظاهر الحس فقط ولا يعملون بما يقول لهم ثم إن من الأولياء من يحفظ من الشيطان في علم الله تعالى فيكون بهذه المثابة في العصمة مما يلقى لا في العصمة من وصول ذلك إلى قلبه لأن الأولياء ليسوا بمشرعين بخلاف الأنبياء عصمت بواطنهم لكونهم
112
أصحاب الشرائع قال بعض الكبار ما في شخص من بني آدم إلا ويخطر له كل يوم سبعون ألف خاطر لا تزيد ولا تنقص عدد الملائكة الذي يدخلون البيت المعمور كل يوم فما من شخص إلا ويخلق من خواطره كل يوم سبعون ألف ملك ثم يرتفعون إلى جهة البيت المعمور فإذا خرج السبعون ألفاً من البيت المعمور كل يوم يجتمعون بالملائكة المخلوقين من الخواطر فيكون ذكرهم استغفاراً لأصحابهم إلى يوم القيامة ولكن من كان قلبه معموراً بذكر الله دائماً فالملائكة المخلوقون من خواطره يمتازون عن الملائكة الذين خلقوا من خواطر قلب ليس له هذا المقام وسواء كان الخاطر فيما ينبغي أو فيما لا ينبغي فالقلوب كلها من هذا البيت المعمور خلقت فلا تزال معمورة دائماً وكل ملك يتكون من الخاطر يكون صورة صالحة في علم الله لما نظر وإن كان هو في نفسه ملكاً سبح وقد لا يعلم ما خطر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي إلى الإنسان {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ازرك جان وى بوى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/90)
أي اعلم بحاله ممن كان اقرب إليه من حبل الوريد وعبر عن قرب العلم بقرب الذات تجوزاً لأنه موجب له فاطلق الملزوم على اللازم وحبل الوريد مثل في فرط القرب كقولهم هو مني بمقعد الإزار والحبل العرق شبه بواحد من الحبال من حيث الهيئة وإضافته بيانية وجوز الزمخشري كونها بمعنى اللام ويجوز أن تكون كإضافة لجين الماء على أن يكون الحبل على حقيقته والوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين وهو عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه يردان من الرأس إليه فالوريد بمعنى الوارد وقيل سمي وريداً لأن الروح الحيواني يرده فالوريد حينئذ بمعنى المورود وفي المفردات الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد أي من روحه انتهى.
ما وردى فرموده كه حبل الوريد ركيست متصل بدل وعلم خداى تعالى ببنده نزديكتر نيست ازعلم دل وى.
وفي التأويلات النجمية حبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه يشير به إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد فكما أنه كل وقت يطلب نفسه يجدها لأنها قريب منه فكذلك كل وقت يطلب ربه يجده لأنه قريب منه كما قال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب وفي الزبور ألا من طلبني وجدني :
نحن أقرب كفت من حبل الوريد
توبكندى بئر فكرت را بعيد
أي كمان تيرها رساخته
صيد نزديك وتودور انداخته
وقال الشيخ سعدي :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين عجبتركه من ازوى دورم
كنم باكه توان كفت كه او
دركنار من ومن مهجورم
قال بعض الكبار : شدة القرب حجاب كما أن غاية البعد حجاب وإذا كان الحق أقرب إلينا من حبل الوريد فأين السبعون ألف حجاب التي بيننا وبينه فتأمل وقال البقلى ولو يرى الإنسان نفسه لرأى هو أن نفسه ألا ترى كيف أخبر عن كمال قربه بنعت الاتحاد بقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ولذلك قال عليه السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربه إذ لا نفس إلا هوان فهمت ما قلت وإلا فاعلم أن الفعل قائم بالصفة والصفة قائمة بالذات فمن
113
حيث عين الجمع ما هو إلا هو ولا تظن الحلول فإنه بذاته وصفاته منزه عن أن يكون له محل في الحوادث هذا رمز العاشقين ألا ترى إلى قول المجنون :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وقال الواسطي : أي نحن أولى به وأحق أنا جمعناه بعد الافتراق وأنشأناه بعد العدم ونفخنا في الروح فالأقرب إليه من هو أعلم به منه بنفسه وقال أيضاً بي عرفت روحك بي عرفت نفسك كل ذلك لإظهار النعوت على قدر طاقة الخلق فأما الحقيقة فلا يتحملها العبد سماعاً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وقال الكاشفي : وببايد دانست كه قرب حق تعالى بى ون وكونه باشد أي عزيز كيفيت قرب جانراكه يوسته است بتن درنمى توان يافت قرب حق راكه يوسته از كيفيت مقدس ومنزه است كونه ادراك توان كرد وهمين در مثنوى معنوي مذكوراست :
قرب بيونست جانترابتو
قرب حق داون بدانى اي عمو
قرب نى بالاوستي رفتن است
قرب حق ازحبس هستى رستن است
دركشف الاسرار آورده كه قرب حق بحق آنست كه فرمود واسجد واقترب ودر احاديث قدسية واردست كه لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل وأين قرب أول بايمانست وتصديق وآخر باحسانست وتحقيق يعني مقام مشاهده كه أن تعبد الله كأنك تراه وقرب حق تعالى مر بنده را دوقسمست يكى كافه خلق رابعلم وقدرت كقوله وهو معكم أينما كنتم ديكر خواص دوكاه را بخصائص برو شواهد لطف كه ونحن أقرب إليه أول اورا قربتي دهد غيبى تا ازجهانش برها ندس قرب بحد حقيقى تا ازآب وكلش باز برداز هستى موهوم بنده مى كاهد وازنيستى اصلى زياده ظهور ميكند تانانه در اول خود بود درآخر خود باشد انجا علايق مرتفع كردد واسباب منقطع ورسوم باطل وحدود متلاشى وإشارات متناهى وعبارات منتهفي وخبر منمحق وحق يكتا بخود باقى والله خير وأبقى :
رأيت حبي بعين قلبي
فقال من أنت قلت أنتا
أنا الذي جزت كل حد
بمحو أينى فأين انتا
أنا الذي جزت كل حد
بمحو أينى فأين انتا
موج بحر لمن الملك برايد نا كاه
غرقه كردند دران بحره درويش وه شاه
خرمن هستى موهوم نان سوزاند
آتش عشق كه نه دانه بماند نه كاه
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قال ابو يزيد البسطامي قدس سره انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فإذا أنا هو أي إن من انسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها فلا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له هم سوى الله تعالى وإذا لم يحل في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقاً يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقاً وفرق بين قولنا كأنه هو وبين قولنا هو هو لكن قد يعبر بهو هو عن قولنا كأنه هو كما يقال زيد أسد في مقام التشبيه مبالغة في الشجاعة فإن قلت ما معنى السلوك وما معنى الوصول قلت معنى السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد في جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه إلا أنه مشتغل
114
(9/91)
بتصفية باطنه ليستعد للوصول وإنما الوصول هو أن ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقاً به فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همه فلا هم له سواه فيكون كله مشغولاً بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة وباطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البدائة وإنما النهاية أن ينسلخ عن نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول كما في شرح الأسماء الحسنى للإمام الغزالي رحمه الله {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} منصوب باذكر وهو أولى لبقاء قوله ونحن الخ على إطلاقه أو بما في أقرب من معنى الفعل والتلقي الأخذ والتلقن بالحفظ والكتابة والمعنى أنه لطيف يتوصل علمه ءلى ما لا شيء أخفى منه وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين يتلقى ويتلقن ويأخذ الحفيظان أي الملكان الموكلان بالإنسان ما يتلفظ به وفيه أي على الوجه الثاني إيذان بأنه تعالى غني عن استحفاظهما لإحاطة علمه بما يخفى عليهما وإنما ذلك لما في كتبهما وحفظهما لأعمال العبد وعرض صحائفهما يوم يقوم الإشهاد وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله خبراً من زيادة اللطف له في الكف عن السيئات والرغبة في الحسنات وعنه عليه السلام أن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعينك لا تستحي من الله ولا منهما وقد جوز أن يكون تلقي الملكين بياناً للقرب على معنى أنا أقرب إليه مطلعون على أعماله لأن حفظتنا وكتبتنا موكلون به {عَنِ الْيَمِينِ} هو أشرف الجوارح وفيه القوة التامة {وَعَنِ الشِّمَالِ} هو مقابل اليمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{قَعِيدٌ} أي عن جانب اليمين قعيد أي مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظاً ومعنى فحذف الأول لدلالة لا الثاني عليه وقيل يطلق الفعيل على الواحد والمعتدد كما في قوله والملائكة بعد ذلك ظهير {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} ما يرمى به من فيه من خير أو شر والقول أعم من الكلمة والكلام {إِلا لَدَيْهِ} مكر نزديك أو {رَقِيبٌ} ملك يرقب قوله ذلك ويكتبه فإن كان خيراً فهو صاحب فاليمين بعينه وإلا فهو صاحب الشمال {عَتِيدٌ} ءلى معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر فهو حاضر أينما كان وبالفارسية رقيب نكهباني وديده بانى بود عتيد آماده في الحال نويسد.
والافراد حيث لم يقل رقيبان عتيدان مع وقوفهما معاً على ما صدر عنه لما أن كلاً منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض إلى صاحبه كما ينبىء عنه قوله تعالى عتيد وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقيل يكتبان كل شيء حتى أتيته في مرضه وقيل إنما يكتبان ما فيه أجر ووزر وهو الأظهر كما ينبىء عنه قوله عليه السلام كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمير أمين على كاتبالسيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر قيل إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعة لذاكره الكلام في الخلاء وعند قضاء الحاجة أشد كراهة لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام فإن سلم عليه في هذه الحالة قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : يرد السلام بقلبه لا بلسانه لئلا يلزم كتابة الملائكة
115
فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية وكذا يحمد الله بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء وكذا يكره الكلام عند الجماع وكذا الضحك في هذه الحالة فلا بد من حفظ اللسان وفي الحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه :
ابلهى از صرفه زر ميكنى
صرفه كفتار كن ار ميكنى
مصلحت تست زبان زيركام
تيغ سنديده بود درنيام
وفي الحديث أن ملائك الليل وملائكة النهار يصلون معكم العصر فتصعد ملائكة النهار وتمكث ملائكة الليل فإذا كان الفجر نزل ملائكة النهار ويصلون الصبح فتصعد ملائكة الليل وتمكث ملائكة النهار وما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً إلا قال الملائكة اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة كما في كشف الأسرار وفي الحديث نظفوا لثاتكم جمع لثة بالكسر وفتح الثاء المخففة وهي اللحمة التي فوق الأسنان ودون الأسنان وهي منابتها والعمور اللحمة القليلة بين السنين وأحدها عمر بفتح العين فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير منه النكهة وتتنكر الرائحة ويتأذى المكان لأنه طريق القرآن ومقعد الملكين عندنا بيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/92)
ـ وروي ـ في الخبر في قوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال عندنا بيه كما في تفسير القرطبي في سورة البقرة وفي الحديث نقوا براجمكم وهي مفاصل الأصابع والعقد التي على ظهرها يجتمع فيها من الوسخ واحدها برجمة بضمتي الباء والجيم وسكون الراء بينهما وهو ظهر عقدة كل مفصل فظهر العقدة يسمي برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة وجمعها رواجب وذلك مما يلي ظهرها وهو قصبة الأصابع فلكل أصبع برجمتان وثلاث راجب إلا الإبهام فإن له برجمة وراجبتين فأمر بتنقيته لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة والجنب لا تقر به ملائكة الرحمن إلى أن يتطهر وعن مجاهد قال : أبطأ جبريل عليه السلام على النبي عليه السلام ثم أتاه فقال له عليه السلام : ما حبسك يا جبريل قال : وكيف آتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ وما نتنزل إلا بأمر ربك كما في سفينة الأبرار وفي الخبر النبوي قال عليه السلام : نقوا أفواهكم بالخلال فإنها مجلس الملكين الكريمين الحافظين وإن مدادهما الريق وقلمهما اللسان وليس عليهما شيء أمر من بقايا الطعام بين الأسنان كما في أسئلة الحكم قال الإمام حجة الإسلام : أليس الله منع الجنب والمحدث عن الدخول إلى بيته ومس كتابه فقال عز من قائل : ولا جنبا إلا عابري سبيل وقال تعالى : لا يمسه إلا المطهرون مع أنهما أثر مباح فكيف بمن هو منغمس في قذر الحرام ونجاسة السحت والشبهة مع من يدعى إلى خدمة الله العزيز وذكره الشريف وصحبته الطاهرة سبحانه كلا لا يكون ذلك أبداً كما في الأسرار المحمدية إخواني فكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة فكيف تدابير الحرام إذا غير المسك الماء منع الوضوء به فكيف ولوغ الكلب كما في درياق الذنوب لأبي الفرج ابن الجوزي وفي الحديث أن الله ملكاً على بيت المقدس ينادي كل ليلة ألا كل من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل فالصرف النافلة والعدل
116
الفريضة كما في الأحياء وإطلاق الآية يدل على أن للكفار كتاباً وحفظة فإن قيل فالذي يكتب عن يمينه إذا أي شيء يكتب ولم يكن لهم حسنات يقال له الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون شاهداً على ذلك وإن لم يكتب كما في بستان العارفين وفائدة حضور صاحب اليمين احتمال الإيمان وهو اللائح بالبال وفي الحديث أن الله تبارك وتعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به يكتبان عمله قد مات فلان فتأذن لنا فنصعد إلى السماء فيقول الله تعالى يمائي مملوءة من ملائكتي يسبحون فيقولان فأين فيقول قوماً على قبر عبدي فكبراني وهللاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة قال بعض الكبار من أهل البرزخ : من يخلق الله تعالى من همتهم من يعمل في قبورهم بغالب أعمالهم في الدنيا ويكتب الله تعالى لعبده ثواب ذلك العمل إلى آخر البرزخ كما وقع لثبات المنائي قدس سره فإنهم وجدوا في قبره شخصاً في صورته يصلي فظنوا أنه هو وإنما هو مخلوق من همته وكذلك المثالات المتخلية في صور أهل البرازخ لأهل الدنيا في النوم واليقظة فإذا رؤي مثال أجدهم فهو إما ملك خلقه الله تعالى من همة ذلك الولي وإما مثال أقامه الله تعالى على صورته لتنفيذ ما شاء الله من حوائج الناس وغيرها فأرواح الأولياء في البرزخ مالها خروج منه أبداً وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فإنها مشرفة على وجود الدنيا والآخرة كما في كتاب الجواهر للشعراني ومن ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ضرب بعض الصحابة خبائه على قبر وهو لا يشعر أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك فأتى النبي عليه السلام فأخبره فقال عليه السلام : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر كما في حل الرموز.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
يقول الفقير بعض الآثار يدل على أن بعضا لأرواح يطوف في الأرض كالصديق والفاروق رضي الله عنهما كل إشارة إليه قوله عليه السلام : "إن لي وزيرين في الأرض : أبا بكر وعمر وأيضاً إن المهدي رضي الله عنه إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمل هذه الأمة وأيضاً قد اشتهر في الروايات خروج بعض الأرواح من القبور في بعض الأيام والليالي والشهور بإذن الملك الغفور إلا أن يأول كل ذلك والعلم عند الله تعالى".
(9/93)
وفي التأويلات النجمية يشير أن من لم يعرف قدر قربي إليه ويكون بعيداً مني بخصاله الذميمة وفعاله الردئية ولم أرض بأن أكون رقيبه أوكل عليه رقيقين ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد يكتب بقلم حركاته ومدادنيته على صحيفة قلبه فإن كانت حركاته شرعية ونيته صافية تجيىء كتابته نورانية وإن كانت حركاته طبيعية حيوانية ونيته هو آثية شهوانية تجيىء كتابته ظلمانية نفسانية فمن هنا تبيض وجوه وتسود وجوه وفيه أيضاً إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة المقربين ليحفظوه بالليل والنهار إذا كان قاعداً فواحد عن يمينه وواحد عن شماله وإذا نام فواحد عن رأسه وواحد عن قدمه وإذا كان ماشياً فواحد بين يديده وآخر خلفه ويقال هما اثنان بالليل لكل واحد واثنان بالنهار ويقال بل الذي يكتب الخيرات كل يوم آخران والذي يكتب الشر والزلة كل يوم هو الذي كان بالأمس ليكثر شهود الطاعة غداً وتقل شهود المعصية ويقال بل الذي يكتب المعصية كل يوم اثنان آخران لئلا يعلم
117
من مساويك إلا القليل منهم فيكون علم المعاصي متفرقاً فيهم انتهى {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} السكرة استعارة لشدة الموت وغمرته الذاهبة بالعقل إنما لم يجعل الموت استعارة بالكناية ثم إثبات السكرة له تخييلاً لأن المقام أدعى للاستعارة التحقيقية وعبر عن وقوعها بالماضي إيذاناً بتحققها وغاية اقترابها حتى كأنها قد أتت وحضرت كما قيل قد أتاكم الجيش إلى قرب إتيانه والباء إما للتعدية كما في قولك جاء الرسول بالخبر والمعنى حضرت سكرة الموت أي شدته التي تجعل الإنسان كالسكران بحيث تغشاه وتغلب على عقله حقيقة الأمر الذي نطق به كتاب الله ورسله أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته وإما للملابسة كالتي في قوله تعالى تنبت بالدهن أي ملتبسة بالحق أي بحقية الأمر أو بالحكمة والغاية الجميلة وقال بعضهم : أتت وحضرت بأمر الله الذي هو حق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
ـ وحكي ـ أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال : إني أحب الفتنة وأكره الحق وأشهد بما لم أره فحبسه عمر رضي الله عنه فبلغت قصته علياً رضي الله عنه فقال : يا عمر حبسته ظلماً فقال : كيف ذلك قال : لأنه يحب المال والولد قال تعالى : إنما أموالكم وأوردكم فتنة ويكره الموت وهو الحق قال تعالى : وجاءت سكرة الموت بالحق ويشهد بأن الله لواحد لم يره فقال عمر : لولا علي لهلك عمر {ذَالِكَ} أي يقال للميت بلسان الحال وإن لم يكن بلسان القال أو تقول ملائكة ذلك الموت يا إنسان {مَآ} موصولة أي الأمر الذي {كُنتَ} في الدنيا {مِنْهُ} متعلق بقوله : {تَحِيدُ} من حاد عنه يحيد حيداً إذا مال عنه أي تميل وتهرب منه وبالفارسية مى كريختى ومى ترسيدى واورا مكروه ميداشتى.
بل تحسب أنه لا ينزل عليك بسبب محبتك الحياة الدنيا كما في قوله أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال أي أقسمتم بألسنتكم بطراً وأشراً وجهلاً وسفهاً أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيداً وأملتم بعيداً ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة فكأنكم ظننتم أنكم مالكم من زوال مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية فالخطاب في الآية للإنسان المتقدم على طريق الالتفات فإن النفرة عن الموت شاملة لكل فرد من أفراده طبعاً ويعضده ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أخذت أبا بكر غشية من الموت فبكيت عليه فقلت :
من لا يزال دمعه مقنعا
لا بد يوماً أنه مهراق
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 13 من صفحة 118 حتى صفحة 127
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
فأفاق أبو بكر رضي الله عنه فقال : بل جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وما روي أنها قالت : إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وبين سحري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه علي وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت : آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فتناوله فاشتد عليه فقلت : ألينه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته فأمره وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل به يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده.
وجوز في الكشاف أن تكون الإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر وهذا هو الظاهر لأن الكلام
118
(9/94)
في الفجار قاله سعدي المفتي وفي الحديث القدسي : "وما رددت في شيء أنا فاعله" بتشديد الدال يعني ما رددت ملائكتي الذين يقبضون الأرواح "ما رددت في قبض نفس عبدي المؤمن" أي مثل ترديدي إياهم في قبض أرواح المؤمنين بأن أقول اقبضوا روح فلان ثم أقول لهم أخروه وفي بعض النسخ ما ترددت ولما كان التردد وهو التحير بين الشيئين لعدم العلم بأن الأصلح أيهما محالاً في حق الله تعالى حمل على منتهاه وهوالتوقف يعني ما توقفت فيما أفعله مثل توقفي في قبض نفس المؤمن فإني أتوقف فيه وأريه ما أعددت له من النعم والكرامات حتى يميل قلبه إلى الموت شوقاً إلى لقائي {سَكْرَةُ الْمَوْتِ} استئناف عمن قال ما سبب ترددك أراد به شدة الموت لأن الموت نفسه يوصل المؤمن إلى لقاء الله فكيف يكرهه المؤمن "وأنا أكره مساءته" إذا أذاه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه "ولا بد منه" أي للعبد من الموت لا أنه مقدر لكل نفس كذا في شرح المشارق لابن الملك قال في كشف الأسرار جندكه حالت مرك بظاهر صعب مي نمايد لكن دوستانرا اندران حال درباطن همه عزوناز باشد وازدوست هر لمحه راحتى ودر هر ساعتى خلعتى آيد مصطفى عليه السلام زينجا كفته "تحفة المؤمن الموت" هي صاحب صدق از مرك نترسد حسين بن علي رضي الله عنهما بدررا ديدكه يراهن حرب ميكرد كفت ليس هذا زي المحاربين على كفت ما يبالى ابوك أسقط على الموت أم سقط الموت عليه صدق زاد سفر مرك است ومرك راه بقاست وبقا سبب لقاست من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه عمار بن ياسر رضي الله عنه عمروى به نودسال رسيدنيزه دردست كرفتى ودستش مى لرزيدى مصطفة عليه السلام اورا كفته بود آخر قوت تواز طعام دنيا شربتى شير باشددر حرب صفين عمار حاضر بوزنيزه دردست كرفته وتشنكى بروى افتاده شربتى آب خواست قدحى شيربوى دادنديادش آمد حديث مصطفى كه امروز روز دولت عمارست آن شربت بكشيد ويش رفت وميكفت اليوم نلقي الأحبة محمداً وحزبه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي المثنوي :
همنين باد اجل باعارفان
نرم وخوش همون نسيم يوسفان
آتش ابراهيم را دندان نزد
ون كزيده حق بود ونش كزد
س رجال ازنقل عالم شادمان
وزبقايش شادمان ابن كود كان
ونكه آب خوش نديدآن مرغ كور
يش اوكوثر نمايد آب شور
وعن صاحب المثنوي أنه لما حضره الموت ورأى ملك الموت عند الباب قال :
يش ترايش ترجان من
يك در حضرت سلطان من
قالوا ينزل عند الموت أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ، وملك يجذبها من قدمه اليسرى ، وملك يجذبها من يده اليمنى ، وملك يجذبها من يده اليسرى فيجذبونها من أطراف البنان ورؤوس الأصابع ، ونفس المؤمن المطيع تنسل انسلال القطرة من السقاء وأما الفاجر فينسل روحه كالسفود من الصوف المبلول وهو يظن أن بطنه قد ملئت شوكاً وكأن نفسه تخرج من ثقب ابرة وكأن السماء انطبقت على الأرض وهو بينهما فإن قلت مع وجود هذه السكرات لم لا يصيح المحتضر كما يصيح من به ألم من الضرب وغيره قلت إنما يستغيث المضروب ويصيح
119
لبقاء قوته في قلبه وفي لسانه وإنما ينقطع صوت الميت وصياحه مع شدته لأن الكرب قد بولغ فيه وتصاعد على قلبه وغلب على كل موضع منه أَني البدن فهد كل قوة وأضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغاثة قال وهب بن منبه : بلغنا أنه ما من ميت يموت حتى يرى الملكين اللذين كانا يحفظان عمله في الدنيا فإن صحبهما بخير قالا : جزاك الله خيراً فرب مجلس خير قد أجلستنا وعمل صالح قد أحرضتنا وإن كان رجل سوء قالا جزاك الله شراً فرب مجلس قد أجلستنا ورب كلام سوء قد أسمعتنا قال فذلك الذي يشخص بصر الميت ثم لا يرجع إلى الدنيا أبداً.
قال الشيخ سعدي :
دريغست فرموده ديوزشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
روا دارى از جهل ونا كيت
كه ا كان نويسند نا كيت
وربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغر غرفاين الملائكة على حقيقة عمله أي على صور هي حقائق أعماله فإن كانت أعماله حسنة يراهم على صورة حسنة وإن كانت سيئة فعلى صور قبيحة ثم مراتب الحسن والقبح متفاوتة بحسب حسن الأعمال وقبحها وبحسب أنواعها فالملائكة لا يراهم البشر على ما يتحيزون إليه من عالمهم إلا ما كان من النبي عليه السلام من رؤية جبريل مرتين على صورته الأصلية.
وفي التأويلات النجمية إذا أشرف الناس على الخروج من الدنيا فأحوالهم تختلف فمنهم من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا يتبين حاله إلا عند ذهاب الروح ومنهم من يكاشف قبل خروجه فيسكن روعه ويحفظ عليه قلبه ويتم له حضوره تمييزه فيسلم الروح على مهل من غير استكراه وعبوس ومنهم ومنهم وفي معناه يقول بعضهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي
وابتداء الهوى بموت الكرام
(9/95)
قال بعض الكبار : إن السيد عبد القادر الجيلي قدس سره لما حضرته الوفاة وضع خده على الأرض وقال : هذا هو الحق الذي كنا عنه في حجاب فشهد على نفسه بأن مقام الإدلال الذي كان فيه نقص بالنسبة إلى حاله الذي ظهر له عند الموت وتمم الله حاله عند الموت ومات على الكمال وعكس هذا ما حكي أن مولانا حميد الدين أخذه اضطراب عظيم في مرض موته فقيل له : أين علومك ومعارفك؟ فقال : يطلبون منا القلب وأحوال القلب وذلك غير موجود عندنا فالاضطراب من تلك الجهة.
ـ وروي ـ لبعضهم كلمات عالية ثم رؤي حالة الرحلة في غاية التشوش وقد ذهب عنه التحقيقات وذلك لأن الأمر الحاصل بالتكلف لا يستقر حال المرض والهرم فكيف حال مفارقة الروح فلذا انتقل البعض في مقام القبض والهيبة وقد روي أن بعضهم ضحك عند الموت وقال لمثل هذا فليعمل العاملون وبعضهم بكى وقال : ما لهذا نسعى طول عمرنا وأراد تجلي الله تعالى عند ذلك فإذا كان حال أرباب الأحوال هكذا فما ظنك بأحوال غيرهم وقد قالوا : إن سكرات الموت بحسب الأعمال ولا حول وقد تظهر صفات حسنها وقبحها عندالموت فالمغتاب تقرض شفاهه بمقاريض من نار والسامع للغيبة يسلك في أذنيه نار جهنم وآكل الحرام يقدم له الزقوم كذلك إلى آخر أعمال العبد كل ذلك يظهر عند سكرات الموت فالميت يجوزها سكرة بعد سكرة فعند آخرها يقبض روحه وكان عليه
120
السلام يقول اللهم هون على محمد سكرات الموت وإنما لا يستعيذ أكثر الناس من الموت ومن أِواله وسكراته لما غلب عليهم من الجهل فإن الأشياء قبل وقوعها إنما تدرك بنور النبوة والولاية ولذلك عظم خوف الأنبياء والأولياء من الموت :
يا من بدنياه اشتغل
وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة
والقبر صندوق العمل
قال الحافظ :
سهر برشده رويزنيست خون افشان
كه ريزه اش سركسرى وتاج رويزست
بدان اي جوانمردكه از عهد آدم تافناى عالم كس ازمرك نرست تونيز نخواهى رست الموت كاس وكل الناس شاربه :
خانه ر كندم ويك جو نفرستاده بكور
غم مركت وغم برك زمستانى نيست
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} هي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور والنافخ اسرافيل عليه السلام وقد سبق الكلام في الصور {ذَالِكَ} أي وقت ذلك النفخ على حذف المضاف {يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا وتحقيقه والوعيد التهديد أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود وتخصيص الوعيد بالذكر مع أنه يوم الوعد أيضاً لتهويله ولذا بدىء ببيان حال الكفرة {وَجَآءَتْ} ومى آيد دران روز بعرصه محشر {كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس البرة والفاجرة {مَّعَهَا} الخ محله النصب على الحالية من كل لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة كأنه قيل كل النفوس {سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ} وإن اختلف كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملاً أي معها ملكان أحدهما يسوق إلى المحشر والآخر يشهد بعملها خيراً أو شراً وفي كشف الأسرار يسوق الكافر سائقه إلى النار ويشهد الشهيد عليه بمعصيته ويسوق السائق المؤمن إلى الجنة ويشهد الشهيد له بطاعته انتهى وهل الملكان الكاتبان في الدنيا هما اللذان ذكرهما الله في قوله سائق وشهيد أو غيرهما فيه خلاف كما في فتح الرحمن أو معها ملك جامع بين الوصفين كأنه قيل معها ملك يسوقها ويشهد لها أو عليها وقال الواسطي سائقها الحق وشهيدها الحق أي بالنظر إلى الحقيقة في الدنيا والآخرة {لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا} الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور وفي المفردات سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ والمعنى يقال له يوم القيامة أو وقت النشور أو وقت العرض لقد كنت أيها الشخص في الدنيا في غفلة من هذا اليوم وغوائله وفي فتح الرحمن من هذا النازل بك اليوم وقال ابن عباس رضي الله عنهما من عاقبة الكفر وفي عين المعاني أي من السائق والشهيد وخطاب الكل بذلك لما أنه ما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وقيل الخطاب للكافر وقرىء كنت بكسر التاء على اعتبار تأنيث النفس وكذا الخطابات الآتية {فَكَشَفْنَا} أي أزلنا ورفعنا {عَنكَ غِطَآءَكَ} الذي كان على بصرك ولغطاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإلفة بها وقصر النظر عليها قال في المفردات : الغطاء ما يجعل فوق الشيء
121
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/96)
من لباس ونحوه كما أن الغشاء كذلك وقد استعير للجهالة قال تعالى : فكشفنا الآية.
يعني برداشتيم ازديده تووشش جهل وغفلت تراتا هره شنوده بودى معاينه بيني وحقيقتش ادراك ميكنى.
وفي الكواشي أو الغطاء القبر أي آخرجناك منه {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي نافذ وبالفارسية تيزست.
تبصر ما كنت تنكره وتستبعده ف يالدنيا لزوال المانع للابصار ولكن لا ينفعك وهذا كقوله أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا يقال : حددت السكين رققت حدها ثم يقال لكل حاذق في نفسه من حيث الخلقة أو من حيث المعنى كالبصر والبصيرة حديد فيقال هو حديد النظر وحديد الفهم ويقال لسان حديد نحو لسان صارم وماض وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان وإن خلف من عالمي الغيب والشهادة فالغالب عليه في البداية الشهادة وهي العالم الحسي فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب فمن الناس من يكشف الله غطائه عن بصر بصيرته فيجعل بصره حديداً يبصر رشده ويخذر شره وهم المؤمنون من أهل السعادة ومنهم من يكشف الله عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم لا ينفع نفساً إيمانها وهم الكفار من أهل الشقاوة :
كرت رفت ازاندازه بيرون بدى
و كفتى كه بدرفت نيك آمدى
فراشوا و بينى در صلح باز
كه ناكه درتوبه كردد فراز
كنون باخردبايد انباز كشت
كه فردا نماند ره باز كشت
ومن كلمات امير المؤمنين علي رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً :
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آننانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بركيرند
آن يقين ذره نيفزايد
يعني أن عين اليقين الحاصل لأهل الحجاب في الآخرة حاصل لأهل الكشف في الدنيا فإنهم ترقوا من علم اليقين إلى عين اليقين في هذه الدار فطابوا وقتاً فكأنهم في الجنان في الحال وكل يوم لهم يوم المزيد وفيه إشارة إلى سر عظيم وهو أن أهل النار يزول عن أبصارهم الحجب المانعة عن اليقين والعيان وذلك بعد احتراق ظواهرهم وبواطنهم أحقاباً كثيرة فيرون إذ ذاك من أثر الجمال ما رآه العارفون في هذه الدار فحينئذ لا يبقى للعذاب خطر إذ الاحتراق على الشهود ألا ترى إلى النسوة اللاتي قطعن أيديهن كيف لم يكن لهن حس بالقطع على شهود يوسف ولكن ليس لأهل النار نعيم كأكل وشرب ونكاح فاعرف {وَقَالَ قَرِينُهُ} وكويد همشين او.
يعني الشيطان المقيض له مشيراً له {هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} أي هذا ما عندي وفي ملكتي ومقدوري عتيد لجهنم قد هيأنه لها باغوائي وإضلالي وقيل : قال الملك الموكل به يعني الرقيب الذي سبق ذكره مشيراً إلى ما هو من كتاب عمله هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض فإن كان العبد من أهل الإيمان والجنة أحضر كتاب حسناته لأن سيئاته قد كفرت وإن كان من أهل الكفر والنار أحضر كتاب سيئاته لأن حسناته حبطت بكفره وما أن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهي بدل منها أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف فعلى العاقل أن لا يطع الشيطان ولا يلتفت إلى إغوائه في كل زمان ومكان فإنه يدعو إلى النار
122
وقهر الجبار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/97)
ـ روي ـ أن النبي عليه السلام سار ليلة المعراج فرأى عجوزاً على جنب الطريق فقال : ما هذه يا جبريل؟ فقال : سر يا محمد فسار ما شاء الله فإذا بشيء يدعوه متنحياً عن الطريق يقول : هلم يا محمد وأنه عليه السلام مر بجماعة فسلموا عليه وقالوا : السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر فقال جبريل اردد عليهم السلام فرد ثم قال جبريل أما العجوز فالدنيا ولم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز أما لو أجبتها لاختار أمتك الدنيا على الآخرة وأما الذي دعاك فإبليس وأما الذي سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام قال بعض العارفين : خلق الله إبليس ليميز به العدو من الحبيب والشقي من السعيد فخلق الله الأنبياء ليقتدي بهم السعداء وخلق إبليس ليقتدي به الأشقياء ويظهر الفرق بينهما فإبليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها قال : ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون وأعرضوا عنها والراغبون فيها لم يجدوا في قلوبهم ترك الدين ولا ترك الدنيا فقالوا له : أعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هي فقال إبليس : أعطوني رهناً فأعطوه سمعهم وأبصارهم ولذا يحب أرباب الدنيا استماع أخبارها ومشاهدة زينتها لأن سمعهم وأبصارهم رهن عند إبليس فأعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فاستمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل : حبك الشيء يعمي ويصم وقال بعضهم : خلق الله إبليس ليكون المؤمن في كنف رعاية المولى وحفظه لأن لولا الذئب لم يكن للغنم راع وخلق الله إبليس من ظلمة وخبث وطبعه على العداوة نسأل الله الحفظ والعصمة منه {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد أو لملكين من خزنة النار أولو احد وهو الملك الجامع للوصفين أو خازن النار على تنزيل تثنية الفاعل تثنية الفعل وتكريره للتأكيد كأنه قيل ألق ألق حذف الفعل الثاني ثم أتى بفاعله وفاعل الفعل الأول على صورة ضمير الاثنين متصلاً بالفعل الأول أو على أن الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ويؤيده أنه قرىء ألقين بالنون الخفيفة مثل لنسفعن فإنه إذا وقف على النون تنقلب ألفاً فتكتب بالألف على الوقف ووجه آخر هو أن العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان يعني أدنى الأعوان في السفر اثنان فكثر في ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا وأسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين كما قال امرؤ القيس :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
خليلي مر بي على أم جندب
لتقضي حاجات الفؤاد المعذب
ألم تر أني كلما جئت طارقاً
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
فثنى في البيت الأول ووحد في البيت الثاني {كُلَّ كَفَّارٍ} كل مبالغ في الكفر بالمنعم والنعم جاحد بالتوحيد معرض عن الإيمان وقيل كل كافر حالم غيره على الكفر {عَنِيدٍ} معاند للحق يعرف الحق فيجحده والعناد أقبح الكفر وقال قتادة منحرف عن الطاعة وقال السدي مشتق من العند وهو عظم يعترض في الحلق أو معجب بما عنده كأنه من قولهم عندي كذا كما في عين المعاني وقال في المفردات العنيد المعجب بما عنده والمعاند المتباهى بما عنده والعنود الذي يعند عن القصد أي يميل عن الحق ويرده عارفاً به {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} كثير المنع للمال
123
(9/98)
عن تفرقه مفروضة زكاة أو غيرها إن طبع على الشر والإمساك كما أن الكافر طبع على الكفر والعيد طبع على العياد ومناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم والمنع ضد العطية يقال : رجل مانع ومناع أي بخيل وقد يقال في الحماية ومنه مكان منيع وقيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه منه وكان يقول : من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت {مُعْتَدٍ} الاعتداء مجاوزة الحق أي ظالم متخط للحق معاد لأهله {مُّرِيبٍ} شاك في الله وفي دينه فهو صيغة نسبة بمعنى ذي شك وريب أي موقع في الريبة وقبل متهم {الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره قوله : {فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أو بدل من كل كفار وقوله فألقياه تكرير للتوكيد والفاء للاشعار بأن الالقاء للصفات المذكورة وفي الحديث بينما الناس ينتظرون الحساب إذ بعث الله عنقاً من النار يتكلم فيقول : أمرت بثلاثة بمن دعا مع الله إلهاً آخر وبمن قتل بغير حق وبجبار عنيد فيلقطهم من الناس كما يلقط الطير الحب ثم بصيرهم في نار جهنم وفي تفسير الفاتحة للفنارى يخرج عنق من النار أي قبل الحساب والناس وقوف قد ألجمهم العرق واشتد الخوف وتصدعت القلوب لهول المطلع فإذا أشرف على الخلائق له عينان ولسان فصيح يقول يا أهل الموقف إني وكلت منكم بثلاثة وذلك ثلاث مرات إني وكلت بكل جبار عنيد فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم فإذا لم يترك أحداً منهم في الموقف نادى نداء ثانياً يا أهل الموقف إني وكلت بمن أذى الله ورسوله فيلقطهم كما يلقط الطائر حب السمسم بين الخلائق فإذا لم يترك منهم أحداً نادى ثالثاً يا أهل الموقف إني وكلت بمن ذهب بخلق كخلق الله فيلقط أهل التصاوير وهم الذين يصورون الكنائس لتعبد تلك الصور والذين يصورون الأصنام وهو قوله : أتعبدون ما تنحتون وكانوا ينحتون لهم الأخشاب والأحجار ليعبدوها من دون الله فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم فإذا أخذهم الله عن آُرهم وبقي الناس وفيهم المصورون الذين لا يقصدون بتصويرهم عباداتها حتى يسألوا عنها لينفخوا فيها أرواحاً تحيي بها وليسوا بنفافخين كما ورد في الخبر في المصورين فيقفون ما شاء الله ينتظرون ما يفعل الله بهم والعرق قد ألجمهم وفي الآية إشارة إلى الهوى والدنيا فمن عبدهما وجعلهما إلهين آخرين مع الله عذب بطلب الدنيا بالحرص والغفلة.
قال العطار قدس سره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
شم كرسنه سير زنعمت نمى شود
غربال را زكثرت حاصل ه فائده
{قَالَ قَرِينُهُ} بغير واو لأن الأول خطاب للإنسان من قرينه ومتصل بكلامه والثاني استئناف خاطب الله سبحانه من غير اتصال بالمخاطب وهو قوله ربنا ما أطغيته وكذلك الجواب بغير واو وهو قال لا تختصموا لدى وكذلك ما يبدل القول لدي فجاء الكل على نسق واحد كما في برهان القرآن أي قال الشيطان المقيض للكافر.
قال الكاشفي : ون خواهندكه كافر را در دوزخ افكنند كويد مراه كناهست كه ديوبرمن مسلط بود ومراكمراه كردانيد دبورا حاضر سازند تكذيب ميكند.
ودل على هذا التقاول والسؤال المحذوف قوله لا تختصموا {رَبَّنَا} أي بروكارما {مَآ أَطْغَيْتُهُ} أي ما جعلته طاغياً وما أوقعته في الطغيان
124
(9/99)
وهو تجاوز الحد في العصيان {وَلَـاكِن كَانَ} هو بالذات {فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} من الحق طويل لا يرجع عنه فأعنته عليه بالإغواء والدعوة ءليه من غير قسر والجاء كما في قوله تعالى : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وذلك فإن إغواى الشيطان إنما يوثر فيمن كان مختل الرأي مائلاً إلى الفجور ضالاً عن طريق الحق واقعاً دونه بمراحل وفي الحديث إنما أنا رسول وليس إلى من الهداية شيء ولو كانت الهداية إلي لآمن كل من في الأرض وإنما إبليس مزين وليس له من الضلالة شيء وهو كانت الضلالة إليه لا ضل كل من في الأرض ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال الله لابن آدم وشيطانه المقيض له في الدنيا فقيل قال تعالى : {لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك قال بعضهم : هذا الخطاب في الكفار وأما قوله ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ففي المؤمنين في الظالم فيما بينهم لأن الاختصام في الظالم مسموع وهذا في الموقف وأما قوله إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ففي جهنم فظهر التوفيق بين الآيات {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} على الطغيان في دار الكسب والتكليف في كتبي وألسنة رسلي فما تركت لكم حجة علي فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة والجملة حال فيها تعليل للنهي على معنى لا تختصموا وقد صح عندكم وعلمتم أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فاتبعتموه معرضين عن الحق فلا وجه للاختصام في هذا الوقت وإنما قدر المعنى هكذا ليصح جعله حالاً فإن مقارنة الحال لذيها في الزمان واجبة لا مقارنة بين تقديم الوعيد في الدنيا والاختصام في الآخرة والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} أي لا يغير قولي في الوعد والوعيد فما يظهر في الوقت هو الذي قضيته في الأزل لا مبدل له والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبذليل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد يعني ولا مخصص في حق الكفار فالوعيد على عمومه في حقهم قال الجلال الدواني في شرح العضد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى لا في الوعد وبهذا وردت السنة حيث قال عليه السلام : "من وعد لاحد على عمله ثواباً فهو منجز له ومن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار والعرب لا تعد عيباً ولا خلفاً أن يعد شراً ثم لا يفعله بل ترى ذلك كرماً وفضلاً وإنما الخلف أن يعد خيراً ثم لا يفعله" كما قال :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف ايعادي ومنجز موعدي
وأحسن يحيى بن معاذ رضي الله عنه في هذا المعنى حيث قال الوعد والوعيد حق فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا ومن ولى بالوفاء من الله والوعيد حقه على العباد قال : لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وإن شاء آخذ لأنه حقه وأولاهما العفو والكرم لأنه غفور رحيم فالله تعالى لا يغفر أن يشرك به فينجز وعيده في حق المشركين ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فيجوز أن يخلف وعيده في حق المؤمنين ولأهل الحقائق كلام آخر مذكور في محله عافانا الله وإياكم من بلائه {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} أي وما
125
(9/100)
أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم والتعبير عنه بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً مفرطاً لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم وقيل هي لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها مبالغة كما لا كيفا وقال بعضهم يفهم من ظاهر العبارة جواز الظلم المحال منه تعالى إذا النفي مسلط على القيد الذي هو الظلامية والجواب على ما اختاره كثير من المحققين أن المبالغة مسلطة على النفي لا على القيد كما في قوله ما أنا بكذوب يعني أن أصله ليس بظالم ثم نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة فكانت المبالغة راجعة إلى النفي على معنى أن الظل منفي عنه نفياً مؤكداً مضاعفاً ولو جعل النفي داخلاً على صيغة المبالغة بأن ضعف ظالم بدون نفيه ثم أدخل عليه النفس لكان المعنى أن ضعف الظلم منفي عنه تعالى ولا يلزم منه نفي أصله والله تعالى منزه عن الظلم مطلقاً يقول الله تعالى إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادي فلا تظالموا ويقول الله تعالى اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري وعن بعض السلف دعوتان أرجو إحداهما كما أخشى الأخرى : دعوة مظلوم أعنته ودعوة ضعيف ظلمته وكان من ديدن السلطان بسمرقند الامتحان بنفسه مرات لطلبة مدرسته المرتبين أعالي وأواسط وأداني بعد تعيين جماعة كثيرة من العدول غير المدرس للامتحان من الأفاضل حذراً من الحيف وكان يعد الحيف في الرتبة بين المستعدين من قبيل الكفر في الدين.
4
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قال الشيخ سعدي :
وخواهى كه فردا برى مهترى
مكن دشمن خويشتن كهترى
كه ون بكذرد برتواين سلطنت
بكيرد بقهرآن كدا دامنت
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى قال هؤلاء في الجنة ولا إبالي وهؤلاء في النار ولا إبالي فلا يبدل قوله تعالى فلا بد للجنة من أهلها وللنار من أهلها ولو عكس وجعل أهل الجنة في النار وأهل النار في الجنة لكان مخالفاً للحكمة لأن الجنة دار الجمال فهي مقر للمؤمنين والنار دار الجلال فهي مقر للكافرين كما أن القلب مقر الأوصاف الحميدة والنفس مقر الأوصاف الذميمة ولذا لا يدخل أهل النفس جنة القلب لأن النور والظلمة لا يجتمعان فاعرف {يَوْمَ} أي اذكر يا محمد لقومك ويشمل كل من شأنه الذكر يوم {نَقُولُ} بما لنا من العظمة {لِجَهَنَّمَ} دار العذاب وسبحان الله للعصاة {هَلِ امْتَاتِ} بمن ألقى فيك وهل أوفيك ما وعدتك وهو قوله لأملأن جهنم وقوله لكل واحدة منكما ملؤها فهذا السؤال من الله لتصديق خبره وتحقيق وعده والتقريع لأهل عذابه والتنبيه لجميع عباده {وَتَقُولُ} جهنم مجيبة بالاستفهام تأدباً وليكون الجواب وفق السؤال {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} أي من زيادة من الجن والإنس فيكون مصدراً كالمحيد أو من يزاد فيكون مفعولاً كالمبيع ويجوز أن يكون يوم ظرف المقدر مؤخر أي يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال واختلف الناس في أن الخطاب والجواب هل هما على الحقيقة أولاً فقال بعضهم : هما على الحقيقة فينطقها الله بذلك كما ينطق الجوارح وهو المختار فإن الله على كل شيء قدير
126
وأمور الآخرة كلها أو جلها على خلاف ما تعورف في الدنيا وقد دلت الأحاديث على تحقق الحقيقة فلا وجه للعدول إلى المجاز كما روي من زفرتها وهجومها على الناس يوم الحشر وجرها الملائكة بالسلاسل وقولها جزيا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي ونحو ذلك مما يدل على حياتها الحقيقية وإدراكها فإن مطلق الجمادات لها تلك الحياة في الحقيقة فكيف بالدارين المشتملين على الشؤون العجيبة والأفعال الغريبة وأن الدار الآخرة لهي الحيوان وقال بعضهم : سؤال وجواب جيىء بهما على منهاج التمثيل والتخييل لتهويل أمرها يعني أن المقصود تصوير المعنى في القلب وتبيينه فهي بحيث لو قيل لها ذلك وهي ناطقة لقالت ذلك وأيضاً دلت بحالها على النطق كقولهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
(9/101)
يعني أنها مع اتساعها وتباعد أطرافها وأقطارها بطرح فيها الجنة والناس فوجاً بعد فوج حتى تمتلىء بهم وتصير بحيث لا يسعها شيء ولا يزاد فيها فالاستفهام على معنى التقرير ونفي المزيد أي وهل عندي موضع يزاد فيه شيء أي قد امتلأت وحصل في موعودك وصرت بحيث لا أسع ابرة وبالفارسية لا مزيد رشدم وزيادتي را كنجايش نيست.
فالمعنى الممثل هو الامتلاء وهو كقوله تعالى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين فإنه سؤال تقرير لا سؤال استفهام وكقوله عليه السلام يوم فتح مكة هل بقي لنا عقيل داراً أي ما بقي لنا داراً ويجوز أن يكون المعنى أنها لغيظها على الكفار والعصاة كأنها تطلب زيادتهم وتستكثرهم ويجوز أن يكون السؤال استدعاء للزيادة في الحقيقة لأن ما يلقي فيها كحلقة تلقي في اليم.
يعني زيادتي كن وحق تعالى ديكر كافر بوي فرستاد تا رشود.
ويجوز أن يكون المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ وموضع زيادة فإن قلت هذا يخالف قوله تعالى لأملأن جهنم قلت : ورد في الحديث لا تزال جهنم يلقي فيها وتقول هل من مزيد حتى نضع الجبار فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض يعني فيحصل الامتلاء وبه تندفع المخالفة :
اين قدم حق را بود كورا كشد
غير حق را كه كمان او كشد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 14 من صفحة 127 حتى صفحة 138
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي رواية حتى يضع فيها رب العزة أو رب العرش قدمه فتقول قط قط أي حسبي حسيب وعزتك.
قوله ويزوي بالزاي المعجمة على بناء المجهول أي يضم ويجمع من غاية الامتلاء وآخر الحديث ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشيء الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة كما في كشف الأسرار وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه السلام : تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة : فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فإنهم يلقون فيها وتقول هل من مزيد فلا تمتلىء حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً وأما الجنة فينشىء الله لها خلقاً وفي القاموس
127
(9/102)
حتى يضع رب العزة فيها قدمه أي الذين قدمهم من الأشرار فهم قدم الله للنار كما أن الأخيار قدمه إلى الجنة أو وضع القدم مثل للردع والقمع أي يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد انتهى كما قال في بحر العلوم وضع القدم على الشيء مثل للردع والكف وقال بعضهم : يضربها من جبروته بسوط إهانة ويستمرون بين دولتي الحر والزمهرير وعامة عذاب إبليس بالزمهرير لأنه ينقاض ما هو الغالب عليه في أصل خلقته وقال ابن ملك وضعها كناية عن دفعها وتسكين سورتها كما تقول وضعت رجلي على فلان إذا قهرته وفي الكواشي قدمه أي ما قدمه في قوله سبقت رحمتي على غضبي أي يضع رحمته انتهى أو المراد من القدم قوم مسمى بهذا الاسم وأيضاً المراد بالرجل جماعة من الناس وهو وإن كان موضوعاً لجماعة كثيرة من الجراد لكن استعارته لجماعة من الناس غير بعيدة ومنهم من يقول المراد به قدم بعض مخلوقاته أضافها إلى الله تعظيماً كما قال فنفخنا فيه من روحنا وكان النافخ جبريل وفي عين المعاني القدم جمع قديم كأديم وأدم أي على كل ما تقدم أو قوم قدمهم إلى النار ويروى قدمه بكسر القاف أي قوماً قدموا بني آدم في الدنيا وروي رجل وهو الجماعة من الناس وقيل قدمه أهل قدمه الذين لهم قدم صدق عند ربهم يعني العاصين من أهل التوحيد انتهى ومنهم من قال القدم اسم لقوم يخلقهم الله لجهنم قال القاضي عياض هذا أظهر التأويلات لعل وجهه أن أماكن أهل الجنة تبقى خالية في جهنم ولم ينقل أن أهلها يرثون تلك الأماكن ويقال لهم أن الله يختص بنقمته من يشاء كما يرث أهل الجنة أماكن أهل النار في الجنة غير جنة أعمالهم ويقال لهم أن الله يختص برحمته من يشاء وهذا من نتائج قوله تعالى سبقت رحمتي على غضبي فيخلق الله خلقاً على مزاج لو دخلوا به الجنة لعذبوا فيضعهم فيها فإن قلت إذ لائم مزاجهم النار فأنى يتصور التعذيب قلنا الموعود ملؤها لا تعذيب كل من فيها وقال بعض الأكابر ليس في النار دركات اختصاص الهي ولا عذاب اختصاص الهي من الله فإن الله ما عرفنا قط أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء فأهل النار معذبون بأعمالهم لا غير وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص فلأهل السعادة ثلاث جنات جنة الأعمال كما لأهل الشقاوة جحيم الأعمال ولهم خاصة جنات الاختصاص وجنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة كما قال تعالى تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً وذلك أنه ما من شخص من الجن والإنس إلا وله في الجنة موضع وفي النار موضع وذلك لا مكانه الأصلي فإنه قبل كونه يمكن أن يكون له البقاء في العدم أو يوجد فمن هذه الحقيقة له قبول النعمة وقبول العذاب قال تعالى : ولو شاء لهداكم أجمعين أي أنتم قابلون لذلك ولكن حقت الكلمة وسبق العلم ونفذت المشيئة فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه ولم يقل في أهل النار أنهم يرثون من النار أماكن أهل الجنة لو دخلوا النار وهذا من سبق الرحمة بعموم فضله سبحانه فما نزل من نزل في النار إلا بأعمالهم ولهذا يبقى فيها أماكن خالية وهي الأماكن التي لو دخلها أهل الجنة عمروها فيخلق الله خلقاً يعمرونها على مزاج لو دخلوا به الجنة لعذبوا وهو قوله عليه السلام ليضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط أي حسبي حسبي فإنه تعالى يقول لها : هل امتلأت وتقول هل من مزيد وقد قال للجنة والنار لكل واحدة منكما ملؤها فما اشترط
128
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/103)
لها إلا أن يملأهما بهم ولا نعيمهم وأن الجنة أوسع من النار بلا شك فإن عرضها السموات والأرض فما ظنك نظولها فهي للنار كمحيط الدائرة والنار عرضها قدر الخط الذي يميز قطري دائرة فلك الكواكب الثابتة فأين هذا الضيق من تلك السعة وسبب هذا الاتساع جنات الاختصاص الإلهي فورد في الخبر أنه يبقى أيضاً في الجنة أماكن ما فيها أحد فيلخق الله خلقاً للنعيم يعمرها بهم وهو أن يضع الرحمن فيها قدمه أي آخر وجود يعطيه وليس ذلك إلا في جنات الاختصاص فالحكمالعلي الكبير فمن كرمه أنه ما أنزل أهل النار إلا على أعمالهم خاصة وأما قوله تعالى زدناهم عذاباً فوق العذاب فذلك لطائفة مخصوصة هم الأئمة المضلون ثم لا بد لأهل النار من فضله ورحمته في نفس النار بعد انقضاء المدة موازنة ازمان العمل فيفقدون الإحساس بالآلام في نفس النار فتتخلد جوارحهم بإزالة الروح الحساس منها إذ ليسوا بخارجين منها فلا يموتون فيها ولا يحيون وثم طائفة يعطيهم الله بعد انقضاء موازنة المدد بين العذاب والعمل نعيماً خيالياً ثم ما يراه النائم ونضج جلودهم خدرها فزمان النضج والتبديل يفقدون الآلام لخمود النار في حقهم فيكونون في النار كالأمة التي دخلتها وليست من أهلها فأماتهم الله فيها إماتة فلا يحسون بما تفعله النار في أبدانهم الحديث بكماله ذكره مسلم في صحيحه وهذا من فضل الله ورحمته يقول الفقير للإنسان الكامل قدمان قدم الجلال وقدم الجمال وبالأولى تمتلىء جهنم وبالثانية تمتلىء الجنة وبيان ذلك أن جهنم مقام أهل الطبيعة والنفس أنها مظهر قدم الجلال والجنة مقام أهل الروح والسر يعني أنها مظهر قدم الجمال والأعراف مقام أهل القلب لمناسبة بين الأعراف والقلب من حيث أنه مقام بين الجنة والنار كما أن القلب برزخ بين الطبيعة والنفس وبين الروح والسر وللإنسان الكامل نشأة جنانية روحاني ونشأة دنيوية جسمانية فهو لا يدخل الجنة إلا بمرتبة الروح والسر فتبقى صورته الطبيعية والنفسية المتعلقة بنشأته العنصرية فيملأ الله سبحانه جهنم بهذه البقعة يعني يظهر مظاهر جلاليته من تلك البقية فيملأها بها حتى تقول قط قط فما دام لم يظهر هذا التجلي من الإنسان الكامل لا تزال جهنم تقول هل من مزيد وهو المراد بقدم الجبار كذا في الحديث وإليه أشار الشيخ الكبير رضي الله عنه في الفكوك بقوله وأخبرت من جانب الحق أن القدم الموضوع في جهنم هو الباقي في هذا العالم من صور الكمل مما لا يصحبهم في النشأة الجنانية وكني عن ذلك الباقي بالقدم لمناسبة شريفة لطيفة فإن القدم من الإنسان آخر أعضائه صورة فكذلك نفس صورته العنصرية آخر أعضاء مطلق الصورة الإنسانية لأن صور العالم بأجمعها كالأعضاى لمطلق صورة الحقيقة الإنسانية وهذه النشأة آخر صورة ظهرت منها الحقيقة الإنسانية وبها قامت الصور كلها التي قلت أنها كالأعضاء انتهى وقال أيضاً أن الجنة لا تسع إنساناً كاملاً وإنما منه في الجنة ما يناسب الجنة وفي كل عالم ما يناسب ذلك العالم وما يستدعيه ذلك العالم من الحق من حيث ما في ذلك العالم من الإنسان بل أقول ولو خلت جهنم منه لم تبق وبه امتلأت وإليه الإشارة بقدم الجبار المذكور في الحديث انتهى أيضاً وقال الشيخ روزبهان البقلي في عرائس البيان أن جهنم لتشتاق إلى الله كما تشتاق إليه الجنة فإذا رأى
129
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
سبحانه حالها من الشوق إليه يضع أثقال سطوات قهر القدم عليها بنعت التجلي فتملأ من العظمة وتصير عند عظمة الله كلا شيء ورب طيب في قلوب الجههنميين في تلك الساعة من رؤية جلال عظمته ومن رؤية أنوار قدم القدم فتصير نيرانها ورداً وريحاناً من تأثير بركة ظهوره لها انتهى وفي الآية إشارة إلى أن جهنم صورة النفس الإنسانية فكما أن النفس لا يشبعها شيء وهي في طلب المزيد مطلقاً فكذا صورتها دار العذاب تطلب المزيد فهما على نسق واحد كاللفظ والمعنى يعني أن النفس الإنسانية حريصة على الدنيا وشهواتها فكلما ألقى فيها نوع منها ويقال لها هل امتلأت تقول هي هل من مزيد من أنواع الشهوات فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
آن شنيد ستى كه در صحراى غور
بارسالارى درافتاد ازستور
كفت سم تنك دنيا داررا
ياقناعت ركند ياخاك كور
(9/104)
وأيضاً أن الحرص الإنساني قشر محبة الله بل هو عين المحبة إذا كان متوجهاً إلى الدنيا وشهواتها يسمى الحرص وإذا كان متوجهاً إلى الله وقربانه يسمى محبة فاعلم أن ما زاد في الحرص نقص في المحبة وما نقص من الحرص زاد في المحبة وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن يائرتها بما يلقى فيها من محبوبات الدنيا والآخرة بل يكون حطبها وتزيد بعضها إلى بعد وتقول قط قط كما في التأويلات النجمية {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} الإزلاف نزديك كردانيدن اى قربت {لِلْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فتون المحاسن فيبتهجون بأنهم محشورون إليها فائزون بها {غَيْرَ بَعِيدٍ} تأكيد للازلاف أي مكاناً غير بعيد بحيث ينظرون إليها قبل دخولها فيكون انتصابه على الظرفية أو هو حال مؤكدة أي حال كونها غير بعيد أي شيء غير بعيد كقولك هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل إلى غير ذلك من أمثلة التوكيد فالأزلاف تقريب الرؤية وغير بعيد تقريب الدخول فإنهم يحاسبون حساباً يسيراً ومنهم من لا يحاسب أصلا ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث كالزئير والصليل والتأويل الجنة بالبستان وفي إشارة إلى جنة قلوب خواص المتقين أنها قربت لهم في الدنيا بالأجساد وهم في الآخرة بالقلوب.
جنت نقدست اينجا عشرت وعيش وحضور.
ويقال أن الجنة تقرب من المتقين كما أن النار تجر بالسلاسل إلى المحشر للمجرمين ويقال بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين مسيرهم إليها ويراد بهم الخواص من المتقين ويقال هم ثلاثة أصناف قوم يحشرون إلى الجنة مشاة وهم الذين قال فيهم وسبق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً وهم عوام المؤمنين وقوم يحشرون إلى الجنة ركباناً على طاعتهم المصورة لهم بصورة حيوان وهؤلاء هم الخواص وأما خاص الخاص فهم الذين قال فيهم وأزلفت الجنة للمتقين فقرب الجنة منهم غير بعيد أي الجنة غير بعيد عنهم وهم البعداى عن الجنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر {هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ} أي حال كون أولئك المتقين مقولاً لهم من قبل الله أو على ألسنة الملائكة عندما شاهدوا الجنة ونعيمها هذا المشاهد أو هذا الثواب أو الازلاف والتذكير لتذكير الخبر أو إشارة
130
إلى الجنة والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلاً عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أْكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي وقوله ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي التأويلات النجمية هذا إشارة إلى مقعد صدق ولو كانت الإشارة إلى الجنة لقال هذا {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل من المتقين بإعادة الجار أي رجاع إلى الله فأولاً يرجع من الشرك إلى التوحيد وثانياً من المعصية إلى الطاعة وثالثاً من الخلق إلى الحق قال ابن عمر رضي الله عنهما : لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر وفي المفردات الأواب كالتواب وهو الراجع إلى الله بترك المعاصي وفعل الخيرات ومنه قيل للتوبة أوبة والفرق بين الأوب والرجوع أن الأوب ضرب من الرجوع وذلك أنه لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره آب أو باو ايابا ومآبا والمآب مصدر منه واسم الزمان والمكان {حَفِيظُ} حافظ لتوبته من النقض ولعهده من الرفض.
قال في التأويلات النجمية : مقعد صدق هو في الحقيقة موعود للمتقين الموصوفين بقوله لكل اواب حفيظ وهو الراجع إلى الله في جميع أحواله لا إلى ما سواه حافظاً لأنفاسه مع الله لا يصرفها إلا في طلب الله يعني درهر نفس از حق تعالى غافل نباشد :
اكر تواس دارى اس انفاس
بسلطاني رسانندت ازين اس
ترا يك ند بس درهر دو عالم
كه برنايد زجانت بى خدادم
(9/105)
وقال سهل رضي الله عنه هو الراجع إلى الله تعالى بقلبه من الوسوسة إلى السكون إلى الله الحفيظ المحافظ على الطاعات والأوامر وقال المحاسبي الأواب الراجع بقلبه إلى ربه والحفيظ الحافظ قلبه في رجوعه إليه أن لا يرجع منه إلى أحد سواه وقال الوراق هو المحافظ لأوقاته وخطراته أي الخطرات القلبية والالهامات وفي الحديث من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً {مِنَ} هركه.
وهو وما بعده بدل بعد بدل {خَشِىَ الرَّحْمَـانَ} الخشي خوف يشوبه تعظيم وفي عين المعاني انزعاج القلب عند ذكر السيئة وموجبها وقال الواسطي الخشية ارق من الخوف لأن الخوف للعامة من العقوبة والخشية من نيران الله في الطبع فيها نظافة للعلماء ومن رزق الخشية لم يعدم الإنابة ومن رزق الإنابة لم يعدم التفويض والتسليم ومن رزق التفويض والتسليم لم يعدم الصبر على المكاره ومن رزق الصبر على المكاره لم يعدم الرضى وقال بعضهم : أوائل العلم الخشية ثم الإجلال ثم التعظيم ثم الهيبة ثم الفناء وعن بعضهم الخشية من الرحمن خشية الفراق ومن الجبار والقهار خشية العقوبة {بِالْغَيْبِ} متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خشي أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب عنه أو العقاب بعد غيب يعند ناديده اورا وعذاب اورا.
أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد يعني نهان واشكار اي او يكى باشد.
وقال بعض الكبار بالغيب أي بنور الغيب يشاهد شواهد الحق فيخشى منه والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجعون رحمته أو بأن علمهم بسعة رحمته لا يصدهم عن خشيته وأنهم عاملون بموجب قوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم {وَجَآءَ} وبياورد
131
{بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} وصف القلب بالإنابة مع أنها وصف المكلف لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى أي لا عبرة للإنابة والرجوع إلا إذا كان من القلب والمراد بها الرجوع إلى الله تعالى بما يحب ويرضى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قال في المفردات النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى والإنابة إلى الله الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل.
وفي التأويلات النجمية بقلب منيب إلى ربه معرض عما سواه مقبل عليه بكلية {ادْخُلُوهَا} بتأويل يقال لهم ادخلوها والجمع باعتبار معنى من {بِسَلَـامٍ} متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوها أي ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم وحلول النقم أو بسلام من جهة الله وملائكته {ذَالِكَ} إشارة إلى الزمان الممتعد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور {يَوْمُ الْخُلُودِ} والبقاء في الجنة إذا انتهاء له أبداً قال الراغب : الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها ولك ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم الأيام خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها وقال سعدي المفتي ولا يبعد والله أعلم أن تكون الإشارة إلى زمان السلم فتحصل الدلالة على أن السلامة من العذاب وزوال النعم حاصلة لهم مؤيداً مخلداً لا أنها مقتصرة على وقت الدخول {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ} من فنون المطالب كائناً ما كان سوى ما تقتضي الحكمة حجره وهو ما كان خبيثاً في الدنيا أبداً كاللواطة ونحوها فإنهم لا يشاءونها كما سبق من أن الله يعصم أهل الجنة من شهوة محال أو منهى عنه {فِيهَا} متعلق بيشاءون أو حال من الموصول قال قال القشيري يقال لهم قد قلتم في الدنيا ما شاء الله كان فاليوم ما شئتم كان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان {وَلَدَيْنَا} وعندنا {مَّزِيدٍ} أي زيادة في النعيم على ما يشاءون وهو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من أنواع الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاءوا ثم يزيدهم من عنده ما لم يسألوه ولم تبلغه أمانيهم وقيل أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور فتقول نحن المزيد الذي قال تعالى ولدينا مزيد وقال الراغب : الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء من نفسه شيء آخر وروي من طرق مختلفة أن هذه الزيادة النظر إلى وجه الله إشارة إلى أنعام وأحوال لا يمكن تصورها في الدنيا انتهى وكذا قال غيره المختار أن المزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم فيجتمعون في كل يوم جمعة فلا يسألون شيئاً إلا أعطاهم وتجلى لهم ويقال ليوم الجمعة في الجنة يوم المزيد وفي الحديث أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال بعض الكبار هي المشاهدة الذاتية وما ينتج من دخول الجنة في الدار الآخرة نتيجة الطاعات في هذه الدار لمن اختصه الله فنتيجنتنا في هذه الدار طاعات ومجاهدات توصل إلى تجليات ومشاهدات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/106)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن من يريدنا ويعبر عن نعيم الجنة للوصول إلينا فيصل إلينا ولدينا يجد بالمزيد ما يشاء أهل الجنة منها وهذا كما قال : من كان لي كنت له ومن كنت له يكون له ما كان لي وقال تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه فإن قيل الزيادة في الدنيا تكون أقل من رأس المال قلت المراد
132
بالزيادة في الآية الكريمة هو الزيادة على موعود الجنة لا من درجات الجنة لأن الزيادة هنا ليست من جنس المزيد عليه حتى يلزم ذلك بخلافه في قوله عليه السلام : أن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر فإن الزيادة هنا من جنس المزيد عليه وقضيته الفرضية إلا أنه لما ثبت بخبر الواحد لم يكن مقطوعاً به فقيل بالوجود فالزيادة من الله العزيم الأكبر أكبر وأعز كما أن الرضوان من الكريم الأجود أكبر وأجل والنظر إلى وجهه الكريم كمال الرضى ومزيد فضل وعناية وقال الحسن البصري أن الله ليتجلى لأهل الجنة فإذا رأوه نسوا نعيم الجنة ثم يقول الله لملائكته ردوه إلى قصورهم إذ لا يهتدون بأنفسهم لأمرين لما طرأ عليهم من سكر الرؤية ولما زاد من الخير في طريقهم فلم يعرفوها فلولا أن الملائكة تدل بهم ما عرفوا منازلهم فإذا وصلوا إلى منازلهم تلقاهم أهلهم من الحور والولدان فيرون جميع ملكهم قد اكتسب بهاء وجمالاً ونوراً من وجوههم أفاضوه إفاضة ذاتبة على ملكهم فيقولون لهم لقد زدتم نوراً وبهاء وجمالاً على ما تركناكم عليه فيقول لهم أهلهم وكذلك أنتم قد زدتم من البهاء والجمال ما لم يكن فيكم فافهم أسرار تسمي الرؤية بالزيادة لأنها تورث زيادة الجمال والعلوم والكمال ويتفاوت الناس بالرؤية تفاوتاً عظيماً على قدر عملهم قال بعض الكبار إذا أخذ الناس منازلهم في الجنة استدعاهم الحق تعالى إلى رؤيته على مقام الكثيب وهو مسك أبيض في جنة عدن وجعل في هذا الكثيب منابر وأسرة وكراسي ومراتب فيسارعون إلى قدر عممهم ومراكبهم ومشيهم هنا في طاعة ربهم فمنهم السريع والبطيء والمتوسط فيجتمعون في الكثيب فكل شخص يعرف مرتبته علماً ضرورياً يهوى إليها ولا ينزل إلى فيها كما يهوى الطفل إلى الثدي والحديد إلى المغناطيس لورام أن ينزل في غير مرتبته لما قدر ولو رام أن يتعشق بغير منزلته ما استطاع بل يرى في منزلته أنه قد بلغ منتهى أمله وقصده فهو يتعشق بما فيه من النعيم تعشقاً طبيعياً ذاتياف لا يقوم بنفسه بما هو عنده أحسن من حاله ولولا ذلك لكانت دار ألم وتنغيص ولم تكن جنة ولا نعيماً فكل شخص مقصور عليه نعيمه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
بعلم نظر كوش جامى كه نيست
زتحصيل علم دكر حاصلي
وقال المغربي :
نخست ديده طلب كن س آنكهة ديدار
ازانكه يار كند جلوه بر اولوا الابصار
وقال الخجندي :
باروى تويست جنت وحور
هريز نكو نمايد ازدور
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} كم للتكثير هنا وهي خبرية وقعت مفعول أهلكنا ومن قرن مميزها وبين لأنها مها {قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} القرن القوم المقترنون أي وكثيراً من القرون الذين كذبوا رسلهم أهلكنا قبل قومك وهم كفار مكة وبالفارسية وبس كسان كه هلاك كرده ايم يش ازقوم تواز اهل قرن وكروه كروه جهانيان كه بحسب واقع {هُمْ} ايشان {أَشَدُّ مِنْهُم} سخت تربودنداز كفار مكه {بَطْشًا} ازروى قوت وعظيم تر بودند از روى جسد ون عاد وثمود وفرعون ومحل الجملة النصب على أنها صفة لكم وفيه إشارة
133
إلى إهلاك النفوس المتمردة في القرون الماضية إظهاراً لكمال القدرة والحكمة البالغة لتتأدب به النفوس القابلة للخير وتتعظ به القلوب السلمة {فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ} قال في القاموس نقب في الأرض ذهب كأنقب ونقب وعن الأخبار بحث عنها أو أخبر بها والنقب الطريق في الجبل وفي تاج المصادر التنقيب شب در راهها كرديدن وفي المصادر شدن اندر شهرها.
والمعنى خرقوا فيها أي أوقعوا الخرق فيها والجوب وقطع المفازة ودوخوا أي أذلوها وقهروا أهلها واستولوا عليهم وتصرفوا في أقطارها أو جالوا في أكناف الأرض كل مجال حذار الموت فالفاء على الأول لتسبب والدلافة على أن شدة بطشهم ابطرتهم واقدرتهم على التنقيب وعلى الثاني لمجرد التعقيب وأصل التنقيب والنقب التنقير عن الأمر والبحث والطلب ولذا قال في كشف الأسرار أي أبعدوا فيها السير وبحثوا عن الأمور والأسباب قال امرؤ القيس :
لقد نقبت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالاياب
(9/107)
وبالفارسية س دور شدند وفراوان رفتند درزمين وراه بريدند درشهرها يعني رفتند تجارت وسفرها كردند ومال ومتاع بسيار بدست آوردند.
وفي فتح الرحمن أي طافوا في نقوبها أي طرقها {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} حال من واو نقبوا وأصله من قولهم وقع في حيص بيص أي في شدة وحاص عن الحق يحيص أي حاد عنه إلى شدة ومكروه وفي القاموس المحيص المهرب أي فنقبوا في البلاد قائلين هل من محيص أي هل لهم من مفر ومخلص من أمر الله وعذابه أو من الموت فمحيص مبتدأ خبره مضمر وهو لهم ومن زائدة وبالفارسية هي بودمر ايشانرا كريز كاهى ازمرك ياناهى از قضاى خداى تعالى كه حكم فنا نازل شد هي يز دستكيرىء ايشان نكرد.
ويجوز أن تكون الجملة كلا ما مستأنفاً وارد النفي أن يكون لهم محيص يعني نكريد تاهي ازمرك رستند يعني نرستند واز عقوبت حق خلاص نشدند.
فإن أصر أهل مكة فليحذروا من مثل ما حل بالأمم الماضية فإن الغاية هو الهلاك والنهاية هو لعذاب روز كارى كه آدم را وفانداشت تراكى وفا دارد عمرى كه برنوح بايان رسيد باتوكى بقادارد اجلى كه برنوح بايان رسيد باتوكى بقادارد اجلى كه بر خليل تاختن آورد تراكى فرو كذارد مركى كه بر سليمان كمين ساخته بانوكى مساحت كند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
نه برباد رفتى سحر كاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدى كه برباد رفت
خنك آنكه بادانش ودادرفت
مؤكلى كه جان مصطفى را صلى الله عليه وسلّم تقاضا كرد باتوكى مدارا كند اكر عمر نوح ومال قارون وملك سليمان بدست آرى بدرد مرك سودندارد وباتو محابا نكند هفت هزار سال كه كسرى كذشت تا آدميان اندرين سفرنداز اصلاب بارحام مى آيند واز ارحام به شت زمين وان شت زمين بشكم زمين ميروندهمه عالم كور ستانست زيرا وهمه حست زيرا وهمه درحيرت سر برآور از آسمان برس كه ند ادشاه ياد دارى شم بر زمين افكن وباز رس كه درشكم ند نازنين دارى :
134
سل الطارم العالي الذرى عن قطينه
نجاما نجا من بؤس عيش ولينه
فلما استوى في الملك واستعبد الورى
رسول المنايا تله لجبينه
جهان اى سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفادارى اميد نيست
أي سخره امل أي غافل از اجل كارى كه لا محاله بودنيست ازان نه انديشى وراهى كه على الحقية رفتنيست زاد آن راه برنكيرى شغل دنيا راست ميدارى وبرك مرك مى نسازى أي مسكين مركت درقفاست ازو ياد دار منزلت كورست آباد دار حطام دنيا جمع ميكنى واز مستحق منع ميكنى ه طمع دارى كه جاويد بان بمانى باش تا ملك الموت در آيد وجانت غارت كند و وارث درآيد مالت غارت كند وخصم درآيد طاعت غارت كند وكرم در آيد وست وكوشت غارت كند وآه اكر باين غفلت دشمن درآيد وايمان غارت كنده نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المتيقظين ومن الثابتين على الدين واليقين ومن رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي فيما ذكر من قصتهم أو فيما ذكر في هذه السورة من العبر والاخبار وإهلاك القرى {لَذِكْرَى} لتذكرة وعظة وبالفارسية ند {لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} أي قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور ويتفكر فيها كما ينبغي فإن من كان له ذلك يعلم أن مدار دمارهم هو الكفر فيرتدع عند بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير قال الراغب قلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح ولعلم والشجاعة وسائر ذلك وقوله لمن كان له قلب أي علم وفهم انتهى وفسره ابن عباس رضي الله عنهما بالعقل وذلك لأن العقل قوة من قوى القلب وخادم من خدامه كما في كتاب الجواهر للشعراني فمن له أدنى عقل فله ذكرى كما قال تعالى : أفلا تعقلون أي أدنى تعقل وقال أبو الليث لمن كان له قلب أي عقل لأنه يعقل بالقلب فكنة عنه انتهى وفي الأسئلة المقحمة كيف قال لمن كان له قلب ومعلوم أن لكل إنسان قلباً قلت أن المراد ههنا بالقلب عقل كنة بالقلب عن العقل لأنه محله ومنبعه كما قال تعالى فإنه نزله على قلبه وسمعت بعض الشيوخ يقول لمن كان له قلب مستقر على الإيمان لا ينقلب بالسراء والضراء انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/108)
وفي تفسير الكاشفي : آنكس راكه اورا دلى زنده است وفي كشف الأسرار دلى متفكر در حقايق اخبار يا عقلى بيدار كننده از خواب غفلت شبلى قدس سره فرمود موعظه قرآنرا دلى بايد باخداى تعالى كه طرفة العيني غافل نباشد {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم فإن من فعله يقف على جلية الأمر فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر فكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فإن القاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب كما يلوح به قوله {وَهُوَ} أي والحال أن ذلك الملقى فهو حال من الفاعل {شَهِيدٌ} من الشهود بمعنى الشاهد أي حاضر بذعنه ليفهم معانيه لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره وقال سعدي المفتي أو لتقسيم المتفكر إلى التالي السامع أو إلى الفقيه والمتعلم وبعبارة أخرى إلى العالم المجبول على الاستعداد الكامل فهو بحيث يحتاج إلى التعليم فيتذكر بشرط أن
135
يقبل بكليته ويزيد الموانع كلها وقال بعض الكبراء من العارفين أن في ذلك أي القرآن الناطق بإثبات أمور متخالفة للحق سبحانه من التنزيه والتشبيه لذكرى أي تذكراً لما هو الحق عليه في نفسه من التقلب في الشؤون لمن كان له قلب سمي به لتقلبه في أنواع الصور والصفات المتخالفة لاختلاف التجليات ولم يقل لمن كان له عقل فإن العقل قيد لغة وحقيقة أما لغة فإنه يقال عقل البعير بالعقال أي قيده وعقل الدواء البطن أي عقده وأما حقيقة فلأن العقل يقيد العاقل بما يؤدي نظره وفكره إليه فيحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبى الحصر فليس القرآن ذكرى لمن كان له عقل يقيده بما يؤيده الكفر إليه فإنه ليس ممن يتذكر بما وقع في القرآن من الآيات الدالة على التنزيه والتشبيه جميعاً بل يؤول ما وقع على خلاف ما يؤديه فكره إليه كالآيات الدالة على التشبيه مثلاً وهم أي من كان له عقل هم أصحاب الاعتقادات الجزئية التقييدية الذين يكفر بعضهم الذي يؤديه فكره إلى عقد مخصوص بعضاً آخر يؤديه فكره إلى خلاف ما أدى إليه فكر البعض الأول ويلعن بعضهم بعضاً والحق عند العارف الذي يتقلب قلبه في أنواع الصور والصفات لأنه يعرف أن لا غير في الوجود وصور الموجودات كلها صورته فلاختصاص معرفة الحق في جميع الصور في الدنيا والآخرة بالعارف الناتج معرفته عن تقلب قلبه قال تعالى لمن كان له قلب فإنه قد تقلب قلبه في الاشكال فعلم تقلب الحق في الصور وهذا النوع من المعرفة الذي لا يعقبه نكرة حظ من عرف الحق من التجلي والشهود أي من تجليه في الصور وشهوده فيها حال كونه مستقراً في عين مقام الجميع بحيث لا يشغله صور التفرقة عن شهوده وأما أهل الإيمان الاعتقادي الذين لم يعرفوا الحق من التجلي والشهود فهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق من غير طلب دليل عقلي لا من قلبد أصحاب الأفكار والمتأولين للاخبار الواردة الكاشفة عن الحق كشفاً مبيناً يحملها على أدلتهم العقلية وارتكاب احتمالاتها البعيدة فهؤلاء الذين قلدوا الرسل عليهم السلام حق التقليد هم المرادون بقوله أو ألقى السمع لاستماع ما وردت به الاخبار الإلهية عن ألسنة الأنبياء وهو حاضر بما يسمعه مراقب له في حضرة خياله يعني ينبغي لملقى السمع أن يجهد في إحضار ما يسمعه في خياله لعله يفوز بالتجليات المثالية لا أن يكون صاحب تلك التجليات بالفعل وإلا بقي بعض ملقدة الانبياء خارجاً عن هذا الحكم فليس المراد بالشهود ههنا الرؤية البصرية بل ما يشابهها كمال المشابهة وهو مشاهدة الصور المتمثلة في حضرة الخيال ليس إلا ومن قلد صاحب نظر فكري فليس هو الذي ألقى السمع وهو شهيد فالمقلدون لأصحاب الافكار هم الذين قال الله فيهم از تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا لأن المتبوعين دعوا التابعين إلى خلاف الواقع فتبعوهم ورجع نكال متابعتهم إلى متبوعيهم فتبرأوا منهم والرسل لا يتبرأون من اتباعهم الذين اتبعوهم لأنهم دعوهم إلى الحق والصدق فتبعوهم فانعكست أنوار متابعيهم اليهم فلم يتبرأوا منهم فاعرف.
درلباب آورده كه صاحب قلب مؤمن عريست وشهيد مؤمن أهل كتاب كه كواهى دارد بركفت حضرت يغمبر عليه السلام شيخ أبو سيعد خراز قدس
136
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
سره فرموده كه القاى سمع بوقت شنيدن قرآن نان بايدكه كويا از حضرت يغمبر مى شنود س در فهم بالاتر رود ونان داندكه از جبرائيل استماع ميكند س فهم را بلند ترسازد ونان داندكه از خداى تعالى مى شنود شيخ الاسلام قدس سره فرموده كه اين سخن تامست وبرو در قرآن كواهى هست وآن لفظ شهيدست وشهيد از كوينده شنودنه ازخبر دهنده ه غائب ازمخبر مى شنود وحاضر بامتكلم واز امام جعفر رضي الله عنه منقولست كه تكرار ميكردم قرء آنرا تا وقتى كه از متكلم آن شنودم.
(9/109)
وفي التأويلات النجمية القلوب أربعة : قلب يائس وهو قلب الكافر وقلب مقفول وهو قلب المنافق وقلب مطمئن وهو قلب المؤمن وقلب سليم من تعلقات الكونين وهو قلب المحبين المحبوبين الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن وقوله أو ألقي السمع وهو شهيد يعني من لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع بالله وهو حاضر مع الله فيعتبر مما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر وقال ابن عطاء قلب لاحظ الحق بعين التعظيم فذاب له وانقطع عما سواه وإذا لاحظ القلب الحق بعين التعظيم لان وحسن وقال بعضهم : القلب مضغة وهو محل الأنوار ومورد الزوائد من الجبار وبه يصح الاعتبار جعل الله القلب للجسد اميراً وقال : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ثم جعله لربه أسيراً فقال يحول بين المرء وقلبه وقال بعضهم : للقلوب مراتب : فقلوب في قبضة الحق مأسورة وقلوب والهة وقلوب طائرة بالشوق إليه وقلوب إلى ربها ناظرة وقلوب صاحبت الآمال في الله وقلوب تبكي من الفراق وشدة الاشتياق وقلوب ضاقت في دار الفناء وقلوب خاطبها في سرها فزال عنها مرارة الأوجاع وقلوب سارت إليه بهمتها وقلوب صعدت إليه بعزائم صدقها وقلوب تقدمت لخدمته في الحلوات وقلوب شربت بكأس الوداد فاستوحشت من جميع العباد إلى غير ذلك ويدل على شرف القلب قوله عليه السلام : تفكر ساعة خير من عبادة الثقلين.
ون بنده بدركاه آيد ودل اوكرفتار شغل دنيا رقم خذلان بران طاعت كشند وبروى اوباز زنندكه كفته اند من لم يحضر قلبه في الصلاة فلا تقبل صلاته ومن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها ولا كان له فيها قرة عين لأنه لم ير من يناجيه فإن لم يسمع ما يرد عليه من الحق في الصلاة من الواردات الغيبية فما هو ممن ألقى سمعه ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه لم يسمع ولم ير فليس بمصل ولا هو ممن ألقى السمع وهو شهيد يعني أدنى مرتبة الصلاة الحضرو مع الرب فمن لا يرى ربه فيها ولا يشهده شهوداً روحانياً أو رؤية عيانية قلبية أو مثالية خيالية أو قريباً منها المعبر عنه بقوله عليه السلام : أن تعبد الله كأنك تراه ولا يسمع كلامه المطلق بغير واسطة الروحانيات أو بواسطة منهم ولا حصل له الحضور القلبي المعبر عنه بقوله فإن لم تكن تراه فاعلم أنه يراك فليس بمصل وصلاته أفادت له الخلاص من القتل لا غير وبقدر خوف المرء من ربه وقربه منه يكون حضوره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
نزديكانرا بيش بود حيرانى
كايشان دانند سياست سلطانى
137
آن وزير يوسته از مراقبت سلطان هراسان بود وآن ستوردار راهراسى نه زيرا كه سينه وزير خزينه اسرار سلطانست ومهر خزينه شكستن خطرناك بود وكان عليه السلام يصلي ولصدره ازيز كأزيز المرجل من البكاء والأزيز الغليان وقيل صوته والمرجل قدر من النحاس :
خوشا نماز ونياز كسى كه از سردرد
بآب ديده وخون جكر طهارت كرد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 15 من صفحة 138 حتى صفحة 148
(9/110)
حذيفه يماني رضي الله عنه صاحب سر رسول الله عليه السلام بود كفتا روزى شيطانرا ديدم كه مى كريست كفتم أي لعين ابن ناله وكريه تويست كفت ازبراى دومعنى يكى آنكه دركاه لعنت برما كشاده ديكر آنكه دركاه دل مؤمنان برمايسته بهر وقتى كه قصد دركاه دل مؤمن كنم بآتش هيبت سوخته كردم بداود عليه السلام وحى آمدكه يا داود زبانت دلالى است برسربازار دعوى اورا در صدر دار الملك دين محلى نيست محلى كه هست دلراست كه ازو بوى اسرار أحديت وأزليت آيد عزيز مصر بابرادران كفت رخت برداريد وبوطن وقراركاه خود باز شويدكه ازدلهاى شما بوى مهر بوسفى مى نيايد اينست سر آنه رب العالمين فرمود أن في ذلك لذكرى الآية قال بعض الكبار حقيقة السمع الفهم عن الله فيما يتلوه عليك في الأنفس والآفاق فإن الحق تارة يتلو عليك الكتاب من الكبير الخارج وتارة من نفسك فاسمع وتأهب لخطاب مولاك إليك في أي مقام كنت وتحفظ من الوقر والصمم فالصمم آفة تمنعك عن إدراك تلاوته عليك من الكتاب الكبي المعبر عنه بالفرقان والوقر آفة تمنعك من إدراك تلاوته عليك من نفسك المختصرة وهو الكتاب المعبر عنه بالقرآن إذ الإنسان محل الجمع لما تفرق في العالم الكبير {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} من أصناف المخلوقات {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} درشش روز آن يكشنبه تاشنبه الأرض.
في يومين ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه سن لنا التأني بذلك فإن العجلة من الشيطان إلا في ستة مواضع أداى الصلاة إذا دخل الوقت ودفن الميت إذا حضر وتزويج البكر إذا أدركت وقضاء الدين إذا وجب وحل وإطعام الضيف إذا نزل وتعجيل التوبة إذا أذنب قال بعض العارفين : إذا فتح الله عليك بالتصريف فائت البيوت من أبوابها وإياك والفعل بالهمة من غير الة وانظر إلى الحق سبحانه كيف خمر طينة آدم بيديه وسواه وعدله ثم نفخ فيه الروح وعلمه الأسماء فأوجد الأشياء على ترتيب ونظام وكان قادراً أن يكون آدم ابتداى من غير تخمير ولا شيء مما ذكر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي التأويلات النجمية ولقد خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار وسر الأسرار في ستة أيام أي في ستة أنواع من المخلوقات وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح والأشباح والنفوس والقلوب والأسرار وسر الأسرار فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها فافهم جداً {وَمَا مَسَّنَا} بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر وبالفارسية ونرسيد مارا از آفرينش آنها {مِن لُّغُوبٍ} قال الراغب اللغوب : التعب والنصب يقال آتانا ساعياً لاغياً خائفاً تعباً وفي القاموس لغب ولغوباً كمنع وسمع وكرم
138
أعيى أشد الإعياء وفي تاج المصادر اللغوب مانده شدن.
وفعل يفعل فعولاً وفعلاً أيضاً لغة ضعيفة والمعنى من إعياء ولا تعب في الجملة وبالفارسية هي رنجى وماندكى.
فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الكل على حذ سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرف.
وفي التأويلات النجمية : وما مسنا من لغوب لأنها خلقت بإشارة أمركن كما قال تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر فأنى يمسه اللغوب وإنه صمد لا يحدث في ذاته حادث انتهى وهذا رد عى جهلة اليهود في زعمهم أن الله بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه عما يقولون علواً كبيراً قال العلماء : إن الذي وقع من التشبيه لهذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/111)
يقول الفقير : هذه الآية نظير قوله تعالى أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي مخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى يدل عليه ما بعد الآية وهو قوله : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي ما يقوله المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الإنكار واستبعاد فإن من فعل هذه الأفاعيل بلا فتور قادر على بعثهم والانتقام منهم أوما يقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه وغيرهم وفي تفسير المناسبات لما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة وكشف فيهما الأمر أتم كشف وكان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي سبب عن ذلك قوله فاصبر على ما يقولون أي على جميع الذي يقوله الكفرة وغيرهم انتهى وفيه إشارة إلى تربية النفوس بالصبر على ما يقول الجاهلون من كل نوع من المكروهات وتزكيتها من الصفات المذمومات ملازمة للذكر والتسبيحات والتحميدات كما قال {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه بما يوجب التشبيه حال كونك ملتبساً بحمده على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها قال سهل في الأمالي : سر اقتران الحمد بالتسبيح أبداً كما في الآية وفي قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده إن معرفة الله تنقسم قسمين : معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ، ولا سبيل ءلى إثبات أحد القسمين دون الآخر وإثبات وجود الذات من مقتضى العقل وإثبات الأسماء والصفات من مقتضى الشرع فبالعقل عرفت المسمى وبالشرع عرفت المسمى ولا يتصور في العقل إثبات الذات إلا مع نفي سمات الحدوث عنها وذلك هو التسبيح ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع وإنما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول فنبه العقول على النظر فعرفت ثم علمها ما لم تكن تعلم من الأسماء فانضاف لها إلى التسبيح الحمد والثناء فما أمرنا إلا بتسبيحه بحمده {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة فالتسبيح فيهما بمكان وفي طه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها راعى القياس لأن الغروب للشمس كما أن الطلوع لها {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي وسبحه بعض الليل فقوله من الليل مفعول لفعل مضمر معطوف على سبح بحمد ربك يفسره فسبحه ومن للتبعيض ويجوز أن يعمل فيه الذكور أيضاً
139
ولا تمنع الفاء عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما يجيىء في سورة قريش وقال بعض الكبار قبل طلوع الشمس يعني من أول النهار وقبل الغروب يعني إلى آخر النهار ومن الليل فسبحه يعني من جميع الليل بقدر الوسع والطاقة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/112)
يقول الفقير : ثبت أن بعض أهل الرياضة لم ينم سنين فيمكن له دوام الذكر والتسبيح كما قال تعالى والذين هم على صلاتهم دائمون ويمكن أن يقال أن ذلك حال القلب لا حال القالب فإن أكثر أهل الله ينامون ويقومون على ما فعله النبي عليه السلام لكن قلوبهم يقظى وصلاتهم أي توجههم دائمة فهم في الذكر في جميع آناء الليل والنهار {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} وأعقاب الصلوات وأواخرها جمع دبر من أدبرت الصلاة إذا انقضت والركوع والسجود يعبر بهما عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها كما يعبر بالوجه عن الذات لأنه أشرف أعضائها وفي تفسير المناسبات وسبح ملتبساً بحمد ربك قبل طلوع الشمس بصلاة الصبح وما يليق به من التسبيح وغيره وقبل الغروب بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل في ذلك الوقت والظهر تبع لها ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار إلى الأمور الضرورية التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار والانضمام مع ما في الوقتين من الدلالة الظاهرة على طي الخلق ونشرهم اتبعه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام فقال : ومن الليل أي في بعض أوقاته فسبحه بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها أتبعها النوافل المقيدة بها فقال وأدبار السجود أي الذي هو الأكمل في بابه وهو صلاة الفرض بما يصلي بعده من الرواتب والتسبيح بالقول أيضاً والمعنى والله أعلم أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذبين وأن الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة النصب ولهذا كان النبي عليه السلام إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة انتهى.
يقال حزبه الأمر نابه واشتد عليه أو ضغطه وفزع إليه لجأ وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وعليه جمهور المفسرين وعن النبي عليه السلام : من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين وعنه عليه السلام ركعتا الفجر أي سنة الصبح خير من الدنيا وما فيها وكان عليه السلام يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد قاله ابن مسعود وعن مجاهد وأدبار السجود هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبة وفي الحديث من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين فذلك تسع وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الوفور بالدرجات والنعيم المقيم قال : وكيف ذلك؟ قالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال : أفلا أخبركم بأمر تدركون به
140
(9/113)
من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً كما في كشف الأسرار يقول الفقير : لعل سر التثليث في بياعه عليه السلام دائر على التثليث في بيانهم فإنهم قالوا صلوا وجاهدوا وأنفقوا فقال عليه السلام : تسبحون وتحمدون وتكبرون وفي تخصيص العشر في هذه الحديث رعاية لسر قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فإن كل عشر إذا ضوعف أفرادها بعشرة الأمثال تبلغ إلى المائة المشيرة إلى الأسماء الحسنى التسعة والتسعين مع أحديتها فإذا كان كل عشر مائة يكون المجموع ثلاثمائة لكنه عليه السلام أراد أن يبلغ الأعداد المضاعفة إلى الألف لتكون إشارة إلى ألف اسم من أسمائه تعالى فزاد في كل من التسبيح والتحميد والتكبير باعتبار أصوله حتى جعله ثلاثاً وثلاثين وجعل تمام المائة القول المذكور في الحديث الأول فيكون أصول الأعداد مائة بمقابلة المائة المذكورة وفروعها وهي المضاعفات ألفاً ليكون بمقابلة الألف المذكور فإن قلت فأهل الوفور لا يخلو من أن يقولوا ذلك في أعقاب الصلوات فإذا لا فضل للفقراء عليهم قلت : جاء في حديث آخر إذا قال الفقير : سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر مخلصاً وقال الغني مثل ذلك لم يلحق الغني الفقير في فضله وتضاعف لثواب وإن أنفق الغني معها عشرة آلاف درهم وكذلك إهمال البر كلها فظهر فضلهم عليهم والحمدتعالى وفي الآية بيان فضيلة النوافل قال عليه السلام : خطاباً لأبي الدرداء رضي الله عنه : يا عويمر اجتنب مساخط الله وأد فرائض الله تكن عاقلاً ثم تنفل بالصحالحات من الأعمال تزدد من ربك قرباً وعليه عزاً وفي الحديث حسنوا نوافلكم فيها تكمل فرائكم وفي المرفوع النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطبها وفي الحديث ازدلفوا إلى الله بركعتين أي تقربوا وفي الحديث القدسي ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه وأنه ليتقرب إلى بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه والمراد بالنوافل نوافل الصلوات وغيرها ومنها سلوك الصوفية فإنه يتقرب به السالك إلى الله بإزالة الحجب المانعة عن النظر إلى وجه الله الكريم قال الراغب : القرب إلى الله قرب روحاني بإزالة الأوساخ من الجهل والطيش والغضب والحاجات البدنية بقدر طاقة البشر والتخلق بالأخلاق الإلهية من العلم والحكمة والرحمة وفي ترجمة الفتوحات المكية دراد أي فرائض عبوديت اضطرارست ودر نوافل عبوديت اختبار ونفل در ركعت زائد را كويند وتودر اصل خود زائدي بر وجود حق تعالى ه اوبودوتو نبودى وبوجود تووجود حادث زياده شدس عمل نقل أشارت بوجود تست كه زائدست واصل تست وعمل فرض اشارت بوجود حق است كه اصل كلى است س دراد اى فرائض بنده براى اوست ودر اداى نوافل براى خود وقتى كه دركار اوباشى هرآينه دوسترازان داردكه دركار خود باشى وثمرة اين حب كه دركار خودى است كه كنت سمعه وبصره ثمره آن حب كه دركار او باشى اعني الأعمال فرائض قياص كن كه ه كونه باشد وبدان كه درنفس نفل فرائض ونوافل هست اكر در فرض نقصانى واقع شده باشد بدان فرائض كه درضمن نفل است تمام كرده شود در خبر
141
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/114)
صحيح آمده است كه حق تعالى فرمايد كه درنماز بنده نكاه كنيد اكر تمام باشد تمام نويستد واكر ناقص باشد فرمايدكه ببينيدكه اين بنده را هي تطوعى هست اكر باشد فرمايدكه فريضه بنده رابدان تطوعات تمام سازيد ون ركوع وسجود وسائر افعال كه نفل بى آن درست نيست كه سادمسد فرض شود حق تعالى اين فروض را درميانه نوافل نهاد تاجبر فرض بفرض باشد انتهى.
قال بعض الكبار : من أراد العلم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليكثر من الطاعات والنوافل حتى يحبه الحق فيعرف الله با لله ويعرف جميع الأحكام الشرعية بالله لا بعقله ومن لم يكثر مما ذكر فليقلد ربه فيما أخبر إلا يأولا فإنه أولى من تقليد العقل.
يقول الفقير : دخل في أدبار السجود والنوافل مثل صلاة الرغائب وصلاة البراءة وصلاة القدر فإن صلاة الرغائب تصلي بعد المغرب في ليلة الجمعة الأولى من شهر الله رجب والثانية بعد العشاء في ليلة النصف من شعبان والثالثة بعد العشاء أيضاً في ليلة القدر وتلك الصلوات من مستحسنات المشايخ المحققين لأنها النوافل أي زوائد على الفرائض والسنن وهذا على تقدير أن لا يكون لها أصل صحيح في الشرع وقد تكلم المشايخ عليها والأكثر على أنه عليه السلام صلاها فلها أصل صحيح لكن ظهورها حادث ولا يقدح هذا الحدوث في أصالتها على أن عمل المشايخ يكفي سنداً فإنهم ذووا الجناحين وقد أفردت لهذا الباب جزاء واحداً شافياً {وَاسْتَمِعْ} يا محد بما يوحى إليك من أحوال القيامة وفي حذف مفعول استمع وإبهامه ثم تفسيره بقوله يوم الخ تهويل وتفظيع للمخبر به كما يروى عن النبي عليه السلام أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك والسمع إدراك المسموع بالاصغاء والفرق بين المستمع والسامع أن المستمع من كان قاصداً للسماع مصغياً إليه والسامع من أنفق سماعه من غير قصد إليه فكل مستمع سامع من غير عكس {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} أصله ينادي المنادى قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير المنادى بالياء في الوصل وهو الأصل في اللغة والباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه واكتفى به والمنادى هو الملك النافخ في الصور وهو إسرافيل عليه السلام والنداء نفخه سمي نداء من حيث أنه جعله علمنا للخروج وللحشر وإنما يقع ذلك النداء كأذان المؤذن وعلامات الرحيل في العساكر وقيل هو النداء حقيقة فيقف على الصخرة ويضع اصبعه في أذنيه وينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إلى الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وقيل اسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} إلى السماء وهو صخرة بيت المقدس فإن بيت المقدس أقرب من جميع الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً أو ثمانية عشر ميلاً وهو وسط الأرض كما قاله علي رضي الله عنه أو من مكان قريب يصل نداؤه إلى الكل على سواء.
يعني آواز او بهمه جا برسد واز هي موضعى دور نبود.
وفي كشف الأسرار سمي قريباً لأن كل إنسان يسمعه من طرف أذنه وقيل من تحت أقدامهم وقيل من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة ولعل ذلك في الإعادة مثل كن في البدء {يَوْمَ} الخ بدل من يوم ينادي
142
(9/115)
الخ {يَسْمَعُونَ} أي الأرواح وقيل الأجساد لأنه يمدها أآبعين سنة كما في عين المعاني {الصَّيْحَةَ} وهي صيحة البعث التي هي النفخة الثانية والصبحة والصباح الصوت بأقصى الطاقة {بِالْحَقِّ} متعلق بالصيحة على أنه حال منها والعامل في الظرف ما يدل عليه وقوله تعالى {ذَالِكَ} أين روز {يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور وهو من أسماء يوم القيامة وسمي يوم العيد يوم الخروج أيضاً تشبيهاً به والمعنى يوم يسمعون الصيحة ملتبسة بالحق الذي هو البعث يخرجون من القبور إلى المحاسبة ثم إلى إحدى الدارين إما إلى الجنة وإما إلى النار قال في كشف الأسرار : ون اين ندا درعالم دهد در خلق اضطرار افتدآن كوشتهاى ووستهاى وسيده واستخوانها ويزيده وخاك كشسته وذره ذره بهم برآميخته بعضى بشرق بعضي يغرب بعضي به بربعضي به بحر بعضي كركان خورده وبعضي مرفان رده همه باهم مى آيد وذره ذره بجاى خود باز ميشود هره درهفت اقليم خاكى جانور بوده از ابتداء دور عالم تاروز رستا خيز همه باهم آيدتنها راست كردد وصورتها يدا شود اعضا واجزاى مرتب ومركب كردد ذره كم نه وذره يش نه موى ازين بان نياميزد وذره ازان به اين نه يوندد آه صعب روزى كه حشر ونشرست روز جزاء خير وشرست ترازوى راستى آو يخته كرسى قضا نهاده بساط هيبت باز كسترده همه خلق بزانو در آمده كه وترى كل امة جاثية دوزخ مى غردكه تكاد تميز من الغيظ زبانيه در عاصى آو يخته كه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه هركس بخود درمانده واز خويش ويوند بكريخته لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه آورده اندكه يش از آمدن خلق ازخاك جبريل وميكائيل بزمين آيند براق مى آرندو حله وتاج ازبهر مصطفى صلوات الله عليه واز هول آن روز ندانندكه روضه سيد كجاست اززمين مى برسند وزمين ميكويد من ازهول رستا خيز ندانم كه دربطن خود ه دارم جبريل بشرق وغرب همى نكرد از آنجا كه خوابكاه سيدست نورى برآيد جبريل آنجا شتابد سيد عالم صلوات الله عليه ازخاك بر آيد نانكه درخبرست انا اول من تنشق عنه الأرض أول سخن اين كويد اى جبرائيل حال امتم يست خبر ه دارى كويد اى سيد اول تو برخاسته ايشان درخاك اند اى سيد توحله دروش وتاج بر سرنه وبر براق نشين وبمقام شفاعت رو تا مت در رسند مصطفى عليه السلام همى رودنا بحضرت عزت سجده آرد وحق راجل جلاله بستايد وحمد كويد از حق تعالى خطاب آيدكه اى سيد امروزنه روز خدمت است كه روز عطا ونعمت است نه روز سجود است كه روز كرم وجودست بردار وشفاعت كن هره توخواهى آن كنم تودر دنياهمه آن كردى كه ما فرموديم ما امروز ترا آن دهيم كه توخواهى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال المولى الجامي في سلسلة الذهب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
سويم افكن زمر حمت نظري
باز كن بر رخم زفضل درى
لب بنبان ى شفاعت من
منكر دركناه وطاعت من
مانده ام زير بار عصيان ست
افتم ازاى اكر نكيرى دست
رحم كن برمن وفقيرىء من
دست ده بهر دستكيرىء من
143
{إِنَّا نَحْنُ نُحْى وَنُمِيتُ} في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد فتكرير الضمير بعد ايقاعه اسما للتأكيد والاختصاص والتفرد.
قال الكاشفي : يعني نطفه مرده راحيات مى دهيم وميرانيم ايشانرا دردنيا {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فليستعدوا للقائنا وفيه إشارة إلى مراقبة القلوب بعد انقضاء أوقات الذكر لاستماع نداء الهواتف الغيبية والإلهامات الربانية والإشارات الإلهية من مكان قريب وهو القلب يوم يسمع النفوس الصيحة من جانب الحق بتجلي صفاته ذلك يوم الخروج من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية والربانية إنا نحن نحيي القلوب الميتة ويميت النفوس الحية وإلينا المصير لمن ماتت نفسه وحيى قلبه.
(9/116)
واعلم أن الحشر حشر عام وهو خروج الأجساد من القبور إلى المحشر يوم النشور وحشر خاص وهو خروج الأرواح الأخروية من قبور الأجسام الدنيوية بالسير والسلوك في حال حياتهم إلى العالم الرواحاني وذلك بالموت بالإرادة عن الصفات الحيوانية النفسانية قبل الموت بالاضطرار عن الصورة الحيوانية وحشر أخص وهو الخروج من قبور الأنانية الروحانية إلى الهوية الربانية وكما أن الموت نوعان : اضطراري واختباري فكذا الولادة الاضطرارية بخلق الله تعالى لا مدخل فيها الكسب العبد واختياره وأما الاختيارية فإنما تحصل بالكسب وهو الذي أشار إليه عيسى عليه السلام بقوله : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين {يَوْمَ تَشَقَّقُ الارْضُ عَنْهُمْ} بحذف إحدى التاءين من تتشقق أي تتصدع قال في تاج المصادر التشقق شكافته شدن والمعنى بالفارسية بياد آر روزى راكه بشكافد زمين ودور شود ز آدميان يعني مردكان س بيرون آبيد ازقبرها {سِرَاعًا} حال من المجرور وهو جمع سريع والسرعة ضد البطىء ويستعمل في الأجسام والأفعال ويقال سرع فهو سريع وأسرع فهو مسرع والمعنى حال كونهم مسرعين إلى إسجابة الداعي من غير التفات يميناً وشمالاً هذا كقوله مهطعين إلى الداع {ذَالِكَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
أين إحياى ايشان ازقبور {حَشْرٌ} بعث وجمع وسوق {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي هين علينا نقول له كن فيكون وهو كلاء معادل لقول الكفرة ذلك رجع بعيد وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن من شأن كما قال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة به وغير ذلك مما لا خير فيه وهو تسلية لرسول الله عليه السلام وتهديد لهم {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} بمسلط تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت مذكر هذا كقوله إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم بما تريد وأصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر والجبار في اسم الله تعالى هو الذي جبر العباد على ما أراد {فَذَكِّرْ} س ندكوى {بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي عظم بمواعظه فإنهم المنتفعون به كما قال فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وأما من عداهم فنفعل بهم ما يوجبه أقوالهم وتستدعيه أعمالهم من ألوان العقاب وفنون العذاب كقوله إنما تنذر من أتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب والوعيد التخويف بالعذاب ويستعمل
144
في نفس العذاب كما مر قال بعض العارفين أمر الله نبيه عليه السلام أن يذكر الخاشعين من عظمته والخائفين من كبرائيه بالقرآن لأنهم أهله وأهل القرآن أهل الله وخاصته هم يعرفون حقائق الخطاب بنعت العبودية وهم بالقرآن يرتقون إلى معادنه فيرون الحق بالحق بلا حجاب ويصعدون به إلى الأبد وقال أحمد بن همدان رحمه الله : لا يتعظ بمواعظ القرآن إلا الخائفون على إيمانهم وإسلامهم وعلى كل نفس من أنفاسهم وقال بعضهم : إنما يؤثر التخويف والإنذار والتذكير في الخائفين فأما من لا يخاف فلا ينجح فيه ذلك وطير السماء على أوكارها تقع وقال بعضهم : وما أنت عليهم بجبار هذا خطاب مع القلب يعني ما أنت على النفس وصفاتها بمتسلط بنفسك إلا بنا فذكر بالقرآن أي بدقائق وعانيه وحقائق أسراره من يخاف وعيد يعني بعض النفوس القابلة لتذكير القرآن ووعيده فإنه ليس لك نفس قابلة له.
قال الشيخ سعدي :
درخير بازست هركز وليك
نه هركس تواناست برفعل نيك
كسى راكه ندار درسر بود
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيداز وعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
بكوشش نرويد كل ازشاخ بيد
نه زنكى به كرمابه كرد دسفيد
نيايد نكوكارى از بدر كان
وليكن نيايد زسنك آينه
كان رسول الله عليه السلام يخطب بسورة ق في كثير من الأوقات لاشتمالها على ذكر الله تعالى والثناء عليه ثم على علمه بما توسوس به النفوس وما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان ثم تذكير الموت وسكرته ثم تذكير القيامة وأهوالها والشهادة على الخلائق بأعمالهم ثم تذكير الجنة والنار ثم تذكير الصيحة والنشور والخروج من القبور ثم بالمواظبة على الصلوات قال السيوطي في كتاب الوسائل : أول من قرأ في آخر الخطبة أن الله يأمل بالعدل والإحسان الآية عمر بن عبد العزيز ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا وكان النبي عليه السلام يقرأ ق وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ إذا الشمس كورت إلى قوله ما أحضرت وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرأ آخر سورة النساء يستفتونك الآية وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ الكافرون والإخلاص ذكر ذلك ابن الصلاح وفي الحديث من قرأ سورة ق هون الله عليه تارات الموت وسكراته قيل تارات الموت إفاقاته وغشياته كما في حواشي سعدي المفتي رحمه الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99(9/117)
تفسير سورة الذاريات
ستون آية مكية
جزء : 9 رقم الصفحة : 144
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} الواو للقسم والذاريات وما بعدها صفات حذفت موصوفاتها وأقيمت
145
هي مقامها والتقدير والرياح الذاريات وذروا مصدر عامله الذاريات يقال ذرت الريح الشي ذرواً وأذرته أطارته وأذهبته قال في تاج المصادر الذرى داميدن.
والمراد الرياح التي تذرو التراب وغيره ودانه را ازكاه جدا كنند كما في تفسير الكاشفي روى عن كعب الأحبار قال : لو حبس الله الريح عن الأرض ثلاثة أيام ما بقي على الأرض شيء إلا نتن وعن العوام بن حوشب قال : تخرج الجنوب من الجنة فتمر على جهنم فغمها منها وبركاتها من الجنة وتخرج الشمال من جهنم فتمر على الجنة فروحها من الجنة وشرها من النار وقيل الشمال تمر بجنة عدن فتأخذ من عرف طيبها فتمر على أرواح الصديقين وعن عبد الله بن شداد قال : إن الريح من روح الله فإذا رأيتموها فاسألوا الله خيرها وتعوذوا من شرها وعن جابر رضي الله عنه قال : هاجت ريح كادت تدفن الراكب من شدتها فقال عليه السلام : هذه ريح أرسلت لموت منافق فقدمنا المدينة فإذا رأس من رؤوس المنافقين قد مات.
ـ وروي ـ عن علي رضي الله عنه أن مساكين الريح تحت أجنحة الكروبيين حملة الكرسي فتهيج من ثمة فتقع بعجلة الشمس ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال فتقع في البر فتأخذ الشمال وحدها من كرسي بنات النعش إلى مغرب الشمس والنعش أربعة كواكب على شكل مربع مستطيل وخلفها ثلاثة كواكب تسمى البنات وتأتي الدبور وحدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل وتأتي الجنوب وحدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس وتأتي الصبا وحدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات النعش فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في حد هذه قال ابن عمر الرياح ثمان : أربع منها عذاب وأربع منها رحمة ما الرحمة فالناشرات والمبشرات والذاريات والمرسلات وأما العذاب فالعاصفات والقاصف والصرصر والعقيم وأراد ابن عمر ما في القرآن من ألفاظ الرياح وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه السلام ليبيتن قوم من أتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم ليمسخن قردة وخنازير وليصببن أقواماً من أمتي خسف وقذف باتخاذهم القيان وشربهم الخمور وضربهم بالدف ولبسهم الحرير ولتنسفن أحياء من أمتي الريح كما نسفت عادا كما في كتاب الامتاع في أحكام السماع والنسف بركندن بنا وكياه وداميدن يزى.
وفي الآية إشارة إلى الرياح الصبحية بحمل أنين المشتاقين المتعرضين لنفحات الالطاف إلى ساحات العزة ثم تأتي بتنسم نفحات الحق إلى مشام أسرار المحبة فيجدون راحة من غلبات اللوعة وفي معناه أنشدوا :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وإني لآستهدي الرياح نيسمكم
إذا أقبلت من أرضكم بهبوب
وأسألها حمل السلام إليكمو
فإن هي يوماً بلغت فأجيبي
قال المولى الجامي :
نسيم الصبح زرمني ربي نجدو قبلها
كه بوى دوست مى آيد ازان اكيزه منزلها
وقال الكمال الخجندي :
صبا زدوست يامى بسوى ما اورد
بهمد مان كهن دوستى بجا آورد
براى شم ضعيف رمد كرفته ما
زخاك مقدم محبوب توتيا آورد
146
وقال بعضهم : المراد بالذاريات النساء الولود فإنهن يذرين وهو بضم الياء بمعنى يذرون يقول الفقير : من لطف هذا المعنى مجاورته للفظ الحاملات والجاريات على أن من وجوه الحاملات النساء الحوامل وفيه بيان لفضل المولود على العقيم كما قال عليه السلام : سوداء ولود خير من حسناء عقيم ودل لفظ السوداء على سيادة الولود كسواد الحجر الأسود فإنه من السيادة وذلك أن الولود مظهر الآثار ومطلع الأنوار وكذلك ولود الإنسان وهو الإنسان الكامل وهو كالمصدر للأفعال والجامد وهو الإنسان الناقص لا يصلح إلا لأن يكون آية يستدل بها كسائر الآيات التكوينية ومثاله لفظ إنما فإنه للتأكيد والحصر لا غير وذلك باعتبار الكف عن العمل فافهم الإشارة {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} الوقر بالكسر اسم لما توقر أي تحمل والمراد هنا المطر ووقرا مفعول الحاملات والمعنى فالسحت الحاملة للمطر وبالفارسية س بردارندكان باركران يعني ابرها كه ببارند.(9/118)
ـ روي ـ عن خالد بن معدان قال : إن في الجنة شجرة تثمر السحاب فالسوداء التي نضجت تحمل المطر والبيضاء النبيء لا تحمل المطر وقال كعب السحاب : غربال المطر ولولا السحاب لأفسد المطر ما أصاب من الأرض وعن الحسن أنه كان إذا نظر إلى السحاب قال لأصحابه فيه : والله رزقكم ولكن تحرمونه بخطاياكم وأَمالكم وعن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة وفي المطر حياة الأرض فكأنه روحها وكذا في الفيض الإلهي حياة القلب والروح وفيه إشارة إلى أن سحاب الطاف الربوبية تحمل أمطار مراحم الألوهية فتمطر على قلوب الصدقين {فَالْجَـارِيَـاتِ يُسْرًا} يسرا صفة لمصدر محذوف أي فلسفن الجارية في البحر جرياً يسيراً إلى ذا يسر وسهولة وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : البحر رزق بيد ملك لم يغفل عنه ولو غفل عنه الملك لطم على الأرض يعني دريا خيكى است بدست فرشته غافل نمنة شودازوى فرشته واكر غافل شود برمى كند زمين را وفرومي كيرد وفي الحديث لا يركبن رجل البحر إلا غازياً أو حاجاً أو معتمر فإن تحت البحر ناراً وإن تحت النار بحراً وإن تحت البحر ناراً وقال كعب : ما من ليلة إلا والبحار تشرف على الخلائق فتقول : يا رب ائذن لنا حتى نغرق الخطائين فيأمرها تعالى بالسكون فتسكن وسأل سليمان بن داود عليهما السلام عن ملك البحر فخرجت إليه دابة من البحر فجعلت تنسل من حيث طلعت الشمس حتى انتصف النهار تقول هذا ولما يخرج نصفي بعد فتعوذ بالله من البحر ومن ملكه يعني برسيد سليمان بن داود ازفرشته بحر س بيرون آمد بسوى وى جانورى ازبحر بشتاب ازان زمان كه آفناب برآمد تانيم رمز كفت هنوز نيم من بيرون نيامده است س ناه كرفت سليمان بخدا ازبحر ازملك وى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وفيه إشارة إلى أن سفن وجود المحبين المحبوبين شراعها مرفوعة إلى مهب رياح العناية فتجري بها في بحر التوحيد على أيسر حال {فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا} الأمر واحد الأمور أريد به معنى الجمع وهو منصوب على المفعولية والمراد بالقمسمات الملائكة وإيراد جمع المؤنث السالم فيهم بتأويل الجماعات أي فالملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها وفي كشف الأسرار هذا كقوله فالمدبرات امرا قال عبد الرحمن بن سابط
147
(9/119)
يدبر أمر الأرض أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام فجبريل على الجنود والرياح وميكائيل على القطر والنبات وملك الموت على قبض الأرواح وإسرافيل يبلغهم ما يؤمرون به وأضاف هذه الأفعال إلى هذه الأشياء لأنها أسباب لظهورها كقوله تعالى خبراً عن جبريل لأهب إليه والفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة يعني أن المقصود من الأقسام بها ظاهراً هو تأكيد المحلوف عليه وهو البعث وكونه محقق الوقوع والمقصود الأصلي تعظيم هذه الأشياء لما فيها من الدلالة على كمال قدرته فيكون في المعنى استدلالاً على المحلوف عليه فكأنه قيل : فمن قدر على إنشاء هذه الأشياء ألا يقدر على إعادة ما أنشأه أولاً كقول القائل لمن أنعم عليه وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك أتى بصورة القسم الدال على تعظيم النعم استدلالاً به على أنه مواظب لشكرها فإذا كان كذلك فالمناسب أن يقدم ما هو أدل على كمال القدرة والرياح أدل عليه بالنسبة إلى السحب لكون الرياح أسباباً لها والسحب لغرابة ماهيتها وكثرة منافعها ورقة حاملها الذي هو الريح أدل عليه من السفن وهذه الثلاث لكونها من قبيل المحسوسات أدل عليه من الملائكة الغائبين عن الحسن لأنه كلام من المنكر فربما ينكر وجود من هو غائب عن الحسن فلا يتم الاستدلال وقال سعدي المفتي في بيان التفاوت المذكور فأما على التنزل كما في قوله عليه السلام : رحم الله المحلقين والمقصرين بأن يقال الرياح أظهر في الدلالة على كمال القدرة من السحب وهي من السفن والثلاث من الملائكة المقسمة لأنه كلام مع الجاحد ويمكن أن ينكرها فكيف يجعلها أظهر مما هو محسوس على ما اختاره صاحب الكشف وأما على الترقي والقول بأن كلاً منها آخره أدل على كمال القدرة مما قبله ولا اعتبار بإنكار من لا عبرة به فالمقسمات يدل على أقدار الروحانيات مع لطافتها على التصرف في الجسمانيات مع كثافتها ثم الجاريات المتألفة من جميع العناصر على ما فيها من الصنعة البديعة والأمور العجيبة من حمل الأثقال مع خفة الحامل ورقة المحمل وقطع المسافة الشاسعة في زمان يسير بهبوب الرياح العاصفة ثم الحاملات تتألف من الأجزاء المائية والهوائية وقليل من الأجزاء النارية والأرضية وفيها غرائب من الآثار العلوية ولا تتم إلا بواسطة الرياح وعليك بالتأمل انتهى.
يقول الفقير : سر الترتيب هو أن الرياح فوق السحاب الحاملة للمطر وهي فوق الماء الحامل للسفن وهو فوق الأرض الظاهر أثر تدبير الملائكة فيها فأشار تعالى إلى أن كل أمر إنما ينزل من السماء وكل تأثير في الأرض إنما يظهر من جانب العلو ومن ذلك وقوع البعث من القبور فمن قدر على إظهار الآثار في الأرض بالتأثيرات العلوية كان قادراً على البعث لأنه من الآثار الأرضية أيضاً والله أعلم وفيه إشارة إلى من ينزل من الملائكة المقربين لتفقد أهل الوصلة والقيام بأنواع من الأمور لأهل هذه القصة فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم هل عندهم خبر من فراقهم ووصالهم ويقولون :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
بربكما يا صاحبي قفاليا
اسائلكما عن حالكم فاسألانيا
148
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 16 من صفحة 149 حتى صفحة 158
(9/120)
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} جواب للقسم وما موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه من البعث والحساب أو من الثواب والعقاب لصادق.
يعني هرآينه راست ودرست است ودران هي خلافى نيست قال في الإرشاد ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضى في أن اسم الفاعل مسند إلى المفعول به إذا الوعد مصدوق والعيشة مرضية وقال ابن الشيخ أي لذو صدق على أن البناء للنسب كتامر لأن الموعود لا يكون صادقاً بل الصادق هو الوعد ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وعدكم أو وعيدكم إذ يحتمل توعدون أن يكون مضارع وعد وأوعد والثاني هو المناسب للمقام فالكلام مع المنكرين {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} أي وإن الجزاء على الأعمال الحاصل وكائن لا محالة فإن من قدر على هذه الأمور البديعة المخالفة لمقتضى الطبيعة فهو قادر على البعث الموعود قال بعضهم : قد وعد الله المطيعين بالجنة والتائبين بالمحبة والأولياء بالقربة والعارفين بالوصلة والطالبين بالوجدان كما قال ألا من طلبني وجدني ووعد الله واقع البتة ومن أوفى بعهده من الله وأوعد الفاسقين بالنار والمصرين بالبغضاء والأعداء بالبعد والجاهلين الغافلين بالفراق والبطالين بالفقدان قال بعضهم : ما الحكمة في معنى القسم منفإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق بمجرد الأخبار من غير قسم وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده والجواب أن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمراً والحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم فذكر الله في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة فقال : شهد الله الآية ولا يكون القسم إلا باسم معظم وقد أقسم الله بنفسه في القرآن في سبعة مواضع والباقي من القسم القرآني قسم بمخلوقاته كما في عنوان هذه السورة ونحوه والتين والزيتون والصافات والشمس والليل والضحى وغير ذلك فإن قلت ما الحكمة في أن الله تعالى قد أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى قال في ترجمة الفتوحات حذركن كه بغير دين إسلام بديني دير سوكند يادكنى ياكويى اكر نين باشد از دين اسلام بيزارم ودرين صورت ازبهر احتياط تجديد ايمان كن ونهى آمده است ازانكه كسى بغير الله سوكند يادكند انتهى.
قلت فيه وجوه الأول أنه على حذف المضاف أي ورب الذاريات ورب التين ورب الشمس والثاني أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون والثالث أن الأقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم أو يجله وهو فوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فاقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارىء وصانع حكيم وقال بعضهم : القسم بالمصنوعات يستلزم بالصانع لأن ذكر المفعول يسلتزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل وقال بعضهم : إن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله وقال بعضهم : القسم إما لفضيلة أو منفعة ولا تخلو المصنوعات عنهما
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} جمع حباك أو حبيكة كمثال ومثل وطريقة وطرق والمراد بالحبك الطرائق أي الطرائق المحسوسة التي هي مساير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار ويتوصل بها إلى المعارف كما قال الراغب الحبك هي الطرائق فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة وهي بالفارسية كهكشان.
وعن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرة
149
(9/121)
يوم القيامة ومنهم من اعتبر ذلك بما فيه من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة وإلى هذا أشار بقوله أن في خلق السموات والأرض إلى قوله ربنا ما خلقت هذا باطلاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما ذات الخلق الحسن المستوى.
درتبيان از ابن عمر رضي الله عنهما نقل ميكندكه مراد آسمان هفتم است وحق تعالى يد وسوكند ياد كنه {أَنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} في القرآن أي متخالف متناقض وهو قولهم أنه شعر وسحر وافتراء وأساطير الأولين وفي الرسول شاعر وساحر ومفتر ومجنون وفي القيامة فإن من الناس من يقطع القول بأقرار ومنهم من يقطع القول بأنكار ومنهم من يقول أن نظن إلا ظناً وهذا من التحير والجهل الغليظ فيكم وفي هذا الجواب تأييد لكون الحبك عبارة عن الاستواء كما يلوح به ما نقل عن الضحاك أن قول الكفرة لا يكون مستوياً إنما هو مناقض مختلف يقول الفقير : لعل الوجه في هذا القسم أن القرآن نازل من السماء وأن النبوة أمر سماوي فهم اختلفوا في هذا الأمر السماوي وظنوا أنه أمر أرضي مختلف وليس كذلك وفي الآية إشارة إلى سماء القلب ذات الطريق إلى الله إنكم أيها الطالبون الصادقون لفي قول مختلف في الطلب فمنكم من يطلب منا ما عندنا من كمالات القربات ومنكم من يطلب منا ما لدينا من العلوم والمعارف ومنكم من يطلبنا بجميع صفاتنا فلو استقمتم على الطريقة وتبتم ملازمين في طلبه لبلغ كل قاصد مقصده {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يقال أفكه عنه يأفكه افكاً صرفه وقلبه أو قلب رأيه كما في القاموس ورجل مأفوك مصروف عن الحق إلى الباطل كما في المفردات أي يصرف عن القرآن أو الرسول من صرف إذ لا صرف أفظع منه وأشد فكأنه لا صرف بالنسبة إليه أن تعريف مصدر أفك للحقيقة وكلمة من للعموم فالمعنى كل من اتصف بحقيقة المصروفية يصرف عنه ويلزمه بعكس النقيض كل من لم يصرف عنه لم يتصف بتلك الحقيقة فكان كل صرف يغايره لا صرف بالقياس إليه لكماله وشدته وقال بعضهم : يصرف عنه من صرف في علم الله وقضائه يعني هركه در علم خداى محروم باشد ازايمان بكتاب ويغمبر هرآينه محرومست :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
دلهاهمه محزون وحكرها خونست
تاحكم ازل درحق هركس ونست
وفيه إشارة إلى أن في قطاع الطريق على أرباب الطلب لكثرة فمن يصرفه عن طلبه قاطع من القطاع من النفس والهوى والدنيا وزينتها وشهواتها وجاهها ونعيماً فصرف فقد حرم من متمناه وأهلكه هواه كما قيل نعوذ بالله من الحور بعد الكور وينادي عليه منادي العزة وكم مثلها فارقتها وهي تصفر {قُتِلَ الْخَراَّصُونَ} دعاء عليهم كقوله قتل الإنسان ما أكفره وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن وقبح والخرص تقدير القول بلا حقيقة ومنه خرص الثمار أي تقديرها مثلاً تقدير ما على النخل من الرطب تمراً وكل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص سواء كان ذلك مطابقاً للشيء أي مخالفاً له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص في خرصه وكل من قال قولاً على هذا النحو يسمى كاذباً وإن كان قوله مطابقاً للقول المخبر به
150
كما قال تعالى في شهادة المنافقين لكاذبون فالخراصون الكذابون المقدرون ما لا صحة له وهم أصحاب القول المختلف كأنه قيل قتل هؤلاء الخراصون فاللام للعهد إشارة إليهم وعن مجاهدهم الكهنة {الَّذِينَ هُمْ} لفظ هم مبتدأ وخبره قوله {فِى غَمْرَةٍ} من الجهل والضلال تغمرهم وتغشاهم عن أمر الآخرة قال الراغب أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيد أثر مسيله غمر وغامر وبه شبه الرجل السخي والفرس الشديد العد وقيل لهما غمركما شبها بالبحر والغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعلت مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها وإلى نحوه أشار بقوله فأغشيناهم وقيل للشدائد غمرات قال تعالى في غمرات الموت وقال الشاعر :
قال العواذل انني في غمرة
صدقوا ولكن امرتي لا تنجلي
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/122)
خبر بعد خبر أي غافلون عما امروا به قال بعضهم : الغمرة فوق الغفلة والسهو دون الغفلة قال الراغب : السهو خطأ عن غفلة وذلك ضربان أحدهما أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولداته كمجنون سب اسناناً والثاني أن يكون مولداته كمن شرب خمراً ثم ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله فالأول معفو عنه والثاني مأخوذ به وعلى الثاني ذم الله تعالى فقال الذين هم في غمرة ساهون وفي كشف الأسرار الخراصون هم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي عليه السلام ليصرفوا الناس عن دين الإسلام يعني أن أهل مكة أقاموا رجالاً على عقاب مكة يصرفون الناس يعني بوقت ورود قوافل برعقاب مكة نشستندى وهريك درحق مصطفى عليه السلام بآينده ورونده دروغ كفتندى ومرد مانرا ازصحبت شريف وى باز داشتندى حق تعالى ايشانرا لعنت كرد.
قال ابو الليث فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع ومنهم من لا يرجع وفي الآية إشارة إلى أهل الدعوى الذين هم في غمرة الحسبان والغرور وهم ملعونون أي مطرودون عن مقامات أهل الطلب فإنه ليس لهم طلب ولو طلبوا الوجدان ما وجد أهل الطلب قال سهل رضي الله عنه : توضأت في يوم الجمعة فمضيت إلى الجامع في أيام البداية فوجدته قد امتلأ بالناس وهم الخطيب أن يرقى المنبر فأسأت الأدب ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول فجلست فإذا هو عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار صوف فلما نظر إلي قال : كيف نجدك يا سهل؟ قلت : بخير أصلحك الله وبقيت متفكراً في معرفته لي وأنا لم أعرفه فبينما أنا كذلك إذ أخذني حرقان بول فأكرني فبقيت على وجل خوفاً أن أتخطى رقاب الناس وإن جلست لم تكن لي صلاة فالتفت إلي وقال : يا سهل أخذك حرقان بول؟ قلت : أجل فنزع إحرامه عن منكبه فغشاني به ثم قال اقض حاجتك واسرع فالحق الصلاة قال : فغمي علي وفتحت عيني وإذا بباب مفتوح وسمعت قائلاً يقول : لج الباب يرحمك الله فولجت وإذا بقصر مشيد عالي البناء شامخ الأركان وإذا بنخلة قائمة وإلى جنبها مطهرة مملوءة ماء أحلى من الشهد ومنزل إراقة الماء ومنشقة معلقة وسواك فحللت لباسي وأرقت الماء ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة فسمعته يناديني فيقول : إن كنت قضيت أربك فقل نعم فقلت : نعم فنزع الإحرام
151
عني فإذا أنا جالس في مكاني ولم يشعر بي أحد فبقيت متفكراً في نفسي وأنا مكذب نفسي فيما جرى فقامت الصلاة وصلى الناس فصليت معهم ولم يكن لي شغل إلا الفتى لأعرفه فلما فرغ تبعت أثره فإذا به قد دخل على درب فالتفت إلي وقال : يا سهل كأنك ما أيقنت بما رأيت قلت : كلالج الباب يرحمك الله فنظرت الباب بعينه فولجت القصر فنظرت النخلة والمطهرة والحال بعينه ولمنشفة مبلولة فقلت : آمنت بالله فقال : يا سهل من أطاع الله أطاعه كل شيء يا سهل اطلبه تجده فتغرغرت عيناي بالدموع فمسحتهما وفتحتهما فلم أر الفتى ولا القصر فبقيت متحسراً على ما فاتني منه ثم أخذت في العبادة
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/123)
{يَسْـاَلُونَ} أي الكفار فيقولون {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} بحذف المضاف من اليوم وإقامة المضاف إليه مقامه فلا يردان ظرف الزمان لا يقع خبراً إلا عن الحدث وفي النظم أخبر به عن الزمان أي متى وقوع يوم الجزاء لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة بل بطريق الاستعجال استهزاء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} جواب للسؤال وانتصب يوم يفعل مضمر دل عليه السؤال أي يقع يوم هم على النار يحرقون ويعذبون بها كما يفتن الذهب بالنار يقال : فتنت الشيء أي أحرقت خبثه لتظهر خلاصته فالكافر كله خبث فيحرق كله ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي هو يوم هم والفتح لإضافته إلى غير متمكن {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي مقولاً لهم هذا القول إذا عذبوا والقائل خزنة النار أو ذوقوا جزاء تكذيبكم كما في قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم أي كفرهم مراداً به عاقبته قال الراغب أصل الفتن إدخال الذهب النار ليظهر جودته من رداءته ويستعمل في إدخال الإنسان النار وقوله تعالى ذوقوا فتنتكم أي عذابكم وتارة يسمون ما يحصل منه العذاب فيستعمل فيه نحو قوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا وتارة في الاختبار نحو قوله وفتناك فتوناً {هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ} جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر وهذا إشارة إلى ما في الفتنة من معنى العذاب أي هذا العذاب ما كنتم تستعجلون به في حياتكم الدنيا وتقولون متى هذا الوعد بطريق الاستهزاء ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم بتأويل العذاب والذي صفته وفيه إشارة إلى أهل المكر والدعوى الذين استبطأوا حصول المرام فيسألون أيان يوم الدين وهم في ظلمة ليل الدنيا مستعجلين في استحباح نهار الدين فأجابتهم عزة الجبروت عن الكبرياء والعظموت يوم هم على نار الشهوات يفتنون بعذاب البعد والقطيعة يعذبون ذوقوا عذاب فتنتكم التي قطعت عليكم طريق الطلب هذا الذي كنتم به تملون من الطلب وتستعجلون الظفر بالمقصود.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي : كنت أنا صاحب لي قد أوينا إلى مغارة نطلب الدخول إلى الله وأقمنا فيها ونقول يفتح لنا غداً أو بعد غد فدخل علينا يوماً رجل ذو هيبة علمنا أنه من أولياء الله فقلنا له : كيف حالك؟ فقال : كيف يكون حال من يقول يفتح لنا غداً أو بعد غد يا نفس لم لا تعبدين اللهفتيقظنا وتبنا إلى الله فبعد ذلك فتح علينا ففيه إشارة إلى ترك الاستعجال في طريق الطلب وإلى الأخذ بالإخلاص وإلى العمل وفق إشارة المرشد ودلالة الأنبياء حتى يتخلص الطالب من عذاب الوجود ويرتفع الحجاب ويحصل الشهود بكمال الفيض والجود وأما العمل بالنفس فيزيد في وجودها :
152
واقف نمى شوندكه كمركرده اندراه
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
تارهروان براهنمايى نمى رسند
فالمرشد إذاً لا بد منه فإن المريد ضعيف والشيخ كالحائط المستحكم.
كما قال الشيخ سعدي :
مريدان زطفلان بقوت كمند
مشايخ و ديوار مستحكمند
وقال الصائب :
برهدف دستى ندارد تيربى زور كمان
همت يران جوانانرا بمنزل ميبرد
(9/124)
نسأل الله سبحانه أن يدلنا على سلوك طريقه ويوصلنا إلى جنابه بتوفيقه أنه هو الكريم الرحيم {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعصية والجهل والميل إلى ما سوى المولى والمتصفين بالإيمان والطاعة والمعرفة والتوجه إلى الحضرة العليا {فِى جَنَّـاتٍ} أي بساتين لا يعرف كنهها فالتنكير للتعظيم ويجوز أن يكون للتكثير كما في قوله إن له لا بلا وإن له لغنما والعرب تسمى النخيل جنة {وَعُيُونٍ} أي أنهار جارية أي تكون الأنهار بحيث يرونها وتقع عليها أبصارهم لا أنهم فيها وعن سهل رضي الله عنه التقى في الدنيا في جنات الرضى يتقلب وفي عيون الناس يسبح وقال بعضهم في جنات قلوبهم وعيون الحكمة في عاجلهم وفي جنات الفضل وعيون الكرم فغدا تجلى ودرجات واليوم مناجاة وقربات {ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ} حال من الضمير في الجار أي قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به على معنى أن كل ما أعطاهم حسن مرضي متلقى بالقبول ليس فيه ما يرد لأنه في غاية الجودة ومنه قوله ويأخذ الصدقات أي يقبلها ويرضاها قال بعضهم : آخذين ما آتاهم ربهم اليوم بقلوب فارغة إلى الله من أصناف ألطافه وغداً يأخذون وما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرفد ثم علل استحقاقهم ذلك بقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ} قبل دخول الجنة أي في الدنيا {مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} الهجوع النوم بالليل دون النهار وما مزيدة لتأكيد معنى التقليل فإنها تكون لإفادة التقليل كما في قولك أكلت أكلاً ما وقليلاً ظرف ويهجعون خبر كانوا أي كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل أو صفة مصدر محذوف أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً من أوقات الليل يعني يذكرون ويصلون أكثر الليل وينامون أقله ولا يكونون مثل البطالين الغافلين النائمين إلى الصباح وقال بعض أهل الإشارة فيه إشارة إلى أن أهل الإحسان وهم أهل المحبة والمشاهدة لا ينامون بالليل لأن القلة عبادة عن العدم ومعنى عدم نومهم ما أشار إليه صلى الله عليه وسلّم بقوله : نوم العالم عبادة فمن يكون في العبادة لا يكون نائماً قيل : نزلت الآية في شأن الأنصار رضي الله عنهم حيث كانوا يصلون في مسجد النبي عليه السلام ثم يمضون إلى قبا وبينهما ميلان وهما ساعة واحدة بالساعة النجومية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وقال الكاشفي : اشهر آنست كه خواب نكردندى تا نماز خفتن ادا نفر مودندى ووقت آنرا دراز كشيدندى.
وعن جعفر بن محمد أنه قال : من لم يهجع ما بين المغرب والعشاء حتى يشهد العشاء فهو منهم وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي صلاة الليل أفضل قال في نصل الليل وقليل فاعله.
قال بعضهم :
نركس اندر خواب غفلت يافت بلبل صد وصال
خفته نابينا بوددولت به بيداران رسد
153
وفي المثنوي :
درد شتم داد حق تامن زخواب
برهم درنيم شب باسوز وتاب
درد درها بخشيد حق ازلطف خوبش
تانخسبم جمله شب ون كاو ميش
قال داود بن رشيد من أصحاب محمد بن الحسن قمت ليلة فأخذني البرد فبكيت من العرى فنمت فرأيت قائلاً يقول : يا داود أنمناهم وأقمناك فتبكي علينا فما نام داود بعد تلك الليلة.
روزى شاكردى از شاكردان ابو حنيفة رحمه الله اوراكفت مردمان مى كويندكه ابو حنيفه هي بشب نمى خسبد كفت نيت كردم كه هركز ديكر نخسبم لما قال تعالى ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ومن نخواهم كه ازان قوم باشم كه ايشانرا بيزى كه نكرده باشند ياد كنند بعد ازان سى سال نماز بامداد بطهارت نماز خفتن كزارد.
قال الشيخ ابو عمرو في سبب توبته : سمعت ليلة حمامة تقول : يا أهل الغفلة قوموا إلى ربكم رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم فلما سمت ذلك ذهبت عني ثم لما جئت إلي وجدت قلبي خالياً عن حب الدنيا فلما أصبحت لقيت الخضر عليه السلام فدلني على مجلس الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه فدخلت عليه وسلمت نفسي إليه ولازمت بأنه حتى جمع الله لي كثيراً من الحير {وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} السحر السدس الأخير من الليل لاشتباهه بالضياء كالسحر يشبه الحق وهو باطل أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
واين دليل آنست كه بعمل خود معجب نبوده اند وازان حساب نداشته :
طاعت ناقص ما موجب غفران نشود
راضيم كر مدد علت عصيان نشود
وفي بناء الفعل على الضمير المفيد للتخصيص إشعار بأنهم الأحقاء يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه وفي بحر العلوم تقديم الظرف للاهتمام ورعاية الفاصلة وعن الحسن كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فمدوا إلى السحر ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/125)
وفي التأويلات النجمية يستغفرون من رؤية عبادات يعملونها في سهرهم إلى الأسحار بمنزلة العاصين يستغفرون استصغاراً لقدرهم واستحقاراً لفعلهم :
عذر تقصير خدمت آوردم
كه ندارم بطاعت استظهار
عاصيان ازكناه توبه كنند
عارفان ازعبادت استغفار
أي من التقصير في العبادة أو من رؤيتها قيل : يا رسول الله كيف الاستغفار؟ قال : قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم وقال عليه السلام : توبوا فإني أتوب إلى الله في كل يوم مائة مرة وفي الحديث إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح فيقول : يا رب أنى لي هذه فيقول بالاستغفار ولدك لك أي بأن قال رب اغفر لي ولوالدي وفي بعض الأخبار أن أحب أحبائي إلى الذين يستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض شيئاً ذكرتهم فصرفت بهم عنهم.
قال الحافظ :
هر كنج سعادت كه خداداد بحافظ
ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود
154
وقال :
دركوى عشق شوكت شاهى نمى خرند
اقرار بندكى كن ودعوى اكرى
وفي المثنوي :
كفت آنكه هست خورشيد راه او
حرف طوبى هركه زلت نفسه
ظل ذلت نفسه خوش مضجعست
مستعدان صفارا مهجعست
كرازين سايه روى سوى منى
زود طاغى كردى وره كم كنى
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وقال الكلبي ومجاهد وبالأسحار هم يصلون وذلك إن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة وفي الحديث : "من تعار من الليل" هذا من جوامع الكلم لأنه يقال تعار من الليل إذا استيقظ من نومه مع صوت كذا في الصحاح وهذه اليقظة تكون مع كلام غالباً فأحب النبي عليه السلام أن يكون ذلك الكلام تسبيحاً وتهليلاً ولا يوجد ذلك إلا ممن استأنس بالذكر فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمدوسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال : اللهم اغفر لي أو دعا.
أي بدعاء آخر غير قوله الللهم اغفر لي : أستجيب له.
هذا الجزاء مترتب على الشروط المذكورة والمراد بها الاستجابة اليقينية لأن الاحتمالية ثابتة في عير هذا الدعاء ولو لم يدع المتعار بعد هذا الذكر كان له تواب لكنه عليه السلام لم يتعرض له.
قال : توضأ وصلى قبلت صلاته.
فريضة كانت أو نافلة وهذه المقبولية اليقينية مترتبة على الصلاة المتعقبة لما قبلها وفي الخبر الصحيح ينزل الله السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول : أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له وكان النبي عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك قال داود عليه السلام : يا جبرائيل أي الليل أفضل؟ قال : لا أدري إلا أن العرش يهتز وقت السحر ولا يهتز العرش إلا لكثرة تجليات الله إما تلقياً وفرحاً لأهل السهر وإما طرباً لأنين المذنبين والمستغفرين في ذلك الوقت وإما تعجباً لكثرة عفو الله ومغفرته وإجابته للأدعية في ذلك الوقت وإما تعجباً من حسن لطف الله في تحننه على عباده الآبقين الهاربين منه مع غناه عنهم وكثرة احتياجهم إليه تعالى ثم مع ذلك هم غافلون في نومهم وهو يتوجه إليهم ويدعوهم بقوله : هل من سائل هل من مستغفر هل من تائب هل من نادم وقوله : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم وإما تعجباً من غفلات أهل الغفلة بنومهم في مثل ذلك الوقت وحرمانهم من البركة وإما لأنواع قضاء الله وقدره في ذلك الوقت من الخيرات والشرور والليل إما للأحباب في أنس المناجاة وإما للعصاة في طلب النجاة والسهر لهم في لياليهم دائم أو لفرط أسف ولشدة لهف وإما للاشتياق أو للفراق كما قالوا :
155
كما ليلة فيك لا صباح لها
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
افنيتها قابضا على كبدي
قد غصت العين بالدموع وقد
وضعت خدي على بنان يدي
وإما لكمال أنس وطيب روح كما قالوا :
سقى الله عيشاً نضيراً مضى
زمان الهوى في الصبي والمجنون
لياليه تحكي انسداد اللحا
ظ للعين عند ارتداد الجفون
واعلم أن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بأحياء الليل لأن هذه الطريقة أقرب طريق إلى الله للمقبل الصادق وما يطيقها إلا المتمكن الصابر العابر من كل عائق وفي الحديث فرض على قيام الليل ولم يفرض عليكم وذلك لا أنه روح العالم ومداره فكيف يكون الله ولي بخيل بنفسه على الله متكاسل وبتكاسله يخرب العالم ويشتد جهل أهله كما أن الروح إذا ضعف اختل الجسد وقواه ومن هنا عرفت شدة توعل الأتقياء في العبادات وكلما قرب الإنسان من الكمال اشتد تكليفه فاعرف هذا.
(9/126)
ـ وروي ـ أن الياس النبي عليه السلام أتى إليه ملك الموت ليقبضه فبكى فقال له : أتبكي وأنت راجع إلى ربك فقال : بل أبكي على ليالي الشتاء ونهار الصيف الأحباب يقومون ويصومون ويخدمون ويتلذذون بمناجاة محبوبهم وأنا رهين التراب فأوحى الله إليه قد أجلناك إلى يوم القيامة لحبك خدمتنا فتمتع.
قال الحافظ : دع التكاسل تغنم.
فقد جرى مثل كه زاد را هروان جستيست والاكى {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم أي يعدونه واجباً عليهم ويلزمونه تقرباً إلى الله وإشفاقاً على الناس فليس المراد بالحق ما أوجبه الله عليهم في أموالهم فاندفع به ما عسى يقال كيف يمدح المرء بأنه يثبت في ماله حق للفقراء فمن يمنع الزكاة من الأغنياء يوجد فيهم هذا المعنى ولا يستحقون المدح {لِّلسَّآاـاِلِ} لحاجة المستجدي أي طالب الجدوى والنفع {وَالْمَحْرُومِ} أي المتعفف الذي يحسبه الناس غنياً فيحرم الصدقة وفي القاموس المحروم الممنوع من الخير ومن لا ينمي له مال وفي المفردات أي الذي لم يوسع عليه في الرزق كما وسع على غيره بل منع من جهة الخير وفي بحر العلوم وإنما خصصه بالسائل والمحروم ولم يذكر سائر المستحقين لأن ذلك حق سوى الصدقة المفروضة بدليل قوله عليه السلام إن في المال حقاً سوى الزكاة انتهى يعني في المال حق واجب سوى الزكاة وهو الحقوق التي تلزم عندما يعرض من الأحوال من النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين وعلى ذي الرحم المحرم وما يجب من طعام المضطر وحمل المنقطع ونحو ذلك وفي الحديث ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا فيقول الله لأقربنكم اليوم ولأبعدنهم وتلا الآية فلا بد من الإنفاق وهو من أحسن الأخلاق.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
ه دوزخى ه بهشتى ه آدمى ه ملك
بمذهب همه كفر طريقتست امساك
وقال الشيخ سعدي :
از زر وسيم راحتى برسان
خويشتن هم تمتعى بركير
ونكه اين خانه ازتو خواهد ماند
خشتى ازسيم وخشتى اززر كير
156
وفي الحديث أنثلاثمائة وستين خلقاً من لقبه يخلق منها مع التوحيد دخل الجنة قال أبو بكر رضي الله عنه هل في منها يا رسول الله قال : كلها فيك يا أبا بكر واحبها إلى الله السخاء.
ـ حكي ـ أن الشيخ الشبلي قدس سره أشار إلى أصحابه بالتوكل فلم يفتح عليهم بشيء ثلاثة أيام ثم قال لهم : إن الله تعالى قد أباح الكسب بقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه فخرج واحد منهم فأعياه الجوع وجلس عند حانوت طبيب نصراني فعرف الطبيب جوعه من نبضه فأمر غلامه بالطعام فقال الفقير : قد ابتلى بهذه العلة أربعون رجلاً فأمر غلامه بحمل الطعام إليهم ومشى خلفه فلما وصل الطعام إليهم قال الشبلي : لا ينبغي أن تأكولوا قبل المكافأة بالدعاء فدعوا له فلما سمع الطبيب دعاءهم دخل وأسلم فظهر معنى قوله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فجزاء إحسان الطبيب النصراني بالطعام الإحسان من عباد الله بالدعاء ومن الله بتوفيق الإسلام وفي الآية إشارة إلى ما آتاهم الله من فضله من المقامات والكمالات إنه فيها حق للطالبين الصادقين إذا قصدوهم من أطراف العالم في طلبها إذا عرفوا قدرها والمحروم من لم يعرف قدر تلك المقامات والكمالات فما قصدوهم في طلبها فلهم في ذمة كرم هؤلاء الكرام حق التفقد والنصح فإذا الدين النصيحة فإنهم بمنزلة الطبيب والمحروم بمنزلة المريض فعلى الطبيب أن يأتي إلى المريض ويرى نبضه ويعرف علته ويعرفه خطره ويأمره بالاحتماء من كل ما يضره ويعالجه بأدوية تنفعه إلى أن يزيل مرضه وتظهر صحته كذا في التأويلات النجمية {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} الإيقان بي كمان شدن.
أي دلائل واضحة على وجود الصانع وعلمه وقدرته وارداته ووحدته وفرط رحمته من حيث أنها مدحوة كالبساط الممهد وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها والسالكين في مناكبها وفيها سهل وجبل وبر وبحر وقطع متجاورات وعيون متفجرة ومعادن متفننة وأنها تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار وأصناف الثمار والختلفة الألوان والطعوم والروائح وفيها دواب منبثة قد رتب كلها ودبر لمنافع ساكنيها ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم وقال الكلبي عظات من آثار من تقدم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/127)
وفي التأويلات النجمية منها أي من تلك الآيات أنها تحمل كل شيء فكذا الموقن العارف يحمل كل حمل من كل أحد ومن استثقل حملاً أو تبرم برؤية أحد ساقه الله إليه فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الحق بعين التفرقة وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ومنها أنها يلقى عليها قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وورد وكذلك العارف يتشرب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق على وشيمة زكية ومنها أن ما كان منها سبخاً يترك ولا يعمر لأنه لا يحتمل العمارة كذلك من الإيمان له بهذه الطريقة يهمل فإن سره الأطهر ولا تبذر السمراء في الأرض عميان.
يعني بيان الحقائق الذي هو غذاء القلب والروح كالسمراء يعني الحنطة للجسم وقوله في الأرض عميان يعني في أرض استعداد هذه الطوائف الذين لا يبصرون الحق ولا يشاهدونه في جميع الأشياء وفي حقائق البقلى آيات الأرض ظهور تجلي ذاته وصفاته في مرآة الأكوان كما ظهر من الطور لموسى عليه السلام
157
وما ظهر من المصيصة لعيسى عليه السلام وهي بكسر الميم مدينة على ساحل البحر الرومي بجوار طرسوس والسيس وما ظهر لمحمد صلى الله عليه وسلّم من جبال مكة ألا ترى إلى قوله عليه السلام جاء الله من سينا واستعين بساعة وأشرق من جبال فاران أي جبال مكة وفي القاموس فاران جبال مذكورة في التوراة منها بكر ابن القاسم.
وفي أنفسكم : أي في أنفسكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي الأنفس له نظير يدل دلالته على ما سبق تطبيق العالم الصغير بالكبير في أواخر حم السجدة عند قوله سنريهم آياتنا الخ مع ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة وفي بحر العلوم وفي الأرض دلائل من أنواع الحيوان والأشجار والجبال والأنهار وفي أنفسكم آيات لهم من عجائب الصنع الدالة على كمال الحكمة والقدرة والتدبير والإرادة فيكون تخصيصاً بعد تعميم لأن أنفس الناس مما في الأرض كأنه قيل في الأرض آيات للموحدين العاقلين وفي أنفسكم خصوصاً آيات لهم لأن أقرب المنظور فيه من كل عاقل نفسه ومن ولد منها وما في بواطنها وظواهرها من الدلائل الواضحة على الصانع وفي نقلها من هيئة وحال إلى حال من وقت الميلاد إلى وقت الوفاة قال بعضهم :
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وذلك لأن كل شيء بجسمه واحد وكذا بروحه ولا عبرة بكثرة الأجزاء والأعضاء وما من عدد إلا ويصح وصفه بالوحدة فيقال عشرة واحدة ومائة واحدة على أن كل جسم فهو منتهى إلى الجزء الذي لا يتجزى وهو النقطة وكل ألف فهو إما مركب من نقاط ثلاث أو خمس أو سبع وقس عليه سائر التركيبات الحروفية والفعلية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن نفس الإنسان مرآة جميع صفات الحق ولهذا قال عليه السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربه فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها وكمالها في أن تصير مرآة تامة مصقولة قابلة لتجلي صفات الحق لها فيعرف نفسه بالمرآتية ويعرف ربه بالمتجلى فيها كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق :
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
{أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة حتى تعتبروا وتستدلوا الصنعة على الصانع وبالنقش على النقاش وكذا على صفاته.
قال الكاشفي : استفهام كنيددر حقايق سلمى مذكور است كه هركه اين آيتها در نفس خودبيند ودر صفحه وجود آثار قدرت مطالعه ننمايد حظ خودرا ضايع كرده باشد واز زندكانى هي بهره نيابد :
نظري بسود خودكن كه توجان دلربايى
مفكن بخاك خودراكه تواز بلند جايى
تو زشم خود نهانى توكمال خود ه دانى
ودراز صدف برون آكه توبس كران بهايى
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 17 من صفحة 158 حتى صفحة 168
قال الواسطي تعرف إلى قوم بصفاته وأفعاله وهو قوله وفي أنفسكم أفلا تبصرون وتعرف
158
إلى الخواص بذاته فقال : ألم تر إلى ربك.
ـ روي ـ أن علياً رضي الله عنه صعد المنبر يوماً فقال : سلوني عما دون العرش فإن ما بين الجوانح علم جم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فمي هذا ما رزقني الله من رسول الله رزقاً فوالذي نفسي بيده لو أذن للتوراة والإنجيل أن يتكلما فأخبرت بما فيهما لصدقاني على ذلك وكان في المجلس رجل يماني فقال : ادعى هذا الرجل دعوى عريضة لأفضحنه فقام وقال : يا علي اسأل قال : سل نفقها ولا تسأل تعنتاً فقال : أنت حملتني على ذلك هل رأيت ربك يا علي قال : ما كنت أعبد رباً لم أره فقال : كيف رأيت قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأت القلوب بحقيقة الإيمان ربي واحد لا شريك له أحد لا ثاني له فرد لا مثل له لا يحويه مكان ولا يداوله زمان لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالقياس فسقط اليماني مغشياً عليه فلما أفاق قال : عاهدت الله أن لا أسأل تعنتاً.
(9/128)
ـ وحكي ـ عن بعض الصالحين أنه رأى في المنام وعروفاً فالكرخي شاخصاً نحو العرش قد اشتغل عن حور الجنة وقصورها فسألت رضوان : من هذا قال معروف الكرخي مات مشتاقاً إلى الله فأباح له أن ينظر إليه وهذا النظر هناك من نتائج النظر بالقلب في الدنيا لقوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأما النظر بالبصر في الدنيا فلما لم يحصل لموسى عليه السلام لم يحصل لغيره إذ ليس غيره أمل قابلية منه إلا ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد كان في خارج حد الدنيا إذ كان فوق العرش والعرش من العالم الطبيعي وملاق لعالم الأرواح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
واعلم أن رؤية العوام في مرتبة العلم ورؤية الخواص في مرتبة العين ولهم مراتب في التوحيد كالأفعال والصفات والذات فليجتهد العاقل في الترقي من مرتبة العلم إلى مرتبة العين ومن الاستدلال إلى الشهود والحضور {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} أي أسباب رزقكم على حذف المضاف يعني به الشمس والقمر وسائر الكواكب واختلاف المطالع والمغارب التي يترتب عليه اختلاف الفصول التي هي مبادي حصول الأرزاق.
كما قال الشيخ سعدي :
ابر وباد ومه وخورشيد وفلك دركارند
تاتوناني بكف آرى وبغفلت نخوري
همه از بهر توسر كشته وفرمان برادر
شرط انصاف نباشدكه توفر مان نبرى
أو في السماء تقدير رزقكم وقال ابن كيسان يعني على رب السماء رزقكم كقوله تعالى ولأصلبنكم وفي جذوع النخل {وَمَا تُوعَدُونَ} من الثواب لأن الجنة على ظهر السماء السابعة تحت العرش قرب سدرة المنتهى أو أراد أن كل ما توعدون من الخير والشر والثواب والعقاب والشدة والرخاء وغيرها مكتوب مقتدر في السماء.
ودرتبيان كفته مكتوبست درلوحى كه در آسمان هارم است.
يقول الفقير : أمر العقاب ينزل من السماء ونفسه أيضاً كالصيحة والقذف والنار والطوفان على ما وقع في الأمم السالفة {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ} اقسم الله بنفسه وذكر الرب لأنه في بيان التربية بالرزق {إِنَّهُ} أي ما توعدون أو ما ذكر من أمر الآيات والرزق على أنه مستعار لاسم الإشارة {لَحَقٌّ} هر آينه راستست.
وفي الحديث أبى ابن آدم أن يصدق ربه حتى أقسم له فقال : فورب الخ وقال الحسن في هذه الآية بلغني أن رسول الله عليه السلام قال : قاتل الله أقواماً أقسم الله لهم بنفسه فلم يصدقوه انتهى ولو وعد
159
يهودي لإنسان رزقه وأقسم عليه لاعتمد بوعده وقسمه فقاتله الله كيف لا يعتمد على الرزق قال هرم بن سنان لأويس القرني رضي الله عنه : أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام فقال هرم : كيف المعيشة بها؟ قال اويس : اف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها العظة {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقيقته وبالفارسي همنانكه شك نيست شمارادر سخن خودشك نيست در روزى دادن من وغير او.
ونصبه على الحالية من المستكن في الحق أو على أنه وصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقاً مثل نطقكم فإنه لتوغله في الإبهام لا يتعرف بإضافته إلى معرفته وما زائدة أو عبارة عن شيء على أن يكون ما بعدها صفة لها بتقدير المبتدأ أي نو أنكم تنقطون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/129)
وفي التأويلات النجمية كما نطقكم الله فتنطقون بقدرته بلا شك كذلك حق على الله أن يرزقكم ما وعدكم وإنما اختص التمثيل بالنطق لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته انتهى وفي الآية دليل للتوكل على الله وحث على طلب الحوائج منه وأحوالهم على رؤية الوسائط ولو كانوا على محل التحقيق لما أحالهم على السماء ولا على الأرض فإنه لو كانه السماء من حديد والأرض من نحاس فلم تمطر ولم تنبت وكان رزق جميع العباد على رقبة ولي من أولياء الله الكمل ما يبالي لأنه خرج من عالم الوسائط ووصل إلى صاحب الوسائط والله تعالى إنما يفعل عند الأسباب لا بالأسباب ولو رفع الأسباب لكان قادراً على إيصال الرزق فإنه إنما يفعل بأمركن وبيده الملكوت وهذا مقام عظيم فلما سلمت النفوس فيه من الاضطراب والقلق لعل الفتاح أدخلنا في دائرة الفتوح آمين وعن الأصمعي أقبلت في البصرة من الجامع بعد الجمعة فطلع أعرابي على قعود وهو بالفتح من الإبل ما يقتعده الراعي في كل حاجة فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع قال : من أين أقبل؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن أي من بيت الله الحرام قال : اتل علي فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله وفي السماء رزقكم قال : حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم فاستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح فقال : قد وجدنا ما وعد ربنا حقاً ثم قال : وهل غير هذا فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف لم يصدقوه بالقول حتى ألجأوه اليمين قالها ثلاثاً وخرجت معه نفسه نسأل الله التوكل والاعتماد {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} تفخيم لشأن الحديث لأنه استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماعه ومثله لا يكون إلا فيما فيه فخامة وعظيم شأن وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله عليه السلام بغير طريق الوحي إذ هو أمي لم يمارس الخط وقراءته ولم يصاحب أصحاب التواريخ ففيه إثبات نبوته وقال ابن الشيخ الاستفهام للتقرير أي قد أتاك وقيل إن لم يأتك نحن نخبرك والضيف في الأصل مصدر ضافه إذا نزل به ضيفاً ولذلك يطلق على الواحد والجماعة كالزور والصوم وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان قال الراغب أصل الضيف الميل يقال ضفت إلى كذا وأضفت كذا إلى كذا والضيف من مال إليك نزولاً بك وصارت الضيافة متعارفة في القرى كانوا اثني عشر ملكاً منهم جبرائيل وميكائيل وزقائيل
160
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وتسميتهم ضعيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك {الْمُكْرَمِينَ} صفة للضيف أي المكرمين عند الله بالعضمة والتأييد والاصطفاء والقربة والسفارة بين الأنبياء كما قال بل عباد مكرمون أو عند ابراهيم بالخدمة حيث خدمه بنفسه وبزوجته وأيضاً بطلاقة الوجه وتعجيل الطعام وبأنهم ضيف كريم لأن ابراهيم أكرم الخليقة وضيف الكريم لا يكون إلا كريماً وفي الحديث من آمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قيل إكرامه تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بنفسه في خدمته وقد جاء في الرواية أن الله تعالى أوحى إلى ابراهيم عليه السلام أكرم أضيافك فأعد لكل منهم شاة مشوية فأوحى إليه أكرم فجعله ثوراً فأوحى إليه أكرم فجعله جملاً فأوحى إليه أكرم فتحير فيه فعلم أن إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه فأوحى إليه الآن أكرمت الضيف وقال بعض الحكماء لا عار للرجل ولو كان سلطاناً أن يخدم ضيفه وأيام ومعلمه ولا تعتبر الخدمة بالإطعام.
قال الشيخ سعدي :
شنيدم كه مرديست اكيزه يوم
شناسا ورهرو دراقصاى روم
من وند سالوك صحرا نورد
برفتيم قاصد بديدار مرد
سروشم هريك ببوسيد ودست
بتميكن وعزت نشاند ونشست
زرش ديدم وزرع وشاكر دورخت
ولي بي مروت وبى بردرخت
بخلق ولطف كرم رومرد بود
ولي ديكدانش قوي سرد بود
همه شب نبودش قرار وهجوع
زتسبيح وتهليل ومار از جوع
سحر كه ميان بست ودر باز كرد
همان لطف دوشنيه آغاز كرد
يكى بدكه شيرين وخوش طبع بود
كه باما مسافر دران ربع بود
مرا بوسه كفته بتصحيف ده
كه درويش را توشه ازبوسه به
بخدمت منه دست بر كفش من
مرا نان ده وكفش بر سربزن
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/130)
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} ظرف للحديث فالمعنى هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه {فَقَالُوا سَلَـامًا} أي نسلم عليك سلاماً والفاء هناك إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول بل جعلوا السلام عقيب الدخول {قَالَ} ابراهيم {سَلَـامًا} أي عليكم سلام يعني سلام برشماباد.
فهو مبتدأ خبره محذوف وترك العطف قصداً إلى الاستئناف فكأن قائلاً قال : ماذا قال ابراهيم في جواب سلامهم فقيل : قال سلام أي حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن تحيتهم كانت بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث حيث نصبوا سلاماً وتحيته بالإسمية الدالة على دوام السلام وثباته لهم حيث عدل به إلى الرفع بالابتداء {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} يقال نكرت الرجل بكسر الكاف نكراً وأنكرته واستنكرته إذا لم تعرفه فالكل بمعنى وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل قال تعالى فعرفهم وهم له منكرون كما في المفردات أي قال ابراهيم في نفسه من غير أن يشعرهم بذلك هؤلاء قوم لا نعرفهم فهم منكرون عند كل أحد وقوله فنكرهم أي بنفسه فقط فأحدهما غير الآخر وكانوا على
161
أوضاع وأشكال خلاف ما عليه الناس وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض لأن السلام لم يكن تحيتهم لأنه كان بين أظهر قوم كافرين لا يحيي بعضهم بعضاً بالسلام الذي هو تحية المسلمين.
وقال الكاشفي : يعني هركز ون شما قومى نديدم در صورت وقامت مرا بكوييد ه كسانيد ايشان كفته اند مهما نانيم {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} يقال راغ إلى كذا أي مالي إليه سراً فالاختفاء معتبر في مفهوم الروغ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه الضيف ويعذبه أو يصير منتصراً.
ـ وحكي ـ أنه نزل ببعض المشايخ ضيف فأشار إلى مريد له بإحضار الطعام فاستبطأ فلما جاء سأله عن وجهه فقال المريد : وجدت على السفرة نملاً فتوقفت إلى أن خرجت منها فقال الشيخ : أصبت الفتوة ولما اطلع على هذه الحال بعض من هو أعلى حالاً من ذلك الشيخ قال : لم يصب الفتوة فإن الأدب تعجيل القرى وحق الضيف أحق من حق النمل فكان الواجب على المريد أن يلقيها على الأرض ويجييء بالسفرة مستعجلاً {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} الفاء فصيحة مفصحة عن جمل محذوفة والياء للتعدية والعجل ولد البقرة لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثوراً أو بقرة والسمن لكونه من جنس السمن وتولده عنه والمعنى فذبح عجلاً سميناً لأنه كان عامة ماله البقر واختار السمين زيادة في إكرامهم فحنذه أي شواه فجاء به يعني س بياورد كوساله فربه بريان كرده {فَقَرَّبَه إِلَيْهِمْ} بأن وضعه لديهم حسبما هو المعتاد ليأكلوا فلم يأكلوا ولما رأى منهم ترك الأكل {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} منه إنكاراً لعدم تعرضهم للأكل وحثا عليه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
ـ وروي ـ أنهم قالوا : نحن لا نأكل بغير ثمن قال ابراهيم : كلوا وأعطوا ثمنه قالوا : وما ثمنه قال : إذا أكلتم فقولوا بسم الله وإذا فرغتم فقولوا الحمدفتجب الملائكة من قوله فلما رآهم لا يأكلون {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ} الوجس الصوت الخفي كالإيجاس وذلك في النفس أي أضمر في نفسه {خِيفَةً} أي خوفاً فتوهم أنهم أعداء جاءوا بالشر فإن عادة من يجيء بالشر والضرر أن لا يتناول من طعام من يريد إضراره قال في عين المعاني : من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.
يقول الفقير : يخالفه سلامهم فإن السلم لا بد وأن يكون من أهل السلم وقيل وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا لعذاب {قَالُوا} حين أحسوا بخوفه {لا تَخَفْ} إنا رسل الله وقيل مسح جبريل العجل بجناحه فقام يمشي حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم {وَبَشَّرُوهُ} وبشارت ومده دادند مراورا.
وفي سورة الصافات وبشرناه أي بواسطتهم {بِغُلَـامٍ} هو إسحاق والغلام الطار الشارب والكهل ضده أو من حين يولد إلى أن يشب كما في القاموس {عَلِيمٍ} عند بلوغه واستوائه ولم تلد له سارة غيره {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم قال ابن الشيخ فأقبلت إلى أهلها وكانت مع زوجها في خدمتهم فلما تكلموا بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ولم يذكره بلفظ الإدبار عن الملائكة قال سعدي المفتي كذا في التفسير الكبير ولا يناسبه قوله كذلك قال ربك فإنه يقتضي كونها عندهم فالإقبال إليهم
162
(9/131)
{فِى صَرَّةٍ} حال من فاعل أقبلت والصرة الصيحة الشديدة يقال صر يصر صريراً إذا صوت ومنه صرير الباب وصرير القلم أي حال كونها في صيحة وهو صوت شديد وقيل صرتها قولها اوه و يا ويلتي أورنتها.
وقال الكاشفي : درفرياد وميكفت الليلاء الليلاء اين كلمه بود در كفت ايشان كه وقت تعاظم أمور برزبان راندندى.
والصرة أيضاً الجماعة المنضم بعضها إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في إناء وبها فسرها بعضهم أي أقبلت في جماعة من النساء كن عندها وهي واقفة متهيئة للخدمة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} الصك ضرب الشيء بالشيء العريض يقال صكه أي ضربه شديداً بعريض أو عام كما في القاموس أي لطمته من الحياء لما أنها وجدت حرارة دم الحيض وقيل ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجب وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئاً.
وقال الكاشفي : س طبانه زدروى خودرا نانه زنان در وقت تعجب كنند
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي أنا عجوز عاقر لم ألد قط في شبابي فكيف ألد الآن ولي تسع وتسعون سنة سميت العجوز عجوزاً لعجزها عن كثير من الأمور وأصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل قال في القاموس : العقم بالضم هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد وفي عين المعاني العقيم من سد رحمها ومنه الداء العقام الذي لا يرجى برؤه وبمعناه العاقر وهي المرأة التي لا تحبل ورجل عاقر أيضاً لمن لا يولد له وكانت سارة عقيماً لم تلد قط فلما لم تلد في صغرها وعنفوان شبابها ثم كبر سنها وبلغت سن الأياس استبعدت ذلك وتعجبت فهو استبعاد بحكم العادة لا تشكك في قدرة الله سبحانه وتعالى {قَالُوا كَذَالِكِ} أي مثل ذلك الذي بشرناه {قَالَ رَبُّكِ} وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه تعالى لا أنا نقول من تلقاء أنفسنا فالكاف في كذلك منصوب المحل على أنه صفة لمصدر قال الثانية أي لا تستبعدي ما بشرناه به ولا تتعجبي منه فإنه تعالى قال مثل ما أخبرناك به {إِنَّه هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} فيكون قوله حقاً وفعله محكماً لا محالة :
كسى كوبكار تودانا بود
براتمام اوهم توانا بود
بجزدر كهش رومكن سوى كس
مراددل خويش از وجوى وبس
روي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فأيقنت ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط بل مع ابراهيم أيضاً حسبما شرح في سورة الحجر وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر ههنا وفي سورة هود وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز اليأس من فضل الله تعالى فإن المقدور كائن ولو بعد حين وقد أورقت وأثمرت شجرة مريم عليها السلام أيضاً وكانت يابسة كما مر في سورة مريم وقد اشتغل أفراد في كبرهم ففاقوا على أقرانهم في العلم فبعض محرومي البداية مرزوقون في النهاية فمنهم ابراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض ومالك بن دينار قدس الله أسرارهم فإنهم وإن بعدوا عن الفطرة الأصلية بسبب الأحوال العارضة لكنهم لما سبقت العناية في حقهم انجذبوا ءلى الله فتقربوا لديه وأزالوا عن الفطرة الغواشي فمن استعجز قدرة الله تعالى فقد كفر وأما قولهم الصوفي بعد الأربعين بارد فهو يحسب
163
الغالب لأن المزاج بعد الأربعين في الانحطاط لغلبة اليبوسة والرودة لكن الله يحيي ويميت فيحيى في الكبر ما أماته في الصغر أي في حال الشباب ويميت في الكبر ما أحياه في الصغر بأن يميت النفس في الكبر بعدما كانت حية في الشباب ويحيي القلب في الكبر بعدما كان ميتاً في الشباب ومن الله نرجو جزيل الفيض والعطاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
الجزء السابع والعشرون من الاجزاء الثلاثين
(9/132)
{قَالَ} ابراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر {فَمَا خَطْبُكُمْ} أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة فإن الخطب يستعمل في الأمر العظيم الذيم يكثر في التخاطب وقلما يعبر به عن الشدائد والمكاره حتى قالوا خطوب الزمان ونحو هذا والفاء فيه للتعقيب المتفرع على العلم بكونهم ملائكة {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي فرستاده شد كان {قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} متمادين في إجرامهم وآثامهم مصرين عليها وفي فتح الرحمن المجرم فاعل الجرم آثم وهي صعاب المعاصي والمراد بهم قوم لوط {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} أي بعدما قلبنا قراهم وجعلنا عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} أي طين متحجر وهو ما طبخ فصار في صلابة الحجر وهو السجيل يعني أن السجيل حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب عليها أسماء القوم ولو لم يقل من طين لتوهم أن المراد من الحجارة البرد بقرينة إرسالها من السماء فلما قيل من طين اندفع ذلك الوهم {مُّسَوَّمَةً} مرسلة من سومت الماشية أي أرسلتها لترعى لعدم الاحتياج إليها قال سعدي المفتي فيه أن الظاهر حينئذ من عند ربك بإثبات من الجارة انتهى أو معلمة للعذاب من السومة وهي العلامة أو معلمة ببياض وحمرة أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض أو باس من يرمي بها ويهلك {عِندَ رَبِّكَ} في خزائنه التي لا يتصرف فيها غيره تعالى {لِلْمُسْرِفِينَ} أي المجاوزين الحد في الفجور إذ لم يقنعوا بما أبيح لهم من النسوان للحرث بل أتوا الذكران وعن ابن عباس أي للمشركين فإن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها {فَأَخْرَجْنَا} الفاء فصيحة مفصحة عن محذوف كأنه قبل فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فأسر بأهلك الخ فهو أخبار من الله وليس بقول جبريل.
قال الكاشفي : ون ابراهيم معلوم فرمودكه بمؤتفكه مى روند بهلاك كردن قوم لوط دل مباركش بجهت برادر زاده متألم شدكه آيا حال او دران بلا كونه كذرد ملائكه كفتند غم مخوركه لوط عليه السلام ودختران او نجات خواهند يافت.
وذلك قوله تعالى فأخرجنا {مَن كَانَ فِيهَا} أي في قرى قوم لوط وهي خمس على ما في تفسير الكاشفي وإضمارها بغير ذكرها لشهرتها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من آمن بلوط {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} أي غير أهل بيت {مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} قيل هم لوط وابنتاه وأما امرأته فكانت كافرة وإليه الإشارة بقول الشيخ سعدي :
164
بابدان يار كشت همسر لوط
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزي ند
ى نيكان كرفت ومردم شد
(9/133)
وقيل كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر.
وكفته انديك كس ازان قوم بلوط ايمان آورده بود درمدت بيست سال.
قال العلماء يأتي النبي يوم القيامة ومعه أمته وآخر معه قومه وآخر معه رهطه وآخر معه ابنه وآخر معه رجل وآخر استتبع ولم يتبع ودعا فلم يجب وذلك لإتيانه في الوقت الشديد الظلمة وفي الآية إشارة إلى أن المسلم والمؤمن متحدان صدقاً وذاتاً لا مفهوماً والمسلم أعم من المؤمن فإنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم من غير عكس والعام والخاص قد يتصادقان في مادة واحدة وقال بعضهم : الإيمان هو التصديق بالقلب أي إذعان الحكم المخبر وقبوله وجعله صادقاً والإسلام هو الخضوع والإنقياد بمعنى قبول الأحكام والإذعان وهذا حقيقة التصديق كما لا يخفى على من له أدنى عقل وتأمل وإنكار ذلك مكابرة {وَتَرَكْنَا فِيهَآ} أي في تلك القرى {ءَايَةً} علامة دالة على ما أصابهم من العذاب هي تلك الحجارة أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الالِيمَ} أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعتدونها آية كما شاهدنا أكثر الحجاج حين المرور بمدائن صالح عليه السلام وكان عليه السلام يبكي حين المرور بمثل هذه المواضع وينكس رأسه ويأمر بالبكاء والتباكي ودلت الآية على كمال قدرته تعالى على إنجاء من يؤيد دينه والانتقام من أعدائه ولو بعد حين وعلى أن المعتبر في باب النجاة والحشر مع أهل الفلاح والرشاد هو حبهم وحسن اتباعهم وهو الاتصال المعنوي لا الاختلاط الصوري وإلا لجنت امرأة نوح ولوط وقد قال تعالى في حقهما ادخلا النار مع الداخلين فعلى العاقل باتباع الكامل والاحتراز عن أهل الفساد والقصور سيما الناقصات في العقل والدين والشهادة والميراث والنفسانية والشيطانية غالبة فيهن فإذا اقترن بمضل آخر فسدت وفي الآية إشارة إلى أن القوم المجرمين المسرفين هم النفس وصفاتها الذميمة والاذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات مهلكة للنفس وأوصافها وليس في مدينة الشخص الإنساني من المسلمين لا القلب السليم وأوصافه الحميدة فهي سالمة من الهلاك وإذا أهلكت النفس وأوصافها بما ذكر يكون تزكيتها وتهذيب أخلاقها آية وعبرة للذين يخافون العذاب الأليم بوعيد قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ثم هذه التزكية وإن كان حصولها في الخارج بالأسباب والوسائط لكنها في الحقيقة فضل من الله سبحانه وإلا لنالها كل من تشبث بالأسباب نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل النفوس المطمئنة الراضية المرضية الصافية
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَفِى مُوسَى} عطف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين فقصة إبراهيم ولوط عليهما السلام معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه تسلية لرسول الله عليه السلام من تكذيبهم ووعداً له بإهلاك أعدائه الأفاكين كما أهلك قوم لوط أو على قوله وتركنا فيها آية على معنى وجعلنا في إرسال موسى إلى فرعون وإنجائه مما لحق فرعون وقومه من الغرق آية كقول من قال علفتها تبناً وماء باراً أي وسقيتها ماء
165
بارداً وإلا فقوله في موسى : لا يصح معمولاً لتركنا إذ لا يستقيم أن يقال تركنا في موسى آية كما يصح أن يقال تركنا في تلك القرية آية لأن الترك ينبىء عن الإبقاء فإذا لم يبق موسى كيف يبقى ما جعل فيه {إِذْ أَرْسَلْنَـاهُ} منصوب بآية محذوفة أي كائنة وقت أرسلنا وعلى الثاني ظرف لجعلنا المقدر {إِلَى فِرْعَوْنَ} صاحب مصر {بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة كالعصا واليد البيضاء وغيرهما والسلطان مصدر يطلق على المتعدد {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي ثني عطفه وهو كناية عن الأعراض أي فأعرض عن الإيمان به وازور فالتولي بمعنى الإعراض والباء في بركنه للتعدية كما في قوله ونأى بجانبه فإنها معدية لنأى بمعنى بعد فيكون الركن بمعنى الطرف والجانب والمراد بهما نفسه فإنه كثيراً ما يعبر بطرف الشيء وجانبه عن نفسه وفي الصحاح ركن الشيء جانبه إلا قوي كالمنكب بالنسبة إلى الإنسان وقيل فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره فإن الركن اسم لما يركن إليه الإنسان وليكن من مال وجند وقوة فالركن مستعار لجنوده تشبيهاً لهم بالركن الذي يتقوى به البنيان وعلى هذه الباء للسببية أو للملابسة والمصاحبة {وَقَالَ} هو أي موسى {سَـاحِرٌ} جادوست بشم بندى خوارق عادات مينمايد {أَوْ مَجْنُونٌ} أو ديوانه است عاقبت كار خود نمى انديشد.
(9/134)
والمجنون ذو الجنون وهو زوال العقل وفساده كأنه نسب ما ظهر على يديه من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره وسعيه أو بغيرهما وقال أبو عبيدة أو بمعنى الواو إذ نسبوه إليهما جميعاً كقوله إلى مائة ألف أو يزيدون محققان كفته اندطعن وى بر موسى دليل كمال جهل اوست ه اورابد ويز متضاد طعن زد ومقررست كه سحررا عقلي تمام وذهني دراك وحذاقتي وافربايد وديوانكى دليل زوال عقلست وكمال عقل وزوال أن ضدانند {فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَه فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ} النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به أي فطرحناهم في بحرالقلزم مع كثرتهم كما يطرح أحدكم فيه حصيات أخذهن في كفه لا يبالي بها وبزوالها عنه {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي أخذناه والحال أنه آت بما يلام عليه صغيرة أو كبيرة إذ كل صاحب ذنب ملوم على مقدار ذنبه.
قال الكاشفي : مليم مستحق ملامت بوديا ملامت كنند خودراكه را اعراض كردم ازموسى وبر وطعنه زدم وبدين سبب كفت آمنت انه الخ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
بكوى آنه دانى سخن سود مند
وكر هي كس رانيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وفي الآية إشارة إلى موسى القلب إذ أرسله الله إلى فرعون النفس بسلطان وهو عصا لا إله إلا الله مبين إعجازها بأن تلفف ما يأفكون من يحر تمويهات سحرة صفات فرعون النفس فأعرض عن رؤية الإعجاز والإيمان بجميع صفاته فأهلكه الله في يم الدنيا والقهر والجلال ونعوذ بالله من غضب الملك المتعال وقد كان ينسب موسى القلب إلى السحر أو الجنون فإن من خالف أحداً فهو عنده مجنون وليس موسى القلب مجنوناً بل مجذوباً والفرق بينهما أن المجنون ذهب عقله باستعمال مطعوم كوني أو غير ذلك والمجذوب ذهل عقله لما شاهد
166
من عظم قدرة الله تعالى فعقله مخبوء عند الحق منعم بشهوده عاكف بحضرته متنزه في جماله فهم أصحاب عقول بلا عقول وهم في ذلك على ثلاث مراتب : منهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها فيحكم الوارد عليه فيغلب عليه الحال فيكون تحت تصرف الحال ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال ومنهم من يمسك عقله هناك ويبقى عليه عقل حيوانيته فيأكل ويشرب ويتصرف من غير تدبير ولا رؤية ويسمى هذا من عقلاء المجانين لتناوله العيش الطبيعي كسائر الحيوانات ومنهم من لا يدوم له حكم الوارد فيزول عنه الحال فيرجع إلى الناس بعقله فيدبر أمره ويعقل ما يقول ويقال له ويتصرف عن تدبير ورؤية مثل كل الإنسان وذلك هو صاحب القدم المحمدي فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يؤخذ عن نفسه عند نزول الوحي ثم يسري عنه فيلقي ما أوحي به إليه على الحاضرين.
واعلم أن المجاذيب لا يطالبون بالآداب الشرعية لذهاب عقولهم بما طرأ عليها من عظيم أمر الله تعالى :
هركه كرد ارجام حق بكجرعه نوش
نه ادب ماند درونه عقل وهوش
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
بكوى آنه دانى سخن سود مند
وكر هي كس رانيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وفي الآية إشارة إلى موسى القلب إذ أرسله الله إلى فرعون النفس بسلطان وهو عصا لا إله إلا الله مبين إعجازها بأن تلفف ما يأفكون من يحر تمويهات سحرة صفات فرعون النفس فأعرض عن رؤية الإعجاز والإيمان بجميع صفاته فأهلكه الله في يم الدنيا والقهر والجلال ونعوذ بالله من غضب الملك المتعال وقد كان ينسب موسى القلب إلى السحر أو الجنون فإن من خالف أحداً فهو عنده مجنون وليس موسى القلب مجنوناً بل مجذوباً والفرق بينهما أن المجنون ذهب عقله باستعمال مطعوم كوني أو غير ذلك والمجذوب ذهل عقله لما شاهد
166
من عظم قدرة الله تعالى فعقله مخبوء عند الحق منعم بشهوده عاكف بحضرته متنزه في جماله فهم أصحاب عقول بلا عقول وهم في ذلك على ثلاث مراتب : منهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها فيحكم الوارد عليه فيغلب عليه الحال فيكون تحت تصرف الحال ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال ومنهم من يمسك عقله هناك ويبقى عليه عقل حيوانيته فيأكل ويشرب ويتصرف من غير تدبير ولا رؤية ويسمى هذا من عقلاء المجانين لتناوله العيش الطبيعي كسائر الحيوانات ومنهم من لا يدوم له حكم الوارد فيزول عنه الحال فيرجع إلى الناس بعقله فيدبر أمره ويعقل ما يقول ويقال له ويتصرف عن تدبير ورؤية مثل كل الإنسان وذلك هو صاحب القدم المحمدي فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يؤخذ عن نفسه عند نزول الوحي ثم يسري عنه فيلقي ما أوحي به إليه على الحاضرين.
واعلم أن المجاذيب لا يطالبون بالآداب الشرعية لذهاب عقولهم بما طرأ عليها من عظيم أمر الله تعالى :
هركه كرد ارجام حق بكجرعه نوش
نه ادب ماند درونه عقل وهوش
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/135)
وحكمهم عند الله حكم من مات على حالة شهود ونعت استقامة وحالهم في الدنيا حكم الحيوان ينال جميع ما يطلب حكم طبيعته من أكل وشرب ونكاح من غير تقييد ولا مطالبة عليه عند الله مع وجود الكشف وبقائه عليهم كما تكشف البهائم وكل دابة حياة الميت على النعش وهو يحور ويقول : قدموني إن كان سعيداً ويقول : أين تذهبون بي إن كان شقياً فذاهب العقل معدود في الأموار لذهاب عقله معدود في الأحياء بطبعه فهو من السعداء الذين رضي الله عنهم وأكثر المجانين من غلبة المكاشفات والمشاهدات يعني أنهم يكاشفون الأمور الغيبية والأحوال الملكوتية ويشاهدون ما خفي عن أعين العامة وذلك من غير سبق المجاهدة منهم فبذلك يخرجون عن دائرة العقل إذ لا يتحملون الفتح الفجائي لعدم تهيئهم قبله ثم يتعسر إدخالهم في دائرة العقل إلا أن أراد الله تعالى ذلك فالمقبول البقاء على العقل وأن يكون المرء غالباً على حاله لا أن يكون الحال غالباً والأول من أحوال أهل النهاية والثاني من أحوال أهل البدية والله الغالب على أمره {وَفِى عَادٍ} أي وفي قوم هود آيات إن كان معطوفاً على وفي الأرض أو وجعلنا فيهم آية على تقدير كونه معطوفاً على قوله وتركنا فيها آية {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} أي على أنفسهم أصالة وعلى دورهم وأموالهم وأنعامهم تبعاً {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} العقم بالضم هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد كما في القاموس وصفت بالعقم لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم فالعقيم بمعنى المعقم أو العاقم وفيه استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بأعقام النساء التي لا يلدن ولا يعقبن ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم أو وصفت به لأنها لم تتضمن خيراً ما من إنشاء مطر أو القاح شجره يعني شبه عدم تضمنها منفعة بعقم المرأة ثم أطلق عليه فالعقيم بمعنى الفاعل من اللازم وفي بحر العلوم ولعله سماها عقيماً لأنها كانت سبب قطع الأرحام من الولادة بإهلاكها إياهم وقطعها دابرهم وهي من رياح العذاب والهلاك وهي النكباء على قول علي رضي الله عنه وهي التي انجرفت ووقعت بين ريحين أو بين الصبا والشمال وهي الدبور على قول ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده
167
قوله عليه السلام : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وهي ريح تقابل الصبا أي ريح تجيىء من جانب المغرب فإن الصبا تجيء من جانب المشرق وقال ابن المسيب : الريح العقيم هي الجنوب مقابل الشمال وهي ريح تجيىء من شمال من يتوجه إلى المشرق
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{مَا تَذَرُ} أي ما تترك يقال ذره أي دعه يذره تركاً ولا تقل وذراً وأصله وذره يذره نحو وسعه يسعه لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل {مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي جرت عليه من أنفسهم ودورهم وأموالهم وأنعامهم {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} كالشيء البالي المتفتت فهو كل ما رم وبلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك وبالفارسية مثل كياه خشك يا استخوان كهنه شده ريزيده.
وفي القاموس رم العظم يرم رمة بالكسر ورما ورميما وارم بلي فهو رميم وفي المفردات الرمة بالكسر تختص بالعظم والرمة بالضم بالحبل البالي والرم بالكسر بالفتات من الخشب والحشيش والتبن وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما أرسل على عاد من الريح إلا مثل خاتمي هذا يعني إن الريح العقيم تحت الأرض فأخرج منها مثل ما يخرج من الخاتم من الثقب فأهلكهم الله به وفيه إشارة إلى شدة تلك الريح وأشير بكونها تحت الأرض إلى ريح الهوى التي تحت أرض الوجود فهي أيضاً شديدة جداً فإنها حيث هبت تركت الديار بلا قع وأيضاً هي ريح جلال الله تعالى وقهره فإنها إذا هبت تميت النفوس عن أوصافها فلا يبقى منها شيء فالعقيم في بر الجسد والعاصف والقاصف في بحر الروح وكان عليه السلام يتعوذ بالله تعالى حين تهب الرياح الشديدة فليتعوذ العاقل من المهلكات فإنه إذا هلكت النفس بالهلاك الصوري قبل الكمال خسرت التجارة وكذا إذا هلك القلب فإن حياة المرى حينئذ لا فائدة فيها.
سأال كردنداز حسن بصري رحمه الله كه يا شيخ دلهاى ما خفته است سخن تودروى كار واثر نمى كنده كنيم كفت كاشكى خفته بودى كه خفته رابجنباني بيدار شود امادلهاى شما مرده است كه هرجند مى جنبانى بيدار نمى كردد.
قال المولى الجامي :
أي بمهد بدن و طفل صغير
مانده دردست خواب غفلت اسير
يش ازان كت اجل كند بيدار
كرنمردى زخواب سر برادر
(9/136)
قال محمد بن حامد رحمه الله وكان جالساً عند أحمد بن حضرويه وهو في النزع وقد أتى عليه خمس وتسعون سنة هو ذا يفتح لي الساعة لا أدري أيفتح بالسعادة أم بالشقاوة وعن خلف بن سالم رحمه الله قال : قلت لأبي علي بن المعتوه : أين مأواك؟ قال : دار يستوي فيها العزيز والذليل قلت : وأين هذه الدار؟ قال : المقابر قلت : أما تستوحش في ظلمة الليل قال : إني أذكر ظلمة اللحود ووحشتهن فتهون علي ظلمة الليل قلت له : فربما رأيت في المقابر شيئاً تنكره قال : ربما ولكن في هول الآخرة ما يشغل عن هول المقابر ووجد مكتوباً على بعض القبور :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه
لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
يزيد بلاء كل يوم وليلة
ويبلى كما تبلى وأنت حبيب
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 18 من صفحة 168 حتى صفحة 179
{وَفِى ثَمُودَ} أي وفي قوم صالح آيات أو وجعلنا فيهم آية {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا} في انتفعوا بالحياة الدنيا {حَتَّى حِينٍ} إلى وقت العذاب وهو آخر ثلاثة أيام : الأربعاء ،
168
والخميس ، والجمعة ، فإنهم عقروا الناقة يوم الاربعاء وهلكوا بالصيحة يوم السبت وقد فسر بقوله تمتعوا في داركم ثلاثة أيام قيل : قال لهم صالح عليه السلام : تصبح وجوهكم غداً مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فكان كذلك وإنما تبدلت ألوانهم بما ذكر لأنهم كانوا كل يوم في الترقي إلى سوء الحال ولا شك أن الأبيض يصير أصفر ثم أحمر ثم أسود والسواد من ألوان الجلال والقهر وأيضاً لون جهنم فإنها سوداء مظلمة فعند الهلاك صاروا إلى لون جهنم لأنها مقرهم ونعوذ بالله منها {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي فاستكبروا عن الامتثال به وبالفارسية س سر كشيدند ازفرمان آفريد كار خود وبتدارك كارخود مشغول نكشتند.
يقال عتا عتواً وعتياً وعتياً استكبر وجاوز الحد فهو عات وعتي وأمر ربهم هو ما أمروا به على لسان صالح عليه السلام من قوله اعبدوا الله وقوله فذروها تأكل في أرض الله أو شأن ربهم وهو دينه أو صدر عتوهم عن أمر ربهم وبسببه كان أمر ربهم بعبادته وترك الناقة كان هو السبب في عتوهم كما في بحر العلوم والفاء ليست للعطف على قيل لهم فإن العتوا لم يكن بعد التمتع بل قبله وإنما هو تفسير وتفصيل لما أجمله في قوله وفي ثمود الخ فإنه يدل إجمالاً على أنه تعالى جعل فيهم آية ثم بين وجه الآية وفصلها قال في شرح الرضي إن الفاء العاطفة للجمل قد تفيد كون المذكور بعدها كلاماً مرتباً على ما قبلها في الذكر لأن مضمونها عقيب مضمون ما قبلها في الزمان {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ} قيل لما رأوا العلامات التي بينها صالحا من اصفرار وجوههم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه السلام فنجاه الله إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالانطاع فإتتهم صيحة جبريل عليه السلام كما صرح بها في قوله وأخذ الذين ظلموا الصيحة فهلكوا فالمراد بالصاعقة الصيحة لا حقيقتها وهي نار تنزل من السماء فتحرق ما أصابته وقيل : أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وقال بعضهم : اهلكوا بالصاعقة حقيقة بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم جميعاً
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليها ويعاينونها لأنها جاءتهم معاينة بالبهار فينظرون من النظر بالعين وفيه ترجيح لكون المراد بالصاعقة حقيقة النار لأنها حين ظهرت رأوها بأعينهم والصيحة لا ينظر إليها وإنما تسمع بالأذن والظاهر أن الصاعقة لا تنافي أن يكون معها صيحة جبريل وقيل هو من الانتظار أي ينتظرون ما وعدوا به من العذاب حيث شاهدوا علامات نزوله من تغير ألوانهم في تلك الأيام ويقال سمعوا الصيحة وهم ينظرون أي يتحيرون {فَمَا اسْتَطَـاعُوا مِن قِيَامٍ} كقوله تعالى : فأصبحوا في دارهم جاتمين أي لاصقين بمكانهم من الأرض لا يقدرون على الحركة والقيام فضلاً عن الهرب فالقيام ضد القعود {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} بغيرهم كما لم يمتنعوا بأنفسهم قال في تاج المصادر الانتصار داد بستدن {وَقَوْمَ نُوحٍ} أي وأهلكنا قوم نوح فإن ما قبله يدل عليه ويجوز أن يكون منصوباً باذكر المقدر {مِّن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المهلكين {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وهو علة لإهلاكهم.
واعلم أن الله تعالى قد أرسل الرسل وشرع الشرائع
169
(9/137)
وحد الحدود فمتى تعديت الحد الذي حد لك الشارع صرت فاسقاً واطعلت الشيطان وتنحى عنك عند العصيان الملك المؤيد للمؤمنين فإذا وكل العبد إلى نفسه وإلى الشيطان فقد هلك وكل نار وعذاب وبلاء فإنما يأتي من الداخل لا من الخارج إذ لا خارج من وجود الإنسان فالعذاب صورة أوصافه وأفعاله وأخلاقه عادت إليه حين عصى الله تعالى وكذا الثواب صورة ذلك عادت إليه حين أطاع الله تعالى فإن قلت كل ذلك إذا كان من أحوال العين الثابتة للعبد فكل عبد فإنما يمر على طريقه في الهداية والضلالة فما معنى دعوة الأنبياء وإرشاد الأولياء قلت تلك الدعوة أيضاً من أحوال أعيان المدعوين فخلاف المخالفين وإن كان من التجلي لكن حقائق الأنبياء اقتضت التجلي بموافقة التجلي من وجه والرد عليه من آخر فكان أمرهم حيرة فلو كانوا يخدمون التجلي مطلقاً لما ردوا على أحد فإذا ورد الأمر التكليفي فإما أن يوافقه الأمر الإرادي أو لا فإن وافقه فالمكلف منتقل من دائرة الاسم المضل إلى دائرة الاسم الهادي وذلك الانتقال من أحوال عينه وإن لم يوافقه فمعنى التكليف أنه من أحوال عينه ولا بد وأيضاً فيه تمييز الشقي من السعيد وبالعكس فاعرف هذه الجملة تسعد واجتهد حتى ينقلك الله من دائرة الجانب إلى دائرة الأحباب ولا تغتر بكثرة الدنيا وطول العمر كما فعل الكفار والفساق حتى لا يحل بك ما حل بهم من الصاعقة والطوفان مع أن صاعقة الموت وطوفان الحوادث لا بد وأن تحل بكل أحد بحيث لا يستطيع القيام من مكانه فيموت في مقامه قال الشيخ سعدي في البستان :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
كهن سالي آمد بنزد طبيب
زنا ليدنش تابمردن قريب
كه دستم برك برنه اى نيك راى
كه ايم همى برنيايد زجاى
بدان ماند اين قامت جفته ام
كه كويى بكل در فرو رفته ام
بدو كفت دست ازجهان دركسل
كه ايت قيامت برايد زكل
نشاط جوانى زيران مجوى
كه آب روان بازنايد بجوى
اكر درجوانى زدى دست واى
درايام يرى بهش باش وراى
ودوران عمر از هل در كذشت
مزن دست وا كابت از سر كذشت
نشاط ازمن آنكه رميدن كرفت
كه شامم سيده دميدن كرفت
ببايد هوس كردن از سر بدر
كه روز هو سبازى آمد بسر
بسبزى كجا تازه كردد دلم
كه سبزه بخواهد دميد از كلم
تفرج كنان درهوا وهوس
كذشيتم برخاك بسيار كس
كسايكه ديكر بغيب اندراند
بيايند وبرخاك ما بكذرند
دريغا كه فصل جواني برفت
بلهو ولعب زند كانى برفت
ديغا نين روح رور زمان
كه بكذشت بر ما و برق يمان
زسود اى آن وشم واين خورم
نردا ختم تاغم دين خورم
دريغا كه مشغول باطل شديم
زحق دور مانديم وغافل شديم
170
ه خوش كفت با كودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روز كار
أي ضاع زماننا ومضى بلا فائدة {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا} نصب السماء على الاشتغال أي وبنينا السماء بنيناها حال حوننا ملتبسين {بِأَيايْدٍ} أي بقوة فهو حال من الفاعل أو ملتبسة بقوة فيكون حالاً من المفعول ويجوز أن تكون الباء للسببية أي بسبب قدرتنا فتتعلق ببنيناها لا بالمحذوف لا بالمحذوف والقوة هنا بمعنى القدرة فإن القوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف والله تعالى منزه عن ذلك والقدرة هي الصفة التي بها يتمكن الحي من الفعل وتركه بالإرادة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/138)
قال الكاشفي : بقوت الوهيت وكفته اند بقدرتي بر آفر ينش داشتيم يقال آديئيد أيدا أي اشتد وقوى قال في القاموس الآد الصلب والقوة كالأيد وآيدته مؤايدة وأيدته تأييداً فهو مؤيد قويته انتهى قال الراغب ولما في اليد من القوة قيل أنا يدك وأيدتك قويت يدك {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الاتفاق قال في تاج المصادر الإيساع توانكر شدن وتمام فراشيدن ويقال أوسع الله عليك أي أغناك انتهى فيكون قوله وأنا لموسعون حالاً مؤكدة أو تذييلاً إثباتاً لسعة قدرته كل شيء فضلاً عن السماء أو لموسعون السماء أي جاعلوها واسعة أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق على خلقنا لقوله تعالى وفي السماء رزقكم وفيه إشارة إلى أن وسعة البيت والرزق من تجليات الاسم الواسع {وَالارْضِ} أي وفرشنا الأرض {فَرَشْنَـاهَا} مهدناها وبسطناها من تحت الكعبة مسيرة خمسمائة عام ليستقروا عليها ويتقلبوا كما يتقلب أحدهم على فراشه ومهاده {فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ} أي نحن وهو المخصوص بالمدح المحذوف أي هم نحن فحذف المبتدأ والخبر من غير أن يقوم شيء مقامهما وقد اختلف القدماء في هيئة الأرض وشكلها فذكر بعضهم أنها مبسوطة مستوية السطح في أربع جهات : المشرق والمغرب والجنوب والشمال وزعم آخرون أنها كهيئة المائدة ومنهم من زعم أنها كهيئة الطبل وذكر بعضهم أنها تشبه نصف الكرة كهيئة القبة وأن السماء مركبة على أطرافها وزعم قوم أن الأرض مقعرة وسطها كالجام والذي عليه الجمهور أن الأرض مستديرة كالكرة وأن السماء محيطة بها من كل جانب إحاطة البيضة بالمح فالصغرة بمنزلة الأرض وبياضها بمنزلة السماء وجلدها بمنزلة السماء الأخرى غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستوية الخرط حتى قال مهندسوهم : لو حفر في الوهم وجه الأرض لأدى إلى وجه الآخرة ولو ثقب مثلاً ثقب بأرض الأندلس لنفذ الثقب بأرض الصين واختلف في كنية عدد الأرضين فروي في بعض الأخبار أن بعضها فوق بعض وغلظ كل أرض مسيرة خمسمائة عام حتى عد بعضهم لكل أرض أهلاً على صفة وهيئة عجيبة وسمي كل أرض باسم خاص كما سمي كل سماء باسم خاص وزعم بعضهم أن في الأرض الرابعة حيات أهل النار وفي الأرض السادسة حجارة أهل النار وعن عطاء بن يسار في قوله تعالى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن قال في كل أرض آدم كآدمكم ونوح مثل نوحكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم وليس هذا القول بأعجب من قوله الفلاسفة أن الشموس شموس كثيرة والأقمار أقمار كثيرة ففي كل أقليم شمس وقمر ونجوم وقالت القدماء الأرض
171
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/139)
سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الأقاليم لا على المطابقة والمكابسة وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول ومنهم من يقول سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي ويزعم بعضهم أن الأرض مقسومة لخمس مناطق وهي المنطقة الشمالية والجنوبية والمستوية والمعتدلة والوسطى واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها فروى عن مكحول أنه قال ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر ومائتان ليس يسكنها أحد وثمانون فيها يأجوج ومأجوج وعشرون فيها سائر الخلق وعن قتادة قال : الدنيا أربعة وعشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ وملك العجم والترك ثلاثة آلاف فرسخ وملك العرب ألف فرسخ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس وقال بطليموس بسيط الأرض كلها مائة واثنان وثلاثون ألف ألف وستمائة ألف ميل فتكون مائتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ فإن كان حقاً فهو وحي من الحق أو إلهام وإن كان قياساً واستدلالاً فهو قريب من الحق أيضاً وأما قوله قتادة ومكحول فلا يوجب العلم اليقيني الذي يقطع على الغيب به كذا في خريدة العجائب {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ} أي من أجناس الموجودات فالمراد بالشيء الجنس وقيل من الحيوان {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صنفين ونوعين مختلفين كالذكر والأنثى والسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والصيف والشتاء والبر والبحر والسهل والجبل والإنس والجن والنور والظلمة والأبيض والأسود والدنيا والآخرة والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر والموت والحياة والرطب واليابس والجامد والنامي والمدر والنبات والناطق والصامت والحلم والقهر والجود والبخل والعر والذلة والقدرة والعجز والقوة والضعف والعلم والجهل والصحة والسقم والغنى والفقر والضحك والبكاء والفرح والغم والفوق والتحت واليمين والشمال والقدام والخلف والحرارة والبرودة وهلم جرا قال الراغب : يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوان المتزاوج زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج كالخف والنعل ولكل ما يتقرن بالآخر مماثلاً له أو مضاداً زوج وفي قوله ومن كل شيء خلقنا زوجين تنبيه على أن الأشياء كلها مركبة من جوهر وعرض ومادة وصورة وأن لا شيء يتعرى منها إذ الأشياء كلها مركبة من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً وأنه لا بد له من صانع تنبيهاً على أنه تعالى هو الفرد فبين بقوله ومن كل شيء الخ أن كل ما في العالم فإنه زوج من حيث أن له ضداً ما أو مثلاً ما أو تركيباً ما بل لا ينفك من وجه من تركب وإنما ذكر ههنا زوجين تنبيهاً على أنه وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركب صورة ومادة وذلك زوجان قال الخراز قدس سره : اظهر معنى الربوبية والوحدانية بأن خلق الأزواج ليخلص له الفردانية {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنا ذلك كله من البناء والفرش وخلق الأزواج كي تتذكروا فتعرفوا أنه خالق الكل ورازقه وأنه المتحق للعبادة وأنه قادر على إعادة الجميع فتعلموا بمقتضاه وبالفارسية باشد كه شما بند بذير شويد ودانيد كه وجدانيت از خواص
172
ممكنات نيست ومن واجب بالذاتم وواجب قابل تعدد وانقسام نيست :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
ذاتش از قسمت وتعدد اك
وحدت او مقدس از اشراك
از عدد دم مزن كه او فردست
كى عدد بهر فردد رخوردست
احدست وشمار از ومعزول
صمدست وتبار از ومخذول
(9/140)
وفيه إشارة إلى أنه تعالى خلق لكل شيء من عالم الملك وهو عالم الأجسام زوجاً من عالم الملكوت وهو عالم الأرواح ليكون ذلك الشيء الجسماني قائماً بملكوته وملكوته قائماً بيد القدرة الإلهية لعلكم تذكرون أنكم بهذا الطريق جئتم من الحضرة وبهذا الطريق ترجعون إلى الله سبحانه {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أي قول لقولمك يا محمد إذا كان الأمر كذلك فاهربوا إلى الله الذي هذه شؤونه بالإيمان والطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه يعني إن في الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة بلفظ الفرار تنبيهاً على أن وراء الناس عقاباً يجب أن يفروا منه قال بعض الكبار : ياأيها الذين فررتم من الله بتعلقات الكونين ففروا بنعت الشوق والمحبة والتجرد إلى الله يقطع التعلقات عن الوجود وعما سواه تعالى مطلقاً ومن صح فراره إلى الله صح قراره مع الله وأيضاً ففروا منه إليه حتى تفنوا فيه قال : فإن الحادث لا يثبت عند رؤية القديم وقال سهل رضي الله عنه : ففروا مما سوى الله إلى الله ومن المعصية إلى الطاعة ومن الجهل إلى العلم ومن العذاب إلى رحمة ومن سخطه إلى رضوانه وقال محمد بن حامد رحمه الله حقيقة الفرار ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال : وألجأت ظهري إليك وما روي عنه في حديث عائشة رضي الله عنها وأعوذ بك منك فهذه غاية الفرار منه إليه وقال الواسطي رحمه الله ففروا إلى الله معناه لما سبق لهم من الله لا إلى علمهم وحركاتهم وأنفسهم وسئل بعضهم عن قول النبي عليه السلام سافروا تصحوا قال : سافروا إلينا تجدونا في أول قدم ثم قرأ ففروا إلى الله هيكس درتونيا ويخت كه ازخود نكريخت.
هيكس باتونه يوست كه ازخود نبريد وفي كشف الأسرار فرار مقامي است از مقامات روندكان ومنزلي از منازل دوستى كسى راكه اين مقام درست شود نشانش آنست كه همه نفس خود غرامت بيند همه سخن خود شكايت بيندهمه كرده خودجنايت بيند اميد از كردار خوديبر دوبر اخلاص خودتهمت نهدوا كر دولتى آيد در راه وى از فضل حق بيند واز حكم ازل نه از جهد وكردار خود وهذا موت عن نفسه وهمه خلق زنده ازمرده ميراث برد مكر اين طائفه كه مرده از زنده ميراث برد.
وفي الحديث : من أراد أن ينظر ءلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي إني لكم من جهته تعالى منذرين كونه منذراً منه تعالى بالمعجزات الباهرة أو مظهر لما يجب إظهاره من العذاب المنذر به وفي أمره للرسول عليه السلام بأن يأمرهم بالهرب إليه من عقابه وتعليله بأنه عليه السلام ينذرهم من جهته تعالى لا من تلقاء نفسه وعد كريم بنجاتهم من المهروب وفوزهم بالمطلوب {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} نهى موجب للفرار من سبب العقاب بعد الأمر بالفرار نفسه كأنه قيل وفروا من أن تجعلوا معه تعالى اعتقاداً أو تقولوا إلهاً آخر {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ}
173
أي من الجعل المنهى عنه {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وفيه تأكيد لما قبله من الفرار من العقاب إليه تعالى لكن لا بطريق التكرير بل بالنهي عن سببه وإيجاب الفرار منه قال في برهان القرآن الأول متعلق بترك الطاعة والثاني متعلق بالشرك بالله فلا تكرار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/141)
وفي التأويلات النجمية ولا تجعلوا مع الله في المعرفة بوحدانيته إلهاً آخر من النفوس والهوى والدنيا والآخرة فتعبدونها بالميل إليها والرغبة فيها فإن التوحيد في الإعراض عنها وقطع تعلقاتها والفرار إلى الله منها لأن من صح فراره إلى الله صح قراره مع الله وهذا كمال التوحيد إني لكم نذير مبين أخوفكم اليم عقوبة البعد وعذاب الأثنينية إذا أشركتم به في الوجود فإنه لا يغفر أن يشرك به {كَذَالِكِ} أي الأمر وهو أمر الأمم السالفة بالنسبة إلى رسلهم من ما ذكر من تكذيب قريش ومشركي العرب الرسول صلى الله عليه وسلّم وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً ثم فسره بقوله : {مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ} من رسل الله {إِلا قَالُوا} في حقه هو {سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} يعني اكر معجزه بديشان نمود عمل اورا سحر خواندند واكر ازبعث وحشر خبرداد قول اورا بسخن اهل جنون تشبيه كردند أي فلا تأس على تكذيب قومك إياك {وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ} إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تفرق ازمانهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلاً عن التفوه بها في حق الأنبياء أي أوصى الألون الآخرين بعضهم بعضاً بهذا القول حتى اتفقوا عليه {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} آضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك لبعد الزمان وعدم تلاقيهم في وقت واحد وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه وهو الطغيان الشامل للكل الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم وفيه إشارة إلى أن أرباب النفوس المتمردة من الأولين والآخرين مركوزة في جبلتهم طبيعة الشيطنة من التمرد والآباء والاستكبار فما أتاهم رسول من الأنبياء في الظاهر أو من الإلهامات الربانية في الباطن إلا أنكروا عليه وقالوا ساحر يريد أن يسحرنا أو مجنون لا عبرة بقوله كأن بعضهم أوصى بعضهم بالتمرد والإنكار والجحود لأنهم خلقوا على طبيعة واحدة بل هم قوم طاغون بأنهم وجدوا أسباب الطغيان من السعة والتنعم والبطر والغنى قال الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمراء أي مفسده
فعكسوا الأمر وكان ينبغي لهم أن يصرفوا العمر والشباب والغنى في تحصلي المطلوب الحقيقي.
كما قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
عشق وشباب ورندى مجموعه مرادست
ون جمع شد معاني كوى بيان توان زد
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الاباء والاستكبار وبالفارسية س روى بكردان از مكافات ايشان تاوقتى كه مأمور شوى بقتال وفي فتح الرحمن فتول عن الحرص المفرط عليهم وذهاب النفس حسرات وقال الواسطي ردهم إلى ما سبق عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} على التولي بعدما
174
(9/142)
بذلت المجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود واللوم والملامة العذل وبالفارسية نكوهيدن وقال بعض الكبار فتول عنهم فإنك لا تهدي من احببت منهم فما أنت بملوم بالعجز عن هدايتهم لأنك مبلغ وليس إليك من الهداية شيء وقال بعضهم فتول عنهم بسيرك إلينا فما أنت بملوم في إبلاغ رسالتك واشتغالك في الظاهر بهم وإعلامهم بأسباب نجاتهم فأنت مستقيم لا يحجبنك إبلاغ الرسالة عن شهود العين {وَذَكِّرْ} أي افعل التذكير والموعظة ولا تعدهما بالكلية أو فذكرهم وقد حذف الضمير لظهور الأمر {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي الذين قدر الله إيمانهم أو الذين آمنوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين يعني بعناد كافران وجحود ايشان دست از تربيت مسلمانان بازمدار وهمنان بر تذكير خود ثابت باش كه وعظ را فوائد بسارست ومنافع بي شمار فإن النصيحة تلين القلوب القاسية وفي الحديث "ما من مؤمن إلا وله ذنب قد اعتاده الفينة بعد الفينة" أي الساعة بعد الساعة والحين بعد الحين "إن المؤمن خلق مفتوناً ناسياً فإذا ذكر ذكر" وقال بعضهم : ذكر المطيعين جزيل ثوابي وذكر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي وقال بعضهم : ذكر العاصين منهم عقوبتي ليرجعوا عن مخالفة أمري وذكر المطيعين جزيل ثوابي ليزداد وإطاعة وعبادة لي وذكر المحبين ما شاهدوا من أنوار جمالي وجلالي في الغيب وغيب الغيب ليزيد وافي بذل الوجود وطلب المفقود.
ودر فصول آورده كه كلام مذكور بايدكه برده خير مشتمل باشد تاسا معانرا سودمند بود اول نعمت خداى باياد مردم دهد تاشكر كزارى نمايند دوم ثوابي محنت وبلا ذكر كند تادران شكيبايى ورزند سوم عقوبت كناهان برشمرد تا ازان باز ايستند وتوبه كنند هارم مكائد ووساوس شيطاني بيان فرما يدتا ازان حذر نما يندنجم فنا وزوال وبي اعتباري دنيا بر ايشان روشن كرداند تادل درونه بندند ششم مركرا يوسته ياد كند تارفتن را آماده شوند هفتم قيامت را آماده وذكر آن بسيار كويد تاكار آنروز بسازند هشتم دركات دوزخ وانواع عقوبتهاى آن بيان كندتا ازان بترسند نهم درجات بهشت واقسام نعمتهاى آنرا بر شمارد تابدان راغب كردند دهم بناى كلام برخوف ورجانهد يعني كاهى ازعظمت وكبريا وهيبت الهي سخن راندتا ازوى بترسند ووقتى از رحمت ومغفرت مهربانى او تقرير كند تابوى اميدوار شوند س هر موعظه كه مشتمل برين سخنانست منفعت مؤمنانست خصوصا اذا كان المذكر عاملاً بما ذكرهم به غير ناس نفسه فإن تأثيره أشد من تأثير تذكير الغافلين :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
عالم كه كامرانى وتن رورى كند
او خويشتن كم است واكرا رهبرى كند
وإنما قلنا من تأثيره فإنهم قالوا :
مرد بايدكه كيرداندر كوش
ورنوشتست ند برديوار
فلا كلام إلا في الاستعداد والتهيىء للاستماع ولذا قال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} قرأ يعقوب ليعبدوني وكذا يطعموني ويستعجلوني كما سيأتي باثبات ياء المتكلم فيهن وصلا ووقفاً وحذفها الباقون في الحالين والعبادة إبلغ من العبودية لأن العبودية إظهار التذلل والعبادة غاية
175
(9/143)
التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال قال بعض الكبار العبادة ذاتية للمخلوق لأنها ذلة في اللغة العربية وإنما وقع التكليف بالأفعال المخصوصة التي هي العبادة الوصفية للتنبيه على تلك الذلة الذاتية حتى يتذللوا ويتخضعوا لربهم وخالقهم بالوجه المشروع ولعل تقديم خلق الجن في الذكر لتقدمه على خلق الإنس في الوجود ومعنى خلقهم لعبادته تعالى خلقهم مستعدين لها أتم استعداد ومتمكنين منها أكمل تمكين مع كونها مطلوبة منهم بتنزيل ترتيب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الفرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات جليلة مما لا نزاع فيه قطعاً كيف لا وهي رحمة منه تعالى وتفضل على عباده وإنما الذي لا يليق بجنابه تعالى تعليلها بالغرض بمعنى الباعث على الفعل بحيث لولاه لم يفعل لإفضائه إلى استكماله بفعل وهو الكامل بالفعل من كل وجه وأما بمعنى نهاية كمالية يفضي إليها فعل الفاعل الحق فغير منفي من أفعاله تعالى بل كلها جارية على ذلك المنهاج وعلى هذا الاعتبار يدر وصفه تعالى بالحكمة ويكفي في تحقق معنى التعليل على ما يقوله الفقهاء ويتعارفه أهل اللغة هذا المقدار وبه يتحقق مدلول اللام وأما إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللام حتى يلزم عن عدم صدور العبادة عن البعض تخلف المراد عن الإرادة فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية مع تعاضد المبادي وتأخر المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية كما في قوله تعالى كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ونظائره كذا في الأرشاد قال سعدي المفتي فاللام حينئذ على حقيقتها فتأمل انتهى والحاصل أن قوله إلا ليعبدون إثبات السبب الموجب للحق فهذه اللام لام الحكمة والسبب شرعاً ولام العلة عقلاً قال المولى رمضان في شرح العقائد واستكماله تعالى بفعل نفسه جائز بل واقع فإنه تعالى حين أوجد العالم قد استكمل بكمال الموجدية والمعروفية على ما نطق به قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليعرفون وهو كمال إضافي يجوز الخلو عنه انتهى مقصود إلهي ازهمه كمال جلا واستجلاست كه در انسان كامل جمعاً وتفصيلاً بظهور رمد ودر عالم تفصيلاً فقط سؤال طلب ابن مقصودنه استكمالست كه مستدعى سبق نقصاً نست نانكه اهل كلام ميكويندكه افعال الله معلل بأغراض نشايد بودن جواب آنه محذورست استكمال بغير است واين استكمال بصفات خوداست نه بغير كذا في تفسير الفاتحة للشيخ صدر الدين القنوي قدس سره وكذا قال في بعض شروح الفصوص أن للحق سبحانه كمالاً ذاتياً وكمالاً إسمائياً وامتناع استكماله بالغير إنما هو في الكمال الذاتي لا الأسمائي فإن ظهور آثار الأسماء ممتنع بدون المظاهر الكونية انتهى.
قال المولى الجامي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وجود قابل شرط كمال اسمائيست
وكرنه ذات نباشد بغير مستكمل
وقال أيضاً :
أي ذات رفيع تونه جوهر نه عرض
فضل وكرمت نيست معلل بغرض
يعني حق سبحانه وتعالى بحسب كمال ذاتي ازوجود عالم وعالميان مستغنيست كما قال تعالى والله هو الغني وون ظهور كمال اسمائي موقوفست بروجود اعيان ممكنات س آنرا ايجاد كرد :
176
تاخود كردد بجمله اوصاف عيان
واجب باشد كه ممكن آيد بميان
ورنه بكمال ذاتي از آدميان
فردست وغنى نانكه خود كرد بيان
(9/144)
والأشاعرة أنكروا صحة توجيه تعليل أفعال الله تعالى معنى وإن كان واقعاً لفظاً تمسكاً بأن الله تعالى مستغن عن المانع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره لأنه تعالى قادر على إيصال تلك المنفعة من غير توسيط العمل فلا يصلح أن يكون غرضاً فعندهم لام التعليل يكون استعارة تبعية تشبيهاً لعبادة العباد بما يفرض علة لخلقه في الترتب عليه وأكثر الفقهاء والمعتزلة قالوا بصحته لمنفعة عائدة إلى عباده تمسكاً بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث والعبث من الحكيم محال كما في شرح المشارق لابن الملك رحمه الله قال ابن الشيخ : استدلت المعتزلة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون على أن أفعال الله معللة بالأغراض وعلى أن مراد الله جائزان يتخلف عن إرادته إذا كان المراد من الأفعال الاختيارية للعباد وجه دلالته عليها هو أن وضع اللام لأن تدخل على ما هو غرض من الفعل فتكون العبادة غرضاً من خلق الجن والإنس والغرض يكون مراداً فينتج أن العبادة غرض من جميع الجن والإنس وظاهر أن بعضاً منهم لم يعبده فتخلف مراده عن إرادته وهو المطابق والجواب عن الأول أنه لما دل الدليل القطعي على أنه تعالى لا يفعل فعلاً لغرض وجب أن يؤول اللام في مثل هذه المواضع بأن يقال أن الحكم والمصالح التي تترتب على فعله تعالى وتكون هي غاية له لما كانت بحيث لو صدر ذلك الفعل من غيره تعالى لكانت هي غرضاً لفعله شبهت بالغرض الحقيقي فدخلت عليها اللام الدالة على الغرض لأجل ذلك التشبيه وأطلق عليها اسم الغرض لذلك حتى قيل الغرض من خلق ما في الأرض انتفاع الناس به لقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً وهذا الجواب إنما يتأتى في اللام الداخلة على ما هو غاية مترتبة على الفعل ولا ينفع في قوله تعالى إلا ليعبدون لأن العبادة لم تكن غاية مترتبة على خلق كثير من الجن والإنس حتى يقال أنها شبهت بالغرض من حيث كون الفعل مؤدياً إليها وكونها مترتبة عليه فأطلق عليها اسم الغرض ودخل عليها لام الغرض لذلك ولكنه لو تم لكان جواباً عن الاستدلال الثاني لأنه مبني على كون مدلول اللام غرضاً في نفس الأمر وما كان غرضاً على طريق التشبيه لا يكون مراداً فلا يلزم من عدم ترتبه على الفعل تخلف المراد عن الإرادة فلا يتم الاستدلال وأشار المصنف إلى جوابه بقوله لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مستعدة لها جعل خلقهم مغيابها وتقريره أن العبادة ليست غاية مترتبة على خلقهما
177
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/145)
فضلاً عن أن تكون غرضاً ومراداً حتى يلزم من عدم ترتتبها على خلقهما تخلف المراد عن الإرادة وإنما دخلت عليها اللام التي حقها أن تدخل لعى الغرض أو على ما شبه به في كونه مترتباً على الفعل وحاملاً عليه في الجملة تشبيهاً لها بالغاية المترتبة من حيث أن الجن والإنس خلقوا على صورة متوجهة إلى العبادة أي صالحة قابلة لها مغلبة أي قادرة عليها متمكنة منها وقد انضم إلى خلقهم على تلك الصورة إن هدوا إلى العبادة بالدلائل السمعية والعقلية فصاروا بذلك كأنهم خلقوا للعبادة وأنها غاية مترتبة على خلقهم فلذلك أطلق عليها اسم الغاية ودخلت عليها لام الغاية مبالغة في خلقهما على تلك الصورة ولما وجه الآية بإخراج اللام عن ظاهر معناها بجعلها للمبالغة في خلقهم بحيث تتأتى منهم العبادة أشارة إلى وجه العدول عن الظاهر بقوله ولو حمل على ظاهره لتطرق إليه المنع والإبطال وللزم تعارض الآيتين لأن من خلق منهم لجهنم لا يكون مخلوقاً للعبادة انتهى ما في حواشي ابن الشيخ وقال في بحر العلوم أي وما خلقت هذين الفريقين إلا لأجل العبادة وهي قيام العبد بما تبعد به وكلف من امتثال الأوامر والنواهي أو الا لأطلب العبادة منهم وقد طلب من الفريقين العبادة في كتبه المنزلة على أنبيائه وهذا التقدير صحيح لا تقدير الإرادة لأن الطلب لا يستلزم المطلوب بخلاف الإرادة كما تقرر في موضعه فيكون حاصله ما قال بعضهم في تصوير المعنى إلا ليؤمروا بعبادتي كما في قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً وهذا مستمر على مذهب أهل السنة فلو أنهم خلقوا للعبادة ما عصوا طرفة عين لكنهم خلقوا للأمر التكليفي الطلبي دون الأمر الإرادي وإلا لم يتخلف المراد عن الإرادة ولما كان لعين العاصي الثابتة في الحضرة العلمية استعداد التكليف توجه إليها الأمر التكليفي ولما لم يكن لتلك العين استعداد الإتيان بالمأمور به لم يتحقق منها المأمور به ولهذا تقع المخالفة والمعصية فإن قلت ما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه قلت فائدة تمييز من له استعداد القبول ممن ليس له استعداد ذلك لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما وقيل المراد سعداء الجنسين كما أن المراد بقوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس أشقياؤهما ويعضده قراءة من قرأ وما خلقت الجن والإنس الؤمنين بدليل أن الصبيان والمجانين مستثنون من عموم الآية بدليل قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس قال ابن الملك فإن قلت كيف تكون العبادة علة للخلق ولم تحصل تلك في أكثر النفوس قلنا يجوز أن يراد من التفوس نفوس المؤمنين لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون وأن يراد مطلقها بأن يكون المراد بالعبادة قابلية تكليفها كما قال عليه السلام : ما من مولود يولد إلا على الفطرة وإما أن أريد منها المعرفة فلا إشكال لأنها حاصلة للكفرة أيضاً كما قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله انتهى وقال مجاهد واختاره البغوي معناه إلا ليعرفون ومداره قوله عليه السلام فيما يحكيه عن رب العزة كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة على طريق إطلاق اسم السبب على المسبب التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة كما في الإرشاد وقال بعضهم : لم أخلقهم إلا لأجل العبادة باختيارهم لينالوا الشرف والكرامة عندي ولم أقسرهم عليها إذ لو قسرتهم عليها لوجدت منهم وأنا غني عنهم وعن عبادتهم والحاصل أنهم خلقوا للعبادة تكليفاً واختيار الأجبلة وإجباراً فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق له وفي الحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له كما في عين المعاني وقال الشيخ نجم الدين دايه في تأولاته وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون لأن ذرة معرفتي مودعة
178
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/146)
في صدف عبوديتي وإن معرفتي تنقسم قسمين : معرفة صفة جمالي ومعرفة صلة جلالي ولكل واحد منهما مظهر والعبودية مشتملة على المظهرين بالانقياد لها والتمرد عنها فمن انقاد لها بالتسليم والرضى كما أمر به فهو مظهر صفات جمالي ولطفي ومن تمرد عليها بالإباء والاستكبار فهو مظهر صفات جلالي وقهري فحقيقة معنى قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي خلقت المقبولين منهم ليعبدوا الله فيكونوا مظهر صفات لطفه وخلقت المردودين منهم ليعبدوا الهوى فيكونوا مظهر صفات قهره هذا المعنى الذي أردت من خلقهم انتهى والحكمة لا تقتضي اتقاق الكل على التوحيد والعبادة والإخلاص والإقبال الكلي على الله فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا ولا بد من الغضب لتكميل مرتبة قبضة الشمال فإنه وإن كان كلتا يديه يميناً مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الأخرى فالأرض جميعاً قبضته والسموات مطويات بيمينه فاقتضت الحكمة الإلهية ظهور ما أضيف إليه كل من اليدين فللواحدة المضاف إليها عموم السعداء الرحمة والجنان والأخرى القهر والغضب ولوازمهما وقد وجد كلا المقتضيين والمقصود الأصلي وجود الإنسان الكامل الذي هو مرآة جماله تعالى وكماله وقد وجد والسواد الأعظم هو الواحد على الحق وقال الواحدي مذهب أهل المعاني في الآية إلا ليخضوا لي ويتذللوا ومعنى العبادة في اللغة الذل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى مذلل لمشيئته خلقه على ما أراد ورزقه كما قضى لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه وقال ابن عباس رضي الله عنهما إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً يعني أن المؤمنين يقرون له طوعاً والكافرون يقرون له بما جبلهم عليه من الخلقة الدالة على وحدانية الله وانفراده بالخلق واستحقاق العبادة دون غيره فالخلق كلهم بهذا له عابدون وعلى هذا قوله تعالى وله ما في السموات والأرض كل له قانتون على معنى ما يوجد منهم من دلائل الحدوث الموجبة لكونها مربوبة مخلوقة مسخرة كما في التيسير فهذه جملة الأقوال في هذا الباب وفي خلقهم للعبادة بطريق الحصر إشارة إلى أن الرروبية الله تعالى أن العبودية للمخلوقين وهي أخص أوصافهم حتى قالوا إنها إفضل من الرسالة ولذا قال تعالى أسري بعبده لا برسوله وقدم العبد في أشهد أن محمداً عبده ورسوله فمن ادعى البروبية من المخلوق فليخذر من تهديد الآية وجميع الكمالاتتعالى وأن ظهرت من العبد فالعبد مظهر فقط والظاهر هو الله وكماله والعبادات عشرة أقسام : الصلاة والزكاة والصوم والحج وقراءة قرآن وذكر الله في كل حال وطلب الحلال والقيام بحقوق المسلمين وحقوق الصحبة والتاسع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعاشر اتباع السنة وهو مفتاح السعادة وإمارة محبة الله كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
قال المولى الجامي :
يا نبي الله السلام عليك
إنما الفوز والفلاح لديك
كرنرفتم طريق سنت تو
هستم از عاصيان امت تو
مانده ام زير بار عصيان ست
افتم ازاى اكر نكيرى دست
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 19 من صفحة 179 حتى صفحة 188
فينبغي للعبد أن يعبد ربه ويتذلل لخالقه بأي وجه كان من الفرائض والواجبات والسنن
179
(9/147)
والمستحبات على الوجه الذي أمره أن يقوم فيه فإذا أكملت فرائضه وكماله فرض عليه فيتفرغ فيما بين الفرضين لنوافل الخيرات كانت ما كانت ولا يحقر شيئاً من عمله فإن الله ما احتقره حين خلقه وأوجبه فإن الله ما كلفك بأمر إلا وله بذلك الأمر اعتناء وعناية حتى كلفك به وإذا واظب على أداء الفرائض فإنه يتقرب إلى الله بأخت الأمور المقربة إليه وورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى ما تقرب من عبد بشيء أحب إلي مما افترضته وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر ويده التي بها يبطش ورجله بها يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته فالقرب الأول هو قرب الفرائض والقرب الثاني هو قرب النوافل فانظر إلى ما تنتجه محبة الله من كون الحق تعالى قوي العبد من السمع والبصر واليد والرجل فواظب على أداء ما يصح به وجود هذه المحبة الإلهية من الفرائض والنوافل ولا يصح نفل إلا بعد تكملة الفرائض وفي النفل عينه فروض ونوافل فبما فيه من الفروض تكمل الفرائض ورد في الخبر الصحيح أنه تعالى يقول : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيء قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال الله تعالى : أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم يؤخذ الأعمال على ذاكم وليست النوافل إلا مالها أصل في الفرائض وما لا أصل له في فرض فذلك إنشاء عبادة مستقلة يسميها علماء الظاهر بدعة قال الله تعالى ورهبانية ابتدعوها وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم سنة حسنة والذي سنها له أجرها وأخر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ولما لم يكن في قوة النفل أن يسد مسد الفرض جعل في نفس النفل فروض ليجبر الفرائض بالفرائض كصلاة النفل بحسب حكم الأصل ثم أنها تشتمل على فرائض من ذكر وركوع وسجود مع كونها في الأصل نافلة وهذه الأقوال والأفعال فرائض فيها ثم اعلم أن أمرنا بالاقتداء بالنبي سنة حسنة فإن لنا أجرها وأجر من عمل بها وإذا تركنا تسنينها اتباعاً لكون رسول الله عليه السلام لم يسنها فإن أجرك في اتباعك له في ترك التسنين أعظم من أجرك في التسنين فإن النبي عليه السلام كان يكره كثرة التكليف على أمته ومن سن فقد كلف وكان النبي عليه السلام أولى بذلك ولكن تركه تخفيفاً فلهذا قلنا الاتباع في الترك أولى وأعظم أجراً من التسنين فاجعل حالك كما ذكرنا لك ولقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه ما أكل البطيخ فقيله له في ذلك فقال : ما بلغني كيف كان رسول الله عليه السلام يأكله فلما لم تبلغ إليه الكيفية في ذلك تركه وبمثل هذا يقدم علماء هذه الأمة على علماء سائر الأمم فهذا الإمام علم وتحقق قوله تعالى عن نبيه عليه السلام فاتبعوني يحببكم الله وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والاشتغال بما سن من فعل وقول وحال أكثر من أن نحيطه به ونحصيه فكيف أن نتفرغ لنسن فلا نكلف الأمة أكثر مما ورد
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم} أي من الجن والإنس في وقت من الأوقات {مِّن رِّزْقٍ} لي ولا لأنفسهم ولا لغيرهم يحصلونه بكسبهم {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}
180
(9/148)
ولا أنفسهم ولا غيرهم وأصله أن يطعموني بياء المتكلم وهو بيان لكون شأنه تعالى مع عباده متعالياً عن أن يكون كسائر السادة مع عبيدهم حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وتهيئة أرزاقهم فإن منهم من يحتاج إلى كسب عبده في نيل الرزق ومنهم من يكون له مال وافر يستغنى به عن حمل عبده على الاكتساب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه من طبخ الطعام وإصلاحه وإحضاره بين يديه وهو تعالى مستغن عن جميع ذلك ونفع العباد وغيره إنما يعود عليهم والمعنى ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم ولا في تهيئة بل أتفضل عليهم برزقهم وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي وفي الآية تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام ثم لا يصدهم ذلك وهذا لآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل كما في تفسير المناسبات وقال بعضهم معنى أن يطعمون أن يطعموا أحداً من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه كما جاء في الحديث يقول الله استطعمتك فلم تطعمني أي لم تطعم عبدي وذلك إن الاستطعام وسؤال الرزق يستحيل في وصف الله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} تعليل لعدم إرادة الرزق منهم وهو من قصر الصفة على الموصوف أي لأرزاق إلا الله الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق وفيه تلويح بأنه غني عنه {ذُو الْقُوَّةِ} على جميع ما خلق تعليل لعدم إرادته منهم أن يعملوا ويسعوا في أطعامه لأن من يستعين يغيره في أموره يكون عاجزاً لا قوة له {الْمَتِينُ} الشديد القوة لأن القوة تمام القدرة والمتانة شدتها وهو بالرفع على أنه نعت للرزاق أو لذو أو خبر يعد خبر.
وفي التأويلات النجمية أن الله هو الرزاق لجميع الخلائق ذو القوة المتين في خلق الأرزاق والمرزوقين وفي المفردات القوة تستعمل تارة في معنى القدرة وتارة للتهيىء الموجود في الشيء وتارة في البدن وفي القلب وفي المعاون من خارج وفي القدرة الإلهية وقوله ذو القوة المتين عام فيما اختص الله به من القدرة وما جعله للخلق انتهى.
يقول اللفقير : قد سبق أن القوة في الأصل عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف والله تعالى منزه عن ذلك فهي في حقه تعالى بمعنى القدرة التامة ويجوز أن يعتبر قوي مظاهر أسمائه وصفاته أيا ما كانت والمتنان مكتنفا الصلب وبه شبه المتن من الأرض ومتنته ضربت متنه ومتن قوي متنه فصار ميتناً ومنه قيل حبل متين.
ودر ترجمة رشف در معنى قوى ومتين آورده قدرت قاهره اش دليل قوت بالغه كشسته وشدت قوتش حجت متانت قدرت شده نه دركار سازى متانتش رافتورى ونه در روزى وبنده نوازي قدرتش راقصورى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
رساند رزق بر وجهى كه شايد
بسازد كارها نوعى كه بايد
بروزى بى نوا يا نرا نوازد
برحمت بى كسانرا كارسازد
قال بعضهم رزق الله بالتفاوت رزق بعضهم الإيمان وبعضهم الإيقان وبعضهم العرفان وبعدهم وبعضهم البيان وبعضهم العيان فهؤلاء أهل اللطف والسعادة وبعضهم الخذلان وبعضهم الحرمان وبعضهم الطغيان وبعضهم الكفران فهؤلاء أهل القهر والشقاوة وقال بعضهم : اعتبروا باللبيب الطالب الأرزاق وحرمانه وبالطفل العاجز وتواتر الأرزاق عليه
181
لتعلموا أن الرزق طالب وليس بمطلوب قال الإمام الغزالي رحمه الله في شرح الأسماء الرزاق هو الذي خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم وخلق لهم أسباب التمنع بها والرزق رزقان ظاهر وهي الأقوات والأطعمة وذلك للظاهر وهي الأبدان وباطن وهي المعارف والمكاشفات وذلك للقلوب والأسرار وهذا أشرف الرزقين فإن ثمرتها حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوة الجسد إلى مدة قريبة الأمد والله تعالى هو المتولى لخلق الرزقين والمتفضل بالإيصال أنى كلا الفريقين ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وغاية حظ العبد من هذا الوصف أمران :
أحدهما أن يعرف حقيقة هذا الوصف وأنه لا يستحقه إلا الله تعالى فلا ينتظر الرزق إلا منه ولا يتوكل فيه إلا عليه كما روى عن حاتم الأصم أنه قال له رجل : من أين تأكل؟ فقال : من خزانته فقال الرجل يلقي عليك الخبز من السماء؟ لقال : لو لم تكن الأرض له لكان يلقيه من السماء فقال الرجل : أنتم تقولون الكلام فقال : لم ينزل من السماء إلا الكلام فقال الرجل : أنا لا أقوى لمجادلتك فقال : لأن الباطل لا يقوم مع الحق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/149)
والثاني أن يرزقه علماً هادياً ولساناً مرشداً ويداً منفقة متصدقة ويكون سبباً لوصول الأرزاق الشريفة إلى القلوب بأقواله وأعماله وإذا أحب الله تعالى عبداً أكثر حوائج الخلق إليه ومهما كان واسطة بين الله وبين العباد في وصول الأرزاق إليهم فقد نال حظاً من هذه الصفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيبة به نفسه أحد المتصدقين وأيدي العباد خزائن الله فمن جعلت يده خزانة أرزاق الأبدان ولسانه خزانة أرزاق القلوب فقد أكرم بشوب من هذه الصفة انتهى كلام الغزالي فعبد الرزاق هو الذي وسع الله رزقه فيؤثر به على عباده ويبسط على من يشاء الله أن يبسط له لأن الله جعل في قدمه السعة والبركة فلا يأتي إلا حيث يبارك فيه ويفيض الخير وخاصية هذا الاسم لسعة الرزق أن يقرأ قبل صلاة الفجر في كل ناحية من نواحي البيت عشراً يبدأ باليمين من ناحية القبلة ويستقبلها في كل ناحية من أن أمكن وفي الأربعين الإدريسية سبحانك يا رب كل شيء وورائه ورازقه قال السهر وردي المداوم عليه تقضي حاجته من الملوك ولاة الأمر فإذا أراد ذلك وقف مقابلة المطلوب وقرأه سبع عشرة مرة ومن تلاه عشرين يوماً على الريق رزق ذهناً يفهم به الغوامض وقال الغزالي في شرح الإسمين القوي المتين القوة تدل على القدرة التامة والمتانة تدل على شدة القوة والله تعالى من حيث أنه بالغ القدرة تامها قوي ومن حيث أنه شديد القوة متين وذلك يرجع إلى معنى القدرة انتهى وعبد القوى هو الذي يقوى بقوة الله على قهر الشيطان وجنوده التي هي قوى نفسه من الغضب والشهوة والهوى ثه على قهر أعدائه من شياطين الإنس والجن فلا يقاويه شيء من خلق الله إلا قهره ولا يناويه أحد إلا غلبه وعبد المتين هو القوي في دينه الذي لم يتأثر ممن أراد إغواءه ولم يكن لمن أزله عن الحق بشدته لكونه أمتن كل متين فعبد القوى هو المؤثر في كل شيء وعبد المتين هو الذي لم يتأثر من شيء وقال أبو العباس : الزروقي القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته وفي صفاته ولا في أفعاله فلا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجز
182
في نقض ولا إبراهيم وقال بعض المشايخ من القوة وهي وسط ما بين حال باطن الحول وظاهر القدرة لأن أول ما يوجد في الباطن من منة العمل يسمى حولاً ثم يحس به في الأعضاء مثلاً يسمى قوة وظهور العمل بصورة البطش والتناول يسمى قدرة ولذلك كان في كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله وهو تمثيل للتقريب إلى الفهم وإلا فالله تعالى منزه عن صفات المخلوقين ومن عرف أنه القوي رجع بحوله وقوته في كل شيء إلى حوله وقوته والتقريب بهذا الاسم تعلقاً من حيث إسقاط التدبير وترك منازعة المقادير ونفي الدعوى ورؤية المنة له تعالى ونفي خوف الخلق وهموم الدنيا وتخلقاً أن يكون قوياً في ذات الله حتى لا يخاف فيه لومة لائم ولا يضعف عن أمره بحال وخاصية هذا الاسم ظهور القوة في الوجود فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك وكفى أمره والميتن هو الذي له كمال القوة بحيث لا يعارض ولا يشارك ولا يداني ولا يقبل الضعف في قوته ولا يمانع في أمره بل هو الغالب الذي لا يغالب ولا يغلب ولا يحتاج في قوته لمادة ولا سبب ومن عرف عظمة قوته ومتانتها لم يخف من شيء ولم يقف بهمته على شيء دونه استناداً إليه واعتماداً عليه وخاصية هذا الاسم ظهور القوة لذاكره مع اسمه القوي ولو ذكر على شابة فاجرة عشر مرات وكذلك الشاب لتابا
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/150)
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو وضعوا مكان التصديق تكذيباً وهم أهل مكة {ذَنُوبًا} أي نصيباً وافراً من العذاب {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} مثل انصباء نظرائهم من الأمم المحكية وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنور وهو الدلو العظيم المملوء قال : لنا ذنوب ولكم ذنوب.
فإن أبيتم فلنا القليب.
قال في المفردات : الذنوب الدلو الذي ذنب واستعير للنصيب كما استعير السجل وهو الدلو العظيم وفي القاموس الذنوب الفرس الوافر الذنب ومن الأيام الطويل الشر والدلو أو فيها ماء أو الملأى أو دون الملأى والحظ والنصيب والجمع أذنبة وذنائب وذناب انتهى {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أصله يستعجلوني بياء المتكلم أي لا يطلبوا مني أن أعجل في المجيىء به لأن له أجلاً معلوماً فهو نازل بهم في وقته المحتوم يقال استعجله أي حثه على العجلة وأمره بها ويقال استعجله أي طلب وقوعه بالعجلة ومنه قوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه وهو جواب لقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادذين وكان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب فأمهل إلى بدر ثم قتل في ذلك اليوم وصار إلى النار فعذب أولاً بالقتل ثم بالنار {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} س واى مرانا نراكه كافر شدند والويل أشد من العذاب والشقاء والهم ويقال واد في جهنم وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بما في حز الصلة من الكفر وإشعاراً بعلة الحكم والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذاباً عظيماً كما أن الفاء الأولى لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك {مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} من للتعليل أي يوعدونه من يوم بدر وقيل يوم القيامة وهو الأنسب لما في صدر السورة الآتية والأول هو الأوفق لما قبله من حيث أنهما من العذاب الدنيوي وأياً
183
ما كان فالعذاب آت وكل آت قريب كما قالوا.
كره قيامت دير آيدولى مى آيد عمر اكره دراز يود ون مرك روى نمود ازان درازى ه سود نوح هزار سال درجهان يسر برده است امروز ند هزار سالست كه مرده است فعلى العاقل أن يتعجل في التوبة والإنابة حتى لا يلقى الله عاصياً ولا يتعجل في الموت فإنه آت البتة وفي الحديث لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً أي فإنه إن كان محسناً فلعله إن يزداد خيراً وإن كان مسيئاً فلعل الله يرزقه الإنابة :
أي كه نجاه رفت ودر خوابى
مكر اين نج روز دريابى
وفي التأويلات النجمية فإن للذين ظلموا من أهل القلوب على قلوبهم بأن جعلوها ملوثة بحب الدنيا بعد أن كانت معدن محبة الله ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم من أرباب النفوس بجميع صفاتها يعني أن فساد القلب بمحبة الدنيا يوازي فساد النفس بجميع صفاتها لأن القب إذا صلح صلح به سائر الجسد وإذا فسد فسد به سائر الجسد فلا تستعجلون في إفساد القلب فويل للذين كفروا بنعمة ربهم في إفساد القلب من يومهم الذي يوعدون بإفساد سائر صفات الجسد ومن الله العصمة والحفظ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
تفسير سورة الطور
مكية وآيها تسع وأربعون
جزء : 9 رقم الصفحة : 183
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{وَالطُّورِ} الواو للقسم والطور بالسريانية الجبل وقال بعضهم هو عربي فصحيح ولذا لم يذكره الجواليقي في المعربات وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الطور كل جبل ينبت قال :
لو مر بالطور بعض ناعقة
ما أنبت الطور فوقه ورقه
كويند مراد اينجا مطلق كوهست كه اوتاد ارض اند.
وفيه منابع ومنافع وقيل بل هو جبل محيط بالأرض والأظهر الأشهر أنه اسم جبل مخصوص هو طور سينين يعني الجبل المبارك وهو جبل بمدين واسمه زبير سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى ولذا أقسم الله تعالى به لأنه محل قدم الأحباب وقت سماع الخطاب وورد على محل القدم كثير من الأولياء فظهر عليهم الخال تلك الساعة وقال في خريدة العجائب جبل طورسينا هو بين الشام ومدين قيل إنه بالقرب من أيلة وهو المكلم عليه موسى عليه السلام كان إذا جاءه موسى للمناجاة ينزل عليه غمام فيدخل في الغمام ويكلم ذا الجلال والإكرام وهو الجبل الذي دل عند التجلي وهناك خر موسى صعقاً وهذا الجبل إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها شجرة العوسج على الدوام وتعظيم اليهود لشجرة العوسج لهذا المعنى ويقال لشجرة العوسج شجرة اليهود انتهى كلام الخريدة والعوسج جمع عوسجة وهي شوك كما في القاموس {وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ} مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف
184(9/151)
المكتوبة والمراد به القرآن أو ألواح موسى وهو الأنسب بالطور أو ما يكتب في اللوح وآخر سطر في اللوح المحفوظ سبقت رحمتي على غضبي من أتاني بشهادة أن لا ءله إلا الله أدخلته الجنة أو ما يكتبه الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشوراً فآخذ بيمينه وآخذ بشماله نظيره قوله تعالى ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً {فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ} الرزق الجلد الذي يكتب فيه شبه كاغد استعير لما يكتب فيه الكتابة من الصحيفة وسمي رقاً لأنه مرقق وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان كما في فتح الرحمن وقال في القاموس الرق ويكسر جلد رقيق يكتب فيه وضد الغليظ كالرقيق الصحيفة البيضاء انتهى والمنشور المبسوط وهو خلاف المطوى قال الراغب نشر الثوب والصحيفة والسحاب والنعمة والحديث بسطها وقيل منشور مفتوح لا ختم عليه وتنكيرهما للتفخيم إو الإشعار بأنهما ليسا مما يتعارفه الناس والمعنى بالفارسية وسوكند بكتاب نوشته در صحيفه كه كشاده كردد بوقت خواندن وعلى تقدير أن يكون ما يكتب في اللوح يكون الرق المنشور مجازاً لأن اللوح خلقه الله من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه كما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق الله بكل نظرة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} أي الكعبة وعمارتها بالحجاج والعمار والمجاورين أو الضراح يعني اسم البيت المعمور الضراح قال السهيلي رحمه الله وهو في السماء السابعة واسمها عروبا قال وهب بن منبه : من قال سبحان الله وبحمده كان له نور يملأ ما بين عروبا وحربيا وحريبا هي الأرض السابعة انتهى وهو خيال الكعبة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة يزوره كل يوم سبعون ألف ملك بالطواف والصلاة ولا يعودون إليه أبداً وحرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وهو عدد خواطر الإنسان في اليوم والليلة ومنه قيل أن القلب مخلوق من البيت المعمور وقيل باطن الإنسان كالبيت المعمور والأنفاس كالملائكة دخولاً وخروجاً وفي أخبار المعراج رأيت في السماء السابعة البيت المعمور وإذا أمامه بحر وإذا يؤمر الملائكة فيخوضون في البحر يخرجون فينفضون أجنحتهم فيخلق الله من كل قطرة ملكاً يطوف فدخلته وصليت فيه وسمي بالضراح بضم الضاد المعجمة لأنه ضرح أي رفع وأبعد حيث كان في السماء السابعة والضرح هو الإبعاد والتنحية يقال ضرحه أي نحاه ورماه في ناحية واضرحه عنك أي أبعده والضريح البعيد وقيل : كان بيتاً من ياقوتة أنزله الله موضع الكعبة فطاف به آدم وذريته إلى زمان الطوفان فرفع إلى السماء وكان طوله كما بين السماء والأرض وذهب بعضهم إلى أنه في السماء الرابعة ولا منافاة فقد ثبت أن في كل سماء بحيال الكعبة في الأرض بيتاً.
يقول الفقير : والذي يصح عندي من طريق الكشف أن البيت المعمور في نهاية السماء السابعة فإنه إشارة إلى مقام القلب فكما أن القلب بمنزلة الأعراف فإنه برزخ بين الروح والجسد كما أن الأعراف برزخ بين الجنة والنار فكذا البيت المعمور فإنه برزخ بين العالم الطبيعي الذي هو الكرسي والعرش وبين العالم العنصري الذي هو السموات السبع وما دونها وهذا لا ينافي أن يكون في كل سماء بيت على حدة هو على صورة البيت المعمور كما أنه لا ينافي كون الكعبة في مكة أن يكون في كل بلدة من بلاد الإسلام مسجد على حدة على صورتها فكما أن الكعبة أم المساجد وجميع المساجد صورها وتفاصيلها فكذا البيت المعمور أصل البيوت التي في السموات
185
فهو الأصل في الطواف والزيارة ولذا رأى النبي عليه السلام ليلة المعراج ابراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور الذي هو بإزاء الكعبة وإليه تحج الملائكة وقال بعضهم : المراد بالبيت المعمور قلب المؤمين وعمارته بالمعرفة والإخلاص فإن كل قلب ليس فيه ذلك فهو خراب ميت فكأنه لا قلب {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء المرفوع عن الأرض مقدار خمسمائة عام قال تعالى : وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً.
قال الكاشفي : يعني آسمان كه مجمع انوار حكمت ومخزن اسرار فطرتست ويا عرش عظيم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/152)
وذلك لأن العرش سقف الجنة وهو محيط بعالم الأجسام كما أن سقف البيت محيط بالجدران ولا يخفى حسن موقع العنوان المذكور من حيث اجتماع السقف مع البيت ومن حيث أن العرض على التقدير الثاني والبيت المعمور متقاربان تقارب السقف بالبيت {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} أي المملوء وهو البحر المحيط الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة وهو بحر لا يعرف له ساحل ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه وفي هذا البحر عرش إبليس لعنه الله وفيه مدائن تطفو على وجه الماء وهي آهلة من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض وفيه قصور تظهر على وجه الماء طافية ثم يغيب وتظهر فيه الصور العجيبة والأشكال الغريبة ثم تغيب في الماء وفي هذا البحر ينبت شجر المرجان كسائر الأشجار في الأرض وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله تعالى قال في القاموس سجر التنور أحماه والنهر ملأه والمسجور الموقد والساكن ضد والبحر الذي ماؤه أكثر منه انتهى وقال بعض المفسرين والبحر المسجور أي الموقد من قوله تعالى وإذا البحار سجرت والمراد به الجنس وعدد البحار العظيمة سبعة كما أن عدد الأنهار العظيمة كذلك وكل ماء كثير بحر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
ـ روي ـ أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة ناراً يسجر بها نار جهنم وفي الحديث : "لا يركبن رجل بحراً إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً" فإن تحت البحر ناراً أو تحت النار بحراً والبحر نار في نار وهذا على أن يكون البحر بحر الدنيا وبحر الأرض وقال علي وعكرمة رضي الله عنهما : هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان وهو بحر مكفوف أي عن السيلان يمطر منه على الموتى ماء كالمني بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم وحمله بعض المشايخ على صورة إحياء الله تعالى يعني كما أنه ينبت النبات بماء المطر فيظهر من الأرض فكذا الموتى يخلقهم الله خلقاً جديداً فيظهرون من الأرض كالنبات ولكن هذا لا ينافي أن يكون هناك ماء صوري فإن الإنسان من المني خلق وبصورة ماء كالمني سينبت ولله في كل شيء حكمة بديعة وقيل هو بحر سماء الدنيا وهو الموج المكفوف لولاه لأحرقت الشمس الدنيا.
ونزد أرباب تحقيق مراد طور نفس است كه موسى القلب بران باحق سبحانه مناجاة ميكند وكتاب مسطور ايمانست كه دررق منشور قلب بقلب رحمت ازلي نوشته شده كه كتب في قلوبهم الإيمان وبيت سرعا رفانست كه بنظرات تجليات سبحاني آبادني يافته وسقف مرفوع روح رفيع القدر والدرجات إلى الحضرة است كه سقف خانه دلست وبحر مسجور دلى است بآتش محبت تافته.
وقال عبد العزيز المكي قدس سره : أقسم الله بالطور وهو الجبل وهو النبي صلى الله عليه وسلّم كان في أمته كالجبال في الأرض استقرت به الأمة على
186
(9/153)
دينهم إلى يوم القيامة كما تستقر الأرض بالجبال وأقسم بالكتاب المسطور وهو الكتاب المنزل عليه المسطور في اللوح المحفوظ في رق منشور هو المصاحف وأقيم بالبيت المعمور وهو النبي عليه السلام كان الله بيتاً بالكرامة معموراً وعند الله مسروراً مشكوراً وأقسم بالسقف المرفوع وهو رأس النبي عليه السلام كان والله سقفاً مرفوعاً وفي الدارين مشهوراً وعلى المنابر مذكوراً وأقسم بالبحر المسبحور وهو قلب محمد عليه السلام كان والله من حب الله مملوءاً فأقسم بنفس محمد عموماً وبرأسه خصوصاً وبقلبه ضياء ونوراً وبكتابه حجة وعلى المصاحف مسطوراً فأقسم الحبيب بالحبيب فلا وراءه قسم وقال شيخي وسندي روح الله روحه في كتاب اللائحات البرقيات له والطور أي طور الهوية الذاتية الأحدية الفردية المجردة عن الكل والحقيقة الجمعية الصمدية المطلقة عن الجميع وكتاب أي كتاب الوجود مسطور فيه حروف الشؤون الذاتية الكمالية الوجودية والإمكانية وكلمات الأعيان العلمية الجلالية والجمالية الوجوبية والإمكانية وآيات الأرواح والعقول المجردة القهرية واللطيفة وسور الحقائق والصور المثالية الحية المقربة والمبعدة في رق أي رق النفس الرحمانية والأمر الرباني منشور على ماهيات الممكنات وحقائق الكائنات مبسوط على أعيان المجردات وصور الممثلات بالفيض الأقدس والتجلي الذاتي أو لا الحاصل به كليات التعينات والظهورات وبالفيض المقدس والتجلي الصافاتي والأفعالي ثانياً المتحقق به جزئيات التشخصات والتميزات والقرآن والفرقان اللفظي الرسمي بجميع حروفه وكلماته وآياته وسوره إن هو إلا ذكر وقرآن مبين وهذا مكتوب بيد المخلوق ومسطور بخطه وذلك مكتوب بيد الخالق ومسطور بخطه فلذا كان واجب التعظيم ولازم التكريم بحيث لا يمسه إلا المطهرون من الحدث مطلقاً فيا شقاوة من عقل الكتاب الإلهي الرسمي وأقبل عليه بالتعظيم والتوقير وغفل عن الكتاب الإلهي الحقيقي وأهمله عن التعظيم والتوقيل بل أقدم عليه بالإهانة والتحقير ويا سعادة من عقلهما ولم يغفل عن واحد منهما ولم يهمل شأنهما بل أقبل على كل منهما بالتعظيم والتكريم انقياداً للشريعة في تكريم القرآن والفرقان اللفظي وإذعاناً للحقيقة في تحريم القرآن والفرقان الوجودي أداء لحق كل مرتبة وقضاء لدين كل منزلة قائماً في كل مقام بالعدل والإنصاف مجانباً في كل حال عن الجور والاعتساف.
يقول الفقير في ذلك الكتاب تفصيل عريض آخر لكل من الكتابين الحقيقي والمجازي واقتصرت هنا على شيء يسير مما ذكره لمناسبة المقام والمسؤول من الله الجامع الانتفاع بعلمه النافع "إن عذاب ربك لواقع" أي لنازل حتماً وهو جواب للقسم قال في فتح الرحمن المراد عذاب الآخرة للكفار لا العذاب الدنيوية وإليه الإشارة في الإرشاد في آخر السورة المتقدمة "ماله من دافع" يدفعه وهو كقوله تعالى لا مرد له من الله وبالفارسية نيست مران عذاب را هي دفع كننده بلكه بهمه حال واقع خواهد بود.
وهو خبر ثان لأن قال بعضهم : الفرق بين الدفع والرفع أن الدفع بالدال يستعمل قبل الوقوع والرفع بالراء يستعمل بعد الوقوع وتخصيص هذه الأمور بالأقسام بها لما أنها من أمور عظام تنبىء عن عظم قدرة الله وكمال علمه وحكمته الدالة على إحاطته بتفاصيل أعمال العبادة وضبطها الشاهدة بصدق أخباره التي
187
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
من جملتها الجملة المقسم عليها وقال جبير بن مطعم قدمت المدينة لأكلم رسول الله عليه السلام في أساري بدر فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور وصوته يخرج من المسجد فلما بلغ إلي قوله أن عذاب ربك لواقع فكأنما صاع قلبي حين سمعته فكان أول ما دخل في قلبي الإسلام فأسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب ومثل هذا التأثير وقع لعمر رضي الله عنه حين بلغ دار الأرقم فسمع النبي عليه السلام يقرأ سورة طه فلان قلبه وأسلم فالقلوب المتهيئة للقبول تتأثر بأدنى شيء خصوصاً إذا كان الواعظ هو القرآن العظيم أو التالي هو الرسول الكريم أو وارثه المستقيم وأما القلوب القاسية فلا ينجع فيها الوعظ كما لم ينجع في قلب أبي جهل ونحوه.
قال الشيخ سعدي :
آهنى راكه موريانه بخورد
نتوان برداز وبصيقل زنك
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
(9/154)
وفي التأويلات النجمية : العذاب لأهل العذاب واقع بالفقد لأن أشد العذاب ذل الحجاب وكان من دعاء السرى السقطى قدس سره : اللهم مهما عذبتني بذل الحجاب والحجاب واقع فإن أعظم الحجاب حجاب النفس ماله من دافع من قبل العبد بل دافع حجاب النفس هو رحمة الله تعالى كما قال تعالى : إلا ما رحم ربي.
عبد الله المغاوري مردى بوداز نواحي اشبيليه دربلاد غرب دربعضى اوقات تشويش ورا كندكى بخلق راه يافته بود زنى نزدوى آمد وكفت البتة مرا باشبيليه رسان وازدست ابن قوم خلاص كن اوزن را بر كردن كرفت وبيرون آمد واو ازشطار بود وقوتى عظيم داشت ون بجاى خلوت رسيد واين زن بغاية جميله بود شيطان اورا بمجامعت با آن زن وسوسه داد ونفس تقاضا كفرت.
فكان حال المرأة حينئذ نظير الحكاية التي قال الشيخ سعدي فيها :
شنيدم كوسفندى را بزركى
رها نيداز دهان ودست كركى
شبانكه كارد بر حلقش بماليد
روان كوسفند ازوى بناليد
كه ازنكال كركم درر بودى
وديدم عاقبت كركم تو بودى
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 20 من صفحة 188 حتى صفحة 199
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
عبد الله باخود كفت اي نفس اين بدست من أمانت است وخيانت كردن روانمى دارم ونفس البته بر عصيان حرص مى نمود واو ترسيدكه نفس غالب شود وكارى ناشايست در وجود آيد آلت مردى خودرا درميان دوسنك بكوفت وكفت النار ولا العارى سبب رجوع او بطريق حق اين بودودر هما وقت روى بحج نهاد ودر عهد خود يكانه روز كار بود فقد رحمه الله تعالى رحمة خاصة حيث نجاه من يد النفس الأمارة ولو وكله إلى نفسه لصدر عنه ذلك القبيح وكان سبباً لوقوعه في العذاب في الدنيا والآخرة أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلان التلبس بسبب الشيء تلبس به وكل فعل قبيح ووصف ذميم فهو عذاب حكمى ونار معنوية والعذاب الصوري أثر ذلك فليس من خارج عن الإنسان {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْرًا} ظرف لواقع مبين لكيفية الوقوع منبىء عن كمال هوله وفظاعته لا لدافع لأنه يوهم أن أحداً يدفع عذابه في غير ذلك اليوم والغرض أن عذاب الله لا يدفع في كل وقت والمور الاضطراب
188
والتردد في المجيء والذهاب والجريان السريع أي تضطرب وتجيء وتذهب وبالفارسية در اضطراب آيد آنكاه بشكافد.
قيل تدور السماء كما تدور الرحى وتتكفأ بأهلها تكفأ السفينة وقيل يختلج أجزاؤها بعضها في بعض ويموج أهلها بعضهم في بعض ويختلطون وهم الملائكة وذلك من الخوف {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أي تزول عن وجه الأرض فتصير هباء وقال بعضهم تسير الجبال كما تسير السحاب ثم تنشق أثناء السير حتى تصير آخره كالعهن المنفوش لهول ذلك اليوم ومثله وجود السالك عند تجلي الجلال بالفناء فإنه لا يبقى منه أثر وتأكيد الفعلين بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي موراً عجيباً وسيراً بديعاً لا يدرك كنههما {فَوَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} الفاء فصيحة والجملة جواب شرط محذوف أي إذا وقع ذلك المور والسيرا وإذا كان الأمر كما ذكر فويل وشدة عذاب يوم إذ يقع لهم ذلك وهو لا ينافي تعذيب غير المكذبين من أهل الكبائر لأن الويل الذي هو العذاب الشديد إنما هو للمكذبين بالله ورسوله وبيوم الدين لا لعصاة المؤمنين {الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ} أي اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب وبالفارسي در شروع كردن بأقوال باطلة كه استهزا بقرء آنست وتكذيب نبي عليه السلام وإنكار بعث.
قال في فتح الرحمن : الخوض التخبط في الأباطيل شبه بخوض الماء وغوصه وفي حواشي الكشاف الخوض من المعاني الغالية فإنه يصلح في الخوض في كل شيء إلا أنه غلب في الخوض في الأباطيل كالإحضار لأنه عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب قال : لكنت من المحضرين وقوله الذين هم في خوض ليس صفة قصد بها تخصيص المكذبين وتمييزهم وإنما هو للذم كقولك الشيطان الرجيم
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/155)
{يَلْعَبُونَ} يلهون ويتشاغلون بكفرهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} الدع الدفع الشديد وأصله أن يقال للعاثر دع دع أي يدفعون إليها فدعاً عنيفاً شديداً بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار دفعاً على وجوههم وفي أقفيتهم حتى يردوها ويوم إما بدل من يوم تمور أو ظرف لقول مقدر قبل قوله تعالى {هَـاذِهِ النَّارُ} أي يقال لهم من قبل خزنة النار هذه النار {الَّتِى كُنتُم} في الدنيا وقوله {بِهَا} متعلق بقوله : {تُكَذِّبُونَ} أي تكذبون الوحي الناطق بها {أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ} توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحراً وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار توبيخ كأنه قيل كنتم تقولون للقرآن الناطق بهذا سحر فهذا المصداق أي النار سحر أيضاً وبالفارسية آيا سحرست اين كه مى بينيد.
فالفاء سببية لا عاطفة لئلا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار فهذا الاستفهام لم يتسبب عن قولهم للوحي هذا سحر والمصداق ما يصدق الشيء وأحوال الآخرة ومشاهدتها تصدق أقوال الأنبياء في الإخبار عنها يعني أن الذي ترونه من عذاب النار حق {أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أي أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر أو أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حيث كنتم تقولون إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون {اصْلَوْهَا} أي أدخلوها وقاسوا حرها وشدائدها {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا خلاص لكم منها وهذا على جهة قطع رجائهم
189
{سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه اصبروا أو لا تصبروا وسواء وإن كان بمعنى مستو لكنه في الأصل مصدر بمعنى الاستواء والمعنى سواء عليكم الأمر إن أجزعتم أم صبرتم في عدم النفع لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه إذ لا بد أن يكون الصبر حين ينفع وذلك في الدنيا لا غير فمن صبر هنا على الطاعات لم يجزع هناك إذ الصبر وإن كان مراً بصلاً لكن آخره حلو عسل {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل للاستواء فإن الجواء على كفرهم وأعمالهم القبيحة حيث كان واجب الوقوع حتماً بحسب الوعيد لامتناع الكذب على الله كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية إنما تجزون ما كنتم تعملون في الدنيا من الخير والشر لا الذي تعملون في الآخرة من الصبر والخضوع والخشوع والتضرع والدعاء فإنه لا ينفع شيء منها والحاصل أن يقال اخسأوا فيها ولا تكلمون انتهى ثم النار ناران النار الصورية لأهل الشرك الجلي ومن لحق بهم من العصاة والنار المعنوية لأهل الشرك الخفي ومن اتصل بهم من أهل الحجاب فويل لكل من الطائفتين يوم يظفر الطالب بالمطلوب ويصل المحب إلى المحبوب من عذاب جهنم وعذاب العبد والقطيعة والحرمان من السعادة العظمى والرتبة العليا فليحذر العاقل من الخوض في الدنيا واللعب بها فإن الغفلة عن خالق البريات توقد نيران الحسرات وفي الآية إشارة إلى مرتبة الخوف كما أن الآية التي تليها إشارة إلى مرتبة الرجاء فإن الأمن والقنوط كفر.
زيراكه امن از عاجزان بود واعتقاد عجز در الله كفرست وقنوط ازلئيمان بود واعتقاد لؤم در الله كفرست راغى كه درو روغن نباشد روشنايى ندهد وون روغن باشد وآتش نباشد ضياندهد س خوف بر مثال آتش است ورجاء بر مثال روغن وايمان برمثال فتيله ودل بر شكل راغ دان ون خوف ورجا مجتمع كشت راغى حاصل آمدكه دروى هم روغن است كه مدد بقاست هم آتش است كه ماده ضياست آنكه ايمان ازميان هردو مدد ميكير دازيكى ببقا وازيكى بضياء ومؤمن ببدرقه ضياراه ميرود وبمدد بقاقدم مى زند والله ولي التوفيق {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي {فِى جَنَّـاتٍ وَنَعِيمٍ} النعيم الخفض والدعة والتنعم الترفه والاسم النعمة بالفتح قال الراغب النغيم النعمة الكثيرة وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش ونعمه تنعيماً جعله في نعمة أي لين عيش وفي البحر التنعم استعمال ما فيه النعوم واللين من المأكولات والملبوسات والمعنى في جنات ونعيم أي في آية جنات وأي نعيم بمعنى الكامل في الصفة على أن التنوين للتفخيم أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين على أنه للتنويع والجنة مع كونها أشرف المواضع قد يتوهم أن من يدخلها إنما يدخلها ليعمل فيها ويصلحها ويحفظها لصاحبها كما هو شأن ناطور الكرم أي مصلحه وحافظه كما قال في القاموس الناطور أي بالطاء المهملة حافظ الكرم والنخل أعجمي انتهى فلما قال ونعيم أفاد أنهم فيها متنعمون كما هو شأن المتفرج بالبستان لا كالناطور والعمال {فَـاكِهِينَ} ناعمين متلذذين وبالفارسي شادمان ولذات يابندكان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/156)
وفي القاموس : الفاكة صاحب الفاكهة وطيب النفس الضحوك والناعم الحسن العيش كما أن الناعمة والمنعمة الحسنة العيشة {فَـاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمْ} از كرا متهاى جاودانى وفي فتح الرحمن من أنعامه ورضاه عنهم وذلك أن المتنعم قد يستغرق في النعم الظاهرة وقلبه مشغول بأمر ما فلما قال
190
فاكهين تبين أن حالهم محض سرور وصفاء وتلذذ ولا يتناولون شيئاً من النعيم إلا تلذذاً لا لدفع ألم جوع أو عطش {وَوَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره والجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم أي جهنم لأنه من أسمائها وهو عطف على آتاهم على أن ما مصدرية أي متلذذين بسبب إيتاء ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم فيبقى الموصول بلا عائد وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضميرهم للتشريف والتعليل {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم من قبل خزانة الجنة دائماً كلوا واشربوا كلا واشربا {هَنِيائَا} فهنيئاً صفة لمصدر محذوف أو طعاماً وشراباً هنيئاً فهو صفة مفعول به محذوف فإن ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما والهنيىء والمريىء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً يعني كوارنده لا تكدير فيه أي كان بحيث لا يورث الكدر من التخم والسقم وسائر الآفات كما يكون في الدنيا قال ابن الكمال ومنه يهني المشتهر في اللسان التركي باللحم المطبوخ {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببه أو بمقابلته قال في فتح الرحمن معناه إن رتب الجنة ونعيمها هي بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً لكنه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال.
إمام زاهد رحمه الله فرمود كه هرند وعده بكدار بنده است أما أصل فضل الهيست واكرنه يداست كه فردامز دكر دار ماه خواهد بود :
ندارد فعل من از زور بازو
كه بافضل تو كرددهم ترازو
بفضل خويش كن فضل مرايار
بعدل خود بكن بافعل من كار
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي القاموس : الفاكة صاحب الفاكهة وطيب النفس الضحوك والناعم الحسن العيش كما أن الناعمة والمنعمة الحسنة العيشة {فَـاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمْ} از كرا متهاى جاودانى وفي فتح الرحمن من أنعامه ورضاه عنهم وذلك أن المتنعم قد يستغرق في النعم الظاهرة وقلبه مشغول بأمر ما فلما قال
190
فاكهين تبين أن حالهم محض سرور وصفاء وتلذذ ولا يتناولون شيئاً من النعيم إلا تلذذاً لا لدفع ألم جوع أو عطش {وَوَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره والجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم أي جهنم لأنه من أسمائها وهو عطف على آتاهم على أن ما مصدرية أي متلذذين بسبب إيتاء ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم فيبقى الموصول بلا عائد وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضميرهم للتشريف والتعليل {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم من قبل خزانة الجنة دائماً كلوا واشربوا كلا واشربا {هَنِيائَا} فهنيئاً صفة لمصدر محذوف أو طعاماً وشراباً هنيئاً فهو صفة مفعول به محذوف فإن ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما والهنيىء والمريىء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً يعني كوارنده لا تكدير فيه أي كان بحيث لا يورث الكدر من التخم والسقم وسائر الآفات كما يكون في الدنيا قال ابن الكمال ومنه يهني المشتهر في اللسان التركي باللحم المطبوخ {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببه أو بمقابلته قال في فتح الرحمن معناه إن رتب الجنة ونعيمها هي بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً لكنه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال.
إمام زاهد رحمه الله فرمود كه هرند وعده بكدار بنده است أما أصل فضل الهيست واكرنه يداست كه فردامز دكر دار ماه خواهد بود :
ندارد فعل من از زور بازو
كه بافضل تو كرددهم ترازو
بفضل خويش كن فضل مرايار
بعدل خود بكن بافعل من كار
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/157)
قال سهل جزاء الأعمال الأكل والشرب ولا يساوي أعمال العباد أكثر من ذلك وأما شراب الفضل فهو قوله وسقاهم ربهم شراباً طهوراً وهو شراب على رؤية المكاشفة والمشاهدة {مُتَّكِـاِينَ} حال من الضمير في كلوا واشربوا أي معتمدين ومستندين {عَلَى سُرُرٍ} جمع سرير وهو الذي يجلس عليه وهو من السرور إذا كان ذلك لا ولي النعمة وسرير الميت تشبيه به في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله وخلاصة من سجنه المشار إليه بقوله عليه السلام : الدنيا سجن المؤمن {مَّصْفُوفَةٍ} مصطفة قد صف بعضها إلى جنب بعض أو مرمولة أي معينة بالذهب والفضة والجواهر وبالفارسية بر تختهاى بافته بزر.
والظاهر أن جمع السرر مبني على أن يكون لكل واحد منهم سرر متعددة مصطفة معدة لزائريهم فكل من اشتاق إلى صديقه يزوره في منزله قال الكلبي صف بعضها إلى بعض طولها مائة ذراع في السماء يتقابلون عليها في الزيارة وإذا أراد أحدهم القعود عليها تطامنت واتضعف فإذا قعد عليها ارتفعت إلى أصل حالها {وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ} واحد الحور حوراء وواحد العين عيناى وإنما سمين حور ألان الطرف يحار في حسنهن وعينا لأنهن الواسعات إلا عين مع جمالها والباء للتعدية مع أن التزويج مما يتعدى إلى
191
مفعولين بلا واسطة قال تعالى : زوجنا كنا لما فيه من معنى الوصل والالصاق أو للسببية والمعنى صيرناهم أزواجاً بسببهن فإن الزوجية لا تتحقق بدون انضمامهن إليهم يعني أن التزويج حينئذ ليس على أصل معناه وهو النكاح وعقد النكاح بل بمعنى تصييرهم أزواجاً فلا يتعدى إلى مفعولين وبالفارسية وجفت كردانيم ايشانرا برنان سفيد روى كشاده شم.
قال الراغب وقرناهم بهن ولم يجيء في القرآن زوجناهم حوراً كما يقال زوجته امرأة تنبيهاً على أن ذلك لم يكن على حسب التعارف فيما بيننا من المناكح انتهى قال في فتح الرحمن وقرناهم ولبس في الجنة تزويج كالدنيا انتهى يعني أن الجنة ليست بدار تكليف فشأن تزويج أهل الجنة بالحور بقبول بعضهم بعضاً لا بأن يعقد بينهم عقد النكاح قال في الواقعات المحمودية أن لأهل الجنة بيوت ضيافة يعملون فيها الضيافة للأحباب ويتنعمون ولكن أهليهم لا يظهرن لغير المحارم انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يقول الفقير : الظاهر أن عدم ظهورهن ليس من حيث الحرمة بل من حيث الغيرة يعني أن أهل الرجل إشارة إلى سره المكتوم فاقتضت الغيرة الإلهية أن لا تظهر لغير المحارم كما أن السر لا يفشي لغير الأهل وإلا فالحل والحرمة من توابع التكليف ولا تكليف هنالك وإنما كان ذلك ونحوه من باب التلذذ {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} مبتدأ خبره الحقنا بهم {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} عطف على آمنوا أي نسلهم {بِإِيمَـانٍ} متعلق بالاتباع والتنكير للتقليل أي بشيء من الإيمان وتقليل الإيمان ليس مبنياً على دخول الأعمال فيه بل المراد قلة ثمراته ودناءة قدره بذلك فالتقليل فيه بمعنى التحقير والمعنى واتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصرين عن رتبة إيمان الآباء واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقاً {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي أولادهم الصغار والكبار في الدرجة كما روي أنه عليه السلام قال : إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقربهم عينه أي يكمل سروره ثم تلا هذه الآية وفيها دلالة بينة على أن الولد الصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه وتحقيقاً للحوقه به فإنه تعالى إذا جعلهم تابعين لآبائهم ولاحقين بهم في أحكام الآخرة فينبغي أن يكون تابعين لهم ولاحقين بهم في أحكام الدنيا أيضاً قال في فتح الرحمن : إن المؤمنين أولادهم الكبار والصغار بسبب إيمانهم فكبارهم بإيمانهم بأنفسهم وصغارهم بأن اتبعوا في الإسلام بآبائهم بسبب إيمانهم لأن الولد يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه إذا أسلم وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقال مالك يحكم بإسلامه تبعاً لإسلام أبيه دون أمه وأما إذا مات أحد أبويه في دار الإسلام فقال أحمد يحكم بإسلامه وهو من مفردات مذهبه خلافاً للثلاثة واختلفوا في إسلام الصبي المميز وردته فقال الثلاثة يصحان منه وقال الشافعي لا يصحان وفي هدية المهديين إسلام الصبي العاقل وهو من كان في البيع سالباً وفي الشراء جالباً صحيح استحساناً حتى لا يرث من أقاربه الكفار ويصلى عليه إذا مات وارتداده ارتداد استحساناً في قول أبي حنيفة ومحمد إلا أنه يجبر على أحسن الوجوه ولا يقتل لأنه ليس من أهل العقوبة وفي الأشياء إن قيل أي مرتد لا يقتل فقل من كان إسلامه تبعاً أو فيه شبهة وأي رضيع يحكم بإسلامه بلا تبعية فقل لقيد في دار الإسلام وفي الهدية أيضاً صبي
192
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/158)
وقع من الغنيمة في سهم رجل في دار الحرب أو بيع به فمات يصلى عليه لأنه يصير مسلماً حكماً تبعاً لمولاه بخلاف ما قبل القسمة فإنه حينئذ يكون على دين أبويه وفي الفتوحات المكية الطفل المسبي في دار الحرب إذا مات ولم يحصل منه تمييز ولا عقل يصلى عليه فإنه على فطرة الإسلام وهذا أولى ممن قال لا يصلى عليه لأن الطفل مأخوذ من الطفل وهو ما ينزل من السماء غدوة وعشية وهو أضعف من الرش والويل فلما كان بهذا الضعف كان مرحوماً والصلاة رحمة فالطفل يصلى عليه إذا مات بكل وجه انتهى وإن دخل الصبي في دار الإسلام فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينهما وإن مات الأبوان بعد ذلك فهو على ما كان كما في العدية وإن لم يكن معه واحد منهما حين دخل الإسلام يصير مسلماً تبعاً للدار وللمولى ولو أسلم أحد الأبوين في دار الحرب يصير الصبي مسلماً بإسلامه وكذا لو أسلم أحد الأبوين في دار الإسلام ثم سبى الصبي بعده من دار الحرب فصار في دار الإسلام كان مسلماً بإسلامه {وَمَآ أَلَتْنَـاهُم} وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق وإلا لأبغضوهم في الدناي شحاً كما في عين المعاني من ألت يألت كضرب يضرب قال في القاموس ألته حقاً يألته نقصه كآلته إيلاناً {مِّنْ عَمَلِهِم} من ثواب عملهم {مِّن شَىْءٍ} من الألوى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة والمعنى ما نقصناهم من عملهم شيئاً بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنتقص مثوبتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى درجتهم ومنزلتهم بمحض التفضل والإحسان.
يعني بلكه بفضل وكرم خود اولاد را رفعت درجه ارزاني فرمودم شيخ الإسلام حسين مروزي از استاد خود احمد بن أبي علي سرخسي رحمهما الله نقل ميكند كه ايمان وعمل جز بفضل لم يزلي نيست :
در فضل خدا بند دل خويش مدام
تا فضل نباشد نبود كار تمام
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وسألت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال عليه السلام : هما في النار فكرهت فقال عليه السلام : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت : فالذي منك قال في الجنة إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار كما في عين المعاني وقال الإمام محمد : إن الإمام الأعظم توقف في أطفال المشركين والمسلمين والمختار إن أطفال المسلمين في الجنة وأما ما روي أنه توفي صبي من الأنصار فدعي النبي عليه السلام إلى جنازته فقالت عائشة رضي الله عنها : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال عليه السلام : أو غير ذلك أتعتقدين ما قلت والحق غير الجزم به إن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلاً فإنما نهاها عن الحكم على معين بدخول الجنة كما في شرح المشارق لابن الملك وقال مولى رمضان في شرح العقائد ولا يشهد بالجنة والنار لأحد بعينه بل يشهد بأن المؤمنين من أهل الجنة والكافرين من أهل النار وكذا أطفالهم تبعاً لهم وقيل هم في الجنة إذ لا إثم لهم وقيل هم في الأعراف ووجهه إن عدم التيقن لعدم العلم بخاتمته وإذا مات ولد المؤمن طفلاً فخاتمته الإيمان لا محالة تبعاً لأبيه إلا أن يكون تابعاً الخاتمة أبيه وهي غير معلومة انتهى واختار البعض في أطفال المشركين كونهم خدام أهل الجنة كما في هدية المهديين والأكثرون على أنهم في النار تبعاً لآبائهم وقال آخرون إنهم في الجنة لكونهم غير مكلفين وتوقف فيه
193
(9/159)
طائفة وهو الظاهر كما في شرح المشارق لابن الملك وبقي قول آخر وهو أن الصبيان والمجانين وأهل الفترة يرسل إليهم يوم القيامة رسول من جنسهم ويدعون إلى الإيمان ويمتحن المؤمن بإيقاع نفسه في نار هناك فمن قبل الدعوة ولم يمتنع عن الإيقاع المذكور خلص لأنها ليست بنار حقيقة وإلا دخل النار أي جهنم وقال الشيخ روز بهان البقلي في عرائس البيان عند الآية هذا إذا وقعت فطرة الذرية من العدم سليمة طيبة طاهرة صالحة لقبول معرفة الله ولم تتغير من تأثير صحبة الأضداد لقوله عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا بقيت على النعت الأول ووصل إليها فيض مباشرة نور الحق ولم تتم عليها الأعمال يوصلها الله إلى درجة آبائهم وأمهاتهم الكبار من المؤمنين إذ هناك تتم أرواحهم وعقولهم وقلوبهم ومعرفتهم بالله عند كشف مشاهدته وبروز أنوار جلاله ووصاله وكذلك حال المريدين عند العارفين يبلغون إلى درجات كبرائهم وشيوخهم ما آمنوا بأحوالهم وقبلوا كلامهم كما قال رويم قدس سره : من آمن بكلامنا هذا من وراء سبعين حجاباً فهو من أهلنا وقال عليه السلام : من أحب قوماً فهو منهم وقال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا تعجب من ذلك فإنه تعالى مبلغهم إلى أعلى الدرجات فإذا كانوا في منازل الوحشة يصلون إلى الدرجات العلية فكيف لا يصلون إليها في مقام الوصلة انتهى.
يقول الفقير : يظهر من هذا أن لحوق الأبناء الصورية والمعنوية بالآباء في درجاتهم مشروط بالإيمان الشرعي والتوحيد العقلي وليس لأطفال المشركين شيء من ذلك فكيف يلتحقون بأهل الجنة مطلقاً فإنما يلتحق المؤمن بالمؤمن لمجانستهما وأما الإيمان الفطري فلا يعتبر في دار التكليف وكذا في دار الجزاء والله أعلم بالأسرار ومنه نرجو الالتحاق بالأخبار
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{كُلُّ امْرِى} هر مردى بالغ عاقل مكلف {بِمَا كَسَبَ} بانه كرده باشد ازخير وشر {رَهِينٌ} در كروست روز قيامت يعني وابست است باداش كردار خود وزان رهايى ندارد ويعمل ديكرى مؤاخذه نيست وزن مكلفه نيز همين حكم دارد.
كما في في تفسير الكاشفي والرهن ما يوضع وثيقة للدين ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك للمجتبس أي شيء كان وقال ابن الشيخ ما مصدرية والفعيل بمعنى المفعول والعمل الصالح بمنزلة الدين الثابت على المرء من حيث أنه مطالب به ونفس العبد مرهونة به فكما أن المرتهن ما لم يصل إليه الدين لا ينفك منه الرهن كذلك العمل الصالح ما لم يصل إلى الله لا تتخلص نفس العبد المرهونة فالمعنى كل امرىء مرهون عند الله بالعمل الصالح الذي هو دين عليه فإن عمله واداه كما هو المطلوب منه فك رقبته من الرهن وإلا أهلكها وفي هذا المعنى قال عليه السلام لكعب بن عجرة رضي الله عنه : لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت النار أولى به يا كعب بن عجرة الناس صنفان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها وقال مقاتل : كل امرىء كافر بما عمل من الشرك مرهون في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى كل نفس بما كسبت رهينة إلا بأصحاب اليمين وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرىء مما كسب رهين أي
194
دائم ثابت مقيم أحسن ففي الجنة مؤيد أو إن أساء ففي النار مخلداً لائن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقى أعمالهم لكونها عند الله من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي من الأعيان يبقى ببقاء عمله.
قال في الإرشاد : وهذا المعنى أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء فالجملة تعليل لما قبلها انتهى.
{وَأَمْدَدْنَـاهُم} أصل المد الجر وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب والمد في المكروه والإمداد بالفارسية مدد كردن ومدد دادن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/160)
وفي القاموس الإمداد تأخير الأجل وإن تنصر الأجناد بجماعة غيرك والإعطاء والإغاثة {بِفَـاكِهَةٍ} هي الثمار كلها {وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} وإن لم يصرحوا بطلبه والمعنى وزدناهم على ما كان من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وضرور الآباء.
وذلك أنه تعالى لما قال وما ألتناهم ونفي النقصان يصدق بإيصال المساوي دفع هذا الاحتمال بقوله وأمددناهم أي ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة على ثواب أعمالهم والإمداد وتنوين فاكهة للتكثير أي بفاكهة لا تنقطع كلما أكلوا ثمرة عاد مكانها مثلها وما في ما يشتهون للعموم لأنواع اللحمان وفي الحبر أنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً وقيل يقع الطائر بين يدي الرجل في الجنة فيأكل منه قديداً ومشوياً ثم يطير إلى النهر {يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا} نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس من كبدها والتنازع والمنازعة المجازبة ويعبر بها عن المخاصمة والمجادلة والمراد بالتنازع هنا التعاطي والتداول على طريق التجاذب يعني تجاذب الملاعبة لفرط السرور والمحبة وفيه نوع لذة إذ لا يتصور في الجنة التنازع بمعنى التخاصم والمعنى يتعاطون في الجنات ويتداولون هم وجلساؤهم بكمال رغبة واشتياق كما ينبىء عنه التعبير بالتنازع وبالفارسية بايكديكر داد وستد كنند دربهشت يعني بهم دهند وازهم ستانند {كَأْسًا} كأسه مملو ازخمر بهشت.
والكأس قدح فيه شراب ولا يسمى كأساً ما لم يكن فيه شراب كما لا تسمى مائدة ما لم يكن عليها طعام والمعنى كأساً أي خمراً تسمي لها باسم محلها ولما كانت الكأس مؤنثة مهموزة أنث الضمير في قوله {لا لَغْوٌ فِيهَا} أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغوا الحديث وسقط الكلام قال ابن عطاء أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن والساقي فيها الملائكة وشربهم ذكر الله وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة والقوم أضياف الله قال الراغب اللغو من الكلام ما لا يعتد به وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرا اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور {وَلا تَأْثِيمٌ} ولا يفعلون ما يأثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والسب والفواحش كما هو ديدن المنادمين في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام لأن عقولهم ثابتة غير زائلة وذلك كسكارى المعرفة في الدنيا فإنهم إنما يتكلمون بالمعارف والحقائق.
قال البقلى : وصفهم الله في شربهم لكاسات شراب وصله بالمنازعة والشوق إلى مزيد القرب ثم وصف شرابهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السكر لا يؤول حالهم إلى الشطح والعربدة وما
195
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الخلق ولا يشابه حال أهل الحضرة حال أهل الدنيا من جميع المعاني ثم إنه قد يقع الأكل والشرب في المنام فيسري حكمه إلى الجسد لغلبة الروحانية كما قال بعض الكبار : العيش مع الله هو القوت الذي من أكله لا يجوزع وإليه أشار عليه السلام بقوله : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني والمراد بذلك الشبع والري الذي يعود من ثمرة الأكل والشراب يعني يبيت جائعاً فيرى في منامه أنه يأكل فيصبح شبعاناً وقد اتفق ذلك لبعضهم بحكم الإرث وبقي رائحة ذلك الطعام حين استيقظ نحو ثلاثة أيام والناس يشمونها منه وأما غير النبي وغير الوارث فإذا رأى أنه يأكل استيقظ وهو جيعان مثل ما نام فصح قوله صلى الله عليه وسلّم أن المبشرات جزء من أجواء النبوة انتهى.
يقول الفقير : فرب شبعان في دعواه جيعان في نفس الأمر ألا ترى حال من أكل في منامه حتى شبع ثم استيقظ وهو جائع وكذلك حال أهل التلوين فإن من شرب شراراً من هذه المعرفة يقع في الدعاوى العريضة كما شاهدناه في بعض المعاصرين ولا يدري أن حاله بالنسبة إلى حال أهل التمكين كحال النائم فمن سكر من رائحة الخمر ليس كمن سكر من شرب نفسها فأين أنت من الحقيقة فاعرف حدك ولا نتعد طورك فإن التعدي من قبيل اللغو والتأثيم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/161)
قال الخجندي : از عشق دم مزن ونكشتى شهيد عشق.
دعواي اين مقام درست از شهادتست {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} الطواف المشي حول الشيء ومنه الطائف لمن يدور حول البيوت حافظاً أي ويدور على أهل الجنة بالكأس وقيل بالخدمة {غِلْمَانٌ لَّهُمْ} مع غلام وهو الطار الشارب أي مماليك مخصوصون بهم لم يضفهم بأن يقول غلمانهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدمه أحداً في الدنيا أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن لكونه لا يزال تابعاً وأباد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدم لم يعرفهم كما في حواشي سعدي المفتي {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} حال من غلمان لأنهم قد وصفوا أي كأنهم في البياض والصفاء لؤلؤ مصون في الصدق لأنه رطباً أحسن وأصفى إذ لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه غبار وبالفارسية كويا ايشان در صفا ولطافت مرواريد وشيده انددر صدف كه دست كس بديشان نرسيده.
او مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة قيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعنه عليه السلام أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وروي مي آرند بعضي ازبهشتيان بربعض ديكر {يَتَسَآءَلُونَ} أي يسأل كل بعض منهم بعضاً آخر عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله من الكرامة وذلك تلذذاً واعترافاً بالنعمة العظيمة على حسب الوصول إليها على ما هو عادة أهل المجلس يشرعون في التحادث ليتم به استئناسهم فيكون كل بعض سائلاً ومسؤولاً لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضاً آخر معيناً {قَالُوا} أي المسؤول وهم كل واحد منهم في الحقيقة {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي قبل دخول الجنة {فِى أَهْلِنَا} درميان اهل خود يعني بوديم
196
دردنيا {مُشْفِقِينَ} ارقاء القلوب خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته أو وجلين من العاقبة قيد بقوله في أهلنا فإن كونهم بين أهليهم مظنة الامن فإذا خافوا في تلك الحال فلأن يخافوا في سائر الأحوال والأوقات أولى وقال سعدي المفتي : ولعل الأولى أن يجعل إشارة إلى معنى الشفقة على خلق الله كما أن قوله إنا كنا من قبل ندعوه إشارة إلى التعظيم لا أمر الله وترك العاطف لجعل الثاني بياناً للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما عن الآخر انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يقول الفقير : الظاهر أن هذا الكلام وارد على عرف الناس فإنهم يقولون شأننا بين قومنا وقبيلتنا كذا فهم كانوا في الدنيا بين قبائلهم وعشائرهم على صفة الإشفاق وفيه تعريض بأن بعض أهلهم لم يكونوا على صفتهم ولذا صاروا محرومين ويدل على هذا أن الأهل يفسر بالازواج والأولاد وبالعبيد والإماء وباوقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في شرح المشارق لابن الملك {فَمَنَّ اللَّهُ} أي أنعم {عَلَيْنَا} بالرحمة والتوفيق للحق.
(9/162)
يقول الفقير : الظاهر أن المن والإنعام ءنما هو بالجنة ونعيمها كما دل عليه قوله : {وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أي حفظنا من عذاب النار النافذة في المسام أي نقب الجسد كالمنخر والفم والأذن نفوذ السموم وهي الريح الحارة التي تدخل المسام فأطلق على جهنم لنفوذ حرها في المسام كالسموم وفي المفردات السموم الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم وقال البقلي : هذا شكر من القوم في رؤية الحق سبحانه أي كنا مشفقين من الفراق في الدنيا والبعد في يوم التلاق فمن الله علينا ووقانا من ذلك العذاب المحرق المفني هذا في أوائل الرؤية أما إذا استقاموا في الوصال نسوا ما كان فيهم من ذكر الإشفاق وغيره والإشفاق وصف الأرواح والخوف صفة القلوب وقال الجليد قدس سره الإشفاق أرق من الخوف والخوف اصلب وقال بعضهم : الإشفاق للأولياء والخوف لعامة المؤمنين وقال الواسطي قدس سره لاحظوا دعاءهم وشفقتهم ولم يعلموا أن الوسائل قطعت المتوسلين عن حقيقة وحجبت من إدراك من لا وسيلة إلا به {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ} أي من قبل لقاء الله والمصير إليه يعنون في الدنيا {نَدْعُوهُ} أي نعبده أو نسأله الوقاية {إِنَّه هُوَ الْبَرُّ} أي المحسن {الرَّحِيمُ} الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب قال الراغب البر خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعلي الخير وينسب ذلك تارة إلى الله تعالى نحو أنه هو البر الرحيم وإلى العبد تارة فيقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فمن الله الثواب ومن العبد الطاعة وذلك ضربان : ضرب في الاعتقاد وضرب في الأعمال الفرائض والنوافل وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهما وضده العقوق قال في شرح الأسماء : من عرف أنه هو البر الرحيم رجع إليه بالرغبة في كل حقير وعظيم فكفاه ما أهمه ببره ورحمته وقد قال في حكم ابن عطاء : متى أعطاك أشهدك بره وإحسانه وفضله ومتى منعك أشهدك قهره وجلاله وعظمته فهو في كل ذلك متعرف إليك تارة بجماله وأخرى بجلاله ومقبل بوجود لطفه عليك اذوجه لك ما يوجب توجهك إليه ولكن إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه إذ لو فهمت عنه كنت تشكره على ما واجهك منه فقد قال ابو عثمان
197
المغربي قدس سره الخلق كلهم مع الله في مقام الشكر وهم يظنون أنهم في مقام الصبر وقال ابراهيم الخواص قدس سره : لا يصح الفقر للفقير حتى يكون فيه خصلتان : إحداهما الثقة بالله والثانية الشكر له فيما روي عنه في الدنيا مما ابتلي به غيره ولا يكمل الفقير حتى يكون نظر الله له في المنع أفضل من نظره له في العطاء وعلامة صدقه في ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء والتقرب باسم البر تعلقاً وجود محبته لإحسانه وترك التدبير معه لما توجه من إكرامه وكثرة الدعاء كما قال : إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم وتخلقاً بالنفع لعباد الله والشفقة عليهم فإن البر هو الذي لا يؤذي الذر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية وأقبل بعضهم يعني القلب والروح على بعض يعني النفس يتساءلون قالوا : إنا كنا قبل أي قبل السير والسلوك في أهلنا أي في عالم الإنسان مشفقين أي خائفين من سموم الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية والشهوات الدنيوية فإنها مهب سموم قهر الحق فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم أي سموم قهره ولولا فضله ما تخلصنا منه بجهدنا وسعينا بل إنا كنا من قبل ندعوه ونتضرع إليه بتوفيقه في طلب النجاة وتحصيل الدرجات إنه هو البر بمن يدعوه الرحيم بمن ينيب إليه {فَذَكِّرْ} قال ابن الشيخ لما بين الله : إن في الوجود قوماً يخافون الله ويشفقون في أهلهم والنبي عليه السلام مأمور بتذكير من يخاف الله فرع عليه قوله فذكر بالفاء.
وقال الكاشفي : آورده اندكه جماعتى مقتسمان برعقبات مكه حضرت رسول را عليه السلام نزد قبائل عرب بكهانت وجنون وسحر وشعر منسوب ميساختند وآن حضرت اندوهناك ميشد آيت آمدكه فذكر أي فأثبت على ما أنت عليه من تذكير المشركين بما أنزل إليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكثرت بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} نعمت رسمت بالتاء ووقف عليها بالهاء أين كثري وبو عمرو والكسائي ويعقوب أي بسب إنعامه بصدق النبوة وزيادة العقل.
(9/163)
وقال الكاشفي : بإنعام روردكار خود يعني بحمد الله ونعمته أو ما أنت بكاهن حال كونك منعماً عليك به فهو حال لازمة من المنوي في كاهن لأنه عليه السلام لم يفارق هذه الحال فتكون الباء للملابسة والعامل هو معنى النفي ويجوز أن يجعل الباء للقسم {بِكَاهِنٍ} كما يقولون قاتلهم الله وهو من يبتدع القول ويخبر عما سيكون في غد من غير وحي وفي المفردات الكاهن الذي يخبر بالاخبار الماضية الخفية بضرب من الظن كالعراف الذي يخبر بالاخبار المستقبلة على نحو ذلك ولكون هاتين الصناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطىء ويصيب قال عليه السلام : من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما قال فقد كثر بما أنزل الله على محمد ويقال كهن فلان كهانة إذا تعاطى ذلك وكهن إذا تخصص بذلك وتكهن تكلف ذلك وفي القاموس كهن له كجعل ونصر وكرم كهانة بالفتح وتكهن تكهناً وتكهناً قضى له بالغيب فهو كاهن والجمع كهنة وكهان وحرفته الكهانة بالكسر انتهى قال ابن الملك في قوله عليه السلام : من سأل عرافاً لم تقبل صلاته أربعين ليلة العراف من يخبر بما أخفى من المسروق أو الكاهن وأما من سألهم لاستهزائهم أو لتكذيبهم فل يلحقه ما ذكر في الحديث بقرينة حديث آخر من صدق كاهناً لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة فإن قلت هذا
198
مخالف لقوله عليه السلام : من صدق كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد قلت : اللائح لي في التوفيق أن يقال مصدق الكاهن يكون كافراً إذا اعتقد أنه عالم بالغيب وأما إذا اعتقد أنه ملهم من الله أو أن الجن يلقون مما يسمعون من الملائكة فصدقه من هذا فلا يكون كافراً انتهى كلام ابن الملك وفي هدية المهديين من قال أعلم المسروقات يكفر ولو قال أنا أخبر عن أخبار الجن يكفر أيضاً لأن الجن كالإنس لا يعلم غيباً {وَلا مَجْنُونٍ} وهو من به جنون وهو زوال العقل أو فساده وفي المفردات الجنون الحائل بين النفس والعقل وفي التعريفات الجنون هو اختلاف العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادراً وهو عند أبي يوسف إن كان حاصلاً في أكثر السنة فمطبق وما دونه فغير مطبق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن طبيعة الإنسان متنفرة من حقيقة الدين مجبولة على حب الدنيا وزينتها وشهواتها وزخارفها والجوهر الروحاني الذي جبل على فطرة الإسلام في الإنسان مودع بالقوة كالجوهر في المعدن فلا يستخرج إلى الفعل إلا بجهد شهيد وسعي تام على قانون الشريعة ومتابعة النبي عليه السلام وإرشاده وبعده بإرشاد ورثة علمه وهم العلماء الربانيون الراسخون في العلم من المشايخ المسلكين وفي زمان كل واحد منهم والخلق مع دعوى إسلامهم ينكرون على سيرهم في الأغلب ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة والانقطاع عن الخلق والتبتل إلى الله وطلب الحق إلا من كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وهو الصدق في الطلب وحسن الإرادة المنتجة من بذر يحبهم ويحبونه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وإلا فمن خصوصية طبيعة الإنسان أن يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية وإن كانوا يصلون ويصومون ويزعمون أنهم مسلمون ولكن بالتقليد لا بالتحقيق اللهم إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه انتهى.
يقول الفقير في الآية تشريف للنبي عليه السلام جداً حيث أن الله تعالى ناب عنه في الجواب ورد الكافرين بنفسه وهو أيضاً تصريح بما علم التزاماً فإن الأمر بالتذكير الذي هو متعلق بالوحي وإن كان مقتضاء كمال العقل والصدق في القول يقتضي أن لا يكون عليه السلام كاهناً ولا مجنوناً فهذا النفي بالنسبة إلى ظاهر الحال فإنه لا يخلو من دفع الوهم وتميكين التصديق ونظيره كلمة الشهادة فإن قوله لا إله نفي للوجود التوهم الذي يتوهمونه وإلا فلا شيء غير الإثبات فافهم والله المعين :
سيدى كزو هم قدرش بر ترست
خاك ايش رخ را تاج سرست
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 21 من صفحة 199 حتى صفحة 209
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{أَمْ يَقُولُونَ} بلكه مى كويند درحق تو ام المكررة في هذه الآيات منقطعة بمعنى بل والهمزة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ونقل البغوي عن الخليل أنه قال ما في سورة الطور من ذكر أم كله استفهام وليس بعطف يعني ليست بمنقطعة وقال في برهان القرآن اعا دام خمس عشرة مرة وكلها إلزامات وليس للمخاطبين بها عنها جواب وفي عين المعاني أم ههنا خمسة عشر وكله استفهام أربعة للتحقيق على التوبيخ بمعنى بل أم يقولون شاعر أم يقولون تقوله وقد قالوهما وأم هم قوم طاغون وأم يريدون كيداً وقد فعلوهما وسائرهما للإنكار وفي فتح الرحمن جميع ما في هذه السورة من ذكر أم استفهام غير عاطفة واستفهم تعالى مع علمه بهم تقبيحاً عليهم وتوبيخاً لهم كقول الشخص لغيره : أجاهل
199
(9/164)
أنت مع علمه بجهله {شَاعِرٌ} أي هو شاعر وقد سبق معنى الشعر والشاعر في أواخر سورة يس مفصلاً قال الإمام المرزوقي شارح الحماسة تأخر الشعراء عن البلغاء لتأخر المنظوم عند العرب لأن ملوكهم قبل الإسلام وبعده يتحجون بالخطابة ويعدونها أكمل أسباب الرياسة ويعدون الشعر دناءة ولأن الشعر كان مكسبة وتجارة وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأن زمن النبي عليه السلام زمن الفصاحة كذا ذكره صاحب روضة الاخبار فإن قلت فإذا كان الإعجاز وقعاً في النثر فكيف قالوا في حق القرآن شعر وفي حقه عليه السلام شاعر قلت ظنوا أنه عليه السلام كان يرجو الأجر على التبليغ ولذا قال تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر فكان عليه السلام عندهم بمنزلة الشاعر حيث أن الشاعر إنما يستجلب بشعره في الأغلب المال وأيضاً لما كانوا يعدون الشعر دناءة حملوا القرآن عليه ومرادهم عدم الاعتداد به فإن قلت كيف كانوا يعدون الشعر دناءة وقد اشتهر افتخارهم بالقصائد حتى كانوا يعقلونها على جدار الكعبة قلت : كان ذلك من كمال عنادهم أو جرياً على مسلك أهل الخطابة من الأوائل فاعرف فإن هذا زائد على ما فصل في سورة يس وقد لاح بالبال في هذا المقام قال ابن الشيخ قوله أم يقولون الخ من باب الترقي إلى قولهم فيه أنه شاعر لأن الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقد قيل أحسن الشعر أكذبه وكانوا يقولون : لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنا نصبر ونتربص موته وهلاكه كما هلك من قبله من الشعراء وحينئذ تتفرق أصحابه وأن أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه وذلك قوله سبحانه وتعالى {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} التربص الانتظار والريب ما يقلق النفوس أي يورث قلقاً واضطراباً لها من حوادث الدهر وتقلبات الزمان فهو بمعنى الرائب من قولهم رابه الدهر وأرابه أي أقلقه وقيل سميت ريباً لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل وفي المفردات ريب الدهر صروفه وإنما قيل ريب لما يتوهم فيه من المنكر وفيه أيضاً الريب أن تتوهم بالشيء أمراً ما فينكشف عما توهمته ولهذا قال تعالى : لا ريب فيه والإرابة أن تتوهم فيه أمراً فلا ينكشف عما تتوهمه وقوله تتربص به ريب المنون سماه ريباً لا من حيث أنه مشكك في كونه بل من حيث أنه يشكك في وقت حصوله فالإنسان أبداً في ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه وعلى هذا قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
الناس قد علموا أن لا بقاء لهم
لو أنهم عملوا مقدار ما علموا
انتهى والمنون الدهر والموت والكثير لامتنان كالمنونة والتي تزوجت لما لها فهي تمن على زوجها كالمنانة انتهى وقيل في الآية المنون الموت وربيه أوجاعه وهو في الأصل فعول من منه إذا قطعه لأن الدهر يقطع القوى والموت يقطع الأماني والعمر وفي المفردات قيل : المنون للمنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد انتهى وريب منصوب على أنه مفعول به والمعنى بل أيقولون ننتظر به نوائب الدهر فيهلك كما هلك غيره من الشعراء زهير والنابغة وطرفة
200
(9/165)
وغيرهم أو ننتظر أوجاع الموت كما مات أبوه شاباً وذلك كما تتمنة الصبيان في المكتب موت معلمهم ليتخلصوا من يده فويل لمن أراد هلام معلمه في الدين وكان محروماً من تحصيل اليقين {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي والأمر بالتربص للتهديد قال الراغب : التربص انتظار الشخص سلعة كان يقصد بها غلاء أو رخصاً أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله انتهى وفيه عدة كريمة بإهلاكهم وجاء في التفسيران جميعهم ماتوا قبل رسول الله تعالى عليه وسلم وقد وقع في زماننا أن بعض الوزراء أهان بعض الأولياء فأجلاه وكان ينتظر هلاكه فهلك قبله هلاكاً هائلاً حيث قتل وقتل معه ألوف وفي الآية إشارة إلى التربص في الأمور ودعوة الخلق إلى الله والتوكل على الله فيما يجري على عباده والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين إذ كل يجري على ما قضاه الله {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـامُهُم} أي دع تفوههم بهذه الأقوال الزائغة المتناقضة وفيهم ما هو أقبح من ذلك وهو أنهم سفهاء ليسوا من أهل التمييز والأحلام العقول قال الراغب : وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل والحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب {بِهَـاذَآ} أي بهذا التناقض في المقال فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور والمجنون مغطى عقله مختل فكره والشاعر ذو كلام موزون متسق مخيل فكيف يجتمع هؤلاء في واحد وأمر الأحلام بذلك مجاز عن أدائها إلى التناقض بعلاقة السببية كقوله أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا لا أنه جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية وفي الحواشي جعلت الحلوم آمرة مجازاً ولضعفها جمعت جمع القلة قال في القاموس : الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا والجمع أحلام والحلم بالكسر الأناة والعقل والجمع أحلام وحلوم ومنه أم تأمرهم أحلامهم وهو حليم والجمع حلماء وأحلام انتهى.
وكان قريش يدعون أهل الأحلام والنهي فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمرهم معرفة الحق من الباطن وقيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقول فقال تلك عقول كادها الله أي لم يصحبها التوفيق وفي الخبر أن الله لما خلق العقل قال له : ادبر فأدبر ثم قال له : أقبل فأقبل.
يعني كفت بوى شت بركن شت بركرد س كفت روي بازكن روي بازكرد.
فإني لم أخلق خلقاً أكرم علي منك بك أعبد وبك أعطي وبك آخذ قال ابو عبد الله المغربي لما قال له ذلك تداخله العجب فعوقب من ساعته فقيل له : التفت فلما التفت نظر إلى ما هو أحسن منه فقال : من أنت؟ قال أنا الذي لا نقوم إلا بي قال : ومن أنت؟ قال التوفيق.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
جز عنايت كي كشايد شم را
جز محبت كي نشاند خشم را
جهد بي توفيق خودكس را مباد
در جهان والله أعلم بالرشاد
روي أن صفوان بن أمية فخر على رجل فقال : أنا صفوان بن أمية بن خلف ابن فلان فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه وغضب فلما جاء قال : ثكلتك أمك ما قلت فهاب عمر أن يتكلم فقال عمر : إن كان لك تقوى فإن لك
201
كرماً وإن كان لك عقل فإن لك أصلاً وإن كان لك خلق حسن فإن لك مروءة وإلا فأنت شر من الكلب {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد مع ظهور الحق لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب الخارجة عن دائرة العقول والظنون.
قال ابن الشيخ : ثم قيل لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله فقد باء بغضبه {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} هو ترق إلى ما هو إبلغ في كونه منكراً وهو أن ينسبوا إليه عليه السلام أنه يختلق القرآن من تلقاء نفسه ثم يقول : إنه من عند الله افتراء عليه والتقول تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب والمعنى اختلق القرآن من تلقاء نفسه وليس الأمر كما زعموا {بَل لا يُؤْمِنُونَ} البتة لأن الله ختم على قلوبهم وفي الإرشاد فلكفرهم وعنادهم يرمونه بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحد بطلانها كيف لا وما رسول الله إلا واحد من العرب أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم وفي كون ذلك مبنياً على العناد إشارة إلى أنهم يعلمون بطلان قولهم وتناقضه {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} أي إذا كان الأمر كما زعموا من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر ادعى الرسالة وتقول القرآن من عند نفسه فليأتوا بكلام مثل القرآن في النعوت التي استقل بهم من حيث النظم ومن حيث المعنى قال في التكملة : المشهور في القرآن بحديث مثله بالتنوين فيكون الضمير راجعاً إلى القرآن.
(9/166)
ـ روي ـ عن الجحدري أنه قرأ بحديث مثله بالإضافة فيكون الضمير راجعاً إلى النبي عليه السلام {إِن كَانُوا صَـادِقِينَ} فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه السلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الأنياب به ودواعي الأمر بذلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
واعلم أن الإعجاز إما أن يتعلق بالنظم من حيث فصاحته وبلاغته أو يتعلق بمعناه ولا يتعلق به من حيث مادته فإن مادته ألفاظ العرب وألفاظه ألفاظهم قال تعالى : قرآناً عربياً تنبيهاً على اتحاد العنصر وأنه منظم من عين ما ينظمون به كلامهم والقرآن معجز من جميع الوجوه لفظاً ومعنى ومتميز من خطبة البلغاء ببلوغه حد الكمال في اثني عشر وجهاً إيجاز اللفظ والتشبيه الغريب والاسعارة البديعة وتلاؤم الحروف والكلمات وفواصل الآيات وتجانس الألفاظ وتعريف القصص والأحوال وتضمين الحكم والأسرار والمبالغة في الأسماء والأفعال وحسن البيان في المقاصد والأغراض وتمهيد المصالح والأسباب والأخبار عما كان وما يكون {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ} من لابتداء الغاية أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع والشكل العجيب من غير محدث ومقدر وقيل أم خلقوا من أجل لا شيء من عبادة وجزاء فمن للسببية.
وقال الكاشفي : آيا آفريده شده اند ايشان بى يزى يعني بى در ومادر مراد آنست كه ايشان آدمى انداز آدميان زاده شده نه جمادندكه تعقل خود نكند {أَمْ هُمُ الْخَـالِقُونَ} لأنفسهم فلذلك لا يعبدون الله تعالى {أَمْ خَلَقُوا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَا بَل لا يُوقِنُونَ} أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض
202
قالوا الله وهم غيره موقنين بما قالوا وإلا لما أعرضوا عن عبادته تعالى والإيقان بي كمان شدن {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَبِّكَ} جمع خزانة بالكسر وهو مكان الخزن يقال خزن المال أحرزه وجعله في الخزانة وهو على حذف المضاف أي خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ويمسكوها عمن شاءوا أي أعندهم خزائن علمه وحكمته حتى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ} أي الغالبون على الأمور يدبرونها كيفما شاءوا حتى يدبروا أمر الربوبية وبينوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم وفي عين المعاني أي الأرباب المسلطون على الناس فيجبرونهم على ما شاءوا من السطر كأنه يخط للمسلط عليه خطا لا يجاوزه وفي كشف الأسرار المسيطر المسلط القاهر الذي لا يكون تحت أمر أحد ونهيه ويفعل ما يشاء يقال تصيطر عى فلان بالسين والصاد أي سلط انتهى قال في القاموس : المسيطر الرقيب الحافظ والمتسلط والسطر الصف من الشيء الكتاب والشجر وغيروا الخط والكتابة ويحرك في الكل والصطر بالصاد ويحرك السطر وتصيطر تسيطر
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/167)
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوب إلى السماء وبالفارسية آيامر ايشانراست نردبانى كه بدان با آسمان بروند قال الراغب : السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل إسماً لما يتوصل به إلى كل شيء رفيع كالشيب قال ابن الشيخ لما أبطل من الاحتمالات العقلية جمية ما يتوهم أن ببينوا عليه تكذيبهم وإنكارهم لم يبق لهم إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم وقال بل ألهم سلم {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} ضمن يستمعون معنى الصعود فاستعمل بفي وفيه متعلق بمحذوف هو حال من فاعل يستمعون أي يستمعون صاعدين في ذلك السلم ومفعول يستمعون محذوف أي إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلخوا ما هو كائن من الأمور التي يتقولون فيها رجماً بالغيب ويعلقون بها أطماعهم الفارغة وفي كشف الأسرار فيه أي عليه كقوله في جذوع النخل أي عليها {فَلْيَأْتِ} س ببايد كه بيارد.
فالباء الآتي للتعدية وهو أمر تعجيز {مُسْتَمِعُهُم} شنونده ايشان كه بر آسمان برفتند ويغام غيب شنيدند {بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة تصدق استماعه وبالفارسية حجتي روشن كه كواه باشد بر صدق استماع وى {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} هذا إنكار عليهم حيث جعلوا الله ما يكرهون أو تسفيه لهم وتركيك لعقولهم وإيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلاً عن الترقي بروحه إلى عالم الملكوت والتطلع على الأسرار الغيبية وذلك أن من جعل خالقه أدون حالاً منه بأن جعل له ما لا يرضى لنفسه كما قال تعالى : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم فإنه لم يستبعد منه أمثال تلك المقالات الحمقاء والالتفات إلى الخطاب لتشديد ما في أم المنقطعة من الإنكار والتوبيخ {أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا} رجوع إلى خطابه عليه السلام وإعراض عنهم أي بل أتسألهم أجراً على تبليغ الرسالة تاتاوان زده شدند {فَهُم} لأجل ذلك {مِّن مَّغْرَمٍ} من التزام غرامة فادحة فالمغرم مصدر ميمي بمعنى الغرم والمضاف مقدر وفي الكشاف المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه وفي الفتح الرحمن المغرم ما يلزم أداؤه وفي المفردات الغرم
203
ما ينوب الإنسان من ماله من ضرب بغير جناية منه وكذا المغرم والغريم يقال لمن له الدين ولمن عليه الدين انتهى {مُّثْقَلُونَ} محملون الثقل وبالفارسية كران بارشوند فلذلك لا يتبعونك يعني لا عذر لهم أصلاً والدين لا يباع بالدنيا :
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
زيان ميكند مرد تفسيردان
كه علم وادب ميفروشد بنان
فالأجر على الله تعالى كما قال إن أجرى إلا على الله وقد سبق تحقيقه في مواضع متعددة {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتى يتكلموا في ذلك بنفي أو إثبات.
وقال الكاشفي : س ايشان مى نويسند ازان كه خبر يغمبر عليه السلام از امر قيامت وبعث باطلست يا كتابت كنندكه موت توكى خوهد بود {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} أي لا يكتفون بهذه المقالات الفاسدة ويريدن مع ذلك أن يكيدوا بك كيداً وإساءة وهو كيدهم برسول الله عليه السلام في دار الندوة ومكرهم بالقتل والحبس والإخراج فإن الكيد هو الأمر الذي يسوء من نزل به سواء كان في نفسه حسناً أو قبيحاً فالستفهام في المعطوف للتقرير وفي المعطوف عليه للإنكار وقال بعضهم : الكيد ضرب من الاحتيال وفي التعريفات الكيد إرادة مضرة الغير خفية وهو من الخلق الحيلة السيئة ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق وقال سعدي المفتي : الظاهر أنه من الاخبار بالغيب فإن السورة مكية وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة فإن قيل فليكن نزول الطور في تلك الليلة قلنا قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نزل بعدها بمكة تبارك الملك وغيرها من السور {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} القصر إضافي أي هم الذين يحيق بهم كيدهم أو يعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه فإنه المظفر الغالب عليهم قولاً وفعلاً حجة وسيفاً أو هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكذته والمراد ما أصالهم يوم بدر من القتل يعني عند انتهاى سنين عدتها عدة كلمة أم وهي خمس عشرة فإن غزوة بدر كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشرة من النبوة {أَمْ لَهُمْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ} بعينهم ويحسرهم من عذابه {سُبْحَـانَ اللَّهِ} نزهه تعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن شراكهم فما مصدرية أو عن شركة ما يشركونه فما موصول والمضاف مقدر وكذا العائد :
بر ذيل عزتش ننشيند غبار شرك
با وحدتش كسى دم شركت ه سان زند
هركاه افكنند بوصفش خيال را
دست كمالش آتش غيرت دران زند
(9/168)
{وَإِن يَرَوْا كِسْفًا} أي قطعة {مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا} عليهم لتعذيبهم وفي عين المعاني قطعة من العذاب أو من السماء أو جانباً منها من الكسف وهو التغطية كالكسوف وفي القاموس الكسفة بالكسر القطعة من الشيء والجمع كسف وكسف وفي المختار وقيل الكسف والكسفة واحد {يَقُولُوا} من فرط طغيانهم وعنادهم {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} غليظ أو متراكب أي هم في طغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً لقالوا : هذا سحاب تراكم أي ألقى بعضها على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية يعني أنهم وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها كما قال تعالى : ولو فتحنا عليهم باباً
204
من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا إنما سكرت أبصارنا وليس هذا عياناً ومشاهدة {فَذَرْهُمْ} س دست بدار از ايشان يعني حرب مكن با ايشان كه هنوز بقتال مأمور نيستى ومكافات ايشان بكذار {حَتَّى يُلَـاقُوا} يعاينوا وبالفارسي تا وقتى كه بينند معاينه {يَوْمَهُمُ} مفعول به لا ظرف {الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي يهلكون وبالفارسي هلاك كرده شوند وهو على البناء للمفعول من صعقته الصاعقة أو من أصعقته أماتته وأهلكته قال في المختار : صعق الرجل بالكسر صعقة غشى عليه وقوله تعالى فصعق من في السموات ومن في الأرض أي مات وهو يوم يصيبهم الصعقة بالقتل يوم بدر لا النفخة الأولة كما قيل إذ لا يصعق بها إلا من كان حياً حينئذٍ قال ابن الشيخ المقصود من الجواب عن الاقتراح المذكور بيان أنهم مغلوبون بالحجة مبهوتون وإن طعنهم ذلك ليس إلا للعناد والمكابرة حتى لو أجبناهم في جميع مقترحاتهم لم يظهر منهم إلا ما يبتنى على العناد والمكابرة فلذلك رتب عليه قوله فذرهم بالفاء {يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا} أي شيء من الإغناء في رد العذاب وبالفارسية روزى كه نفع نكند وباز ندارد از ايشان مكر ايشان يزى را از عذاب.
وهو بدل من يومهم {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} من جهة الغير في رفع العذاب عنهم {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي وإن لهؤلاء الظلم أبي جهل وأصحابه {عَذَابًا} آخر {دُونَ ذَالِكَ} غير ما لاقوه من القتل أي قبله وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين كما مر في سورة الدخان أو وراءه وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إن الأمر كما ذكر لفرط جهلهم وغفلتهم أو لا يعلمون شيئاً أصلاً وفيه إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عناداً فالعالم العامل والجاهل سواء فعلى العاقل أن يحصل علوم الآخرة ويعمل بها قال بعض الكبار : العلم علمان علم تحتاج منه مثل ما تحتاج من القوت فينبغي الاقتصاد والاقتصار على قدر الحاجة منه وهو علم الأحكام الشرعية فلا ينبغي النظر فيه إلا بقدر ما تمس الحاجة إليه في الوقت فإن تعلق تلك العلوم إنما هو بالأحوال الواقعة في الدنيا لا غير وعلم ليس له حد يوقف عنده وهو العلم المتعلق بالله ومواطن القيامة إذ العلم بمواطنها يؤدي العالم بها إلى الاستعداد لكل موطن بما يلق به لأن الحق تعالى بنفسه هو المطالب في ذلك اليوم بارتفاع الوسائط وهو يوم الفصل فينبغي للإنسان العاقل أن يكون على بصيرة من أمره معداً للجواب عن نفسه وعن غيره في المواطن التي يعلم أنه يطلب منه الجواب فيها فلهذا ألحقنا علم مواطن القيامة بالعلم بالله انتهى وفي الآية إثبات عذاب القبر فإن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره ويرد الحياة إليه ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه وما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له من كرامة وهوان ولقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أخبر عليه السلام بفتنة الميت في قبره وسؤال منكر ونكير وهما الملكان : يا رسول الله أيرجع إلي عقلي؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما والله لئن سألاني لأسألنهما وأقول لهما أنا ربي الله فمن ربكما أنتما وأنكرت الملحدة ومن نمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة عذاب القبر وأنه ليس له حقيقة وقد رؤي أبو جهل
205
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
في جانب مصرعه في بدر أنه خرج من الأرض وفي عنقه سلسلة من نار يمسك أطرافها أسود وهو يطلب الماء حتى أدخله الأسود في الأرض بجذب شديدة واختلاف أحوال العصاة في عذاب القبر بحسب اختلاف معاصيهم وأكثر عذاب القبر في البول فلا بد من التنزه عنه وسمع البهائم عذاب القبر وإنما لم يسمع من يعقل من الجن والإنس وكان عليه السلام يدعو ويقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال وينجي المؤمن من أهوال القبر وفتنته وعذابه خمسة أشياء :
الأول : الرباط في سبيل الله ولو يوماً وليلة.
والثاني : الشهادة بأن يقتل في سبيل الله.
والثالث : سورة الملك فإن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان.
(9/169)
الرابع : الموت مبطوناً فإنه لا يعذب في قبره والمراد بالمبطون صاحب الإسهال والاستطلاق.
والخامس : الوقت ففي الحديث : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وفي فتنة القبر نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الزلل ويحفظنا من الخلل ويجعلنا في القبر والقيامة من الآمنين ويبشرنا عند الموت برحمة منه وفضل مبين بجاه النبي الأمين والأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان والشدائد ولا تكن في ضيق مما يمكرون.
يقول الفقير : أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر لحكمه لا لأذى الكفار وجعفائهم تسهيلاً للأمر عليه لأن في الصبر لحكمه حلاوة ليست في الصبر للأذى والجفاء وإن كان الصبر له صبراً للحكم فاعرف {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي في حفظنا وحمايتنا بحيث نراقبك ونكلأك وجمع العين لجمع الضمير وًّلإيذان بغاية الاعتناء في الحفظ وبكثرة أسباره إظهاراً للتفاوت بين الحبيب والكليم حيث أفرد فيه العين والضمير كما قال ولتصنع على عيني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية أي : لا حكم في الأزل فإنه لا يتغير حكمنا الأزلي إن صبرت وإن لم تصبر ولكن إن صبرت على قضائي فقد جزيت ثواب الصابرين بغير حساب فإنك بأعيننا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية كما قال تعالى : واصبر وما صبر إلا بالله وفي عرائس البيان للبقلي ذكر قوله ربك بالغيبة لأنه في مقام تفرقة العبودية والرسالة تقتضي حالة المشقة ولذلك أمره بالصبر ولما ثقل عليه الحال نقله من الغيبة إلى المشاهدة بقوله : فإنك بأعيننا أي نحفظك من الإعوجاج والتغير في جريان أحكامنا عليك حتى تصير مستقيماً بنا لنا فينا ونحن نراك بجمبع عيون الصفات والذات بنعت المحبة والعشق ننظر بها إليك شوقاً إليك وحراسة لك نحرسك بها حتى لا يغيرك غيرها من الحدثان عنا ونرفع بها عنك طوارق قهرنا فإنك في مواضع عيون محبتنا وأنت في أكناف لطفنا انظر كيف ذكر الأعين وليس في الوجوه أشرف من العيون ومن احتصن بالله كان في حفظه ومن كان في حفظه كان في مشاهدته ومن كان في مشاهدته استقام معه ووصل إليه ومن وصل إليه انقطع عما سواه ومن انقطع عما سواه عاش معه عيش الربانيين قال بعضهم : كنا مع ابراهيم بن أدهم قدس سره فأتاه الناس يا أبا إسحق إن الأسد وقف على طريقنا فأتى ابراهيم إلى الأسد وقال له : يا أبا الحارث إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به وإن لم تؤمر بشيء فتنح عن طريقنا فأدبر الأسد وهو يهمهم والهمهمة
206
ترديد الصوت في الصدر فقال ابراهيم : وما على أحدكم إذا أصبح وأمسى أن يقول : اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واحفظنا بركنك الذي لا يرام واحرمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت ثقتنا ورجاؤنا وقال الخواص قدس سره : كنت في طريق مكة فدخلت إلى خربة بالليل وإذا فيها سبع عظيم فخفت فهتف بي هاتف أثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك يقول الفقير : يحتمل أن يكون هذا الحفظ الخواصي بسبب بعض الأدعية وكان يلازمه وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن من قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثلاث مرات وقرأ ثلاث آيات آخر سورة الحشر هو الله الذي لا إله إلا هو إلى آخر السورة حين يصبح وكل الله به سبعين ألف ملك يحرسونه وكذلك إذا قرأها حين يمسي وكل الله به سبعين ألف ملك يحرسونه ويحتمل أن يكون ذلك بسبب أن الخواص من أحباب الله والحبيب يحرس حبيبه كما روي أنه ينزل على قبر النبي عليه السلام كل صباح سبعون ألف ملك ويضربون أجنحتهم عليه ويحفظونه إلى المساء ثم ينزل سبعون ألفاً غيرهم فيفعلون به إلى الصباح كما يفعل الأولون وهكذا إلى يوم القيامة
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/170)
{وَسَبِّحْ} أي نزهه تعالى عما لا يليق به حال كونك ملتبساً {بِحَمْدِ رَبِّكَ} على نعمائه الفائتة للحصر {حِينَ تَقُومُ} من أي مقام قمت قال سعيد بن جبير وعطاء أي قل حين تقوم من مجلسك سبحانك اللهم وبحمدك أي سبح الله ملتبساً بحمده فإن كان ذلك المجلس خيراً ازددت إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارة له وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه وهو بالغين المعجمة والطاء المهملة الكلام الرديء القبيح واختلاط أصوات الكلام حتى لا يفهم فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كان كفارة لما بينهما وفي فتح القريب فقد غفر له يعني من الصغائر ما لم تتعلق بحق آدمي كالغيبة وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى ولا إله غيرك وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان حين يقوم من الفراش إلى أن يدخل في الصلاة لما روي عن عاصم بن حميد أنه قال : سألت عائشة رضي الله عنها : بأي شيء يفتتح رسول الله عليه السلام قيام الليل؟ قالت : كان إذا قام كبر عشرةً وحمد الله عشراً وسبح وهلل عشراً واستغفر عشراً وقال : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أفراد بعض الليل بالتسبيح والصلاة لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل.
يقول الفقير : ولأن الليل زمان المعراج والصلاة هو المعراج المعنوي فمن أراد أن يلتحق برسول الله عليه السلام في معراجه فليصل بالليل والناس نيام أي في جوفه حين غفلة الناس ولشرف ذلك الوقت كما معراجه عليه السلام فيه لا قرب الصباح لأن في قربه قد يستيقظ بعض النفوس للحاجات وإن كان السحر إلا على مماله خواص كثيرة {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} بكسر الهمزة مصدر أدبر والجنوم جمع نجم وهو الكوكب الطالع يقال نجم نجوماً ونجماً أي طلع والمعنة ووقت أدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح
207
وقيل : التسبيح من الليل صلاة العشاءين وإدبار النجوم صلاة الفجر وفي الآية دليل على أن تأخير صلاة الفجر أفضل لأنه أمر بركعتي الفجر بعدما أدبر النجوم وإنما أدبر النجوم بعدما يسفر قاله أبو الليت في تفسيره وقال أكثر المفسرين أدبار النجوم يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تدبر النجوم بضوء الصبح وفي الحديث ركعتا الفجر أي سنة الصبح خير من الدنيا وما فيها وفيها بيان عظم ثوابهما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يقول الفقير في قولهم وذلك حين الخ نظر لأن السنة في سنة الفجر أنه يأتي بها في أول الوقت لأن الأحاديث ترجحة فالتأخير إلى قرب الفرض مرجوح وأول وقتها نو وقت الشافعي وليس للنجوم أدبار إذ ذاك وإٌّما ذلك عند الأسفار جداً وقال سهل قدس سره صل المكتوبة بالإخلاص لربك حين تقوم إليها ولا تغفل صباحاً ولا مساء عن ذكر من لا يغفل عن برك وحفظك في كل الأوقات.
وفي التأويلات النجمية قوله : وسبح الخ يشير إلى مداومته على الذكر وملازمته له بالليل والنهار انتهى وقد سبق بيانه في آخر سورة ق قال بعض الكبار من سوء أدب المريد أن يقول لشيخه : اجعلني في بالك فإن في ذلك استخداماً للشيخ وتهمة له وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلّم لمن قال له أسألك مرافقتك في الجنة حيث قال للسائل : أعني على نفسك بكثرة السجود فحوله إلى غير ما قصد من الراحة فعلم الرياضة وأجب تقديمه على الفتح في طريق السالكين إلا المجذوب والله عليم حكيم اتهى وفي الحديث من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل.
يقول الفقير : كان التهجد فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنما كان يؤخر الوتر إلى آخر الليل إما لما ذكر من شهود الملائكة في ذلك الوقت وإما لأن الوتر صلاها عليه السلام أولاً ليلة المعراج بعد المنام فناسب فصلها عن العشاء وتأخيرها وفي ختم هذه السورة بالنجوم وافتتاح السورة الآتية بالنجم أيضاً من حسن الانتهاء والابتداء ومن الأسرار ما لا يخفة على أهل التحقيق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184(9/171)
سورة النجم
مكية وآيها إحدى أو ثنتان وستون
جزء : 9 رقم الصفحة : 207
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{وَالنَّجْمِ} سورة النجم أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة من النبوة ولما بلغ عليه السلام السجدة سجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب في رواية فإنه رفع حفنة من تراب إلى جهته وقال : يكفيني هذا في رواية كان ذلك الوليد بن المغيرة فإنه رفع تراباً إلى جبهته فسجد عليه لأنه كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود وفي رواية صححت أمية بن خلف وقد يقال : لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعاً بعضهم فعل ذلك تكبراً وبعضهم فعل ذلك عجزاً وممن فعل ذلك تكبراً أبو لهب ولا يخالف ذلك ما نقل عن
208
ابن مسعود رضي الله عنه ولقد رأيت الرجل أي الفاعل لذلك قتل كافراً لأن يجوز أن يكون المراد بقتل مات وإنما سجد المشركون لأن النبي عليه السلام لما بلغ إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى الحق الشيطان به قوله تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي كما سبق في سورة الحج فسمعه المشركون وظنوا أنه من القرآن فسجدوا لتعظيم آلهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين من غير إيمان إذ هم لم يسمعوا ما ألقى الشيطان في آذان المشركين وأآادوا بالغرانيق العلى الأصنام شبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طائر الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمة وإسكان الراء ثم النون بالمفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضاً أو غرنيين بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركي أو ما يشبهه ووجه الشبه بين الأصنام وتلك الطيور إن تلك الطيور تعلو وترفع في السماء فالأصنام مشبعة بها في علو القدر وارتفاعه قال بعضهم : والنجم أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافي ان اقرأ باسم ربك أول سورة نزلت فيها سجدة لأن النازل منها أوائلها لا مجموعها دفعة والواو للقسم.
أصحاب معاني كفتند قسم درقرآن بردو وجه است يكة قسم بذات وصفات خالق جل جلاله نانكه فوربك فبعزتك والقرآن المجيد وهمنين حروف تهجي در أوائل سور هر حرفي أشارتست بصفتي از صفات حق وقسم بران يا دكرد وجه دوم قسمست بمخلوقات وآت برهار ضربست يكة إظهار قدرت رانانكه والذاريات والملاسلات والنازعات هذا وأمثاله نبه العباد على معرفة القدرة فيها ديكر قسم برستاخيز اظهار هيبت را كقوله لا أقسم بيوم القيامة أقسم بها ليلعم هيبته فيها سوم قسم ياد ميكند إظهار نعمت را تا بندكان نعمت خود از الله بشناسند وشكر آن بكذارند كقوله والتين والزيتون هارم قسم است ببعض مخلوقات بيان تشريف راتا خلق عز وشرف آن يز بدانندكه قسم بوى ياد كرده كقوله لا أقسم بهذا البلد يعني مكة وكذلك قوله وطور سينين وهذا البلد الأمين ومن ذلك قوله للمصطفة عليه السلام : لعمرك وهذا على عادة العرب فإنها تقسم بكل ما تستعظمه وتريد إظهار تعظيمه وقيل كل موضع أقسم فيه بمخلوق فالرب فيه مضمر كقوله والنجم ورب النجم ورب الذاريات وأشباه ذلك والمراد بالنجم إما الثريا فإنه اسم غالب عليها ومنه قوله عليه السلام ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع يريد بالنجم الثريا بالتفاق العلماء وقال السهيلي رحمه الله وتعرف الثريا بالنجم أيضاً وبألية الحمل لأنها تطلع بعد بطن الحمل وهي سبعة كواكب ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكباً وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يراها كلها القوة جعلها الله في بصره وقال في عين المعاني وهي سبعة أنجم ظاهرة والسابع تمتحن به الأبصار وكانت قريش بتجلها وتقول أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين السماء وكانت رحلتاها عند طلوعها وسقوطها فإذا طلعت بالغداة عدوها من الصيف وإذا طلعت بالعشي عدوها من الشتاء قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
طلع النجم غديه
ابتغى الراعي شكيه
209
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 22 من صفحة 210 حتى صفحة 219(9/172)
وأما جنس الجنم وهويه كما قال تعالى : {إِذَا هَوَى} غربه وطلوعه يقال هوى يهوى من الثاني هويا بوزن قبول إذا غرب فإن الهوى سقوط من علو إلى أسفل ونويا بوزن دخول إذا علا وصعد والعامل في إذا القسم أي أقسم فإنه بمعنى مطلق الوقت منسلخ عن معنى الاستقبال كما في قولك آتيتك إذا احمر البسر فلا يلزم علم فعل الحال في المستقبل يعني إن فعل القسم إنشاء والإنشاء خال وإذا لما يستقبل من الزمان فيكون المعنى أقسم الآن بالنجم وقت هوى بعد هذا الزمان ثم إن الله تعالى أقسم بالنجم حين هوى أي وقت هويه لأن شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل والنجم الذي يهتدى به السابلة في البر والجارية في البحر إلى سواء السبيل والسمت {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} هو جواب القسم أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة وهذا دليل على أن قوله ووجدك ضالاً ليس من ضلال الغي فإنه عليه السلام قبل الوحي وبعده لم يزل يعبد ربه ويوحده ويتوقى مستقبحات الأمور وفيه بيان فضل النبي عليه السلام حيث أن الله تعالى قال في حق آدم عليه السلام وعصة آدم ربه فغوى وقال في حقه ما ضل صاحبكم {وَمَا غَوَى} الغي هو الجهل المركب قال الراغب الغي جهل من اعتقاد فاسد وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد أصلاً لا صالحاً ولا فاسداً وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد وهذا الثاني يقال له غي فعطفه على ما ضل من عطف الخاص على العام للاهتمام بشأن الاعتقاد بمعنى أنه فرق بين الغي والضلال وليسا بمعنى واحد فإن الغواية هي الخطأ في الاعتقاد خاصة والضلال أعم منها يتناول الخطأ في الأقوال والأفعال والأخلاق والعقائد التي شرعها الله وبينها لعباده فالمعنة وما اعتقد باطلاً قط أي هو في غاية الهدة والرشد وليس مما تتوهمونه من الضلال والغواية في شيء أصلاً وكانوا يقولون ضل محمد عن دين آبائه وخرج عن الطريق وتقول شيئاً من تلقاء نفسه فرد الله عليهم بنفسه بتنزيل هذه السورة تعظيماً له والخطاب لقريش وإيراده عليه السلام بعنوان صاحبيته لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله وإحاطتهم خبراً ببراءته عليه السلام مما نفي عنه بالكلية وباتصافه بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له ومشاهدتهم محاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً كما في الإرشاد وقال الكاشفي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وتسميه صاحب بجهت آنست كه حضرت يغمبر عليه السلام مأمور بود بصحبت كافران جهت دعوت ايشان.
ويؤيد ما في الإرشاد قول الراغب في المفردات لا يقال الصاحب في العرف إلا لمن كثرت ملازمته وقوله تعالى ثم تفكروا ما بصاحبكم من جنة سمي النبي عليه السلام صاحبهم تنبيهاً أي أنكم صحبتموه وجربتموه وعرفتم ظاهره وباطنه ولم تجدوا به خبلاً وجنة وتقييد القسم بوقت الهوى لأن النجم لا يهتدى به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب وإنما يهتدي به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من تدلي جبريل من الأفق الأعلى ودنوه منه عليهما السلام وقال سعدي المدتي ثم التقييد بوقت الهوى أي الغروب لكونه أظهر دلالة على وجود الصانع وعظيم قدرته كما قال الخليل عليه السلام لا أحب الآفلين قال ابن الشيخ
210
(9/173)
في حواشيه وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم تعظيمه وقد كان فيهم من يعبده فنبه بهويه على عدم صلاحيته للإلهية بأفوله وقيل خص الهوى دون الطلوع فإن لفظة النجم دلت على طلوعه فإن أصل النجم الكوكب الطالع وقال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : أراد بالنجم محمداً عليه السلام إذا نزل ليلة المعراج والهوى النزول.
كفته اند آن روزكه اين آيت فرى آمد ورسول خدا بر قريش آشكارا كرد عتبة بن أبي لهب كفت كقرت برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ودختر رسول عليه السلام زن او بود طلاق داد رسول خدا دعا كرد وكفت اللهم سلط عليه كلباً من كلابك بعد ازان عتبه بتجارت شام رفت بادر خويش ابو لهب در منزلى ازمنازل راه فرو آمدند وآنجا ديرى بود راهبى ازدير فر وآمد وكفت هذه أرض مسبعة درين منزل سباع فراوان بود نكريد تا خويش را از سباع نكاه داريد ابو لهب أصحاب خويش را كفت اين سر مرا نكاه داريد كه من مى ترسم كه دعاى محمد دروى رسد ايشان همه كردوى در آمدند واورا درميان كرفتند واس اومى داشتند درميانه شب رب العالمين خواب برايشان افكند وشير بيامد وبايشان در كذشت ولطمه برعتبه زد واورا هلاك كرد.
ولم يأكله لنجاسته ويحتمل من التأويل المصلى إذا سجد والغازي إذا قتل شهيداً والعالم إذا مات ووضع في قبره فإن هؤلاء نجوم والأخبار ناطقة بها قال عليه السلام علماء أمتي كالنجوم بها يهتدي في البر والبحر وقال إمام الغزالي رحمه الله هم الصحابة إذا ماتوا لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وعلماء الإسلام لقوله عليه السلام العلماء نجوم الأرض وقال بعضهم : هو قسم بنور المعرفة إذا وقع ف يالقلب قال تعالى مثل نوره كمشكاة فيها مصباح.
وقال الكاشفي : ونزد محققان سوكند ياد كرده بستاره دل حضرت محد عليه السلام برفلك توحيد منقطع شد ازما سوى الله تعالى.
وأيضاً أقسم الله بنجم الهام حين سقط من صحائف الغيوب إلى معادن القلوب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية قال الأخفش : النجم نبت لا ساق له فيكون هويه سقوطه على الأرض كما قال والنجم والشرج يسجدان يشير إلى أن الله تعالى ينبت حبة المحبة الدائمة المنزهة عن التغير المقدسة عن التبدل التي وقعت وسقطت من روض سماء ذاته المطلقة الكلية الجمعية الإحاطية في أرض قلب نبيه وحبيبه القابل لا نبات نباتات الولاية والنبوة والرسالة الموجبات لظهور رياحين الحقائق القرآنية وشقائق التجليات الربانية وازهار التنزلات الحقانية وعرارا للطائف الإحسانية العرفانية كالمشاهدات والمكاشفات والمعانيات وأمثالها وجواب القسم ما ضل صاحبكم وما غوى وبه يشير إلى أن وجود النبي عليه السلام لما كان أول نور وحداني بسيط علوي لطيف شعشاني تجلى به الحق وتعلقت به القدرة القديمة الأزلية من غير واسطة كما أخبر عنه بقوله أنا من الله والمؤمنون مني وليست فيه ظلمة الوسائط الإمكانية الموجبة للضلالة المنتجة للغي بل هو على نوريته الأصلية البسيطة الشعشعانية المقتضية للهدة والتقوى المستدعية للرشد والنهي باق كما هو ما أثرت فيه مصاحبتكم الطبيعية ولا مخالطتكم الصورية العنصرية وما ضل بأمر الطبيعة وما غوى بحكم البشرية فإنه صلى الله عليه وسلّم
211
قائم بالحق خارج عن الطبع كما أخبر عن نفسه الشريفة القدسية بقوله : لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وهذا يدل على قيامه بالحق وخروجه عن الطبع وأحكامه انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/174)
يقول الفقير : أمده الله القدير لفظ النجم نون هي خمسون بحساب أبجد وجيم هي ثلاثة فالمجموع ثلاثة وخمسون وميم هي أربعيون فأشار إلى أن النبي عليه السلام بعث عند الأربعين وجعل خاتم الأنبياء والمرسلين ومكث في مكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة والمجموع ثلاثة وخمسون وقد سماه الله تعالى بالنجم في هذه الآية كما سماه سراجاً منيراً في آية أخرى لأنه يستضاء بنور وجهه وضياء علمه وهداه وهوى هذا النجم العالي غروبه من مكة بعد المدة المذكورة وهجرته إلى المدينة ولذا أقسم الله على عدم ضلاله وغيه لأنه في غروبه ذلك وحركته راشد مهدي حيث كان بأمر الله تعالى وإذنه فلما غرب من مكة أظلمت الدنيا على قريش وصاروا في ظلمة شديدة ولما طلع على المدينة أشرقت الأآض على المؤمنين حتى أنهم وقعوا في البدر التام في السنة الثانية من الهجرة حيث نورهم الله تحت لواء حبيبه بنور النصرة على الأعداء ببدر وصال حال الأعداء إلى ظلمة العدم وبهذا يظهر سر قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كن الله معذبهم وهم يستغفرون وسر قوله عليه السلام لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله أي ينقطع أهل الذكر المتصل وكان هو النبي عليه السلام في مكة وبخروجه عنها بمقارقته عن أرضها وإصرار القوم على الشرك والعناد وقع عليهم الطامة الكبرى ببدر كما تقوم الساعة عند انقطاع أهل الذكر الدائم من الأرض ففيه الناس يعني الناسين لا يعرفون قدر أهل الذكر والحضور فيما بينهم بل يعادونهم ويؤذونهم مع أن في ذلك هلاكهم لأنهم ملكوتهم وبانقطاع الملكوت والأرواح عن الملك والأجسام يزول الملك وتخرب الأجسام لانقطاع سبب البقاء ومن هنا قالوا إنرجالاً متصرفين في أقطار الدنيا ولو في دار الحرب فإنه لا بد للوجود من قبض البقاء والإمداد أمدنا الله وإياكم بمزيد فضله وجوده وشرفنا بوصاله وشهوده بحرمة النجم وهويه وسجوده آمين آمين {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} يقال نطق ينطق نطقاً ومنطقاً ونطوقاً تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني كما في القاموس فلا يستعمل في الله تعالى لأن التكلم بالصوت والحروف من خواص المخلوق والهوى مصدر هويه من باب علم إذا أحبه واشتهاه ثم غلب على الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع ومنه قيل صاحب الهوى للمبتدع لأنه مائل إلى ما يهواه في أمر الدين فالهوى هو الميل المخصوص المذموم ولهذا أنهى الله أنبياءه فقال لداود عليه السلام ولا تتبع الهوى ولنبينا عليه السلام ولا تتبع أهواءهم ولم يمل أحد من الأنبياء إليه بدليل قوله عليه السلام ما أطلى نبي قط يقال أطلى الرجل إذا مال إلى هواه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ـ حكي ـ عن بعض الكبار أنه قال : كنت في مجلس بعض الغافلين فتكلم إلى أن قال لا مخلص لأحد من الهوى ولو كان فلاناً عنى به النبي عليه السلام حيث قال حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة فقلت له : أما تستحيي من الله تعالى فإنه ما قال أحببت بل قال حبب فكيف يلام العبد على ما كان
212
من عند الله تعالى ثم حصل لي غم وهم أفرأيت النبي عليه السلام في المنام فقال لا تغتم فقد كفينا أمره ثم سمعت أنه خرج ضيعة له فقتل في الطريق نعوذ بالله من الإطالة على الأنبياء وورثتهم الأولياء وضمن ينطق معنة الصدور فتعدى بكلمة عن فالمعنة وما يصدر نطقه بالقرآن عن هواه ورأيه أصلاً فإن المراد استمرار نفي النطق عن الهوى لا نفي استمرار النطق عنه وقد يقال عن هنا بمعنى الباء أي وما ينطق بالهوى كما يقال رميت عن القوس أي بالقوس وفي التنزيل وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك أي بقولك قال ابن الشيخ قال أولا ما ضل وما غوى بصيغة الماضي ثم قال وما ينطق عن الهوى بصيغة المستقبل بياناً لحاله قبل البعثة وبعطها أي ما ضل وما غوى حين اعتزلكم وما تعبدون قبل أن يبعث رسولاً وما ينطق عن الهوى الآن حين يتلو عليكم آيات ربه انتهى.
(9/175)
يقول الفقير فيه بعد كما لا يخفى والظاهر أن صيغة الماضي باعتبار قولهم قد ضل وغوى إشارة إلى تحقق ذلك في زعمهم وأما صيغة المضارع فباعتبار تجدد النطق في كل حال والله أعلم بكل حال {إِنْ هُوَ} أي ما الذي ينطق به من القرآن {إِلا وَحْىٌ} من الله تعالى {يُوحَى} إليه بواسطة جبريل عليهما السلام وهو صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي يعني أن فائدة الوصف التنبيه على أنه وحي حقيقة لا أنه يسمى به مجازاً والوحي قد يكون إسماً بمعنى الكتاب الإلهي وقد يكون مصدراً وله معان الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام وفيه إشارة إلى أن النبي عليه السلام قد فنة عن ذاته وصفاته وأفعاله في ذات الله وصفاته وأفعاله بحيث لم يبق منه لا اسم ولا رسم ولا أثر ولا عين فكان ناطقاً بنطق الحق لا بنطق البشرية فلا يتوهم فيه أن يجري عليه الخطرات الشيطانية والهواجس النفسانية ولذا قالوا ما يصدر عن الواصل شريعة إذ هو محفوظ كما أن النبي عليه السلام معصوم قال بعض الكبار : من وضع من الفقراء وردا من غير الوارد في السنة فقد أساء الأدب مع الله ورسوله إلا أن يكون ذلك بتعريف من الله تعالى فيعرفه خصائص كلمات يجمعها فيكون حينئذ ممتثلاً لا مخترعاً وذلك مثل حزب البحر للشاذلي قدس سره فإنه سافر في بحر القلزم مع نصراني يقصد الحج فتوقف عليهم الريح أياماً فرأى النبي عليه السلام في مبشرة فلقنه إياه فقرأه وأمر النصراني بالسفر فقال وأين الريح فقال : افعل فإنه الآن يأتيك فكان الأمر كما قال وأسلم النصراني بعد ذلك وقس عليه الإلهام والتعريف في اليقظة وقد أخبر أبو يزيد البسطامي قدس سره أنه يولد بعد وفاته بمدة طويلة نفس من أنفاس الله وهو الشيخ أبو الحسن الخرقاني قدس سره فكان كما قال.
وكذا قال صاحب المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
لوح محفوظست اورا يشوا
ازه محفوظست محفوظ ازخطا
نى نجومست ونى رملست ونه خواب
وحى حق والله أعلم بالصواب
ازى رووش عامه در بيان
وحى دل كويند اورا صوفيان
وحى دل كيرش كه منظر كاه اوست
ون خطا باشد و دل آكاه اوست
مؤمنا ينظر بنور الله شدى
از خطا وسهو ايمن آمدى
213
{عَلَّمَهُ} أي القرآن الرسول أي نزل به عليه وقرأه عليه وبينه له هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب وإن كان بمعنى الإلهام فتعليمه بتبليغه إلى قلبه فيكون كقوله نزل به الروح الأمين على قلبك {شَدِيدُ الْقُوَى} من إضافة الصفة إلى فاعلها مثل حسن الوجه والموصوف محذوف أي ملك شديد قواه وهو جبريل فإنه الواسطة في إبداء الخوارق ويكفيك دليلاً على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلام وصياح الديكة ثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين ورأى إبليس يكلم عيسة عليه السلام على بعض عقبات الأرض المقدسة فنفخه نفخة بجناحه يعني بادزد ويرا بجناح خود بادى وألقاه في أقصى جبل في الهند وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف أي حصافة يعني استحكام في عقله ورأيه ومتانة في دينه قال الراغب : أمررت الحبل إذا فتلته والمرير والممر المفتول ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل وفي القاموس المرة بالكسر قوة الخلق وشدة والجمع مرر وامرار والعقل والأصالة والأحكام والقوة وطاقة الحبل كالمريرة وذو مرة جبريل عليه السلام والمريرة الحبل الشديد الفتل {فَاسْتَوَى} عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله ما أوحى بيان لكيفية التعليم أي فاستقام جبريل واستقر على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح موشحاً أي مزيناً بالجواهر دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي كصورة دحية أمير العرب وكما أتى إبراهيم عليه السلام في صورة الضيف وداود عليه السلام في صورة الخصم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجبل حراى وهو الجبل المسمى بجبل النور في قرب مكة فقال : إن الأرض لا تسعى ولكن انظر إلى السماء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض من المغرب وملأ الأفق فخر رسول الله كما خر موسى في جبل الطور فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وذلك فإن الجسد وهو في الدنيا لا يتحمل رؤية ما هو خارج عن طور العقل فمنها رؤية الملك على صورة جبل عليها وأعظم منها رؤية الله تعالى في هذه الدار قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير نبينا عليه السلام فإنه رآه فيها مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لما سيأتي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/176)
ـ وروي ـ أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : يا رسول الله أرني جبرائيل في صورته فقال : إنك لا تستطيع أن تنظر إليه قال : بلة يا رسول الله أرنيه فقعد ونزل جبرائيل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها إذا طافوا فقال عليه السلام : ارفع طرفك يا حمزة فانظر فرفع عينيه فإذا قدماه كالزبرجد الأخضر فخر مغشياً عليه.
ـ وروي ـ أنه رآه على فرسع والدنيا بين كلكلها وفي وجهه أخدود من البكاء لو ألقيت السفن فيه لجزت وإنما رآه عليه السلام مرتين ليكمل له الأمر مرة في عالم الكون والفساد وأخرى في المحل الأنزه الأعلى وإنما قام بصورته ليؤكدان ما يأتيه في صورة دحية هو هو فإنه إذا رآه في صورة نفسه عرفه حق معرفته ولم يبق عليه إشتباه
214
بوجه ما وفي كشف الأسرار فإن قيل : كيف يجوز أن يغير الملك صورة نفسه وهل يقدر غير الله على تغيير صورة المخلوقين وقد قلتم أن جبرائيل أتى رسول الله مرة في صورة رجل ومرة في صورته التي ابتدأه الله عليها وأن إبليس أتى قريشاً في صورة شيخ من أهل نجد فالجواب عنه تغيير الصور الذي هو تغيير التركيب والتأليف لا يقدر عليه إلا الله وأما صفة جبرائيل ففعل الله تعالى تنبيهاً للمصطفة عليه السلام وليعلم أنه أمر من الله إذ رآه في صور مختلفة فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله وهو أن يراه مرة قد سد الأفق وأخرى يجمعه مكان ضيق وأما إبليس فكان ذلك منه تخييلاً للناظرين وتمويهاً دون التحقيق كفعل السحرة بالعصي والحبال قال الله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى انتهى ما في الكشف وقال في آكام المرجان قال القاضي أبو يعلى ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور أي صور الإنس والبهائم والطير وإنما يجوز أن يعلمهم الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله وتكلم به نقله الله من صورة إلى صورة فيقال إنه قادر على التصور والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو على فعل إذا فعله نقله الله من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة وإما يصور نفسه فذلك محال لأنه انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجواء وإذا انتقضت بطل الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة فكيف ينقل نفسه قال والقول في تشكيل الملائكة من ذلك انتهى.
وقال والهى الاسكوبي فيه أن من قال تمثل جبريل وتصور إبليس ليس مراده أنهما أحدثا تلك الصورة والمثال عن قدرة أنفسهما بل بأقدار الله على التمثيل والتصوير كيف يشاء فلا منافاة بين القولين غاية ما في الباب أن العامل عن طريق أقدار الله به من الأسباب المخصوصة انتهى وقال في إنسان العيون : فإن قيل إذا جاء جبريل على صورة الآدمي دحية أو غيره بل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه على يصير جسده الأصلي حياً من غير روح أو ميتاً أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدر على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحداً ومن ثمة قال الحافظ ابن حجر : إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الخق تعالى يظهر في صورة علي وأولاده الإثني عشر رضي الله عنهم ويجوز أن يكون الجسد للملك متعدداً وعليه فمن الممسكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقتدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الإبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحاً آخر شبيهاً لشبحهم الأصلي بدلاً منه وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون له أجساد متعددة قال وهذا هو الذي يسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطبحطوطي فقد ذكر الجلال السيوطي أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق إن ولى الله الشيخ عبد القادر
215
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/177)
الطبحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك فقال : لو قال أربعون إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت بأنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان قال الشعراني وأخبرني من صحب الشيخ محمد الخضري أنه خطب في خمسين بلدة في يوم واحد خطبة الجمعة وصلى بهم إماماً وأما الشيخ حسين أبو علي المدفون بمصر المحروسة فأخبرني عنه أصحابه أن التطور كان دأبه ليلاً ونهاراً حتى في صور السباع والبهائم ودخل عليه بعض أعدائيه ليقتلوه فوجدوه فقطعوه بالسيوف ليلاً ورموه في كوم بعيد ثم أصبحوا فوجدوه قائماً يصلي وفي جواهر الشعراني وصورة التطور أن يقدر الله الروح على تدبير ما شاءت من الأجسام المتعددة بخلعة كن فللأولياء ذلك في الدنيا بحكم خرق العادة وأما في الآخرة فإن نفس نشأة أهل الجنة تعطي ذلك فيدبر الواحد الأجسام المتعددة كما يدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن فتكون تسع وأنت تبصر وتبطش وتمشي ونحو ذلك وفي الفتوحات المكية والذي أعطاه الكشف الصحيح أن أجسام أهل الجنة تنطوي في أرواحهم فتكون الأرواح ظروفاً للأجسام عكس ما كانت في الدنيا فيكون الظهور والحكم في الدار الآخرة للجسم لا للروح ولهذا يتحولون في أي صورة شاءوا كما هو اليوم عندنا للملائكة وعالم الأرواح انتهى وفي إنسان العيون عالم المثال عالم متوسط بين عالم الأجساد والأرواح ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال وهذا الجواب أولى من جواب ابن حجر بأن جبرائيل كان يندمج بعضه في بعض وهل مجيىء جبرائيل في صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته إعلاماً من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي عندي فيكون ذلك بشرى له عليه السلام ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحرك ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة إلا أن يدعى أنه من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره بقي هنا كلام وهو أن السهيلي رحمه الله ذكر أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة ملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافي في ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : هنا كلام عقلي ولا منع من أن يجمع الملك بين قوة روحانية وبين جناح يليق بعالمه سواء كان ذلك كجناح الطير أو غيره فإن المعقولات مع المحسوسات تدور والجمع أنسب بالحكمة والصق بالقدرة وقد أسلفنا مثل هذا في أوائل سورة الملائكة فلا كلام فيه عند أولى الألباب وإنما يقتضي المقام أن يبين وجه كون جناح جبريل ستمائة لا أزيد ولا أنقص ولم أظفر ببيانه لا في كلام أهل الرسوم ولا في إشارات أهل الحقائق والذي
216
(9/178)
يدور بالبال إلهاماً من الله تعالى لا تعملاً وتأملاً أن النبي عليه السلام إنما عرج ليلة الإسراء بالفناء التام ولذا وقع الإسراء في الليل الذي هو مظهر الفناء دون النهار الذي هو مظهر البقاء وكان مراتب الفناء سبعاً على مراتب الأسماء السبعة التي آخرها القيوم القهار وللإشارة إلى هذه جعلت منارات الحرم المكي سبعاً لأن سر البقاء إنما ظهر في حرم النبي عليه السلام ولذا جعلت مناراته خمساً على عدد مراتب البقاء التي أشير إليها بالأسماء الخمسة الباقية من الإثني عشر التي آخرها الأحد الصمد وكل واحد من تلك الأسماء السبعة مائة على حسب تفصيلها إلى الأسماء الحسنى مع أحدية جمعها فيكون مجموعها بهذا الحسب سبعمائة ولما كان جبريل دون النبي عليه السلام في الفناء لم يتجاوز تلك الليلة مقامه الذي هو سدرة المنتهى حتى قال : لو دنوت أنملة لاحترقت وتجاوزه النبي عليه السلام إلى مستوى العرش وقهره وغلب عليه في ذلك فانتهى سير جبريل إلى الاسم القيوم فصار مقهوراً تحت سير النبي عليه السلام وقائماً في مكانه وقائماً بوحيه للقلوب ولذا سمي بروح القدس لحياة القلوب بوحيه كحياة الأجساد بالأرواح فله من تلك الأجنحة السبعمائة ستمائة صورة ومعنى وانتهى سير النبي عليه السلام إلى الاسم القهار فصار ما حصر الكل من دونه فله سبعمائة جناح معنوية فظهر أن القوة النبوية أزيد من القوة الملكية لأنها القوة الإلهية وقد قال تعالى : يد الله فوق أيديهم وإن جبريل لكونه من الأيدي إنما يستفيد اليد والقوة من يد النبي عليه السلام وقوته فاعرف ذلك وكن من الموقنين {وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى} حال من فاعل استوى والأفق هي الدائرة التي تفصل بين ما يرى من الفلك وما لا يرى والأفق الأعلى مطلع الشمس كما أن الأفق الأدنى مغربها والمعنى والحال أن جبريل بأفق الشمس أي أقصى الدنيا عند مطلع الشمس وبالفارسية وبكناره بلند تربود از آسمان يعني نزديك مطلع آفتاب.
ومنه يعلم أن مطلع الشمس ومغربها كرأس الإنسان ورجله وإن كانت الدنيا كالكرة على ما سلف وأيضاً مثل روح الإنسان وجسده فإن الروح علوي والجسد سفلي وقد طلع من عالم الأرواح وغرب في عالم الأجساد
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{ثُمَّ دَنَا} أي أراد الدنو من النبي عليه السلام حال كونه في جبل حراء والدنو القرب بالذات أو بالحكم ويستعمل في الزمان والمكان والمنزلة كما في المفردات {فَتَدَلَّى} التدلي استرسال مع تعلق أي استرسل من الأفق الأعلى مع تعلقه به فدنا من النبي عليه السلام يقال : تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وفي الحديث : لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله أي على علمه وقدرته وسلطانه في كل مكان وأدلى دلوه والدوالي الثمر المعلق وبالفارسية أونك {فَكَانَ} أي مقدار امتداد ما بينهما وهو المسافة {قَابَ قَوْسَيْنِ} من قسى العرب أي مقدارهما في القرب وذكر القوس لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس وفي معالم التنزيل معنى قوله كان بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أنه كان بينهما مقدار ما بين الوتر والقوس كأنه غلب القوس على الوتر وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد
217
منهما عن صاحبه وقيل قدر ذراعين ويسمى الذراع قوساً لأنه يقاس به المذروع أي يقدر فلم يكن قريباً قرب التصاق ولا بعيداً بحيث لا يتأتى معه الإفادة والاستفادة وهو الحد المعهود في مجالسة الأحباء المتأدبين {أَوْ أَدْنَى} أي على تقديركم أيها المخاطبون كما في قوله أو يزيدون فإن التشكيك لا يصح على الله فأو للشك من جهة العباد كما أن كلمة لعل كذلك في مواضع من القرآن أي لو رآهما رأى منكم لقال هو قدر قوسين في القرب أو أدنى أي لالتبس عليه مقدار القرب والمراد أي من قوله ثم دنا إلى قوله أو أدنى تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس وحمله بعضهم على حقيقته حيث قال فكلما دنا جبريل من النبي عليهما السلام انتقص فلما قرب منه مقدار قوسين رآه على صورته التي كان يراه عليها في سائر الأوقات حتى لا يشك أنه جبريل وهنا كلام آخر يجيء بعد تمام الآيات {فَأَوْحَى} أي جبرائيل {إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله تعالى وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره كما في قوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة أي على ظهر الأرض والمراد بالعبد المشرف بالإضافة إلى الله هو الرسول عليه السلام كما في قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/179)
{مَآ أَوْحَى} أي من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة أو فأوحى الله حينئذ بواسطة جبريل ما أوحى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} أي فؤاد محمد عليه السلام وما نافية {مَا رَأَى} ما موصولة وعائدها محذوف أي ما رآه ببصره من صورة جبريل أيل ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره قال بعضهم : كذب مخففاً ومشدداً بمعنى واحد وقال بعضهم : من خفف كذب جعل ما في موضع النصب على نزع الخافض وإسقاطه أي ما كذب فؤاده فيما رآه ببصره أي لم يقل فيه كذباً وإنما يقول ذلك إن لو قال له لا أعرفك ولا أعتقد بك {أَفَتُمَـارُونَه عَلَى مَا يَرَى} أي أتكذبون محمداً عليه السلام فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل فالفاء للعطف على محذوف أو أبعد ما ذكر من أحواله المنافية للمماراة فتمارونه فالفاء للتعقيب وذلك أن النبي عليه السلام لما أخبر برؤية جبريل تعجبوا منه وأنكروا والمماراة والمراء المجادلة بالباطل فكان حقه أن يتعدى بفي يقال جادلته في كذا لكنه ضمن معنى العلبة فتعدى تعديتها لأن الممارى يقصد بفعله غلبة الخصم واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المجادلين يمري ما عند صاحبه يقال مريت الناقة مرياً مسحت ضرعها لتدور مريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري أو غيره.
يقول الفقير : كان الظاهر أن يقال على ما رأى وجوابه أنه لما كان أثر الرؤية باقياً صح أن يقال يرى وأيضاً أن رؤية جبريل مستمرة إلى وقت الانتقال ولو على غير صورته الأصلية وقال الحسن البصري رحمه الله وجماعة علمه شديد القوى أي علمه الله وهو وصف من الله نفسه بكمال القدرة والقوة ذو مرة أي ذو أحكام الأمور والقضايا وبين المكان الذي فيه علمه بلا واسطة فاستوى أي محمد عليه السلام وهو بالأفق الأعلى أي فوق السموات ثم دنا.
س نزديك شد حضرت محمد بحضرت احديث يعني مقرب دركاه الوهيت كشت بمكانت ومنزلت نه بمنزل ومكان فتدلى س فروتنى كرد يعني سجده خدمت آورد خدايرا وون اين مرتبه بواسطه
218
خدمت يافته بود ديكر باره وظيفه خدمت افزود ودر سجده وعده قرب نيزهست كه اقرب ما يكون العبد من ربه أن يكون ساجداً فكان قاب قوسين أو أدنى كنايتست از تأكيد قربت وتقرير محبت وبواسطة تقرب بإفهام در صورت تمثيل مؤدي شده ه عادت عظماى عرب آن مى بوده كه ون تأكيد عهدي وتوثيق عهدي خواستندى كه بغض بدان راه نيابد هريك از متعاقدان كمان خود حاضر ساخته بايكديكر انضمام دادندى وهردو بيكبار قبضتين راكفرفته وبيكبار كشيده باتفاق يك تيرازان بيند اختندى واين صورت زيايشان اشارت بدان معنى بودى كه موافقت كلي ميان ما تحقق ذيرفت ومصادقت واتحاد أصلي بر وجهى ثبوت يافت كه بعد ازان رضا وسخط يكى عين رضا وسخط آن ديكرست س كوييا درين آيت باعنايت آن معنى مؤدي شده كه محبت وقربت حضرت يغمبر باحق سبحانه وتعالى بمثابه تأكيد يافته كه مقبول رسول مقبول خداوندست ومردود مصطفى مردود دركاه خداست وعلى هذا القياس ونزد محققان دنا اشارت نفس مقدس اوست وتدلى بمنزله دل مطهراو فكان قاب قوسين مقام روح مطيب او أدنى بمرتبه سر منوراو ونفس او در مكان خدمت بود ودل او در منزل محبت وروح او درمقام قربت وسر او در مرتبه مشاهدت شيخ ابو الحسين نورى را قدس سره از معنى اين آيت رسيدند جواب داد جايى كه جبرائيل نكنجند نورى كيست كه ازان سخن تواند كفت :
،
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
خيمه برون زد ز حدود وجهات
رده او شد تتق نور ذات
تيركى هستى ازو دور كشت
ردكى رده آن نور كشت
كيست كزان رده شود رده ساز
زمزمه كويد ازان رده باز
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 23 من صفحة 219 حتى صفحة 229
ويدل على أن ضمير دنا يعود إليه عليه السلام أنه قال في رواية لما أسري بي إلى السماء قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى قيل لي قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم أي بوقوفهم على إخبارهم ولا أفضحهم عند الأمم لتأخرهم عنهم وقال بعض الكبار : ثم دنا إشارة إلى العروج والوصول وقوله فتدلى إلى النزول والرجوع وقوله فكان قاب قوسين بمنزلة النتيجة إشارة إلى الوصول إلى عالم الصفات المشار إليه بقوله تعالى الله الصمد وقوله أو أدنى إشارة إلى الوصول إلى عالم الذات المشار إليه بقوله تعالى الله أحد في صورة الإخلاص فحاصل المعنى ثم دنا أي إلى الحق من الخلق فتدلى إلى الخلق من الحق فكان قاب قوسين في مرتبة الوحدة الواحدية الجامعة بين شهادة الصفات والخلق وبين غيب الذات والحق أو أدنى في الوحدة الأحدية المختصة بغيب ذات الحق وإذن هنا أمران :
الأول : الوصول إلى مربة قاب قوسين وذلك بفناء في الصفات فقط.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/180)
والثاني : الوصول إلى مرتبة أو أدنى وذلك بفناء في الصات والذات معاً فإن يسر الله النزول والبقاء يكمل الأمر في هاتين الجهتين ولعمري عزيز أهل هذا المقام جداً وقال بعضهم : ضمير دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى قال في كشف الأسرار دنو الله من العبد على نوعين : أحدهما بإجابة الدعوة وإعطاء المنية ورفع المنزلة كما في قوله فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان والثاني بمعنى القرب
219
في الحقيقة دون هذه المعاني كقوله ثم دنا فتدلى انتهى فالمعنى ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى أي زاد في القرب حتى كان من محمد عليه السلام قاب قوسين أو أدنى فمعنى الدنو والتدلي الواقعين من الله تعالى كمعنى النزول منه إلى السماء الدنيا كل ليلة في ثلث الليل الأخير وهو أن ذلك عند أهل الحقائق من مقام التنزل بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل في خطابه لهم فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو في حقهم حقيقة وفي حقه تعالى مجاز كما في إنسان العيون قال القاضي أبو الفضل في كتاب الشفاء أعلم أن ما وقع في إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى بل كما ذكرنا عن جعفر الصادق ليس بدنو حد وإنما دنو النبي من ربه وقربه منه إبانة عظيم منزلته وتشريف رتبته وإشراق أنوار معرفته ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ومن الله له مبرة وتأنيس وبسط وإكرام قال في فتح الرحمن : فمن جعل الضمير عائداً إلى الله لا إلى جبريل على هذا كان قوله فكان الخ عبارة عن نهاية القرب ولطف المحل واتضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من محمد عليه السلام وعبارة إجابة الرغبة وقضاء المطالب قرب بالإجابة والقبول وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول فأوحى إلى عبده ما أوحي قال في الأسئلة المقحمة أجمل ولم يفسره لأنه كان يطول ذكر جميع ما أوحي إليه فذكره جملة من غير تعرض إلى التفصيل فقال : أوحي إلى عبده ما أوحي إليه فذكره جملة من غير تعرض إلى التفصيل فقال : فأوحي إلى عبده ما أوحي وقالت الشيوخ : ستر الله بعض ما أوحي إلى عبده محمد عليه السلام عن الخلق ستراً إلى حاله لئلا يطلع عليه غيره فإن ذلك لا يتعلق بغيره وإنما ذلك من خواص محبته ومعرفته وعلو درجاته إذ بين الأحباب يجري من الأسرار ما لا يطلع عليه الأجانب والأخيار قال عليه السلام : لي وقت مع الله لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل وسمعت الشيخ أبا علي الفارسي رحمه الله يقول في هذه الآية قولاً يطول شرحه وقصاراه يرجع إلى أنه تعالى ستر بعض ما أوحي إلى نبيه عن الخلق لما علم أن علمهم بذلك يفتر عن السير في صراط العبودية اتكالاً على محض الربوبية ولهذا قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال معاذ أأخبر الناس بذلك يا رسول الله؟ فقال : لا تخبرهم بذلك لئلال يتكلوا انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
لا يكتم السر إلا كل ذي خطر
والسر عند كرام الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق
قد ضاع مفتاحه والباب مختوم
وقيل :
بين المحبين سر ليس يفشيه
قول ولا عمل للخلق يحكيه
سر يمازجه إنس يقابله
نور تحير في بحر من التيه
وقيل :
دردى كه من از عشق تو دارم حاصل
دل داند ومن دانم ومن دانم ودل
قال الكاشفي : بعض عليما كويند كه اولى آنست كه تعرض آن وحي نكنيم ودر رده بكذا ريم وجمعي كويند آنه ازان وحي دريزى ويا اثري بما رسيده ذكر أن هي نقصان ندارد ودامانت بسيار واقع شده ودر تفسير جواهر بسطى تمام يافته اينجابسه وجه اختصاص مى يابد اول آنكه مضمون وحي اين بودكه يا محمد لولا أني أحب معاتبة أمتك لما حاسبتهم يعني اكرنه آنست كه دوست ميدارم معاتبه با امت تو والابساط محاسبه ايشان
220
طى مى كردم دوم آنكه اى محمد أنا وأنت وما سوى ذلك خلقته لأجلك آن حضرت عليه السلام در جواب فرمودند أنت وأنا وما سوى ذلك تركته لأجلك سوم آنكه امت تو طاعت من بجاى مى آرند وعصان نيزمى ورزند طاعت ايشان برضاى منست ومعصيت ايشان بقضاى من س آنه برضاى من از ايشان ثابت شود اكره اندك وبا قصور بود قبول كنم زيراكه كريمم وآنه بقضاى من از ايشان در وجود آيد اكره بزرك وبيسار باشد عفو كنم زيرا كه رحيمم.
وقيل : أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك وقيل كن آيسا من الخلق فليس بأديهم شيء واجعل صحبتك معي فإن مرجعك إلي ولا تجعل قلبك معلقاً بالدنيا فإني ما خلقتك لها وقيل أوحي إليه ألم يجدك يتيماً فآوى إلى قوله ورفعنا لك ذكرك وقيل أوحي إليه آمن الرسول الخ بغير واسطة جبريل وقيل أوحي إليه عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزى به.
ـ وروي ـ إنه عليه السلام قال : شكا إلى الله ليلة المعراج من أمتي شكايات :
الأولى : لم أكلفهم عمل الغد وهم يطلبون مني رزق الغد.
والثاني : لا أدفع ارزاقهم إلى غيرهم وهم يدفعون عملهم إلى غيري.
والثالثة : أنهم يأكلون رزقي ويشكرون غيري ويخونون معي ويصالحون خلقي.
(9/181)
والرابعة : أن العزة لي وأنا المعز وهم يطلبون العزة من سواي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
والخامسة : أني خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها قال : قل لأمتك إن أحببتم أحداً لإحسانه إليكم فأنا أولى به لكثرة نعمي عليكم وإن خفتم أحداً من أهل السماء والأرض فأنا أولى بذلك لكمال قدرتي وإن أنتم رجوتم أحداً فأنا أولى به لأني أحب عبادي وإن أنتم استحببتم من أحد لجفائكم إياه فأنا أولى به لأن منكم الجفاء ومني الوفاء وإن آثرتم أحداً بأموالكم وأنفسكم فأنا أولى بذلك لأني معبودكم وإن صدقتم أحداً في وعده فأنا أولى بذلك لأني أنا الصادق وقيل أوحى الله إليه يا محمد لم أكثر مال أمتك لئلا يطول حسابهم في القيامة ولم أطل أعمارهم لئلا تقسو قلوبهم ولم أفجأهم بالموت لئلا يكون خروجهم من الدنيا بدون التوبة وأخرتهم في الدنيا عن الآخرين لئلا يطول في القبور حبسهم قال بعضهم : إن ما أوحي إليه مفسر في الأخبار ونطقت به الروايات من أهوال القيامة وغيرها ولهذا قال عليه السلام : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً قال جعفر الصادق رضي الله عنه : فأوحي إلى عبده ما أوحي بلا واسطة فيما بينه وبينه سراً إلى قلبه لا يعلم به أحداً سواه بلا واسطة أي في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته وقال البقلى : أبهم الله سر ذلك الوحي الخفي على جميع فهوم الخلائق من العرش إلى الثرى بقوله : ما أوحي لأنه لم يبين أي شيء أوحي إلى حبيبه لأنه بين المحب والمحبوب سراً لا يطلع عليه غيرهما وأظن أنه لو بين كلمة من تلك الأسرار لجميع الأولين والآخرين لماتوا جميعاً من ثقل ذلك الوارد الذي ورد من الحق على قلب عبده احتمل ذلك المصطفى عليه السلام بقوة ربانية ملكوتية لاهوتية ألبسه الله إياها ولولا ذلك لم يحتمل ذرة منها لأنها أنباء عجيبة وأسرار أزلية لو ظهرت كلمة منها لتعطلت الأحكام ولفنيت الأرواح والأجسام واندرست الرسوم
221
واضمحلت العقول والفهوم والعلوم.
يقول الفقير : لا شك أن ما أوحي إليه عليه السلام تلك الليلة على أقسام قسم أداه إلى الكل وهو الأحكام والشرائع وقسم أداه إلى الخواص وهو المعارف الإلهية وقسم أداه إلى أخص الخواص وهو الحقائق ونتائج العلوم الذوقية وقسم آخر بقي معه لكونه مما خصه الله به وهو السر الذي بينه وبين الله المشار إليه بقوله لي مع الله وقت الخ فإنه تحل مخصوص وسر مكتوم لا يفشي وهكذا كل ورثته فإن لهم نصيباً من هذا المقام حيث أن بعض علومهم يرتحل معهم إلى الآخرة ولا يوجد له محل يؤدي إليه إما لكونه من خصائصهم وإما لفقدان من يستعد لأدائه وذلك يحسب الزمان ولذا جاء نبي في الأولين وبقي معه الرسالة ولم يقبلها أحد من أمته لعدم الاستعداد فيهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية في هذه الآية يشير إلى أن الله تعالى من مقام جمعيته الجامعة لجميع المظهريات من غير واسطة جبريل وواسطة ميكائيل أوحي أو تجلى في صورة الوحي لعبده المضاف إلى هاء هويته المطلقة بحقائق من مقتضى حكم الوحدة والموحى به هوان وجودك يا محمد عين وجود المتعين بأحدية جمع جميع الأعيان الظاهرة المشهودة والحقائق الباطنة الغيبية المفقودة في عين كونها موجودة مطلقاً عن هذا التعين والجمع والإطلاق ما كذب الفؤاد ما رأى.
اعلم أن المرئى إن كان صورة جبريل عليه السلام فالرؤية من رؤية العين وإن كان هو الله تعالى على ما ذهب إليه البعض فقد اختلفوا في أنه عليه السلام رأى الله تعالى ليلة الإسراء بقلبه أو بعين رأسه فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه في فؤاده فيكون المعنى ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد أي لم يقل فؤاده له إن ما رأته هاجس شيطاني وأنه ليس من شأنه أن ترى الرب تعالى بل تيقن إن ما رآه بفؤاده حق صحيح وقال بعضهم : رآه بعينه لقوله عليه السلام : إن الله أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وقوله عليه السلام : رأيت ربي في أحسن صورة أي صفة.
قال في الكواشي : هذا لا حجة فيه لأنه يجوز أنه أراد الرؤية بالقلب بأن زاده معرفة على غيره.
(9/182)
يقول الفقير : إيراد الرؤية في مقابلة الكلام يدل على رؤية العين لأن موسى عليه السلام قد سألها ومنع منها فاقتضى أن يفضل النبي عليه السلام عليه بما منع منه وهو الرؤية البصرية ولا شك أن الرؤية القلبية الحاصلة بالانسلاخ يشترك فيها جميع الأنبياء حتى الأولياء وقد صح أن موسى رأى ربه بعين قلبه حين خر في الطور مغشياً عليه وحملها على زيادة المعرفة لا يجدي نفعاً وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : من زعم بأن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله قال في كشف الأسرار قول عائشة نفي وقول ابن عباس بأنه رأى إثبات والحكم للمثبت لا للنافي فالنافي إنما نفاه لأنه لم يسمعه والمثبت إنما أثبته لأنه سمعه وعلمه انتهى وقول أبي ذر رضي الله تعالى عنه للنبي عليه السلام : هل رأيت ربك؟ قال : نوراني أراه بالنسبة إلي تجرد الذات عن النسب والإضافات أي النور المجرد لا يمكن رؤيته على ما سبق تحقيقه وقال في عين المعاني : ولا يثبت مثل هذا أي الرؤية بالعين إلا بالإجماع وفي كشف الأسرار قال بعضهم : رأيه بقلبه دون عينه وهذا خلاف السنة والمذهب الصحيح أنه عليه السلام رأى ربه بعين رأسه انتهى.
وفي الكواشي : يستحيل رؤيته هنا عقلاً ومعتقد
222
رؤية الله هنا بالعين لغير محمد غير مسلم أيضاً انتهى.
قال ابن الشيخ : اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة لأن دليل الجواز غير مخصوص بالآخرة ولأن مذهب أهل السنة الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد فإذا حصل العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية بالإراءة وإن حصل من طريق القلب كان معرفة والله تعالى قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك المعلوم في البصر كما قدر أن يحصله بخلق مدرك المعلوم في القلب والمسألة مختلف فيها بين الصحابة والاختلاف في الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز انتهى وكان الحسن البصري رحمه الله يحلف بالله أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ـ وحكى ـ النقاش عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما بعينه رآه رآه حتى انقطع نفس الإمام أحمد.
كلام سرمدي بي نقل بشنيد خداوند جهانرا بي جهت ديد :
دران ديدن كه حيرت حاصلش بود
دلش درشم وشمش در دلش بود
قال بعض الكبار : الممنوع من رؤية الحق في هذه الدار إنما هو عدم معرفتهم له وإلا فهم يرونه ولا يعرفون أنه هو على غير ما يتعقل البصر فالخلق حجاب عليه دائماً فإنه تعالى جل عن التكييف دنيا وأخرى فافهم فهم يرونه ولا يرونه ولا يرونه وأكثر من هذا الإفصاح لا يكون انتهى.
يقول الفقير : نعم إن الله جل عن الكيفية في الدارين لكن فرق بين الدنيا والآخرة كثابة ولطافة فإن الشهود في الدنيا بالسر المجرد لغير نبينا عليه السلام بخلافه في الآخرة فإن القلب ينقلب هناك قالباً فيفعل القالب هناك ما يفعله القلب والسر في هذه الدار فإذا كانت لطافة جسم النبي عليه السلام تعطي الرؤية في الدنيا فما ظنك بلطافته ورؤيته في الآخرة فيكون شهوده أكمل شهود في الدارين حيث رأى ربه بالسر والروح في صورة الجسم.
قال في التأويلات النجمية : اتحد بصر ملكوته وبصر ملكه فرأى ببصر ملكوته باطن الحق من حيث اسمه الباطن ورأى ببصر ملكه ظاهر الحق من حيث اسمه الظاهر ورأى بأحدية جمع القوتين الملكوتية والملكية الحقيقة الجمعية المتعينة بجميع التعينات العلوية الروحانية والسفلية الجسمانية مع إطلاقه في عين تعينه المطلق عن التعين واللاتعين والإطلاق واللا إطلاق انتهى هذا وليس وراء عبادان قرية وقال البقلي رحمه الله : ذكر الله رؤية فؤاده عليه السلام ولم يذكر العين لأن رؤية العين سر بينه وبين حبيبه فلم يذكر ذلك غيره عليه لأن رؤية الفؤاد عام ورؤية البصر خاص أراه جماله عياناً فرآه ببصره الذي كان مكحولاً بنور ذاته وصفاته وبقي في رؤيته عياناً ما شاء الله فصار جسمه جميعه أبصاراً رحمانية فرأى الحق بجميعها فوصلت الرؤية إلى الفؤاد فرأى فؤاده جمال الحق ورأى ما رأى عينه ولم يكن بين ما رأى بعينه وبين ما رآه بفؤاده فرق فأزال الحق الإبهام وكشف العيان بقوله ما كذب الفؤاد ما رأى حتى لا يظن الظان أن ما رأى الفؤاد ليس كما رأى بصره أي صدق قلبه فيما رآه من لقائه الذي رآه بصره بالظاهر إذ كان باطن حبيبه هناك ظاهراً وظاهراً باطناً بجميع شعراته وذراته وجوده وليس في رؤية الحق حجاب للعائق الصادق بين يغيب عن الرؤية شيء من وجوده فبالغ الحق في كمال رؤية حبيبه وكذلك قال عليه السلام : رأيت ربي بعيني وبقلبي.
رواه
223
(9/183)
مسلم في صحيحه.
قال ابن عطاء : ما أعتقد القلب خلاف ما رأته العين وقال : ليس كل من رأى سكن فؤاده من إدراكه إذ العيان قد يظهر فيضطرب السر عن حمل الوارد عليه والرسول عليه السلام كان محمولاً فيها في فؤاده وعقله وحسه ونظره وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به {أَفَتُمَـارُونَه عَلَى مَا يَرَى} آيا مجادله ميكنيد با محمد برآنه ديد درشب معراج ومجادله آن بودكه صفت بيت المقدس وخبر كاروان خود رسيدند.
وقال بعضهم : أفتجادلونه على رؤية الله تعالى أي أن رسول الله عليه السلام رأى الله وهم يجادلونه في ذلك وينكرونها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى مماراة المحتجبين عن الحق بالخلق ومجادلتهم في شهود الخلق من دون الحق لقيامهم في مقام الكثرة الاعتبارية من غير شهود الوحدة الحقيقية أعاذنا الله وإياكم من عذاب جحيم الاحتجاب ومن شدة لهب النار والالتهاب {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} الضمير البارز في رآه لجبريل ونزلة منصوب نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها والمعنى وبالله لقد رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته الحقيقية مرة أخرى من النزول وذلك أنه كان للنبي عليه السلام في ليلة المعراج عرجات لمسألة التخفيف من إعداد الصلوات المفروضة فيكون لكل عرجة نزلة فرأى جبريل في بعض تلك النزلات {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} وهو مقام جبرائيل وكان قد بقي هناك عند عروجه عليه السلام إلى مستوى العرش وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت قال عليه السلام : رأيته عند سدرة المنتهى عليه ستمائة جناح يتناثر منه الدر والياقوت وعند يجوز أن يكون متعلقاً برأى وأن يكون حالاً من المفعول المراد به جبرائيل لأن جبرائيل لكونه مخلوقاً يجوز أن يراه النبي عليه السلام في مكان مخصوص وهو سدرة المنتهى وهي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة نبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها والمنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء كما قال الزمخشري أو اسم مكان بمعنى موضع الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وقيل : ينتهي إليها الملائكة ولا يتجاوزونها لأن جبرائيل رسول الملائكة إذا لم يتجاوزها فبالحرى أن لا يتجاوزها غيره فأعلاها لجبرائيل كالوسيلة لنبينا عليه السلام فكما أن خواص الأمة يتشركون مع النبي عليه السلام في جنة عدن بدون أن يتجاوزوا إلى مقامه المخصوص به فكذا الملائكة يشتركون مع جبرائيل في السدرة بدون أن يتعدوا إلى ما خص به من المكان وقيل إليها ينتهي علم الخلائق وأعمالهم ولا يعلم أحدا ما وراءها وذلك لأن الأعمال الصالحة في عليين ولا تعجر إليه إلا على يد الملائكة فتقف عندها كوقوف الملائكة هذا بالنسبة إلى أعمال الأمة وأما خواص الأمة فلهم من الأعمال ما لا يقف عندها بل يتجاوز إلى عالم الأرواح فوق مستوى العرش بل إلى ما وراءه حيث لا يعلمه إلا الله فمثل هذه الصالحات الناشئة عن خلوص فوق خلوص العامة ليست بيد الملائكة إذ لا يدخل مقامها أحد وقيل : ينتهي إليها أرواح الشهداء لأنها في أرض الجنان أو ينتهي إليها ما يهبط من فوقها من الأحكام ويصعد من تحتها من الآثار وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما
224
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/184)
أسرى بالنبي عليه السلام انتهى إلى السدرة فقيل : له هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك يعني ميرسد بدين هركس از امت توكه رفته باشد برسنت تو.
وقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله وبالجملة هي شجرة طوبى وقال مقاتل السدرة هي شجرة طوبى ولو أن رجلاً ركب نجيبه وطاف على ساقه حتى أدركه الهرم لما وصل إلى المكان الذي ركب منه تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل وجميع ألوان الثمار ولو أن ورقة منها وضعت في الأرض لاناءت أهلها قيل : إضافة السدرة إلى المنتهى أما إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار البستان فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو إضافة المحل إلى الحال كقولك كتاب الفقه والتقدير سدرة عندها منتهى العلوم إو إضافة الملك إلى المالك على حذف الجار والمجرور أي سدرة المنتهى إليه وهو الله تعالى قال إلى ربك المنتهى وإضافة السدرة إليه كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم وقال بعضهم : المرئي هو الله تعالى يعني أن محمداً عليه السلام رأى ربه مرة أخرى يعني مرتين كما كلم موسى مرتين وفيه إشعار بأن الرؤية الثانية كانت كالرؤية الأولى بنزول ودنو فقوله عند لا يجوز أن يكون حالاً من المفعول المراد به الله تعالى لأن الله تعالى منزه عن أن يحل في زمان أو مكان فهو متعلق برأى يعني أنه عليه السلام رأى ربه رؤية ثانية عند سدرة المنتهى على أن يكون الظرف ظرفاً لرأى ورؤيته لا للمرئى كما إذا قلت رأيت الهلال فقيل لك أين رأيت فتقول عند الشجرة الفلانية وجعل ابن برجان الإسراء مرتين :
الأولى بالفؤاد وهذه بالعين ولما كان ذلك لا يتأتى إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر عبر بقوله نزلة أخرى وعين الوقت بتعيين المكان فقال عند سدرة المنتهى كما في تفسير المناسبات.
ـ وروي ـ عن وكيع عن كعب الأحبار أنه قال : رأى ربه مرة أخرى فقال : إن الله تعالى كلم موسى مرتين ورأه محمد مرتين عليهما السلام فلما بلغ ذلك عائشة رضي الله عنها قالت : قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام فقيل لها : يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى فقالت : أنا سألت النبي عليه السلام عن ذلك فقال : رأيت جبرائيل نازلاً في الأفق على خلقته وصورته انتهى وقال بعضهم : رآه بفؤاده مرتين.
يقول الفقير : لما كان هذا المقام لا يخلو عن صعوبة واحتمال وتأويل كفروا من أنكر المعراج إلى المسجد الأقصى لثبوته بالنصر القطعي وهو قوله تعالى سبحان الذي أسرا بعبده الخ وضللوا من أنكره إلى ما فوقه لثبوته بالخبر المشهور.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أن معراجه عليه السلام أربع وثلاثون مرة : واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى رد استعجاب أهل الحجاب شهود النبي عليه السلام الحضرة الإلهية في المظاهر الكونية والمجالي الغيبية وأنى لهم هذا الاستعجاب والاستغراب وما قيده في حضرة دون حضرة وفي مشهد دون مشهد بل شهرة وعلانية مرة بعد مرة وساعة بعد ساعة بل ما احتجب لحظة منه تعالى وما غاب عنه لمحة مرة شاهده به في مقام أحديته بفنائه عنه ونزلة عاينه في مقام واحديته بالبقاء به عند نزوله من المشهد
225
(9/185)
الأحدي إلى المشهد الواحدي المسمى سدرة المنتهى التي هي شجرة الكثرة لابتداء الكثرة منها وانتهاى مظاهرها إليها بحسب الأعمال والأقوال والأفعال والأحوال شبهت السدرة بشجرة الكثرة لكثرة إظلالها وأغصانها كما في شجرة الكثرة التي هي الواحدية لظهور التعينات والتكثرات منها واستظلال المتعينات بها بالوجود العيني الخارجي انتهى وقال البقلي : ما الرؤية الثانية بأقل كشفاً من الرؤية الأولى ولا الأولى بأكشف من الرؤية الثانية أين أنت لو كنت أهلاً لقلت لك إنه عليه السلام رأى ربه في لحافه بعد أن رجع من الحضرة أيضاً في تلك الساعة وما غاب قلبه من تلك الرؤية لمحة وما ذكر سبحانه بيان أن ما رأى في الأولى في الإمكان وما رأى عند سدرة المنتهى كان واحداً لأن ظهوره هناك ظهور القدم والجلال وليس ظهوره يتعلق بالمكان ولا بالزمان إذ القدم منزه عن المكان والجهات وكان العبد في المكان والرب في المكان وهذا غاية في كمال تنزيهه وعظيم لطفه إذ تتجلى نفسه لقلب عبده وهو في الإمكان والعبد في مكان والعقل ههنا مضمحل والعلم متلاششٍ لأن العقول عاجزة والأوهام متحيرة والقلوب والهة والأرواح حائرة والأسرار فانية وفي هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه إذ رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ظن عليه السلام أن ما رآه في الأولى لا يكون في الكون لكمال علمه بتنزيه الحق فلما رآه ثانية علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان وعادة الكبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان كريماً فهذا من الله إظهار كمال حب لحبيبه وحقيقة الإشارة أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام التباس فليس الأمر وأظهر المكر بأن بان الحق من شجرة سدرة المنتهى كما بان من شجرة العنان لموسى ليعرف حبيبه بكمال المعرفة إذ ليس بعارف من لم يعرف حبيبه في ألبسة مختلفة انتهى ولما أراد سبحانه أن يعظم السدرة ويبين شرفها قال : {عِندَهَا} أي عند السدرة
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{جَنَّةُ الْمَأْوَى} والجملة حالية قيل : الأحسن أن يكون الحال هو الظرف وجنة المأوى مرتفع به بالفاعلية وإضافة الجنة إلى المأوى مثل إضافة مسجد الجامع أي الجنة التي يأوى إليها المتقون أي تنزل فيها وتصير وتعود إليها أرواح الشهداء وبالفارسية بهشتى كه آرامكاه متقيان يا مأوى ومكان أرواح شهداست او اوى إليها آدم وحواء عليهما السلام يقال : أويت منزلي وإليه أويا وأويا عدت وأويته نزلته بنفسي والمأوى المكان قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : آدم عليه السلام أنزل من جنة المأوى التي هي اليوم مقام الروح الأمين جبريل عليه السلام وهي اليوم برزخ لذرية آدم ونزل إليها جبرائيل من السدرة بنزول آدم وهذه الجنة لا تقتضي الخلود لذاتها فلذلك أمكن خروج آدم منها ولذلك تأثر بالاشتياق إلى أن يكون ملكاً بعد سجود الملائكة له بغرور إبليس إياه ووعده في الخلود رغبة في الخلود والبقاء مع جبرائيل والجنة التي عرضها السموات والأرض تقتضي الخلود لذاتها يعلم من دخلها أنه لا يمكن الخروج منها إذ لا سبيل للكون والفساد إليها قال تعالى في وصف عطائها أنه غير مجذوذ أي غير منقطع انتهى فالجنة التي عرضها السموات والأرض أرضها الكرسي الذي وسع السموات والأرض وسقفها العرش المحيط فهي محيطة بالجنان الثمان وليست هي الجنة التي أنزل منها
226
(9/186)
آدم كذا قاله الشيخ أيضاً في كتاب تلقيح الأذهان وقال نجم الدين رحمه الله في تأولاته يشير إلى أن الجنة العلية التي يسجن بها المجانين العاشقون عن أنانيتهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر وفي قوله عندها إشارة إلى الهوية الظاهرة بالشجرة الواحدية المسماة بسدرة المنتهى لانتهاء أرواح الشهداء المقتولين بسيف الصدق والإخلاص ورمح الرياضات والمجاهدات إليها {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} زيادة في تعظيم السدرة وإذ ظرف زمان لرآه لما بعده من الجملة المنفية فإن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها والغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها البديعة أو للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد والمعنى ولقد رأى محمد جبرائيل عند السدرة وقت ما غشيها وغطاها ما لا يكتنهه الوصف ولا يفي به البيان كيفا ولا كما وفي الحديث "وغشيها ألوان لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها" وعنه عليه السلام : "رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح الله" وعنه عليه السلام يغشاها رفرف أي جماعة من طيور خضر وقيل : يغشاها فراش أو جراد من ذهب.
كما قال الكاشفي : وكويند بر حوالى آن فرشتكان طيران ميكردند ون روانهاى زرين.
وقيل : يغشاها سبحان أنوار الله حين تجلى لها كما تجلى للجبل لكنها كانت أقوى من الجبل حيث لم يصبها ما أصابه من الدك وذلك لأن الجبل كان في عالم الملك الضعيف والسدرة في عالم الملكوت القوى ولذا لم يخر عليه السلام هناك مغشياً عليه حين رأى جبرائيل كما غشي عليه حين رآه في الأفق الأعلى لقوة التمكين وغاية لطافة الجسد الشريف وقيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر يعبدون الله تعالى عندها أو يزورونها متبركين بها كما يزور الناس الكعبة وقيل : يغشاها الملائكة النازلون للقاء النبي عليه السلام فإنهم استأذنوا للقائه فأذن لهم وقيل : لا تأتون بغير نثار فجاء كل واحد منهم بطبق من أطباق الجنة عليه من اللطائف ما لا يحصى فنثروه بين يديه تقرباً إليه وفي الحديث : "إنه أعطى رسول الله عندها يعني السدرة ثلاثاً" يعني سه يز.
الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة غفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى تعظيم المظاهر الأسمائية والصفاتية الجمالية اللطفية والجلالية القهرية الغاشية الساترة شجرة الواحدية المسماة بسدرة المنتهى بحيث لا تعد ولا تحصى لعدم نهاية مصادرها لأن الأسماء بحسب الجزئيات غير متناهية وإن كانت من حيث كلياتها متناهية وكان حقيقة السدرة وعمودها مغشية مستورة بكثرة أغصانها وأوراقها وأزهارها وهذا الوصف يدل على عظمة شأن الشجرة عينها وجلالة قدرها وكيف لا والواحدية من حيث الحقيقة عين الأحدية ومن حيث الاعتبار العقلي وغيرها فافهم جداً لا يفوتك الحقيقة بل الطريقة والشريعة انتهى وقال البقلي رحمه الله : أبهم ما غشيها لأن العقول لا تدرك حقائق ما يغشاها وكيف يغشاها والقدم منزه عن الحلول في الأماكن وكانت الشجرة مرآة لظهوره سبحانه ما ألطف ظهوره لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون بعد عرفانهم به آمناً به {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}
227
الزيغ الميل عن الاستقامة أي ما مال بصر رسول الله عليه السلام أدنى ميل عما رآه {وَمَا طَغَى} وما تجاوز مع ما شاهد هناك من الأمور المذهلة مما لا يحصى بل أثبته إثباتاً صحيحاً متيقناً أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها وما جاوزها واستدل على أن رؤية الله كانت بعين بصره عليه السلام يقظة بقوله ما زاغ البصر الخ لأن وصف البصر بعدم الزيغ يقتضي أن ذلك يقظة ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه وأمال القول بأنه يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه فلا بدل له من القرينة وهي هنها معدومة.
قال الكاشفي في معنى الآية : ميل نكرد شم محمد عليه السلام وي وراست ننكريست ودرنكذشت از حديكه مقرر بود نكريستن ويرا آيت ستايش آن حضرتست بحسن أدب وعلو همت كه دران شب رتو التفات بر هي ذره از ذرات كائنات نيفكند وديده دل بجز مشاهده جمال بي زوال الهي نكشود :
درديده كشيده كحل ما زاغ
نى راغ نكاه كردونى باغ
ميراند براق عرش رواز
تا حجله ناز ورده راز
س رده زيش ديده برخاست
ى رده بديد آنه دل خواست
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/187)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى تحقق النبي عليه السلام بمقام حقيقة الفقر الكلي الذي هو الخلو المطلق عما سواه لأنه قال : الفقر فخري وأي فقر أعظم وأفخم من أن يخرج العبد عن وجوده الكلي المجازي ويقوم بالوجود الحقيقي ويظهر بصفات سيده حتى يقال له عبد الله أي لا عبد غيره يعني ما مال بصر ملكه الجسماني إلى ملك الدنيا وزينتها وزخارفها وجاهها ومالها وما طغى نظر ملكوته الروحاني إلى عالم الآخرة ونعيمها ودرجاتها وقرباتها وغرفاتها بل اتحدا واجتمعا اتحاداً كلياً واجتماعاً حقيقياً من غير فتور وقصور على شهود الحق وأسمائه وصفاته وعجائب تجلياته الذاتية وغرائب تنزلاته الصفاتية وأيضاً ما زاغ عين ظاهره إلى الكثرة الأسمائية قائمة بالوحدة الذاتية وغرائب تنزلاته بكمال قيامه بشهود المرتبتين ولإحاطة علمه بوجود المرتبتين فافهم ولا تندم وقال البقلي رحمه الله : هذه الآية في الرؤية الثانية لأن في الرؤية الأولى لم يكن شيء دون الله ولذلك ما ذكر هناك غض البصر وهذا من كمال تمكين الحبيب في محل الاستقامة وشوقه إلى مشاهدة ربه إذ لم يمل إلى شيء دونه وإن كان محل الشرف والفضل وفي كشف الأسرار موسى عليه السلام ون ديدار خواست كه أرني أنظر إليك اورا بصمصام غيرت لن تراني جواب دادند س ون تاوان زده آن سؤال كشت بغرامت تبت اليك واديد آمد باز ون نوبت بمصطفى عليه السلام رسيد ديده ويرا توتياى غيرت لا تمدن عينيك در كشيدند كفتند اى محمد ديده كه بآن ديده مارا خواهى ديكر نكر تابعاريت بكس ندهى مهتر عصابه عزت ما زاغ البصر وما طغى برديده خود بست بزبان حال كفت :
بربندم شم خويش ونكشايم نيز
تاروز زيارت تواى يار عزيز
تالا جرم ون حاضر حضرت كشت جمال وجلال ذو الجمال والجلال برديده او كشف
228
كردند كه ما كذب الفؤاد ما راى :
همه تنم ذكر كردد ون بانوا راز كنم
همه كمال توبينم و ديده باز كنم
ان تذكرته فكلي قلوب
أو تأملته فكلي عيون
وكفته اند موسى عليه السلام ون از حضرت مناجات باز كشت باوى نور هيبت بود وعظمت لا جرم هركه دروى ناديست تابينا كشت باز مصطفى عليه السلام ون از حضرت مشاهدات باز كشت باوى نوارنس بود تاهركه بروى نكريد بينايى او بيفزود آن مقام أهل تكوين است واين مقام ارباب تمكين {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي وبالله لقد رأى محمد عليه السلام ليلة المعراج الآيات التي هي كبراها وعظماها فأرى من عجائب الملك والملكوت ما لا يحيط به نطاق العبارة فقوله : من آيات ربه حال قدمت على ذيها وكلمة من للبيان لأنه المناسب لمرام المقام وهو التعظيم والمبالغة ولذا لم تحمل على التبعيض على أن يكون هو المفعول ويجوز أن يكون الكبرى صفة للآيات والمفعول محذوف أي شيئاً عظيماً من آيات ربه وأن يكون من مزيدة يعني على مذهب الأخفش وكان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب على ما عليه الأكثر في السنة الثانية عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل كما في تفسير المناسبات وفيه إشكال فإن هذه السورة نزلت في السنة الخامسة من النبوة على ما مر في أول السورة قال المفسرون : رأى عليه السلام أي أبصر تلك الليلة رفرفاً أخضر سد أفق السماء فجلس عليه وجاوز سدرة المنتهى والرفرف البساط وهو صورة همته البسيطة العريضة المحيطة بالآفاق مطلقاً لأنه عليه السلام في سفر العالم البسيط ولا يصل إليه إلا من له علو الهمة مثله وقد قال حسان رضي الله عنه في نعته عليه السلام :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
له همم لا منتهى لكبارها
وهمته الصغرى أجل من الدهر
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 24 من صفحة 229 حتى صفحة 239
(9/188)
ورأى تلك الليلة طوائف الملائكة وسدرة المنتهى وجنة المأوى وما في الجنان لأهل الإيمان وما في النيران لأهل الطغيان والظلم والأنوار وما يعجز عنه الأفكار وتحار فيه الأبصار ومن ذلك ما رآه في السموات من الأنبياء عليهم السلام إشارة بكل نبي إلى أمر دقيق جليل وحالة شريفة قال الإمام أبو القاسم السهيلي رحمه الله في الروض الأنف والذي أقول في هذا أن مأخذ فهمه من علم التعبير فإنه من علم النبوة وأهل التعبير يقولون : من رأى نبياً بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي في شدة وإرخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث مثلاً من رأى آدم عليه السلام في مكان على حسنه وجماله وكان للولاية أهلاً ملك ملكاً عظيماً لقوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة ومن رأى نوحاً عليه السلام فإنه يعيش عيشاً طويلاف ويصيبه شدة وأذى من الناس ثم يظفر بهم ومن رأى إبراهيم عليه السلام فإنه يعق أباه ويرزق الحج وينصر على أعدائه ويناله هول وشدة من ملك جائز ثم ينصر ومن رأى يوسف عليه السلام فإنه يكذب عليه ويظلم ويناله شدة ويحبس ثم يملك ملكاً ويظفر ومن رأى موسى وهارون عليهما السلام فإن الله يهلك على يده جباراً عنيداً ومن رأى سليمان عليه السلام فإنه بلى القضاء أو الملك أو يرزق
229
الفقه ومن رأى عيسى عليه السلام فإنه يكون رجلاً مباركاً نفاعاً كثير الخير كثير السفر في رضى الله ومن رأى نبينا صلى الله عليه وسلّم وليس في رؤياه مكروه لم يزل خفيف الحال وإن رآه في أرض جدب أخصبت أو في أرض قوم مظلومين نصروا ومن رآه عليه السلام فإن كان مغموماً ذهب غمه وإن كان مديوناً قضى الله دينه وإن كان مغلوباً نصر وإن كان محبوساً أطلق وإن كان عبداً أعتق وإن كان غائباً رجع إلى أهله سالماً وإن كان معسراً أغناه الله وإن كان مريضاً شفاه الله تعالى وحديث الإسراء كان بمكة ومكة حرم الله وآمنه وقطانها جيران الله لأن فيها بيته فأول من رآه عليه السلام من الأنبياء كان آدم عليه السلام الذي كان في أمن الله وجواره فأخرجه إبليس عدوه منها وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي عليه السلام حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته وكربه ذلك وغمه فأشبهت قصته في هذا قصة آدم مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام وهما الممتحنان باليهود أما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله وأما يحيى عليه السلام فقتلوه ورسول الله عليه السلام بعد انتقاله إلى المدينة صار في حالة ثانية من الامتحان وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى منهم ثم سموه في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ون سفيها نراست اين كرا وكيا
لازم آمد يقتلون الأنبيا
ومما يؤثر عن سعيد ابن المسيب رحمه الله الدنيا بذلة تميل إلى الإبذال ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام وذلك أن يوسف ظفر بإخوته بعدما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال : لا تثريب عليكم اليوم الآية وكذلك نبينا عليه السلام أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلق ومنهم من فداه ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم : أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم ثم لقاؤه لادريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكاناً علياً وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذناً بحالة رابعة وهو علو شأن عليه السلام حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي عليه السلام ورأى ما رأى من خوف هرقل كسبحل وزبرج لقد أمر ابن أبي كبشة حين أصبح يخافه ملك ابن أبي الأصفر وكتب عليه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي بالتخفيف وملك عمان ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس سلطان مصر ومنهم من تعصى عليه فأظفره الله به فهذا مقام علي وخط بالقلم جلي نحوما أوتي إدريس ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن
230
(9/189)
بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزوة الشام وظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله عليه السلام تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً وافتتح مكة وأدخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ثم لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم عليه السلام لحكمتين إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسند أظهره إليه والبيت المعمور حيال الكعبة أي بإزائها ومقابلتها وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحج إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي عليه السلام حجه إلى البيت الحرام وحج معه ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة.
قال الإمام : إن هذه الآية تدل على أن محمداً عليه السلام لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات وفيه خلاف ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال في موضع آخر : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً إلى أن قال : لنريه من آياتنا ولو كان رآه لكان ذلك أعظم ما يمكن من الكرامة فكان حقه أن يختم به قصة المعراج انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : رؤية الآيات مشتملة على رؤية الله تعالى كما قال الشيخ الكبير رضي الله عنه في الفكوك إنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات فأما في المظاهر ومن وراء حجابية المراتب فالإدراك ممكن كما قيل :
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجهها
فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا
انتهى.
وأما اشتمال إراءة الآيات على إراءة الله تعالى فلما كانت تلك الآيات الملكوتية فوق الآيات الملكية أشهده تعالى في تلك المشاهد ليكمل له الرؤية في جميع المراتب والمشاهد ومن المحال أن يدعو كريم كريماً إلى داره ويضيف حبيب حبيباً في قصره ثم يتستر عنه ولا يريه وجهه.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن الله تعالى آيات كبرى وصغرى أما الآيات الكبرى فهي الصفات القديمة الأزلية المسماة عند القوم بالأئمة السبعة كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والآيات الصغرى هي الأسماء الإلهية التي قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى وإنما سميت الأولى بالكبرى والثانية بالصغرى لأن الصفات مصادر الأسماء مراجعها كما أن الحي يرجع في الوجود إلى الحياة والعليم إلى العلم والقادر إلى القدرة ولأن الأسماء مظاهر الصفات كما أن الحي يرجع في الوجود إلى الأفعال والأفعال مظاهر الأسماء والآثار مظاهر الأفعال وأما التخصيص بالكبرى دون الصغرى وإن كانت من آيات الله كما قال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى لأن شهود الآيات الكبرى يستلزم شهود الآيات الصغرى لأن الله تعالى إذا تجلى لعبده بصفة الحياة والعلم والقدرة لا بد للعبد أن يصير حياً بحياته عليماً بعلمه قديراً بقدرته تلخيص المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى سماء الجمعية الوحدانية وأدرج في نور الفردانية تجلى الحق سبحانه أولاً بصورة هذه الصفات الكبرى التي هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو
231
بحيث صارت حياته مادة حياة العالم كله علوياً وسفليه روحانيه وجسمانيه معدنيه ونباتيه وحيوانيه وإنسانيه كما قال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال : لولاك لما خلقت الأفلاك وقال عليه السلام : أنا من الله والمؤمنون مني وكذا صار علمه محيطاً لجميع المعلومات الغيبية الملكوتية كما جاء في حديث اختصام الملائكة إنه قال : فوضع كفه على كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت علم الأولين والآخرين وفي رواية علم ما كان وما سيكون وكذا قدرته كسر بها أعناق الجبابرة وضرب بالسيف رقاب الأكاسرة وخرب حيطانهم وحصونهم فما بقين ولا بقوا وببركة هذا التجلي الجمعي الكلي الإحاطي صار آدم بتبعيته وخلافته خليفة العالم كما أخبر في كتابه العزيز أني جاعل في الأرض خليفة وأسجد الله الملائكة لتلألؤ نوره والوحداني في وجه آدم هذا تحقيق قوله : لقد رأى من آيات ربه الكبرى اللام جواب القسم ومن مزيدة انتهى.
6
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/190)
وقال البقلي رحمه الله : أراه سبحانه من آياته العظام ما لا يقوم برؤيتها أحد سواه أي المصطفى عليه السلام وذلك بأن ألبسه قوة الجبارية الملكوتية كما قال : لقد رأى من ريات ربه الكبرى وذلك ببروز أنوار الصفات في الآيات وتلك الآيات لو رآها أحد لاستغرق في رؤيتها فكان من كمال استغراقه في بحر الذات والصفات لم يكبر عليه رؤية الآيات قال ابن عطاء : رأى الآيات فلم تكبر في عينه لكبر همته وعلو محله ولاتصاله بالكبير المتعال قال جعفر : شاهد من علامات المحبة ما كبر عن الاخبار عنها {أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاخْرَى} هي أصنام كانت لهم فاللات كانت لثقيف بالطائف أصله لوية فأسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين فبقيت لوة فقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت لاة فهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها وكانت على صورة آدمي قال سعدي المفتي : فإن قلت هذا يختص بقراءة الكسائي فإنه يقف على اللاة بالهاء وأما الباقون فيقفون عليها بالتاء فلا يجوز أن تكون من تلك المادة قلت : لا نسلم ذلك فإنهم إنما يقفون بهاء مراعاة لصورة الكتابة لا غير انتهى والعزى تأنيث الأعز كانت لغطفان وهي سمرة كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فقطعها وهو يقول : يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك فخرجت من أصلها شيطانة ناشرة شعرها واضعة يدها على رأسها وهي تولول فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها فأخبر رسول الله عليه السلام فقال : تلك لن تعبد أبداً فوي القاموس : العزى صنم أو سمرة عبدتها غطفان أول من اتخذها ظالم بن أسعد فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال بنى عليها بيتاً وسماه بسا وكانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة انتهى ومناة صخرة لهذيل وخزاعة سميت مناة لأن دماء المناسك تمنى عندها أي تراق ومنه منى وفي إنسان العيون مناة صنم كان للأوس والخزرج أرسل رسول الله عليه السلام سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه في عشرين فارساً إلى مناة ليهدم محلها فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد؟ ما تريد؟ قال : هدم مناة قال : أنت وذاك فأقبل سعد إلى ذلك الصنم فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل
232
(9/191)
تضرب صدرها فقال لها السادن : مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها وهدم محلها انتهى.
ووصف مناة بالثالثة تأكيداً لأنها لما عطفت عليهما علم أنها ثالثتهما والأخرى صفة ذم لها وهي المتأخرة الوضيعة المقدار أي مناة الحقيرة الذليلة لأن الأخرى تستعمل في الضعفاء كقوله تعالى : قالت أخراهم لأولاهم أي ضعفاؤهم لرؤسائهم قال ابن الشيخ : الأخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء وهو في الأصل من التأخر في الوجود نقل في الاستعمالل إلى المغايرة مع الاشتراك مع موصوفه فيما أثبت له ولا يصح حمل الأخرى في الآية على هذا المعنى العرفي إذ لا مشاركة لمناة في كونها مناة ثالثة حتى توصف بالأخرى احترازاً عنها فلذلك حمل على المعنى المذكور انتهى وقد جوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى فتكون مناة من التأخر الرتبي يعني أن العزى شجرة وهي لكونها من أقسام النبات أشرف من مناة التي هي صخرة وجماد فهي متأخرة عنها رتبة ويقال أن المشركين أرادوا أن يجعلوا لآلهتهم من الأسماء الحسنى فأرادوا أن يسمعوا واحداً منها الله فجرى على ألسنتهم اللات وأرادوا أن يسموا واحداً منها العزيز فجرى على ألسنتهم العزى وأرادوا أن يسموا واحداً منها المنان فجرى على ألسنتهم المناة وقال الراغب : أصل اللات اللاه فحذفوا منها الهاء وأدخلوا التاء فيه فأنثوه تنبيهاً على قصوره عن الله وجعلوه مختصاً بما يتقرب به إلى الله في زعمهم وقال السهيلي : أصل هذا الاسم أي اللات لرجل كان يلت السويق للحجاج بسمن وأقط إذا قدموا وكانت العرب تعظم ذلك الرجل بإطعامه في كل موسم فلما مات اتخذ مقعده الذي كان يلت فيه السويق منسكاً ثم سنح الأمر بهم إلا أن عبدوا تلك الصخرة التي كان يقعد عليها ومثلوها صنماً وسموها اللات أعني ملت السويق ذكر ذلك كثير ممن ألف في الاخبار والتفسير انتهى وهذا على قراءة من يشدد اللات أي التاء منه وقد قرأته أي بالتشديد ابن عباس وعكرمة وجماعة كما في القاموس ثم إنهم كانوا مع ما ذكر من عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة وتلك الأصنام بنات الله فقيل لهم توبيخاً وتبكيتاً : أفرأيتم والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله المنافية لها غاية المنافاة وهي قلبية ومفعولها الثاني محذوف لدلالة الحال عليه فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمار عظمة الله في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وأحكام قدرته ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات له تعالى قال بعضهم : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله وهذه الأصنام استوطنها جنيات هي بناته تعالى أو هذه الأصنام هياكل الملائكة التي هن بناته تعالى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يخاطب عبدة الأصنام صنم لات النفس وصنم عزى الهوى ومناة الدنيا الدنية الخسيسة الحقيرة الواقعة في أدنى المراتب لخسة وضعها ودناءة قدرها ويستفهم منهم إنكاراً لهم ورداً عليهم أخبروني عن حال آلهتكم التي اتخذتموها معبودات وتمكنتم على عبوديتها هل وجدتم فيها صفة من صفات الإلهية من الإيجاد والإعدام والنفع والضر وأمثالها لا والله بل اتخذتموها آلهة لغاية ظلوميتكم على أنفسكم ونهاية جهوليتكم بالإله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن
233
له كفؤاً أحد.
قال المغربي رحمه الله :
بود وجود مغربي لات ومنات أوبود
نيست بتى و بود او درهمه سو منات تو
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى} توبيخ مبني على التوبيخ الأول والمعنى بالفارسية آيا شمارا فرزندان نرباشند ومرخدايرا ماده {تِلْكَ} إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية {أَذِنَ} آنهنكام كه نين باشد {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي جائزة معوجة حيث جعلتم له تعالى ما تستنكفون منه وهي فعلي من الضيز وهو الجور يعني أن أصله ضيزى بضم الضاد من ضاز في الحكم يضيز ضيزاً أي جار وضازه حقه يضيزه أي بخسه ونقصه لكن كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في البيض فإن أصله بيض بضم الباء لأنه جمع أبيض كحمر في جمع أحمر وذلك لأن فعلي بالكسر لم يأت في الوصف وفيه إشارة إلى استنكار شركهم وتخصيصهم الشرك ببعض الظاهر دون بعض يعني أتخصصون ذكر الروح لكم وإن كان ميتاً باستيلاء ظلمة نفوسكم الظلمانية عليه وتجعلون أنثى النفس في عبوديتها واتباع مراداتها وانقياد أوامرها ونواهيها شركاً له تعالى الله عما يقول الظالمون الذين وضعوا الجور موضع العدل وبالعكس ما هذا إلا قسمة الجور والجائر لا قسمة العدل والعادل {إِنْ هِىَ} الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها أي باعتبار إطلاق اسم الإله {إِلا أَسْمَآءٌ} أي أسماء محضة ليس تحتها مسميات أي ما تنبىء هي عنه من معنى الألوهية شيء ما أصلاً كما إذا أردت أن تحقر من هو ملقب بما يشعر بالمدح وفخامة الشان تقول ما هو الاسم.
قال المولى الجامي :
مرد جاهل جاه كيتى را لقب دولت نهد
(9/192)
همنان آماس بيند طفل كويد فربهست
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وقال في ذم أبناء الزمان :
شكل ايشان شكل إنسان فعل شان فعل سباع
هم ذئبا في ثياب أو ثياب في ذئاب
ويجوز الحمل على الإدعاء {سَمَّيْتُمُوهَآ} صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعنى جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله إسماً للمسمى وإذا قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير ههنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق إن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعاً كما في قوله تعالى : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها لأن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية أي ما هي إلا أسماء خالية من المسميات وضعتموها {أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم} بمقتضى أهوائكم الباطلة {مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا} أي بصحة تسميتها {مِن سُلْطَـانٍ} برهان تتعلقون به جميع القرآن أنزل بالألف إلى في الأعراف فإنه نزل بالتشديد {إِن يَتَّبِعُونَ} التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها {إِلا الظَّنَّ} إلا توهم إن ما هم عليه حق توهماً باطلاً {وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} أي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء فما موصولة ويجوز كونها مصدرية والألف واللام بدل الإضافة وهو معطوف على الظن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يقول : ليست هذه الأصنام التي تعبدونها بضلالة
234
نفوسكم الدنية الشهوانية وجهالة عقولكم السخيفة الهيولانية إلا أسماء صور وهمية لا مسميات لها أوجدتها أوهامكم الضعيفة وأدركتها عقولكم المريضة المشوبة بالوهم والخيال التي هي بمرتبة آبائكم ليس لها عند أصحاب الطلب وأرباب الكشف والقرب وجود ولا نمو بل هي خشب مسندة ما جعل الله في تلك الأصنام النفسية والهوائية والدنيوية ولا ركب فيها التصرف في الأشياء في الإيجاد والإعدام والقهر واللطف والنفع والضر والأشياء علويها وسفليها جمادها ونباتها حيوانها وإنسانها كلها مظاهر الأسماء الإلهية ومجالي الصفات الربانية الجمالية والجلالية أي اللطيفة والقهرية تجلى الحق في الكل بحسب الكل لا بحسبه إلا الإنسان الكامل فإنه تجلى فيه بحسب الكلية المجموعية وصار خليفة الله في الأرض وأنتم أيها الجهلة الظلمة ما تتبعون تلك الصفات الإلهية وما تشهدون في الأشياء تلك الحقائق الروحانية والأسرار الربانية المودعة في كل حجر ومدر بل أعرضتم باتباع الهوات الحيوانية وملازمة الجسمانية الظلمانية عن إدراك تلك اللطائف الروحانية وشهود تلك العواطف الرحمانية واتبعتم مظنونات ظنكم الفاسد وموهومات وهمكم الكاسد وأثرتم هوى النفس المشؤومة على رضى الحق وذلك هو الخسران المبين وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً انتهى.
وقال الجنيد قدس سره : رأيت سبعين عارفاً قد هلكوا بالتوهم أي توهموا أنهم عرفوه تعالى فالكل معزولون عن إدراك حقيقة الحق وما أدركوا فهو أقدارهم وجل قدر الحق عن إدراكهم قال تعالى : وما قدروا الله حق قدره ولذلك اجترأ الواسطي رحمه الله في حق سلطان العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره بقوله : كلهم ماتوا على التوهم حتى أبو يزيد مات على التوهم وقال البقلي : يا عاقل احذر مما يغوي أهل الغرة بالله من الأشكال والمخاييل التي تبدو في غواشي أدمغتهم وهم يحسبون أنها مكاشفات الغيوب ونوادر القلوب ويدعون أنها عالم الملكوت وأنوار الجبروت وما يتبعون إلا أهواء نفوسهم ومخاييل شياطينهم التي تصور عندهم أشكالاً وتمثالاً ويزبنون لهم أنها الحق والحق منزه عن الأشكال والتمثال إياك يا صاحبي وصحبة الجاهلين الحق الذين يدعون في زماننا مشاهدة الله ومشاهدة الله حق للأولياء وليست بمكشوفة للأعداء {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} حال من فاعل يتبعون أو اعتراض وأياً ما كان ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس وزيادة تقبيح لحالهم فإن اتباعهما من أي شخص كان قبيح وممن هداه الله بإرسال الرسول وإنزال الكتاب أقبح فالهدى القرآن والرسول ولم يهتدوا بهما وفيه إشارة إلى إفساد استعدادهم الفطري الغير المجعول بواسطة تلبسهم بملابس الصفات الحيوانية العنصرية وانهماكهم في الغواشي الظلمانية الطبيعية فإنهم مع أن جاءهم من ربهم أسباب الهدى وموجباته وهو النبي عليه السلام والقرآن وسائر المعجزات الظاهرة والخوارق الباهرة الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته اشتغلوا بمتابعة النفس وموافقة الهوى وأعرضوا عن التوجه إلى الولي والمولى وذلك لأن هداهم ما اءهم إلا في يوم الدنيا لا في يوم الأزل ومن لم يجعل الله له نوراً في يوم الأزل فما له من نور إلى يوم الأبد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/193)
واعلم أن الهدى ضد الهوى فلا بد من المتابعة للهدى قال بعض الكبار : ليس لولي كرامة
235
إلا بحكم الإرث لمن ورثه من الأنبياء عليهم السلام ولذلك لم يقدر من هو وارث عيسى عليه السلام أن يمشي في الهواء والماء ومن هو وارث لمحمد عليه السلام له المشي على الهواء والماء لعموم مقامه وفي الحديث : لو ازداد عيسى يقيناً لمشي في الهواء أي بموجب قوة يقينية لا بموجب صدق اتباعي ولا نشك أن عيسى عليه السلام أقوى يقيناً من سائر الأولياء الذين يمشون في الهواء بما لا يتقارب فإنه من أولى العزم من الرسل فعلمنا قطعاً إن مشى الولي منا في الهواء إنما هو بحكم صدق التبعية لا بزيادة اليقين على يقين عيسى عليه السلام وعيسى أصدق في تبعيته لمحمد عليه السلام من جميع الأولياء فله القدرة بذلك على المشي على الهواء وإن ترك ذلك من نفسه وبالجملة فلا يمشي في الهواء إلا من ترك الهوى :
هوى وهوس را نماند ستيز
و بيند سر نه عقل تيز
{أَمْ لِلانسَـانِ مَا تَمَنَّى} أم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من بيان إن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى نفسهم إلى بيان إن ذلك مما لا يجدي نفعاً أصلاً والهمزة للإنكار والنفي والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل لكن لما كان أثره عن تمخمين صار الكذب له أملك فأكثر التمني تصوير ما لا حقيقة له والمعنى ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها التي لا تكاد تدخل تحت الوجود :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال الكاشفي : آياهست مر انسان را يعني كافررا آنه آرزو برداز شفاعت بتان يا آنكه كويد را نبوت بفلان وفلان ندادند.
وقيل : أم للإنسان ما اشتهى من طول الحياة وأن لا بعث ولا حشر وفي الآية إشارة إلى أن للإنسان استعداد الكمال وهو الفناء عن أنانيته والبقاء بهوية الله تعالى لكن بسبب اشتغاله باللذات الجسمانية والروحانية يحصل له في بعض الأوقات آفات العلائق الجسمانية وفترات العوائق الروحانية فيحرم من بلوغ مطلوبه ولا يتهيأ له كل ما تمناه إذ كل ميسر لما خلق له فمن خلق مظهر اللطف بيده اليمنى لا يقدر أن يجعل نفسه مظهر القهر ومن خلق مظهر القهر بيده اليسرى لا يمكن أن يجعل نفسه مظهر اللطف :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
وإنما تمنى لما ليس له مخلوقية على صورة من جمع الضدين بقوله : هو الأول والآخر والظاهر والباطن أي هو الأول في عين آخريته والظاهر في عين باطنيته وسئل الخراز قدس سره : بم عرفت الله؟ قال : بالجمع بين الضدين لأن الحقيقة متوحدة والتعين والظهور متعدد وتنافي التعينات لا يقدح في وحدة الهوية المطلقة كما أن تنافي الزوجية والفردية لا يقدح في العدد وتضاد السواد والبياض لا يقدح في اللون المطلق قال الحسين رحمه الله : الاختيار طلب الربوبية والتمني الخروج من العبودية وسبب عقوبة الله عباده ظفرهم بمنيتهم {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى} تعليل لانتقاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتماً فإن اختصاص أمور الآخرة والأولى جميعاً به
236
تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى قهرمانيه الحق تعالى على العالم كله ملكه الأخروي والدنيوي يعني لا يملك الإنسان شيئاً حتى يتمكن من تحصيل ما تتمناه نفسه بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى المقتضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة يهبه بالاسم الواهب لمن يشاء أن يكون مظهر لطفه وجماله وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى المستدعية لأسباب حصول الدنيا من حب الدنيا الدنية المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة وموافقة الطبيعة اللئيمة يجعله باسمه المقسط لمن يشاء أن يكون مظهر صفة قهره وجلاله ولا ذلك يزيد في ملكه ولا هذا ينقص من ملكه وكلتا يده الرحمن ملأى سحاء {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَـاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا} أقناط لهم مما علقوا به طماعهم من شفاعة الملائكة لهم موجب لأقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء والخبر هي الجملة المنفية وجمع الضمير في شفاعتهم مع أفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله شيئاً من الإغناء في وقت من الأوقات أي لا تنفع شيئاً من النفع وهو القليل منه أو شيئاً أي أحداً وليس المعنى أنهم يشفعون فلا تنفع شفاعتهم بل معناه أنهم لا يشفعون لأنه لا يؤذن لهم كما قال تعالى : {إِلا مِنا بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ} لهم في الشفاعة {لِمَن يَشَآءُ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/194)
أن يشفعون له {وَيَرْضَى} ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله بمعزل من الشفاعة بألف منزل فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام وفي الآية إشارة إلى أن ملك الروح يشفع في حق النفس الأمارة بالسوء رجاء الانسلاخ عن أوصافها الذميمة والترقي إلى مقام الفناء والبقاء ولكن لا تنفع شفاعته في حقها لعلمه القديم الأزلي بعدم استعدادها للترقي من مقامها اللهم إلا أن تقبل شفاعته في حق نفس رقيق الحجاب مستعد لقبول الفيض الإلهي لصفاء فطرته الأولى وبقاء قابليته الكبرى للترقي في المقامات العلية بالخروج من موافقة الطبع ومخالفة الشرع والدخول في موافقة الشريعة ومخالفة الطبيعة {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي {لَيُسَمُّونَ الملائكة} المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق أي كل يسمون كل واحد منهم {تَسْمِيَةَ الانثَى} منصوب على أنه صفة مصدر محذوف أي تسمية مثل تسمية الأنثى فإن قولهم الملائكة بنات الله قول منهم بأن كلاً منهم بنته سبحانه وهي التسمية بالأنثى فاللام في الملائكة للتعريف الاستغراقي وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجتري عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً قال ابن الشيخ فإن قيل كيف يصح أن يقال أنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوب الميت على قبره ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب بأنهما ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون : لا نحشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله عنهم وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وأيضاً ما كانوا يعترفون بالآخرة على وجه الذي
237
ورد به الرسل فهم لا يؤمنون بها على وجهها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
واعلم أن الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث وفي الحديث جبرائيل أتاني في أول ما أوحي إلى فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فلاج له لو تصور بصورة الإنسان دليل على أنه ليس ذكراً ولا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر وكآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج وبعضهم حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار {وَمَا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ} حال من فاعل يسمون أي يسمونهم والحال أنه لا علم لهم بما يقولون أصلاً {إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون في ذلك ليس بتكرار لأن الأول متصل بعبادتهم اللات والعزى ومناة والثاني بعبادتهم الملائكة {إِنَّ الظَّنَّ} الفاسد {وَإِنَّ الظَّنَّ} أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار {لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا} من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء لا يدرك إدراكاً معتبراً إلا بالعلم والظن لا اعتداد به في شأن المعارف الحقية وإٌّما يعتد به في العمليات وما يؤدي إليها كمسائل علم أصول الفقه وفيه ذم للظن ودلالة على عدم إيمان المقلد وقيل : الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظن مقام العلم وقيل الحق بمعنى العذاب أي إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب وحقيقة هذه الآية العزيزة تحريض السالكين والطالبين على السعي والاجتهاد في السير إلى الله بقطع المنازل السفلية وتصحيح المقامات العلوية إلى أن يصلوا إلى عين الجمع ويغرقوا في بحر التوحيد ويشهدوا الحائق والمعاني المجردة بنور الوحدة الحقيقة الذاتية الدافعة ظلمة الكثرة النسبية لأسماء الله تعالى ثم إن الافراد يتفاوتون في حضرة الشهود مع كونهم على بساط الحق الذي لا نقص فيه لأنهم إنما يشهدون في حقائقهم ولو شهدوا في عين الذات لتساووا في الفضيلة قال بعض الكبار : أصحاب الكشف الخيالي غلطهم أكثر من إصابتهم لأن الخيال واسع والذي يظهر فيه يحتمل التأويلات المختلفة فلا يقع القطع بما يحصل منه إلا بعلم آخر وراء ذلك وإنما كان الخيال بهذا الحكم لكونه ليست له حقيقة ونفسه بل هو أمر برزخي بين حقيقتين وهما المعاني المجردة والمحسوسات فلهذا يقع الغلط في الخيال لكونه ليست له حقيقة في نفسه وانظر إلى إشارته عليه السلام في الكشف الخيالي وكونه يقبل الإصابة والغلط لما أتاه جبرائيل بصورة عائشة رضي الله عنها في سرفة من حرير وقال له : هذه زوجتك فقال عليه السلام : إن يكن من عند الله يمضه بحلاف ما لو أتاه ذلك بطريق الوحي المعهود المحسوس له أو بطريق المعاني المجردة الموجبة لليقين وللعلم فإنه إذا لا يمكنه الجواب بمثل ذلك الجواب الذي يشعر بالتردد المحتمل الذي يقتضيه حضرة الخيال بحقيقتها :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
سيراب كن زبحر يقين جان تشنه را
(9/195)
زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} أي فاعرض يا محمد عن دعوة من أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني ولم يؤمن به وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكر لأمور الآخرة ولا تتهالك على إسلامه أو عن ذكرنا كما ينبغي فإن ذلك مستتبع لذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمهروب عنها {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} راضياً بها
238
قاصراً نظره على جمع حطامها وجلب منافعها فالمراد النهي عن دعوته والاعتناء بشأنه فإن من أعرض عما ذكر وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً وإصراراً على الباطل والنهي عن الدعوة لا يستلزم نهي الآية بآية القتال بل الإعراض عن الجواب والمناظرة شرط الجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها فالمعنى أعرض عنهم ولا تشتغل بإقامة الدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم واقطع دابرهم قال بعضهم : ضع وقته من اشتغل بموعظة طالبي الدنيا والراغبين فيها لأن أحداً لا يقبل على الدنيا إلا بعد الإعراض عن الله :
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 25 من صفحة 239 حتى صفحة 248
قال ابن الشيخ : اعلم أن النبي عليه السلام كالطبيب للقلوب فأمره الله تعالى في معالجة القلوب بما عليه الأطباء في معالجة المرضى فإن المرض إذا أمكن علاجه بالغذاء لا يستعملون في إزالته الدواء وإذا أمكن إزالته بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي والكي فلذلك أمر عليه السلام بالذكر الذي هو غذاء القلوب حيث قالوا : قولوا لا إله إلا الله فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فانتفع به بو بكر ومن كان مثله رضي الله عنهم : ومن لم ينتفع بالحمل على الذكر والأمر به ذكر لهم الدليل وقال : أولم يتفكروا قل : انظروا أفلا ينظرون فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال : اعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح فقوله : عمن توفى الخ إشارة إلى ما قلنا فإن التولي عن ذكره كناية عن ملزمه الذي هو ترك النظر في دلائل وجوده ووحدته وسائر صفاته وقوله : ولم يرد الخ إشارة إلى إنكارهم الحشر ومن لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف ولا يرجع عما هو عليه ترك النظر في دلائل الله لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه فلا يبقى في الدعاء فائدة فلم يبق إلا ترك المعالجة والمسارعة إلى المقاتلة انتهى كلامه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ثم اعلم أن كل ما يبعد البعد عن حضرة سيده فهو من الحياة الدنيا فمن قصد بالزهد والورع والتقى والكشف والكرامات وخوارق العادات قبول الناس والشهرة عندهم وحصول الجاه والمال فهو ممن لم يرد إلا الحياة الدنيا فضاع جميع أحواله وكسد جملة أقواله وأفعاله إذ لا ربح له عند الله ولا ثمرة :
زعمرو اى سر شم اجرت مدار
و درخانه زيد باشى بكار
ولا يغترن هذا بحصول بعض الكشوف وإقبال أهل الدنيا عليه فإنه ثمرة عاجلة له وماله في الآخرة من خلاق ألا ترى أن إبليس عبد الله تعالى تسعة آلاف سنة ثم لما كفر وقال : انظرني إلى يوم يبعثون أمهله الله تعالى فكانت تلك المهلة ثمرة عاجلة له في حياته الدنيوية {ذَالِكَ} أي أمر اردنيا وفي بحرالعلوم أي إرادة الدنيا وإيثارها على الآخرة وفي الإرشاد أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا {مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} لا يكادون يجاوزونه إلى غيره حتى يجديهم الدعوة والإرشاد كقوله تعالى : يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون فبلغ اسم مكان وجمع الضمير في مبلغهم باعتباره معنى من كما أن أفراده فيما سبق باعتبار لفظها والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد
239
والجملة اعتراض مقرر لقصر همتهم على الدنيا الدنية التي هي أبغض الخلق إلى الله تعالى بشهادة قوله عليه السلام : إن الله لم يخلق خلقاً هو أبغض إليه من الدنيا وما نظر إليها منذ خلقها بغضاً لها رواه أبو هريرة رضي الله عنه ومعنى هو أن الدنيا على الله سبحانه أنه تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسه بل جعلها طريقاً موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه ولذلك قال عليه السلام : الدنيا قنطرة فاعبروها لا تعمروها فما ورد من إباحة لعن الدنيا فباعتبار ما كان منها مبعداً عن الله تعالى وشاغلاً عنه كما قال بعض أهل الحقيقة : ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك ومشؤوم عليك وأما ما يقرب إلى الله ويعين إلى عبادته فممدوح كما قال عليه السلام : لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، إن العبد إذا قال : لعن الله الدنيا قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه.
وفي المثنوي :
يست دنيا از خدا غافل بدن
نى قماش ونقره وميزان وزن
مال را كزبهر دين باشى حمول
نعم مال صالح خواندش رسول
آب در كشتى هلاك كشتى است
(9/196)
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
آب اندر زير كشتى شتى است
ونكه مال وملك را ازدل براند
زان سليمان خويش جر مسكين نخواند
قال بعض الكبار : من ذم الدنيا فقد عق أمه لأن جميع الإنكاد والشرور التي ينسبها الناس إلى الدنيا ليس هو فعلها وإنما هو فعل أولادها لأن الشر فعل المكلف لا فعل الدنيا فهي مطية العبد عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر فهي تحب أن لا يشقى أحد من أولادها لأنها كثيرة الحنو عليهم وتخاف أن تأخذهم الضرة الأخرى على غير أهبة مع كونها ما ولدتهم ولا تعبث في تربيتهم فمن عقوق أولادها كونهم ينسبون جميع أفعال الخير إلى الآخرة ويقولون : أعمال الآخرة والحال أنهم ما عملوا تلك الأعمال إلا في الدنيا فللدنيا أجر المصيبة التي في أولادها ومن أولادها فما أنصف من ذمها بل هو جاهل بحق أمه ومن كان كذلك فهو بحق الآخرة أجهل انتهى.
واعلم أن الإرادة والنية واحد وهو قصد قلبي ينبعث إلى قلب الإنسان بالبعث الإلهي فهذا البعث الإلهي إن كان بالفجور على ما قال تعالى فألهمها فجورها وتقواها فهو من اسم المضل وقبضة الجلال ويد القهر وسادنه هو الشيطان وإن كان بالتقوء فهو من اسم الهادي وقبضة الجمال ويد اللطف وسادنه هو الملك والأول من عالم العدل والثاني من عالم الفضل وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ثم إن نية الإنسان لا تخلو إما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الدنيا فهو سيء نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه هو الآخرة وفي جنانه هو الدنيا فهو إسوة ني وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الآخرة فهو حسن نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو وجه الله فهو أحسن نية وعملاً فالأول حال الكفار والثاني حال المنافقين والثالث حال الأبرار والرابع حال المقربين وقد أشار الحق سبحانه وتعالى إلى أحوال المقربين عبارة وإلى أحوال غيرهم إشارة في قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً والمقربون قد فروا إلى الله من جميع ما في أرض الوجود ولم يلتفتوا إلى شيء سوى وجهه الكريم ولم يريدوا أمن المولى غير
240
المولى فكانوا أحسن نية وعملاً هذا صراط مستقيم اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} تعليل للأمر بالإعراض وتكرير قوله وهو أعلم لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين والمراد بمن ضل من أصر عليه ولم يرجع إلى الهدى أصلاً وبمن اهتدى من من شأنه الاهتداء في الجملة أي هو المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبداً وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره فلا تتعب نفسك في دعوتهم فإنه من القبيل الأول وفيه إشارة إلى النفس الكافرة ويهود صفاتها فإنهم لا يقبلون الدعوة لانتفاء استعدادهم لقبولها فمن كان مظهر القهر في الأزل لا يكون مظهر اللطف في الأبد وبالعكس وفي الحديث القدسي : "خلقت الجنة وخلقت لها أهلاً وخلقت الناس وخلقت لها أهلاً فطوبى لمن جعلته أهلاً للجنة وويل لمن جعلته أهلاً للنار" قال بعض الكبار : النفس لا تفعل الشر إلا لجاجة من القرين واللجاج ممن لا قدرة على منعه ومخالفته بمنزل الإكراه والمكره غير مؤاخذ بالشرع والعقل ولذا قال عليه السلام : الخير عادة والشر لجاجة فهو بشارة عظيمة من العالم بالأمور عليه السلام فإنه أخبر أن النفس خيرة بالذات لأن أباها الروح القدسي الطاهر وما نقبل الشر إلا لجاجة من القرين فلم يجعل عليه السلام الشر من ذاتها
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} أي خلقاً وملكاً لا لغيره أصلاً لا استقلالاً ولا اشتراكاً {لِيَجْزِىَ} الخ متعلق بما دل عليه أعلم الخ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله فإن كون الكل مخلوقاً له تعالى مما يقرر علمه تعالى بأحوالهم ألا يعلم من خلق كأنه قيل فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى ويحفظهما ليجزى {الَّذِينَ أساءوا} بد كردند {بِمَا عَمِلُوا} أي بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بياناً لحاله أو بسبب ما عملوا شبه نتيجة علمه بكل واحد من الفريقين وهي مجازاته على حسب حاله بعلته الغائبة فأدخل لام العلة عليها وصح بذلك تعلقها بقوله اعلم :
هين مراقب باش كرد بايدت
كزى هرفعل يزى زايدت
{وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} أي اهتدوا {بِالْحُسْنَى} أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة فالحسنى للزيادة المطلقة والباء لتعدية الجزاء أو بسبب أعمالهم الحسنى فالباء للسببية والمقابلة {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائرَ الاثْمِ} صفة للذين أحسنوا أو بدل منه لكن قال سعدي المفتي : لا حسن في جعل الذين الخ مقصوداً بالنسبة وجعل الذين أحسنوا في حكم المتروك ولو كان النظم على العكس لكان لها وجه انتهى.(9/197)
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : الاجتناب من باب التخلية بالمعجمة وهي أقدم فلذا جعلت مقصودة بالنسبة وصيغة الاستقبال في صلته دون صلة الموصوف أو المبدل منه للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره يعني للإشعار بأن ترك المعصية سوء كانت بارتكاب المحرمات أو بترك الواجبات ينبغي أن يستمر عليه المؤمن ويجعل الاجتناب عنها دأباً له وعادة حتى يستحق المثوبة الحسنى فإن من اجتنب عنها مرة وانهمك عليها في باقي الأزمان لا يستحقها بخلاف الحسنات المتطوع بها فإن من أتى بها ولو مرة يؤجر عليها وكبائر
241
الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه كالشرك والزنى مطلقاً خصوصاً بحليلة جاره وقتل النفس مطلقاً لا سيما الأولاد وهي الموؤودة وقال ابن جبير : هي ما لا يستغفر منه لقوله عليه السلام : لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وفي الحديث : إياكم والمحقرات من الذنوب قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي إلى سبعين أقرب وتمام التفصيل سبق في حمعسق في نظر الآية {وَالْفَوَاحِشَ} وما فحش من الكبائر خصوصاً الزنى والقتل بغير حق وغيرهما فهو من قبيل التخصيص بعد التعميم قال الراغب : الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال {إِلا اللَّمَمَ} اللمم مقاربة المعصية ويعبر به عن الصغيرة من قولك الممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وألم الغلام قارب البلوغ والاستثناء منقطع لأن المراد باللمم الصغائر وهي لا تدخل في الكبائر والمعنى إلا ما قل وصغر فإنه مغفور ممن يجتنب الكبائر يعني أن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر قال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات وقال : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقيل : هي النظر بلا تعمد فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو مذنب والغمزة والقبلة كما روى أن نبهان التمار أتته امرأة لتشتري التمر فقال لها : ادخلي الحانوت فعانقها وقبلها فقالت المرأة : خنت أخاك ولم تصب حاجتك فندم وذهب إلى رسول الله عليه السلام فنزلت وقيل : هي الخطرة من الذنب أي ما خطره من الذنب على القلب بلا عزم.
وازقوت بفعل نيايد.
وقيل : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً ولا عذاباً وقال بعضهم : اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له عادة ولا إقامة عليه قال محمد بن الحنفية : كل ما هممت به من خير وشر فهو لمم دليله قوله عليه السلام : إن للشيطان وللملك لمة فلمة الشيطان الوسوسة ولمة الملك الإلهام وقال ابن عباس رضي الله عنهما معناه إلا أن يلمم بالفاحشة مرة ثم يتوب ولم يثبت عليها فإن الله يقبل توبته ويؤيده قوله عليه السلام أن تغفر اللهم فاغفر جما واي عبد لك لا الماً فالاستثناء على هذا متصل وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما نقله أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى فزنى العينين النظر وزنى الشفتين القبلة وزنى اليدين البطش وزنى الرجلين المشي والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه فإن تقدم فرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم وفي الأسئلة المقحمة الذنوب كلها كبائر على الحقيقة لأن الكل تتضمن مخالفة أمر الله تعالى لكن بعضها أكبر من بعض عند الإضافة ولا كبيرة أعظم من الشرك وأما اللمم فهو من جملة الكبائر والفواحش أيضاً إلا أن الله تعالى أراد باللمم الفاحشة التي يتوب عنها مرتكبها ومجترحها وهو قول مجاهد والحسن وجماعة من الصحابة منهم أبو هريرة رضي الله عنه
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر فالجملة تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه من حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية.
وفي التأويلات النجمية : كبائر الإثم ثلاث مراتب : محبة النفس الأمارة بالسوء ومحبة لهوى النافخ في نيران
242
(9/198)
النفس ومحبة الدنيا التي هي رأس كل خطيئة ولكل واحدة من هذه المحبات الثلاث فاحشة لازمة غير منفكة عنها أما فاحشة محبة النفس الأمارة بالسوء فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة وأما فاحشة محبة الهوى فحب الدنيا وشهواتها وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله والإقبال على ما سواه قوله إلا اللمم أي الميل اليسير إلى النفس والهوى والدنيا بحسب الضرورة البشرية من استراحة البدن ونيل قليل من حظوظ الدنيا بحسب الحقوق لا بحسب الحظوظ فإن مباشر الحقوق مغفور ومبادر الحظوظ مغرور كما قال : إن ربك واسع المغفرة ومن سعة غفرانه ستر ظلمة الوجود المجازي بنور الوجود الحقيقي بالفناء عن ناسوتيته والبقاء بلا هويته انتهى.
قال بعض الكبار : من استرقه الكون بحكم مشروع كالسعي في مصالح العباد والشكر لأحد من المخلوقين من جهة نعمة أسداها إليه فهو لم يبرح عن عبوديتهتعالى لأنه في أداء واجب أوجبه الحق عليه وأما تعبد العبد فمخلوق عن أمر الله لا يقدح في العبودية بخلاف من استرقه الكون لغرض نفسي ليس للحق فيه رائحة أمر فإن ذلك يقدح في عبوديتهتعالى ويجب عليه الرجوع إلى الحق تعالى وقال بعض العارفين : من المحال أن يأتي مؤمن معصية توعد الله عليها بالعقوبة فيفزع منها إلا ويجد في نفسه الندم على وقوعها منه وقد قال صلى الله عليه وسلّم الندم توبة وقد قام بهذا المؤمن الندم فهو تائب بلا شك فسقط حكم الوعيد لهذا الندم فإنه لا بد للمؤمن أن يكره المخالفة ولا يرضى بها فهو من كونه كارهاً لها ومؤمناً بأنها معصية ذو عمل صالح وهو من كونه فاعلاً لها ذو عمل سيء فهو من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وقد قال تعالى فيهم عسى الله أن يتوب عليهم يعني ليتوبا والله غفور رحيم انتهى فعلى العاقل أن يندم على المعاصي الواقعة منه ولا يغتر بالرب الكريم وإن كان الله واسع المغفرة فإنه تعالى أيضاً شديد البطش والأخذ نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة {هُوَ} تعالى {أَعْلَمُ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
منكم {بِكُمْ} أي بأحوالكم يعلمها {إِذْ أَنشَأَكُم} أي خلقكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام {مِّنَ الأرْضِ} إنشاء إجمالياً {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} ووقت كونكم أجنة {فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ} على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسطة لأصابكم وباله وضروره والأجنة جمع جننين مثل أسرة وسرير والجنين الولد ما دام في البطن وهو فعيل بمعنى مفعول أي مدفون مستتر والجنين الدفين في الشيء المستتر فيه من جنه إذا ستره وإذا خرج من بطن أمه لا يسمى إلا ولداً أو سقطاً وفي الأشباه هو جنين ما دام في بطن أمه فإذا انفصل ذكراً فصبي ويسمى رجلاً كما في آية الميراث إلى البلوغ فغلام إلى تسعة عشر فشاب إلى أربعة وثلاثين فكهل إلى أحد وخمسين فشيخ إلى آخر عمره هذا في اللغة وفي الشرع يسمى غلاماً إلى البلوغ وبعده شاباً وفتى إلى ثلاثين فكهل إلى خمسين فشيخ وتمامه في إيمان البزازية فإن قيل الجنين إذا كان إسماً له ما دام في البطن فما فائدة قوله تعالى في بطون أمهاتكم قلنا فائدته المبالغة في بيان كمال علمه وقدرته فإن بطون الأمهات في غاية الظلمة ومن علم حال الجنين فيها لا يخفى عليه
243
شيء من أحواله {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} الفاء لترتيب الهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا عليها بالطهارة من المعصية بالكلية أو بما يستلزمها من زكاء العمل ونماء الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته وبالفارسية س ستايش مكنيد نفسهاى خودرا به بى كناهى وبسيارى خير وخوبى اوصاف.
وقال الحسن رحمه الله : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تزككوا أنفسكم ولا تطهروها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال لأن كل واحد من التخلية والتحلية إنما يعتد به إذا كان خالصاًتعالى وإذا كان هو أعلم بأحوالكم منكم فأي حاجة إلى التزكية :
همان به كر آبستن كوهرى
كه همون صدف سر بخود در برى
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود فاش كردد ببوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
منه آب زر جان من برشيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
(9/199)
وأما من زكاه الغير ومدحه فقد ورد فيه (احثوا في وجه المداحين) أي الذين يمدحون بما ليس في الممدوح {التُّرَابِ} على حقيقته أو هو مجاز عن ردهم عن المدح لئلا يغتر الممدوح فيتجبر وقيل : المراد به أن لا يعطوهم شيئاً لمدحهم أو معناه الأمر بدفع المال إليهم لينقطع لسانهم ولا يشتغلوا بالهجو وفيه إشارة إلى أن المال حقير في الواقع كالتراب قال ابو الليث في تفسيره : المدح على ثلاثة أوجه : الأول أن يمدحه في وجهه فهو الذي نهى عنه والثاني أن يمدحه بغير حضرة ويعلم أنه يبلغه فهذا أيضاً ينهى عنه ومدح يمدحه في حال غيبته وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ومدح يمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا انتهى.
وفي المثنوي :
خلق ما در صورت خود كرد حق
وصف ما از وصف او كيرد سبق
ونكه آن خلاق شكر وحمد جوست
آدمي را مدح جويى نيز خوست
خاصه مرد حق كه در فضلست ست
رشود زان باد ون خيك درست
ورنه باشد اهل زان باد دروغ
خيك بدريدست كى كيرد فروغ
وأما المدح بعد الموت فلا بأس به إذا لم يجاوز الحد كالروافض في مدح أهل البيت {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} المعاصي جميعاً وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر تأن فيهم من يتقيها بأسرها وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت وهذا إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء فأما من اعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة من الله تعالى وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم فإن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير به إلى أن علم الإنسان بنفسه علم إجمالي وعلمه تعالى به تفصيلي والعلم التفصيلي أكمل وأشمل من العلم الإجمالي وأيضاً علم الإنسان بنفسه علم مقيد بقواه البشرية وهو متناه بحسب تناهي قواه البشرية وعلمه تعالى به علم مطلق إذ علمه عين ذاته في مقام الواحدية غير ذاته في مقام الواحدية والعلم المطلق أحوط وأجمع من العلم المقيد وأيضاً الإنسان مخلوق على صورة الله كما قال عليه السلام : إن الله خلق آدم على صورته وفي رواية أخرى على صورة
244
الرحمن والله تعالى عالم بصورته المنزهة عن الشكل المقدسة عن الهيئة والإنسان غير عالم بها على كيفية علم الله إذ لا يعلم الله إلا الله كما قال وما قدروا الله حق قدره اللهم إلا أن يفنى عن علمه المقيد ويبقى بعلمه المطلق هذا هو تحقيق أعلمية الحق تعالى وقوله وهو أعلم بمن اتقى أي بمن اتقى بالله عما سواء بحيث جعل الله تعالى وقاية نفسه لينسب كل ما يصدر عنه من العلم والعمل إليه فإنه هو المؤثر في الوجود ومنه كل فيض وفضل وخير وجود {أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى} أي أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه وبالفارسية آيا ديدى آن كسى راكه از برىء حق روى بكردانيد {وَأَعْطَى قَلِيلا} أي شيئاً قليلاً من ماله وأعطاه قليلاً وبالفارسية وبداداندكى ازمال خود براى رشوت تحمل عذاب ازو {وَأَكْدَى} أي قطع عطيته وأمسك بخلاً من قولهم أكدى الحافر أي حافر البئر إذا بلغ الكدية أي الصلابة كالصخرة فلا يمكنه أن يحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه ولم يتممه ولم يبلغ آخره وفي القاموس أكدى بخل أو قل خيره أو قلل عطاءه وفي تاج المصادر قوله تعالى : واكدى أي قطع القليل قالوا : نزلت في الوليد بن المغيرة كان يتبع رسول الله عليه السلام يعني درى حضرت رسالت ميرفت واستماع كلام وى ميكند در مجلس او.
وطمع النبي عليه السلام في إسلامه فعيره بعض المشركين وعاتبه وقال له : تركت دين الأشياخ وضللتم فقال : أخشى عذاب الله فضمن أن يتحمل عنه العذاب وكل شيء يخافه في الآخرة إن أعطاه بعض ماله فارتد وتولى عن الوعظ واستماع الكلام النبوي وأعطاه بعض المشروط وبخل بالباقي فالذم آيل إلى سبب القطع وهو البخل فلا يتوهم أن الآية مسوقة لذم فعل المتولي وقطع العطاء عن المتحمل المذكور ليس بمذموم.
وقال الكاشفي : واكدى وبازداشت باقى را س جهل وبخل بايكديكر جمع كرد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/200)
يقول الفقير : الظاهر أن الآية مسوقة لذم التولي وسوء الاعتقاد في نفع التحمل يوم القيامة كما دلت عليه الآية الآتية وقوله : وأعطى قليلاً وأكدى مجرد بيان الحال المتولى والمعطى فيما جرى بينه وبين المتحمل لاذم لبخله في ذلك لكن لا يخلو عن التهكم حيث أنه بخل فيما اعتقد نفعه وقال مقاتل : انفق الوليد على أصحاب محمد عليه السلام نفقة قليلة ثم انتهى عن ذلك انتهى ولا يخفى أنه ليس لهذا المعنى ارتباط بما بعد من الآيات وفيه إشارة إلى السالك المنقطع في أثناء السلوك الراجع من السير إلى الله إلى نفسه البشرية واستيفاء لذاتها الحيوانية بسبب سآمته المشؤومة من المجاهدات البدنية والرياضات النفسانية بعد أن صرف في طريق السير والسلوك فلساً من رأس مالك عمره ثم بخل به وقطعه عن الصرف في طريق السعي والاجتهاد في الله وصرف بقية رأس مال عمره في تحصيل لذات النفس الحيوانية البشرية واستفاء شهواتها وحب الدنيا الدنية الخسيسة وهذا كله لعدم استعداده للوصول والوصال نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن النكرة بعد المعرفة :
اندرين ره مى تراش ومى خراش
تادم آخر دمى فارغ مباني
{أَعِندَهُ} آيا نزديك اوست {عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} الفاء للسببية والرؤية قلبية أي أعنده علم بالأمور الغيبية التي من جملتها تحمل صاحبه عنه يوم القيامة فهو يعلم أن صاحبه
245
يتحمل عنه قال ابن الشيخ : أرأت بمعنى أخبرت وأعنده علم الغيب مفعوله الثاني أي أخبرت أن هذا المعطى المكدي هل عنده علم ما غاب عنه من أحوال الآخرة فهو يعلم أن صاحبه يتحمل أوزاره على أن قوله يرى بمعنى يعلم حذف مفعولاه لدلالة المقام عليهما {أَمْ} أهو جاهل {لَمْ يُنَبَّأْ} لم يخبر {بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى} أي أسفار التوراة قال الراغب : الصحيفة المبسوطة من كل شيء كصحيفة الوجه والصحيفة التي كان يكتب فيها وجمعها صحائف وصحف والمصحف ما جعل جامعاً للصحف المكتوبة وقال القهستاتي : المصحف مثلث الميم ما جمع فيه قرآن والصحف {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى} عطف على موسى أي وبما في صحف ابراهيم الذي وفي أي وفر وأتم ما ابتلى به من الكلمات كما مر في سورة البقرة أو أمر به من غير إخلال وإهمال يقال : أوفاه حقه ووفاه بمعنى أي أعطاه تاماً وافياً ويجوز أن يكون التشديد فيه للتكثير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله أي بالغ في الوفاء بما عاهد الله وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمل غيره بالصبر على نار نمرود حتى أنه أتاه جبريل حين ألقى في النار فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا وعلى ذبح الولد وعلى الهجرة وعلى ترك أهله وولده في واد غير ذي زرع ويروى أنه كان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وجده أكرمه وإلا نوى الصوم ونعم ما قيل وفى ببذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان وماله للإخوان وعن النبي عليه السلام وفي عمل كل يوم بأربع ركعات وهي صلاة الضحى وفي الحديث القدسي : (ابن آدم أركع إلى أربع ركعات من أرول النهار أكفك آخره) وروى إلا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى كان يقول : إذا أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيتين ذكره أحمد في مسنده الآيات الثلاث في عين المعاني وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله كم من كتاب أنمل الله؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على آدم عشر صحائف وعلى شيت خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت : يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال : كانت أمثالاً منها أيها الملك المبتلي المغرور إني لم أبعثك فتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك كيلا ترد دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كان من كافر وكان فيها أمثال منها وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه ويفكر في صنع الله وساعة يحاسب نفسه فيما قدم وأخر وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلول في المطعم والمشرب وغيرهما وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ويأتي ما نقل من صحف موسى في آخر سورة سبح اسم ربك الأعلى كذا في فتح الرحمن وتقديم موسى لما أن صحفه التي هي التوراة أشهر عندهم وأكثر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : وأيضاً هو من باب الترقي من الأقرب إلى الأبعد لكون الأقرب أعرف وأيضاً أن موسى صاحب كتاب حقيقة بخلاف إبراهيم {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أصله أن لا تزر على أن أن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن هو
246
(9/201)
اسمها محذوف والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ما في صحفهما فقيل : هو أنه أي الشأن لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى من حيث تتعرى منه المحمول عنها ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني من عقابه فابمراد بالوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت ثقلاً وإلا فكان المقام أن يقال لا تحمل فارغة وزر أخرى إذ لا تحمل مثقلة بوزرها غير الذي عليها وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم ولا يقدح في ذلك قوله تعالى كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً إذ ليس المعنى أن عليه إثم مباشرة سائر القاتلين بل المعنى أن عليه فوق إثم مباشرته للقتل المحظور إثم دلالته وسببيته لقتل هؤلاء وهما ليستا إلا من أوزاره فهو لا يحمل إلا وزر نفسه وكذا قوله عليه السلام : من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى} إن مخففة من الثقيلة كأختها معطوفة عليها وللإنسان خبر ليس وإلا ما سعى اسمها مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والسعي المشي الذريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً والمعنى وأنه أي الشأن ليس للإنسان في الآخرة إلا سعيه في الدنيا من العمل والنية أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله فهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره من حيث جلب النفع أثر بيان عدم انتفاعه من حيث دفع الضرر عنه وظاهر الآية يدل على أنه لا ينفع أحداً عمل أحد واختلفوا في تأويلها فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عدم إثابة الإنسان بسعي غيره وفعله وهذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى : ألحقنا بهم ذريتهم فيدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء ويجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ويشفع الله الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء يدل على ذلك قوله تعالى : آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً قال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي أن امرأة رفعت صبياً لها من محفة وقالت : يا رسول الله ألهذا حج؟ قال : نعم ولك أجر وقال رجل للنبي عليه السلام : إن أمي افتلتت نفسها أي ماتت فجأة فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : نعم وقال الربيع بن أنس وإن ليس للإنسان إلا ما سعى يعني الكافر وأما المؤمن فعله ما سعى وما سعى له غيره وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ويشهد له أن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ـ روي ـ أن عائشة رضي الله عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه بعد موته وأعتقت عنه وقال سعد للنبي عليه السلام : إن أمي توفيت أفأتصدق عنها : قال : نعم قال : فأي الصدقة أفضل؟ قال : سقي الماء فحفر بئراً وجعلها في سبيل الله وقال القرطبي في تذكرته : ويحتمل أن يكون قوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى خالصاً في السيئة بدليل قوله عليه السلام : قال الله : إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها عشراً إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة
247
(9/202)
والقرآن دال على هذا قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذا ونحوه تفضل من الله وطريق العدل وأن ليس للإنسان إلا ما سعى إلا أن الله يتفضل عليه بما لم يجب له كما أن زيادة الأضعاف فضل منه كتب لهم بالحسنة الواحدة عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة وقد تفضل الله على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل والحاصل ما كان من السعي فمن طريق العدل والمجازاة وما كان من غير السعي فمن طريق الفضل والتضعيف فكرامة الله تعالى أوسع وأعظم من ذلك فإنه يضاعف الحسنات ويتجاوز عن السيئات فمرتبة النفس والطبيعة وكذا الشريعة والطريقة من الطريق الأولى ومرتبة الروح والسر وكذا المعرفة والحقيقة من الطريقة الثانية قال في الأسئلة المقحمة أشارت الآية إلى أصل النجاة المعهودة في حكم الشريعة فإن النجاة الأصلية الموعودة في الكتاب والسنة بالعمل الصالح وهي النجاة بشرط المجازاة والمكافأة فأما التي هي من غير طريق المجازاة والمكافأة فهي بطريق تفضل الله وبطوله وعميم رحمته وكريم لطفع وقد فسرها رسول الله عليه السلام حيث قال : ادخلت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها للمؤمنين المتقين لا ولكنها للخطائين الملوثين وبيان الكتاب إلى الرسول عليه السلام وسمعت الإمام أبا بكر الفارسي بسرقند يقول : سمعت الأستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني يقول : إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان قال للحسن بن الفضل البجلي : أشكلت على ثلاث آيات : أريد أن تكشف عني وتشفي العليل أولاها قوله تعالى في قصة ابن آدم فأصبح من النادمين وصح الخبر بأن الندم توبة ولم يكن هذا الندم توبة في حق قابيل وثانيتها قوله تعالى : كل يوم هو في شأن وصح الخبر بأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وثالثتها قوله تعالى : أضعافاً مضاعفة فأجابه وقال : أما الآية الأولى فالندم لم يكن توبة في شريعة من الشرائع وإنما صار توبة في شريعة محمد عليه السلام تخصيصاً له على أن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل وإنما كان على حمله حين حمله على عاتقه أياً ما فلم يعلم ماذا يعمل به لأنه كان أول قتل حتى بعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه وأما الآية الثانية فإن الشأن المذكور فيها ما هو التقدير بطريق الابتداء وإنما هو سوق المقادير إلى المواقيت وأما الآية الثالثة فهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل والمجازاة وله أن يجزيه بواحدة عشراً وأشعافاً مضاعفة بطريق الفضل والطول لا على سبيل العدل والجزاء فقام عليه السلام بن طاهر وقبل رأسه وسوغ خراجه وكان خمسين ألف درهم وقد ذكر الخرائطي في كتاب الثبور قال سنة في الأنصار إذا حملوا الميت أن يقرأوا معه سورة البقرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : فيه دليل على سنية الذكر عند حمل الجنازة لأن الذكر من القرآن ولذا كان على الذاكر أن ينوي التلاوة والذكر معاً حتى يثاب بثواب التلاوة فحيث سن القرآن سن الذكر المأخوذ منه ولقد أحسن من قال في أبيات :
زر والديك وقف على قبريهما
فكأنني بك قد حملت إليهما
إلى قال في آخرها :
وقرأت من آي الكتاب بقدر ما
تسطيعه وبعثت ذاك إليهما
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 26 من صفحة 248 حتى صفحة 258
قال الشيخ تقي الدين ابو العباس : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع
248
(9/203)
وذلك باطل من وجوه كثيرة أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
والثاني : أن النبي عليه السلام يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها ولأهل الكبائر في الإخراج من النار وهذا الانتفاع بسعي الغير والثالث أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير والرابع أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير والخامس أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم والسادس أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير وكذا الميت بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل غيره وأن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وكذا تبرأ ذمة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض كما قال الشافعي : إذا أنا مت فليغسلني فلان أي من الدين وذلك انتفاع بعمل الغير وكذا من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وأن الجار الصالح ينتفع بجواره في الحياة والممات كما جاء في الأثر وأن جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس معهم لذلك بل لحاجة أخرى والأعمال بالنيات وكذا الصلاة على الميت والدعاء له فيها ينتفع بها الميت مع أن جميع ذلك انتفاع بعمل الغير ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى والآيات الدالة على مضاعفة الثواب كثيرة أيضاف فلا بد من توجيه قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فإنه لاشتماله على النفس والاستثناء يدل على أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمل نفسه ولا يجزى على عمله ألا يقدر سعيه ولا يزداد وهو يخالف الأقوال الواردة في انتفاعه بعمل غيره وفي مضاعفة ثواب أعماله ولا يصح أن يؤول بما يخالف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة فأجابوا عنه بوجوه : منها أنه منسوخ ومنها أنه في حق الكافر ومنها أنه بالنسبة إلى العدل لا الفضل وقد ذكرت ومنها أن الإنسان إنما ينتفع بعمل غيره إذا نوى الغير أن يعمل له حيث صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكان سعي الغير بذلك كأنه سعيه وأيضاً إن سعى الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي الغير تابعاً لسعيه فكأنه سعى بنفسه فإن علقة الإيمان وصلة وقرابة كما قال عليه السلام مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وقال عليه السلام : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه فإذا سعى أحد في الإيمان والعمل الصالح فكأنه سعى بتأييد عضو أخيه وسد ثلمته فكان سعيه سعيه والحاصل أنه لما كان مناط منفعة كل ما ذكر من الفوائد عمله الذي هو الإيمان والصالح ولم يكن لشيء منه نفع ما بدونهما جعل النافع نفس عمله وإن كان بانضمام غيره إليه وفي أول باب الحج عن الغير من الهداية الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة وفي فتح الرحمن واختلف الأئمة فيما يفعل من القرب كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة ويهدي ثوابه للميثت المسلم فقال أبو حنيفة وأحمد يصل ذلك إليه ويحصل له نفعه بكرم الله ورحمته وقال مالك والشافعي : يجوز ذلك في الصدقة والعبادة
249
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
المالية وفي الحج وأما غير ذلك من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره لا يجوز ويكون ثوابه لفاعله وعند المعتزلة ليس للإنسان جعل ثواب عمله مطلقاً لغيره ولا يصل إليه ولا ينفعه لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولأن الثواب الجنة وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً عن غيره واختلفوا فيمن مات قبل أن يحج فقال أبو حنيفة ومالك يسقط عنه الحج بالموت ولا يلزم الحج عنه إلا أن يوصى بذلك وقال الشافعي واحمد لا يسقط عنه ويلزم الحج عنه من رأس ماله واختلفوا فيمن لم يحج عن نفسه هل يصح أن يحج عن غيره فقال أبو حنيفة ومالك يصح ويجزي عن الغير مع الكراهة وقال الشافعي وأحمد : لا يصح ولو فعل وقع عن نفسه وأما الصلاة فهي عبادة بدنية لا تصح فيها النيابة بمال ولا بدن بالاتفاق وعند أبي حنيفة إذا مات وعليه صلوات يعطي لكل صلاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير أو قيمة ذلك فدية تصرف للمساكين وليس للمدفوع إليه عدد مخصوص فيجوز أن يدفع لمسكين واحد الفدية عن عدة صلوات ولا يجوز أن تدفع فدية صلاة لأكثر من مسكين ثم لا بد من الإيصاء بذلك فلو تبرع الورثة بذلك جاز من غير لزوم وذلك عند أبي حنيفة خلافاً للثلاثة.
ـ وروي ـ أن رجلاً سأل النبي عليه السلام فقال : كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف أبرهما بعد موتهما؟ فقال : إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه وهذا الحديث حجة لأبي حنيفة في تجويزه جعل العبادة البدنية أيضاً لغيره خلافاً للشافعي كما مر.
(9/204)
ـ وروي ـ أيضاً من مر على المقابر قرأ قل هو الله أحد عشر مرات ثم وهب أجرها للأموات أعطى من الأجر بعدد الأموات.
رواه الدارقطني عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً فهذا أيضاً حجة له في تجويزه جعل ثواب التلاوة للغير خلافاً للشافعي.
ـ وروي ـ عن النبي عليه السلام أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته المؤمنين متفق عليه أي جعل ثوابه لها وهذا تعليم منه عليه السلام بأن الإنسان ينفعه عمل غيره والاقتداء به عليه السلام هو الاستمسال بالعروة الوثقى وكذا قال الحسن البصري رحمه الله : رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكبشين وقال : إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه وكان الشيخ الفقير القاضي الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام يفتي بأنه لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويحتج بقوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلما توفى رآه بعض أصحابه ممن يجالسه وسأله عن ذلك وقال له : إنك كنت تقول : لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويهدى إليه فكيف الأمر فقال له : كنت أقول ذلك في دار الدنيا والآن قد رجعت عنه لما رأيت من كرم الله في ذلك أنه يصل إليه ذلك وقد قيل : إن ثواب القرآن للقارىء وللميت ثواب الاستماع ولذلك تلحقه الرحمة قال الله تعالى : وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون قال القرطبي : ولا يبعد من كرم الله أن يلحقه ثواب القرآن والاستماع جميعاً ويلحقه ثواب ما يهدي من قراءة القرآن وأن لم يسمعه كالصدقة والاستغفار ولأن القرآن دعاء واستغفار وتضرع وابتهال وما تقرب التقربون إلى الله بمثل
250
القرآن انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : فيه حجة على أن أنكر من أهل عصرنا جهر آية الكرسي أعقاب الصلوات وأوجب إخفاءها وتلاوتها لكل واحد من الجماعة وذلك لأن استماع القرآن أثوب من تلاوته فإذا قرأ المؤذن واستمع الحاضرون كانوا كأنهم قرأوا جميعاً وإذا جاز وصول ثواب القراءة والاستماع جميعاً إلى الميت فما ظنك بالحي أصلحنا الله وإياكم.
(9/205)
ـ وروي ـ أن بعض النساء توفيت فرأتها في المنام امرأة كانت تعرفها وإذا عندها تحت السرير آنية من نور مغطاة فسألتها ما في هذه الأوعية فقالت : فيها هدية أهداها إلى أبو أولادي البارحة فلما استيقظت المرأة ذكرت ذلك لزوج الميتة فقال : قرأت البارحة شيئاً من القرآن وأهديته إليها وفي الحديث إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له قال القرطبي : القراءة في معنى الدعاء وذلك صدقة من الولد ومن الصاحب والصديق والمؤمنين قال ابن الملك في شرح الحديث : "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله" أي تجدد الثواب له "إلا من ثلاث صدقة جارية" كالأوقاف "أو علم ينتفع به" قيل هو الأحكام المستنبطة من النصوص والظاهر أنه عام متناول ما خلفه من تصنيف أو تعليم في العلوم الشرعية وما يحتاج إليه في تعلمها قيد العلم بالمنتفع به لأن ما لا ينتفع به لا يثمر أجراً "أو ولد صالح يدعو له" قيد بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره وأما الوزر فلا يلتحق بالأب من سيئة ولده إذا كانت نيته في تحصيل الخير وإنما ذكر الدعاء له تحريضاً للولد لأن الأجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملاً صالحاً سواء دعا لأبيه أو لا كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب سواء دعا له من أكلها أو لم يدع وكذلك الأم قال بعض الكبار : النكاح سنة نبيك فلا ترغب عنه واطلب من الله من يقوم مقامك بعد موتك حتى لا ينقطع عملك بموتك فإن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم بثه في الناس أو ولد صالح يدعو له وفي لفظ الصدقة الجارية إشارة إلى أفضلية الماء ولذا حفر سعد بئراً لأمه فإن قلت ما التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وقوله عليه السلام : من مات يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة قلنا : السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به ومعنى حديث المرابط أن ثواب عمله الذي قدمه في حياته ينمو إلى يوم القيامة وأما الثلاثة المذكورة في الحديث فإنها أعمال تحدث بعد وفاته لا تنقطع عنه لأنه سبب لها فيلحقه منها ثواب والحاصل أن المراد بهذا الحديث عمله المضاف إلى نفسه فهو منقطع وأما العمل المضاف إلى غيره فلا ينقطع فللغير أن يجعل ما له من أجر عمله إلى من أراد وقال بعضهم في الآية : ليس كل عمل للإنسان إنما بعضه الله مثل الصوم كما قال : الصوم لي وأنا أجزي به فثوابه فضل الله وهو رؤيته وتمسك بعض العلماء بهذا الحديث وظن أن الصيام مختص بعامله موفر له أجره لا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها وهذا القول مردود فإن الحقوق تؤخذ من جميع الأعمال صياماً كان أو غيره وقيل : إن الصوم إذا لم يكن معلوماً لأحد ولا مكتوباً في الصحف هو الذي يستره الله ويخبأه لعامله حتى يكون له جنة من العذاب فتطرح أولئك عليه سيئاته فتنصرف
251
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
عنهم ويقيه الصوم فلا تضر باصحابها لزوالها عنهم ولا به لان الصوم جنته وهذا تاويل حسن دافع للتعرض قال البقلي رحمه الله في تأويل الآية ليس للصورة الانسانية الا ما سعت من الاعمال الزكية عن الرياء والسمعة يؤول ثوابها اليها من درجات الجنان اما يتعلق بفضل الله وجوده من مشاهدته وقربته فهو للروح والروحاني الذي في تلك الصورة فانه إذا استوفى درجات الجنان التي هي جزآء اعماله الصالحة تمتع ايضا بما يجد روحه من فضل الله المتعلق بكشف حجاب جماله وايضا ليس للانسان الا ما يليق بالانسان من الاعمال واما الفصل كالمشاهدة والقربة فهو الله يؤتيه من يشاء فاذا وصل الى مشاهدة الله وتمتع بها فليس ذلك له انما ذلك الله وان كان متمتعا به وقال ابن عطاء ليس للانسان من سعيه الا ما نواه ان كان سعيه لرضى الرحمن فان الله يرزقه الرضوان وان كان سعيه للثواب والعطاء والاعواض فله ذلك وقال النصر ابادي سعى الانسان في طريق السلوك لا في طريق التحقيق فاذا تحقق يسعى ولا يسعى هو بنفسه واما قول العارف الجامي :
*سالكان بي كشش دوست بجايي نرسند*
*سالها كره درين راه تك وبوى كنند*
(9/206)
فقد لا ينافيه فانه لا فائدة في السعي بدون الجذبة الالهية فالسعي منسوب الى السالك والجذبة مضافة الى الله تعالى واما المنهى فالسعي والجذبة بالنسبة اليه كلاهما من الله تعالى اذ ليس بمتحقق من لم يكن حركاته وسكناته بالله ثم ان الطريق قد يثنى كطريق الحج من البر والبحر واما طريق الحق فمفرد اي من حيث الجمعية الواحدانية والا فالطرق الى الله بعدد انفاس الخلائق فعند النهاية يحصل الالتقاء ولذا قال تعالى وان الى ربك المنهى مع انه فرق بين وصول ووصول كالناظرين كل ينظر بحسب قوة نور بصره وضعفه وان كان المرئي واحدا ثم ان الله يوصل السالك بعد موته الى محل همته لانه كانه حاصل بسعيه وقد مر تحقيقه في محله نسأل الله الوصول الى غاية المطالب بحرمة اسمه الواهب {وَأَنَّ سَعْيَهُ} اى سعى الانسان وهو عمله كما فى قوله تعالى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وهو مع خبره معطوف على ما قبله من الأتزر الخ على معنى ان المذكورات كلها فى الصحف {سَوْفَ يُرَى} اى يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة فى صحيفته وميزانه من أريته الشىء عرضته عليه وفى اشارة الى ان الانسان له مراتب فى السعى وبحسب كل مرتبة يجد سعيه فى الحال لايزيد ولا ينقص وايضا فى المآل واول مراتبه فى السعى مرتبة النفس وسعيه فى هذه المرتبة تزكية النفس عن المخالفات الشرعية والموافقات الطبيعية بالموافقات الشرعية والمخالفات الطبيعية اذ العلاج بضدها واثر هذا السعى ونتيجته حصول الجنات التى تجرى من تحتها الانهار والحور والقصور والغلمان كما اخبر الكتاب العزيز فى غير موضع والمرتبة الثانية والسعى فيها تصفية القلب عن صدأ الظلمات البشرية وغطاء الدورات الطبيعية واثر هذا السعى ونتيجته ترك حب الدجنيا وشهواتها ولذاتها وزخارفها ومالها وجاهها والمرتبة الثالثة والسعرى فيها تجلية السر بالصفات اللالهية والاخلاق الربانية واثر هذا السعى ونتيجته حصول شواهد التجليات الصفاتية والاسمائية والمرتبة الرابعة والسعى فيها تجلية الروح بالتجليات
252
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
الذاتية والمشاهدات الحقانية وأثر هذا السعي ونتيجته هو الفناء عن أنانيته والبقاء بهويته الأحدية المطلقة عن التقييد والإطلاق واللاتقييد واللاإطلاق وقال الواسطي في الآية : إنه لم يكن مما يستجلب به شيء من الثواب وقال سهل : سوف يرى سعيه فيعلم أنه لا يصلح للحق ويعلم ما الذي يستحق بسعيه وأنه لو لم يلحقه فضل ربه لهلك بسعيه {ثُمَّ يُجْزَاـاهُ} أي يجزي الإنسان بعسيه أي جزاء عمله يقال جزاه الله بعمله وجزاه على عمله بحذف الجار وإيصال الفعل {الْجَزَآءَ الاوْفَى} أي الأوفر الأتم إن خيراً فخير وإن شراً فشر وهو مفعول مطلق مبين للنوع قالل الوراق : وإن ليس للإنسان إلا ما سعى ذلك في بدايته وإن سعيه سوف يرى ذلك في توسط أموره ثم يجزاه الجزاء إلا وفى ذلك في نهاياته وله نهايتان باعتبار الفناء والبقاء ففي الفناء يحصل الجزاء الذي هو الشهود وفي البقاء يحصل الجزاء الذي هو تربية الجسد والوجود وذلك باستيفاء ما ترك في بداية سلوكه من المباحات المشروعة من الأكل والشكر والملبس والمنكح والتوسعة في معايش الدنيا وأسبابها فبعد تحققه بعالم الوحدة يرد إلى عالم الكثرة ولكن لا تضره الكثرة إذا أصلا {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} مصدر بمعنى الانتهاء أي انتهاء الخلق في رجوعهم إلى الله تعالى بعد الموت لا إلى غيره لاستقلالاً ولا اشتراكاً فيجازيهم بأعمالهم وفي الحقيقة انتهء الخلق إليه تعالى في البداية والنهاية ألا إلى الله تصير الأمور إذ لا إله إلا هو.
وفي المثنوي :
دست بر بالاى دست اين تاكجا
تا بيزدان كه اليه المنتهى
كان يكى درياست بى غور وكران
جمله درياها و سبلى يش آن
حيلها وارها كر ادهاست
يش إلا الله إنها جمله لاست
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/207)
قال ابن عطاء : من كان منه مبدأه كان إليه منتهاه وإذا وصل العبد إلى معرفة الربوبية ينحرف عنه كل فتنة ولا يكون له مشيئة غير اختيار الله له قيل للحسين ما التوحيد قال أن تعتقد أنه معلل الكل لقوله هو الأول وعند ذلك تطلب المعلولات منه الابتداء وإليه الانتهاء ذهبت المعلولات وبقي المعلل بها قال بعض الكبار : من أدل دليل على توحيد الله تعالى عند من لا كشف عنده كونه تعالى عند النظار والفلاسفة علة العلل وهذا توحيد ذاتي ينتفي معه الشريك بلا شك غير أن إطلاق هذا اللفظ عليه تعالى لم يرد به الشرع فلا ندعوه به ولا نطلقه عليه فاعلم ذلك {وَأَنَّهُ} تعالى {هُوَ} وحده {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} الضحك انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك والبكاء بالمد سيلان الدمع عن حزن وعويل يقال : إذا كان الصوت أغلب كالرغاء وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت وبالقصر يقال إذا كان الحزن أغلب وقوله فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً إشارة إلى الفرح والترح وإن لم يكن مع الضحك قهقهة ولا مع البكاء والإنسان لا يعلم ما تلك القوة أو هما كنايتان عن السرور والحزن كأنه قيل : افرح واحزن لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء أو عما يسر
253
ويحزن وهو الأعمال الصالحة والأعمال الصالحة أو اضحك في الدنيا أهل النعمة وأبكى أهل الشدة والمصيبة أو اضحك في الجنة أهلها وأبكى في النار أهلها واضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر أو الأشحار بالأنوار والسحاب بالأمطار أو القراطيس بالأرقام والأقلام بالمداد أو اضحك القرد وأبكى البعير أو أضحك بالوعد وأبكى بالوعيد أو أضحك المطيع بالرضى وأبكى العاصي بالسخط أو أضحك قلوب العارفين بالحكمة وأبكى عيونهم بالحزن والحرقة أو أضحك قلوب أوليائه بأنوار معرفته وأبكى قلوب أعدائه بظلمات سخطه أو أضحك المستأنسين بنرجس مودته وياسمين قربته وطيب شمال جماله وأبكى المشتاقين بظهور عظمته وجلاله أو أضحك بالإقبال على الحق وأبكى بالإدبار عنه أو أضحك الأسنان وأبكى الجنان أو بالعكس قال الشاعر :
السن تضحك والأحشاء تحترق
وإنما ضحكها زور ومختلق
يا رب باك بعين لا دموع لها
ورب ضاحك سن ما به رمق
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
أو أضحك بتجليه اللطفي الجمالي القلب المنور بنور اللطف والجمال وأبكى بتجليه القهري الجلالي النفس المظلمة بظلنة القهر والجلال وأضحك بتجليه الجلالي النفس على القلب عند استيلاء ظلمة النفس على القلب وأبكى بتجليه الجمالي القلب على النفس عند غلبة أنوار القلب على النفس وفي الآية دلالة على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء قالت عائشة رضي الله عنها : مر النبي عليه السلام على قوم يضحكون فقال : لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : إن الله تعالى يقول : وإنه هو أضحك وأبكى فرجع إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : ائت هؤلاء فقل لهم : إن الله يقول : هو أضحك وأبكى وسئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال : ما ضحك من دون العرش منذ خلقت جهنم وقال النبي عليه السلام لجبرائيل : مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟ قال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار وقيل لعمر رضي الله عنه : هل كان أصحاب رسول الله عليه السلام يضحكون؟ قال : نعم والله والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي وعن سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه : أكنت تجالس النبي عليه السلام؟ قال : نعم وكان أصحابه يجلسون فيتناشدون الشعر ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي عليه السلام ولقي يحيى عيسى عليهما السلام فتبسم عيسى في وجه يحيى فقال : مالي أراك لاهياً كأنك آمن فقال : مالي أراك عابساً كأنك آيس فقالا : لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله تعالى أحبكما إلى أحسنكما ظناً بي.
ـ روي ـ أحبكما إلى الطلق البسام وقال الحسن يا ابن آدم تضحك ولعل كفنك خرج من عند القصار وبكي نوح عليه السلام ثلاثمائة سنة بقوله : إن ابني من أهلي وقال كعب لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بجبل ذهب والنافع بكاء القلب لا العين فقط.
بران ازدوسر شمه ديده جوى
ور الايشى دارى ازخود بشوى
{وَأَنَّه هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره لا خلقاً ولا كسباً فإن أثر
254
(9/208)
القاتل نقض البنية وتفريق الاتصال وإنما يحصل الموت عنده بفعل الله على العادة فللعبد نقض البنية كسباً دون الإماتة وبالفارسية قادر براماته واحيا اوست وبس مى ميراند بوقت أجل دردنيا وزنده ميسازد درقبر يا او سازنده اسباب موت وحياتست وكفته اند مرده ميسازد كافر انرا بنكرت وزنده ميكند مؤمنا نرا بمعرفت وبقول بعض أماته وأحيا بجهل وعلم است يا ببخل وجود يابه منع وأعطا.
وقيل الخصب والجدب أو الآباء والأبناء أو أيقظ وأنام أو النطفة والنسمة.
ونزد محققان بهيبت وأنس ياباستتار وتجلي وأمام قشيري فرموده كه بميراند نفوس زاهد انرا بآثار مجاهدت وزنده كرداند قلوب عارفانرا بأنوار مشاهدت يا هركه را مرتبه فنا في الله رساند جرعه ازساغر بقا بالله شاند.
أو أمات النفس عن الشهوات الجسمانية واللذات الحيوانية وأحيى القلب بالصفات الروحانية والأخلاق الربانية أو أمات النفس بغلبة القلب عليها وإحيائه أو أمات القلب باستيلاء النفس عليه وإحيائها وهذه الأحكام المختلفة ما دام القلب في مقام التلوين فأما إذا ترقى إلى مقام الاطمئنان والتمكين فلا يصير القلب مغلوباً للنفس بل تكون النفس مغلوبة للقلب أبد الآباد إلى أن تموت تحت قهره بأمر ربه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : قدم الإماتة على الإحياء رعاية للفاصلة ولأن النطفة قبل النسمة ولأن موت القلب قبل حياته ولأن موت الجسد قبل حياته في القبر وأيضاً في تقديم الإماتة تعجيل لأثر القهر لينتبه المخاطبون وأيضاً أن العدم قبل الوجود ثم أن مآل الوجود إلى الفناء والعدم فلا ينبغي الاغترار بحياة بين الموتين ووجود بين العدمين والله الموفق {وَأَنَّهُ} وآنكه خداى تعالى {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} بيافريد از انسان دو صنف.
وفي بعض التفاسير من كل الحيوان وفيه أن كل حيوان لا يخلق من النطفة بل بعضه من الريح كالطير فإن البيضة المخلوقة منها الدجاجة مخلوقة من ريح الدين {الذَّكَرَ وَالانثَى} نروماده {مِن نُّطْفَةٍ} هي الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل كما في المفردات {إِذَا تُمْنَى} تدفق في الرحم وتصب وبالفارسية ازآب منى وقتى كه ريخته شود دررحم وآدم وحوا وعيسى عليهما السلام ازين مستثنى اند فهو من أمنى يمني أمناء وهو بالفارسية مني آوردن.
قال تعالى : أفرأيتم ما تمنون وفي القاموس منى وأمنى ومنى بمعنى أو معنى تمنى يقدر منها الولد من مناء الله يمينه قدره إذ ليس كل منى يصير ولداً وفيه إشارة إلى أنه تعالى خلق زوج ذكر الروح موصوفاً بصفة الفاعلية وخلق زوجة انثى النفس موصوفة بصفة القابلية ليحصل للقلب من مقدمتي الروح والنفس نتيجة صادقة صالحة لحصول المطالب الدنيوية والأخروية من نطفة واقعة كائنة مستقرة في رحم الإرادة الأزلية إذا تمنى إذا تحرك وتدفق في رحم الإرادة القديمة أو إذا قدر المقدر بالحكمة البالغة قدم الذكر رعاية للفاصلة ولشرفه الرتبى وإن كان الأصل في العالم الأنوثة ولذلك سرت فيه بأسره ولكن لما كانت في النساء أظهر حببت للأكابر حتى آجر موسى عليه السلام نفسه في مهر امرأة عشر سنين وحتى أن أعظم ملوك الدنيا يكون عند الجماع كهيئة الساجد فاعلم ذلك فلما كان لا يخلو العوالم عن نكاح صوري أو معنوي كان نصف الخلق الذكر ونصفه الأنثى وإن شئت قلت الفاعل والقابل والإنسان برزخ
255
هاتين الحقيقتين {وَأَنَّ عَلَيْهِ} أي على الله تعالى {النَّشْأَةَ الاخْرَى} أي الخلقة الأخرى وهو لإحياء بعد الموت وفاء بوعده لا لأنه يجب على الله كما يوهمه ظاهر كلمة على وفيه تصريح بأن الحكمة الإلهية اقتضت النشأة الثانية الصورية للجزاء والمكافأة وإيصال المؤمنين بالتدريج إلى كما لهم اللائق بهم ولو أراد تعجيل أجورهم في هذه الدار لضاقت الدنيا بأجر واحد منهم فما ظنك بالباقي ومن طلب تعجيل نتائج أعماله وأحواله في هذه الدار فقد أساء الأدب وعامل الموطن بما لا يقتضيه حقيقته وأما إذا استقام العبد في مقام عبوديته وعجل له الحق نتيجة ما أو كرامة فإن من الأدب قبولها إن كانت مطهرة من شوائب الحظوظ وبالجملة فالخير فيما اختاره الله لك ثم إن النشأة الأخرى الصورية مترتبة على كمال الفناء الصوري مع الاستعداد والتهيىء لقبول الروح فكذا النشأة الأخرى المعنوية وهي البقاء والاتصاف بالصفات الإلهية موقوفة على تمام الفناء المعنوي والانسلاخ عن الأوصاف البشرية بالكلية مع الاستعداد والتهيىء لقبول الفيض وبالجملة فلا بد في كلتا النشأتين من صحة المزاج ألا ترى أن الجنين إذا فسد في الرحم سقط بل الرحم إذا فسدت لم تقبل العلوق وإلى الولادة الثانية التي هي النشأة الأخرى أشار عيسى عليه السلام بقوله : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ومعنى ملكوت السموات حقائقها وأنوارها وأسرارها فكل نبي وولي وارث متحقق بهذا الولوج والولادة الثانية
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/209)
{وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى} أعطى الغنى للناس بالأموال {وَأَقْنَى} وأعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال أي يتخذ أصلاً ويدخر بأن يقصد حفظه استثماراً واستنماء وأن لا يخرج عن ملكه وفي المثل لا تقتن من كلب سوء جرواً يقال قنوت الغنم وغيرها وقنيتها قنية وقنية إذا اقتنيتها لنفسك لا للتجارة وفي تاج المصادر الإقناء سرمايه دادن وخشنود كردن.
قال بعضهم : أغنى الناس بالكفاية والأموال وأعطى القنية وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة والثياب والمسكن وأقنى بالإبل والبقر والغنم والدواب وأفراد القنية بالذكر أي بعد قوله أغني لأنها أشرف الأموال وأفضلها أو معنى أقنى أرضى وتحقيقه جعل الرضى له قنية والأوفق لما تقدمه من الآي المشتملة على مراعاة صنعة الطباق أن يحمل على معنى أفقر على أن تكون الهمزة أي في أقنى للإزالة كما قاله سعدي المفتي قال الجنيد قدس سره : أغنى قوماً به وأفقر قوماً منه وقال بعضهم : فيه إشارة إلى إفاضة الفيض الإلهي على القلب السليم المستقيم الثابت على دين الله كما قال عليه السلام : اللهم ثبت قلبي على دينك وإبقاء ذلك الفيض الإلهي عليه بحيث لا يستهلك الفيض ولا يضمحل تحت غلبة ظلمة النفس الإمارة بالسوء لتمكن ذلك القلب وعدم تلونه بخلاف القلب المتلون فإنه لعدم تمكنه في بعض الأوقات يتكدر بظلمة النفس ويزول عنه ذلك النور المفاض عليه المضاف إليه وهو المعنى بقوله : أقنى أي جعل فيه ذلك النور قنية ثم إن الآية دلت على إباحة التأثل من الأموال النافعة دون غيرها ولذا نهى عن اقتناء الكبب أي إمساكه بلا فائدة من جهة حفظ الزرغ أو الضرع أو نحو ذلك والنفس الأمارة أشد من الكلب العقوب ففي اقتناى الروح النامي مندوحة عن اقتنائها أبتر عقيم لا خير فيها
256
ألا ترى أن مرتبة النفس والطبيعة تبقى هنا ولا نستصحب الإنسان الكامل في النشأة الجنانية إذ الجنان كالمرعى الطيب والروض الأنف فلا يرعى فيها إلا الروح الطيب والجسد النظيف {وَأَنَّه هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} أي رب معبودهم فاعبدوا الرب دون المربوب والشعرى كوكب نير خلف الجوزاء يقال لها العبور بالمهملة كالصبور وهي أشد ضياء من الغميصاء بالغين المعجمة المضمومة وفتح الميم والصاد المهملة وهي إحدى الشعريين يعني أن الشعرى شعريان أحدهما الشعرى اليمانية وتسمى أيضاً الشعر العبور وثانيتهما الشعرى الشامية وتسمى أيضاً الشعرى الغميصاء فصلت المجرة بينهما تزعم العرب أن الشعريين اختا سهيل وأن الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر سهيل نحو اليمين وتبعته العبور فعبرت المجرة ولقيت سهيلاً وأقامت الغميصاء فبكت لغقد سهيل فغمصت عينها أي كانت أقل نوراً من العبور وأخفى والغمض في العين ما سال من الرمص يقال : غمصت عينه بالكسر غمصاً وكانت خزاعة تعبد الشعرى سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم فقال لقومه : إن النجوم تقطع السماء عرضاً وهذه تقطعها طولاً فليس شيء مثلها فعبدتها خزاعة وخالف أبو كبشة قريشاً في عبادة الأوثان ولذلك كانت قريش يسمون الرسول عليه السلام ابن أبي كبشة لا يريدون بذلك اتصال نسبه ءليه وإن كان الأمر كذلك أي لأن أبا كبشة أحد أجداد النبي عليه السلام من قبل أمه بل يريدون به موافقته عليه السلام له في ترك عبادة الأوثان وإحداث دين جديد فالنبي عليه السلام كما وافق أبا كبشة في مخالفة قريش بترك عبادة الأصنام خالفه أيضاً بترك عبادة الشعرى وهو إشارة إلى شعرى النفس المسماة بكلب الجبار التي عبدها خزاعة أهل الأهواء وأبو كبشة أهل البدع من الفلاسفة والزنادقة
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/210)
{وَأَنَّه أَهْلَكَ عَادًا الاولَى} هي قوم هود عليه السلام أهلكوا بريح صرصر وعاد الأخرى ارم وقيل الأولى القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح أي المراد إبعاد جميع من انتسب إلى عاد بن ارم بن عوص بن سام بن نوح ووصفهم بالأولية ليس للاحتراز عن عاد الأخيرة بل لتقدم هلاكهم بحسب الزمان على هلاك سائر الأمم بعد قوم نوح قال في التكملة وصف عاد بالأولى يدل على أن لها ثانية فالأولى هي عاد بن ارم قوم هود والثانية من ولدها وهي التي قاتلها موسى عليه السلام باريحاء كانوا تناسلوا من الهزيلة بنت معاوية وهي التي تجن من قوم عاد مع بنيها الأربعة عمر وعمرو وعامر والعتيد وكانت الهزيلة من العماليق {وَثَمُودَا} عطف على عادا لأن ما بعده لا يعمل فيه لمنع ما النافية عن العمل وهم قوم صالح عليه السلام أهلكم الله بالصيحة {فَمَآ أَبْقَى} أي أحداً من الفريقين ويجوز أن يكون المعنى فما أبقى عليهما فالإبقاء على هذا المعنى الترحم وهو بالفارسية بخشودن وإنما لم يترحم عليهم لكونهم من أهل الغضب ورحمة الله لأهل اللطف دون القهر وفيه إشارة إلى التربية فأولاً باللطف وثانياً بالعتاب وثالثاً بالعقاب فإن لم يحصل التنبه فبالإزالة والإهلاك وهكذا عادة الله في خلقه فليتنبه العباد وليحافظوا على المراتب في تربة عبيدهم وإمائهم وخدمهم مطلقاً {وَقَوْمَ نُوحٍ} عطف عليه أيضاً {مِّن قَبْلُ} أي من قبل إهلاك عاد وثمود {إِنَّهُمْ} أي قوم
257
نوح {كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ} لنبيهم {وَأَطْغَى} من الفريقين حيث كانوا يؤذونه وينفرون الناس عنه وكانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه وكانوا يضربونه عليه السلام حتى لا يكون به حراك وما أثرت فيهم دعوته قريباً من ألف سنة وما آمن معه إلا قليل :
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود مبخ آهنين در سنك
وفيه إشارة إلى إهلاك صفات القلب من قبل أن يتمكن في سفينة التوحيد فإنهم كانوا مذبذبين منقلبين بين القلب وبين النفس ظالمين على القلب بمشاهدة الكثرة طاغين عليه بالميل إلى النفس وصفاتها {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} هي قرى قوم لوط عليه السلام يعني شهرستان قوم لوط عليه السلام.
ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم وهو منصوب عطفاً على عادا أي وأهلك المؤتفكة وقيل هو منصوب بقوله : {أَهْوَى} أي أسقطها إلى الأرض مقلوبة بعد أن رفعها على جناح جبريل إلى السماء فالأهواء بمعنى انداختن.
وقال الزجاج القاها في الهاوية {فَغَشَّـاـاهَا مَا غَشَّى} من فنون العذاب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وقال الكاشفي : س بوشانيد آن شهرها را آنه بوشانيد يعني سنكهاى نشان داده بران بارانيد.
وفيه من التهويل والتفظيع ما لا غاية وراءه قوله ما غشى مفعول ثان إن قلنا أن التضعيف للتعدية أي ألبس الله المؤتفكة ما ألبسها إياه من العذاب كالحجارة المنضودة المسومة فمفعولا الفعل الأول مذكوران والثاني محذوفان وإن قلنا إنه للمبالغة والتكثير فهو فاعل كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم وفي الآية إشارة إلى قرية القالب وانقلابها من أعلى الكمال إلى أسفل النقصان ومن اعتدال المزاج إلى انحرافه وذلك سبب ظلم النفس الأمارة عليها باستيفاء الحظوظ والشهوات كما قال تعالى : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها الآية {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} الآلاء النعم واحدها إلى والى والى كما في القاموس والتماري والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي شك وتردد قال في تاج المصادر : التماري بشك شدن وبايكديكر بستيهبدن.
وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه والخطاب للرسول عليه السلام فهو من باب الإلهاب والتعريض بالغير على طريقة قوله تعالى لئن اشركت ليحبطن عملك أو لكل واحد وجعل الأمور المعدودة آلاء مع أن بعضها نقم لما أنها أيضاً نعم من حيث أنها نصرة للأنبياء والمؤمنين وانتقام لهم وفيها عظات وعبر للمعتبرين قال في بحر العلوم وهلاك أعداء الله والنجاة من صحبتهم وشرهم والعصمة من مكرهم من أعظم آلائه الواصلة إلى المؤمنين قال المتنبي :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
وقد أمر نوحاً بالحمد على ذلك في قوله فقل الحمدالذي نجانا من القوم الظالمين وقد حمد هو بنفسه على ذلك في موضع آخر تعليماً لعباده حيث قال فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدرب العالمين وقد سجد عليه السلام سجدة الشكر حين رأى رأس أبي جهل قد قطعت في غزوة بدر.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 27 من صفحة 258 حتى صفحة 268
وفي التأويلات النجمية يشير إلى استحقاق الشكر الجزيل على آلائه التي عددها وسماها آلاء لاشتمالها على نعم المواعظ ونعم الزواجر واستبعاد الشك والمماراة فيها والخطاب لأفراد الأمة
258
(9/211)
لاشتمال النبي عليه السلام على أمته كما قال إن إبراهيم كان أمته قانتاً انتهى ومعنى الآية إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات فبأي نعمة من نعم ربك تتشكك بأنها ليست من عند الله أو في كونها نعمة وبافراسية س بكدامين ازنعمتهاى آفريدكار خودشك مى آرى وجدال ميكنى.
فكما نصرت إخوانك من الأنبياء الماضين ونصرت أولياءهم وأهلكت أعدائهم فكذلك افعل بك فلا يكن قلبك في ضيق وحرج مما رأيت من إصرار هؤلاء القوم وعنادهم واستكبارهم {هَـاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاولَى} هذا إما إشارة إلى القرآن والنذير مصدر أي هذا القرآن الذي تشاهدونه إنذار كائن من قبيل الإنذارات المتقدمة التي سمعتم عاقبتها أو إلى الرسول والنذير بمعنى المنذر أي هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين والأولى على تأويل الجماعة لمراعاة الفواصل وقد علمتم أحوال قومهم المنذرين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى القرآن أو إلى الرسول وشبه إنذارهما بإنذار الكبت الماضية والرسول المتقدمة.
يقول الفقير : فيه إشارة إلى نذارة كمل ورثته عليه السلام فإن كل نذير متأخر فهو من قبيل النذر الأولى لاتحاد كلمتهم ودعوتهم إلى الله على بصيرة وكذا ما ألهموا به من الإنذارات بحسب الإعصار والمشارب فطوبى لأهل المتابعة وويل لأهل المخالفة.
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ راحق نكردم بكوش
بكمراه كفتن نكو ميروى
كناه بزركست وجور قوى
مكو شهد شيرين شكر فايقست
كسى را كه سقمونيا لا يقست
ه خوش كفت يكروزدار وفروش
شفا بايدت داروى تلخ نوش
{أَزِفَتِ الازِفَةُ} في آيراده عقيب المذكورات إشعار بأن تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة تعظيماً للنبي عليه السلام وإن كانوا معذبين في الدنيا أيضاً في الجملة واللام للعهد فلذا صح الإخبار بدونها ولو كانت للجنس لما صح لأنه لا فائدة في الإخبار بقرب آزفة ما فان قلت : الإخبار بقرب الآزفة المعهودة لا فائدة فيه أيضاً قلت : فيه فائدة وهو التأكيد وتقرير الإنذار والأزف ضيق الوقت لقرب وقت الساعة وعلى ذلك عبر عن القيامة بالساعة يقال : أزف الترحل كفرح ازفا وازوفا دنا والأزف محركة الضيق كما في القاموس والمعنى دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله تعالى اقتربت الساعة أي في الدلالة على كمال قربها لما في صيغة الافتعال من المبالغة ففي الآية إشارة إلى كمال قربها حيث نسب القرب إلى الموصوف به {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي ليس لها أنفس قادرة على كشفها أي إزالتها وردها عند وقوعها في وقتها المقدر لها إلا الله لكنه لا يكشفها من كشف الضر أي أزاله بالكلية فالكاشفة اسم فاعل والتاء للتأنيث والموصوف مقدر أوليس لها الآن نفس كاشفة بتأخيرها إلا الله فإنه المؤخر لها يعني لو وقت الآن لم يردها إلى وقتها أحد إلا الله فالكشف بمعنى الإزالة لا بالكلية بل بالتأخير إلى وقتها أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله أي عالمة به من كشف الشيء إذا عرف حقيقته أو مبينة له متى تقوم وفي القرآن لا يجليها لوقتها إلا هو أوليس لها من غير الله كشف
259
على أن كاشفة مصدر كالعاقبة والخائنة وأما جعل التاء للمبالغة كتاء علامة فالمقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره وفي الآية إشارة إلى قرب القيامة الكبرى ووقوع الطامة العظمى وهي ظهور الحقيقة المثلى لأهل الفناء عن نفوسهم والإقبال على الله بجميع الهمة وقوة العزيمة ليس لها من دون الله كاشفة بالنسبة إلى أهل الحجاب لأنهم مستغرقون في بحر الغفلة مستهلكون في أسر الشهوة والإنسان فإن في كل آن وزمان وماله شعور بذلك فيا ليته كشف عن غطائه وتشرف برؤية الله ولقائه وقد قالوا قيامة العارفين دائمة أي لأنهم في شهود امر على ما كان عليه ولا يتوقف شهودهم على وقوع القيامة الظاهرة ومن هنا قال الإمام علي كرم الله وجهه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً فطوبى لمن زاد يقينه ووصل إلى حق اليقين وتمكن في مقام التحقيق والله المعين
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{أَفَمِنْ هَـاذَا الْحَدِيثِ} آيا ازين سخن كه قرأنست {تَعْجَبُونَ} إنكاراً قال الراغب العجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء العجب ما لا يعرف سببه {وَتَضْحَكُونَ} استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك قال الراغب واستعير الضحك للسخرية فقيل ضحكت منه {وَلا تَبْكُونَ} حزناً على ما فرطتم في شأنه وخوفاً من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة.
(9/212)
ـ روي ـ إنه عليه السلام لم ير ضاحكاً بعد نزول هذه الآية وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله عليه السلام حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال عليه السلام : لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ثم يغفر لهم.
ـ وروي ـ أن النبي عليه السلام نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي فقال له : من هذا؟ فقال : فلان فقال جبرائيل إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء فإن الله ليطفىء بالدمعة بحوراً من نيران جهنم وفي الحديث "إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وذلك فإن الحزن يؤدي إلى السرور والبكاء إلى الضحك.
قال الصائب :
منال أي ساكن بيت الحزن ازشم تاريكى
كه خواهد صيقلى كشت ازجمال روشن يوسف
وقال :
خنده كردن رخنه در قصر حيات افكندنست
خانه در بسته باشد تاغمين باشد كسى
{وَأَنتُمْ سَـامِدُونَ} أي لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه قال الراغب السامد اللاهي الرافع رأسه أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود بمعنى الغناء على لغة حمير وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء واللهو ليشغلوهم عن الاستماع أو خاشعون جامدون من السمود بمعنى الجمود والخشوع والجملة حال من فاعل لا تبكون خلا أن مضمونها على الوجه الأخير قيد للمنفي والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معاً وعلى الوجوه الأول قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود والأول أو في بحق المقام فتدبر كما في الإرشاد الفاء لترتيب الأمر
260
أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار واستهزاء ووجوب تلقيه بالإيمان مع كمال الخضوع والخشوع أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لذي أنزله واعبدوه ولا تعبدوا غيره من ملك أو بشر فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع كالأصنام والكواكب قال في عين المعاني فاسجدوا أي في الصلاة والأصح أنه على الانفراد وهي سجدة التلاوة انتهى وهذا محل سجود عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه صح عن رسول الله عليه السلام أنه سجد بالنجم يعني بعد تلاوته هذه السورة على قريش سجد وسجد معه المؤمن والمشرك والإنس والجن كما سبق وليس يراها مالك لما روى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي عليه السلام والنجم فلم يسجد فيها.
قال الكاشفي : أين سجده دوازدهم است ازسجدات قرآني در فتوحات اين را سجده عبادت كفتندكه امر آلهى بذلت ومسكنت مقترنست بوى وجز سالكان طريقت عبادت وعبوديت بسر منزل سراين سخن نرسيده اند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية : البقلى أي إذا قرب أيام الوصال فاشتاقوا وسارعوا في بذل الوجود ووضع الخدود على اتراب واعبدوا رب الأرباب لوجود كشف النقاب قال شيخي وسندي روح الله روحه في كتاب البرقيات له يعني اسجدواواعبدوا الله بالله لا بالنفس إذا سجدتم وعبدتم له بسجدة القالب بالانقياد وعبادته بالإذعان في مرتبة الشريعة وبسجدة القلب بالنفاء وعبادته بالاستهلاك في مرتبة الحقيقة حتى تكون سجدتكم وعبادتكم محض قربة إلى الله في المرتبة الأولى وصرف وصلة إلى الله في المرتبة الثانية وتكونوا من المقربين أولاً ومن الواصلين ثانياً هذا شأن عباد الله الموحدين المخلصين الفانين في الله الباقين بالله وأما طاعة من عداهم فبأنفسهم وهواهم لعدم تخلصهم من الشوائب النفسانية في مقام الشريعة ومن الشوائب الغيرية في مقام الحقيقة.
واعلم أن سجدة القالب وعبادته منقطعة لانقطاع سببها ومحلها وموطنها لأنها حادثة فانية زائلة وأما سجدة القلب وعبادته وهي فناؤه في الله أزلاً وأبداً بحسب نفسه وإن كان باقياً بالله بحسب تحلية الوجود فغير منقطعة بل هي دائمة لدوام سببها وباقية لبقاء محلها وموطنها أزلاً وأبداً والمقصود من وضع السجدة والعبادة القالبية هو الوصول إلى شهود السجدة والعبادة القلبية ولذا حبب إلى النبي عليه السلام ثلاث : الطيب والنساء والصلاة أما الأول فلأنه يوجد في نفسه ذوق الإنس والمحاضرة وأما الثاني فلأنه يوجد فيه ذوق القربة والوصلة وأما الثالث فلأنه يوجد فيه ذوق المكاشفة والمشاهدة وهذه الأذواق إنما يتحقق بها من الإنس من هو الإنسان الحقيقي المتحقق بسر الحضرة لأحدية والمتنور بنورالحضرة الواحدية وهو المنتفع بإنسانيته انتفاعاً تاماً وأما الإنسان الحيواني فلا حظ له من ذلك التحقق ولا نصيب له من هذا الانتفاع بل حظه ونصيبه إنما هو الشهوات الطبيعية والإنسان الأول في أعلى عليين والثاني في أسفل السافلين وبينهما بون بعيد كما بين الأوج والحضيض وبكمال علو الأول قد يستغنى عن الأكل والشرب كالملائكة بالأذواق الروحانية والتجليات الربانية وذلك مدة كثيرة كما وقع لبعضهم ولتمام تسفل الثاني يأكل كما تأكل الأنعام فلا
261
(9/213)
يقتنع في اليوم والليلة بمرة من الأكل بل يحتاج إلى مرات منها وألا يقع في الاضطراب والذبول والنحول وربما تؤدي قلة الأكل إلى هلاكه كما حكى أن شخصين أحدهما سمين والآخر هزيل حبساً في تهمة ومنع عنهما الغذاء أسبوعاً فبعد الأسبوع تبين أن ليس لهما جرم فإذا السمين قد مات والهزيل حي وذلك لأن من اعتاد الأكل إذا لم يجده هلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
تفسير سورة القمر
وآياتها خمس وخمسون وهي مكية عند الجمهور والله أعلم
جزء : 9 رقم الصفحة : 261
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الاقتراب نزديك آمدن.
والساعة جزء من أجزاء الزمان عبر بها عن القيامة تشبيهاً لها بذلك لسرعة حسابها أو لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم أو لغير ذلك كما بين فيما سبق والمعنى دنت القيامة وقرب قيامها ووقوعها لأنه ما بقي من الدنيا إلا قليل كما قال عليه السلام : إن الله جعل الدنيا كلها قليلاً فما بقي منها قليل من قليل ومثل ما بقي مثل التعب أي الغدير شرب صفوه وبقي كدره فالاقتراب يدل على مضي الأكثر ويمضي الأقل عن قريب كما مضى الأكثر وبيانه أنه مضى من يوم السنبلة وهو سبعة آلاف سنة وقد صح أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف بنحو أربعمائة سنة إلى خمسمائة سنة ولا يجوز الزيادة إلى خمسمائة سنة بعد الألف لعدم ورود الأخبار في ذلك ولاقتضاء البراهين والشواهد عند أهل الظواهر والبواطن من أهل السنة وقد قال عليه السلام : الآيات بعد المائتين والمهدي بعد المائتين فتنتهي دورة السنبلة بظهور عيسى عليه السلام فيكون آدم فاتحها وعيسى خاتمها فعلى هذا فآدم ونبينا عليهما السلام أي وجودهما من أشراط الساعة كما قال عليه السلام : مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان فإذا كان وجوده من أشراط الساعة فمعجزاته من انشقاق القمر ونحوه تكون كذلك.
يقول الفقير : فإن قلت فكم عمر الدنيا بأسرها وما قول العلماء فيه قلت : اتفقوا على حدوث الدنيا وما قطعوا بشيء في مدتها والذي يلوح لي والله أعلم بحقيقة المدة أنها ثلاثمائة وستون ألف سنة وذلك لأنه قد مثل دور السنبلة بجمعة من جمع الآخرة أي سبعة أيام وكل يوم من أيام الآخرة ألف سنة كما قال تعالى وأن يوماً عند ربك كألف سنة ولا شك أن بالجمعة أي الأسبوع يتقدر الشهر وبالشهر تتقدر السنة وعليه يحمل ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة فقد مضى ستة آلاف سنة ومائة سنة وليأتين عليها زمن من سنين ليس عليها من يوحد وقد خاطبت الدنيا آدم عليه السلام فقالت : يا آدم جئت وقد انقضى شبابي يعني انقضى من عمرها ستون ألف سنة تقريباً وهي إجمال ما ذكرنا من المدة ولا شك أن ما بين الستين والسبعين دقاقة الرقاب فآدم إنما جاء إلى الدنيا وقد انقضى عمرها وبقي شيء قليل منها وعلى هذا المعنى يحمل قول من قال أن عمر الدنيا
262
سبعون ألف سنة فاعرف جداً فالساعة مقتربة عند الله وعند الناس لأن كل آت قريب وإن طالت مدته فكيف إذا قصرت وأما قوله تعالى إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً فبالنسبة إلى الغافلين المنكرين ولا عبرة بهم والحكمة في ذكر اقتراب الساعة تحذير المكلف وحثه على الطاعة تنبيهاً لعباده على أن الساعة من أعظم الأمور الكونية على خلقه من أهل السموات والأرض وأما تعيين وقت الساعة فقد انفرد الحق تعالى بعلمه وأخفاه عن عباده لأنه أصلح لهم ولذا كان كل نبي قد أنذر أمته الدجال وفي الحديث : "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" والمراد بالكذابين الدجاجلة وهم الأئمة المضلون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262(9/214)
يقول الفقير : لا شك أن إنذار الأنبياء عليهم السلام حقيقة من أمثال هؤلاء الدجاجلة من أممهم إذ لم يخل قرن منهم وإلا فهم يعرفون أن الساعة إنما تقوم بعد ظهور ختم النبيين وختم الأمم وإن الدجال الأعور الكذاب متأخر عن زمانه وإنما يخرج في الألف الثاني بعد المائتين والله أعلم فكل كذاب بين يدي الساعة سواء كان قبل مبعث النبي عليه السلام أو بعده فإنما هو من مقدمات الدجال المعروف كان كل أهل صدق من مقدمات المهدي رضي الله عنه {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} الانشقاق شكافته شدن.
دلت صيغة الماضي على تحقق الانشقاق في زمن النبي عليه السلام ويدل عليه قراءة حذيفة رضي الله عنه وقد انشق القمر أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق وقد خطب حذيفة بالمدائن ثم قال إلا أن الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم وحذيفة ابن اليمان رضي الله عنه صاحب سر رسول الله عليه السلام كابن مسعود رضي الله عنه وعلى هذا القول عامة الصحابة ومن بعدهم وبه أخذ أكثر المفسرين فلا عبرة بقول من قال إنه سينشق يوم القيامة كما قال تعالى : إذا السماء انشقت والتعبير بالماضي للدلالة على تحققه على أنا نقول يجوز أن يكون انشقاقه مرتين : مرة في زمانه عليه السلام إشارة إلى قرب الساعة ومرة يوم القيامة حين انشقاق السماء وفي فتح الباري لابن حجر حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلاً مستفيضاً يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث انتهى وقال الطيبي : انسد أبو إسحاق الزجاج عشرين حديثاً إلا واحداً في تفسيره إلى رسول الله عليه السلام في انشقاق القمر وفي شرح الشريف للمواقف هذا متواتر رواه جمع كثير من الصحابة كابن مسعود وغيره قال سعدي المفتي فيه إنهم لم يجعلوا حديث من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وقد رواه ستون أو أكثر من الصحابة وفيهم العشرة من المتواتر فكيف يجعل هذا منه انتهى.
يقول الفقير : قد جعل ابن الصلاح ومن تبعه ذلك الحديث أي حديث من كذب الخ من المتواتر كما في أصول الحديث على أنه يجوز أن لا يكون بعض ما رواه جمع كثير من المتواتر لعدم استجماع شرائطه.
امام زاهد رحمه الله : آورده كه شبى ابو جهل وجهودى بحضرت يغمبر عليه السلام رسيدند ابو جهل كفت أي محمد آيتي بمن نماى والاسر توبشمشير برميدار آن حضرت فرمود كه ه ميخواهى ابو جهل بجب وراست نكريست كه ه خواهد كه وقوع آن متعذر باشد يهودى كفت او ساحرست اورا بكوى كه ماه را
263
بشكافد كه سحر درزمين متحقق ميشود وساحر را در آسمان تصرف نيست ابو جهل كفت أي محمد ماه را براى ما بشكاف آن حضرت انكشت شهادت بر آورد واشارت فرمود ماه رابشكافت في الحال دونيم شد يك نيم برجاى خود قرار كرفت ويكى ديكر جايى ديكر رفت وباز كفت بكوى تاملتمئم شود اشارت كرد هردونيمه بهم يوستند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
شق كشت ماه ارده برلوح سبز رخ
ون خامه دبير ز تيغ بنان او
او العطار قدس سره :
ماه را انكشت او بشكافته
مهر ازفرمانش از س تافته
وفي المثنوي :
س قمركه امر بشنيد وشتافت
س دونيمه كشت بررخ وشكافت
وقال الجامي :
ومه را بر سرتير اشارت
زد از سبابه معجز بشارت
دونون شد ميم دور حلقه ماه
هل راساخت اوشصت از دو نجاه
بلى ون داشت دستش بر قلم شت
رقم زد خط شق برمه برانكشت
(9/215)
يهودى ايمان آورد وابو جهل لعين كفت شم ما بسحر رفته است وقمر را منشق بما نموده.
وقال بعض المفسرين : اجتمع بعض صناديد قريش فقالوا : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا الإيمان وكانت ليلة البدر فرفع عليه السلام أصبعه وأمر القمر بأن ينشق نصفين فانفلق فلقتين أي شقين فلقة ذهبت عن موضع القمر وفلقة بقيت في موضعه وقال ابن مسعود رضي الله عنه : رأيت حراء بين فلقي القمر فعلى هذا فالنصفان ذهبا جميعاً عن موضع القمر فقال بعضهم : نصف ذهب إلى المشرق ونصف إلى المغرب وأظلمت الدنيا ساعة ثم طلعا والتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فقال عليه السلام : اشهدوا اشهدوا وعند ذلك قال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر بالنسبة ءليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر جميع أهل الأرض فسألوا من يأتيكم من البلاد هل رأوا هذا.
يعني ازجماعت مسافران كه ازاطراف آفاق برسند سؤال كنيد تا ايشان ديده اند يانه.
فسألوا أهل الآفاق فأخبروا كلهم بذلك.
يعني ون از آينده ورونده رسيدند همه جواب دادندكه درفلان شب ماه رادونيمه ديديم.
وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقاً أهل مكة بل راه كذلك جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع انشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في رؤيته ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنده بأنه طلبه جماعة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بانه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق بين بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام كما في إنسان العيون وقال في الأسئلة المقحمة لا يستبعد اختفاؤه عن قوم دون قوم بسبب غيم أو غيره يمنع من رؤيته أي فكان انشقاق
264
القمر صحيحاً لكنه لم ينقل بطريق التواتر ولم يشترك فيه العرب والعجم في جميع الأقطار القاصية والدانية ولذا وقع فيه الاختلاف كما وقع في المعراج أو الرؤية وإلى انشقاق القمر أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وبدر الدياجي انشق نصفين عندما
أرادت قريش منك إظهار آية
وصاحب لقصيدة البردية بقوله
أقسمت بالقمر المنشق أن له
من قلبه نسبة مبرورة القسم†
يعني لو أقسم أحدان للقمر المنشق نسبة وشبها بقلبه المنشق يكون باراً وصادقاً وصاحب الهمزية بقوله :
شق عن صدره وشق له البد
ر ومن شرط كل شرط جزاء
أي شق عن صدره عليه السلام وشق لأجله القمر ليلة أربع عشرة وإنما شق له لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن.
كما قال الصائب :
هر محنتى مقدمه راحتى بود
شد همزبان حق و زبان كليم سوخت
موسى كليم را انفلاق بحر بود ومصطفى حبيب را انشقاق قمربود ه عجب كر بحر برموسى بضرب عصا شكافته شد كه بحر مركوب وملموس است دست آدمي بدو رسد وقصد آدمي بوى اثر دارد اعجوبه مملكت انشقاق قمر است كه عالميان ازدر يافت آن عاجز ودست جن وانس از رسيدن بوى قاصر وبيان شق الصدر إنه قالت حليمة أمه عليه السلام من الرضاعة وهي من بنات بني سعد بن بكر أسلمت مع أولادها وزوجها بعدالبعثة لما كان يوم من الأيام خرج محمد مع إخوته من الرضاعة وكان يومئذ ابن خمس سنين على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما فلما انتصف النهار إذا أنا بابني حمزة يعدو وقد علاه العرق باكياً ينادي يا أماه يا أبتان أدركا أدركا أخي القرشي فما أراكما تلحقانه إلا ميتاً قلت : وما قصته؟ قال : بينا نحن نترامى بالجلة إذا أتاه رجل فاختطفه من بيننا وعلا به ذروة الجبل وشق صدره إلى عانته فما أراه إلا مقتولاً قالت : فأقبلت أنا وزوجي نسعى سعياً فإذا أنا به قاعد على ذروة الجبل شاخص بعينه نحو السماء يتبسم فانكبيت عليه وقبلت بين عينيه فقلت له : فداك نفسي ما الذي دهاك؟ قال : خير يا أمه بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي نتقاذف بالجملة إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض وفي رواية فأقبل إلي طيران أبيضان كأنهما نسران وفي رواية كركيان والمراد ملكان وهما جبرائيل وميكائيل وفي رواية أتاني ثلاثة رهط أي وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل لأن جبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب وميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد وإسرافيل مظهر الحياة مطلقاً في يد أحدهم إبريق من فضة وفي يد الثاني طست من زمرد أخضر مملوء ثلجاً وهو ثلج اليقين فأخذوني من بين أصحابي وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل وفي رواية إلى شفير الوادي فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعاً لطيفاً ثم شق صدري وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حساً ولا ألماً ثم أدخل يده في جوفي فأخرج
265
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/216)
أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها أي بالغ في غسلها ثم أعادها مكانها وقام الثاني وقال للأول تنح فقد أنجزت ما أمرك الله فدنا مني فأدخل يده في جوفي فانتزع قلبي وشقه باثني فأخرج منه علقة سوداء فرمى بها وقال : هذا حظ الشيطان أي محل غمزه ومحل ما يلقيه من الأمور التي لا تنبغي لأن تلك العلقة خلقها الله في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه وبعض ورثته الكمل يقيىء دماً أسود محترقاً من نور التوحيد فيحصل به شرح الصدر وشق القلب أيضاً ولا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء بالفعل قبل هذا الشق فإنه عليه السلام معصوم على كل حال فإن قلت : فلم خلق الله هذا القابل في هذه الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلق فيها قلت لأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة للخلق الإنساني ثم نزعت تكرمة له أي لأنه لو خلق خالياً عنها لم تظهر تلك الكرامة وفيه إنه يرد على ذلك ولادته عليه السلام من غير قلفة وهي جلدة الذكر التي يقطعها الخاتن وأجيب بالفرق بينهما لأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال قال عليه السلام : ثم حشا قلبي بشيء كان معه وهو الحكمة والإيمان ورده مكانه ثم ختمه بخاتم من نور يحيا الناظرون دونه وفي رواية أقبل الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه ولا مانع من تعدد الختم فختم القلب لحفظ ما فيه وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب وجسده وعاؤه البعيد وخص بين الكتفين لأنه أقرب إليه من القلب من بقية الجسد وهو موضع نفوذ خرطوم إبليس لأن العدو يجيىء من وراء ولذا سن الحجامة فيه ثم قال عليه السلام : أنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي وقام الثالث فقال : تنحيا فقد أنجز تماماً أمر الله فيه فدنا مني وأمر يده على مفرق صدري إلى منتهى الشق فالتأم وأنا أنظر إليه وكانوا يرونه أثراً كأثر المخيط في صدره وهو أثر مرور يد جبريل ثم أنهضني من الأرض إنهاضاً لطيفاً ثم قال الأول الذي شق صدري : زنه بعشرة من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال : زنه بعشرين فرجحتهم ثم قال : زنه بمائة فرجحتهم ثم قال : زنه بألف فرجحتهم ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم.
يقول الفقير : هذا يدل على أنه عليه السلام كما أنه أفضل من كل فرد فرد من أفراد الموجودات فكذا أفضل من المجموع ولا عبرة بقول من قال في كونه أفضل من المجموع توقف لأنه جهل بشأنه العالي وأنه أحدية مجموع الأسماء الإلهية برزخيتها فاعرف قال عليه السلام : ثم انكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا : يا حبيباه إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك وتركوني قاعداً في مكاني هذا وجعلوا يطيرون حتى دخلوا خلال السماء وأنا أنظر إليهم ولو شئت لأرينك موضع دخولهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
واعلم أن صدره الشريف شق مرار أمرة لإخراج حظ الشيطان كما مر لأنه لا يليق به وعند مجيىء الوحي لتحمل ثقله وعند المعراج لتحمل أسراره ففي شرح الصدر مراراً مزيد تقوية لباطنه وهذا الشرح معنوي لاكمال أمته ولا بد منه في حصول الفيض الإلهي يسره الله لي ولكم ثم إنه بقي هنا معنى آخر كما
266
قاله البعض وهو أن انشقاق القمر مجاز عن وجوح الأمر ولا يبعد أن يحمل بيت المثنوي على ذلك وهو :
سايه خواب آرد ترا همون سمر
ون بر آيد شمس انشق القمر
أي وضح الأمر واستبان وذلك لأنه عند اقتراب الساعة ينكشف كل خفي ويظهر كل مستور ويستبين الحق من الباطل من كل وجه ويدل على هذا المعنى قوله عليه السلام : إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب فإن المراد وضوح الأمر في آخر الزمان وظهور حقيقته ولذا يصير الناس بحيث ينكشف لأدنى سالك منهم في مدة قليلة ما لم ينكشف للأمم الماضية في مدة طويلة وذلك لأن الله تعالى قال في حق يوم القيامة يوم تبلى السرائر فإذا قرب الزمان من ذلك اليوم يأخذ حكمه فيكون كشف الأمور أكثر والخفايا أظهر وقال البقلي رحمه الله : علم الله انتظار أرواح الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والأولياء العارفين وجميع الصالحين كشف جماله وقرب وصاله والدخول في جواره فبشرهم الله تعالى بأنه مقرون بقدوم محمد عليه السلام فلما خرج بالنبوة شك فيه المشركون فأراهم الله صدق وعده بانشقاق القمر حتى يعرفوا أن الله تعالى يريد بالعالمين إتيان الساعة التي فيها كشوف العجائب وظهور الغرائب من آيات الله وصفاته وذاته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/217)
وفي التأويلات النجمية : اعلم أن الساعة أي القيامة ساعتان الكبرى وهي عامة بالنسبة إلى جميع الخلائق وهي التي اقتربت والصغرى وهي خاصة بالنسبة إلى السالكين إلى الله برفع الأوصاف البشرية وقطع العلائق الطبيعية السائرين في الله بالتجلي بالأوصاف الإلهية والأخلاق الربانية الراجعين من الحق إلى الخلق بالبقاء الحقاني بعد الفناء الخلقاني وبالجمع بعد الفرق وهي أعني الساعة الصغرى واقعة اليوم في كل آن ولله تجلى جلالي يفني وجمالي يبقى وإليه إشارة قوله عليه السلام : من مات فقد قامت قيامته فقد انشق قمر قلب السالك عن ظلمة النفس المظلمة باستيلاء نور شمس فلك الروح عليها فلا جرم وقعت الساعة بالنسبة إلى القلب الحي المنور بالنور الإلهي ووقعت القيامة الخاصة الشاملة على الموت والحشر والنشور فافهم ولا تعجب لئلا تكون ممن قال تعالى فيهم أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون والله الموفق والمعين {وَإِن يَرَوْا} يعني قريشاً {ءَايَةً} من آيات الله دالة على قدرته وصدق نبوة حبيبه عليه السلام مثل انشقاق القمر ونظائره ومعنى تسمية ما جاءت به الأنبياء معجزة هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها {يُعْرِضُوا} عن التأمل فيها ليقفوا على حقيقتها وعلو طبقتها فيؤمنوا هذا {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} مطرد دائم يأتي به محمد عليه السلام على ممر الزمان لا يكاد يختلف بحال كسائر أنواع السحر فالاستمرار بمعنى الإطراد يقال : أطرد الشيء تبع بعضه بعضاً وجري وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة حتى قالوا وفيه تأييد أن انشقاق القمر قد وقع لأنه سينشق يوم القيامة كما قاله بعضهم وذلك لأنه لو لم يكن الانشقاق من جنس الآيات لم يكن ذكر هذا القول مناسباً للمقام أو مطرداً بالنسبة إلى جميع الأشخاص والبلاد حيث رأوه منشقاً وقال بعضهم : آن جاد وييست دائم ورونده از زمين تا بآسمان.
267
ويجوز أن يكون مستمر من المرة بالكسر بمعنى القوة أمررته فاستمر إذا أحكمته فاستحكم فالاستمرار بمعنى الاستحكام أي قوى مستحكم لا يمكن إزالته أو قوي شديد يعلو كل سحر وقيل مستمر ذاهب يزول ولا يبقى عن قريب تمنية لأنفسهم وتعليلاً فهو من المرور {وَكَذَّبُوا} أي بالنبي عليه السلام وما عاينوه من معجزات التي أظهرها الله على يده {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ} التي زينها الشيطان لهم من رد الحق بعد ظهوره أو كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر واتبعوا أهواءهم وقالوا : سحر القمر أو سحر أعيننا والقمر بحاله ولم يصبه شيء أو أنه خسوف في القمر وظهور شيء من جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر فهذه أهواؤهم الباطلة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
بد كمانى لازم بد باطنان افتاده است
كوشه از خلق جا كردم كمين نداشتند
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 28 من صفحة 268 حتى صفحة 278
(9/218)
وذكرهما بلفظ الماضي أي بعد يعرضوا ويقولوا بلفظ المستقبل للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة وفيه إشارة إلى المحجوبين المستغرقين في بحر الدنيا وشهواتها فإنهم إذا ظهر لهم خاطر رحماني بالإقبال على الله ومتابعة الرسول وترك حب الدنيا ورفع شهواتها يعرضوا عن هذا الخاطر الرحماني وينفوه ولا يلتفتوا إليه ولا يعتبروه بل يزدادوا فيما هم عليه من حب الدنيا ومتابعة النفس وموافقة الهوى ويرموه بالكذب وربما يرى بعضهم في منامه أنه لبس خرقة الفقراء من خارج ولكن تحتها قميص حرير فهذا يدل على أن تجرده ليس من باطنه فتجرده الظاهري وملاحظة الفناء القشري ليس بنافع له جداً {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي وكل أمر من الأمور مستقر أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة من جملتها أمر النبي عليه السلام فسيصير ءلى غاية بتبين عندها حقيقته وعلو شأنه وإبهام المستقر عليه للتنبيه على كمال ظهور الحال وعدم الحاجة إلى التصريح به أو كل أمر من أمرهم وأمره عليه السلام مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا وشقاوة أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر يعني أن الاستقرار كناية عن ملزومه وهو الانتهاء إلى الغاية فإن عنده يتبين حقيقة كل شيء من الخير والشر والحق والباطل والهوى والحجة وينكشف جلية الحال ويضمحل الشبه والالتباس فإن الحقائق إنما تظهر عند العواقب فهذا وعيد للمشركين ووعد وبشارة للرسول والمؤمنين ونظيره لك لنبأ مستقر وسوف تعلمون أي كل نبأ وإن طالت مدته فلا بد أن ينتهي إلى غايته وتنكشف حقيقته من حق وباطل وفي عين المعاني وكل أمر وعدهم الله كائن في وقته أي لا يتغير شيء عن مراد الله ولا يغيره أحد دون الله فهو يمضيه على الخلق في وقته لأنه مستقر لا يزول وفيه إشارة إلى أن أمر محمد الروح وأمر أبي جهل النفس له نهاية وغاية يستقر فيها إما إلى السعادة الأبدية بواسطة التخلق بالأخلاق الإلهية وإما إلى الشقاوة السرمدية بسبب الإتصاف بالصفات البشرية الحيوانية {وَلَقَدْ جَآءَهُم} أي وبالله لقد جاء أهل مكة في القرآن {مِّنَ الانابَآءِ} جمع نبأ وهو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة أي أنباء القرون الخالية أو أنباء
268
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/219)
الآخرة وما وصف من عذاب الكفار فاللام عوض عن المضاف إليه وهو حال مما بعده {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ازدجار من تعذيب أن أريد بالأنباء أنباء القرون الخالية أو وعيد أريد بها أنباء الآخرة أو موضع ازدجار على أن في تجريدية والمعنى أنه في نفسه موضع ازدجار ومظنة له كقوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي هو في نفسه أسوة حسنة وتاء الافتعال تقلب دالاً مع الدال والذال والزاي للتناسب في المخرج أو لتحصيل التناسب فإن التاء مهموسة وهذه الحروف مجهورة يعني أن أصله مزتجر لأنه مفتعل من الزجر قلبت التاء دالاً لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس والذال تناسب الزاي في الجهر وتناسب التاء في المخرج يقال زجره وازدجره أي نهاه عن السوء ووعظه غير أن افتعل أبلغ في المعنى من فعل قال الراغب الزجر طرد بصوت يقال زجرته فانزجر ثم يستعمل في الطرد تارة وفي الصوت تارة قولوه تعالى مزدجر أي طرد ومنع عن ارتكاب المأثم {حِكْمَةُا بَـالِغَةٌ} غايتها متناهية في كونها حكمة لا خلل فيها أو قد بلغت الغاية في الإنذار والنهي والموعظة وهو بدل من ما أو خبر لمحذوف وفي القاموس الحكمة بالكسر العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن وفي المفردات الحكمة إصابة الحق بالعلم والفعل فالحكمة من الله معرفة الأشياء أو إيجادها على غاية الأحكام ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وإذا وصف القرآن بالحكيم فلتضمنه الحكمة وهي علمية وعملية والحكمة المنطوق بها هي العلوم الشرعية والطريقة والحكمة المسكوت عنها هي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها علماء الرسوم والعوام على ما ينبغي فتضرهم أو تهلكهم {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} نفي للإغناء فمفعول تغني محذوف أي لم تغن النذر شيئاً أو استفهام إنكار فما منصوبة على أنها مفعول مقدم لتغني أي فأي إغناء تغني النذر إذا خالفوا أو كذبوا أي لا تنفع كقوله وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون جمع نذير بمعنى المنذر أو مصدر بمعنى الإنذار وفيه إشارة إلى عدم انتفاع النفوس المتمردة بإنذار منذر الروح وإنذار منذر القلب إذ الروح مظهر منذر القرآن والقلب مظهر منذر الحقيقة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمك بأن الإنذار لا يؤثر فيهم البتة ولا ينفع فالفاء للسببية وبالفارسية س روى بكدران از ايشان تا وقت امر بقتال ومنتطر باش جزاى انشانرا {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} أصله يوم يدعو الداعي بالواو والياء لما حذف الواو من يدعو في التلفظ لاجتماع الساكنين حذفت في الخط أيضاً اتباعاً للفظ وأسقطت الياء من الداعي للاكتفاء بالكسرة تخفيفاً قال بعضهم : حذفت الياء من الداعي مبالغة في التخفيف إجراء لآل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبه ويوم منصوب بيخرجون أو باذكر والداعي إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور قائماف على صخرة بيت المقدس ويدعو الأموات وينادي قائلاً أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء أو أن إسرافيل ينفخ وجبريل يدعو وينادي بذلك وعلى كلا القولين فالدعاء على حقيقته وقال بعضهم هو مجاز كالأمر في قوله تعالى : كن فيكون يعني أن الدعاء في البعث والإعادة مثل كن في التكوين والابتداء بأن لا يكون ثمة داع من
269
إسرافيل أو غيره بل يكون الدعاء عبارة عن نفاذ مشيئته وعدم تخلف مراده عن إرادته كما لا يتخلف إجابة دعاء الداعي المطاع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/220)
يقول الفقير : الأولى بقاؤه على حقيقته لأن إسرافيل مظهر الحياة وبيده الصور والله تعالى ربط الأشياء بعضها ببعض وإن كان الكل بإرادته ومشيئته {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} بضمتين صفة على فعل وقرىء بسكون الكاف وكلاهما بمعنى المنكر أي منكر فظيع ينكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول يوم القيامة ومنه منكر ونكير لفتاني القبر لأنه لم يعهد عند الميت مثلهما {خُشَّعًا أَبْصَـارُهُمْ} حال من فاعل {يَخْرُجُونَ} والتقديم لأن العالم فعل فعل متصرف أي يخرجون {مِنَ الاجْدَاثِ} جمع جدث محركة وهو القبر أي من قبورهم حال كونهم أذلة أبصارهم من شدة الهول خاضعة عند رؤية العذاب والخشوع ضراعة وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد ف يالقب كما روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ} أي يشبهن الجراد وهو بالفارسية ملخ.
سمي بذلك لجرده الأورض من النبات يقال : أرض مجرودة أي أكل ما عليها حتى تجردت كما في المفردات {مُّنتَشِرٌ} في الكثرة والتموج والتفرق في الأقطار ومثله قوله كالفراش المبثوث {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} حال أيضاً أي مسرعين إلى جهة الداعي مادي أعناقهم إليه أو ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يقال هطع الرجل إذا أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه وأهطع في عدوه إذا أسرع كما في الجوهري وفيه إشارة إلى ذلة أبصار النفوس وعلتها فأنهار مدت من حب الدنيا وانطفاء أبصار القلوب عن شواهد الحق وانطماس أبصار الأرواح عن شهود الحق وإلى أن هذه النفوس الرديئة تخرج من قبور صفاتها الرذيلة كالجراد الحريص على أكل زروع مزارع القلب من الأخلاق الروحانية منتشرين في مزارع الروح ومغارس القلب بالفساد والإفساد وترى هذه النفوس الخبيثة مسرعة إلى إجابة داعي الشهوات النفسانية واللذات الجسمانية راغبة في دعوته مقبلة على طلبه {يَقُولُ الْكَـافِرُونَ} استئناف وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل : يقول الكافرين :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
{هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي صعب شديد علينا فمكثون بعد الخروج من القبور واقفين أربعين سنة يقولون : أرحنا من هذا ولو إلى النار ثم يؤمرون بالحساب وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأن المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدة بل ذلك اليوم يوم يسير لهم ببركة إيمانهم وأعمالهم بل المطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ولا ظواهرهم أيضاً بالمخالفات الشرعية آمنون يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن لما هم والنبيون عليه من الخوف على أممهم يعني أن الأنبياء والرسل عليهم السلام يخافون على أممهم للشفقة التي جبلهم الله عليها للخلق فيقولون في ذلك اليوم سلم سلم وإن كان لا يحزنهم الفزع الأكبر لأنهم آمنون من خوف العاقبة وفيه إشارة إلى
270
(9/221)
كفار النفوس اللئيمة يقولون بلسان الحال ولا ينفعهم المقال يوم قيامة اضطرابهم لما رأوا الفضيحة والقطعية هذا يوم عسر صعب خلاصنا ومناصنا منه لا نجاة لنا ولا منجاة إلا الاستمساك بعروة وثقى الروح والقلب وما يقدرون على ما يقولون لإفساد استعدادهم بيد الأماني الكاذبة واختيار تلك الأماني الفاسدة الدنيوية على المطالب الصالحة الأخريوي فعلى العاقل أن يختار الباقي على الفاني ولا يغتر بالأماني بل يجتهد قبل الموت بأسباب الخلاص والنجاة لكي يحصل له في الآخرة النعيم والدرجات وإلا فإذا خرج الوقت من اليد وبقيت اليد صفرا في الغد فلا ينفع الأسف والويل نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين أجابوا داعي الله ورسوله وتشرفوا بالعمل بالقرآن وقبوله وييسر لنا الفناء المعنوي قبل الفناء الصوري ويهيى لنا من أمرنا رشداً فإنا آمنا به ولم نشرك بربنا أحداً وهو المعين في الآخرة والأولى وبيده الأمور رداً وقبولاً {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي فعل التكذيب قبل قومك يا محمد قوم نوح أو كذبوا نوحاف فالمفعول محذوف وهو شروع في تعداد بعض الأنباء الموجبة للازدجار وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نوحاً تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب الخ فالمكذب في المقامين واحد والفاء تفسيرية تفصيلية تعقيبية في الذكر فإن التفصيل يعقب الأجمال وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وزيادة تشنيع لمكذبيه فإن تكذيب عبد السلطان أشنع من تكذيب عبد غيره وفيه إشارة إلى أنه لا شيء أشرف من العبودية فإٌّ الذلة الحقيقية التي يقابلها مقام الربوبية مختصة بالله تعالى فكذا العبودية مختصة بالعبد وهي المرادة بالتواضع وهي غير التملق فإن التملق لا عبرة به وفي الحديث "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي ليس الفخر لي بالرسالة وإنما الفخر لي بالعبودية وخصوصاً بالفقر الذي هو الخروج عن الوجود المجازي بالكلية
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
{وَقَالُوا} في حقه هو أو قالوا له إنك {مَجْنُونٌ} أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه الجنون واختلال العقل وهو مبالغة في التكذيب لأن من الكاذبين من يخبر بما يوافق العقل ويقبله والمجنون لا يقول ءلا ما لا يقبله العقل ويأباه {وَازْدُجِرَ} عطف على قالوا فهو من كلام الله أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية مثل الشتم والضرب والخنق والوعيد بالرجم قال الراغب : وازدجرا أي طرد واستعمال الزجر فيه لصياحهم بالمطرود نحو أن يقال أعزب عني وتنح ووراءك وقيل هو من جملة ما قالوه أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته أي أفسدته وتصرفت فيه وذهبت بلبه وطارت بقلبه وفيه إشارة إلى أن كل داع حق لا بد وأن يكذب لكثرة أهل البطلان وغلبة أهل البدع والأهواء والطغيان وذلك في كل عصر وزمان وأيضاً قوم نوح الروح وهم النفس الأمارة وصفاتها لا يقبلون دعوته إلى الله لانهماكهم في الشهوات واللذات وصعوبة الفطام عن المألوفات والله المعين في جميع الحالات والمقامات :
اين جهان شهوتي بتخانه ايست
انبيا وكافران را لأنه ايست
ليك شهوت بنده ا كان بود
زرنسوزد زانكه نقد كان بود
271
ذالة الأرواح من أشباحها
عزة الأشباح من أرواحها
كم نشين براسب توسن بي لكام
عقل ودين را يشوا كن والسلام
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/222)
{فَدَعَا رَبَّهُ} أي لما زجروا نوحاً عن الدعوة وبلغ مدة التبليغ تسعمائة وخمسين سنة دعا ربه {أَنِّى} أي بأني {مَغْلُوبٌ} من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم {فَانتَصِرْ} أي فانتقم لي منهم وذلك بعد تقرر بأسه منهم بعد الليتا والتي فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً فيفيق ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فلما أذن الله له في الدعاء للإهلاك دعا فأجيب كما قال في الصفات ولقد نادانا نوح فلنعم المجسبون {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ} أي طرقها وبالفارسية س بكشاديم براى عذاب ايشان درهاء آسمانرا ازطرف مجره كما قال علي رضي الله عنه {بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} الهمر صب الدمع والماء يقال همره يهمره ويهمره صب نهمر هو وانهمر أي انسكب وسال والمعنى بماء كثير منصب انصباباً شديداً كما ينصب من أفواه القرب لم ينقطع أربعين يوماً وكان مثل الثلج بياضاً وبرداً وهو تمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها سواء جعل الباء في قوله بماء للاستعانة وجعل الماء كالآلة لفتح أبواب السماء وهو ظاهر أو للملابسة {وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة أي جارية وكان ماء الأرض مثل الحميم حرارة وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير عن المفعولية إلى التمييز قضاء لحق المقام من المبالغة لأن قولنا فجرنا عيون الأرض يكفي في صحة تفجر ما فيها من العيون ولا مبالغة فيه بخلاف فجرنا الأرض عيوناً فإن معناه فجرنا أجزاء الأرض كلها بجعلها عيون الماء ولا شك في أنه أبلغ {فَالْتَقَى الْمَآءُ} أي ماء السماء وماء الأرض وارتفع على أعلى جبل في الأرض ثمانين ذراعاً والأفراد حيث لم يقل الماآن لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي كائناً على حال قد قدره الله من غير تفاوت أو على حالة قدرت وسويت وهو إن قدر ما أنزل من السماء على قدر ما أخرج من الأرض أو على أمر قدره الله وهو هلاك قوم نوح بالطوفان فكلمة على على هذا للتعليل.
يقول الفقير : إنما وقع العذاب بالطوفان العام لأن الماء إشارة إلى العلم فلما لم ينتفع بعلم نوح عليه السلام في المدة الطويلة ولم تغرق أرواحهم فيه أخذوا بالماء حتى غرقت أجسادهم وتأثير الطوفان يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة لكن على الخفة فيقع مطر كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل {وَحَمَلْنَـاهُ} أي نوحاً ومن آمن معه {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} أي سفينة صاحبة أخشاب عريضة فإن الألواح جمع لوح وهو كل صحيفة عريضة خشباً أو عظماً وكانت سفينة نوح من ساج وهو شجر عظيم ينبت في أرض الهند أو من خشب شمشاد ويقال من الجوز {وَدُسُرٍ} ومسامير جمع دسار من الدسر وهو الدفع الشديد بقهر يقال دسره بالرمح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ـ وروي ـ أنه ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر سمي به المسمار لأنه يدسر به منفذه أي يدفع قال في عين المعاني دسرت بها السفينة أي شدت أو لأنها تدسر أي تدفع بالدق فقوله ذات ألواح ودسر صفة للسفينة أقيمت مقامها
272
بأنها يكنى بها عنها كما يكنى عن الإنسان بقولهم هو مستوى القامة عريض الأظفار {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} أي تجري السفينة وتسير بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا ومنه قولهم للمودع عين الله عليك وقيل بأوليائنا يقال مات عين من عيون الله أي ولي من أوليائه {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} مفعول له لما ذكر من فتح أبواب السماء وما بعده وكفر من كفران النعمة أي فعلنا ذلك المذكور أجراً وثواباً لنوح لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة من الله على أمته ورحمة أي نعمة ورحمة فكان نوح نعمة مكفورة ومن هذا المعنى ما حكى أن رجلاً قال للرشيد : الحمدعليك فقال : ما معنى هذا الكلام؟ فقال : أنت نعمة حمدت الله عليها {وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ} أي السفينة {ءَايَةً} يعتبر بها من يقف على خبرها وقال قتادة : أبقاها الله بياقردى من بلاد الجزية وقيل على الجودي دهراً طويلاً حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة كانت بعد قد صارت رماداً وفي تفسير أبي الليث قال بعضهم : يعني أن تلك السفينة كانت باقية على الجبل قريباً من خروج النبي عليه السلام وقيل : بقيت خشبة من سفينة نوح هي في الكعبة الآن وهي ساجة غرست حتى ترعرعت أربعين سنة ثم قطعت فتركت حتى يبست أربعين سنة وقيل : بقي بعض خشبها على الجودي إلى هذه الأوقات.
(9/223)
يقول الفقير : لعل بقاء بعض خشبها لكونها آية وعبرة وإلا فهو ليس بأفضل من أخشاب منبر نبينا صلى الله عليه وسلّم في المدينة وقد احترقت أو أكلتها الأرضة فاتخذت مشطاً ونحوه مما يتبرك به ألا ترى أن مقام ابراهيم عليه السلام مع كونه حجراً صلداً لم يبق أثره بكثرة مسح الأيدي ثم لم يبق نفسه أيضاً على ما هو الأصح والمعروف بالمقام الآن هو مقام ذلك المقام فاعرف وفي عين المعاني ولقد تركناها أي الغرق العام وهو إضمار الآية قبل الذكر كقوله أنها تذكرة وقال بعضهم : يعني جنس السفينة صارت عبرة لأن الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة واتخذوا السفن بعد ذلك في البحر فلذلك كانت آية للناس.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
يقول الفقير : كيف يعرفونها ولم يكن في الدنيا قبل الطوفان إلا البحر المحيط وذلك أن الله تعالى أمر الأرض بعد الطوفان فابتلغت ماءها وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض فهذه البحور على وجه الأرض منها وأما البحر المحيط فغير ذلك بل هو جرز عن الأرض حين خلق الله الأرض من زبده وإليه الإشارة بقوله : وكان عرشه على الماء أي العذب والبحور سبعة : منها البحر المحيط وبعضهم لم يعد المحيط منها بل هو غير السبعة وكان نوح عليه السلام نجاراً فجاء جبريل وعلمه صنعة السفينة {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي معتبر بتلك الآية الحقيقة بالاعتبار فيخاف من الله ويترك المعصية وأصله مذتكر على وزن مفتعل من الذكر فأدغمت الذال في التاء ثم قلبت دالاً مشددة {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف والنذر جمع نذير بمعنى الإنذار أصله نذري بالياء حذفت اكتفاء بالكسرة وحد العذاب وجمع الإنذارات إشارة إلى غلبة الرحمة لأن الإنذار إشفاق ورحمة فقال : الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت عليهم فلما لم تنفع وقعالعذاب وقعة واحدة فكانت النعم كثيرة والنقمة واحدة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ} الخ جملة قسمية
273
وردت في أواخر القصص الأربع تنبيهاً على أن كل قصة منها مستقبلة بإيجاب الأدكار كافية في الازدجار ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار أي وبالله لبد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلنا على لغتهم كما قال فإنما يسرناه بلسانك ورشحنا بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد {لِلذِّكْرِ} أي للتذكير والاتعاظ وعن الحسن عن النبي عليه السلام لولا قول الله ولقد يسرنا القرآن للذكر لما أطاقت الألسن أن تتكلم به {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده حيث يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم وعن عليه السلام بن مسعود رضي الله عنه قال : قرأت على النبي عليه السلام فهل من مذكر بالذال فقال عليه السلام : فهل من مدكر بالدال قال في برهان القرآن قوله فكيف كان الخ ختم به قصة نوح وعاد وثمود ولوط لما في كل واحدة منها من التخويف والتحذير وما حل بهم فيتعظ به حافظ القرآن وتاليه ويعظ غيره.
وفي الآيات إشارة إلى مغلوبية نوح القلب في يد النفس الأمارة بغلبات الصفات البشرية عليه حتى دعا ربه فأجابه الله حتى غلبت صفاته الروحانية النورانية على صفاتها الحيوانية الظلمانية وأفاض من سماء الأرواح العلوية مياه الرأفة والرحمة والكرامة ومن أرض البشرية عيون المعارف والحقائق فأهلك قومه المعبر عنهم بالنفس وصفاتها ونجاه على سفينة صفاته الروحانية وفيه إشارة أخرى وهي أنه إذا زاد الكشف والعيان تستشرف الأرواح على الفناء فيدخلها الله في سفن الصعمة ويجريها بشمال العناية وأيضاً أن الأنبياء والأولياء سفن عنايته تعالى يتخلص العباد بهم من الاستغراق في بحار الضلالة وظلمات الشقاوة لأنهم محفوظون بحسن عنايته وعين كلاءته ومن استن بسنتهم نجا من الطغيان والنيران ودخل في جوار الرحمن وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ايننين فرمود آن شاه رسل
كه منم كشتى درين درياى كل
يا كسى كودر بصيرتهاى من
شد خليفه راستى برجاى من
كشتى نوحيم در دريا كه تا
رونكردانى ز كشتى اي فتى
(9/224)
نسأل الله سبحانه أن يحفظنا في سفينة الشريعة من الاعتماد على العقل والخيال ويعصمنا من الزيغ والضلال {كَذَّبَتْ عَادٌ} أي هوداً عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} هو لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إلبيهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل كذبت عاد فهل سمعتهم أو فاسمعوا كيف كان عذابي وإنذاراتي لهم فالنذر جمع نذير بمعنى الإنذار {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} استئناف ببيان ما أجمل أولاً وصرصر من الصر وهو البرد أو من صر الباب والقلم أي صوت أي أرسلنا وسلطنا عليهم ريحاً باردة أو شديدة الصوت والهبوب وهي ريح الديور وتقدم تفصيله في فصلت وغيرها {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} النحس ضد السعد أي شؤم {مُّسْتَمِرٌّ} صفة ليوم أو نحس أي مستمر شؤمه عليهم أو ابد الدهر
274
فإن الناس يتشاءمون بأربعاء آخر الشهر قال ابن الشيخ واشتهر بين بعض الناس التشاؤم بالأربعاء الذي يكون في آخر الشهر بناء على قوله تعالى في يوم نحس مستمر ومعلوم أن ليس المراد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين حيث لم تظهر نحو سنته في حق الأنبياء والمؤنين وفي الروضة الأربعاء مشؤوم عندهم والذي لا يدور وهو آخر أربعاء في الشهر أشأم وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر قال الشاعر :
لقاؤك للمبكر قال سوء
ووجهك أربعاء لا يدور
وقيل يحمد في الأربعاء الاستحمام فإنه يقال يخلط في ذلك اليوم ماء من الجنة مع المياه وكذا يحمد ابتداء الأمور والمعنى مستمر عليهم شؤمه ونحو ستة أزمنة ممتدة إلى أن أهلكهم فاليوم بمعنى الحين وإلا فاليوم الواحد لا يمكن أن يستمر سبع ليال وثمانية أيام والاستمرار على هذين الوجهين يحسب الزمان أو المعنى شامل لجميعهم كبيرهم وصغيرهم فالمستمر بمعنى المطرد بالنسبة إلى الأشخاص أو مشتد مرارته أي بشاعته وكان ابتداؤه يوم الأربعاء آخر الشهر يعني كانت أيام العجوز من صبيحة أربعاء آخر الشهر إلى غروب الأربعاء الآخر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ـ وروي ـ أنه كان آخر أيامهم الثمانية في العذاب يوم الأربعاء وكان سلخ صغر وهي الحسوم في سورة الحاقة {تَنزِعُ النَّاسَ} صفة لريحا أي ريحاً تقلعهم روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح وصرعتهم موتى وقال مقاتل تنزع أآواحهم من أجسادهم وقال السهلي : دامت عليهم سبع ليال وثمانية أيام كيلا تنجو منهم أحد ممن في كهف أو سرب فأهلكت من كان ظاهراً بارزاً وانتزعت من البيوت من كان في البيوت أو هدمتها عليهم وأهلكت من كان في الكهوف والأسراب بالجوع والعطش ولذلك قال : فهل ترى لهم من باقية أي فهل يمكن أن يبقى بعد هذه الثمانية الأيام باقية منهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} حال من الناس والإعجاز جمع عجز وعجز الإنسان مؤخره وبه شبه مؤخر غيره ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور والنخل من الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء واللفظ مفرد لكنه كثيراً ما يسمى جمعاً نظراً إلى المعنى الجنسي والمنقعر المنقلع عن أصله يقال قعرت النخلة قلعتها من أصلها فانقعرت أي انقعلت وفي المفردات منقعر أي ذاهب في قعر الأرض وإنما أراد تعالى أن هؤلاء اجتثوا كما اجتث النخل الذاهب في قعر الأرض فلم يبق لهم رسم ولا أثر انتهى والمعنى منقلع عن مغارسه قيل شبهوا بإعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجساداً وجثثاً بلا رؤوس وقال بعضهم : كانت الريح تقلعهم وتصرعهم على رؤوسهم فتدق رقابهم فيبين الرأس من الجسد وفيه إشارة إلى قوتهم وثباتهم في الأرض فكأنهم بحسب قوتهم وجسامتهم يجعلون أرجلهم غائرة نافزة فيالأرض ويقصدون به المقاومة على الريح ثم إن الرح لما صرعتهم فكأنها قلعت إعجاز نخل منقعر وقال أبو الليث صرعتهم وكبتهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من الأرض فشبههم لطولهم بالنخل الساقة قال مقاتل : كان طول كل واحد منهم
275
اثني عشر ذراعاً وقال في رواية الكلبي كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعاً فاستهزأوا حين ذكر لهم الريح فخرجوا إلى الفضاء وضربوا بأرجلهم وغيبوا في الأرض إلى قريب من الركبة فقالوا : قالا للريح حتى ترفعنا فجاءت الريح فدخلت تحت الأرض وجعلت ترفع كل اثنين وتضرب أحدهما بالآخر بعدما ترفعهما في الهواء ثم تلقيهما في الأرض والباقون ينظرون إليهما حتى رفعتهم كلهم ثم رمت بالرمل والتراب عليهم وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يوماً وتذكير صفة نخل للنظر إلى اللفظ كما أن تأنيثها في قوله إعجاز نخل خاوية للنظر إلى المعنى وكذا قوله جاءتها ريح عاصف ولسليمان الريح عاصفة
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/225)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار كما في الإرشاد وقال في برهان القرآن أعاد في قصة عاد فكيف كان عذابي ونذر مرتين لأن الأول في الدنيا والثاني في العقبى كما قال في هذه القصة لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وقيل الأول لتحذيرهم قبل هلاكهم والثاني لتحذير غيرهم بعد هلاكهم انتهى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الكلام فيه كالذي مر فيما سبق وفيه إشارة إلى أهل النفوس الأمارة فإنهم بواسطة انهماكهم في الشهوات الجسمانية احتجبوا عن الله وموائد كرمه فأرسل الله عليهم صرصر ريح أهوائهم الظلمانية وبدعهم الشيطانية في يوم نحوسة الاحتجاب وسلطها عليهم فسقطوا على أرض الهوان والخذلان كأنهم إعجاز نخل منقلع عن تخوم الأرض ساقط على وجه الأرض مثل أجساد جامدة بلا رؤوس نعوذ بالله من تجليات قهره وتسلط عذابه وغضبه في يومه وشهره فعلى العاقل أن يتذكر بهذه الذكرى ويعتبر بهذه الآية الكبرى :
و بركشته بختى در افتدبه بند
از ونيكبختان بكيرند ند
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زير وب
فلو آمن إيمان يأس أو تاب توبة يأس لم يقبل
فراشوا وبينى در صلح ياز
كه ناكه در توبه كردد فراز
مرو زير باركناه أي سر
كه حمال عاجز بود در سفر
كما ورد خفف الحمل فإن العقبة كؤود :
ى نيك مردان ببايد شتافت
كه هركين سعادت طلب كرد يافت
وليكن تودنبال ديوخسى
ندانم كه در صالحان كى رسى
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ثم إن سبب هلاك عاد بالريح اعتمادهم على قوتهم والريح أشد الأشياء قوة فاستأصلهم الله بها حتى يحصل الاعتبار لمن بعدهم من القرون فلا يعتمدوا على قواهم وفيه إشارة إلى أن الريح هو الهواء المتحرك فالخلاص من ذلك الهواء إٌّما هو بترك الهوى ومتابعة الهدى نسأل الله من فضله ذلك {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} أي الإنذارات والمواعظ التي سمعوها من صالح عليه السلام أو بالرسل فإن تكذيب أحدهم تكذيب للكل لاتفاقهم على الشرائع {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا} أي كائناً من جنسنا وانتصابه بفعل يفسره ما بعده فأداة الاستفهام
276
داخلة على الفعل وإن كان تقديراً كما هو الأصل {وَاحِدًا} أي منفرداً لاتبع له أو واحد من آحادهم لا من أشرافهم وتأخير هذه الصفة عن منا للتنبيه على أن كلاً من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدمت عليه لفاتت هذه النكتة {نَّتَّبِعُهُ} في أمره {إِنَّآ إِذًا} أي على تقدير اتباعنا له وهو منفرد ونحن أمة جمة وأيضاً ليس بملك لما كان في اعتقاد الكفرة من التنافي بين الرسالة والبشرية {لَّفِى ضَلَـالٍ} عن الصواب {وَسُعُرٍ} أي جنون فإن ذلك بمعزل عن مقتضى العقل وقيل كان يقول لهم إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر أي نيران جمع سعير فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول {أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ} أي الكتاب والوحي {عَلَيْهِ مِنا بَيْنِنَا} وفينا من هو أحق بذلك والاستفهام للإنكار ومن بيننا حال من ضمير عليه أي أخص بالرسالة منفرداً من بين آل ثمود والحال أن فيهم من هو أكثر مالاً وأحسن حالاً {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله بطره على الترفع علينا بما ادعاه وأشر اسم فاعل مثل فرح بمعنى خود سند وستيزنده وسبكسار.
وبابه علم والأشر التجبر والنشاط يقال فرس أشر إذا كان مرحاً نشيطاً {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ} كيست.
فهو استفهام {الْكَذَّابُ الاشِرُ} حكاية لما قاله تعالى لصالح عليه السلام وعداً له ووعيداً لقومه والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده والغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه والمراد به وقت نزول العذاب في الزمان المستقبل لا يوم بعينه ولا يوم القيامة لأن قوله أنا مرسلوا الناقة استئناف لبيان مبادي الموعود حتماً والمعنى سيعلمون البتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حمله أشره وبطره على الترفع والتجبر أصالح أم من كذبه وفيه تشريف لصالح حيث أن الله تعالى سلب عنه بنفسه الوصف الذي أسنده إليه من الكذب والأشر فإن معناه لست أنت بكذاب أشر بل هم {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} مخرجوها من الهضبة التي سألوا والهضبة الجبل المنبسط على الأرض أو جبل خلق من صخرة واحدة أو الجبل الطويل الممتنع المنفرد ولا يكون إلا في حمر الجبال كما في القاموس.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/226)
ـ روي ـ أنهم سألوه متعنتين أن يخرج من صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة ناقة حمراء جوفاء وبراء عشراء وهي التي أتت عليها عشرة أشهر من يوم أرسل عليها الفحل فأوحى الله إليه أنا مجرجوا الناقة على ما وصفوا {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي امتحاناً فإن المعجزة محنة واختبار إذ بها يتميز المثاب من المعذب {فَارْتَقِبْهُمْ} فانتظرهم وتبصر ما يصنعون {وَاصْطَبِرْ} على أذيتهم صبراً بليغاً {وَنَبِّئْهُمْ} أخبرهم {أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةُا بَيْنَهُمْ} مقسوم لها يوم ولهم يوم فالماء قسمة من قبيل تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير وبينهم لتغليب العقلاء {كُلُّ شِرْبٍ} أي كل نصيب من الماء ونوبة الانتفاع منه {مُّحْتَضَرٌ} يحضره صاحبه في نوبته فليس معنى كون الماء مقسوماً بين القوم والناقة أنه جعل قسمين : قسم لها وقسم لهم بل معناه جعل الشرب بينهم على طريق المناوبة يحضره القوم يوماً وتحضره الناقة يوماً وقسمة الماء إما لأن الناقة عظيمة الخلق ينفر منها حيواناتهم أو لقلة الماء {فَنَادَوْا} س بخواندند قوم ثمود {صَاحِبَهُمْ} هو
277
قدار بن سالف بضم القاف والدال المهملة وهو مشؤوم آل ثمود ولذا كانت العرب تسمى الجزار قداراً تشبيهاً له بقدار بن سالف لأنه كان عاقر الناقة كما سيجيء وكان قصيراً شريراً أزراق أشقر أحمر وكان يلقب بأحيمر ثمود تصغير أحمر تحقيراً وفي كشف الأسرار يقال له أحمر ثمود وقيل أشأم عاد يعني عاداً الآخرة وهي ارم تشاءم به العرب إلى يوم القيامة ومن هذا يظهر الجواب عما قال السجاوندي في عين المعاني وقد ذكره زهير في شعره :
فتنتج لكم غلمان اشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 29 من صفحة 278 حتى صفحة 287
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
قيل هو غلط وهو أحمر ثمود انتهى {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} التعاطي مجاز عن الاجتراء لأن التعاطي هو تناول الشيء بتكلف وما يتكلف فيه لا بد أن يكون أمراً هائلاً لا يباشره أحد إلا بالجراءة عليه وبهذا المجاز يظهر وجه التعقيب بالفاء في فعقر وإلا فالعقر لا يتفرع على نفس مباشرة القتل والخوض فيه والعقر بالفارسية ى كردن.
يقال عقر البعير والفرس بالسيف فانعقر أي ضرب به قوائمه وبابه ضرب والمعنى فاجترأ صاحبهم قدار على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له فاحدث العقر بالناقة.
قال الكاشفي : محرك عقر ناقه دوزن بودند.
عنيزة أم غنم وصدوق بنت المختار وفي التفاسير صدقة بدل صدوق وذلك لما كانت الناقة قد أضرب بمواشيها.
س صدوق ابن عم خود مصدع بن دهررا بوصال خود وعده داد وعنيزه يكى ازدختران خودرا نامزد قدار كرده وهردو براه كذر ناقه كمين كردند ون ناقه از آب باز كشت اول بمصدع رسيده اوتيرى بيفكندكه ايهاى ناقه بهم دوخت قدار نيزاز كمين كاه بيرون آمده بشمشير ناقه راى كرد فمعنى فنادوا صاحبهم فنبهوه على مجيئها وقربها من مكمنه أو أنه لما هم بها هابها فناداه أصحابه فشجعوه أو نادى مصدرع بعدما رماها بسهم دونك الناقة فاضربها وون ازاى در آمداورا قطعه قطعه كردند وميان قوم منقسم ساختند وبه او حنوبر آمده سه بانك كرد واز آنجابا سمان رفت وكفتند او نيز كشته شد وبعد ازسه روز عذاب ثمود نازل شد {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} الكلام فيه كالذي مر في صدر قصة عاد {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي صيحة جبريل عليه السلام وذلك لأنها هي الجزاء الوفاق لفعلهم فإنهم صاروا سبباً لصيحة الولد بقتل أمه وفي الحديث "لا توله واحلدة بولدها" أي لا تجعل والهة وذلك في السبايا بأن يفرق بينها وبين ولدها وفي الحديث "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" كما في المقاصد الحسنة للسخاوي {فَكَانُوا} أي فصار والأجل تلك الصيحة بعد أن كانوا في نضارة وطيب عيش {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} الهشم كسر الشيء الرخو كالنبات والهشيم بمعنى المهشوم أي المكسور وهو اليابس المتكسر من الشجر وغيره والحظر جمع الشيء في حظيرة والمحظور الممنوع والمحتظر بكسر الظاء الذي يعمل الحظيرة ويتخذها قال الجوهري الحظيرة التي تعمل للإبل من الشجر لتقيها البرد والريح والمعنى كالشجر اليابس الذي يتخذه من يعمل الحظيرة أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} وفي الآيات إشارة إلى ثمود
278
(9/227)
النفس الأمارة بالسوء ومعاملتها مع نذير القلب فإنه يدعوها إلى الانسلاخ عن الصفات البشرية والتلبس بالصفات الروحانية وهي تدعى المجانسة معه إذ النفس والروح بل النفس أخت القلب من جانب أيسر البطن وكذا تدعى تقدم رتبتها على القلب وتصرفها في القالب وما يحتوي عليه من القوى البشرية والطبيعية وتأخر رتبة القلب لأنه حصل بعد ازدواج الروح مع النفس فبسبب تقدم رتبة النفس على القلب استنكفت النفس عن اتباعه وامتثال لأوامره وما عرفت أن تقدم الشرف والحسب أعلى وأفضل من تقدم الشرف والنسب ولذا قالت الحكماء توانكرى بهنرست نه بمال وبزركى بعقلست نه بسال وقال بعضهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وهي قبيلة عرفت بالدناءة والخساسة جداً فخطأت النفس نذير القلب مع أن الخاطئة نفسها وامتحنته بإخراج الناقة وذلك أن حقيقة النفس واحدة غير متعددة لكن بحسب توارد الصفات المختلفة عليها تسمى بالأسماء المختلفة فإذا توجهت إلى الحق توجهاً كلياً تسمى بالمطمئنة وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجهاً كلياً تسمى بالأمارة وإذا توجهت إلى الحق تارة وإلى الطبيعة أخرى تسمى اللوامة فثمود النفس الأمارة طلبت على جهة المكر والاستكبار من صالح رسول القلب المرسل من حضرة الروح أن يظهر ناقة النفس المطمئنة من شاهق جبل النفس الأمارة بأن يبدل صفتها من الأمارية إلى الاطمئنان فسأل صالح رسول القلب من حضرة الروح مسؤولها فأجابته إظهاراً للقدرة والحكمة حتى غلبت أنوار الروح وانطمست ظلمة النفس كما ينطمس عند طلوع الشمس ظلام الليل وكان للنفس المطمئنة شرب خاص من المعارف والحقائق كما كان للنفس الأمارة شرب خاص من المشارب الجسمانية فنادى الهوى وأهوانه بعضهم بعضاً باستخلاص النفس الأمارة من استيلاء نور الروح عليها مخافة أن ينغمس الهوى أيضاً تحت هذا النور فتعاطى بعض أصحاب الهوى ذلك وكانت النفس الأمارة ما تمكنت في مقام الاطمئنان تمكناً مستحكماً بحيث لا تتأثر بل كان لها بقية تلوين فقتلوها بإبطال طمأنينتها فرجعت القهقرى فانقهرت النفس والهوى تحت صيحة القهر وصارت متلاشية في حضرة القهر والخذلان محترقة بنار القطيعة والهجران كما قال فكيف كان عذابي ونذر فمن كان أهل الذكر والقرآن أي الشهود الجمعي يعتبر بهذا الفراق ويجتهد إلى أن يصل إلى نهاية الاطمئنان على الإطلاق فإن النفس وءن تبدلت صفتها الأمارية إلى المطمئنة لا يؤمن مكرها وتبدلها من المطمئنة إلى الأمارية ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت المشؤومة إلى طبعها وجبلتها كما كان حال بلعام وبرصيصا ولذا قال عليه السلام : لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك وقال الجنيد قدس سره : لا تألف النفس الحق أبداً ألا نرى أن الذمي وإن قبل الخراج فإنه لا يألف المسلم الفة مسلم وفرخ الغراب وأن ربي من الصغر وعلم فإنه لا يخلو من التوحش فالنفس ليست بأهل الاصطناع والمعروف والملاطفة أبداً وإنما شأنها تضييقها ومجاهدتها ورياضتها إلى مفارقة الروح من الجسد.
ولذا قال في المثنوي :
279
اندرين ره مى خراش ومى تراش
تادم آخر دمى فارغ مباش
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ومنه يعلم سر قولهم إن ورد الاستغفار لا يسقط بحال ولذا قال تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره مع ظهور الفتح المطلق نسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين والأدباء الكاملين بسر النبي الأمين {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطا بِالنُّذُرِ} أي بالإنذارات أو بالمنذرين كما سبق {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} أي ريحاً تحصبهم أي ترميم بالحصباء وهي حجارة دون ملىء الكف فالحصب الرمي بالحصى الصغار ومنه المحصب موضع الجمار وقول عمر رضي الله عنه حصبوا المسجد والحاصب اسم فاعل بمعنى رامى الحصباء وتذكيره مع إسناده إلى ضمير الريح وهي مؤنث سماعي لتأويلها بالعذاب.
(9/228)
يقول الفقير : لعل سر تعذيبهم بالحجارة لأنهم حجروا ومنعوا من اللواطة فلم يمتنعوا بل رموا نطفهم إلى غير محل الحرث فرماهم الله بالحجر ومن ثمة ذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن حكم اللوطى أن يرجم وإن كان غير محصن وأيضاف أنهم يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به وأما الريح فلأنهم كانوا يضرطون في مجالسهم علانية ولا يتحاشون وأما انقلاب قراهم فلأنهم كانوا يقلبون المرد عند اللواطة فجازاهم الله بحسب أعمالهم وأيضاً قلبوا الحقيقة وعكسوها بأن تركوا محل الحرث وأتوا الأدبار {إِلا ءَالَ لُوطٍ} وهم أهل بيته الذين نجوا من العذاب وكانوا ثلاثة عشر وقيل يعني لوطاً وابنتيه وفي كشف الأسرار يعني بناته ومن آمن به من أزواجهن {نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ} أي في سحر من الأسحار وهو آخر الليل أو السدس الأخير منه وفي المفردات السحر اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهاء وجعل أسماء لذلك الوقت ويجوز أن يكون حالاً أي ملتبسين بسحر.
ـ روي ـ إن الله أمره حتى خرج بهم بقطع من الليل فجاء العذاب قومه وقت السحر والاستثناء منقطع لأنه مستثنى من الضمير في عليهم وهو للمكذبين من قوم لوط ولا يدخل فيهم آل لوط لأن المراد به من تبعه على دينه {نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي إنعاماً كائناً منا وهو علة لنجينا ويجوز أن يكون مصدراً من فعله أو من معنى نجيناهم لأن تنجيتهم انعام {كَذَالِكَ} أي مثل ذلك الجزاء العجيب {نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنا بالإيمان والطاعة يعني كذلك تنجى المؤمنين {وَلَقَدْ أَنذَرَهُم} لوط {بَطْشَتَنَا} أي أخذتنا الشديدة بالعذاب {فَتَمَارَوْا} فكذبوا {بِالنُّذُرِ} متشاكين فتماروا ضمن معنى التكذيب فعدى تعديته من المرية وأصله تماريوا على وزن تفاعلوا {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فترود غير ما يروده وسبق تحقيقها في سورة يوسف والضيف بالفارسية مهمان والمعنى ولقد أرادوا من لوط تمكينهم ممن أتاه من أضيافه وهم الملائكة في صورة الشبان ومعهم جبريل وقصدوا الفجور بهم ظناً منهم أنهم بشر {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} الطمس المحو استئصال أثر الشيء أي فمسحناها وسويناها كسائر الوجه بحيث لم ير لها شق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ـ روي ـ أنهم لما دخولوا داره عنوة صفقهم جبريل بجناحه صفقة فتركتهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط والصفق الضرب الذي ليس له صوت {فَذُوقُوا} أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا
280
(9/229)
{عَذَابِى وَنُذُرِ} والمراد به الطمس فإنه من جملة ما أنذروه من العذاب وفيه إشارة إلى أن طمس الأبصار كان من نتائج مسح الأبصار ولذا ورد في القرآن ونحشره يوم القيامة أعمى لأنه أعرض عن ذكر الله ولم يلتفت إليه أصلاً {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} التصبيح بإمداد بنزديك كسى آمدن.
أي جاءهم وقت الصبح {عَذَابٌ} أي الخسف والحجارة {مُّسْتَقِرٌّ} يستقر بهم ويثبت لا يفارقهم حتى يفضي بهم إلى النار يعني عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أن ما قبله من عذاب الطمس ينتهي به والحاصل أن العذاب الذي هو قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها ورميهم بالحجارة غير العذاب الذي نزل بهم من طمس الأعين فإنه عذاب دنيوي غير موصول بعذاب الآخرة وأما عذاب الخسف والحجارة فموصول به لأنهم بهذا العذاب ينتقلون إلى البرزخ الموصول بالآخرة كما أشار إليه قوله عليه السلام : من مات فقد قامت قيامته أي من حيث اتصال زمان الموت بزمان القيامة كما أن أزمنة الدنيا يتصل بعضها ببعض {فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ} حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته تعالى تشديداً للعذاب {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مر ما فيه من الكلام وفيه استئناف للتنبيه والإيقاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة وكذا تكرير قوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان وويل يومئذ للمكذبين ونحوهما من الأنباء والقصص والمواعيد والزواجر والقواطع فإن في التكرير تقريراً للمعاني في الأسماع والقلوب وتثبيتاً لها في الصدور وكلما زاد تكرير الشيء وترديده كان أقر له في القلب وأمكن في الصدر وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان وفي القصة إشارة إلى معاملة لوط الروح مع قوم النفس الأمارة ومعاملة الله بهم من إنجاء لوط الروح بسبب صفاته الروحانية وإهلاك قومه بسبب صفاتهم البشرية الطبيعية وكل من غلب عليه الشهوة البهيمية التي هي شهوة الجماع يجب عليه أن يقهر تلك الصفة ويكسرها بأحجار ذكر لا إله إلا الله ويعالج تلك الصفة بضدها وهو العفة التي هي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطها فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة بخلاف أهل الشهوة فإن الشهوة حركة للنفس طلباً للملائم وحال النفس أما إفراط أو تفريط فلا بد من إصلاحها من جميع القوى والصفات فإنها هي التي حملت الناس على الفجور وإيقاع الفتنة بينهم وتحريك الشرور :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 30 من صفحة 281 حتى صفحة 291
نمى تازد اين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
نسأل الله العون والتوفيق والثبات في طريق التحقيق {وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بالنذر أي وبالله لقد جاءهم الإنذارات من جهة موسى وهرون عليهما السلام كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل : {كَذَّبُوا بآياتنا كُلِّهَا} يعني الآيات التسع وهي اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وحل عقدة من لسانه وانفلاق البحر {فَأَخَذْنَـاهُمْ} بالعذاب عند التكذيب {أَخْذَ عَزِيزٍ} لا يغالب يعني كرفتن غالبي كه مغلوب نكردد در كرفتن {مُّقْتَدِرٍ} لا يعجزه شيء والمقصود
281
أن الله تعالى هو العزيز المقتدر ولذا أخذهم بتكذيبهم ولم يمنعه من ذلك مانع والمراد بالعذاب هو الإغراق في بحر القلزم أو النيل.
يقول الفقير : لعل سر الغرق أن فرعون وصل إلى موسى بسبب الماء الذي ساقه إليه في تابوته فلم يشكر لا نعمة الماء ولا نعمة موسى فانقلب الحال عليه بضد ذلك حيث أهلكه الله وقومه بالماء الذي هو سبب الحياة لغيرهم ووجه إدخال الطمس في العذاب بالنسبة إلى قوم لوط ودرج الطوفان ونحوه في الآيات بالإضافة إلى آل لوط ظاهر لأن المقصود هو العذاب المتعلق بالوجود والطمس كذلك دون بعض آيات فرعون {أَكُفَّارُكُمْ} يا معشر العرب {خَيْرٌ} عند الله قوة وشدة وعدة وعدة {مِّنْ أُولَئكُمْ} الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون والمعنى أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم فيما ذكر أن الأمور فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك وأنتم شر منهم مكاناً وأسوء حالاً {لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ} إضراب وانتقال من التبكيت بما ذكر إلى التبكيت بوجه آخر أي بل الكم براءة وأمن من عذاب الله بمقابلة كفركم ومعاصيكم نازلة في الكتب السماوية فلذلك تصرون على ما أنتم عليه وتأمنون بتلك البراءة والمعنى به الإنكار يعني لم ينزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمن من عذاب الله {أَمْ يَقُولُونَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 262(9/230)
جهلاً منهم {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} تبكيت والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أولوا حزم ورأى أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام أو منتصر من الأعداء منتقم لا نغلب أو متناصر بنصر بعضنا بعضاً على أن يكون افتعل بمعنى تفعل كاختصم والأفراد في منتصر باعتبار لفظ الجميع قال أبو جعل وقد ركب يوم بدر فرساً كميتاً كان يعلفه كل يوم فرقاً من ذرة وقد حلف أنه يقتل محمداً صلى الله عليه وسلّم نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه فقتلوه يومئذ وجر رأسه إلى رسول الله ابن مسعود رضي الله عنه وفيه إشارة إلى كفار صفات النفس واختلاف أنواعها مثل البهيمية والسبعية والشيطانية والهوائية والحيوانية وتناصر بعضها بنصر بعض وتعاون بعض بمعاونة بعض {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} رد وإبطال لذلك والسين للتأكيد أي سيهزم جمع قريش البتة {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار والتوحيد لإرادة الجنس يعني ينصرفون عن الحرب منهزمين وينصر الله رسوله والمؤمنين وقد كان كذلك يوم بدر قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما نزلت : سيهزم الجمع ويولون الدبر كنت لا أدري أي جمع فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله عليه السلام يلبس الدرع ويقولو : سيهزم الجمع ويولون الدبر فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله عليه السلام لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس رضي الله عنهما كان بين نزول هذه الآية وبين يوم بدر سبع سنين فالآية على هذا مكية {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل القيامة موعد أصل عذابهم وهذا من طلائعه {وَالسَّاعَةُ} إظهارها في موقع إضمارها التربية تهويلها {أَدْهَى} أعظم داهية
282
وفي أقصى غاية من الفظاعة والداهية الأمر الفظيع لا يهتدى إلى الخلاص منه {وَأَمَرُّ} أشد مرارة وفي أقصى نهاية من المرارة وحاصله أن موقف القيامة أهول من موقف بدر وعذابها أشد وأعظم من عذابه لأن عذاب الدنيا مثل الأسر والقتل والهزيمة ونحوها أنموذج من عذاب الآخرة كما أن نارها جزء من سبعين جزء من نارها
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/231)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} أي المشركين من الأولين والآخرين {فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} أي في هلاك ونيران مسعرة والتسعير آتش نيك آفروختن وقيل في ضلال عن الحق في الدنيا ونيران في الآخرة {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} منصوب إما بما يفهم من قوله في ضلال أي كائنون في ضلال وسعر يوم يجرون {فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} وإما بقوله مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم : {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} سقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف وقيل اسم لطبقتها الخامسة من سقرته النار إذا بوخته أي غيرته والمس كاللمس وهو ءدراك بظاهر البشرة والمعنى قاسوا حرها وألمها فإن مسها سبب للتألم بها فمس سقر مجاز عن ألمها بعلاقة السببية وفي القاموس ذوقوا مس سقر أي أول ما ينالكم منها كقولك وجد مس الحمى انتهى وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أول الناس يقضي فيه يوم القيامة رجل استشهد أتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها؟ قال : قاتلت في سبيلك حتى استشهدت قال : كذبت إنما أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل فأمر به فسحب علي وجهه حتى ألقى في النار وجل تعلم العلم وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها فقال : تعلمت العلم وقرأت القرآن وعملت قال : كذبت إنما أردت فلان عالم وفلان قارىء فقد قيل : فأمر به فسحب وجهه حتى ألقى في النار ورجل آتاه الله تعالى من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمة فعرفها فقال : ما عملت فيها؟ قال : ما تركت من شيء يجب أن ينفق فيه لك قال : كذبت إنما أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار وعن عطاء السلمي قال : خرجت يوماً مع أصحابي نستسقي فلقيني سعدون فقال : يا عطاء هل خرجتم بقلوب سماوية أو بقلوب أرضية قلت : بل بقلوب سماوية فقال : يا عطاء لا تتعوج فإن الناقد بصير فخجلت منه فلما دعونا ولم نمطر قلت له : ادع الله حتى يسقينا فرفع رأسه إلى السماء فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال : بحرمة ما كان بيني وبينك البارحة أن تسقينا فلم يفرغ من كلامه حتى مطرنا ثم بكى ورجع والكلام في تصحيح النية وتطهير القلب عن الغير والإخلاص تعالى ومن بقي في صفات نفسه وأعرض عن الحق وأقبل على الدنيا وشهواتها فهو يجر في نار جهنم البعد والطرد ويذوق حر نار الهجران والخذلان {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ} من الأشياء وهو منصوب بفعل يفسره ما بعده {خَلَقْنَـاهُ} حال كون ذلك الشيء ملتبساً {بِقَدَرٍ} متعين اقتضته الحكمة التي عليها يدور أمر التكوين فقدر بمعنى التقدير وهو تسوية صورته وشكله وصفاته الظاهرة والباطنة على مقدار مخصوص اقتضته الحكمة وترتبت عليه المنفعة المنوطة بخلفه أو خلقناه مقدراً مكتوباً في اللوح قبل وقوعه لا يغير ولا يبدل.
مصرع :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
قضى الله أمراً وجف القلم
سر بر خط لوح ازلي دار وخموش
283
كز هره قلم رفته قلم در نكشن
فالمراد بالقدر تقديره في علمه الأزلي وكتبه في اللوح المحفوظ وهو القدر المستعمل في جنب القضاء بالقضاء وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ مجتمعة والقدر وجودها في الأعيان بعد حصول شرائطها ولذا عبر بالخلق فإنه إنما يتعلق بالووجود الظاهري في الوقت المعين وفي الحديث "كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" وعنه عليه السلام : "كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس" وعنه عليه السلام : "لا يؤمن عبد حتى يأمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره" أي حلوه ومره قال في كشف الأسرار مذهب أهل سنت آنست كه نيكى وبدى هرند فعل بنده است وبنده بدان مثاب ومعاقب است اما بخواست الله است وبقضا وتقذير أو نانكه رب العزة كفت "قل كل من عند الله" وقال تعالى : "أنا كل شيء خلقناه بقدر" وقال عليه السلام : القدر خيره وشره من الله ففي الآية رد على القدرية والمعتزلة والخوارج.
(9/232)
وفي التأويلات النجمية خلقنا كل شيء أي موجود علمي وعيني في الأزل بمقدار معين مثل ما قال الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي كل شيء مخلوق على مقتضى استعداده الذاتي وقابليته الأصلية الأزلية لا زائد فيه ولا ناقص كما قال الغزالي رحمه الله ليس في الإمكان أبدع من هذا الوجود لأنه لو كان ولم يظهر لكان بخيلاً وهو جواد ولكان عاجزاً وهو قادر {وَمَآ أَمْرُنَآ} لشيء نريد تكوينه {إِلا وَاحِدَةٌ} أي كلمة واحدة لا تثنى سريعة التكوين وهو قوله تعالى : كن أو إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة {كَلَمْحِ الْبَصَرِ} في اليسر والسرعة فإن اللمح النظر بالعجلة فمعنى كلمح كنظر سريع قال في القاموس لمح إليه كمنع اختلس النظر كألمح وفي المفردات اللمح لمعان البرق ورأيته لمحة برق قال ابن الشيخ لما اشتملت الآيات السابقة على وعيد كفار أهل مكة بالإهلاك عاجلاً وآجلاً والوعد للمؤمنين بالانتصار منهم جيىء بقوله : أنا كل شيء خلقناه بقدر تأكيداً للوعيد والوعد يعني أن هذا لوعيد والوعد حق وصدق والموعود مثبت في اللوح مقدر عند الله لا يزيد ولا ينقص وذلك على الله يسير لأن قضاءه في خلقه أسرع من لمح البصر وقيل : معنى الآية معنى قوله تعالى : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر قال بعض الكبار : ليس المراد بكلمة كن حرف الكاف والنون إنما المراد بها المعنى الذي به كان ظهور الأشياء فكن حجاب للمعنى لمن فهم وكل إنسان له في باطنه قوة كن وماله في ظاهره إلا المعتاد وفي الآخرة يكون حكم كن منه في الظاهر وقد يعطي الله ذلك لبعض الرجال في هذه الدار بحكم الإرث لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه تصرف بها في عدة مواطن : منها قوله في غزوة تبوك كن أباذر فكان أباذر ثم لا يخفى أنه لم يعط أحد من الملائكة وغيرهم حرف كن إنما هي خاصة بالإنسان لما انطوى عليه من الخلافة والنيابة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وفي التأويلات النجمية وما أمر تجلينا للأشياء كلها علويها وسفليها ألا تجعل واحد أي واحداني الوصف لا كثرة فيه لكن يتكثر بحسب المتجلى له ويظهر فيه بحسبه ظهور الصورة
284
الواحدة في المرائي المتكثرة يظهر في الكبير كبيراً وفي الصغير صغيراً وفي المستطيل مستطيلاف وفي مستدير مستديراً والصورة على حالتها المخلوقة عليها باقية لا تغير ولا تبدل بها كما يلمح الناظر ويرى في اللمحة الواحدة ما يحاذي بصره {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أي أشباهكم في الكفر من الأمم جمع شيعة وهو من يتقوى به الإنسان وينشر عنه كما في المفردات وقال في القاموس : شيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره والفرقة على حدة ويقع على الواحد والإثنين والجمع والمذكر والمؤنث {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ يتعظ بذلك فيخاف وفيه إشارة إلى أنا بقدرتنا الأزلية وحكمتنا البالغة أهلكنا وأفنينا أشباهكم وأمثالكم يا أرباب النفوس الأمارة ويا أصحاب القلوب الجوالة إما بالموت الطبيعي وإما بالموت الإرادي فهل من معتبر يعتبر هذا وهذا يختار لنفسه الأليق والأحرى {وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ} من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل {فِى الزُّبُرِ} أي في ديوان الحفظة جمع زبور بمعنى الكتاب فهو بمعنى مزبور كالكتاب بمعنى مكتوب وقال الغزالي رحمه الله : كل شيء فعله الأمم في كتب أنبيائهم المنزلة عليهم كأفعال كفار زماننا في كتابنا {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمال {مُّسْتَطَرٌ} مسطور في اللوح المحفوظ بتفاصيله يقال : استطره كتبه كما في القاموس قال يحيى بن معاذ رحمه الله : من علم أن أفعاله تعرض عليه في مشهد الصدق وأنه مجازي عليها اجتهد في إصلاح أفعاله وإخلاص أعماله ولزم الاستغفار لما سلف من إفراطه وقد روى أن النبي عليه السلام ضرب لصغائر الذنوب مثلاً فقال : إنما محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض وحضر جميع القوم فانطلق كل واحد منهم بحطب فجعل الرجل يجيء بالعود والآخر بالعود حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً فشووا خبرهم وأن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلا أن يغفر الله اتقوا محقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ولقد أحسن من قال :
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
واصنع كماش فوق را
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
(9/233)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي من الكفر والمعاصي {فِى جَنَّـاتٍ} أي بساتين عظيمة الشان بحيث لا يوصف نعيمها وما أعد فيها لأهلها {وَنَهَرٍ} أي أنهار كذلك يعني أنهار الماء والخمر والعمل واللبين والأفراد للأفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} خبر بعد خبر وهو من إضافة والصدق بمعنى الجودة والمعنى في مكان مرضى ومجلس حق سالم من اللغو والتأثيم بخلاف مجالس الدنيا فقل إن سلمت من ذلك {عِندَ مَلِيكٍ} المراد من العندية قرب المنزلة والمكانة دون قرب المكان والمسافة والمليك أبلغ من المالك وهو بالفارسية ادشاه.
والتنكير للتعظيم والمعنى حال كونهم مقربين عند عزيز الملك واسمه لا يقادر قدر ملكه فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته فأي منزلة أكرم من تلك وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها {مُّقْتَدِرٍ} قادر لا يعجزه شيء عال وأمره في الاقتدار.
وفي التأويلات النجمية يعني المتقين بالله عما سواه في جنات الوصلة وأنهار مياه المعرفة والحكمة
285
ينغمسون فيها ويخرجون منها درر المعارف ولآلىء العوارف في مقعد صدق هو مقام الوحدة الذاتية في مقام العندية كما قال عليه السلام : أنيت عند ربي يطعمني ويسقيني ودر كشف الأسرار آورده كه كلمه عند رقم تقريب وتخصيص دارد يعني أهل قرب فردادران سرايدان اختصاص خواهند داشت وحضرت يغمبر عليه السلام امروز درين سر مخصوص بآن بوده كه "أبيت عند ربي" وون رتبه كه فردا خواص بآن نازند امروز اى ادناى وى بوده س از مرتبه اعلاى فرداى اوكه نشان تواند داد :
أي محرم سر لا يزالي
مرآت جمال ذي الجلالي
مهمان ابيت عند ربي
صاحب دل لا ينام قلبي
از قربت حضرت الهي
هستى بمثابه كه خواهى
قربى عبارتش نسنجد
در حوصله خرد نكنجد
كم كشته بود عبارت آنجا
بلكه نرسد عبارت آنجا
وفي الآية إشارة إلى أن تقوى توصل العبد إلى جنات الدرجات وأنهار العلوم والمعارف الحقيقية الإلهية ثم إلى مقام الصديقين ثم إلى مقام الوحدة الذاتية المشار إليها بالعندية قال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو المقام الذي يصدق الله فيه وعده لأوليائه بأن يبيح لهم النظر إلى وجهه الكريم قيمت وعز آن بقعه نه بمرغ بريان وجوى روان وحيرات حسان است بلكه بديدار نانكه قيمت صدف بدر شاهوار كما قيل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وما عهدي بحب تراب أرض
ولكن من يحل بها حبيب
أي خوشا عيشا كه مؤمنا نراست دران مجلس انس وحظيره قدس باديه انتظار بريده بكعبه وصال رسيده خلعت رضا وشيده شربت سرور ازشمه وفانوشيده عيش بى عتاب ونعمت بي حساب وديدار بى حجاب يافته.
ـ روي ـ صالح بن حبان عن عبد الله بن بريدة أنه قال في هذه الآية أن أهل الجنة يدخلون كل يوم مرتين على الجبار تعالى فيقرأون عليه القرآن وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي له ومجلسي على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بأعمالهم فلم تقر أعينهم بشيء قط كما تقر أعينهم بذلك ولم يسمعوا شيئاً أعظم ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد قال بعضهم : المراد بمن في الآية هم الذين لا تحجبهم الجنة ولا النعيم ولا شيء عنه تعالى قال البقلي : يا أخي هؤلاء غرباء الله في الدنيا والآخرة أدخلهم في أغرب المنازل وهو مقام المجالسة معه بحيث لا يطلع عليه إلا أهل الصدق في طلبه وهم فقراء المعرفة الذين قال عليه السلام فيهم الفقراء جلساء الله.
سئل أبو يزيد البسطامي قدس سره عن الغريب قال الغريب : من أذا طالبه الخلق في الدنيا لم يجدوه ولو طالبه مالك في النار لم يجده ولو طالبه رضوان في الجنة لم يجده فقيل : أين يكون يا أبا يزيد؟ فقال : إن المتقين في جنات الخ فلا بد من الصدق وخدمة الصادقين حتى يصل الإنسان إلى هذا المطلب الجليل وهو على وجوه ومراتب أما الصدق
286
في القول فبصون اللسان عن الكذب الذي هو أقبح الذنوب قال عليه السلام : التجار هم الكفار فقيل : أليس الله قد أحل البيع؟ قال : نعم ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون وقال عليه السلام : الكذب ينقص الرزق وفي الحديث : "أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر" وأما الصدق في الحال فبصون الحال هما ينقصه مثلاً إذا عزم على أمر وحال من التسليم والتوكل وغيرهما فصدقه بالاستمرار على عزيمته والاحتراز عن النقض وأهل السلوك تهتمون في صدق الحال أشد الاهتمام.
(9/234)
ـ روي ـ أن واحداً منهم كان كثير الوجد والزعقات فجاء يوماً وأودع خرقته عند الشيخ في الحرم الشريف وقال : إن صيحتي الآن لامرأة عشقتها فأنا لا أريد أن أكون كاذباً في حالي بأن ألبس لباس العشاق وأنا على تلك الحال ثم إنه بعد أيام جاء وأخذ خرقته وقال : الحمدالذي خلصني منها وعدت إلى حالي ومن قبيل الصدق في الحال صدق لمريد من إرادته فإنه إذا وقع منه حركة مخالفة لإرادة الشيخ فهو كاذب في إرادته فإن المريد من أفنى إرادته في إرادة الشيخ ففي أي مرتبة من القال والحال وجد الصدق كان سبب النجاة وباعثاً لرفع الدرجات قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
سيعطي الصادقين بفضل صدق
نجاة في الحياة وفي الممات
وسبب هذا الشعر أن ثلاثة أخوة من الشأم كانوا يغزون فأسرهم الروم مرة فقال لهم الملك : إني أجعلكم ملوكاً وأزوجكم بناتي إن قبلتم النصرانية فأبوا وقالوا : يا محمداه فأدخل اثنين في الزيت المغلي وأخذ الثالث علج وسلط عليه ابنته وكانت من أجمل النساء فأخذ الشاب في صيام النهار وقيام الليل فآمنت البنت وخرجا إلى الشام فجاء أخواه الشهيدان مع الملائكة ليلة وزوجاه المرأة وسألهما أخوهما عن حالهما فقالا : ما كانت إلا التي رأيت حتى دخلنا في الفردوس وإن الله تعالى أرسلنا إليك نشهد تزويجك بهذه الفتاة وكانا مشهورين بالشام حتى قال الشعراء فيهما أبياتاً منها ما ذكرناه.
ـ وروي ـ جنيد البغدادي قدس سره عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال : الصوف ثلاثة أحرف فالصاد صدق وصبر وصفاء والواو ود وورد ووفاء والفاء فقر وفرد وفناء فإذا لم توجد هذه الصفات في لا يكون صوفياً قال سهل رحمه اللهك أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم وسئل فتح الموصلي رحمه الله عن الصادق فأدخل يده في كير الحديد وأخرج حديدة محماة ووضعها في كفه وقال : هذا هو الصدق قال جنيد البغدادي رحمه الله : الصادق ينقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة وذلك لأن مطلب العارفين من الله الصدق والعبودية والقيام بحق الربوبية من غير مراعاة حظ النفس وكل من عداهم من العابد والزاهد والعالم لا يفارقون الحظوظ والأغراض نسأل الله العافية :
287
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
تفسير سورة الرحمن
وتسمى عروس القرآن مكية أو مدنية وآيها ست أو سبع أو ثمان وسبعون
جزء : 9 رقم الصفحة : 287
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{الرَّحْمَانُ} مبتدأ خبره ما بعده أي الذي له الرحمة الكاملة كما جاء في بعض الدعاء رحمان الدنيا ورحيم الآخرة لأنه عم الرزق في الدنيا كما قيل :
أديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغما ه دشمن ه دوست(9/235)
وخص المؤمنين بالعفو في الآخرة وبالفارسية خداوند بخشايش بسياركه رحمت او همه يز را رسيده.
والرحمة في الحقيقة العف والعنو أعني الميل الروحاني ومنه الرحم لانعطافها الحسي على ما فيها وأريد بها بالنسبة إلى الله تعالى إرادة الخير أو الإنعام لأن عطف على أحد أصابه بأحدهما قال الإمام الغزالي رحمه الله : الرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولاً وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانياً والإسعاد بالآخرة ثالثاً والإنعام بالنظر إلى وجه الكريم رابعاً انتهى.
ولما كانت هذه السورة الكاملة شاملة لتعداد النعم الدنيوية والأخروية والجسمانية والروحانية طرزها بطراز اسم الرحمن الذي هو اسم الذات المشتمل على جميع الأسماء والصفات ليسند إليه النعم المختلفة بعده ولما كان القرآن أعظم النعم شأناً لأنه مدار جميع السعادات ولذا قال عليه السلام : أشراف أمتي حملة القرآن أي ملازموا قراءته وأصحاب الليل وقال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه وفيه جميع حقائق الكتب السماوية وكان تعليمه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها بدأبه فقال : {عَلَّمَ} محمداً صلى الله عليه وسلّم {الْقُرْءَانَ} بواسطة جبريل عليه السلام وبواسطة محمد عليه السلام غيره من الأمة.
قال الكاشفي : يعني آسان كردانيده مراورا آموختن وديكر انرا آموزانيدن.
قال ابن عطاء رحمه الله : لما قال الله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أراد أن يخص أمة محمد بخاصة مثله فقال : الرحمن علم القرآن أي الذي علم آدم الأسماء وفضله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن وفضلكم به على سائر الأمم فقيل له : متى علمهم؟ قال : علمهم حقيقة في الأزل وأظهر لهم تعليمه وقت الإيجاد وفيه إشارة إلى أن تعليم القرآن وإن كان في الصورة بواسطة جبريل من الوجه العام لكنه كان بلا واسطة في المعنى من الوجه الخاص على ما سيزيد وضوحاً في محله إن شاء الله تعالى وقال بعضهم : علم القرآن أي أعطى الاستعداد الكامل في الأزل لجميع المستعدين ولذلك قال : علم القرآن ولم يقل علم الفرقان كما في قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان فإن الكلام الإلهي قرآن باعتبار الجمع والبداية وفرقان باعتبار الفرق والنهاية فهو بهذا العنى لا يتوقف على خلق الإنسان وظهوره في هذا العالم وإنما الموقوف عليه تعليم البيان ولذا قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان وخلقه على تعليم البيان انتهى وفي الآية إشارة إلى أن التعليم والتسهيل إنما هو من الله تعالى لا من المعلمين والحافظين وقد علم آدم الأسماء ووفقه لتعلمها وسهله بإذنه وعلم داود صنعة الدرع كما قال وعلمناه صنعة لبوس لكم وعلم عيسى علم الطب كما قال ويعلمه الكتاب والحكمة وعلم الخضر العلم اللدني كما قال وعلمناه من لدنا علماً
288
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وعلم نبينا عليه السلام القرآن وأسرار الألوهية كما قال : وعلمك ما لم تكن تعلم وعلم الإنسان البيان قال في فتح الرحمن : ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق إن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعاً كلها يدل على خلقه وقد اقترنا في هذه السورة على هذا النحو قاله المولى أبو السعود رحمه الله ثم قيل : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} تبييناً للمعلم وكيفية التعليم والمراد بخلق الإنسان إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة والبيان هو التعبير عما في الضمير قال الراغب : البيان الكشف عن الشيء وهو أعم من النطق لأن النطق مختص بالإنسان وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المعنى المقصود وإظهاره انتهى وليس المراد بتعليمه مجرد تمكين الإنسان من بيان نفسه بل منه ومن فهم بيان غيره أيضاً إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن والمراد به جنس الإنسان الشامل لجميع أصنافه وأفراده وفي بحر العلوم خلق الإنسان أي آدم وعلمه الأسماء واللغات كلها وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/236)
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن الله تعالى قد تكلم بجميع اللغات سواء كان التعليم بواسطة أم لا فإن قلت : كيف يتكلم الله باللغات المختلفة والكلام النفسي عار عن جميع الأكسية قلت : نعم ولكنه في مراتب التنزلات والاسترسالات لا بد له من الكسوة فالعربية مثلاً كسوة عارضة بالنسبة إلى الكلام في نفسه وقد ذقنا في أنفسنا أنه يجيء الإلهام والخطاب تارة باللفظ العربي وأخرى بالفارسي وبالتركي مع كونه بلا واسطة ملك لأن الأخذ عن الله لا ينقطع إلا يوم القيامة وذلك بلا واسطة وإن كان الغالب وساطة الملك من حيث لا يرى فاعرف ذلك {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} مبتدأ وخبر والحسبان بالضام مصدر معنى الحساب كالغفران والرجحان يقال حسبه عده وبابه نصر حساباً بالكسر وحسباناً بالضم وأما الحسبان بالكسر فبمعنى الظن من حسب بالكسر بمعنى ظن والمعنى يجريان بحساب مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية ويختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب فالسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً والشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم أو أقل وفيه إشارة إلى شمس فلك البروج وقمر كرة القلب سيرانهما في بروج التجليات الذاتية ومنازل التجليات الأسمائية والصفاتية وكل ذلك السيران بحسب استعداد كل واحد منهما بحساب معلوم وأمر مقسوم {وَالنَّجْمُ} أي النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له مثل الكرم والقرع ونحو ذلك {وَالشَّجَرُ} الذي له ساق وفي المنتقى كل نابت إذا ترك حتى يبرز انقطع فليس بشجر وكل شيء يبرز ولا ينقطع من سنته فهو شجر {يَسْجُدَانِ} أي ينقادان له تعالى فيما يريد بهما طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً أو يسجد ظلهما على ما بين في قوله تعالى يتفيأ صلاله عن اليمين والشمائل سجد الله وكفته اندمارا بر سجود ايشان وقوف نيست نانه بر تسبيح ايشان كما قال تعالى : "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" ذكر في مقابلة النعمتين السماويتين اللتين هما الشمس والقمر نعمتين أرضيتين وهما النجم والشجر
289
وكلاهما من قبيل النبات الذي هو أصل الرزق من الحبوب والثمار والحشيش للدواب وإخلاء الجمل الأولى عن العطف لورودها على منهاج التعديد تنبيهاً على تقاعده في الشكر كما في قولك زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد وأما عطف جملة والنجم على ما قبلها فلتناسبها من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان ومن حيث أن كلاً من حال علويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله تعالى ولما كانت هذه الأربعة مغايرة لجنس الإنسان في ذاته وصفاته غير النظم بإيرادها في صورة الاسمية تحقيقاً للتغاير بينهما وضعاً وطبعاً صورة ومعنى وفيه إشارة إلى سجود نجم العقل الذي به يهتدي إلى معرفة الأشياء واستهلاكه وتلاشية عند النظر إلى الحقائق الإلهية والمعارف الربانية لعدم قوة إدراكه إياها مستعداً بنفسه غير مستفيض من الفيض الإلهي بطريق الكشف والشهود وإلى سجود شجر الفكر المتشجر بالقوى الطبيعية والقوى الوهمية والخيالية وانحصاره في القوة المزاجية العنصرية وعدم تمكنه من إدراك الحقائق على ما هي عليه كما قيل العقل والفكر جالا حول سرادق الكون فإذا نظرا إلى المكون ذابا وكيف لا وهما مخلوقان محصوران تحت حصر الخلقية والحدوث وأنى للخلق المحدث معرفة الخالق القديم وما قدروا الله حق قدره
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/237)
{وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} انتصابه بمحذوف يفسره المذكور أي خلقها مرفوعة محلاً كما هو محسوس مشاهد وكذا رتبة حيث جعلها منشأ أحكامه وقضاياه وتنزل أوامره ومحل ملائكته وقال بعضهم : رفعها من السفل إلى العلو سقفاً لمصالح العباد وجعل ما بينهما مسيرة خمسمائة عام وذلك لأن السماء دخان فاربه موج الماء الذي كان في الأرض {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق لما استحقه ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم واستقام كما قال عليه السلام بالعدل قامت السموات والأرض قيل فعلى هذا الميزان هو القرآن وقيل هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان وميكال ونحوهما فالمعنى خلق كل ما توزن به الأشياء ويعرف مقاديرها موضوعاً مخفوضاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم قال سعدي المفتي وأنت خبير بأن قوله أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن أشد ملاءمة لهذا المعنى ولهذا اقتصر عليه الزمخشري.
قال الكاشفي : ووضع الميزان وبيا فريد يا منزل كردانيد ترازورا يا الهام داد خلق را بكيفيت ايجادان.
ليتوصل به إلا الإنصاف والانتصاف وكان ذلك في زمان نوح عليه السلام إذ لم يكن قبله كيل ووزن وذراع قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك وأوف كما تحب أن يوفى لك فإن العدل صلاح الناس {أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ} أن ناصبة ولا نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بوضع الميزان أي وضعه لئلا تطغوا فيه ولا تعتدوا ولا تتجاوزوا الإنصاف وبالفارسية ازحد نكذريد در ترازو بوقت داد وستد يعني از عدل تجاوز نكنيد وبراستى معامله نمايد.
قال ابن الشيخ الطغيان مجاوزة الحد فمن قال الميزان العدل قال طغيانه الجور ومن قال إنه الميزان الذي هو آلة التسوية قال طغيانه البخس أي
290
النقص.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 31 من صفحة 291 حتى صفحة 300
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قوموا وزنكم بالعدل أي اجعلوه مستقيماً به وفي المفردات الوزن معرفة قدر الشيء والمعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان وقوله وأقيموا الوزن بالقسط إشارة إلى مراعاة المعدل في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} يقال : خسرت الشيء بالفتح واحسرته نقصته وبابه ضرب وأما خسر في البيع فبالكسر كما في المختار وقال في القاموس : خسر كفرح وضرب ضل والخسر والإخسار النقص أي لا تنقصوه لأن من حقه أن يسوي لأنه المقصود من وضعه قال سعدي المفتي : المراد لا تنقصوا الموزون في الميزان لا الميزان نفسه أمر أولاً بالتسوية ثم نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ثم عن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتأكيداً للأمر باستعماله والحث عليه.
قال الكاشفي : أين همه تأكيد اهل ترازو راجهت آنست كه بوقت وضع ميزان قيامت شرمنده نشوند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
هرجو وهرحبه كه بازوى تو
كم كند از كيد ترازوى تو
هست يكايك همه برجاى خويش
روز جزا جمله بيارند يش
باتو نمايند نهانيت را
كم دهى وبيش ستانيت را
ـ روي ـ عن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على جار له احتضر فقال : يا مالك جبلان من نار بين يدي أكلف الصعود عليهما قال : فسألت أهله فقالوا : كان له مكياً لأن يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتى كسرتهما ثم سألت الرجل فقال : ما يزداد الأمر علي إلا عظماً وفي المفردات قوله : ولا تخسروا الميزان يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يتعاطاه في الوزن ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى تعاطي ما لا يكون ميزانه به يوم القيامة خاسراً فيكون ممن قال فيه فمن خفت موازينه وكلا المعنيين يتلازمان وكل خسران ذكره الله في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالقنيات الدنيوية والتجارات البشرية.
يقول الفقير وجه توسيط الميزان بين رفع السماء ووضع الأرض هو الإشارة إلى أنه بالعدل قامت السموات والأرض كما ورد في الحديث وإلى أنه لا بد من ميزان العقل بين الروح والجسد حتى يعتدلا ولا يتجاوز أحدهما الآخر والاعتدال الحقيقي هو الوقوف بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلاً وشرعاً وعرفاً والموزونات هي الأمور العلمية والعملية المعدلة بالعقل المبني على الاستعداد الذاتي {وَالارْضَ وَضَعَهَا} أي خفضها مدحوة على الماء أي مبسوطة {لِلانَامِ} أي لمنافع الأنام وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق والجن والإنس مما على الأرض كما في القاموس فهي كالمهاد والفراش لهم يتقلبون عليها ويتصرفون فوقها وقال ابن عباس رضي الله عنهما رب الناس ويدل عليه وقوله :
مبارك الوجه يستقى الغمام به
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ما في الأنام له عدل ولا مثل
291
(9/238)
وقال قتادة : كل ذي روح لأنه ينام وقيل من ومن الذباب همس وفيه إشارة إلى بسط أرض البشرية لتنتعش كل قبيلة بما يلائم طبعها أما انتعاش أهل النفوس البشرية فباستيفاء الشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية وأما انتعاش أصحاب القلوب المعنوية فبالواردات القلبية والإلهامات الغيبية وأما انتعاش أرباب الأرواح العلوية فبالتجليات الروحانية والمحاضرات الربانية وأما انتعاش صناديد الأسرار اللاهوتية القدسية فبالتجليات الذاتية الأحدية المفنية لكل ما سواه {فِيهَا فَـاكِهَةٌ} ضروب كثيرة مما يتفكه به ويتلذذ ففاكهة تشعر باختلاف الأنواع {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاكْمَامِ} وهي أوعية الثمر وغلفها قبل التفتق.
يعني خوشهاى آن درغلاف.
جمع كم بالكسر وهو الغلاف الذي يكون فيه الثمر أول ظهوره.
تا ما دامكه مغشق نشده درغلاف باشد ومعنى النخل بالفارسية يعني درخت خرما.
اوهو أي الكم كل ما يكم بضم الكاف من باب نصر أي يغطي من ليف وسغف وكفرى فإنه مما ينتفع به كما ينتفع من المكموم من ثمره وحماره وجذوعه فالليف يغطي الجذع والسعف الجمار وهو كرمان شحم النخل بالفارسية دل درخت خرما.
والكفرى الثمر {وَالْحَبُّ} ودر زمين دانه است.
وهو كل ما يتغذى به ويقتات كالحنطة والشعر وغيرهما {ذُو الْعَصْفِ} هو ورق الزرع أو ورق النبات اليابس كالتبن.
قال الكاشفي : وعصف كياهيست كه ازو دانه جدا ميشود.
وفي المفردات : العصف والعصيفة الذي يعصف من الزرع قال في تاج المصادر : العصف برك كشت ببريدن {وَالرَّيْحَانُ} قال في المفردات الريحان ماله رائحة وقيل : الرزق ثم يقال للحب المأكول ريحان كما في قوله والحب ذو العصف وقيل الأعرابي إلى أين قال اطلب ريحان الله أي رزقه والأصل ما ذكرنا انتهى قال ابن عباس ومجاهد والضحاك هو الرزق بلغة حمير فالمراد بالريحان هنا إما الرزق أو المشموم كما قال الحسن الريحان هو ريحانكم هذا الذي يشم وهو كل ما طابت رائحته من النبات أو الشاهسفرم وعند الفقهاء الريحان ما لساقه رائحة طيبة كما لورقه كالآس والورد ما لورقه رائحة طيبة فقط كالياسمين كذا في المغرب قال ابن الشيخ : كل بقلة طيبة الرائحة سميت ريحاناً لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي يشم يقال راح الشيء يراحه ويريحه وأراح الشيء بريحه إذا وجد ريحه وفي الحديث : "من قتل نفساً معاهدة لم يرح رائحة الجنة" ويروى : لم يرح من راحه يريحه والريحان في الأصل ريوحان كفعيلان من روح فقلبت الواويان وأدغم ثم خفف بحذف عين الكلمة كما في ميت أو كفو علان قلبت واوه ياء للتخفيف أو للفرق بينه وبين الروحان وهو ماله روح {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الحطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى للأنام لعمومه لهما واشتماله عليهما وسينطق به قوله تعالى : أيها الثقلان وكذا في ذكر أبوي الفريقين بقوله : خلق الإنسان دخلق الجان إشعار بأن الخطاب لهما جميعاً والآلاء النعم واحدها إلى والى والو والى والى كما في القاموس قال في بحر العلوم : الآلاء النعم الظاهرة والباطنة الواصلة إلى الفريقين وبهذا يظهر فساد ما قيل من أن الآلاء هي النعم الظاهرة فحسب والنعماء هي النعم الباطنة والصواب أنهما من الألفاظ المترادفة كالأسود
292
والليوث والفلك والسفن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وفي التأويلات النجمية : الآلاء هي النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة والآيات المتوالية تدل على هذا لأنها نعمة ظاهرة بالنسبة إلى أهل الظاهر ومعنى تكذيبهم بالآلاء كفرهم بها والتعبير عن الكفر بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان مع أن كلاً منها ناطق بالحق شاهد بالصدق فالاستفهام للتقرير أي للحمل على الإقرار بتلك النعم ووجوب الشكر عليها.
(9/239)
ـ روي ـ عن جابر رضي الله عنه أنه قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سورة الرحمن حتى ختمها قال : مالي أراكم سكوتاً للجن كانوا أحسن منكم رداً ما قرأت عليهم هذه الآية مرة فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد قال في بحر العلوم : وفيه دلالة بينة على أن الآلاء أراد بها النعم المطلقة الشاملة للظاهرة والباطنة لا المقيدة بالظاهرة كما سبق إليه بعض الأوهام انتهى قال في آكام المرجان دلت الآية على أن الجن كلهم مكلفون ولا خلاف فيه بين أهل النظر وزعمت الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وأنهم ليسوا مكلفين والدليل على أنهم مكلفون ما في القرآن من ذم الشياطين ولعنهم والتحذير من غوائلهم وشرهم وذكر ما أعده الله لهم من العذاب وهذه الخصال لا يفعلها الله إلا لمن خالف الأمر والنهي وارتكب الكبائر وهتك المحارم مع تمكنه من أن لا يفعل ذلك وقدرته على فعل خلافه ويدل على ذلك أيضاً أنه كان من دين النبي عليه السلام لعن الشياطين والبيان عن حالهم وأنهم يدعون إلى الشر والمعاصي ويوسوسون بذلك وتكرار هذه الآية في هذه الصورة لطرد الغفلة وتأكيد الحجة وتذكير النعمة وتقرير الكرامة من قولهم كم نعمة كانت لكم كم كم وكم وكقولك لرجل أحسنت إليه بأنواع الأيادي وهو ينكرها ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا ألم تكن عرياناً فكسوتك أفتنكر هذا ألم تكن خاملاً فعززتك أفتنكر هذا وقال الشاعر :
لا تقطعن الصديق ما طرفت
عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته
زره وزره زر ثم زر وزر
وقال في برهان القرآن : تكررت الآية إحدى وثلاثين مرة ثمان منها ذكرها عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ثم سبع منها عقيب آياب فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم وحسن ذكر الآلاء عقيبها لأن في خوفها ودفعها نعماً توازي النعم المذكورة أو لأنها حلت بالأعداء وذلك يعد من أكبر النعماء وبعد هذه السبع ثمان في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة وثمان أخرى بعدها للجنتين اللتين دونها فمن اعتقد الثماني الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه الله السبع السابقة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
يقول الفقير من لطائف أسرار هذا المقام أن لفظ ال في اول اسم الرحمن المعنون به هذه السورة الجليلة دل على تلك الإحدى والثلاثين {خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ كَالْفَخَّارِ} بيافريد انسانرا از كل خشك مانند سفال خته كه دست
293
بروى زنى آواز كنده.
الصلصال الطين اليابس الغير المطبوخ الذي له صلصلة أي صوت يسمع من يبسه وصح عن رسول الله عليه السلام أنه قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات لصوته صلصلة كصلصلة الجرس على الصفوان والفخار والخزف أي الطين المطبوخ بالنار وتشبيهه بالفخار لصوته باليبس إذا نقر كأنه صور بصورة من يكثر التفاخر أو لأنه أوجوف وقد خلق الله آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً ثم جمأ مسنوناً ثم صلصالاً ثم صب عليه ماء الأخزان فلا ترى ابن آدم ألا يكابد حزناً فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين {وَخَلَقَ الْجَآنَّ} أي الجن أو أبا الجن أو إبليس وبه قال الضحاك وفي الكشف الجان أبو الجن كما أن الإنسان أبو الإنس وإبليس أبو الشياطين {مِن مَّارِجٍ} أي من لهب صاف من الدخان وقال مجاهد المارج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا وقدت من مرج أمر القوم إذا اختلط واضطرب فمعنى من مارج من لهب مختلط {مِّن نَّارٍ} بيان لمارج فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب وفي كشف الأسرار خلق الجن من مارج من نار والملائكة من نورها والشياطين من دخانها وقال بعضهم : من النار التي بين الكلية الرقيقة وبين السماء وفيها يكون البرق ولا السماء إلا من وراء تلك الكلية.
درباب نهم ازسفر نانىء فتوحات مذكور است كه مارج آتشست ممتزج بهواكه آنرا هواى مشتعل كويند س جان مخلوقست اذ دو عنصر آتش وهو وردم آفريده شده ازدو عنصر آب وخاك ون آب وخاك بهم شوند آنرا طين كويند وون هوا وآتش مختلط كردد آنرا مارج خوانند ونانكه تناسل دربشر بالقاء آتست در رحم تناسل درجن بالقاء هواست در رحم انثى وميان آفرينش جان وآدم شصت هزار سال بود {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات وفيه إشارة إلى أن الحق سبحانه تجلى لحقيقة إنسان الروح بصورة صفة صلصال اللطف والجمال والحقيقة إبليس النفس بصورة صفة مارج القهر والجلال فصار أحدهما مظهراً لصورة لطفه والآخر لصورة قهره فبأي آلاء ربكما تكذبان أيها الروح اللطيف والنفس الخبيثة لأن كل واحد منكما قد ذاق ما جبل عليه من اللطف والقهر والطيب والخبث
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/240)
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} خبر مبتدأ محذوف أي الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ومن قضيته أن يكون رب بينهما من الموجودات قاطبة يعني أن ذكر غاية ارتفاعهما وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناولان ما بينهما كما إذا قلت في وصف ملك عظيم الملك له المشرق والمغرب فإنه يفهم منه أن له ما بينهما أيضاً.
قال في كشف الأسرار أحد المشرقين هو الذي تطلع منه الشمس في أطول يوم من السنة والثاني الذي تطلع منه في أقصر يوم وبينهما مائة وثمانون مشرقاً وكذا الكلام في المغربين وقيل أحد المشرقين للشمس والثاني للقمر وكذا المغربان وأما قول عليه السلام بن عمر رضي الله عنهما ما بين المشرق والمغرب قبلة يعني لأهل المشرق وهو
294
أن تجعل مغرب الصيف على يمينك ومشرق الشتاء على يسارك فتكون مستقبل القبلة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما في ذلك في فوائد لا تحصى من اعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته إلى غير ذلك {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها وخليتها للرعي والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب وبالفارسية راه داد دو دريا راكه يكى خوش وشيرين ويكى تلخ وشور {يَلْتَقِيَانِ} حال من البحرين قريبة من الحال المقدرة أي يتجاوران ويتماس سطوحهما لا فصل في مرأى العين وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلافه فراسخ لا يتغير طعمها وقيل أرسل بحر فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه قال سعدي المفتي وعلى هذا فقوله يلتقيان إما حال مقدرة إن كان المراد إرسالهما إلى المحيط أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما منه فلكل وجه {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجز من قدرة الله أو من الأرض والبرزخ الحائل بين الشيئين ومنه سمي القبر برزخاً لأنه بين الدنيا والآخرة وقيل للوسوسة برزخ الإيمان لأنها طائفة بين الشيك واليقين {لا يَبْغِيَانِ} أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية مع أن شأنهما الاختلاط على الفور بل يبقيان على حالهما زماناً يسيراً مع أن شأنهما الاختلاط وانفعال كل واحد منهما عن الآخر على الفور أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما من الأرض لتكون الأرض بارزة يتخذها أهلها مسكناً ومهاداً فقوله لا يبغيان إما من الابتغاء وهو الطلب أي لا يطلبان غير ما قدر لهما أو من البغي وهو مجاوزة كل واحد منهما ما حد له {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وليس من الرحرين شيء يقبل التكذيب لما فيه من الفوائد والعبر {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} اللؤلؤ الدر والمرجان الخرز الأحمر المشهور يقال يلقيه الجن في البحر وقال في خريدة العجائب اللؤلؤ يتكون في بحر الهند وفارس والمرجان ينبت في البحر كالشجر وإذا كلس المرجان عقد الزئبق فمنه أبيض ومنه أْمر ومنه أسود وهو يقوي البصر كحلاً وينشف رطوبة العين انتهى وقيل : اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
واعلم أنه إن أريد بالبحرين هنا بحر فارس وبحر الروم فلا حاجة في قوله منهما إلى التأويل إذ اللؤلؤ والمرجان بمعنييه يخرجان منهما لأن كلاً منهما ملح ولا عذب في البحار السبعة إلا على قول من قال في الآية يخرج من مالح بحري فارس والروم ومن عذب بحر الصين وفي بحر العلوم أن اللؤلؤ يخرج من بحر فارس والمرجان من بحر الروم يعني لا من كليهما وأن أريد بهما البحر الملح والبحر العذب فنسبة خروجهما حينئذ إلى البحرين مع أنهما إنما يخرجان من البحر الملح أو مع أنهما لا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه كما يقال يخرج الولد من الذكر والأنثى وإنما تلده الأنثى وهو الأظهر أو لأنهما لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب وهذا يحتمل معنيين أحدهما أن الملتقى اسم مكان والخروج بمعنى الانتقال من الباطن إلى الظاهر فإنه قال الجمهور يخرج من الأجاج من المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما وهذا مشهور عند الغواصين والثاني أنه مصدر ميمي
295
(9/241)
بمعنى الالتقاء والخرج بمعنى الحدوث والحدوث بمعنى الوجود فإنه يحدث ويتكون من التقائهما واجتماعهما كما قال الرازي يكون العذب كاللقاح للملح ونقل عن ابن عباس وعكرمة مولاه أن تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف تفتح أفواهها للمطر فيكون الأصداف كالأرحام للنطف وماء البحر كالجسد الغاذي ويدل على أنه من المطر ما اشتهر من أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان وقلت الأصداف والجواهر وعلى هذا فضمير منهما للحرين باعتبار الجنس فتأمل {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} زيرا آن جوهرها كه بدان آرايش كنيد واز خريد وفروخت آن فوائد يابيد نعم ظاهره است س بكدام ازين نعمتهاى روردكار خود تكذيب مينماييد وكفته اند مراد بحر آسمان وبحر زمين است كه هرسال متلاقى شوند وابر حاجزست كه منع ميكند دريان آسمانرا از نزول ودرياي زمين را از صعود ودريان فلك قطرات بردرياى زمين ريخته بدهان صدف درمى آيد وازان در منعقد كردد وقيل البحران علي وفاطمة رضي الله عنهما والبرزخ النبيّ صلى الله عليه وسلّم ويخرج منهما الحسن والحسين رضي الله عنهما وقيل : هما العقل والهوى والبرزخ بينهما لطف الله ويخرج منهما التوفيق العصمة وقيل هما المعرفة والمعصية والحاجز العصمة ويخرج منهما الشوق والتوبة لا يبغيان لا تؤثر المعصية في المعرفة وقيل هما الدنيا والآخرة والبرزخ القبر وقيل الحياة والوفاة والبرزخ الأجل وقيل الحجة والشبهة والبرزخ النظر ويخرج منهما الحق والصواب.
إمام قشيري رحمه الله فرموده كه بحرين خوف ورجاست يا قبض وبسط وبرزخ قدرت بي علت ولؤلؤ أحوال صافيه ومرجان لطايف وافيه صاحب كشف الأسرار شرح ميكند كه بحر خوف ورجا عامه مسلمان راست وازان كوهر زهد وورع وطاعت وتقوى بيرون آيد وبحر قبض وبسط خواص مؤمنا نراست وازان جواهر فقر ووجد زايد وبحر انس وهيبت انبيا وصديقا نراكه ازان كوهر فنا روى نمايد تا صاحبش بمنزل بقا بياسايد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
زقعر بحر فنا كوهر فنا يابى
وكرنه غوطه خورى اين كهر كجا يابى
وقال بعض الكبار يشير إلى مروج بحر روح وحركته بالتجليات الذاتية وإلى مروج بحر القلب وحركته بالتجليات الصفاتية والتقائهما في مقام الوحدة مع بقاء برزخ معنوي بين هذين البحرين المشار بهما إلى ما ذكر بحيث لا يبغي بحر الروح على بحر القلب لعدم نزوله بالكلية لئلا يفنى خاصية بحر القلب ولا يغلب بحر القلب على بحر الروح لعدم عروجه بالكلية لئلا يفنى خاصية بحر الروح كما قال وما منا إلا له مقام معلوم يخرج لؤيؤ التجليات الذاتية من باحة بحر الروح ومرجان التجليات الصفاتية من لجة بحر القلب ويجوز أن يخرجا مجتمعين من اتحاد بحر الروح وبحر القلب مع بقاء امتياز ما بينهما وقال بعضهم : يشير إلى بحر القدم والحدوث وبحر القدم عذب من حيث القدم وبحر الحدوث ملح من حيث علل الحدوثية وبينهما حاجز عزة وحدانيته بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر لأنه منزه عن الحلول في الأماكن والاستقرار في المواطن يخرج من بحر القدم القرآن والأسماء والنعوت
296
(9/242)
ومن بحر الحدوث العلم والمعرفة والفطنة وأيضاً يشير إلى بحر القلب الذي هو بحر الأخلاق المحمودة وبحر النفس الذي هو بحر الأخلاق المذمومة ولا يختلطان بحيث يصير القلب نفساً والنفس قلباً لأن بينهما العقل والعلم والشريعة والطريقة فإذا صارت النفس مطمئنة يخرج منها ومن القلب الإيمان والإيقان والصفاء والنور والطمأنينة وقال ابن عطاء رحمه الله بين العبد وبين الرب بحران عميقان أحدهما بحر النجاة وهو القرآن من تعلق به نجا لأن الله تعالى يقول : واعتصموا بحبل الله جميعاً وبحر الهلاك وهو الدنيا من ركن إليها هلك انتهى {وَلَهُ الْجَوَارِ} هذه اللام لها معنيان أحدهما أنها لام الملك والثاني أنها لام الاستحسان والتعجب كقولهمأنتدرك كما في كشف الأسرار والجوار بكسر الراء أصله الجواري بالياء بمعنى السفن جمع جارية أقيمت الصفة مقام الموصوف قال ابن الشيخ : اعلم أن الأركان أربعة : التراب والماء والهواء والنار فالله تعالى بيّن بقوله : خلق الإنسان من صلصال أن التراب أصل المخلوق شريف مكرم عجيب الشان وبيّن بقوله وخلق الجان من مارج من نار إن النار أيضاً أصل لمخلوق آخر عجيب الشان وبيّن بقوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان إن الماء أيضاً أصل لمخلوق آخر له قدر وقيمة ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفينة كالأعلام فقال : وله الجوار وخصها بالذكر لأن جريانها في البحر لا صنع للبشر فيه وهم معترفون بذلك فيقولون لك الفلك ولك الملك وإذا خافوا الغرق دعوا الله خاصة وسميت السفينة جارية لأن شأنها الجري في البحر وإن كانت واقفة في الساحل والمراسي كما تسمى المملوكة أيضاً جارية لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها المرفوعات الشرع على أن يكون من أنشأه إذا رفعه والشرع بضمتين جمع شراع وهو الذي يسمى بالفارسية بادبان.
ولا يبعد أن يكون المنشآت بمعنى المرفوعات على الماء فتكون جارية على ما هي له كما في حاشية سعدي المفتي والمعنى المنشآت المصنوعات أي المخلوقات على أن يكون من أنشأه الله أي خلقه
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ} جمع علم وهو الجبل الطويل أي كالجبال الشاهقة عظماً وارتفاعاً وهو حال من ضمير المنشآت والسفن في البحر كالجبال في البر كما أن الإبل في البر كالسفن في البحر {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر يابسات لقطع المسافات الكثيرة في الأوقات القليلة وحصول المعاملات والتجارات لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وفيه إشارة إلى جريان سفن الشريعة والطريقة المرفوعات الشرع بأحكام الشريعة وآداب الطريقة في بحر الوحدة الحقيقية كالجبال العظام مشحونات بمنافع كثيرة من الطاعات والعبادات على مقتضى علم الشريعة والواردات القليمة والإلهامات الغيبية على قانون أرباب الطريقة كما في التأويلات النجمية {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الهاء كناية عن غير مذكور كقولهم إذا نهى السفيه جرى إليه والمعنى كل من على الأرض من الحيوانات والمركبات ومن للتغليب على الوجهين أو من الثقلين فإن أي هالك لا محالة يعني سر انجام كار فانى شوند.
ولما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلكت بنوا آدم فلما
297
(9/243)
نزلت كل نفس ذائقة الموت أيقنوا بهلاك أنفسهم فإن لهم أجساماً لطيفة وأرواحاً متعلقة بتلك الأجسام كأرواح الإنسان وأما الأرواح المجردة المهيمة العالية فلا تفنى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ذاته ومنه كرم الله وجهه أي ذاته فالوجه العضو المعروف استعير للذات لأنه أشرف الأعضاء ومجمع المشاعر وموضع السجود ومظهر آثار الخشوع قال القاضي : لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله الذي يلي جهته انتهى قال سعدي المفتي في حاشية هذا المحل إشارة إلى وجه آخر وهو أن يكون الوجه بمعنى القصد أي ما يقصد وينوي به الله والجهات بمعنى المقاصد وفي العبارة نوع تسامح وقوله يلي جهته أي مقصده والإضافة للبيان أي يتوجه إليه انتهى وقال ابن الشيخ إشارة إلى أن الوجه يجوز أن يكون كناية عن الجهة بناء على أن كل جهة لا تخلو عن وجهه يتوجه إليها كما ذكر في قوله في جنب الله أي كل من عليها من الثقلين وأما اكتسبوه من الأعمال هالك إلا ما توجهوا به جهة الله وعملوه ابتغاء لمرضاته انتهى وقال الشيخ ابن نور الدين رحمه الله الماهيات تنقسم إلى ثلاثة أقسام : واجب الموجود وممتنع الموجود وممكن الوجود أما الواجب فهو وجود بحت وأما الممتنع فهو عدم محض وأما الممكن فهو مركب منهما وذلك لأن له وجوداً وماهية عارضة على وجوده فماهيته أمر اعتباري معدوم في الخارج لا يقبل الوجود فيه من حيث هو هو ووجوده موجود لا يقبل العدم من حيث هو هو فكان الممكن موجوداً ومخلوقاً من وجود وعدم وهذه الجمعية تقبل الوجود والعدم ومن هذا ظهر حقيقة ما قال البيضاوي ولو استقريت الخ وما قاله الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في تفسير قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه حيث قال الضمير راجع إلى الشيء انتهى
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{ذُو الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} صفة وجه أي ذو الاستغناء المطلق أو العظمة في ذاته وصفاته وذو الفضل التام وهذه من عظائم صفاته تعالى ولقد قال عليه السلام : ألظوا بياذا الجلال والإكرام.
يعني ملازم بكوبيد ياذا الجلال والإكرام وفي تاج المصادر الألظاظ ملازم كرفتن ودائم شدن باران.
والإلحاح أيضاً وفي القاموس اللظ اللزوم والإلحاح وعنه عليه السلام أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يذا الجلال والإكرام فقال : استجيب لك الدعاء فالدعاء بهاتين الكلمتين مرجو الإجابة وفي وصفه تعالى بذلك بعد ذكر فناء الخلق وبقائه تعالى إيذان بأنه تعالى يفيض عليهم بعد فنائهم أيضاً آثار لطفه وكرمه حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فإن إحياءهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم أجل النعماء وأعظم الآلاء قال الطبيب : كيف أفرد الضمير في قوله وجه ربك وثناه في ربكما والمخاطب واحد قلت : اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته فيندرج فيه الثقلان اندراجاً أولياً ولا كذلك الثاني فتركه على ظاهره وفي قوله كل من عليها فان إشارة إلى فناء كل من على الأرض البشرية إما بالموت الطبيعي منغمساً في بحر الشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية وإما بالموت الإرادي منسلخاً عن الصفات البشرية ملتبساً بالصفات الروحانية وتغليب من إشارة إلى ذوي العقول السليمة عن آفات
298
القوة الوهمية والخيالية فإنهم بذكاء فطرتهم وبقاء طينتهم يفنون عن الأحكام الطبيعية ويبقون بالتجليات الإلهية وبقوله ويبقى وجه الخ إشارة إلى فناء الكثرة النسبية الأسمائية وبقاء الوحدة الحقيقية الذاتية الموصوفة بالصفة الجلالية القهرية والجمالية اللطفية فبأي آلاء ربكما تكذبان مما ذكرنا من إفناء الحياة المجازية وإبقاء الحياة الحقيقية وإظهار الصفة اللطفية في حق مستحقي اللطف وإظهار الصفة القهرية في حق مستحقي القهر لعلمه المحيط باستحقاقها وقال بعضهم : لو نظرت بنظر التحقيق في الكون وأهله لرأيت حقيقة فنائه وفناء أهله وإن كان في الظاهر على رسم الوجود لأن من يكون قيامه بغيره فهو فان في الحقيقية إذ لا يقوم بنفسه ولا نفس له في الحقيقية فإن الوجود الحقيقي وجود القدم لذلك أثنى على نفسه بقوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قال الشيخ المغربي :
سايه هستى مينمايد ليك اندر اصل نيست
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
نيست را ازهست بشناختى يابى نجات
وقال المولى الجامي :
تو درميانه هي نه هره هست اوست
هم خود الست كويد وهم خود بلى كند
وفي ذكر وجهه الباقي تسلية لقلوب العشاق أي أنا أبقى لكم أبداً لا تغتموا فإن لكم ما وجدتم في الدنيا من كشف جمالي ويتسرمد ذلك لكم بلا حجاب أبداً وفي ذكر الجلال تهييج لأهل المحبة والهيبة وفي كاف الوحدة إشارة إلى حبيبه عليه السلام يعني كشف الوجه باق لك أبداً أريتك وجهي خاصة ثم العشاق اتباع لك في النظر إلى وجهي فأول الكشف لك ثم للعموم.
(9/244)
واعلم أن وجود الباقي جميعه وجه وبين التجليات تفاوت وفي الحديث أن الله يتجلى لأبي بكر خاصة ويتجلى للمؤمنين عامة {يَسْـاَلُهُ} ميخواهند اورا يعني ميطلبند ازوى {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم ووجوداتهم حدوثاً وبقاء وسائر أحوالهم سؤالاً مستمراً بلسان المقال وبلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلائق لم يشموا رائحة الوجود أصلاً فهم في كل آن مستمرون على الاستدعاء والسؤال وعن ابن عباس رضي الله عنهما فأهل السماء يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وفي كشف الأسرار مؤمنان دوكروه اند عابدان وعارفان هر سؤال بر يكى بر قدر همت او ونواخت هريكى سزاى حوصله او :
هركسى ازهمت والاى خويش
سود برد درخور كالاى خويش
عابدهمه ازخواهد عارف خود اورا خواهد احمد ابن أبي الجواري حق را بخواب ديد كفت.
جل جلاله يا أحمد كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني :
فسرت إليك في طلب المعالي
وسار سواي في طلب المعاش
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{كُلَّ يَوْمٍ} أي كل وقت من الأوقات وهو اليوم الإلهي الذي هو الآن الغير المنقسم وهو بطن الزمان في الحقيقة {هُوَ} تعالى {فِى شَأْنٍ} من الشؤون التي من جملتها إعطاء
299
ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصاً ويفني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال من الغنى والفقر والعزة والذلة والنصب والعزل والصحة والمرض ونحو ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح البالغة وفي الحديث "من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين" قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : خلق الله تعالى لوحاً من درة بيضاء دفناه ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويزرق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى كل يوم هو في شأن وهو مأخوذ من قوله عليه السلام أن الرب لينظر إلى عباده كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يبدىء ويعيد وذلك من حبه خلقه ويدل على هذا الحب ما يقال من أن الله تعالى يحيي كل يوم ألفاً وواحداً يميت ألفاً فالحياة الفانية إذا كانت خيراً لتحصيل الحياة الباقية فما ظنك بفضيلة الحياة الباقية وعن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب قال مقاتل : نزلت الآية في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً ففيها رد لهم وقوله كل ظرف لما دل عليه هو في شأن أي يقلب الأمور كل يوم أو يحدثها كل يوم أو نحوه كما في بحر العلوم {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع مشاهدتكم لما ذكر من إحسانه وفي بحر الحقائق يشير إلى تجلي الحق في كل زمن فرد ونفس فرد على حسب المتجلى له واستعداده ولا نهاية للتجليات فبأي آلاء ربكما تكذبان من تجلي الحق بصور مطلوبكم وإيجاده من كتم العدم ووجود محبوبكم :
كل يوم في شأن ه شانست بدو
هرزمان جلوه ديكر شود از رده عيان
جلوة حسن ترا غايت واياني نيست
يعني اوصاف كمال تواندرد ايان
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 32 من صفحة 300 حتى صفحة 309
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
قال البقلي يسأله من في السموات من الملائكة كلهم على قدر مقاماتهم يسأله الخائف النجاة من العبد والحجاب ويسأله الراجي الوصول إلى محل الفرح ويسأله المطيع قوة عبادته وثواب طاعته ويسأله المحب أن يصل إليه ويسأله المشتاق أن يراه ويسأله العاشق أن يقرب منه ويسأله العارف أن يعرفه بمزيد المعرفة ويسأله الموحد أن يفنى فيه ويستغرق في بحر شهوده ويسأله الجاهل علم ما يحجبه عنه ويسأله العالم ويعرفه به وكذا كل قوم على قدر مراتبهم ودرجاتهم وهو تعالى في كل يوم هو في شأن والشان الحال والأمر العظيم {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة عند انتهاء شؤون الخلق المشار إليها بقوله تعالى : كل يوم هو في شأن فلا يبقى حينئذ إلا شأن واحد هو الجزاء فعبر عنه بالفراغ لهم على المجاز المرسل فإن الفراغ يلزمه التجرد وإلا فليس المراد الفراغ من الشغل لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن وقيل هو مستعار من قول المهدد لصاحبه سأفرغ لك أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه فالخطاب للمجرمين منهما بخلافة على الأول {أَيُّهَ الثَّقَلانِ} قال الراغب
300
(9/245)
الثقل والخفة متقابلان وكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني أثقله الغرم والوزر انتهى والمراد هنا الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض يعني أنهما شبها بثقلى الدابة وفي حواشي ابن الشيخ شبه الأرض بالحمولة التي تحمل الأثقال والإنس والجن جعلا أثقالاً محمولة عليها وجعل ما سواهما كالاعلاوة أو الرزانة آرائها أو لأنهما مثقلان بالتكليف أو لعظم قدرهما في الأرض كما في الحديث "إني خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" وقال الصادق رضي الله عنه سيما ثقلين لأنهما يثقلان بالذنور أو لما فيهما من الثقل وهو عين تأخرهما بالوجود لأن من عادة الثقيل الإبطاء كما أن من عادة الخفيف الإسراع والانس أثقل من الجن للركن الأغلب عليهم {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} التي من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب {تُكَذِّبَانِ} بأقوالكما وأعمالكما قال في كشف الأسرار : اعلم أن بعض هذه السورة ذكر فيه الشدائد والعذاب والنار والنعمة فيها من وجهين أحدهما في صرفها عن المؤمنين إلى الكفار وتلك النعمة عظيمة تقتضي شكراً عظيماً والثاني أن في التخويف منها والتنبيه عليها نعمة عظيمة لأن اجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالانسِ} هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه والمعشر الجماعة العظيمة سميت به لبلوغه غاية الكثرة فإن العشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بتركيبه بما فيه من الآحاد تقول أحد عشر واثنا عشر وعشرون وثلاثون أي اثنتا عشرات وثلاث عشرات فإذا قيل معشر فكأنه قيل محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة وقدم الجن على الإنس في هذها لآية لتقدم خلقه والإنس على الجن في قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن لفضله فإن التقديم يقتضي الأفضلية قال ابن الشيخ لما بين الله تعالى أنه سيجيء وقت يتجرد فيه لمحاسبتهم ومجازاتهم وهددهم بما يدل على شدة اهتمامه بها كان مظنة أن يقال فلم ذلك مع ماله من كمال الاهتمام به فأشار إلى جوابه بما محصوله أنهم جميعاً في قبضة قدرته وتصرفه لا يفوته منهم أحد فلم يتحقق باعث يبعثه على الاستعجال لأن ما يبعث المستعجل إنما هو خوف الفوت وحيث لم يخف ذلك قسم الدهر كله إلى قسمين : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة وجعل المدة الأولى أيام التكليف والابتلاء والمدة الثانية للحساب والجواء وجعل كل واحدة من الدارين محل الرزايا والمصائب ومنبع البلايا والنوائب ولم يجعل لواحد من الثقلين سبيلاً للفرار منهما والهرب مما قضاه فيهما فقوله : يا معشر الجن متعلق بقوله سنفرغ لكم فكانا بمنزلة كلام واحد {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} لم يقل إن استعطتما لأن كل واحد منهما فريق كقولهم فإذا هم فريقان يختصمون أي كل فريق منهم يختصم فجمع الضمير هنا نظراً إلى معنى الثقلين وثناه في قوله يرسل عليكما كما سيأتي نظراً إلى اللفظ أي إن قدرتم على {أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} قال في القاموس : النفاذ جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه كالنفوذ
301
ومخالطة السهم جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الآخر وسائره فيه كالنفذ ونفذهم جازهم وتخلفهم كأنفذهم والنافذ الماضي في جميع أموره انتهى والأقطار جمع قطر بالضم وهو الجانب والمعنى أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه {فَانفُذُوا} فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابي وهو أمر تعجيز والمراد أنهم لا يفوتونه ولا يعجزونه حتى لا يقدر عليهم {لا تَنفُذُونَ} لا تقدرون على النفوذ {إِلا بِسُلْطَـانٍ} أي بقوة وقهر وأنتم من ذلك بمعزل بعيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/246)
ـ روي ـ أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فيهرب الإنس والجن فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به فتقول لهم الملائكة ذلك فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة كذلك لا يقدر في الدنيا فيدركه الموت والقضاء لا محالة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} هو لهب خالص لا دخان فيه أو دخان النار وحرها كما في القاموس قال سعدي المفتي : والله أعلم أنها استئناف جواباً عن سؤال الداعي إلى الهرب والفرار وإن ذلك حين يساق إلى المحشر كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أي يرسل عليكما لهب بلا دخان ليسوقكم إلى المحشر {مِّن نَّارٍ} متعلق بيرسل والتنوين فيهما للتفخيم {وَنُحَاسٌ} أي دخان أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم وفي المفردات النحاس اللهب بلا دخان وذلك تشبيه في اللون بالنحاس وفي القاموس النحاس مثلثة عن أبي العباس الكواشي القطر والنار وما سقط من شرار الصفر أو الحديد إذا طرق {فَلا تَنتَصِرَانِ} ألا لا تمنعان من ذلك العذاب {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من بيان عاقبة الكفر والمعاصي والتحذير عنها فإنها لطف ونعمة أي لطف ونعمة {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} أي انصدعت يوم القيامة وانفك بعضها من بعض لقيام الساعة أو انفرجت فصارت أبواباً لنزول الملائكة كقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً وفي الخبر من نار جهنم إذا كشف عنها {فَكَانَتْ وَرْدَةً} كوردة حمراء في اللون وهي الزهرة المعروفة التي تشم والغالب على الورد الحمرة قال :
ولو كنت ورداً لونه لعشقتني
ولكن ربي شانني بسواديا
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وقيل لأن أصل لون السماء الحمرة وإنما ترى زرقاء للعبد والحوائل ولان لون النار إذا خالط الأزرق كساه حمرة {كَالدِّهَانِ} خبر ثان لكانت أي كدهن الزيت فكانت في حمرة الوردة وفي جريان الدهن أي تذوب وتجري كذوبان الدهن وجريه فتصير حمراء من حرارة جهنم وتصير مثل الدهن في رقته وذوبانه وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالأدام لما يؤتدم به وجواب إذا محذوف أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال قال سعدي المفتي ناصب إذا محذوف أي كان ما كان من الأمر الهائل الذي لا يحيط به نطاق العبارة أو رأيت أمراً عظيماً هائلاً وبهذا الاعتبار تتسبب هذه الجملة عما قبلها لأن إرسال الشواظ يكون سبباً لحدوث الأمر الهائل أو رؤيته في ذلك الوقت {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع عظم شأنها {فَيَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم إذ انشقت السماء حسب ما ذكر
302
{لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} لأنهم يعرفون بسيماهم فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن ذنبه إن أراد أحد أن يطلع على أحوال أهل المحشر وذلك أول ما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف فوجاً فوجاً على اختلاف مراتبهم وأما قوله فوربك لنسألنهم أجمعين ونحوه ففي موقف المناقشة والحساب وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا فإنه أعلم بذلك منهم ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا وعنه أيضاً ويسألون سؤال شفاء وراحة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وضمير ذنبه للإنس لتقدمه رتبة وأفراده لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني وأراد بالجان الجن كما يقال تميم ويراد ولده {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع كثرة منافعها فإن الاخبار بما ذكر مما يزجركم عن الشر المؤدي إليه وفيه إشارة إلى شعاشع أنوار الطاعة والعبادة على صفحات وجنات إنس الروح وإلى تراكم ظلمات المعصية والمتمرد وسلاسل الطغيان وإغلال العصيان على صفحات وجوه جن النفس المظلمة وأعناقهم المتمردة الآبية عن الطاعة والانقياد فبأي آلاء ربكما تكذبان مما أنعم الله على عباده المنقادين في هذا اليوم ومما نانتقم من عباده المتمردين في ذلك اليوم فإن الانتقام من الأعداء نعمة على الأحباب ولذا ورد الحمد عقيبه كما قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدرب العالمين وكمال الانتقام بإفناء أوصاف النفس الأمارة بالكلية
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/247)
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} السيما والسيماء بالكسر والقصر والمد العلامة والجملة استئناف يجري مجرى التعليل لعدم السؤال قيل يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل بما يعلوهم من الكآبة والحزن كما يعرف الصالحون بأضداد ذلك {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ} النواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس والمراد هنا شعرها والجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل يقال أخذه إذا كان المأخوذ مقصوداً بالأخذ وونه قوله تعالى خذوا حذركم ونحوه وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئاً من ملابسات المقصود بالأخذ ومنه قوله تعالى : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وقول المستغيث خذ بيدي أخذ الله بيدك والمعنى تأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار أو تسحبهم الملائكة إلى النار تارة تأخذ بالنواصي وتجرهم على وجوههم أو يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من المواعظ والزواجر {هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} على إرادة القول أي يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا} أي يدرون بين النار يحرقون بها {وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} أي ماء بالغ من الحرارة أقصاها يصب عليهم أو يسقون منه أي يطوفون من النار إلى الحميم ومن الحميم إلى النار دهشاً وعطشاً أبداً من أنى يأنى فهو آن مثل قضى يقضي فهو قاض إذا انتهى في الحر والفيح قال أبو الليث يسلط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقوم الذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها فأخذت في حلوقهم فاستغاثوا بالماء فأوتوا به من الحميم فإذا قربوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم ويشربون فتغلي أجوافهم ويخرج جميع ما فيها ثم يلقى عليهم الجوع فمرة يذهب بهم إلى الحميم ومرة إلى الزقوم وقال كعب الأحبار : إن وادياً من أودية
303
جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً فيلقون في النار {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد أشير إلى سر كون بيان أمثال هذه الأمور من قبيل الآلاء مراراً فالآلاء في أمثالها حكايتها فقط للانزجار مما يؤدي الابتلاء بها من الكفر والمعاصي بخلاف ما فصل في أول السورة إلى قوله كل يوم الخ فإنها نعم واصلة إليهم في الدنيا وكذلك حكاياتها من حيث إيجابها للشكر والمثابرة على ما يؤدي إلى استدامتها وفي الآية إشارة إلى الكاسبين بقدم مخالفة الشرع وموافقة الطبع الصفات الذميمة وأخلاق الرذيلة وهم يطوفون بين نار المخالفات الشرعية والموافقات الطبيعية وبين حميم الجهل فإنه لا يقطع العطش ولا يروي الظمآن وإنما ينفع للإنسان في الدنيا والآخرة العلم القطعي والكشف الصحيح ألا ترى إلى علوم أهل الجدل فإنها في حكم الجهل لأن أهلها منغمسون في الشهوات واللذات مستغرقون في الأوهام والخيالات ولما نبه الله الإمام الغزالي رحمه الله وأيقظه ونظر فإذا علومه التي صرف شطراً من عمره في تعلمها وتعليمها لا تنقذه في الآخرة رجع إلى كتب الصوفية فتيقن أنه ليس أنفع من علومهم لكون معاملاتها ذات الله وصفاته وأفعاله وحقائق القرآن وأسراره فترك التدريس ببغداد وخرج إلى طلب أهل تلك العلوم حتى يكون منها على ذوق بسبب صحبتهم فوفقه الله فكان من أمره ما كان وقد قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت وقال الإمام فخر الدين للشيخ نجم الدين قدس سره : بم عرفت ربك؟ قال : بواردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها فالنفس كجهنم فيها نار الشهوات حميم الجهالات فمن زكاها في الدنيا أوصافها نجا يوم القيامة من الاحتراق والافتراق نعوذ بالله من سوء الحال وسيئات الأَمال وقبائح الأحوال :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
نمى تازد اين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان برايد بزور
مصلف لنكان نيايد زمور
(9/248)
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وبراى كسى كه بترسد از ايستادن يش خداى تعالى وهو شروع في تعداد النعم الفائضة عليهم في الآخرة بعد تعداد ما وصل ءليهم في الدنيا من الآلاء الدينية والدنيوية والمقام اسم مكان ومقامه تعالى موقفه الذين يقف فيه العباد للحساب كما قال يوم يقوم الناس لرب العاملين فالإضافة للاختصاص الملكي إذ لا ملك يومئذ إلا تعالى قال في عين المعاني : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين شرب لبناً على ظمأ فأعجبه ثم أخبر أنه من غير حل فاستقاء فقال صلى الله عليه وسلّم لما سمعه : رحمك الله لقد أٌّزلت فيك آية ودخل فيه من بهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من مخافة الله {جَنَّتَانِ} جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني على طريق التوزيع فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد وقال في الموضح دوباغ دهد ايشانرا دربهشت كه يكى از ايشان صد ساله راه طول وعرض داشته باشد
304
ودرميان هرباغ سراهاى خوش وحوران دلكش.
وقال الأستاذ القشيري رحمه الله جنة معجلة هي لذة المناجاة والتلذذ بحقائق المشاهدات وما يرد على قلوبهم من صدقه الواردات وجنة مؤجلة وهي الموعودة في الآخرة وفي بحر العلوم قيل جنة للخائف الأنسي وجنة للخائف الجني لأن الخطاب للثقلين وفيه نظر لقوله عليه السلام إن مؤمن الجن لهم ثواب وعليهم عقاب وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد هم على الأعراف حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
يقول الفقير : قد سبق في أواخر الأحقاف أن المذهب أن الجن في حكم بني آدم ثواباً وعقاباً لأنهم مكلفون مثلهم وإن لم نعلم كيفية ثوابهم فارجع إلى التفصيل في تلك السورة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال محمد بن الحسن رحمه الله : بينا كنت نائماً ذات ليلة إذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت : انظروا من هو فقالوا : رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه فلما دخلت عليه قال : دعوتك في مسألة أن أم محمد يعني زبيدة قلت لها إني أمام العدل وأمام العدل في الجنة فقالت : إنك ظالم عاص قد شهدت لنفسك بالجنة فكذبت بذلك على الله تعالى وحرمت عليك فقلت له : يا أمير المؤمنين إذا وقعت في معصية فهل تخاف الله في تلك الحال أو بعدها؟ فقال : أي والله أخافه خوفاً شديداً فقلت له : أنا أشهد أن لك جنتين لا جنة واحدة قال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي قال بعضهم : هو المقام الذي يقوم بين يدي ربه يوم القيامة عند كشف الستور وظهور حقائق الأمور وسكوت الكل من الأنبياء والأولياء لظهور القدرة والجبروت فلا بد من الخوف من القيام في ذلك المقام الهائل.
مالك بن دينار كفته دلى كه دروخوف نه همون خانه كه در وخدا وندنه خانه كه درو خداوند نبود عنقريب آن خانه خراب شودودلى كه درو خوف بود علامتش آنست كه خاطر را از حرمت ركند واخلاق را مهذب كرداند وأطراف بادب دارد ابو القاسم حكيم كفته كه ترس از خالق ديكر است وترس از مخلوق ديكر هركه از مخلوق ترسد ازوى بكريزد وهركه از خالق ترسد باوى كريزد يقول الله تعالى : "ففروا إلى الله" ترس از الله باشهوت ودينار نسازد هركه اسير شهوت كشت ترس ازدل وى رخت برداشت ودردست ديو افتاد تابهر درى كه ميخواهد اورامى كشت در آثار بيارندكه يحيى عليه السلام برابليس رسيده ودردست ابليس بند هاديد ازهر جنس وهررنك كفت اى شقى اين ه بند هاست كه دردست تومى بينم كفت اين انواع شهوات فرزند آدم است كه ايشانرا باين دربند آدم وبرمراد خويش مى دارم كفت يحيى راهي يز شناسى كه بآن دروى طمع كنى كفت نه مكريك يزكه هركه كه طعام سير خورد كرانى طعام اورا ساعتى ازنماز وذكر الله مشغول دارد يحيى كفت ازخداى عز وجل ذيرفتم وباوى عهد بستم كه هركز طعام سير نخورم بزركى رار سيدندكه خداى تعالى با اندوه كنان وترسند كان ه خواهد كفت اكر اندوه براى او دارند ومحل ترس از بهرا او كشند هنوز نفس ايشان منقطع نشده باشدكه جام رحيق بردستشان نهندبران نبشته كه ان لا تخافوا
305
ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
اندوه غريبان بسر آيد روزى
دركار غريبان نظر آيد روزى
ترسند كانرا واندوه كنانرا هار بهشت است دوبهشت سيمين ودو بهشت زرين.
كما قال عليه السلام : جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما.
(9/249)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى من يخاف مقام الشهود إبقاء على نفسه لأن الشهود الحقيقي يفني الشاهد عن شاهديته في المشهود ويبقيه بالمشهود من آخر مراتب المشاهدة إذ لا لذة في أوائل المشاهدة وإليه أشار عليه السلام بقوله : اللهم ارزقنا لذة النظر إلى لقائك وبهذا المعنى كان يقول لعائشة رضي الله عنها حين يغيب عن حسه كلميني يا حميراء للتبليغ والإرشاد وقوله جنتان أي جنته الفناء في نعمة المشهود وجنة البقاء بالمشهود قوله مقام ربه أي مقام شهود ربه بحذل المضاف فبأي آلاء ربكما تكذبان من نعمة الفناء في الله ونعمة البقاء بالله {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهاً على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ وذواتا تثنية ذات بمعنى صاحبة وفي تثنيتها لغتان الرد على الأصل فإن أصلها ذوية لأنها مؤنثة ذوي والتثنية على اللفظ أن يقال ذاتاً والإفنان جمع فن أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار أو جمع فنن وهو الغصن المستقيم طولاً أو الذي يتشعب من فروع الشجرة أي ذواتاً أغصان متشعبة من فروع الشجرة وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل وتجتني منها الثمار يعني أن في الوصف تذكيراً لها على سبيل الكناية كأنه قيل ذواتاً أوراق وأثمار وأظلال {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وليس فيها شيء يقبل التكذيب {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} صفة أخرى لجنتان فصل بينهما بقوله فبأي الخ مع أنه لم يفصل به بين الصفات الكائنة من قبيل العذاب حيث قال يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس مع أن إرسال النحاس غير إرسال الشواظ أي في كل واحدة منهما عين من ماء غير آسن تجري كيف يشتاء صاحبها في الأعالي والأسافل لما علم من وصف أنهار الجنة لا من حذف المفعول وقيل تجريان من جبل من مسك عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل وقال أبو بكر الوراق رحمه الله : فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة إلى الله تعالى :
بران ازدوسر شمه ديده جوى
ورآ لا يشى دارى از خود بشوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
نريزد خدا آب روى كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسى
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وفيه إشارة إلى أن في جنة الفناء عينا يجري فيها ماء الحياة وهي البقاء بعد الفناء وفي جنة البقاء عيناً يجري فيها ماء العلم والمعرفة والحكمة والبقاء بعد الفناء يستلزم أنواع المعارف والحكم وأصناف الموائد والنعم فبأي آلاء ربكما تكذبان يا أصحاب السكر والغيبة ويا أرباب الصحور والحضور كما في التأويلات النجمية {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صنفان معهود وغريب لم يره أحد ولم يسمع أو رطب ويابس أو حلو وحامض ويقال لونان وقيل في المنظر دون المطعم وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما في الدنيا
306
حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو وذلك لأن ما في الجنة خلق من حلاوة الطاعات فلا يوجد فيها المر المخلوق من مرارة السيئات كزقوم جهنم ونحوه ولكون الجنة دار الجمال لا يوجد فيها اللوون الأسود أيضاً لأنه من آثار الجلال والجملة صفة أخرى لجنتان {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي من هذه النعم اللذيذة {مُتَّكِـاِينَ} حال من الخائفين لأن من خاف في معنى الجمع والمعنى يحصل لهم جنتان متكئين أي جالسين جلسة الملوك جلوس راحة ودعة معتمدين {عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش بالكسر وهو ما يفرش ويبسط ويستمهد للجلوس والنوم {بَطَآاـاِنُهَا} جمع بطانة وهي بالكسر من الثوب خلاف ظهارته بالفارسية آستر {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} قرأ ورش عن نافع ورويس عن يعقوب من استبرق بحذف الألف وكسر النون لإلقاء حركة الهمزة عليها والباقون بإسكان النون وكسر الألف وقطعها والإستبرق ما غلظ من الديباج قيل هو استفعل من البريق وهو الإضاءة وقيل من البرقة وهو اجتماع ألوان وجعل اسماً فأعرب إعرابه وقد سبق شرحه في الدخان والمعنى من ديباج ثخين وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها يعني أن الظهارة كانت أشرف وأعلى كما قال عليه السلام لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلة فذكر المنديل دون غيره تنبيهاً بالأدنى على الأعلى وقيل ظهائرها من سندس أو من نور أو هو مما قال الله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} جنى اسم بمعنى المجني كالقبض بمعنى المقبوض لقول علي رضي الله عنه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
هذا جناى وخياره فيه
وكل جان يده إلى فيه
(9/250)
ودان من الدنو وهو القرب أصله دانوا مثل غازا أي ما يجتني من أشجارها من الثمار قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع وبالفارسية وميوه درختان آن دوبهشت نزديكست كه دست قائم وقاعد ومضطجع بدان رسد وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تدنو الشجرة حتى يجتبيها ولي الله إن شاء قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً وقال قتادة : لا يرد يده بعد ولا شؤك وكفته اندكسانى كه تكيه دارند وميوه آروز كنند شاخ درخت سرفرو دارد وآن ميوه كه خواهد بدهان وى درآيد.
يقول الفقير : إن البعد إنما نشأ من كثافة الجسم ولا كثافة في الجنة وأهلها أجسام لطيفة نورانية في صور الأرواح وقد قال من قال : "مصرع" بعد منزل نبود درسفر روحاني.
وأيضاً إن الطاعات في الدنيا كانت في مشيئة المطيع فثمراتها أيضاً في الجنة تكون كذلك فيتناولها بلا مشقة بل لا تناول أصلاً فإن سهولة التناول تصوير لسهولة الأكل فتلك الثمار تقع في الفم بلا أخذ على ما قال البعض {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من هذه الآلاء اللذيذة الباقية {فِيهِنَّ} أي في الجنان المدلول عليها بقوله جنتان لما عرفت أنهما لكل خائفين من الثقلين أو لكل خائف حسب تعدد عمله وقد اعتبر الجمعية في قوله متكئين {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخففاً ومتعلق القصر وهو على أزواجهن محذوف للعلم به والمعنى نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وتقول كل منهن لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد لله
307
الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك وقصر الطرف أيضاً من الحياء والغنج.
وون قصر الطرف برمعناى حيا وعنج بود معنى قاصرات الطرف آنست كه كنير كان بهشتى نازنينان اندازناز فرو شكسته شمان اند.
وقد يقال المعنى قاصرات الطرف غيرهن عليهن أي إذا راهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن لكمال حسنهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} اجلملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية يقال طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية أي أخذ بكارتها فالطمث الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر ثم أطلق على كل جماع طمث وإن لم يكن معه دم وفي القاموس الطمث المس والمعنى لم يمس الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن المدلول عليهم بقاصرات الطرف يعني حوران كه براى انس مقرر اند دست آدمى بدامن ايشان نرسيده باشد وآنانكه براى جن مقرراند جن نيز درايشان تصرف نكرده باشد.
فهن كالرياض الأنف وهي التي لم ترعها الدواب قط وفيه ترغيب لتحصيلهن إذ الرغبة للابكار فوق الرغبة للثيبات ودليل على أن الجن من أهل الجنة وإنهم يطمثون كما يطمث الإنس فإن مقام الامتنان يقتضي ذلك إذ لو لم يطمثوا كمن قبلهم لم يحصل لهم الامتنان به ولكن ليس لهم ماء كماء الإنسان بل لهم هواء بدل الماء وبه يحصل العلوق في أرحام إناثهم كما في الفتوحات المكية وهذا يستدعى أن لا تصح المناكحة بين الإنس والجن وكذا العكس وقد ذهب إلى صحتها جم غفير من العلماء منهم صاحب آكام المرجان وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما المخنثون أولاد الجن لأن الله ورسوله نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض فإذا أتاها سبقه إليها الشيطان فحملت فجاءت بالمخنث وكذا قول مجاهد إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه فلا يدل دلالة قطعية على أن جماعهم كجماع الإنس وإن من جماعهم الإنس يحصل العلوق بل فيه دلالة على شركة الجن معه بسبب الحيض وعدم التسمية كشركة الشيطان في الطعام الذي لم يسم عليه ونحو فهوه إفساد بالخاصية وإضرار بما يليق بمقامه والعلم عند الله تعالى ثم إن هؤلاء أي قاصرات من حور الجنة المخلوقات فيها ما يبتذلن ولم يمسسن وهذا قول الجمهور وقال الشعبي والكلبي من نساء الدنيا أي لم يجامعهن بعد النشأة الثانية أحد سواء كن في الدنيا ثيبات أو أبكاراً
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من هذه النعم التي هي لتمتع نفوسكم وفيه إشارة إلى أن في الجنات للفانين في الله الباقين به حوراً من التجليات الذاتية والمعارف الإلهية والحكم الربانية مستورات عن عيون الأغيار لا يتبرجن ولا يظهرن على غير أربابهن لم يطلع عليهن إنس الروح ولا جان النفس لبقائهم بهم وظلمة نفسهم وكثافة طينتهم {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} صفة لقاصرات الطرف قد سبق بيان المرجان وأما الياقوت فهو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف منه أحمر وأبيض وأصفر وأخضر وأزرق وهو حجر لا تعمل فيه النار لقلة دهنيته ولا يثقب لغلظة رطوبته ولا تعمل فيه المبارد لصلابته بل يزداد حسناً على مر الليالي والأيام وهو عزيز قليل الوجود سيما الأحمر وبعده الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه وأما الأخضر منه فلا صبر له على
308
(9/251)
النار أصلاً النار أصلاً وفي الطب أجود اليواقيت وأغلاها قيمة الياقوت الرماني وهو الذي يشابه النار في لونه ومن تختم بهذه الأصنام أمن من الطاعون وإن عم الناس وأمن أيضاً من إصابة الصاعقة والغرق ومن حمل شيئاً منها أو تختم به كان معظماً عند الناس وجيهاً عند الملوك وأكل معجون الياقوت يدفع ضرر السم ويزيد في القوة ومعنى الآية مشبهات بالياقوت في حمره الوجنة والمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها فإن صغار الدر أنصع بياضاً من كباره وقال قتادة في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ـ روي ـ عن أبي سعيد في صفة أهل الجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهن دون لحمها ودمها وجلدها وعنه عليه السلام أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على أثرهم كأشد كوكب إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض لكل امرىء منهم زوجتان كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن يسبحون الله بكرة وعشياً لا يسقمون ولا يمتخطون ولا يبصقون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ووجور مجامرهم الألوة وريحهم المسك وعنه عليه السلام أن المرأة من أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ومخها أن الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه وقال عمرو بن ميمون : إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من قدامها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من النعم المتعلقة بالنظر والتمتع وفيه إشارة إلى أن هذه الحوراء العرفانية والحسناء الإحسانية ياقوت تجليات البسط والانشراح ومرجان تجليات الجمال والكمال من لطافة الوجنة كالياقوت الأحمر ومن طراوة الفطرة كالمرجان الأبيض فبأي آلاء ربكما تكذبان بالمشبه أم بالمشبه به {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} هل يجيىء على أربعة أوجه الأول بمعنى قد كقوله تعالى هل أتى والثاني بمعنى الأمر كقوله تعالى فهل أنتم منتهون أي فانتهوا والثالث بمعنى الاستفهام كقوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً والرابع بمعنى ما الجحد كما في هذه الآية أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : قرأ رسول الله عليه السلام هل جزاء الخ ثم قال : هل تدرون ما قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : يقوله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي.
قال الكاشفي : حاصل آيت آنست جزاى نيكى نيكست س جزا دهند طاعات را درجات ومكافات كنند شكرها بزياده ونفوس را بفرح وتوبه را بقبول ودعا راباجابت وسؤال بعطا واستغفارا بمغفرت وخوف دنيارا بأم آخرت وجزاء فنا في الله بقا بالله :
هركه درراه محبت شدفنا
يافت از بحر لقا در بقا
هركرا شمشير شوقش سربريد
ميوه وصل ازدرخت شوق يد
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 33 من صفحة 309 حتى صفحة 318
فغاية الإحسان من العبد الفناء في الله والمولى إعطاء الوجود الحقاني إياه فعليك بالإحسان
309
كل آن وحين فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
ـ حكي ـ أن ذا النون المصري قدس سره رأى عجوزاً كافرة تنفق الحبوب للطيور وقت الشتاء فقال : إنه لا يقبل من الجنبي فقالت : افعل قبل أو لم يقبل ثم إنه رآها في حرم الكعبة فقالت : ياذا النون أحسن إلى نعمة الإسلام بقبضة من الحبة.
ـ وروي ـ أن مخلوقاً مهيباً اعترض في طريق الحج فمنع القافلة عن المرور فقال بعضهم : لعله عطشان فأخذ بيد سيفاً وبيد قربة ماء حتى دنا إليه فصب في فمه قربة الماء حتى ارتوى وغاب ثم إنه نام في الرجوع من الحج فلما استيقظ رأى القافلة قد ذهبت فبقي وحيداً في البرية وفي تلك الحيرة جاءه رجل معه راحلة وأمره بالقيام فركبها حتى لحق الحجاج فأقسم عليه من هو فقال : أنا الذي رفعت عطشي بقربة الماء.
ـ وروي ـ أن امرأة أعطت لقمة للسائل فأخذ ذئب ولدها في الصحراء فظهر شخص فأخرجه من فم الذئب وأعطاها إياه وقال : هذه اللقمة بتلك اللقمة قال الحسن : الإحسان أن يعم ولا يخص فيكون كالمطر والريح والشمس والقمر قال بعض أهل التحقيق الجنة جزاء اوَمال وأما جزاء التوحيد فرؤية الملك المتعال فذكر الله تعالى أحسن صنوف الإحسان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/252)
ـ يروى ـ أن العبد إذا قال لا إله إلا الله أتت أي هذه الكلمة إلى صحيفته فلا تمر على خطيئة إلا محتها حتى تجد حسنة مثلها فتجلس إلى جنبها وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار فقال عليه السلام : إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة فإنها بعشر أمثالها فقال : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات فقال عليه السلام : هي أحسن الحسنات ويكفي في شرف التوحيد أن الإيمان الذي هو أصل الطاعات وتنوير القلب الذي هو محل نظر الحق وتصفية الباطن من أكدار السوى إنما يحصل به {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من نعمه الواصلة في الدنيا والآخرة {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لم دونهم من أصحابه اليمين فالخائفون قسمان : المقربون وأصحاب اليمين وهم دون المقربين بحسب الفضائل العلمية والعملية فدون بمعنى الأدنى مرتبة ومنزلة لا بمعنى غير فالجنتان الأوليان أفضل من الأخريين كفضل المقربين على الأبرار وقيل ليس دون من الدناءة بل من الدنو وهو القرب أي ومن دون هاتين الجنتين إلى العرش أي أقرب إليه وأرفع منهما وحمله بعض المفسرين علي ومعنى الغير.
كما قال الكاشفي : ويجزاين بوستان كه مذكورشد دوبوستان ديكرست وكفته اندد وبوستان اول اززرست براى سابقان واين دوبوستان ازنقره براى اصحاب يمين.
وأطلقهما صاحب كشف الأسرار حيث قال من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ولكل رجل وامرأة من أهل الجنة جنتان إحداهما جزاء عمله والأخرى ورثوها عن الكفار وقيل لكل واحد منهم أربع جنان في الجهات الأربع ليتضاعف له السرور بالتنقيل من جنة إلى جنة ويكون أمتع لأنه أبعد من الملل فيما طبع عليه البشر وجملة معاني من دونهما فوقهما أو من دون صفتيهما أو من دونهما في الدرج أو أمامهما أو قبلهما "وفلاة من دونها سفر طال وميل يفضي إلى أميال" ويؤيد معنى الأدنى مرتبة قول
310
الشيخ نجم الدين في تأويلاته يشير إلى جنتي الأبرار القائمين بالأعمال الصحيحة والأقوال المستقيمة الناظرين إلى المراتب السنية الطالبين للمراتب والمقامات العلية يعني أن لهم جنتين من دون جنتي المذكورين أعني الفانين عن ناسوتيتهم والباقين بلاهوتيته
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما ذكر من الجنتين {مُدْهَآمَّتَانِ} صفة لجنتان يقال ادهام الشيء يدهام ادهيماما فهو مدهام اسود وفي تاج المصادر في باب الافعيلال الادهيمام سياه شدن لأن الدهمة بالضم السواد والأدهم والأسود ومنه قوله تعالى مدهامتان أي سوداوان يعني علا لونها دهمة وسواد من شدة الخضرة والري وإن شئت قلت خضراً وإن تضربان إلى السواد من شدة الخضرة وبالفارسية دوبهشت سبزاز بسيارى سبزى بسايهى رسيده والنظر إلى الخضرة يجلو البصر كما قال عليه السلام ثلاث يجلون البصر : النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن قال ابن عباس رضي الله عنهما : والإثمد عند النوم وهو الكحل الأسود وأجوده الأصفهاني وهو بارد يابس ينفع العين اكتحالاً ويقوي أعصابها ويمنع عنها كثيراً من الآفات والأوجاع سيما الشيوخ والعجائز وإن جعل معه شيء من المسك كان غاية في النفع وينفع من حرق النار طلاء مع الشحم ويقطع النزف ويمنع الرعاف إذا كان من أغشية الدماغ وفي الحديث "خيراً كحالكم الأثمد ينبت الشعر ويجلو البصر" كما في خريدة الجائب وفي قوله مدهامتان إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وعلى الأوليين الأشجار والفواكه ودل هذا على فضل الأوليين على الأخريين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/253)
قال في التأويلات النجمية : يشير به إلى غلبة القوة النباتية على أصحاب هاتين الجنتين وهم أصحاب اليمين وإلى غلبة القوة الروحانية على أصحاب الجنتين الأوليين لأن فيهما كثرة الأشجار والفواكه وهم المقربون {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حيث تتمتع أبصاركم بخضرة نباتات هاتين الجنتين وتنتفع أنوفكم بشم رياحينهما قال الفقهاء : إذا قرأ في الصلاة آية واحدة هي كلمة واحدة نحو قوله تعالى : مدهامتان أوحرف واحد نحوق وص ون فإن كل حرف منها آية عند البعض فالأصح أنه لا يجزي عن فرض القراءة لأنه لا يسمى قارئاً لأن القراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} يقال نضخه كمنعه رشه ونضخ الماء اشتد فورانه من ينبوعه كما في القاموس أي فوارتان بالماء لا تنقطعان وبالفارسية جوشنده بآب يعني هرندازوير دارند ديكرجوشد.
وهذا يدل أيضاً على فضل الأوليين على الأخريين لأنه تعالى قال في الأوليين عينان تجريان وفي الأخريين نضاختان والنضخ دون الجري لأن النضخ هو الفوران وهو يتحقق بأن يكون الماء بحيث كلما أخذ منه شيء فار آخر مكانه ولا يكفي هذا القدر في جريانه فلا شك أن الجري أبلغ منه وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نضاختان بالمسك والعنبر وقال الكلبي بالخير والبركة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حيث يحصل لكم الري من شراب تينك العينين {فِيهِمَا فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة بياناً لفضلهما فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء والرمان بالفارسية انار.
فاكهة
311
ودواء يعني بحسب حال الدنيا وإلا فالكل في الجنة للتفكه ومن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله : من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباً لم يحنث خلافاً لصاحبه يعني أن أبا حنيفة لا يجعلهما من الفاكهة بخلاف صاحبيه وغيرهما فلا يحنث من حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل تمراً أو رماناً عنده وكذا الحكم عنده في العنب ومن جعلهما من الفاكهة حملهما على التخصيص بذكرهما بياناً لفضلهما كما مر آنفاً وقد سبق بيان النخل مفصلاف قال ابن عباس رضي الله عنهما : نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى وأنهارها تجري في غير أخدود والرمان من الأشجار التي لا تقوى إلا بالبلاد الحارة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ـ روي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ما لقحت رمانة قط إلا بحبة من الجنة وقال الإمام علي رضي الله عنه : إذا أكلتم الرمان فكلوه ببعض شحمه فإنه دباغ للمعدة وما من حبة منه تقيم في جوف مؤمن إلا أنارت قلبه وأخرجت شيطان الوسوسة منه أربعين يوماً وفي الحديث "من أل رماناً أنار الله قلبه أربعين يوماً" ولا يخفى ما في جمع الرمان مع انار من اللطافة وأجوده الكبار الحلو المليس وهو حار رطب يلين الصدر والحلق ويجلو المعدة وينفع من الخفقان ويزيد في الباءة وقشره تهرب منه الهوام.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى ضعف استعداد أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين لأن الرمان للدواء لا للتفكه وتهيئة الدواء في البيت تدل على ضعف مزاج ساكن البيت {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حيث هيأ لكم ما به تتلذذون من الفواكه {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} صفة أخرى لجنتان كالجملة التي قبلها والكلام في جمع الضمير كالذي مر فيما مر وخيرات مخففة من خيرات جمع خيرة لأن خير الذي بمعنى اخير لا يجمع فلا يقال فيه خيرون ولا خيرات ومعناها بالفارسية زنان بركزيده.
وقيل في تفسير الخيرات أي لسن بدمرات ولا بخرات الدمر النتن والبخر بالتحريك النتن في الفم والإبط وغيرهما ولا متطلعات التطلع شم داشتن.
وقولهم عافى الله من لم يتطلع في فمك أي لم يتعقب كلامك "ولا متشوفات" التشوف خويشتن آراستن وشم داشتن.
ويعدى بإلى وفي القاموس شفته شوفاً جلوته وشيفت الجارية تشاف زينت وتشوف تزين وإلى الخير تطلع ومن السطح تطاول ونظر وأشرف "ولا ذربات" يقال ذرب كفرح ذربا وذرابة فهو ذرب حد والذربة بالكسر السليطة اللسان "ولا سليطات" السلط والسليط الشديد والطويل اللسان "ولا طماحات" يقال طمح بصره إليه كمنع ارتفع والمرأة طمحت فهي طامح وككتاب النشوز "ولا طوفات في الطرق" أي دوارت "حسان" جمع حسنة وحسناء أي حسان الخلق والخلق يعني نيكو رويان ونيكو خويان.
وهن من الحور وقيل من المؤمنات الخيرات ويدل على الأول ما بعد الآية وفي الحديث "لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على السموات والأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحاً ولعصابتها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
وروي لو أن حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها.
312
(9/254)
ـ وروي ـ أنهن يقلن نحن الناعمات فلا نبأس يعني ماييم بانعمت كه درويش نمى شويم "الراضيات فلا نسخط" يعني ماييم راضى كه غضب منى كنيم "نحن الخالدات فلا نبيد" يعني ماييم جاويدكه هلاك نمى شويم "طوبى لمن كنا له وكان لنا" وفي الأثر إذا قلن هذه المقالة إجابتهن المؤنات من نساء الدنيا نحن المصليات وما صليتن ونحن الصامات وما صمتن ونحن المتصدقات وما تصدقتن فغلبنهن والله غلبنهن وفيه بيان أن هاتين الجنتين دون الأوليين لأنه تعالى قال في الأوليين في صفة الحور العين كأنهن الياقوت والمرجان وفي الأخريين فيهن خيرات حسان وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
قال في التأويلات النجمية : فيهن خيرات حسان من المعاملات الفاضلات والمكاشفات العاليات وهذا الوصف أيضاً يدل على أن جنة المقربين أفضل من جنة الأبرار وأصحاب اليمين لأن ثمرة تلك الجنة الفناء والبقاء وثمرة هذه الجنة المعاملات وتحسين الأخلاق {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد أنعم عليكم بما به تستمعون من النساء {حُورٌ} بدل من خيرات جمع حوراء وهي البيضاء ووصفت في غير هذه الآية بالعين وهي جمع عيناء بمعنى عظيمة العين وقال بعضهم : شديدة سواد العين يعني سياه شمان اند {مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} قصرن في خدورهن وحبسهن.
قال الكاشفي : ازشمهاى بيكانكان نكاه داشته ودرخيمها بداشته.
وفيه إشارة إلى أنهن لا يظهرن لغير المحارم وإن لم تكن الجنة دار التكليف وذلك لأنهن من قبيل الأسرار وهي تصان عن الأغيار غيرة عليها يقال امرألآ قصيرة وقصورة أي مخدرة مستورة لا تخرج ومقصورات الطرف على أزواجهن لا يبغين بهم بدلاً والأخيام جمع خيمة وهي القبة المضروبة على الأعواد هكذا جمع خيام الدنيا وهي لا تشبه خيام الجنة إلا بالاسم فإنه قد قيل : إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها اهلون ما يرون إلا حين يطوف عليهم المؤمنون وقال ابن مسعود : لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلاً.
وكفته اندمراد خانهاست يعني مستورات في الحجال.
وحجله خانه بود براى داماد وعروس.
قال في القاموس : الحجلة محركة كالقبة موضع يزين بالثياب والستور للعروس والجمع حجل وحجال قال البقلي رحمه الله وصف الله جواري جنانه التي خلقهن لخدمة أوليائه وألبسهن لباس نوره وأجلسهن على سرير أنسه في حجال قدسه وضرب عليهن خيام الدر والياقوت ينتظرن أزواجهن من العارفين والمؤمنين المتقين لا يصرفن أبصارهن في انتظارهن عن مسلك الأولياء من أزواجهن إلى غيره وفي الآية إشارة إلى أن الأسماء تنقسم بالقسمة الأولى قسمين بعضها كونية أي لها مظاهر في الكون وبعضها غير كونية أي ليس لها مظاهر في الكون بل هي من المستأثرات الغيبية كما جاء في دعاء النبي عليه السلام : اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً أو استأثرت به في علم غيبك المكنون وقوله حور مقصورات يعني أن من خصائص هاتين الجنتين أن فيهما معاني وحقائق ما ظهرت مظاهرها في هذا العالم بل بعد في خيام الغيب المكنون في جنة السر
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد خلق من النعم ما هي مقصورة ومحبوسة لكم
313
(9/255)
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} كالذي مر في نظيره في جميع الوجوه وقال بعضهم : أي قبل أصحاب الجنتين دل عليهم ذكر الجنتين قال في كشف الأسرار : كرر ذلك زيادة في التشويق وتأكيداً للرغبة وفيه أنه ليس بتكرير لأن الأول في أزواج المقربين وهذا في أزواج الأبرار قال محمد بن كعب : إن المؤمن يزوج ألف ثيب وألف بكر وألف حوراء {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع أنها ليست كنعم الدنيا إذ قد تطمث المرأة في الدنيا ثم يتزوجها آخر ثيباً فهن نعم باكورة فيا لها من طيب وصالها ويا لها من حسنها وبراعة جمالها لا يقدر أحد على حكايتها ولا يبلغ وصف إلى نهايتها والعقول فيها حيارى والقلوب سكارى {مُتَّكِـاِينَ} حال صاحبه محذوف يدل عليه الضمير في قبلهم {عَلَى رَفْرَفٍ} أما اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة قيل هو ما تدلي من الأسرة من عالي الثياب أو ضرب من البسط أو الوسائد قال في المفردات : الرفرف ضرب من الثياب مشبه بالرياض انتهى ومن معاني الرفرف الرياض وكان بساط انوشروان ستين ذراعاً في ستين ذراعاً يبسط له في إيوانه منظوماً باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع وينشر إذا عدمت الزهور وفي القاموس الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس وتبسط وفضول المحابس والفرش وكل ما فضل فثنى والفراش والرقيق من الديباج {خُضْرٍ} نعت لرفرف جمع أخضر والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب فلهذا أسمى الأسود أخضر والأخضر أسود {وَعَبْقَرِىٍّ} عطف على رفرف والمراد الجنس ولذا وصف بالجمع وهو قوله : {حِسَانٌ} حملاً على المعنى وهو جمع حسن والعبقري منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد كثير الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب وقال قطرب : ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختى قال في القاموس : عبقر موضع كثير الجن وقرية ثيابها في غاية الحسن والعبقري ضرب من البسط كالعباقرى انتهى وفي المفردات قيل هو موضع للجن ينسب ءليه كل نادر من إنسان وحيوان وثوب قال الله تعالى وعبقري حسان وهو ضرب من الفرش جعله الله مثلاً لفرش الجنة وفي التكملة عبقر اسم موضع يصنع فيه الوشى كانت العرب إذا رأت شيئاً نسبته ءليه فخاطبهم الله على عادتهم وفي فتح الرحمن العبقري بسط حسان فيها صور وغير ذلك والعرب إذا استحسنت شيئاً واستجادته قالت عبقري قال ابن عطية ومنه قول النبي عليه السلام : رأيت عمر بن الخطاب في المنام يسقي من بئر فلم أر عبقر يا يفرى فريه أي سيداً يعمل عمله وقيل : عبقر اسم رجل كان بمكة يتخذ الزرابي ويجيدها فنسب إليه كل شيء جيد حسن وبالفارسية وبساطي قيمتي درغايت نيكويى قوله تعالى في الأوليين متكئين على فرش بطائنها من استبرق وترك ذكر الظهارة لرفعة شأنها وخروجها عن كونها مدركة بالعقول والإفهام وفي الأخريين متكئين على رفرف خضر وعبقري وبه يعلم تفاوت ما بينهما وقيل الاستبرق ديباج والعبقري موشى والديباج أعلى من الموشى قال ابن الشيخ الرفرف فراش إذا استقر عليه الولي طار به من فرحه وشوقه إليه يميناً وشمالاً وحيثما يريده الولي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ـ وروي ـ في حديث المعراج أن رسول الله عليه السلام لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سيد العرش
314
فذكر عليه السلام أنه طار بي يخفضني ويرفعين حتى وقف بي على ربي ولما حان الانصراف تناوله فطار به خفضاً ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل فارفرف خادم بين يدي الله من جملة الخدم مختص بخواص الأمور في محل الدنو والقربة كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين هو متكأهم وفرشهم يرفرف بالولي ويطير به على حافات تلك الأنهار وحيث يشاء من خيامه وأزواجه وقصوره انتهى وهذا التقرير على تقدير أن يكون دون من الدنو ومعنى من دونهما أرفع منهما كما لا يخفى ويدل عليه أن الرفرف أعظم خضرة من الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد هيأ لكم ما تتكئون عليه فتستريحون {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبىء عن إفاضة الآلاء المفصلة وارتفع عما يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها وإذا كان حال اسمه بملابسة دلالته عليه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى وقيل : الاسم بمعنى الصفة وقيل مقحكم مثل ثم اسم السلام عليكما أي ثم السلام عليكما قال في فتح الرحمن : وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/256)
وفي التأويلات النجمية هذا يدل على أن الاسم هو المسمى لأن المتعالى هو المسمى في ذاته لا الاسم وإن كان فتبعيته وكذا الموصوف بالقهر واللطف والجلال والإكرام هو المسمى فحسبه انتهى وفي الأمالي وليس الاسم غيرا للمسمى وفي شرح الأسماء الحسنى للزروقي الصحيح أن الاسم غير المسمى وأباه قوم وفصل آخرون وتوقف آخرون امتناعاً لكن السلف لم يتكلموا في الاسم والمسمى ولا في الصفة والموصوف ولا في التلاوة والمتلو طلباً للسلامة وحذراً على الغير وهو {ذِى الْجَلَالِ وَالاكْرَامِ} وصف به الرب تكميلاً لما ذكر من التنزيه والتقرير.
كفته انداول يزى كه ازقرآن درمكه برقريش آشكارا خواندند بعضي آيات ازأول اين سوره بود روايت كردند از عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كفت صحابه رسول عليه السلام مجتمع شدند كفتندتا اين غايت مردم قريش از قرآن هي نشنيدند درميان ما كيست كه ايشانرا قرأن بشنواند آشكارا عبد الله بن مسعود كفت آنكس من باشم كه قرأن آشكارا برايشان خوانم اكره از ان رنج وكزند آيدس بيامد ودر انجمن قريش بيستاد وابتداء سوره رحمن در كفت ولختى ازان آيات برخواند قريش ون آن بشنيدند ازسر غيظ وعداوت اورا زخمها كردند ورنجانيدند س ون بعضي خوانده اورافرا كذاشتند وبنزديك اصحاب باز كذشت.
فقالوا : هذا الذي خشينا عليك يا ابن مسعود وعن عائشة رضي الله عنها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام كما في كشف الأسرار قال الزروقي ذو الجلال والإكرام هو الذي له العظمة والكبرياء والأفضال التام المطلق من عرف أنه ذو الجلال والإكرام هابه لمكان الجلال وأنس به لمكان الإكرام فكان بين خوف ورجاء وهو اسم الله الأعظم
315
وقال بعضهم : أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات وإنما الكلام في ذكرها بالحضور والشهود والاستغراق في بحر الجود وهو ذكر الكمل من أفراد الإنسان نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين له ظاهراً وباطناً أولاً وآخراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وفي التأويلات النجمية هذا يدل على أن الاسم هو المسمى لأن المتعالى هو المسمى في ذاته لا الاسم وإن كان فتبعيته وكذا الموصوف بالقهر واللطف والجلال والإكرام هو المسمى فحسبه انتهى وفي الأمالي وليس الاسم غيرا للمسمى وفي شرح الأسماء الحسنى للزروقي الصحيح أن الاسم غير المسمى وأباه قوم وفصل آخرون وتوقف آخرون امتناعاً لكن السلف لم يتكلموا في الاسم والمسمى ولا في الصفة والموصوف ولا في التلاوة والمتلو طلباً للسلامة وحذراً على الغير وهو {ذِى الْجَلَالِ وَالاكْرَامِ} وصف به الرب تكميلاً لما ذكر من التنزيه والتقرير.
كفته انداول يزى كه ازقرآن درمكه برقريش آشكارا خواندند بعضي آيات ازأول اين سوره بود روايت كردند از عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كفت صحابه رسول عليه السلام مجتمع شدند كفتندتا اين غايت مردم قريش از قرآن هي نشنيدند درميان ما كيست كه ايشانرا قرأن بشنواند آشكارا عبد الله بن مسعود كفت آنكس من باشم كه قرأن آشكارا برايشان خوانم اكره از ان رنج وكزند آيدس بيامد ودر انجمن قريش بيستاد وابتداء سوره رحمن در كفت ولختى ازان آيات برخواند قريش ون آن بشنيدند ازسر غيظ وعداوت اورا زخمها كردند ورنجانيدند س ون بعضي خوانده اورافرا كذاشتند وبنزديك اصحاب باز كذشت.
فقالوا : هذا الذي خشينا عليك يا ابن مسعود وعن عائشة رضي الله عنها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام كما في كشف الأسرار قال الزروقي ذو الجلال والإكرام هو الذي له العظمة والكبرياء والأفضال التام المطلق من عرف أنه ذو الجلال والإكرام هابه لمكان الجلال وأنس به لمكان الإكرام فكان بين خوف ورجاء وهو اسم الله الأعظم
315
وقال بعضهم : أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات وإنما الكلام في ذكرها بالحضور والشهود والاستغراق في بحر الجود وهو ذكر الكمل من أفراد الإنسان نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين له ظاهراً وباطناً أولاً وآخراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
تفسير سورة الواقعة
مكية وآيها تسع وتسعون
جزء : 9 رقم الصفحة : 315
جزء : 9 رقم الصفحة : 316(9/257)
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} انتصاب إذا بمضمر أي إذا قامت القيامة وحدثت وذلك عند النفخة الثانية يكون من الأهوال ما لا يفي به المقال سماها واقعة مع أن دلالة اسم الفاعل على الحال والقيامة مما سيقع في الاستقبال لتحقق وقوعها ولذا اختير إذا وصيغة الماضي فالواقعة من أسماء القيامة كالصاخة والطامة والآزفة {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} قال الراغب يكنى عن الحرب بالوقعة وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك قال أبو الليث سميت القيامة الواقعة لصوتها والمعنى لا يكون عند وقوعها نفس تكذب على الله وتفتري بالشريك والولد والصاحبة وبأنه لا يبعث الموتى لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة وأكثر النفوس اليوم كاذبة مكذبة فاللام للتوقيت والكاذبة اسم فاعل أوليس لأجل وقعتها أو في حقها كذب بل كل ما ورد في شأنها من الأخبار حق صادق لا ريب فيه فاللام للتعليل والكاذبة مصدر كالعاقبة {خَافِضَةٌ} أي هي خافضة لا قوام {رَّافِعَةٌ} لآخرين وهو تقرير لعظمتها على سبيل الكناية فإن الوقائع العظام يرتفع فيها إناس إلى مراتب ويتضع إناس وتقديم الخفض علي الرفع للتشديد في التهويل قال بعضهم : خافضة لأعداء الله إلى النار رافعة لأولياء الله إلى الجنة أو تخفض أقواماً بالعدل وترفع أقواماً بالفضل أو تخفض أقواماً بالدعاوي وترفع أقواماً بالحقائق وعن ابن عباس رضي الله عنهما تخفض أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا وترفع أقواماً كانوا متضعين فيها.
آن روز بلال درويش را رضي الله عنه مى آرند باتاج وحلن ومركب بردابرد ميزنند تا بفردوس أعلى برند وخواجه اورا امية بن خلف با اغلال وانكال وسلاسل بروى مى كشند تابدرك اسفل برند آن طيلسان وش منافق راباتش مى برند وآن قبابسته وخلص رابه ببهشب مى فرستندان ير مباحاتي مبتدع را بآتش قهر مى سوزند وآن جوان خراباتى معتقدرا برتخت بخت مى نشانند :
بساير مباحاتى كه بى مركب فروماند
بسارند خراباتى كه زين بر شير نربندد
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا} الرج تحريك الشيء وإزعاجه والرجرجة الاضطراب أي خافضة رافعة إذا حركت الأرض تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ولا تسكن زلزلتها حتى تلقى جميع ما في بطنها على ظهرها {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي فتت حتى صارت
316
مثل السويق الملتوت من بس السويق إزالته والبسيسة سويق يلت فيتخذ زاداً أو سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها {فَكَانَتْ} أي فصارت بسبب ذلك {هَبَآءً} أي غباراً وهو ما يسطع من سنابك الخيل أو الذي يرى في شعاع الكوة أو الهباء ما يتطاير من شرر النار أو ما ذرته الريح من الأوراق {مُّنابَثًّا} أي منتشراً متفرقاً وفي التفسير أن الله تعالى يبعث ريحاً من تحت الجنته فتحلم الأرض والجبال وتضرب بعضها ببعض ولا تزال كذلك حتى تصير غباراً ويسقط ذلك الغبار على وجوه الكفار كقوله تعالى وجوه يومئذ عليها غبرة وقال بعضهم : إن هذه الغبرة هي التراب الذي أشار إليه تعالى بقوله : يا ليتني كنت تراباً وسيجيء تحقيقه في محله فوي الآية إشارة إلى قيامة العارفين وهي قيامة العشق وسطوته وجذبة التوحيد وصدمته وهي تخفض القوى الجسمانية البشرية المقتضية لأحكام الكثرة وترفع القوى الروحانية الإلهية المستدعية لأنوار الواحدة وصرصر هذه القيامة إذا ضربت على أرض البشرية ومرت على جبال الأنانية الإنسانية جعلت تعينهما متلاشياً فانياف في ذاتهما وصفاتهما لا اسم لهما ولا رسم ولا أثر ولا عين بل هباء منبثاً لا حقيقة له في الجود كسراب بقيعة يحسبه الطمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده وإليه الإشارة بقولهم إذا تم الفقر فهو إليه ولا بد في سلوك طريق الحق من إرشاد أستاذ حاذق وتسليك شيخ كامل مكمل حتى تظهر حقيقة التوحيد بتغليب القوى الروحانية على القوى الجسمانية كما قال العارف الرباني أبو سعيد الخر از قدس سره حين سئل عن التوحيدا أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة {وَكُنتُمْ} أما خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليباً.
وللحاضرة فقط {أَزْوَاجًا} أي أصنافاً {ثَلَـاثَةً} إثنان في الجنة وواحد في النار وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج فرداً كان أو شفعاً
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/258)
{فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ} تقسيم للأزواج الثلاثة فأصحاب الميمنة مبتدأ خبره ما أصحاب الميمنة على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان ما بعده خبره والأصل ما هم أي أي شيء هم في حالهم وصفتهم والمراد تعجيب المسامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل ما عرفت حالهم أي شيء فاعرفها وتعجب منها فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال نحو زيد وما زيد حيث لا يقال إلا في موضع التعظيم والتعجب وأصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية واأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذاً من تيمنهم بالميامن أي بطرف اليمين وتشؤمهم بالشمائل أي بجانب الشمال كما تقول فلان مني باليمين والشمال إذا وصفته عندك بالرفعة والضعة تريد ما يلزم من جهتي اليمين والشمال من رفعة القدر وانحطاطه أو الذين يؤتون صحائفهم بإيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم أو الذي يكونون يوم القيامة على يمين العرش فيأخذون طريق الجنة والذين يكونون على شمال العرش فيفضي بهم إلى النار أو أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعاصيهم أو أصحاب الميمنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق قال الله تعالى في حقهم هؤلاء من أهل الجنة أو أبالي وأصحاب المشأمة الذين كانوا على شماله وقال الله تعالى
317
فيهم هؤلاء من أهل النار ولا أبالي وفي القاموس اليمن البركة كالميمنة يمن فهو ميمون وأيمن والجمع ميامين وأيامن واليمين ضد اليسار والجمع أيمن وإيمان وأيامن وأيامين والبركة والقوة والشؤم ضد اليمن والمشأمة ضد الميمنة {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} هم القسم الثالث من الأزواج الثلاثة آخر ذكرهم ليقترن ببيان محاسن أحوالهم وأصل السبق التقدم في السير ثم نجوز به في غيره من التقدم والجملة مبتدأ وخبر والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم كقوله أنا أبو النجم وشعري شعري أو السابقون الأول مبتدأ والثاني تأكيد له كرر تعظيماً لهم والخبر جملة قوله أولئك الخ وفي البرهان التقدير عند بعضهم السابقون ما السابقون فحذف ما لدلالة ما قبله عليه وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان فالمراد بالسبق هو السبق بالزمان أو الذين سبقوا في حيازة الكمالات الدينية والفضائل القينية فالمراد بالسبق هو السبق بالشرف ما قال الراغب يستعار السبق لإحراز الفضل وعلى ذلك والسابقون السابقون أي المقتدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة {أولئك} الموصوفون بذلك النعت الجليل وهو مبدأ خبره قوله : {الْمُقَرَّبُونَ} أي الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم وأعليت مراتبهم ورقيت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 34 من صفحة 318 حتى صفحة 327
يقول الفقير : عرف هذا المعنى من قوله عليه السلام إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن فإنه يظهر منه أن الفردوس مقام المقربين لقربه من العرش الذي هو سقف الجنة ولم يقل أولئك المتقربون لأنهم بتقريب ربهم سبقوا لا بتقرب أنفسهم ففيه إشارة إلى الفضل العظيم في حق هؤلاء يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم {فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} متعلق بالمقربون أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم يعني در بوستانهاى مشتمل بر أنواع نعمت.
قيل السابقون أربعة سابق أمة موسى عليه السلام وهو خربيل مؤمن آل فرعون وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية وسابقاً أمة محمد عليه السلام وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقال كعب : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة فإنهم كادوا أن يكونوا أنبياء إلا أنه لا يوحي إليهم والمراد بأهل القرآن الملازمون لقراءته والعاملون به وكان خلق النبي عليه السلام القرآن وقيل الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهو السابق المقرب ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب اليمين ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال وقال حضرة شيخي وسندي قدس سره في بعض تحريراته العباد ثلاثة أصناف : صنف هم أهل النسيان وصنف هم أهل الذكر وصنف هم أهل الإحسان والصنف الأول أهل الفتور مطلقاً وليس فيه بوجه من الحضور شيء أصلاً وهم أهل البعد قطعاً وليس لهم من القرب شيء جداً وهم أصحاب المشأمة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة وهم أرباب الغضب والقهر والجلال ولهم في نار الجحيم عذاب اليم وماء حميم والصنف الثاني أهل الفتور من وجه وأهل الحضور من وجه وهم أهل البعد بوجه وأهل القرب بوجه وهم أصحاب الميمنة
318
(9/259)
وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وهم أرباب الرحمة واللطف والجمال ولهم في نور النعيم ثواب عظيم وسرور مقيم والصنف الثالث أهل الحضور مطلقاً وليس فيهم بوجه من الفتور شيء أصلاً وهم أهل القرب مطلقاً وليس لهم من البعد شيء أصلاً وهم السابقون والسابقون السابقون أولئك المقربون وهم أصحاب كال الرضى والاجتباء والاصطفاء ولهم في سر نعيم جنة الوصال دوام الصحبة والمشاهدة والمعانية وبقاء تجلي الوجه الحق والجمال المطلق وهم أرباب الكمال المتوجه بوجه الجمال والجلال والصنف الأول قفا بلا وجه في الظاهر والباطن والثاني وجه بلا قفا في الظاهر وقفاً بلا وجه في الباطن والثالث وجه بلا قفا في الظاهر والباطن لكونهم على تعين الوجه المطلق وفي رسالته العرفانية أصحاب اليمين ممن سوء المقربين وجه بلا قفا في الظاهر لحصول الرؤية لهم وقفا بلا وجه في الباطن أي لعدم انكشاف البصيرة لهم وأصحاب الشمال قفا بلا وجه في الظاهر أي باعتبار البداية ووجه بلا قفا في الباطن أي باعتبار النهاية وقال في اللائحات البرقيات له ذكر بعضهم بمجرد اللسان فقط وهم فريق الغافلين من الفجار ولهم رد مطلقاً فإنهم يقولونه بأفواههم ما ليس في قلوبهم وذكر بعضهم بمجرد اللسان والعقل فقط وهم فريق المتيقظين من الأبرار ولهم قبول بالنسبة إلى من تحتهم لا بالنسبة إلى من فوقهم وذكر بعضهم بمجرد اللسان والعقل والقلب فقط وهم قريق أهل البداية من المقربين وقبولهم نسبي أيضاً وذكر بعضهم بمجرد اللسان والعقل والقلب والروح فقط وهم أهل الوسط من المقربين وقبولهم إضافي أيضاً وذكر بعضهم كان مطلقاٌ حيث تحقق لهم ذكر اللسان وفكر المذكور ومطالعة الآثار بالعقل وحضور المذكور ومكاشفة الأطوار بالقلب وأنس المذكور ومشاهدة الأنوار بالروح والفناء في المذكور ومعاينة الأسرار بالسر فلهم قبول مطلقاً وليس لهم رد أصلاً لأن كمالهم وتمامهم كان حقيقياً جداً وهم أرباب النهاية من المقربين من الأنبياء والمرسلين وأولياء الكاملين الأكملين وفي التأويلات النجمية يشير إلى مراتب أعاظم المملكة الإنسانية ومقامات أكابرها وصناديدها وهم الروح السابق المقرب وجود أو رتبة والقلب المتوسط صاحب الميمنة والنفس الأخرية صاحبة المشأمة أما تسمية الروح بالسابق فلسبقه بالتجليات الذاتية الرحمانية والتنزلات الربانية وبقاء طهارته ونزاهته ابتداء وانتهاء ووصف القلب بصاحب الميمنة ليمنه والتيمن به وغلبة التجليات الصفاتية والأسمائية عليه ووصف النفس بصاحبة المشأمة لشؤمها ومبشوميتها وتلعثمها عند إجابة دواعي الحق بالنقياد من غير عناد واعتناد وأما تقديم القلب والنفس على الروح فلسعة الرحمانية الواسعة كل شيء كما قال ورحمتي وسعت كل شيء وقال رحمتي سبقت غضبي إذ جعل النفس برزخاً بين القلب والروح لتستفيد برحمته مرة من هذا وتارة من هذا وتصير منصبغة بنورانيتهما وتؤمن بهما إن شاء الله تعالى كما قال تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صابحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وبقوله في جنات النعيم يشير إلى جنة الذات وجنة الصفات وجنة الأفعال لأن السابقين المقربين هم الفانون في الله بالذات والصفات والأفعال والباقون بالله بالذات والصفات والأفعال ولصاحب كل مقام من هذه
319
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
المقامات الثلاثة جنة مختصة به جزاء وفاقاً هذه الجنات كلها شاملة للنعيم الدنيوي وأخروي إن فهمت الرموز الإلهية فزت بالكنوز الرحمانية {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} أي هم أمم كثيرة من الأولين غير محصورة العدد وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليهما السلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وهذا التفسير مبني على أن يراد بالسابقين غير الأنبياء واشتقاق الثلة من الثل وهو الكسر وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم وقال الراغب : الثلة قطعة مجتمعة من الصوف ولذلك قيل للغنم ثلة ولاعتبار الاجتماع قيل ثلة من الأولين أي جماعة {وَقَلِيلٌ مِّنَ الاخِرِينَ} أي من هذه الأمة ولا يخالفه قوله عليه السلام : "إن أمتي يكثرون سائر الأمم" أي يغلبونهم بالكثرة فإن أكثرية سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقوهم ألفين وتابعوهم ألفاً فالمجموع ثلاثة آلاف ويكون سابقوا هذه الأمة ألفاً وتابعوهم ثلاثة آلاف فالمجموع أربعة آلاف فرضاً وهذا المجموع أكثر من المجموع الأول و
(9/260)
في الحديث : "أنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة" ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين لأن كثرة كل من الفريقين في أنفسهما لا تنافي أكثرية أحدهما من الآخر وسيأتي أن الثلتين من هذه الأمة وقد روي مرفوعاً أن الأولين والآخرين ههنا أيضاً متقدموا هذه الأمة ومتأخروهم وهو المختار كما في بحر العلوم فالمتقدمون مثل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولما نزلت بكى عمر رضي الله عنه فنزل قوله ثلة من الأولين وثلة من الآخرين يعني كريان شد وكفت يا نبي الله ما بانو كرويديم وتصديق كرديم وازما اهل نجات نيامد مكر اندك اين آيت آمدكه وثلة من الآخرين حضرت صلى الله عليه وسلّم آيت بروى خواند وعمر فرمودكه رضينا من ربنا وفي الحديث "أترضون أن يكونوا ربع أهل الجنة قلنا نعم قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل اجنة قلنا نعم قال والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة يعني كونكم نصف أهلها بسبب أنها لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود وكالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر أي فلا يستبعد دخول كلهم الجنة" وقد ترقى عليه السلام في حديث آخر من النصف إلى الثلثين وقال : إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً وهذه الأمة منها ثمانون قال السهيلي رحمه الله في كتاب التعريف والأعلام قال عليه السلام : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة فهم إذاً محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته وأول سابق إلى باب الجنة محمد عليه السلام وفي الحديث "أنا أول من يقرع باب الجنة فأدخل ومعي فقراء المهاجرين" وأما آخر من يدخل الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها رجل اسمه جهينة فيقول أهل الجنة : تعالوا نسأل جهينة فعنده الخبر اليقين فيسألونه هل بقي أحد في النار ممن يقول لا إله إلا الله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
نماند بزندان دوزخ اسير
كسى راكه باشد نين دستكير
يقول الفقير : هذه خلاصة ما أورده أهل التفسير في هذا المقام والذي يلوح لي أن المقربين وإن كانوا داخلين في أصحاب اليمين إلا أن المراد بقوله تعالى : وثلة من الآخرين هي الثلة التي من
320
أصحاب اليمين وهم هنا غير المقربين بقرينة تقسيم الأزواج وتبيين كل فريق منهم على حدة وكلاً منا في المقربين خصوصاً أعني السابقين من هذه الأمة هل هم أقل من سابقي الأمم كما يدل عليه اهر قوله تعالى وقليل من الآخرين أو هم أكثر كما يدل عليه بعض الشواهد والظاهر أنهم أثر مثل أصحاب اليمين والآية محمولة على مقدمي هذه الأمة ومتأخريها كما أشير إليه سابقاً وذلك لأن النبي عليه السلام شبه علماء هذه الأمة بأنبياء بني إسرائيل ولا شك أن الأنبياء كلهم من المقربين وعلماء هذه الأمة لا نهاية لهم دل عليه أن أولياء في كل عصر من أعصار هذه الأمة عدد الأنبياء وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وقد يزيد عددهم على عدد الأنبياء بحسب نورانية الزمان وقد ثبت أن كل أربعين مؤمناً في قوة ولي عرفي فإذا كان صفوف هذه الأمة يوم القيامة ثمانين فظاهر أن عددهم يزيد على عدد الأولين بزيادة العدد يزيد الأولياء أصحاب اليمين وبزيادتهم يزيد الأولياء المقربين السابقون فإن في العدد المذكور منهم الغوث والأقطاب والكمل فاعرف.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/261)
وفي التأويلات النجمية يشير بقوله : ثلة من الأولين إلى كثرة أرباب القلوب صواحب التجليات الجزئية الصفاتية والأسماءئي وكثرة أصحاب اللذات النفسانية الظلمانية وبقوله وقليل من الآخرين المحمديين يشير إلى أرباب الأرواح الظاهرة صواحب التجليات الذاتية المقدسة عن كثرات الأسماء والصفات الاعتبارية {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} حال أخرى من المقربين والسر رجع سرير بالفارسية تحت.
والموضونة المنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع ثم استعير لكل نسج محكم {مُّتَّكِـاِينَ عَلَيْهَا مُتَقَـابِلِينَ} حالان من الضمير المستكن فيما تعلق به على سرر والتقابل بعضهم على بعض إما بالذات وإما بالعناية والمودة أي مستقرين على سرر متكئين عليها أي قاعدين قعود الملك للاستراحة متقابلين لا ينظر بعضهم من إقفاء بعض وهو وصف لهم بحسب العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب وقال أبو الليث متقابلين في الزيارة.
وقال الكاشفي : برابر يكديكر يعني روى باروى تابديدان يكديكر مستأنس ومسرور باشند {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي يدور حولهم للخدمة حال الشرب وغيره {وِلْدَانٌ} جمع وليد وخدمة الوليد أمتع من خدمة الكبير يعني خدمت كودك زيبا ترست از خدمت كبار {مُّخَلَّدُونَ} مبقون أبداً على شكل الولدان وطراوتهم لا يتحولون عنها لأنهم خلقوا للبقاء ومق خلق للبقاء لا يتغير قال في الأسئلة المقحمة : هؤلاء هل يدخلون تحت قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت والجواب أنهم لا يموتون فيها بل يلقى عليهم بين النفختين نوم انتهى.
وازين معلوم شدكه اين كودكان را حق تعالى بمحض كرم خود آفريده باشد براى خدمت بهشتيان.
فهم للخدمة لا غير والحور العين للخدمة والمتعة وقيل هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها ولا سيئات فيعاقبون عليها وفي الحديث : "أولاد الكفار خدام أهل الجنة" ولفظ الولدان يشهد لأبي حنيفة رحمه الله في أن أطفال المشركين خدم أهل الجنة لأن الجنة لا ولادة فيها ويجوز أن يكون معنى مخلدون مقرطون.
يعني آباستكان بكو شوار هاى زرين.
والخلد السوار القرط كالخلدة محركة والجمع كقردة وولدان مخلدون مقرطون أو مسورون
321
أولا يهرمون أبداً ولا يجاوزون حد الوصافة كما في القاموس وقال في كشف الأسرار : الخلادة لغة قحطانية
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{بِأَكْوَابٍ} من الذهب والجواهر أي بآنية لا عرى لها ولا خراطيم وهي الأباريق الواسعة الرأس لا خرطوم لها ولا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أي موضع أراد منها فلا يحتاج أن يحول الإناء من الحالة التي تناوله بها ليشرب {وَأَبَارِيقَ} جمع إبريق وهو الذي له عروة وخرطوم يبرق لونه من صفائه وقيل إنها أعجمية معربة آبريز.
أي بآنية ذات عرى وخراطيم ويقال الكوب للماء وغيره والإبريق لغسل الأيدي والكأس لشرب الخمر كما قال : {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي وبكأس من خمر جارية من العيون أخبر أن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا تستخرج بتكلف وعلاج وتكون في أوعية بل هي كثيرة جارية كما قال وأنهار من خمر والكأس القدح إذا كان فيها شراب وإلا فهو قدح يقال معن الماء إذا جرى فهو فعيل بمعنى الفاعل أو ظاهرة تراها العيون في الأنهار كالماء المعين وهو الظاهر الجاري فيكون بمعنى مفعول من المعاينة من عانه إذا شخصه وميزه بعينه قال في القاموس : المعن الماء الظاهر ومعن الماء أساله وأمعن الماء جرى والمعنان بالضم مجاري الماء في الوادي فإن قلت كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس فالجواب أن ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في الأواني المتعددة ويشربون بكأس واحدة {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} الصدع شق في الأجسام الصلبة كالزجاج والحديد ونحوهما ومنه استعير الصداع وهو الانشقاق في الرأس من الوجع ومنه الصديع للفجر أي لا ينالهم بسبب شربها صداع كما ينالهم ذلك من خمر الدنيا وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها قال ابن عباس رضي الله عنهما : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيىء والبول وليست في خمر الجنة بل هي لذة بلا أذى {وَلا يُنزِفُونَ} أي لا يسكرون يعني لا تذهب عقولهم أو ينفد شرابهم من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه فالنفاد إما للعقل وهو من عبوب خمر الدنيا أو للشراب فإن بنفادها تختل الصحبة {وَفَـاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} يقال تخيرت الشيء أخذت خيره أي يختارونه ويأخذون خيره وأفضله من ألوانها وكلها خيار وهو عطف على بأكواب أي يطوف عليها ولدان بفاكهة وهو ما يؤكل من الثمار تلذذاً لا لحفظ الصحة لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالغذاء في الجنة وليس ذلك كقوت الدنيا الذي يتناوله من يضطر إليه ويضيق عليه لتأخره عنه وهو إشارة إلى أنه يتناول المأكولات التي يتنعم بها ثم ذكر اللحم الذي هو سيد الأدام وكانت العرب يتوسعون بلحمان الإبل ويعز عندهم لحم الطير الذي هو أطيب اللحوم ويسمعون بها عند الملوك فوعدوها فقيل :
(9/262)
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون مشوياً أو مطبوخاً يتناولنها مشتهين لها لا مضطرين ولا كارهين وآن آن بود كه مؤمنان برخوان نشسته باشند مرغ بيايد ودريش ايشان برشاخ طوبى نشيند وآوازدهدكه من آثم كه هي شمه نيست دربهشت كه ازان نشيده ام وهي درختى نيست كه من از ميوه آن نخورده ام كوشت من خوشترين همه كوشتهاست س بهشتى كوشت ويرا آرزو كند مرغ ازان شاخ طوبى در كرددو برسرخوان افتدسه
322
قسمت شوديكى خته ويكى قديدويكى بريان س بهشتى ندانكه خواهد بخورد ديكر باره بقدرت حق زنده شود وبررد.
وفي الأسئلة المقحمة إنما قال وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون فغاير بين اللفظين والجواب لأن الفواكه كما تكون للأكل تكون أيضاً للنظر والشم وأما لحم الطير فمختلف الشهوات في أكل بعض أجزائه دون البعض ولما لم يكن بعد الأكل والشرب أشهى من الجماع قال : {وَحُورٌ عِينٌ} عطف على ولدان أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أولهم حور عين أي نساء وحور جمع حوراء وهي البيضاء أو الشديدة بياض العين والشديدة سوادها وعين جمع عيناء وهي الواسعة الحسنة العين وهن خلقن من تسبيح الملائكة كما في عين المعاني {كَأَمْثَـالِ اللُّؤْلُواِ الْمَكْنُونِ} صفة لحور أو حال أي الدر المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين أو المصون عما يضربه ويدنسه في الصفاء والنقاء ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أن أعمالهم كانت كذلك لأن الجواء من جنس العمل فقال : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم الصالحة في الدنيا فما جزاء الإحسان إلا الإحسان فالمنازل منقسمة على قدر الأعمال وأما نفس دخول الجنة فيفضل الله ورحمته لا بعمل عامل فمن طمع في أن يدخل الجنة ويأكل من اللحم اللذيذ ويشرب من الشراب الهنيىء ويستمتع بالحور العين آثر وجه زواجها.
ـ ويروى ـ أن الحوراء إذا مشت سمع تقديس الجلاجل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها وإن عقد الياقوت يضحك في نحرها وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ تصران أي تصوتان بالتسبيح على كل امرأة سبعون حلة ليست منها حلة على لون الأخرى وسبعون لوناً من الطيب ليس منها لون على لون الآخر لكل امرأة سبعون سريراً من ياقوت أحمر منسوجة بالدر على كل سرير سبعون فراشاً بطائنها من استبرق وفوق السبعين فراشاً سبعون أريكة لكل امرأة منهن سبعون وصيفة بيد كل وصيفة صحفتان من ذهب فيهما لون من طعام يجد لآخر لقمة منه لذة لا يجدها لأولها ويعطي زوجها مثل ذلك لعى سرير من ياقوت أحمر عليه سواران من ذهب موشح بياقوت أحمر وكان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول : اخطب زوجة لا نسلبها منك المنايا وأعرس بها في دار لا يخربها دوران البلايا واسبك لها حجلة لا تحرقها نيران الرزايا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
ـ وروي ـ أنهن خلقن من الزعفران كما في كشف الأسرار {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أي باطلاً قال في القاموس : اللغو واللغا السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره وفي المفردات اللغو من الكلام ما لا يعتد به هو الذي يورد لا عن رؤية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور {وَلا تَأْثِيمًا} ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم اثمتم أي لا لغو فيها ولا تأثيم ولا سماع والإثم اسم للأفعال المبطئة عن الثواب والجمع آثام {إِلا قِيلا} أي قولا {سَلَـامًا سَلَـامًا} بدل من قيلا والاستثناء منقطع أي لكنهم يسمعون فيها قولاً سلاماً سلاماً أو هو من باب لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى في أنه من التعليق بالمحال ومعنى سماعهم السلام إنهم يفشون السلام فيسلمون سلاماً بعد
323
سلام أو لا يسمع كل من المسلم والمسلم عليه الإسلام الآخر بدأ أورداً وفي الآية إشارة إلى أن جنات السابقين المقربين صافية عن الكدورات المنغصة لساكنيها فارغة عن العاملات المعبسة لقاطنيها لا يقول أهلها إلا مع الحق ولا يسمعون إلا من الحق تجلي الحق لهم عن اسمه السلام المشتمل على السلامة من النقائص والآفات المتضمن للقربات والكرمات.
اعلم أن أعز السلام سلام الله على عباده كما قال سلام قولاً من رب رحيم ثم سلام الأرواح العالية كما حكى عن بعض الصالحين إنه قال : كان لي ابن استشهد فلم أره في المنام إلا ليلة توفي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو سابع الخلفاء ازثني عشر تراءى لي تلك الليلة فقلت : يا بني ألم تكن ميتاً؟ فقال : لا ولكني استشهدت وأنا حي عند الله أرزق فقلت له : ما جاء بك؟ فقال : نودي في أهل السماء ألا لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا ويحضر الصلة على عمر بن عبد العزيز فجئت لأشهد الصلاة ثم جئتكم لأسلم عليكم.
(9/263)
يقول الفقير : شاهدت في الحرمين الشريفين حضور الأرواح للصلوات والطواف وسلام بعضهم على بعض حتى سلمت أنا في السحر الأعلى عند مقام جبرائيل على الخلفاء الأربعة والملائكة أربعة ولله الحمد على ذلك :
سلام من الرحمن نحو جنابه
لأن سلامي لا يليق ببابه
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{وَأَصْحَـابُ الْيَمِينِ} شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة أثر تفصيل شؤون السابقين وهو مبتدأ خبره جملة قوله : {مَآ أَصْحَـابُ الْيَمِينِ} أي لا ندري مالهم من الخير والبركة بسبب فواضل صفاتهم وكوامل محاسنهم {فِى سِدْرٍ} أي هم في سدر {مَّخْضُودٍ} أي غير ذي شوك لا كسدر الدنيا فإن سدر الدنيا مخلوق بشوك وسدر الجنة بلا شوك كأنه خضد شوكه أي قطع ونزع عنه فقوله سدر مخضود إما من باب المبالغة في التشبيه أو مجاز بعلاقة السببية فإن الخضد سبب لانقطاع الشوك وقيل مخضود أي مثنى أغصانه لكثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود على هذا الوجه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والسدر شجر النبق وهو ثمر معروف محبوب عند العرب يتخذون من ورقة الحرض وفي المفردات السدر سجر قليل الغذاء عند الأكل وقد يخضد ويستظل به فجعل ذلك مثل لظل الجنة ونعيمها قال بعضهم : ليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قد نضد حمله وتراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه ليست له سوق بارزة وهو شجر الموز وهو شجر له أوراق كبار وظل بارد كما أن أوراق السدر صغار أو هو أم غيلان وله أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة يقصد العرب منه النزهة والزينة وإن كان لا يؤكل منه شيء وعن السدي شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وعن مجاهد كان لأهل الطائف واد معجب فيه الطلح وانسدر فقالوا : يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي فنزلت هذه الآية وقد قال تعالى : وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فذكر لكل قوم ما يعجبهم ويحبون مثله وفضل طلح الجنة وسدرها على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} ممتد
324
لا ينتقص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس والعرب تقول للشيء الذي لا ينقطع ممدود وفي الحديث "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" وعن ابن عباس رضي الله عنهما شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها ويتذكر بعضهم ويشتهي لهو الدنيا فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة لكل لهو كان في الدنيا وقال في كشف الأسرار ويحتمل أن الظل عبارة عن الحفظ تقول فلان في ظل فلان أي في كنفه لأنه لا شمس هناك انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/264)
يقول الفقير : بل المراد منه الراحة كما في قوله تعالى : وندخلهم ظلاً ظليلاً لأنه إنما يجلس المرء في الظل للاستراحة وكانت العرب يرغبون فيه لقلته في بلادهم وغلبة حرارة الشمس ومنه قوله عليه السلام السلطان ظل الله في أرضه يأوى إليه كل مظلوم أي يستريح عند عدله ومنه قولهم مد الله ظلاله أي ظلال عدله ورأفته حتى يصل أثر الاستراحة إلى الناس كلهم {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} يسكب لهم ويصب أينما شاءوا وكيفما أرادوا بلا تعب أو مصبوب سائل يجري على الأرض في غير أخدود لا ينقطع يعني كون الماء مسكوباً كثيراً إما عبارة عن كونه ظاهراً مكشوفاً غير مختص ببعض الأماكن والكيفيات أو عن كونه جارياً وأكثر ماء العرب من الآبار والبرك فللا ينسكب فلا يصلون إلى الماء ءلا بالدلو والرشاء فوعدوا بالماء الكثير الجاري حتى يجري في الهواء على حسب الاشتهاء كأنه مثل حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البواد إيقاناً بالتفاوت بين الحالين فكما أن بينهما تفاوتاً فكذا بين حاليهما {وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} بحسب الأنواع والأجناس {لا مَقْطُوعَةٍ} في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا {وَلا مَمْنُوعَةٍ} عن متناوليها بوجه من الوجوه كبعد المتناول وانعدام ثمن يشترى به وشوك في الشجر يؤذث من يقصد تناولها وحائط يمنع الدخول ونحوها من المحظورات وفي الحديث ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين {وَفُرُشٍ} جمع فراش وهو ما يبسط ويفرش أي هم في بسط {مَّرْفُوعَةٍ} أي رفيعة القدر أو مرتفعة وارتفاعها كما بين السماء والأرض وهو مسيرة خمسمائة عام أو مرفوعة على الأسرة وقيل الفرش هي النساء حيث يكنى بالفراش وباللباس والإزار عن المرأة وفي الحديث : "الولد للفراش" فسمى المرأة فراشاً وارتفاعها كونهن على الأرائك دل عليه قوله تعالى : {إِنَّآ أَنشَأْنَـاهُنَّ إِنشَآءً} وعلى الأول أضمرهن لدلالة ذكر الفرش التي هي المضاجع عليهن دلالة بينة والمعنى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولاد ابداء وإعادة إما الإبداء فكما في الحور لأنهن أنشأهن الله في الجنة من غير ولادة وأما الإعادة فكما في نساء الدنيا المقبوضة عجائز وفي الحديث "هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا" جمع شمطاء والشمط بياض شعر الرأس يخالطه سواد "رمصا" جمع رمضاء والرمص بالتحريك وسخ يجتمع في الموق جعلهن الله تعالى بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت : واوجعاه فقال عليه السلام : ليس هناك وجع وقد فعل الله في الدنيا بزكريا عليه السلام
325
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/265)
فقال تعالى : وأصلحنا له زوجه سئل الحسن عن ذلك الصلاح فقال : جعلها شابة بعد أن كانت عجوزاً ولوداً بعد أن كانت عقيماً وذلك قوله تعالى : {فَجَعَلْنَـاهُنَّ} بعد أن كن عجائز {أَبْكَارًا} أي عذارى جمع بكر والمصدر البكارة بالفتح قال الراغب البكرة أول النهار وتصور منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار فقيل لكل متعجل بكر وسميت التي لم تفتض بكراً اعتباراً بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء قال سعدي المفتي : إن أريد بالإنشاء معنى الإبداء فالجعل بمعنى الخلق وقوله أبكاراً حال وإن أريد به الإعادة فهو بمعنى التصبير وأبكاراً مفعوله الثاني قال بعضهم : دل قوله فجعلناهن أبكاراً على أن المراد بهن نساء الدنيا لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكروهن أفضل وأحسن من حور الجنة لأنهن عملن الصالحات في الدنيا بخلاف الحور وعن الحسن رضي الله عنه قالت عجوز عند عائشة رضي الله عنها من بني عامر يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز فولت وهي تبكي فقال عليه السلام : أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز وقرأ الآية {عُرُبًا} جمع عروب كرسل جمع رسول وهي المتحبية إلى زوجها الحسنة التنقل واشتقاقه من أعرب إذا بين والعرب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن وفي المفردات امرأة عروبة معربة بحالها عن عفتها ومحبة زوجها وفي بعض التفاسير عرباً كلامهن عربى {أَتْرَابًا} جمع ترب بالكسر وهي اللدة والسن ومن ولد معك وهي تربى أي مستويات في سن بنت ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن والقامة ستون ذراعاً في سبعة أذرع على قامة أبيهم آدم شباب جرد مكحولون أحسنهم كالقمر ليلة البدر وآخرهم كالكوكب الدري في السماء يبصر وجه في وجهها وتبصر وجهها في وجهه لا يبزقون ولا يتمخطون وما كان فوق ذلك من الأدى فهو أبعد وفي الحديث "إن الرجل ليفتض في الغداة سبعين عذراء ثم ينشئهن الله أبكاراً" وقال عليه السلام : "إن الرجل من أهل الجنة ليزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف ثيب وثمانية آلاف بكر يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا" ودر تبيان آورده كه جمله راببهشت آرند بدين سن سازند وبشو هرد هند وعجوزه را نيزرد كنند بدين سن اكر شوهر نداشته باشد دردنيا ببعضي ازاهل بهشت دهند واكر شوهر داشته باشد اما شوهر اواز اهل بهشت نبوده ون امرأة فرعون اورابيكى از بهشتيان دهند واكر زوج او بهشتى بود بازيدو ارزانى دارند واكر زياده ازيك شوهر داشته باشد وهمه بهشتى باشند بزوج اخرين نامزد كنند وفي الحديث "أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء" الجابية بالجيم بلد بالشام وصنعاء بلد باليمن كثيرة الأشجار والمياه تشبه دمشق وفي الحديث "تقول الحوراء لولي الله كم من مجلس من مجالس ذكر الله قد أكرمك به العزيز أشرفت عليك بدلالي وغنجي وأترابي وأنت قاعد بين أصحابك تخطبني إلى الله فترى شوقك كان يعدل شوقي أو جدك كان يعدل جدي والذي أكرمني بك وأكرمك بي ما خطبتني إلى الله مرة إلا خطبتك إلى الله سبعين مرة فالحمدالذي أكرمني بك وأكرمك بي"
326
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{لِّأَصْحَـابِ الْيَمِينِ} متعلقة بأنشأنا {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الاخِرِينَ} أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وفي الحديث "هم جميعاً من أمتي" أي الثلثان من أمتي فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً فقال : عرضت على الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان معه الرهط والنبي ليس معه رهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل لي : انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل لي : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وفي رواية عليه السلام بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : عرضت على الأنبياء الليلة بأتباعها حتى أتى علي موسى في كبكبة من بني إسرائيل أي في جماعة منهم فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب من هؤلاء قيل هذا أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل فقلت : فأين أمتي قيل : انظر عن يمينك فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال وهو جمع ظرب ككتف وهو ما نتأمن الحجارة وحد طرفه والجبل المنبسط أو الصغير كما في القاموس قيل هؤلاء أمتك أرضيت قلت رب رضيت رب رضيت قيل انظر عن يسارك فإذا الأفق سد بوجوده الرجال قيل هؤلاء أمتك أرضيت قلت رب رضيت رب رضيت فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب عليهم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلّم إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب وإن عجزتم فكونوا من الأفق فإني قد رأيت ثمة أناساً يتهاوشون كثيراً.
(9/266)
يعني اكر عاجز آييد س باشيد از اهل افق كه من ديدم آنجا مردم بسيار مختلط بودند.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 35 من صفحة 327 حتى صفحة 336
قال في القاموس : الله تعالى لهوش العدد الكثير والهوشة الاختلاط والهويشة الجماعة المختلطة والهواشات بالضم الجماعات من الناس والتهاوش في الحديث جمع تهواش مقصور من التهاويش تفعال من الهوش وتهوشوا اختلطوا كتهاوشوا وعليه اجتمعوا وهاوشهم وخالطهم.
ـ وروي ـ أنه قال صلى الله عليه وسلّم أني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ثم تلاثلة من الأولين وثلة من الآخرين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
يقول الفقير الذي يتحصل من هذا أن الأبرار كثير من هذه الأمة في أوائلها وأواخرها وكذا من الأمم السابقة وأما السابقون فكثير من هذه الأمة في أوائلها دون أواخرها كما دلت عليه الآية المتقدمة وكذا قول الحسن البصري رحمه الله حيث قال : رأيت سبعين بدرياً كانوا فيما أحل الله لهم ازهد منكم فيما حرم الله عليكم وكانوا بالبلاء أشد منكم فرحاً بالرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا أخياركم قالوا ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم حكموا بأنهم لا يؤمنون بيوم الحساب إن عرض عليهم الحلال من المال تركوه خوفاً من فساد قلوبهم انتهى وأما السابقون من الأمم السالفة فإن انضم إليهم الأنبياء فهم أثر من سابقي هذه الأمة وإلا فلا كما حققناه سابقاٌ وذلك إن زهاد الأمم وإن كانوا أثر من زهاد هذه الأمة لكنهم لعدم استقرار أكثرهم على اليقين قلوا وأما هذه الأمة فمن قلتهم بالنسبة إليهم كثروا لثباتهم على اليقين والاعتقاد والاعتصام بالقرآن كما ورد في
327
بعض الأخبار {وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ} شروع في تفصيل أحوالهم وهم الكفار لقوله تعالى : والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة {مَآ أَصْحَـابُ الشِّمَالِ} أي لا تدري مالهم من الشر وشدة الحال يوم القيامة {فِى سَمُومٍ} أي هم في حر نار تنفذ في المسام وهي ثقب البدن وتحرق الأجساد والأكباد قال في القاموس : السموم الريح الحارة تكون غالباً في النهار والحرور الريح الحارة بالليل وقد تكون بالنهار {وَحَمِيمٍ} وهو الماء المتناهى في الحرارة {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود بهيم فإن اليحموم الدخان والأسود من كل شيء كما في القاموس يفعول من الحمة بالضم وهو الفحم تقول العرب أسود يحموم إذا كان شديد السود قال الضحاك : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود ولذا لا يكون ف يالجنة الأسود إلا الخال وأشفار العين والحاجب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
يقول الفقير : فيه تحذير عن شرب الدخان الشائع في هذه اعصار فإنه يرتفع حين شربه ويكون كالظل فوق شاربه مع ما لشربه من الغوائل الكثيرة ليس هذا موضع ذكرها فنسأل الله العافية لمن ابتلى به إذ هو مما يستخبثه الطباع السليمة وهو حرام كما عرف في التفاسير {لا بَارِدٍ} كسائر الظلال {وَلا كَرِيمٍ} ولا نافع من أذى الحر لمن يأوى إليه نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح يعني أنه سماه ظلاً ثم نفى عنه وصيفة البرد والكرم الذي عبر به عن دفع أذى الحر لتحيق أنه ليس بظل والكرم صفة لكل ما يرضى ويجري في بابه والظل يقصد لفائدتين لبرودته ودفع أذى الحر وإن لم تحصل الاستراحة بالبرد لعدمه كمن في البيوت المسدودة الأطراف بحيث لا يتحرك فيها الهواء فإن من يأوى إليها يتخلص بها من أذى حر الشمس وإن لم يستروح ببردها وفيه تهكم بأصحاب المشأمة وأنهم لا يستأهلون للظل البارد والكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب يقال ترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته وأنعمته وفلان أصر على البغي والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء فلا يمنع كما في القاموس أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أي الذنب العظيم الذي هو الشرك ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب وحنث في يمينه خلاف بر فيها وقال بعضهم : الحنث هنا الكذب لأنهم كانوا يحلفون بالله مع شركهم لا يبعث الله من يموت.
(9/267)
يقول الفقير : يدل على هذا ما يأتي من قوله ثم إنكم أيها الضالون المكذبون والحكمة في ذكر سبب عذابهم مع أنه لم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين التنبيه على أن ذلك الثواب منه تعالى فضل لا تستوجبه طاعة مطيع وشكر شاكر وإن العقاب منه تعالى عدل فإذا لم يعلم سبب العقاب يظن أن هناك ظلماً وفي الآية إشارة إلى سموم نار البعد والحجاب وحميم القهر والغضب وظل شجرة الجهل ما فيه برد اليقين كسائر الظلال ولا يسكن حرارة عطشهم من طلب الدنيا ولذاتها وما فيه كرم الهمة أيضاً حتى يعينهم على ترك الدنيا وزينتها وزخار فهابل لا يزالون يطلبون من الدنيا ما ليس فيها من الاستراحة والاسترواح إنهم كانوا قبل ذلك
328
مترفين يعني ما كان استظلالهم بشجرة الجهل المركب التي ليس فيها برد اليقين ولا كرم الهمة إلا بسبب استعداداتهم الذاتية المجبولة على جب الشهوات واللذات قبل دخولهم في الوجود العيني وأيضاً كان استظلالهم بشجرة الجهل لأنهم كانوا في محبة النفس والدنيا متمكنين في الأزل إذ الحنث العظيم هو حب النفس وحب الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلّم "حب الدنيا رأس كل خطيئة" :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
هر اطاعت نفس شهوت برست
كه هر ساعتش قبله ديكر است
برمرد هشيار دنيا خست
كه هر مدتي جاى ديكر كسست
{وَكَانُوا} مع شركهم {يَقُولُونَ} لغاية عتوهم وعنادهم {أَاـاِذَا مِتْنَا} آيا وقتى كه بميريم {وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا} أي كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد تراباً وبعضها عظاماً نخرة وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية وإذا ممحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى : {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لأنفسه لأن ما بعدان واللام والهمزة لا يعمل فيها قبلها وهو البعث وهو المرجع وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتيت في المبعوية بالفعل في حال كونهم تراباً وعظاماً بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} الواو للعطف على المستكن في لمبعوثون.
يعني آيا ما دران ودران يشين مانيز مبعوث شوند {قُلْ} رداً لإنكارهم وتحقيقاً للحق {إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ} من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم.
وبالفارسية بدرستى كه يشينيان از آباى شما وغير آن ويشينيان از شما وغير شما.
وفي تقديم الأولين مبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي {لَمَجْمُوعُونَ} بعد الموت وكأنه ضمن الجمع معنى السوق فعدى تعديته بإلى ولذا قال : {إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا وحدت من يوم معلوممعين عنده وهو يوم القيامة والإضافة بمعنى من كخاتم فضة والميقات هو الوقت المضروب للشيء ينتهي عنده أو يبتدأ فيه ويوم القيامة ميقات تنتهي الدنيا عنده وأول جزء منه فالميقات الوقت المحدود وقد يستعار للمكان ومنه مواقيت الإحرام للحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً {ثُمَّ إِنَّكُمْ} الخطاب لأهل مكة وإضرابهم عطف على أن الأولين داخل تحت القول وثم للتراخي زماناً أو رتبة {أَيُّهَا الضَّآلُّونَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
عن الحق والهدى {الْمُكَذِّبُونَ} أي البعث {لاكِلُونَ} بعد البعث والجمع ودخول جهنم {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدئون الأكل من شجر هو الزقوم وهو شجر كريه المنظر والطعم حار في اللمس منتن في الرائحة وهي الشجرة الملعونة في القرآن قال أهل الحقيقة : سدرة المنتهى أغصانها نعيم لأهل الجنة وأصولها زقوم لأهل النار فهي مبدأ اللطف والقهر والجمال والجلال {فَمَالِـاُونَ} س ركنند كان باشيد.
يقال ملأ الإناء فهو مملوء من باب قطع والملىء بالكر مقدار ما يأخذه الإناء إذا امتلأ {مِنْهَا} أي من ذلك الشجر والتأنيث باعتبار المعنى {الْبُطُونَ} أي
329
(9/268)
بطونكم من شدة الجوع أو بالقسر وفيه بيان لزيادة العذاب وكماله أي لا يكتفي منكم بنفس الأكل كما لا يكتفي من يأكل الشيء تحلة القسم بل تلزمون بأن تملأوا منها البطون أي يملأ كل واحد منكم بطنه أو بطون الإمعاء والأول أظهر والثاني أدخل في التعذيب {فَشَـارِبُونَ عَلَيْهِ} أي على شجر الزقوم أي عقيب ذلك بلا ريث لعطشكم الغالب وتذكير ضمير الشجر باعتبار اللفظ {مِنَ الْحَمِيمِ} أي الماء الحار في الغاية {فَشَـارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شرباً معتاداً بل يكون مثل شرب الهيم وهي الإبل التي بها الهيام وهوداء يصيبها يشبه الاستسقاء فتشرب ولا تروي إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً جمع أهيم وهيماء فأصله هيم كأحمر وحمر وفقلبت الضمة كسرة لتصح الياء والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يضطرهم إلى أهل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملأوا منه بطونهم وهو في غاية الحرارة والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع إمعاءهم فيشربونه شرب الإبل العطاش وفيه بيان لزيادة العذاب أيضاً أي لا يكون شربكم أيها الضالون كشرب من يشرب ماء حاراً منتناً فإنه يمسك عنه إذا وجده مؤلماً معذباً بخلاف شربكم فإنكم تلزمون بأن تشربوا منه مثل ما يشرب الجمل الأهيم فإنه يشرب ولا يروى وفي الآية إشارة إلى إفراط النفس والهوى في شرب ماء حميم الجهل والضلال وفي أكل زقوم المشتهيات المورثة للوبال ولغاية حرصها لا تزيد إلا جوعاً وعطشاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
كجا ذكر كنجد در انبان آز
بسختى نفس ميكند ا دراز
{هَـاذَا} الذي ذكر من الزقوم والحميم أول ما يلقونه من العذاب {نُزُلُهُمْ} أيرزقهم المعد لهم أي كالنزل الذي يعد للنازل مما حضر مكرمة له {يَوْمَ الدِّينِ} أي يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم فما ظنك بحالهم بعدما استقر لهم القرار واطمأنت بهم الدار في النار وفيه من التهكم ما لا يخفى كما في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم لأن ما يعد لهم في جهنم ليس مكرمة لهم والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول {نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي فهلا تصدقون أيها الكفرة بالخلق فإن ما لا يحققه العمل ولا يساعده بل ينبىء عن خلافه ليس من التصديق في شيء أو بالبعث فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة.
اعلم أن الله تعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجميع يشير به إلى ذاته وصفاته وأسمائه كما قال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكما قال : إنا أنزلناه وإذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير إلى ذاته المطلقة كما قال : إني أنا الله رب العالمين هذا إذا كان القائل المخبر هو الله تعالى وأا إذا كان العبد فينبغي أن يقول أنت يا رب لا أنتم لإيهامه الشرك المنافي لتوحيد القائل ولذا يقال أشهد أن لا إله إلا الله ليدل على شهادته بخصوصه فيتعين توحيده ويظهر تصديقه {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} أي تقذفونه وتصبونه في أرحام النساء من النطف التي يكون منها الولد فقوله أفرأيتم بمعنى أخبروني وما تمنون مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني يقال : أمنى الرجل يمنى لا غير ومنيت
330
الشيء أمنيه إذا قضيته وسمي المني منياً لأن الخلق منه يقضي {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي تقدرونه وتصورونه بشراً سوياً في بطون النساء ذكراً أو أنثى {أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ} له من غير دخل شيء فيه وأم قيل منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير وقيل متصلة ومجيء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة وفيه إشارة إلى معنى أن وقوع نطف الأعمال والأفعال وموادها في أرحام قلوبكم ونفوسكم بخلقي وإرادتي لا بخلقكم وإرادتكم ففيه تخصيص مواد لخواطر المقتضية للأفعال والأعمال الأقوال إلى نفسه وقدرته وسلبها عن الخلق {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبنا تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة فمنهم من يموت صغيراً ومنهم من يموت كبيراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/269)
يقول الفقير : قيل لي في بعض الأسحار اصبر ولا يكون إلا ما قدر الله تعالى فمرضت بعد أيام ابنتي أمة الله حتى ماتت جعلها الله فرطاً وذخراً وشافعة ومشفعة وقد ثبت أن إبراهيم عليه السلام تعلق بإسماعيل فابتلى بذبحه وكذا يعقوب عليه السلام تعلق بيوسف فابتلى بالفراق فهذه كلها مقادير يحب الرضى بها {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي قادرون {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ} منكم {أَمْثَـالَكُمْ} لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق يقال سبقته على كذا أي غلبته عليه وغلب فلان فلاناً على الشيء إذا أخذه منه بالغلبة {وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} من الخلق والأطوار لا تعهدون بمثلها وقال الحسن البصري رحمه الله : أي نجعلكم قردة وخنازير كمن مسخ قبلكم إن لم تؤمنوا برسلنا يعني لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلاً منكم ومسخكم من صوركم إلى غيرها ويحتمل أن الآية تنحو إلى الوعيد فالمراد إما إنشاؤهم في خلق لا يعلمونها أو صفات لا يعلمونها يعني كيفيات من الألوان والأشكال وغيرها وفي الحديث "إن أهل الجنة جرد مرد وإن الجهنمي ضرسه مثل أحد" وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى ليس بعاجز عن تبديل الصفات البشرية بالصفات الملكية وجعل السالكين مظهر الصفات غير صفاتهم التي هم عليها إذ توارد الصفات المختلفة المتباينة على نفس واحدة على مقتضى الحكمة البالغة ليس من المحال ألا ترى إلى الجوهر الواحد فإنه يصير تارة فضة وأخرى ذهباً بطرح الأكسير {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ} أي الخلقة {الاولَى} هي خلقتهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وقيل هي فطرة آدم من التراب {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون إن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى حتماً فإنها أقل صنعاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال :
آنكه مارا زخلوت نابود
مى كشد تابجلوه كاه وجود
بار ديكركه از سموم هلاك
روى وشيم زير رده خاك
هم نواند با مركن فيكون
كارد از كوشه لحد بيرون
وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور وف يالآية دليل على صحة القياس حيث جهلهم
331
في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى القياس إذا كان جهلاً كان القياس علماً وكل ما كان من قيل العلم فهو صحيح.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
مجتهد هركه كه باشد نص شناس
اندر آن صورت نينديشد قياس
ون نيايد نص اندر صورتى
از قياس آنجا نمايد عبرتى
اين قياسات وتحرى روز ابر
تابشت مر قبله را كردست حبر
ليك با خورشيد وكبعه يش رو
اين قياس واين تحرى مجو
ومنه يعلم بطلان قياس إبليس فإنه قياس على خلاف الأمر عنده وروده.
كما قال في المثنوي :
أول آنكس كين قياسكها نمود
يش انوار خدا ابليس بود
كفت نار ازخاك بى شك بهرست
من ز نار واوز خاك اكدرست
س قياس فرع براصلش كنيم
اوز ظلمت ما زنور روشنيم
كفت حق نى بلكه لا انساب شد
زهد وتقوى فضل را محراب شد
(9/270)
وفيه إشارة إلى أنا إذا قدرنا على إنشاء النشأة الأولى البشرية الطبيعية الدنيوية مع عدم مادة من المواد الصفاتية فمن استعجز قردة الله فقد كفر ألا ترى إلى محرومي البداية مرزوقي النهاية مثل ابراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض ومالك بن دينار وغيرهم قدس الله أسرارهم فإن الله تعالى أنشأهم نشأة أخرى ولو بعد حين {أَفَرَءَيْتُمُ} أخبروني وبالفارسية أخبار كنيد {مَّا تَحْرُثُونَ} أي تبذرونه من الحب وتعملون في أرضه بالسقي ونحوه والحرثة إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع {ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتاً يربو وينمو إلى أن يبلغ الغاية {أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ} أي المنبتون لا أنتم والزرع الإنبات وحقيقة ذلك يكون بالأمور الإلهية دون البشرية ولذا نسب الحرث إليهم ونفى عنهم الزرع ونسبه إلى نفسه وفي الحديث "لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله" والحاصل أن الحرث فعلهم من حيث أن اختيارهم له مدخل في الحرث والزرع خالص فعل الله فإن إنيات السنبل والحب لا مدخل فيه لاختيار العبد أصلاً وإذا نسب الزرع إلى العبد فلكونه فاعلاً للأسباب التي هي سبب الزرع والإنبات في الأسئلة المقحمة الأصح إن الحرث والزرع واحد كقوله تعالى : ولا تسقي الحرث فهلا أضاف الحرث إلى نفسه أيضاً والجواب أن إضافة الحرث إلينا إضافة الاكتساب وإضافته إلى نفسه إضافة الخلق والاختراع كقوله تعالى : وما رميت إذ رميت قال الحليمي يستحب لكل من ألقى في الأرض بذراً أن يقرأ بعد الاستعاذة أفرأيتم إلى قوله بل نحن محرومون ثم يقول الله الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ويقال إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات الدود والجراد وغير ذلك وفي الآية امتنان ليشكروا على نعمة الزرع واستدلال بأن من قدر على الإنبات قدر على الإعادة فكما أنه ينبت الحب في الأرض وينبت بذر النطفة في الرحم فكذا ينبت من حب عجب الذنب في القبر فإن كلها حب وذلك لأن بذر النطفة وكذا عظم عجب الذنب شيء كخردلة كما
332
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
أسلفناه {لَوْ نَشَآءُ} لو للمضي وإن دخل على المضارع ولذا لا يحزمه فهو شرط غير جازم أي لو أردنا أي الزرع بمعنى المزروع {حُطَـامًا} الحطم كسر الشيء مثل الهشم ونحوه ثم استعمل لكل كسر متناه والمعنى هشيما أي يابساً متكسراً متفتتاً بعدما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله وجمعها {ظَلَمْتُمْ} أي فصرتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون من سوء حاله أثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما فعلتم فيه من الاجتهاد وأنفقتم عليه أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرىء تفكنون بالنون والتفكن التعجب والتفكر والتندم ومنه الحديث مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم يتفكنون أي يتندمون والحمة العين الحارة من الحميم وهو الماء الحار يستشفى به الإعلاء والمرضى {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} حال من فاعل تفكهون أي قائلين إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا والغرامة أن يلزم الإنسان ما ليس في ذمته وعليه كما في المغرب أو مهلكون بهلاك رزقنا أو بشؤم معاصينا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا رزقنا أو محدودون لا مجدودون أي ممنوعون من الحد وهو المنع لا حظ لنا ولا جد ولا بخت ولو كنا مجدودين لما فسد علينا هذا.
(9/271)
ـ روي ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأرض الأنصار فقال : ما يمنعكم من الحرث قالوا : الجذوبة قال : أفل تفعلون فإن الله تعالى يقول : أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا رسول الله عليه السلام أفرأيتم ما تحرثون الآية ففي الحديث إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع بأسباب وبغيرها فالتوحيد هو أن يعتقد أن التأثير من الله تعالى لا من غيره كالكوكب ونحوه فإنه يتهم النفس بالمعصية القاطعة للرزق وفي الحديث ما سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فءذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار وفي الحديث : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فإذا كان توسيع الرزق في الطهارة فتضييقه في خلافها والرزق ظاهر وباطن وكذا الطهارة والنجاسة فلا بد لطالب الرزق مطلقاً أن يكون على طهارة مطلقة دائماً فإن قلت فما حال أكل السلف فإنهم كانوا فقراء مع دوام الطهارة قلت : كان السلف في الرزق المعنوي أكثر من الخلف وهو المقصود الأصلي من الرزق وإنما كانوا فقراء في الظاهر لكمال افتقارهم الحقيقي كما قال عليه السلام : اللهم أغنني بالافتقار إليك فمنعوا عني الغنى الصوري تطبيقاً لكل من الظاهر والباطن بالآخر فهم أغنى الأغنياء في صورة الفقراء وما عداهم ممن ليس على صفتهم أفقر الفقراء في صورة الأغنياء فالمرزوق من رزق غذاء الروح من الواردات والعلوم والفيوض والمحروم من حرمه فاعرفه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
أسلفناه {لَوْ نَشَآءُ} لو للمضي وإن دخل على المضارع ولذا لا يحزمه فهو شرط غير جازم أي لو أردنا أي الزرع بمعنى المزروع {حُطَـامًا} الحطم كسر الشيء مثل الهشم ونحوه ثم استعمل لكل كسر متناه والمعنى هشيما أي يابساً متكسراً متفتتاً بعدما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله وجمعها {ظَلَمْتُمْ} أي فصرتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون من سوء حاله أثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما فعلتم فيه من الاجتهاد وأنفقتم عليه أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرىء تفكنون بالنون والتفكن التعجب والتفكر والتندم ومنه الحديث مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم يتفكنون أي يتندمون والحمة العين الحارة من الحميم وهو الماء الحار يستشفى به الإعلاء والمرضى {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} حال من فاعل تفكهون أي قائلين إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا والغرامة أن يلزم الإنسان ما ليس في ذمته وعليه كما في المغرب أو مهلكون بهلاك رزقنا أو بشؤم معاصينا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا رزقنا أو محدودون لا مجدودون أي ممنوعون من الحد وهو المنع لا حظ لنا ولا جد ولا بخت ولو كنا مجدودين لما فسد علينا هذا.
ـ روي ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأرض الأنصار فقال : ما يمنعكم من الحرث قالوا : الجذوبة قال : أفل تفعلون فإن الله تعالى يقول : أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا رسول الله عليه السلام أفرأيتم ما تحرثون الآية ففي الحديث إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع بأسباب وبغيرها فالتوحيد هو أن يعتقد أن التأثير من الله تعالى لا من غيره كالكوكب ونحوه فإنه يتهم النفس بالمعصية القاطعة للرزق وفي الحديث ما سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فءذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار وفي الحديث : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فإذا كان توسيع الرزق في الطهارة فتضييقه في خلافها والرزق ظاهر وباطن وكذا الطهارة والنجاسة فلا بد لطالب الرزق مطلقاً أن يكون على طهارة مطلقة دائماً فإن قلت فما حال أكل السلف فإنهم كانوا فقراء مع دوام الطهارة قلت : كان السلف في الرزق المعنوي أكثر من الخلف وهو المقصود الأصلي من الرزق وإنما كانوا فقراء في الظاهر لكمال افتقارهم الحقيقي كما قال عليه السلام : اللهم أغنني بالافتقار إليك فمنعوا عني الغنى الصوري تطبيقاً لكل من الظاهر والباطن بالآخر فهم أغنى الأغنياء في صورة الفقراء وما عداهم ممن ليس على صفتهم أفقر الفقراء في صورة الأغنياء فالمرزوق من رزق غذاء الروح من الواردات والعلوم والفيوض والمحروم من حرمه فاعرفه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
وفي المثنوي :
فهم نان كردن نه حكمت اى رهى
زانكه حق كفت كلوا من رزقه
رزق حق حكمت بود در مرتبت
كان كلوا كيرت نباشد عاقبت
آن دهان بستى دهانى بازشد
كه خورنده لقمهاى راز شد
333
كرز شير ديوتن را رورى
در فطام او بسى نعمت خورى
(9/272)
{أَفَرَءَيْتُمُ} خبر نماييد {الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ} عذباً فراتاً وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به {ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} أي من السحاب واحده مزنة وقيل : هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} له بقدرتنا والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمعلقة بالاستفهام وإن كانت بمعنى الابصار أو المعرفة فالجملة الاستفهامية استئناف وهذا هو اختيار الرضى {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا} ملحاً زعاقاً لا يمكن شربه وحذف اللام في الشرطية الأولى للفرق بين المطعوم والمشروب في الأهمية وصعوبة الفقد يعني أن أمر المطعوم ههنا مع إثباتها مقدم على أمر المشروب وإن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون ما ذكر جميعاً من المطعوم والمشروب بتوحيد منعمه وإطاعة أمره أو فلولا تشكرون على أن جعلناه عذباً وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن تحت العرش بحراً تنزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ويوحي إلى السماء أن غربليه فتغربله فليس من قطرة تقطر إلا معها ملك يضعها موضعها ولا ينزل من السماء قطرة الإبكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان فإنه نزل بغير كيل ولا وزن وقال بعض الحكماء : إن المطر يأخذه قوس الله من البحر إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض قال بعضهم : هو أدخل في القدرة لأن ماء البحر مر فيصعد ملحاً وينزل عذباً وفي الآية إشارة إلى أن بعض بلاد العرب ليس لها آبار ولا أنهار جارية فلا يشرب أهلها إلا من المطر في المصانع فمنها القدس الشريف وينبع وجدة المحروسة ونحوها وللماء العذب مزيد فضل في هذه البلاد ولذا امتن الله به على العباد وفيها إشارة إلى ماء معرفة والعلم الإلهي فإنه ليس بالكسب والاجتهاد بل بمحض عطاء الله تعالى ولو شاء الله لجهل الماء العذب الجاري من مشرب الكشف والشهود ماء ملحاً جارياً من مشرب الحجاب والاحتجاب والجهالة والضلالة فلا بد من الشكر على نعم المعارف والحقائق والحكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
واعلم أن من حفر بئراً فإما أن يصل إلى الماء أو لا فإن وصل فإما أن يكون ذلك الماء مالحاً أو عذباً فعلى تقدير كونه عذباً ليس كالمطر الحاصل بلا أسباب فإٌّه طيب طاهر خالص فهذا مثل علم علماء الرسوم ومثل علم علماء الحقيقة فإن الأنبياء والأولياء ملهمون من عند الله تعالى ولا خطأ في لوحي والإلهام أصلاً ولذا نقول : إن علم الصوفية هو العلم الصواب كله فعلمهم تذكري ليس لهم احتياج إلى ترتيب المقدمات بخلاف علماء الرسوم فإن علمهم تفكري هتاج إلى ذلك ولا بد لطالب الفيض من تهيئة المحل قبل وروده ألا ترى إلى صاحب الحرث فإنه يشتغل بتهيئة الأرض وإلقاء البذر ولا يدري من ينزل المطر فإذا نزل أصاب محزه.
ثم اعلم أن الروح ينزل بالمطر وله تعين في كل نشأة بما يناسبه فعند تمام الخلقة في الرحم ينفخ الله تعالى الروح وهو عبارة عن تعين الروح وظهوره لكن عبر عنه بالنفخ لأن العقل قاصر عن دركه وكان عليه السلام يكشف رأسه عند نزول المطر ويقول حديث عهد بربه فالروح أي روح كان سبب للحياة مطلقاً
334
فينبغي تلقي التجليات الواردة من قبل الحق بهيئة المحل كما أن النبي عليه السلام كشف رأسه وهيأ محل نزول المطر وذلك لأن المطر ينزل من العلو فلقي على أعلى شيء في الإنسان وهو الرأس {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ} الإيراء آتش از آتش زنه بيرون كردن.
أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شهوهما بالفحل والطروقة يقال ناقة طروقة أي بلغت أن يضربها الفحل لأن الطرق الضرب {ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} التي منها الزناد وهي المرخ والعفار كما مر في صورة يس {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـاُونَ} لها بقدرتنا {نَحْنُ جَعَلْنَـاهَا تَذْكِرَةً} استئناف مبين لمنافعها أي جعلنا نار الزناد تذكير النار جهنم من حيث عقلنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا ما أوعدوا به من نار جهنم أو تذكرة وموعظة وأنموذجاً من جهنم لما روى عن النبي عليه السلام : "ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حر جهنم" وقيل تبصرة في أمر البعث فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب وفي عين المعاني وهو حجة على منكري عذاب القبر حيث تضمن النار ما لا يحرق ظاهره
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/273)
{وَمَتَـاعًا} ومنفعة وبلغة لأن حمل النار يشق {لِّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء بالفتح وهو القفر الخالي عن الماء والكلام والعمارة وهم المسافرون وتخصيصهم بذلك لأنهم أحوج إليها ليهرب منها السباع ويسطلوا من البرد ويجففوا ثيابهم ويصلحوا طعامهم فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي يقال أقوى الرجل إذا نزل في الأرض القواء كأصحر إذا دخل في الصحراء وفي الحديث : "قال النبي عليه السلام لجبريل مالي أر ميكائيل ضاحكاً قط قال : ما ضحك ميكائيل منذر خلقت النار" وعن أنس رضي الله عنه يرفعه أن أدنى أهل النار عذاباً الذي يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه في رأسه وفيه بيان شدة نار جهنم وإنها ليست كنار الدنيا وقانا الله وإياكم منها وفي الآية إشارة إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوك طريق الحق وشجرتها هي العناية الإلهية السرمدية يدل هذا التأويل قول العارف أبي الحسين المنصور قدس سره حين سئل عن حقيقة المحبة هي العناية الإلهية السرمدية لولاها ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان نحن جعلناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية ليهتدوا بنورها إلى سلوك طرق الحق ومتاعاً للمقوين أي غذاء لأرواح المحبين الطاوين أياماً وليالي عن الطعام والشراب كما حكي عن سعل التستري رحمه الله أنه كان يطوي ثلاثين يوماً وعن أبي عقيل المغربي قدس سره أنه ما أكل سنتين وهو مجاور بمكة وعن كثير من المرتاضين السالكين وإنما رفع إدريس عليه السلام إلى السماء الرابعة لمبالغته في التجريد والترويح حتى أن الروحانية غلبت عليه فخلع بدنه وخالط الملائكة واتصل بروحانية الأفلاك وترقى إلى عالم القدس وقد أقامه ستة عشر عاماً لم ينم ولم يطعم شيئاً ولم يتزوج قط لزوال الشهوة بالكلية حتى صار عقلاً مجرداً من كثرة الرياضة ورفع إلاى أعلا الأمكنة وهو المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس ثم
335
أن نار المحبة أشد النيران قال الجنيد قدس سره : قالت النار : يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني قال : نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى قالت : هل نار أعظم مني؟ قال : نعم نار محبتي أسكنها قلوب أوليائي المؤمنين كما في فتح القريب :
مهرجانان آتش است عشاق را
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
مى بسوزد هستى مشتاق را
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 36 من صفحة 336 حتى صفحة 344
(9/274)
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} لم يقل فسبح ربك لأن سبح منزل منزلة اللازم ولم يعتبر تعلقه بالمفعول ومعناه فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى إضمار المضاف شكراً على تلك النعم وإن جحدها الجاحدون أو بذكره على المجاز فإن إطلاق الاسم للشيء ذكر له والباء للاستعانة أو الملابسة والمراد بذكر ربه هنا تلاوة القرآن والعطيم صفة للاسم أو الرب قال ابن عطاء رحمه الله سبحه أن الله أعظم من أن يلحقه تسبيحك أو يحتاج إلى شيء منك لكنه شرف عبيده بأن أمرهم أن يسبحوه ليطهروا أنفسهم بما ينزهونه به {فَلا أُقْسِمُ} أي فاقسم ولا مزيدة للتأكيد وتقوية الكلام كما في قوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب وما قيل أن المعي فلا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم خصوصاً إلى مثل هذا القسم العظيم فيأباه تعيين المقسم به وتفخيم شأن المقسم به {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} أي بمساقطها وهي مغاربها وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم أو بمنازلها ويمجاريها فإن له تعالى في ذلك من الدليل على عظم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به البيان وقيل : النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها وإليه ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وقيل : النجوم الصحابة والعلماء الهادون بعدهم ومواقعهم القبور وقيل غير ذلك {وَإِنَّهُ} أي القسم بالمذكور {لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى بغير كتاب قوله لو تعلمون اعتراض بين الصفة والموصوف لتأكيد تعظيم المحلوف به وجوابه متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتمون أو لعملتم بموجبه ففيه تنبيه على تقصير المخاطبين في الأمر وعظيم صفة قسم وهذه الجملة أيضاً اعتراض بين القسم وجوابه الذي هو قوله تعالى : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} هو المقسم عليه أي لكتاب كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد على أن يستعار الكرم ممن يقوم به الكرم من ذوي العقول إلى غيرهم أو حسن مرضى في جنسه من الكتب أو كريم عند الله وقال بعضهم : كريم لأنه يدل على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور وشرائف الأفعال وقيل : كريم لنزوله من عند كريم بواسطة الكرام إلى أكرم الخلق
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ} أي مصون عن غير المقربين من الملائكة أي لا يطلع عليه من سواهم وهو اللوح المحفوظ {لا يَمَسُّه إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أما صفة أخرى للكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون عن الكدورات الجسمانية وأوضار الأزار أو للقرآن فالمراد المطهرون من الأحداث مطلقاً فيكون نفياً بمعنى النهي أي لا ينبغي أن يمسه إلا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث والجنابة ونحوهما
336
(9/275)
على طريقة قوله عليه السلام : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه أي لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه فالمراد من القرآن المصحف سماه قرآناً على قرب الجوار والاتساع كما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو وأراد به المصحف وفي الفقه لا يجوز لمحدث بالحدث الأصغر وهو ما يوجب الوضوء مس المصحف إلا بغلافه المنفصل الغير المشرز كالخريطة ونحوها لأن مسه ليس مس القرآن حققة إلا المتصل في الصحيح وهو الجلد المشرز لأنه من المصحف يعني تبع له حتى يدخل في بيعه بلا ذكر وهذا أقرب إلى التعظيم وكره المس بالكم لأنه تابع للحامل فلا يكون حائلاً ولهذا لو حلف لا يجلس على الأرض فجلس وذيله بينه وبين الأرض حنث وإنما منع الأصغر عن مس المصحف دون تلاوته لأنه حل اليد دون الفم ولهذا لم يجب غسله في الوضوء.
والجنابة كانت حالة كليهما ولا يرد العين لأن الجنب حل نظره إلى مصحف بلا قراءة وكذا لا يجوز المحدث مس درهم فيه سورة إلا بصرته ولا لجنب دخول المسجد إلا لضرورة فإن احتاج إلى الدخول تيمم ودخل لأنه طهارة عند عفم الماء ولا قراءة القرآن ولو دون آية لأن ما دونها شيء من القرآن أيضاً إلا على وجه الدعاء أو الثناء كالبسملة والحمدلة وفي الأشباه لو قرأ الفاتحة في صلاته على الجنازة إن قصد الدعاء والثناء لم يكره وإن قصد التلاوة كره وفيه إشارة إلى أن حكم القراءة يتغير بالقصد ويجوز للجنب الذكر والتسبيح والدعاء.
والحائض والنفساء كالجنب في الأحكام المذكورة ويدفع المصحف إلى الصبي إذ في الأمر بالوضوء حرج بهم وفي المنع تضيع حفظ القرآن إذ الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر وفي الأشباه ويمنع الصبي من مس المصحف انتهى والتوفيق ظاهر وفي كشف الأسرار وأما الصبيان فلأصحابنا فيهم وجهان : أحدهما أنهم يمنعون منه كالبالغين والثاني أنهم لا يمنعون لمعنيين أحدهما أن الصبي لو منع ذلك أدى إلى أن لا يتعلم القرآن ولا يحفظه لأن وقت تعلمه وحفظه حال الصغر والثاني أن الصبي وإن كانت له طهارة فليست بكاملة لأن النية لا تصح منه فإذا جاز أن يحمله على غير طهر كامل جاز أن يحمله محدثاً ودر انوار مذكور است كه جنب وحائض را بقول أبي يوسف جائزست كتابت قرآن وقتى كه لوح برزمين بوده بركنار ونزد محمد بهيج وجه روانيست ومحمد بن فضل رحمه الله فرموده كه مراد ازين طهارت توحيدست يعني بايدكه از غير موحدان كسى قرآن نخواند وابن عباس رضي الله عنه نهى ميكرد ازانكه يهود ونصارى را تمكين دهند از قرآءت قرآن.
وقال بعضهم : يجوز للمؤمن تعليم القرآن للكافر رجاء هدايته إلى الإسلام.
ومحققان كفته اند مراد ازمس اعتقادست يعني معتقد نباشد قرآنرا اكر اكيزه دلان كه مؤمنانند ويا تفسير وتأويل آن ندانند الا آنها كه سر ايشان اك باشد از ما سوى الله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
جمال حضرت قرآن نقاب انكه براندازد
كه دار الملك معنى را مجرد بيند از غوغا
ودر بحز الحقائق فرموده كه مكاشف نشود باسرار قرآن مكر كسى كه اكيزه كردد ازلوث توهم غير وبرسد بمقام شهود حق درمر آى خلق واين معنى ميسر نشود جز بفناى
337
مشاهد وشهود در مشهود :
ون تجلى كردد اوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث راكليم
(9/276)
وتحقيقه أن الهاء إشارة إلى الهوية الإلهية فإنه لا يمس سرها إلا المطهرون عن جنابة كل مقام من المقامات الوجودية وهي التعلق به والبعد بواسطته عن الحق المطلق والمطهر بالفتح لا بد له من المطهر بالكسر وهو الله تعالى فالعبد لا يطهر نفسه ولا يزكيها وإنما يطهره الله ويزكيها فإذا طهره الله وزكاه فهم مراد القرآن ولذا قال بعض الكبراء أن القرآن بكر أي بالنسبة إلى علماء الظاهر والرسم فإن الذي فهموه من القرآن إنما هو ظاهره ومزاياه المتعلق به وإنما حل عقدته علماء الباطن والحقية لأن الله تعالى قال : واتقوا الله ويعلمكم الله فهم أهل التقوى الحقيقي ولذا علمهم الله ما لم يعلم أحداً من العالمين وإن كان القرآن لا تنقضي عجائبه وقس عليه الحديث فإن مراد رسول الله عليه السلام على الحقيقة لا يفهمه إلا أهل الحقيقة ومن ثمة اقتصر علماء الحديث وشراحه على بيان الإعراب والمفهوم الظاهري من غير أن يتعرضوا لحقائقه فأين شرح النووي والكرماني وابن حجر ونحوهم من شرح الصدر القنوي ونحوه رضي الله عنهم {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} صفة أخرى للقرآن وهو مصدر نعت به حتى جرى مجرى اسمه يعني أن التنزيل بمعنى المنزل سمى المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة كما يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق على قول من يجيزه {أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ} الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله وهو القرآن الكريم وسماه حديثاً لأن فيه حوادث الأمور كما في كشف الأسرار وهو متعلق بقوله مدهنون وجاز تقديمه على المبتدأ لأن عامله يجوز فيه ذلك والأصل أفأنتم مدهنون بهذا الحديث {أَنتُم} يا أهل مكة {مُّدْهِنُونَ} الإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد والمعنى متهاونون به ومستحقرون كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به وفي تاج المصادر الإدهان مداهنت كردن وغسل كردن.
قال في الإحياء : الفرق بين المداهنة والمداراة بالغرض الباعث على الأغضاء فإن أغضيت السلامة دينك ولما ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إن النبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتعلنهم وهذا معنى المدارة وهو منع شر من يخاف شره {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكر رزقكم بتقدير المضاف ليصح المعنى والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق والمراد نعمة القرآن {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تضعون التكذيب لرازقه موضع الشكر أوتجعلون شكر رزقكم الصوري إنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى الأنواء وكان عليه السلام يقول : لو حبس الله القطر عن أمتي عشر سنين ثم أنزل لأصبحت طائفة منهم يقولون سقينا بنوء كذا وقال عليه السلام : أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة والتكذيب بالقدر والإيمان بالنجوم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
ـ روي ـ أنه عليه السلام صلى صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا
338
قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب وفي الحديث "ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء" فالطعن معروف والنياحة البكاء على الميت مع تعديد محاسنه والأنواء جمع نوء المنازل الثماني والعشرون للقمر والعرب كانت تعتقد أن الأمطار والخير كله يجيىء منها وفي حواشي ابن الشيخ في سورة الفرقان الأنواء النجوم التي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر ويطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته والعرب كانت تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها وقيل إلى الطالع منها انتهى وفي القاموس النوء النجم مال للغروب أو سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق انتهى فظهر أن التأثير من الله تعالى في الأشياء فيجيب على المؤمن أن يعتقده منه تعالى لا من الأفلاك والنجم والدهر ونحوها وفي هدية المهديين لو صاحت الهامة أو طير آخر فقال رجل يموت المريض يكفر ولو خرج إلى السفر ورجع فقال : ارجع لصياح العقعق كفر عند بعضهم وقيل : لا ولو قال عند صياح الطير غله كران مى خواهد شد.
فقد اختلف المشايخ في كفره وجه الكفر ظاهر لأنه ادعى الغيب انتهى والناس يتشاءمون بأصوات بعض الطيور كالهامة والبوم.
كما قال الشيخ سعدي :
بلبلا مده بهار بيار
خبرى بدببوم باز كذار
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/277)
فإن يكن هناك اعتقاد التأثير منها فذلك كفر وإلا فمجرد التشاؤم لا يوجب الكفر خصوصاً إذا كان القول بطريق الاستدلال من الأمارات والأليق بحال المؤمن حمل مثل ذلك على التنبيهات الإلهية فإنفي كل شيء حكمة لا القطع على المقدورات والجزم فيما لا يبلغ علمه كنهه فإن الله يحيي ويميت ويوقظ وينيم بأسباب وبغيرها {فَلَوْلا} س را {إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} لولا للتحضيض لإظهار عجزهم وإذا ظرفية والحلقوم مجرى الطعام وفي كشف الأسرار مجرى النفس والبلعوم مجرى الطعام أي فهلا إذا بلغت النفس أي الروح أو نفس أحدكم وروحه الحلقوم وتداعت إلى الخروج وهو كناية عن غير مذكور وفي الحديث "أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى ينتهي بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت" {وَأَنتُمْ} الواو للحال من فاعل بلغت أي والحال أنتم أيها الحاضرون حول صاحبها {حِينَـاـاِذٍ} آن هنكام {تَنظُرُونَ} إلى ما هو فيه من الغمرات ولكن تعطف عليه ووفور رغبة في إنجائه من المهالك {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي إلى المحتضر علماً وقدرة وتصرفاً قال بعضهم : عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع {مِنكُمْ} حيث لا تعرفون حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها ونحن المتولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت الذين يقبضون روحه {وَلَـاكِن لا تُبْصِرُونَ} لا تدركون كنه ما يجري عليه لجهلكم بشؤوننا فقوله : لا تبصرون من البصيرة لا من البصر
339
والأقرب تفسيره بقوله : لا تدركون كوننا أعلم به منكم كما في حواشي سعدي المفتي قال البقلي رحمه الله : قرب الله بالتفاوت قرب بالعلم وقرب بالإحاطة وقرب بالفعل وقرب بالصفة وقرب بالقهر وقرب باللطف والمسافة والمكان منفي على ذاته وصفاته ولكن يتجلى لقلوب من عين العظمة لإذابتها برؤية القهر ولقلوب من عين الجمال ليعرفها الاصطفائية وذلك القرب لا يبصره إلا أهل القرب وشواهده ظاهرة لأهل المعرفة وفي الخطاب تحذير وترهيب {فَلَوْلا} بمعنى هلا {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
أي غير مربوبين مملوكين أذلاء من دان السلطان رعيته إذا ساسهم واستعبدهم وفي المفردات أو غير مجزيين فإن الدين الجزاء أيضاً وهو ناظر إلى قوله تعالى نحن خلقناكم فلولا تصدقون فإن التحضيض يستدعي عدم المحض عليه حتماً {تَرْجِعُونَهَآ} أي النفس إلى مقرها وتردون روح ميتكم إلى بدنه من الرجع وهو الرد العامل في إذا والمحضض عليه بلولا الأولى والثانية مكررة للتأكيد وهي مع ما في حيزها دليل جواب الشرط والمعنى إن كنتم غير مربوبين كما ينبىء عنه عدم تصديقكم بخلقنا إياكم فهلا ترجعون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في اعتقادكم فإن عدم تصديقهم بخالقيته تعالى لهم عبارة عن تصديقهم بعدم خالقيته تعالى بموجب مذهبهم أي فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنا لأمر إلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به وهو تكرير للتأكيد لا من اعتراض الشرط إذ لا معنى له هنا {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} هو قرب درجاتهم من العرش لا من الله من حيث الجهة حسبما قال به الحشوية وهو شروع في بيان حال المتوفي بعد الممات أثر بيان حاله عند الوفاة أي فأما إن كان المتوفي من المقربين وهم أجل الأزواج الثلاثة {فَرَوْحٌ} أي فله استراحة وقرىء بضم الراء وفسر بالرحمة لأنها سبب لحياة المرحوم فإطلاقه على الرحمة استعارة تصريحية وبالحياة الدائمة التي لا موت فيها قال بعضهم : الروح يعبر به عن معان فالروح روح الأجسام الذي يقبض عند الممات وفيه حياة النفس والروح جبرائيل لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب وعيسى روح الله لأنه كان من نفخ جبرائيل وأصيل إلى الله تعظيماً وكلام الله روح لأنه حياة من الجهل وموت الكفر ورحمة الله روح كقوله تعالى : وأيدهم بروح منه أي برحمة والرح الرزق لأنه حياة الأجساد وفي القاموس الروح بالضم ما فيه الروح ما به حياة الأنفس وبالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح ووكان روحاني طيب والروحاني بالضم ما فيه الروح وفي كتاب الملل والنحل الروحاني بالضم من الروح والروحاني بالفتح من الروح والروح والروح متقاربان فكأن الروح جوهر والروح حالته الخاصة به انتهى {وَرَيْحَانٌ} ورزق أو هو ما يشم وعن أبي العالية لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه ثم يقبض روحه وقال الزجاج الريحان هنا التحية لأهل الجنة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/278)
يكى از بزركان دين كفته است كه روح وريحان هم در دنياست هم در عقبى روح در دنياست وريحان در عقبى روح آنست كه دل بنده مؤمن را بنظر خويش بيار ايدتا حق ازباطل واشناسد انكه بعلم فزاخ كند تا قدرت دران جاى يابد آنكه بينا كند تابنور منت مى بيند شنوا
340
كند تاند ازلى مى شنود اك كند تاهمه صحبت او جويد بعطر وصال خوش كند تادران مهر دوست رويد بنور خويش روشن كند تا از وبار ديكر بصيقل عنايت بز ايد تادر هره نكرد اورا بيند بنده ون بدين صفت بسراى سعادت رود آنجا ريجان كرامت بيند نسيم انس ازباغ قدس دميده زر درخت وجود تخت رضا نهاده بساط انس كسترده شمع عطف افروخته وبر فلك نشسته ودوست ازلى رده بر كرفته بسمع بنده سلام رسانيده وديدار ذو الجلال نموده {جَنَّةَ نَعِيمٍ} أي ذات تنعم فالإضافة لأدنى الملابسة.
وقال الكاشفي : بوستان رنعمت.
قال بعض أهل الحقيقة فله روح الوصال وريحان الجمال وجنة الجلال لروحه روح الإنس ولقلبه ريحان القدس ولنفسه جنة الفردوس أو الروح النظر إلى وجه الجبار والريحان الاستماع لكلامه وجنة النعيم هو أن لا يحجب العبد فيها عن مولاه إذا قصد زيارته وللمقربين ذلك في دار الدنيا وروحهم المشاهدة وريحانهم سرور الخدمة وجنة النعيم السرور بذكره وقال بعضهم : الروح للعابدين والريحان للعارفين وجنة النعيم لعوام المؤمنين أو فله روح الشهود الذاتي وريحان السرور وجنة نعيم اللذات بالوصول إليها والدخول فيها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
يقول الفقير : الروح للنفوس والأجساد لأنها تستريح بعد الموت برفع التكاليف عنها وإن كان أهل الله على نشاط دائم في باب الخدمة لأن التعب يرتفع بالوصول إلى الله لكونه من آثار النفس والطبيعة ولا نفس ولا طبيعة بعد الوصول والريحان للقلوب ولأرواح ولذا حبب إلى النبي عليه السلام الطيب لأنه يوجد فيه ذوق الإنس والمحاضرة وجعل عليه السلام الولد من الريحان لأنه يشم ما يشم المشموم وأنه من تنزلات أبيه كما أن القلوب من تنزلات الأرواح والأرواح من تنزلات الأسرار ووجد عليه السلام نفس الرحمن من قبل اليمن وإنما وجده قلبه وروحه وكان ذلك النفس عصام الدين عم اويس القرنى وكان حينئذ قطب الأبدال وكان عليه السلام يستنشق بحس شمه أيضاً روائح الجنة ونحوها وجنة نعيم للأسرار وهي الجنة المضافة إلى الله تعالى في قله وادخلي جنتي وعند دخولهم هذه الجنة لا يراهم أحد أبداً لعلو طبقتهم ورفعة درجتهم فلا يعرفهم أحد لا في الدنيا ولا في العقبى فهم من قبي المعلوم المجهول {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} عبر عن السابقين بالمقربين لكونه أجل أوصافهم وعبر عن أصحاب اليمين بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف واحد ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الآخرين واستعير اليمين للتيمن والسعادة قاله الراغب {فَسَلَـامٌ لَّكَ} يا صاحب اليمين {مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} من إخوانك يسلمون عليك عند الموت وبعده فيكون السلام إشارة له أنه من أهل الجنة قال في الإرشاد هذا أخبار من جهته تعالى بتسليم بعضهم على بعض كما يفصح عنه اللام لا حكاية لإنشاء سلام بعضهم على بعض وإلا لقيل عليك والالتفات إلى خطاب كل واحد منهم للتشريف قال سهل رحمه الله : أصحاب اليمين هم الموحدون أي العاقبة لهم بالسلامة لأنهم أمناء الله قد أدوا الأمانة يعني أمره ونهيه لم يحدثوا شيئاً من المعاصي والزلات قد أمنوا الخوف والهول الذي ينال غيرهم وحقيقته من المقربين أصحاب
341
الشهود الذاتي وأصحاب اليمين أصحاب الشهود الأسمائي والصفاتي فله السلامة من اسمه السلام على لسان إخوانه الأسمائية نسأل الله لي ولكم السلامة والنجاة والإنس والحضور والشهود في أعلى المقامات والدرجات {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ} وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ذماً لهم بذلك وإشعاراً بسبب ما ابتلوا به من العذاب وهو تكذيب البعث ونحوه والضلال عن الحق والهدى
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/279)
{فَنُزُلٌ} أي فله نزل كائن {مِّنْ حَمِيمٍ} يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل وبالفارسية س مراوراست يشكش درقبر ازاب كرم كرده دردوزخ بادود آتش دوزخ {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال في النار وقيل : إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وقيل ذلك ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها يقال أصلاه النار وصلاه أي جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول {إِنَّ هَـاذَا} أي الذي ذكر في هذه السورة الكريمة {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي حق الخبر اليقين فهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على الاتساع والمجاز وقيل الحق الثابت من اليقين أي الحق الثابت الذي لا يطرأ عليه التبدل والتغير وقال أبو الليث أي يقين حق اليقين انتهى واليقين علم يحصل به ثلج الصدور ويسمى برد اليقين فهو العلم الذي يحصل به اطمئنان النفس ويزول ارتيابها والضطرابها والمراد هنا المعلوم المتيقن به لأن المبتدأ عبارة عن المعلوم فيجب أن يكون الخبر أيضاً كذلك التقدير إن هذا لهو ثابت الخبر المتيقن به أي الثابت منه على أن الإضافة بمعنى من وفى فتح الرحمن هذه عبارة فيها مبالغة لأنها بمعنى واحد كما تقول في أمر توكده هذا يقين اليقين وصوب الصواب بمعنى أنه نهاية الصواب فهي عبارة مبالغة وتأكيد معناه أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته انتهى قال ابن الملك إضافة العلم إلى اليقين إضافة الشيء إلى مرادفه كما فعلوا مثل ذلك في العطف وفي شرح النصوص بالنون العلم اليقيني هو العلم الحاصل بالإدراك الباطني بالفكر الصائب والاستدلال وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا تزيد هذه المرتبة العلمية إلا بمناسبة الأرواح القدسية فإذا يكون العلم عيناً ولا مرتبة للعين إلا اليقين الحاصل من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة إلا بزوال حجاب الاثنينية فإذا يكون العين حقاً ولا مرتبة للحق إلا الإدراك بأحدية جمعك أي بحقيقتك المشتملة على المدركات الظاهرة والباطنة والجامعة بين روحانيتك وجسمانيتك أي يدركها بها إدراكاً يستوعب معرفة كل ما اشتملت عليه حقيقة المدرك من الأمور الظاهرة والباطنة وهو حال الكامل وصفة من صار قلبه مستوى الحق الذي قد وسعه كما أخبره لأنه حال جمع الجمع وزيادة هذه المرتبة أي حق اليقين عدم ورود الحجاب بعده وعنه للأولياء وحقه للأنبياء وأما حقيقة اليقين وهو باطن حق اليقين فهو لنبينا عليه السلام وهذه الدرجات والمراتب لا تحصل إلا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الأكل والذكر والسكوت بالفكر في ملكوت السموات والأرض وبأداء السنن والفرائض وترك ما سوى الحق والغرض وتقليل المنام والعرض وأكل الحلال وصدق المقال والمراقبة بقلبه إلى الله تعالى فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة انتهى
342
وقال ابن عطاء رحمه الله : إن هذا القرآن لحق ثابت في صدور الموقنين وأهل اليقين وهو الحق من عند الحق فلذلك تحقق في قلوب المحققين واليقين ما استقر في قلوب أوليائه وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناًك
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين اننانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بركيرند
آن يقين ذره نيفزا يد
يعني اكر احوال آخرت منكشف شود وجمله را معاينه كنم يك ذره در يقين من زياده نشود كه علم اليقين من امروز وعين اليقين منست در فردا.
وقال عليه السلام : اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً ليس بعده كفر وهو اليقين الحاصل بالعيان وظهور الحقيقة ولذا نقول أهل علم اليقين ذو خطر لا يحصل منه الإرشاد بخلاف أهل عين اليقين فإنه قطب إرشاد وبخلاف أهل حق اليقين فإنه قطب الأقطاب فالتجليات ثلاثة : تجلي علمي وتجلي عيني وتجلي حقي فالأول كعلم الكعبة علماً ضرورياً من غير رؤية والثاني مثل رأستها من بعيد والثالث كدخولها قال قتادة : إن الله ليس تاركاً أحداً من الناس حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن أما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه.
قال المولى الجامي :
سيراب كن زبحر يقين جان نشنه را
زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
{فَسَبِّحْ} يا محمد {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الفاء لترتيب التسبيح أو الأمر به على ما قبلها فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التي من جملتها الإشراك به والتكذيب بآياته الناطقة بالحق وقال أبوعثمان قدس سره : فسبح شكراً لما وقفنا أمتك إليه من التمسك بسنتك وفي فتح الرحمن هذه عبارة تقتضي الأمر بالإعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله والدعاء إليه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/280)
ـ روي ـ أنه لما نزل فسبح باسم ربك العظيم قال عليه السلام : اجعلوها في ركوعكم فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال : اجعلوها في سجودكم وكان عليه السلام يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وسر اختصاص سبحان ربي العظيم بالركوع والأعلى بالسجود أن الأول إشارة إلى مرتبة الحيوان والثاني إشارة إلى مرتبة النبات والجماد فلا بد من الترقي في التنزيه والحق سبحانه فوق التحت كما أنه فوقالفوق ونسبة الجهات إليه على السواء لنزاهته عن التقيد بالجهات فلهذا شرع التسبيح في الهبوط واختلف الأئمة في التسبيح المذكور في الصلاة فقال أحمد : هو واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً ويسجد لتركه سهوراًو الواجب عنده مرة واحدة وأدنى الكمال ثلاث وقال أبو حنيفة والشافعي : هو سنة وقال مالك يكره لزوم ذلك لئلا يعد واجباً فرضاً والاسم هنا بمعنى الجنس أي بأسماء ربك والعظيم صفة ربك.
در خبرست كه عثمان بن عفان رضي الله عنه عيادت كرد عليه السلام بن مسعود را رضي الله عنه در بيمارى مرك كفت يا عبد الله أين ساعت ازه مى نالى كفت اشتكى ذنوبي يعني بر كناهان خود مى نالم عثمان كفت
343
ه آرزوست ترا درين وقت كفت رحمة ربي يعني آرزوى من آنست كه الله تعالى برمن رحمت كند وبر ضعف وعجز من ببخشايد عثمان كفت أفلا ندعو الطبيب يعني طبيب را خوانيم تادرد ترا مداوات كند كفت الطبيب امرضني يعني طبيب مرا بروز بيمارى افكند كفت خواهى تاترا عطايى فرمايم كه ببعضي حاجتهاى خود صرف كنى كفت لا حاجة لي به يعني وقتي مرا باين حاجت نيست وهي دربايست نيست كفت دستورى هست تابدخترانت دهم نا ر ايشانرا حاجت بود كفت نه كه ايشانرا حاجت نيست واكر حاجت بود به ازين من ايشانرا عطايى داده ام كفته ام كه بوقت حاجت وضرورت سورة الواقعة برخوانيدكه من از رسول خدا شنيدم كه عليه السلام : "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" قال سعدي المفتي : هو حديث صحيح وفي حديث آخر من دوام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً قال ابن عطية فيها ذكر القيامة وحظوظ الناس في الآخرة وفهم ذلك غنى لا فقر معه ومن فهمه يشتغل بالاستعداد قال الغزالي رحمه الله في منهاج العابدين قراءة هذه السورة عند الشدة في أمر الرزق والخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم حتى ابن مسعود رضي الله عنه حين عوتب في أمر ولده إذ لم يترك لهم الدنيا قال : لقد خلفت لهم سورة الواقعة فإن قلت : إرادة متاع الدنيا بعمل الآخرة لا تصح قلت مراده أن يرزقهم الله تعالى قناعة أو قوتاً يكون لهم عدة على عبادة الله تعالى وقوة على درس العلم وهذه من جملة إرادة الخير دون الدنيا فلا رياء انتهى كلامه وعن هلال بن يساف عن مسروق قال : من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة وأهل النار ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
تفسير سورة الحديد
مدنية وقيل مكية وآيها تسع وعشرون
جزء : 9 رقم الصفحة : 343
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} التسبيح تنزيه الله تعالى اعتقاداً وقولاً وعملاً عما لا يليق بجنابه سبحانه بدأ الله بالمصدر في الإسراء لأنه الأصل ثم بالماضي في الحديد والحشر والصف لأنه أسبق الزمانين ثم بالمستقبل في الجمعة والتغابن ثم بالأمر في الأعلى استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها ففيه تعليم عباده استمرار وجود التسبيح منهم في جميع الأزمنة والأوقات والحاصل أن كلاً من صيغتي الماضي والمضارع جردت عن الدلالة على مدلولها من الزمان المخصوص فأشعر باستمراره في الأزمنة لعدم ترجيح البعض على البعض فالمكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود مسبحة في كل الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت بل هي مسبحة أبداً في الماضي وتكون مسبحة أبداً في المستقبل وفي الحديث "أفضل الكلام أربع : سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت" وسئل علي رضي الله عنه عن سبحان فقال : كلمة رضى الله لنفسه وسبح متعد بنفسه كما في قوله
344(9/281)
تعالى : وتسبحوه واللام إما مزيدة للتأكيد كما في نصحت له وشكرت له في نصحته وشكرته أو للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه وأحدثه لأجل الله تعالى وخالصاً لوجهه والمراد بما في السموات والأرض جميع المخلوقات من حي وجماد وجاء بما تغليباً للأكثر مع أن أكثر العلماء على أن ما يعم العقلاء وغيرهم والمراد بتسبيح الكل تسبيح عبادة ومقال كما قال بعض الكبار قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله والأشياء كلها إنما خلقت له سبحانه لتسبح بحمده وأما انتفاعنا بها إنما هو بحكم التبعية لا بالقصد الأول قال الحسن البصري رحمه الله : لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقاررتم ثم وقال بعضهم : لا يصدر عن الحي إلا حي ولو وجد من العالم موجود غير حي لكان غير مستند إلى حقيقة إلهية وذلك محال فالجماد ميت في نظر المحجوب حي في نفس الأمر لا ميت لأن حقيقة الموت مفارقة حي مدبر لحي مدبر والمدبر والمدبر حي والمفارقة نسية عدمية لا وجودية فإن الشان إنما هو عزل عن ولاية وانتقال من دار إلى دار وليس من شرط الحي أن يحس لأن الإحساس والحواس أمر معقول زائد على كونه حياً وإنما هما من شرط العلم وقد لا يحس وقد لا يحس وتأمل صاحب الآكلة إذا أكل ما يغيب به إحساسه كيف يقطع عضوه ولا يحس به مع أنه حي ليس يميت وقال بعضهم : كل شيء في العالم يسبح الله بحمده الذي اطلعه الله على أنه حمد به نفسه ويختلف ذلك باختلافهم إلا الإنسان خاصة فإن بعضه يسبح بغير حمده ولا يقبل من الحق بعض ما أثنى به على نفسه فهو يؤمن ببعض وهو قوله ليس كمثله شيء ويكفر ببعض وهو تنزيه الله عما أضافه إلى نفسه ووصف نفسه به من التشبيه بالمحدثات فقوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده أي بالثناء الذي أثنى به الحق على نفسه وأٌّزله على السنة رسله لا بما ولده العقل فإن الله تعالى قال في حق من سبح الحق بعقله سبحان ربك العزة عما يصفون أعلا ما لنا إنه وراء كل ثناء وأهل الله تعالى لا بد لهم في سلوكهم من سماع تسبيح كل شيء بلسان طلق لا لسان حال كما يعتقده بعضهم ثم إن الله تعالى من رحمته يأخذ أسماعهم بعد تحققهم ذلك ويبقى معهم العلم لأنه لو أسمعهم ذلك على الدوام لطاشت عقولهم وفي الحديث "إن كل شيء من الجماد والحيوان يسمع عذاب القبر إلا الثقلين" فثبت أن السموات والأرض بجميع أجوائهما وما فيهما من الملك والشمس والقمر والنجوم والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد لها حياة وفهم وإدراك وتسبح وحمد كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم واعلم أن الله تعالى هو المسبح اسم مفعول في مقام التفصيل والمسبح اسم فاعل في مقام الجمع فالتسبيح تنزيه الحق بحسب مقام الجمع والتفصيل من النقائص الإمكانية ومن الكمالات الإنسانية المختصة من حيث التقيد والتعين
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} بقدرته وسلطانه لا يمانعه ولا ينازعه شيء {الْحَكِيمُ} بلطفه وتدبيره لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وفيه إشعار بعلية الحكم فإن العزة وهي الغلبة على كل شيء تدل على كمال القدرة والحكمة تدل على كال العلم والعقل يحكم بأن الموصوف بهما يكون منزهاً
345
عن كل نقص كالعجز والجهل ونحوهما ولذا كان الأمن كفراً لأن فيه نسبة العجز إلى الله تعالى وكذا اليأس لأن فيه نسبة البخل إلى الله الجواد {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي التصرف الكلي ونفوذ الأمر فيهما وما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات مما نعلم وما لا نعلم.
(9/282)
يقول الفقير فإن قلت كيف أضاف الملك إلى ما هو متناه وكمال ملكه تعالى غير متناه قلت إن للسموات والأرض ظاهراً وهو ما كان حاضراً ومرئياً من عالم الملك وهو متناه لأنه ن قبيل الأجسام والصور وباطناً وهو ما كان غائباً غير محسوس من أسرارهما وحقائقهما وهو غير متناه لأنه من عالم الملكوت والمعاني فإضافة المك إلى الله تعالى إضافة مطلقة يندرج تحتها الملك والملكوت وهما غير متناهيين في الحقيقة ألا ترى أن القرآن لا تنقضي عجائبه فهو بحر لا ساحل له من حيث أسراره ومن حيث أن المتكلم به هو الذي لا نهاية له وإن كان أي القرآن متناهياً في الظاهر والحس فالمراد بالملك هو الملك الحقيقي لأن ملك البشر مجاز كما سيتضح بياناً في هذه السورة {لَه مُلْكُ} استئناف مبين لبعض أحكام الملك إي يحيي الموتى والنطف والبيض ويميت الإحياء ومعنى الإحياء والإماتة جعل الشيء حياً وجعله ميتاً وقد يستعاران للهداية والإضلال في نحو قوله أو من كان ميتاً فأحييناه وهو يحيي القلوب يتجلى اسم المحيي ويميت النفوس بتجلي اسم المميت أو يحيي النفوس بموت القلوب ويميت القلوب بحياة النفوس على طريق المغالبة وقال ابن عطاء رحمه الله : هو مالك الكل وله الملك أجمع يميت من يشاء بالاشتغال بالملك ويحيي من يشاء بالإقبال على الملك {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة على مقتضى الحكمة والإرادة {قَدِيرٌ} تام القدرة فإن الصيغة للمبالغة {هُوَ الاوَّلُ} السابق على سائر الموجودات بالذات والصفات لما أنه مبدئها ومبدعها فالمراد بالسبق والأولية هو الذاتي لا الزماني فإن الزمان من جملة الحوادث أيضاً {وَالاخِرُ} الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظراً إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
أول ما أول بي ابتداء
آخر أو آخر بي انتها
بود ونبود اين ه بلندست وست
باشد واين نيز نباشد كه هست
{وَالظَّـاهِرُ} وجود الكثرة دلائله الواضحة {وَالْبَاطِنُ} حقيقة فلا يحوم العقل حو إدراك كنهه وليس يعرف الله إلا الله وتلك الباطنة سواء في الدنيا والآخرة فاضمحل ما في الكشاف من أن فيه حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وذلك فإن كونه باطناً بكنه حقيقته لا ينافي كونه مرئياً في الآخرة من حيث صفاته {وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفي فإن عليم صيغة مبالغة تدل على أنه تعالى تام العلم بكل شيء جليه وخفيه وفي هذا المقام معان أخر هو الأول الذي تبتدأ منه الأسباب والآخر الذي تنتهي إليه المسببات أي إذا نظرت إلى سلسلة الموجودات المتكونة بعضها من بعض وجدت الله مبدأ تلك السلسلة ومنتهاها تبتدىء منه سلسلة الأسباب وتنتهي
346
إليه سلسلة المسببات ولذا قالوا : لا تعتمد على الريح في استواء السفينة وسيرها وهذا شرك في توحيد الأفعال وجهل بحقائق الأمور ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح لا يتحرك بنفسه بل له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا يتحرك هو في نفسه أيضاً بل هو منزه عن ذلك وعمل يضاهيه والظاهر أي الغالب على كل شيء والباطن أي العالم بباطن كل شيء على أن يكون الظاهر من ظهر عليه إذا علاه وغلب والباطن من بطنه إذا علم باطنه ولم يرتضه الزمخشري لفوات المطابقة بين الظاهر والباطن حينئذ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/283)
ـ وروي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألته خادماً فقال لها عليه السلام : ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك أن تقولي : اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالقالحق والنوى أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين واغنني من الفقر عني بالظاهر الغالب والباطن العالم ببواطن الأشياء يعني أنه الغالب الذي يغلب كل شيء ولا يغلب عليه فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه والعالم ببواطن الأشياء فهو الملجأ والمنجي يلتجيء إليه كل ملتجىء لا ملجأ ول منجى دونه أي غيره وقال الإمام : احتج كثير من العلماء في إثبات أن الإله واحد بقوله : هو الأول قالوا : الأول هو الفرد السابق ولهذا لو قال أحد أول مملوك اشتريته فهو حر ثم اشترى عبدين لم يعتقا لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية وهنا لم تحصل فو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق لأن شرط الأولية كونه سابقاً وههنا لم يحصل فثبت أن الشرط في كونه أولاً أن يكون فرداً فكانت الآية دالة على أٌّ صانع العالم واحد فرد وأيضاً هو الأول خارجاً لأنه موجد الكل والآخر ذهناً كما يدل عليه براهين إثبات الصانع أو بحسب ترتيب سلوك العارفين فإذا نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين السائرين إليه تعالى فهو آخر ما يرتقى إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته والمنزل الأقصى هو معرفة الله فهو آخر بالإضافة إلى السلوك في درجات الارتقاء في باب المعارف وأول بالإضافة إلى الوجود الخارجي فمنه المبتدأ أولاً وإليه المرجع آخراً وقال بعض الكمل : هو الأول باعتبار بدء السير نزولاً والآخر باعتبار ختم السير عروجاً والظاهر بحسب النظر إلى وجود الحق والباطن بحسب النظر إلى وجود الخلق وهذا ما قالوا أن ظاهر الحق باطن الخلق وباطن الخلق ظاهر الحق لأن الهوية برزخ بينهما لا يبغيان وبالنظر إلى الحق هوية إلهية وبالنظر إلى الخلق هوية كونية وهذه مرتبة قاب قوسين وفوقها مرتبة أو أدنى وتكلم يوماً عند الشبلي رحمه الله في الصفات فقال : اسكتوا فإن ثمة متاهات لا يخرقها الأوهام ولا تحويها الإفهام وكيف يمكن الكلام في صفات من تجتمع فيه الأضداد من قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن خاطبنا على قدر إفهامنا وقال الراغب الأول هو الذي
347
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/284)
يترتب عليه غيره ويستعمل على أوجه أولها المتقدم بالزمان كقولك عبد الملك أولاً ثم منصور والثاني المتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذياً به نحو الأمير أولاً ثم الوزير والثالث المتقدم بالوضع والنسبة كقولك للخارج من العراق القادسية أولاً ثم فيد وهي قرية في البادية على طريق الحاج وللخارج من مكة فيد أولاً ثم القادسية والرابع المتقدم بالنظام الصناعي نحو أن يقال الأساس أولاً ثم البناء وإذا قيل في صفة الله هو الأول فمعناه الذي لم يسبقه في الوجود شيء وإلى هذا يرجع قول من قال هو الذي لا يحتاج إلى غيره ومن قال هو المستغني بنفسه والظاهر والباطن في صفة الله لا يقال مزدوجين كالأول والآخر فالظاهر قيل إشارة إلى معرفتنا البديهية فإن الفطرة تفضي في كل ما نظر إليه الإنسان أنه تعالى موجود كما قال تعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ولذلك قال بعض الحكماء مثل طالب معرفته مثل من طوف الآفاق في طلب ما هو معه والباطن إشارة إلى معرفته الحقيقية وهي التي أشار إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله : يا من غاية معرفته القصور عن معرفته وقيل ظاهر بآياته باطن بذاته وقيل ظاهر بأنه محيط بالأشياء مدرك لها باطن في أن يحاط به كما قال لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقد روي عن أمير المؤمنين ما دل على تفسير اللفظين حيث قال تجلى لعباده من غير أن رأوه وأراهم نفسه من غير أن تجلى لهم ومعرفة ذلك تحتاج إلى فهم ثاقب وعقل واقد كما في المفردات وأيضاً هو الأول في عين آخريته والآخر في عين أوليته والظاهر في عين باطنيته والباطن في عين ظاهريته من حيثية واحدة وباعتبار واحد في آن واحد لاقتضاء ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة والحيثيات المتنافرة المتباينة لإحاطته بالكل واستغنائه عن الكل قيل للعارف الرباني أبي سعيد الخراز قدس سره : بم عرفت الله؟ قال : بجمعه بين الأضداد فتلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلا من حيثية واحدة واعتبار واحد في آن واحد وهو بكل شيء من الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية عليم إذ علمه عين ذاته وذاته حيط باوشياء كما قال والله بكل شيء محيط كما في التأويلات النجمية وقال الواسطي رحمه الله : لم يدع للخلق نفساف بعدما أخبر عن نفسه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وقال أيضاً : من كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق ومن كان حظه من اسمه الآخر كان مربوطاً بما يستقبل ومن كان حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السر من أنواره وقال أيضاً : حظوظ الأنبياء عليهم السلام مع تباينها من أربعة أسماء وقيام كل فريق منهم باسم منها فمن جمعها كلها فهو أوسطه
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
م ومن فنى عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام وهي قوله هو الأول الخ وقال أيضاً : من ألبسه الأولية فالتجلي له في الآخرية محال لأنه لا يتجلى إلا لمن فقده أو كان بعيداً عنه فقربه وقال الجنيد قدس سره : نفي القدم عن كل أول بأوليته ونفي البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته بظاهريته وحجب الإفهام عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته وقال السدي هو الأول ببره إذ عرفك بتوحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة عن ما جنيت والظاهر
348
بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذا عصيته يستر عليك وقال ابن عمر رضي الله عنه : هو الأول بالخلق والآخر بالرزق والظاهر بالاحياء والباطن بالإماتة وأيضاً الأول بلا تأويل أحد والآخر بلا تأخير أحد والظاهر بلا إظهار أحد والباطن بلا إبطال أحد والأول القديم والآخر الرحيم والظاهر الحليم والباطن العليم والأول يكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها والآخر يكشف أحوال العقبى حتى لا يشكوا فيها والظاهر على قلوب أوليائه حتى يعرفوه والباطن على قلوب أعدائه حتى ينكروه والأول بالأزلية والآخر بالأبدية والظاهر بالأحدية والباطن بالصمدية والأول بالهيبة والآخر بالرحمة والظاهر بالحجة والباطن بالنعمة واوول بالعطاء والآخر بالجزاء والظاهر بالثناء والباطن بالوفاء والأول بالهداية والآخرة بالكفاية والظاهر بالولاية والباطن بالرعاية.
صاحب كشف الأسرار فرموده كه زبان رحمت ازروى اشارت ميكويد اى فرزند آدم خلق درحق توهارك كروه اند اول كروهى كه در اول حال ترابكار آيند ون در ومادر دوم جمعى كه در آخر زندكانى دست كيرند ون اولاد وأحفاد سوم زمره كه آشكارا باتو باشند ون دوستان وياران.
هارم فرفه كه نهان باتو معاش كنند ون زنان وكنيزان.
رب العالمين ميفرمايد كه اعتماد برينها مكن وكار ساز خود ايشانرا منداركه اول منم كه ترا از عدم بوجود آردم آخر منم كه باز كشت توبمن خواهد بود ظاهر منم كه صورت توبخوبتر وجهي بيار استم باطن منم كه اسرار وحقايق درسينه تووديعت نهادم :
اول وآخر تويى كيست حدوث وقدم
ظاهر وباطن تويى يست وجود وعدم
(9/285)
اول بى انتقال آخر بي ارتحال
ظاهر بي ند وون باطن بى كيف وكم
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ويقال هو الأول خالق الأولين والآخر خالق الآخرين والظاهر خالق الآدميين وهم ظاهرون والباطن خالق الجن والشياطين وهم لا يظهرون وقال الترمذي هو الأول بالتأليف والآخر بالتكليف والظاهر بالتصريف والباطن بالتعريف والأول بالإنهام والآخر بالإتمام والظاهر بالإكرام والباطن بالإلهام وقال بعض المحققين من أهل الأصول هذا مبالغة في نفي التشبيه لأن كل من كان أولاً لا يكون آخراً وكل من كان ظاهراً لا يكون باطناً فأخبر أنه الأول الآخر الظاهر الباطن ليعلم أنه لا يشبه شيئاً من المخلوقات والمصنوعات وقال بعض المكاشفين : هو الأول إذ كان هو ولم تكن صور العالم كما قال عليه السلام : كان الله ولا شيء معه فهو متقدم عليها وهذا التقدم هو المراد بالأولية وهو الآخر إذ كان عين صور العالم عند ظهورها ولها التأخر فهو باعتبار ظهوره بها له الآخرية فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول هذا باعتبار التنزل من الحق إلى الخلق وإما باعتبار الترقي من الخلق إلى الحق فالآخر عين الباطن والظاهر عين الأول وقال الإمام الغزالي رحمه الله : لا تعجبن من هذا في صفات الله فإن المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن فإنه ظاهر إن استدل عليه بأفعاله المرئية المحكمة باطن إن طلب من إدراك الحس فإن الحس إنما يتعلق بظاهر بشريته وليس الإنسان إنساناً ببشريته المرئية منه بل لو تبدلت تلك البشرية بل سائر أجزائه فهو هو والأجزاء متبدلة ولعل
349
أجزاء كل إنسان بعد كبره غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره فإنها تحللت بطول الزمان وتبدلت بأمثالها بطريق الاغتذاء وهويته لم تتبدل فتلك الهوية باطنة عن الحواس ظاهرة للعقل بطريق الاستدلال عليها بآثارها وأفعالها وقال الزروقي الأول الآخر هو الذي لا مفتتح لوجوده لا مختتم له بثبوت قدمه واستحالة عدمه وكل شيء منه بدأ وإليه يعود وإنما عطف بالواو لتباعد ما بين موقعي معناهما ومن عرف أنه الأول غاب عن كل شيء به ومن عرف أنه الآخر رجع بكل شيء إليه.
وخاصية الأول جمع الشمل فإذا واظب عليه المسافر في كل يوم جمعة انجمع شمله.
وخاصية الآخر صفاء الباطن عما سواه تعالى فإذا واظب عليه إنسان في كل يوم مائة مرة خرج من قلبه سوى الحق والظاهر الباطن هو الواضح الربوبية بالدلائل المحتجب عن الكيفية والأوهام فهو الظاهر من جهة التعريف الباطن من جهة التكييف ومجراهما في العطف مجرى الاسمين السابقين ومن عرف أنه الظاهر لم يستدل بشيء عليه ورجع بكل شيء إليه ومن عرف أنه الباطن استدل بكل شيء عليه ورجع به إليه وخاصية الظاهر إظهار نور الولاية على قلب قارئه إذا قرأه عند الإشراق وخاصية الباطن وجود النفس لمن قرأه في اليوم ثلاث مرات في كل ساعة زمانية ومن قال بعد صلاة ركعتين خمساً وأربعين مرة هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم حصل له ما طلبه أيا كان وقال بعض الكبار حقيقة الأول هو الذي افتتح وجوده عن عدم وهذا منتف في حق الحق بلا شك فهو الأول لا بأولية تحكم عليه ولأجل ذلك سمى نفسه الآخر ولو كانت أوليته مثل أولية الموجودات لم يصح أن يكون آخراً إذ الآخر عبارة عن انتهاى الموجودات المقيدة فهو الآخر لا بآخرية تحكم عليه إذ آخريته عبارة عن فناء الموجودات كلها ذاتاً وصفة وفعلاً في ذاته وصفاته وأفعاله تعالى بظهور القيامة وأما غير الحق فله أولية تحكم عليه مثل قوله عليه السلام : أول ما خلق الله العقل أي أول ما افتتح به من العدم إلى الوجود العقل الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلّم له آخرية تحكم عليه مثل قوله عليه السلام : نحن الآخرون الأولون وفي رواية السابقون يعني الآخرون في الظهور من حيث النشأة العنصرية الجسمانية الأولون في العلم الإلهي من حيث الظهور في النشأة الروحانية ومن صلى في أول الوقت من حيث أولية الحق المنزهة عن أن يتقدمها أولية لشيء فهو المصلى الصلاة لأول وقتها فتنسب عبادة هذا المصلى من هناك إلى وقت وجود هذا المصلى فمن بادر لأول هذا الوقت فقد حاز الخير بكلتي يديه وهو مشهد نفيس أشاروا فيه بتلك الأولية إلى معنى اصطلحوا عليه لا إلى ما يتبادر لذهن غيرهم كما في كتاب الجواهر للشعراني رحمه الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يقول الفقير : عمل الشافعي رحمه الله بقوله عليه السلام أول الوقت رضوان الله فصلى الفجر في أول وقته وعمل أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم وفي الأولية الآخرية وبالعكس ولكل وجهة بحسب الفناء والبقاء وقد أشير إلي في بعض الأسحار أن الكعبة وضعت عند الفجرة أي عند انفجار الصبح الصادق على ما بينت وجهه في كتاب الواردات الحقية نسأل الله النور
350
(9/286)
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} بقدرته الكاملة وحكمته البالغة {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الآخرة أو من أيام الدنيا قال ابن عطية هو الأصوب أولها الأحد وآخرها الجمعة.
تاملائكه مشاهده كنند حدوث انهارا يزى س ازيزى وسنت تدريج وتأنى درهركار حاصل آيد.
وكذا وقع الاختلاف في الأربعين التي خمر الله فيها طينة آدم هل هي بأيام الدنيا أو بأيام الآخرة وفيه إشارة إلى مراتب الصفات الست وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر أي هو الذي تجلى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الست إذ تجلى الوجود لا يكون إلا مع لوازمه ولواحقه كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده والتسبيح يستلزم الحياة وما يترتب عليها من العلم بالتسبيح وبالمسبح ومن القدرة على التسبيح والإرادة بتخصيص المسبح ومن السمع إذ كل مسبح لا بد له من استماع تسبيحه ومن البصر إذ لا بد لكل مسبح أن يشاهد المسبح في بعض مراتب الشهود كما في التأويلات النجمية {ثُمَّ اسْتَوَى} أي استولى {عَلَى الْعَرْشِ} المحيط بجمبع الأجسام برحمانيته لأن استوى متى عدى بعلى اقتضى معنى الاستيلاء وإذا عدى بالي اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات أو بالتدبير قال بعض الكبار : هو محمول على التمثيل وقد سبق بيانه مراراً.
قال الكاشفي : س قصد كرد بتدبير عرش واجراء امور متعلقه بد وبر وفق ارادت.
وفي التأويلات النجمية يعني استتم وتمكن تجليه على عرش استعدادات المظاهر السماوية الروحانية والمظاهر الأرضية الجسمانية ما تجلى لعرش استعداد شيء إلا بحسب قابليته وقبوله لا زائد ولا ناقص كما قال العارف :
يكى مومى ازين كم نبايد همى
وكر بيش باشد نشايد همى
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرْضِ} كالكنوز والدفائن والموتى والبذور وكالغيث ينفد في موضع وينبع في الآخر ولولوج الدخول في مضيق وفي المناسبات الدخول في الساتر لجملة الداخل {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كالجواهر من الذهب والفضة والنحاس وغيرها والزروع والحيوانات والماء وكالكنوز والموتى يوم القيامة.
وفي التأويلات النجمية يعني يعلم بعلمه المحيط ما يدخل في أرض البشرية من بذور النباتات النفسانية مثل مخالفات الشرع وموافقات الطبع وزروع الأحوال القلبية من مخالفات الطبع وموافقات الشرع والواردات القلبية والإلهامات الغيبية وزروع الأذواق والوجدانيات من التجليات الرحمانية التنزلات الربانية لترتب الأعمال على النيات كما قال عليه السلام : إنما الأَمال بالنيات وقال أيضاً لكل امرىء ما نوى إذ النية بمرتبة البذر والعمل بمرتبة الزرع والقلب والنفس والروح بمنزلة الأرض المستعدة لكل نوع من البذر وقال بعضهم : يعلم ما يلج في أرض قلب المؤمن من الإخلاص والتوحيد وفي أرض قلب الكافر من الشك والشرك وما يخرج منها بحسب حالهما {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} كالكتب والملائكة والأقضية والصواعق والأمطار والثلوج {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كالملائكة الذين يكتبون الأعمال والدعوات والأعمال والأرواح السعيدة والأبخرة والأدخنة وقال بعضهم : وما ينزل من السماء على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوف وفنون الأحوال العزيزة وما يعرج من أنفاس
351
الأولياء المشتاقين إذا تصاعدت حسراتهم وعلت زفراتهم {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الأرض وهو تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما داروا وفي الحديث أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان :
يار بانست هركجا هستى
جاى ديكر ه خواهى اي اوباش
باتودر زيرك كليم واوست
س بر واى حريف خود راباش
قال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب؟ قال : يا موسى إذا قصدت إلي فقد وصلت إلي في التأويلات النجمية وهو معكم لا بالمعية المفهومة للعوام والخواص أيضاً :
أين معيت مى نكنجد در بيان
نى زمان دارد خبر زونى مكان
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/287)
بل بالمعية المذوقة بالذوق الكشفي الشهودي أي أنا معكم بحسب مراتب شهوداتكم إن كنتم في مشهد الفعلي فأنا معكم بالتجلي الذاتي ما أتقدم ولا أتأخر عنكم وقال بعض الكبار : تلك المعية ليست هي مثل ما يتوصر بالعقل حساً أو ذهناً أو خيالاً أو وهماً تعالى شأنه عن ذلك علواً كبيراً وإنما هي معية تفرد الحق سبحانه بعينها وتحققها وعلمها لا يعلم سرها إلا الله ومن أطلعه عليه من الكمل ويحرم كشفها ترحماً على العقول القاصرة عن درك الأسرار الخفية كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أبهموا ما أبهم الله وبينوا ما بين الله يعني إذا اقتضى المقام الإبهام كما إذا طلب بيان المبهم على ما هو عليه في نفسه وعقل الطالب قاصر عن دركه فلا جرم أنه حرام لما فيه من هلاكه وأما إذا طلب بيان المبهم لا على ما هو عليه في نفسه بل على وجه يدركه عقله يضرب تأويل يستحسنه الشرع ففيه رخصة شرعية اعتبرها المتأخرون دفعاً لانقلاب قلب الطالب وترسيخاً على عقيدته حتى تندلع عن صدره الوساوس والهواجس والمراد على هذا إما معية حفظه أو معية أمره أو غير ذلك مما لا اضطراب فيه لا شرعاً ولا عقلاً ولا خارجاً والأين المذكور في الآية متناول لجميع الأينات الأزلية والأبدية من المعنوية والروحانية والمثالية والحسية والدنيوية والبرزخية والنشرية والحشرية والنيرانية والجنانية والغيبية والشادية مطلقاً كلية كانت أو جزئية وهذه لأينية كالمعية من المبهمات والمتشابهات وما يعلم تأويلها إلا الله وما يتذكر سرها الأولوا الألباب قال بعضهم في هذه الآية بشارة للعاشقين حيث هو معهم أينما كانوا وتوفيق للمتوكلين وسكينة للعارفين وبهجة للمحبين ويقين للمراقبين ورعاية للمقبلين وإشارة إلى سر الوحدة للموحدين قال الحسين رحمه الله : ما قارب الحق الأكوان ولا فارقها كيف يفارقها وهو موجودها وحافظها وكيف يقارب القدم الحدوث به قوام الكل وهو بائن عن الكل انتهى {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه ثواباً وعقاباً وهو عبارة عن إحاطته بأعمالهم فتأخيره عن الخلق لما أن المراد ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم لا لما قيل من أن الخلق دليل على العلم فبالخلق يستدل على العلم والدليل يتقدم على المدلول وفي الآية إيقاظ للغافين وتنشيط للمتيقظين ودلالة لهم على الخشية والحياء من رب العالمين وإشارة لهم إلى أن أعمالهم محفوظة وأنهم مجزيون بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال بعض الكبار : والله بما تعملون بصير لأنه العامل بكم وفيكم ولا بد لكل عامل أن يبصر عمله وما يتعلق به
352
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/288)
{لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} تكرير للتأكيد وتميهد لقوله تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} على البناء للمفعول من رجع رجعاً أي رد رداً وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعاً والمعنى إليه تعالى وحده لا إلى غيره استقلالاً واستراكاً ترد جميع الأمور فاستعدوا للقائه باختيار أرشد الأمور وأحسنها عند الله.
س تكرير كلام جهت آنست كه اول تعلق بابداء دارد وثاني باعاده.
ولذا قرن بالأول يحيي ويميت وبالثاني ما يكون في الآخرة من رد الخلق إليه وجزائه إياهم بالثواب والعقاب وفيه إشارة إلى أنه له ملك علوم السموات الروحانية وهي العلوم الكشفية اللدنية الموهوبة بالاسم الوهاب من غير تحصيلي الأسباب لعباده المخلصين بءفاضته عليهم وله أيضاً ملك العلوم السرمية الكسبية الأرضية بالسعي والاجتهاد للعلماء بإفاضة توفيق الكسب والاجتهاد فأمور العلوم الكشفية والكسبية ترجع إلى عناية الله الأزلية والأبدية {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} الإيلاج الإدجال يعني از زمان شب درروز افزايد.
حتي يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والليل أقصر ما يكون تسع ساعات {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} يعني از زمان روز بشب زياده كند باختلاف الفصول وبحسب مطالع الشمس ومغاربها حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات والليل والنهار أبداً أربع وعشرون ساعة قال في فتح الرحمن : فيه تنبيه على العبرة فيما يجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة وذلك بحر من بخار الكفرة لمن تأمله {وَهُوَ عَلِيمُ} أي مبالغ في العلم {بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بمكنوناتها اللازمة لها من الأسرار والمعتقدات وذلك أغمض ما يكون وهو بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه في نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها وفي الآية إشارة إلى أنه يستهلك ظلمة ليل البشرية والطبيعة في نور نهار الروح بطريق تغليب نور نهار الروح وهو تعالى عالم بكل ما يصدر من أصحاب ليل النفوس من السيئات ومن أرباب نهار الأرواح من الحسنات لا يفوته منهما شيء قال ابن عباس رضي الله عنهما : اسم الله الأعظم في أول سورة الحديد في ست آيات من أولها فإذا علقت على المقاتل في الصف لم ينفذ إليه حديد كما في فتح الرحمن {بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه فَالَّذِينَ} روي أن الآية نزلت في غزوة ذي العشيرة وهي غزوة تبوك وفي عين المعاني يحتمل الزكاة والنفقة في سبيل الله والمعنى جعلكم الله خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة عبر عما بأديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً لهم في الإنفاق فإن من علم أنهاوأنه بمنزلة الوكيل والنائب بحيث يصرفها إلى ما عينه اللهمن المصارف هان عليه الإنفاق أو جعلكم خلفاء من قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينتقل منكم إلى من بعدكم فلا تخلوا به قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ويكفيك قول الناس فيما ملكته
لقد كان هذا مرة لفلان
فلا بد من إنفاق الأموال التي هي للغير وستعود إلى الغير فكما أن الإنفاق من مال الغير يهون على النفس إذا أذن فيه صاحبه فكذا من المال الذي على شرف الزوال :
353
مكن تكيه بر ملك واه وحشم
كه يش ازتو بودست وبعد ازتوهم
خورووش وبخشاى وراحت رسان
نكه مى ه دارى زبهر كسان
بخيل توانكر بدينار وسيم
طلسم است بالاى كنجى مقيم
از ان سالهامى بماند زرش
كه لرزد طلسم نين بر سرش
بسكن اجل ناكها بشكنند
بآسودكى كنج قسمت كنند
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 38 من صفحة 354 حتى صفحة 363
{فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا} حسبما أمروا به.
وقال الكاشفي : ونفقه كردندمال خودرا بزكاة وجهاد وسائر خيرات {لَهُمْ} بسبب ذلك {أَجْرٌ كَبِيرٌ} مزدى بزرك وثوابي عظيم كه جنت ونعيم است.
قال في فتح الرحمن : الإشارة فيه إلى عثمان رضي الله عنه وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر.
(9/289)
وفي التأويلات النجمية يخاطب كل واحد من المشايخ والعلماء ويأمرهم بالإيمان بالله وبرسوله إيماناً كلياً جامعاً شرائط الإيمان الحقيقي الشهودي العياني ويوصيهم بإفاضة علوم الوهب على مستحقيها وتعليم علوم الدراسة المستعد بها إذ العلماء في العلوم الكسبية والمشايخ في المعرفة والحكمة الوهبية خلفاء فيهما فعليهم أن ينفقوا على الطالبين المستحقين الذين ينفق الله ورسوله عليهم كما قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : أنفق أنفق عليك وقال عليه السلام لاتوك فيكوكى عليك وفي الحديث "من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" ويشمل هذا الوعيد حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها لا سيما مع عدم التعدد لنسخها الذي هو أعظم أسباب المنع وكون المالك لا يهدي لراجيه منها والابتلاء بهذا كثير كما في المقاصد الحسنة للإمام السخاوي رحمه الله فالذين آمنوا من روح القلب والإيمان الشهودي وأنفقوا من تلك العلوم الوهبية والكسبية على النفس وصفاتها بالإرشاد إلى موافقات الشرع ومخالفات الطبع وفي التسليك في طريق السير والسلوك بالاتصاف بصفات الروحانية والإنسلاخ عن صفات البشرية النفسانية لهم أجر كبير كما قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لا تؤمنون حال من الضمير في لكم لما فيه من معنى الفعل أي أي شيء ثبت لكم وحصل حال كونكم غير مؤمنين وحقيقته ما سبب عدم إيمانكم بالله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} حال من ضمير لا تؤمنون مفيدة لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه أي وأي عذر في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه بالحجج والآيات فإن الدعوة المجردة لا تفيد فلو لم يجب الداعي دعوة مجردة وترك ما دعاه إليه لم يستحق الملامة والتوبيخ فلام لتؤمنوا بمعنى إلى ولا يبعد حملها على التعليلية أي يدعوكم إلى الإيمان لأجل أن تؤمنوا {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ} حال من مفعول يدعوكم والميثاق عقد يؤكد بيمين وعهد والموثق الاسم منه أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل دعوة الرسول إياكم إليه وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وحمله بعض العلماء على المأخوذ يومالذر أي حين أخرجهم من صلب آدم في صورة الذر وهي النمل الصغير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما فإن هذا موجب لا موجب وراءه وفي عين المعاين أي إن كنتم مصدقين بالميثاق وفي فتح الرحمن أي إن دمتم
354
على ما بدأتم به {هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ} بواسطة جبرائيل عليه السلام "على عبده" المطلق محمد عليه السلام {بَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَكُم} واضحات من الأمر والنهي والحلال والحرام {لِّيُخْرِجَكُم} الله يا قوم محمد أو العبد بسبب تلك الآيات {مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} من ظلمات الكفر والشرك والشك والجهل والمخالفه والحجاب إلى نور الإيمان والتوحيد واليقين والعلم والموافقة والتجلي {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الحجج العقلية.
4
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/290)
وقال الكاشفي : مهر بانست كه قرآن ميفرستد بخشاينده است كه رسول را بدعوت ميفر مايد.
وقال بعضهم : لرؤوف بإفاضة نور الوحي رحيم بإزالة ظلمة النفس البشرية {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي وأي شيء لكم من أن تنفقوا فيما هو قربة إلى الله ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عينه من المصارف فقوله في سبيل الله مستعار لما يكون قربة إليه وقال بعضهم معناه لأجل الله {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله المحذوف أي ومالكم في ترك إنفاقها في سبيل الله والحال أنه لا يبقى لكم منها شيء بل تبقى كلهابعد فناء الخلق وإذا كان كذلك فإنفاقها بحيث تستخلف عوضاً يبقى وهو الثواب كان أولى من الإمساك لأنها إذا تخرج من أيديكم مجاناً بلا عوض وفائدة قال الراغب وصف الله نفسه بأنه الوارث من حيث أن الأشياء كلها صائرة إليه وقال أبو الليث إنما ذكر لفظ الميراث لأن العرب تعرف أن ما ترك الإنسان يكون ميراثاً فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم قال بعض الكبار أولاً : إن القلوب مجبولة على حب المال ما فرضت الزكاة ومن هنا قال بعضهم : إن العارف لا زكاة عليه والحق أن عليه الزكاة كما أن عليه الصلاة والطهارة من الجنابة ونحوهما لأنه يعلم أن نفسه مجموع العالم ففيها من يحب المال فيوفيه حقه من ذلك الوجه بإخراجها فهو زاهد من وجه وراغب من وجه آخر وقد أخرج رسول الله عليه السلام صدقة ماله فالكامل من جمع بين الوجهين إذ الوجوب حقيقة في المال لا على المكلف لأنه إنما كلف بإخراج الزكاة من المال لكون المال لا يخرج بنفسه فللعارفين المحبة في جميع العالم كله وإن تفاضلت وجوهها فيحبون جميع ما في العالم بحب الله تعالى في إيجاد ذلك لا من جهة عين ذلك الموجود فلا بد للعارف أن يكون فيه جزء يطلب مناسبة العالم ولولا ذلك الجزء ما كانت محبة ولا محبوب ولا تصور وجودها وفي كلام عيسى عليه السلام قلب كل إنسان حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء فحث أصحابه على الصدقة لما علم أن الصدقة تقع بيد الرحمن وهو يقول ءأمنتم من في السماء فانظر ما أعجب كلام النبوة وما أدقه وأحلاه وكذلك لما علم السامري أن حب المال ملصق بالقلوب صاغ لهم العجل من حليم بمرأى منهم لعلمه أن قلوبهم تابعة لأموالهم ولذلك لما سارعوا إلى عبادة العجل دعاهم إليها فعلم أن العارف من حيث سره الرباني مستخلف فيما بيده من المال كالوصي على مال المحجور عليه يخرج عنه الزكاة وليس له فيه شيء ولكن لما كان المؤمن لحجابه يخرجها بحكم الملك فرضت عليه الزكاة لنال بركات ثواب من رزىء في محبوبه والعارف لا يخرج شيئاً بحكم الملك والمحبة كالمؤمن
355
إنما يخرج امتثالاً للأمر ولا تؤثر محبت فلمال في محبته الله تعالى لأنه ما أحب المال إلا بتحبيب الله ومن هنا قال سليمان عليه السلام : هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فما طلب إلا من نسبة فاقة فقير إلى غني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ثم اعلم أن المال إنما سمي مالاً لميل النفوس إليه فإن الله تعالى قد أشهد النفوس ما في المال من قضاء الحاجات المجبول عليها الإنسان إذ هو فقير بالذات ولذلك مال إلى المال بالطبع الذي لا ينفك عنه ولو كان الزهد في المال حقيقة لم يكن مالاً ولكان الزهد في الآخرة أتم مقاماً من الزهد في الدنيا وليس الأمر كذلك فإن الله تعالى قد وعد بتضعيف الجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فلو كان القليل منه حجاباً لكان الكثير منه أعظم حجاباً فالدنيا للعارف صفة سليمانية كمالية وما أليق قوله أنك أنت الوهاب أتراه عليه السلام سأل ما يحجبه عن الله تعالى أو سأل ما يبعده من الله تعالى كلا ثم انظر إلى تتميم النعمة عليه بدار التكليف بقوله تعالى له : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب فرفع عنه الحرج في التصرف بالاسم المانع والمعطي واختصه بجنة معجلة في الدنيا وما حجبة ذلك المال عن ربه فانظر إلى درجة العارف كيف جمع بين الجنتين وتحقق بالحقيقتين وأخرج زكاة المال الذي بيده عملاً بقوله تعالى : وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فجعله مالكاً للإنفاق من حقيقة إلهية فيه في مال هو ملك الحقيقة أخرى فيه هو وليها من حيث الحقيقة الإلهية {لا يَسْتَوِى مِنكُم} يا معشر المؤمنين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/291)
ـ روي ـ أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا تفقات كثيرة حتى قال ناس هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل فتح مكة أعظم أجراً {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} أي فتح مكة الذي أزال الهجرة وقال عليه السلام فيه : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وهذا قول الجمهور وقال الشعبي : هو صلح الحديبية فإنه فتح كما سبق في سورة الفتح {وَقَـاتَلَ} العدو تحت لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والاستواء يقتضي شيئين فقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه أي لا يستوي في الفضل من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل والظاهر أن من أنفق فاعل لا يستوي وقيل من مبتدأ ولا يستوي خبره ومنكم حال من ضمير لا يستوي لا من ضمير أنفق لضعف تقديم ما في الصلة على الموصول أو الصفة على الموصوف ولضعف تقديم الخبر على منكم لأن حقه أن يقع بعده ثم في أنفق إشارة إلى إنفاق المال وما يقدر عليه من القوء وفي قاتل إشارة إلى أنفاق النفس فإن الجهاد سعي في بذل الوجود ليحصل بالفناء كمال الشهود ولذا قال تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فهذه الحياة حياة أخروية باقية عندية فكيف تساويها الحياة الدنيوية الفانية الخلقية مع أن رزق الحياة الفانية ينفد وما عند الله باق ولذا قال : أكلها دائم وظلها أي راحتها فالإنسان العاقل بترك الراحة الدنيوية اليسيرية تعالى يصل إلى الراحة الكثيرة الأخروية فشأنه يقتضي الجهاد والقتال {أولئك} المنفقون المقاتلون قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار {أَعْظَمُ دَرَجَةً} وأرفع منزلة عند الله وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة وجمعها درجات وإذا كانت بمعنى المرقاة فجمعها
356
درج {مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا} لأنهم إنما فعلوا من الإنفاق والقتال قبل عزة الإسلام وقوة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال وهؤلاء فعلوا ما فعلوا بعد ظهور الدين ودخول الناس فيه أفواجاً وفلة الحاجة إلى الإنفاق والقتال وقد صرح عليه السلام أيضاً بفضل الأولين بقوله : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم وملا نصيفه قال في القاموس : المد بالضم مكيال وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملىء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومديده بهما وبه سمي مداً وقد جربت ذفلك فوجدته صحيحاً والنصيف والنصف واحد وهو أحد شقي الشيء وللضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم لا إلى المد والمعنى أن أحدكم أيها الصحابة الحاضرون لا يدرك بإنفاق مثل جبل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفيه إشارة إلى أن صحبة السابقين الأولين كاملة بالنسبة إلى صحبة اللاحقين الآخرين لسبقهم وتقدمهم وفي الحديث : سيأتي قوم بعدكم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قالوا : يا رسول الله نحن أفضل أم هم؟ قال : لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك فضل أحدكم ولا نصفه فرقت هذه الآية بينكم وبين الناس لا يستوي منكم الآية ذكره أبو الليث في تفسيره وفيه إشارة إلى أن الصحابة متفاوتون في الدرجة بالنسبة إلى التقدم والتأخر وإحراز الفضائل فكذا الصحابة ومن بعدهم فالصحابة مطلقاً أفضل ممن جاء بعدهم مطلقاف فإنهم السابقون من كل وجه
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَكُلا} أي كل واحد من الفريقين وه مفعول أول لقوله : {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لا الأولين فقط ولكن الدرجات متفاوتة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بظواهره وبواطنه فيجازيكم بحسبه قال في المناسبات لما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات وكان التفضيل مناط العلم قال مرغباً في حسن النيات مرهباً من التقصير فيها والله بما تعملون أي تجددون عمله على ممر الأوقات خبير أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها :
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
(9/292)
وقال الكلبي : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفيها دلالة ظاهرة وحجة باهرة على تفضيل أبي بكر وتقديمه فإنه أول من أسلم وذلك فيما روى أن أبا أمامة قال لعمر بن عيينة : بأي شيء تدعى إنك ربع الإسلام قال : إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى للأوثان شيئاً ثم سمعت عن رجل يخبر عن أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه فقلت : من أنت؟ قال : أنا نبي قلت : وما نبي؟ قال : رسول الله قلت : بأي شيء أرسلك؟ قال : أوحد الله لا أشرك به شيئاً وأكسر الأوثان وأصل الأرحام قلت : من معك على هذا؟ قال : حر وعبد وإذا معه أبو بكر وبلال فأسلمت عند ذلك فرأيتني ربع الإسلام يعني س دانستم خودرا ربع اسلام.
وإنه أي أبا بكر أول من أظهر الإسلام على ما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كان أول من أظهر الإسلام رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد وإنه أول من قاتل على الإسلام وخاصم الكفار حتى ضرب
357
ضرباً أشرف به على الهلاك على ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي عليه السلام وأبو بكر رضي الله عنه وأنه أول من أنفق على رسول الله وفي سبيل الله قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنت عند النبي عليه السلام وعنده أبو بكر وعليه عباءة فدكية قد خللها في صدره بخلال يعني بروى كليمى بودكه استوار كرده ويرا در سينه خود بخلال.
قال في القاموس : خل الكساء شده بخلال وذو الخلال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه تصدق بجميع ماله وخل كساءه بخلال انتهى فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح قال : فإٌّ الله تعالى يقول : اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض إني عن ربي راض ولهذا قدمه الصحابة رضي الله عنهم على أنفسهم واقروا له بالتقدم والسبق وذلك فيما روى عليه السلام بن سلمة عن علي رضي الله عنه قال : سبق رسول الله عليه السلام وثنى أبو بكر وثلث عمر يعني سابقست رسول الله ودر ى وى ابو بكر است وسوم عمر است.
فلا اؤتى برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري واطرح شهادته يعني طرح شهادت وى كنم ودر صفت وى كقته اند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
صاحب قدم مقام تجريد
سر دفتر جمله اهل توحيد
در جمع مقربان سابق
حقا كه واو نبود صادق
وفي الآية إشارة إلى أن من تقدمت مجاهدته على مشاهدته وهو المريد المراد والسالك المجذوب والمحب المحبوب أعلى وأجل وأسبق درجة ومرتبة من درجات المشاهدة ومراتبها ممن تقدمت مشاهدته على مجاهدته وحين يقعد أرباب المشاهدة في مقعد صدق عند مليك مقتدر لمشاهدة وجهه ورؤية جماله في جنة وصاله يفوقه ويسبقه ويتقدمه وهو المراد المريد والمجذوب السالك والمحبوب المحب فإن المجاهدة قدمت على المشاهدة في قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فيصير سلوك الأول واقعاً على وفق العادة الإلهية والسنة الربانية وسلوك الثاني على خارقها والمعتبر في الترتيب الإلهي تقدماً وتأخراً باعتبار الأكمل إنما هو وفق العادة والسنة الإلهية وهما وإن كانا متحدين باعتبار أصل حسن المشاهدة لكنهما متفاوتان باعتبار قدرها ودرجتها فإنهم الصافون وما منا إلا له مقام معلوم كذا في كتال اللائحات البرقيات لحضرة شيخي وسندي روح الله روحه {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} من مبتدأ خبره ذا والذي صفة ذا أو بدله والاقراض حقيقة إعطاء العين على وجه يطلب بدله وقرضاً حسناً مفعول مطلق له بمعنى إقراضاً حسناً وهو الإخلاص في الإنفاق أي الإعطاءوتحرى أكرم المال وأفضل الجهات والمعنى من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه فإنه كمن يقرضه وقال في كشف الأسرار : كل من قدم عملاً صالحاً يستحق به مثوبة فقد أقرض ومنه قولهم : الأيادي قروض وكذلك كل من قدم عملاً سيئاً يستوجب به عقوبة فقد أقرض فلذلك قال تعالى : قرضاً حسناً لأن المعصية قرض سيء قال أمية :
لا تخلطن خبيثات بطيبة
واخلع ثيابك منها وانج عريانا
358
كل امرىء سوف يجزي قرضه حسنا
او سيئة ومدين مثل ما دانا
(9/293)
وقيل : المراد بالقرض الصدقة انتهى وههنا وجه آخر وهو أن القرض في الأصل القطع من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه به ثم سمى به ما يقطعه الرجل من أمواله فيعطيه عيناً بشرط رد بدله فعلى هذا يكون قرضاً حسناً مفعولاً به والمعنى من ذا الذي يقرض الله مالاً حسناً أي حلالاً طيباً فإنه تعالى لا يقبل إلا الحلال الطيب {فَيُضَـاعِفَه لَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل أيقرض الله أحد فيضاعفه له أي فيعطيه أجره أضعافاً من فضله وإنما قلنا باعتبار المعنى لأن الفاء إنما تنصب فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه كما قاله أبو علي الفارسي وههنا السؤال لم يقع عن القرض بل عن فاعله {وَلَه أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم حسن مرضى في نفسه حقيق بأن بتنافس فيه المتنافسون وإن لم يضاعف فكيف وقد ضوعف أضعافاً كثيرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ـ وروي ـ أنه لما نزلت هذه الآية جعل أبو الدحداح يتصدق بنصف كل شيء يملكه في سبيل الله حتى أنه خلع إحدى نعليه ثم جاء إلى أم الدحداح فقال : إني بايعت ربي فقالت : ربح بيعك فقال النبي عليه السلام : كم من نخلة مدلاة عذوقها في الجنة لأبي الدحداح قال بعضهم : سأل الله منهم القرض ولو كانوا على نعت المروءة لخرجوا من وجودهم قبل سؤاله فضلاً عن المال فإن العبد وما يملكه لمولاه فإذا بذلوا الوجود المجازي وجدوا من الله بدله الوجود الحقيقي وله أجر كريم بحسب الاجتهاد في السير إلى الله والتوجه إلى عتبة بابه الكريم :
هركسى از همت والاي خويش
سود برد درخور كالاى خويش
وفي الآية إشارة إلى القرض الشرعي لمن يستقرض كما دل عليه قوله تعالى : عبدي استطعمتك فلم تطعمني فإعطاء القرض للعبد إعطاء الله تعالى والقرض أفضل من الصدقة لأنه ربما سأل سائل وعنده ما يكفيه وأما المستقرض فلا يستقرض إلا من حاجة وقال بعضهم : هذا القرض هو أن يقول سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر وهو أفضل الأذكار وعن الحسن هو التطوعات وفي المرفوع النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها والحاصل أن الكريم يريد القرض بإحسن ما يكون من الرد ويحسن أيضاً في مقابلة الهدية {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} منصوب بإضمار اذكر تفخيماً لذلك اليوم أي اذكر وقت رؤيتهم يوم القيامة على الصراط {يَسْعَى نُورُهُم} حال من مفعول ترى أي نور إيمانهم وطاعتهم والسعي المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} جمع بيمين بمعنى الجارحة والمراد جهة اليمين وبين ظرف للسعي قال أبو الليث : يكون النور بين أيديهم وبأيمانهم وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمال مضمر وقال في فتح الرحمن وخص بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور وخص ذكر جهة اليمين تشريفاً وناب ذلك مناب أن يقول وفي جميع جهاتهم وفي كشف الأسرار لأن طريق الجنة يمنة وتجاههم وطريق أهل النار يسرة ذات شمال وفي الحديث : "بينا أنا على حوضي أنادي هلم إذا أناس أخذتهم ذات الشمال فاختلجوا
359
دوني فأنادي إلا هلم فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً".
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/294)
يقول الفقير : ذكر بين الأيدي إشارة إلى المقربين الذين هم وجه بلا قفا ظاهراً وباطناً فلهم نور مطلق يضيء من جميع الجهات وذكر الإيمان إشارة إلى أصحاب اليمين الذين هم وجه من وجه وقفا من وجه آخر فنورهم نور مقيد بإيمانهم وأما أصحاب الشمال فلا نور لهم أصلاً لأنهم الكفرة الفجرة فلذا طوى ذكر الشمال من البين از ابن مسعود منقولست كه نورهركسى بقدر عمل وى بود نور يكى از صنعا باشد بابعدن وادنى نورى آن بود كه صاحبش قدم خود را بيند بارى هي مؤمن بى نور نباشد.
وقال : منهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً يؤتى نوره على إبهام قدميه فيطفأ مرة ويتقد أخرى فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعى نورهم جنيباً لهم ومتقدماً ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالحساب ومنهم من يمر كالنقضاض الكواكب ومنهم من يمر كشد الفرس والذي أعطى نوره على إبهام قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه ويقف مرة ويمشي أخرى وتصيب جوارحه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص وكما أن لهم يوم القيامة نوراً يسعى بين أيديهم وبإيمانهم فاليوم لهم في قلوبهم نور يهتدون به في جميع الأحوال ويبدو أيضاً في بشرتهم فمن ظهر له ذلك النور انقاد له وخضع وكان من المقربين ومن لم يظهر له ذلك تكبر عليه ولم يستسلم وكان من المنكرين وحين تعلق نظر عليه السلام بن سلام إلى وجه النبي عليه السلام آمن به وقال : ما هو بوجه كذا وكذاب إضرابه بخلاف أبي جهل وأحزابه قال بعض الكبار نور الإيمان كناية عن تمكن اجتهادهم وسعيهم إلى الله بالسير والسلوك وذلك لأن قوة الإنسان في يمينه وبها يعرف اليمين من الشمال {بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ} أي تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم بشراكم أي ما تبشرون به اليوم جنات أو بشراكم دخول جنات فحذف المضاف وأقيم مقامه المضاف إليه في الإعراب {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ذَالِكَ} أي ما ذكر من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا غاية وراءه لكونهم ظفروا بكل ما أرادوا.
قال الكاشفي : رستكارىء بزركست ه از همه اهوال قيامت ايمن شده بدار الجلال ميرسند وديدار ملك متعال مى نينند "مصراع" هزار جان مقدس فداى ديدارت {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
بدل من يوم ترى {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} أي أخلصوا الإيمان بكل ما يجب الإيمان به {انظُرُونَا} أي انتظرونا يقولون ذلك لما أن المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم وهؤلاء مشاة أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بالنور الذي بين أيديهم فانظرونا على هذا الوجه من باب الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى الأبصار لا يتعدى بنفسه وإنما يتعدى بإلى وقرأ حمزة انظرونا من النظرة وهي الإمهال على أن تأتيهم في المضي ليلحقوا بهم أنظار لهم وإمهال {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نستضيء منه ونمش فيه معكم وأصله اتخاذ القبس وهو محركة شعلة نار تقتبس من معظم النار كالمقباس قال الراغب : القبس المتناول
360
من الشعلة والاقتباس طلب ذلك ثم يستعار لطلب العلم والهداية قال بعضهم : النار والنور من أصل واحد وهو الضوء المنتشر يعين على الأبصار وكثيراً ما يتلازمان لكن النار متاع اللمقوين في الدنيا والنور متاع لهم في الدنيا والآخرة ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس وقيل نقتبس من نوركم أي تأخذ من نوركم قبساً سرا ً وشعلة وقيل : إن الله يعطي المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقون أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى : وهو خادعهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأ نورالمنافقين فذلك قوله يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب المنافقون وقال الكلبي : بل يستضىء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين : انظرونا نقتبس من نوركم {قِيلَ} طرداً لهم وتهكماً بهم من جهة المؤمنين أو من جهة الملائكة {ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ} أي إلى الموقف {فَالْتَمِسُوا نُورًا} أي فاطلبوا نوراً فإنه من ثمة يقتبس أو إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل مباديه من الإيمان والأعمال الصالحة :
كالا انيجاكن كه تشويشست در محشر بسى
آب ازيجابركه در عقبى بسى شور وشرست
(9/295)
وروي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : بينا العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيهم ظلمة يقسم الله النور بين عباده فيعطي الله المؤمن نوراً ويبقى المنافق والكافر لا يعطيان نوراً فكمالا يستضيء الأعمى بنور البصير لا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم فيقولون لهم : ارجعوا حيث قسم النور فيرجعون فلا يجدون شيئاً فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور أو ارجعوا خائبين خاسئين وتنحوا عنا فالتمسوا نوراً آخر وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما قالوه تخييباً لهم أو أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكماً بهم وقال بعض أهل الإشارة كأن استعداداتهم الفطرية الفائتة عنهم تقول بلسان الحال : ارجعوا إلى استعداداتكم الفطرية التي أفسدتم بحب الدنيا ولذاتها وشهواتها واقتبسوا منها نوراً إذا ما تصلون إلى مطلوباتكم إلا بحسب استعداداتكم وهي فائتة عنكم باشتغالكم بالأمور الدنيوية وإعراضكم عن الأحكام الأخروية والتوجهات المعنوية {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} أي بين الفريقين وهم المؤمنون والمنافقون يعني ملائكة بحكم الهي بزنند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ولما كان البناء مما يحتاج إلى ضرب باليد ونحوها من الآلات عبر عنه بالضرب ومثله ضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة {بِسُورٍ} أي حائط بين شق الجنة وشق النار فإن سور المدينة حائطها المشتمل عليها والباء زائدة وبالفارسية ديوارى نزديك ون باره شهرى.
قال بعضهم : هو سور بين أهل الجنة والنار يقف عليه أصحاب الأعراف يشرفون على أهل الجنة وأهل النار وهو السور الذي يذبح عليه الموت يراه الفريقان معاً {لَّهُ} أي لذلك السور {بَابُ} يدخل فيه المؤمنون فيكون السور بينهم باعتبار ثاني الحال أعني بعد الدخول لا حين الضرب {بَاطِنُهُ} أي باطن السور أو الباب {فِيهِ الرَّحْمَةُ} لأنه يلي الجنة {وَظَـاهِرُه مِن قِبَلِهِ} أي من جهته وعنده {الْعَذَابُ} لأنه يلي النار وقال بعضهم : هو سور بيت القدس الشرقي باطنه فيه
361
المسجد الأقصى وظاهره من قبله العذاب وهو واد يقال له وادي جهنم وكان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله فضرب بينهم بسور له باب الآية يعني إن هذا الموضع المعروف بوادي جهنم موضع السور قال ابن عطية وهذا القول في السور بعيد يعني بل المراد بالسور الأعراف.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يقول الفقير لا بعد فيه بالنسبة إلى من يعرف الإشارة وقد روي أن عبادة قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقال بعضهم : ما يبكيك يا أبا الوليد فقال : ههنا أخبرنا رسول الله عليه السلام أنه رأى جهنم وفي الحديث : "بيت المقدس أرض المحشر والمنشر" فيجوز أن يكون الموضع المعروف بوادي جهنم موضع السور على أنه سور الأعراف بعينه لكن على كيفية لا يعرفها إلا الله لأنه تبدل الأرض غير الأرض يوم القيامة وقد صح أن مواضع العبادات تلتحق بأرض الجنة فلا بعد في أن يكون المسجد الأقصى من الجنة وخارجة من النار وبينهما السور {يُنَادُونَهُمْ} كأنه قيل : فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب فقيل : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور.
وقال الكاشفي : منافقون ون باز س نكرند ونورى نه بينند باز متوجه مؤمنان شوند ديوارى بينند ميان حود واشان حاجز شده اذان خود واشان حاجز شده اذان در بنكرند مؤمنا نرا مشاهده نمايندكه خرامان متوجه رياض شدند بخوانند ايشانرا بزارى كويند اى مؤمنان {أَلَمْ نَكُن} في الدنيا {مَعَكُمْ} يريدون به موافقتهم لهم في الأمور الظاهرة كالصلاة والصوم أو المناكحة والموارثة ونحوها {قَالُوا بَلَى} كنتم معنا بحسب الظاهر {وَلَـاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محتموها بالنفاق وأهلكتموها إضافة الفتنة إلى النفس إضافة الميل والشهوة وإلى الشيطان في قوله لا يفتننكم الشيطان إضافة الوسوسة وإلى الله تعالى في قوله قال : فإنا قد فتنا قومك إضافة الخلق لأنه خلق الضلال فيه في ليفتنن {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر والتربص الانتظار وقال مقاتل وتربصتم بمحمد عليه السلام الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وهو وصف قبيح لأن انتظار موت وسائل الخير ووسائط الحق من عظيم الجرم والقباحة إذ شأنهم أن يرجى طول حياتهم ليستفاد منهم ويغتنم بمجالستهم {وَارْتَبْتُمْ} وشككتم في أمر الذين أو في النبوة أو في هذا اليوم {وَغرَّتْكُمُ الامَانِىُّ} الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس أمر الإسلام جمع أمنية كأضحية بالفارسية آرزو.
وفي عين المعاني وغرتكم خدع الشيطان وقال أبو الليث أباطيل الدنيا {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/296)
أي الموت {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ} الكريم {الْغَرُورُ} أي غركم الشيطان بأنه عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة : ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار قال الزجاج الغرور على ميزان فعول وهو من أسماء المبالغة يقال فلان أكول كثير الأكل وكذا الشيطان الغرور لأنه يغر ابن آدم كثيراً قال في المفردات : الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين بالدنيا لما قيل الدنيا تغر وتضر وتمر {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ} أيها المنافقون {فِدْيَةٌ} أي فداء تدفعون به العذاب عن أنفسكم يعني يزى كه فداى خود كنيدتا از عذاب برهيد.
والفداء حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه من مال أو نفس أي لا يؤخذ منكم دية ولا نفس أخرى مكان أنفسكم {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظاهراً وباطناً
362
وفيه دلالة على أن الناس ثلاثة أقسام : مؤمن ظاهراً وباطناً وهو المخلص ومؤمن ظاهراً لا باطناً وهو المنافق وكافر ظاهراً وباطناً {مَأْوَاـاكُمُ} مرجعكم {النَّارُ} لا ترجعون إلى غيرها أبداً {هِىَ} أي النار {مَوْلَـاـاكُمْ} تتصرف فيكم تصرف المولا في عبيده لما أسلفتم من المعاصي أو أولى بكم فالمولى مشتق من الأولى بحذف الزوائد وحقيقته مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال هو مئنة الكرم أي مكان لقول القائل إنه كريم فهو مفعل من أولى كما أن مئنة مفعلة من أن التي للتأكيد والتحقيق غير مشتقة من لفظها لأن الحروف لا يشتق منها بل ربما تتضمن الكلمة حروفها دلالة على أن معناها فيها أو ناصركم على طريقة قوله : "تحية بينهم ضرب وجيع" فإن مقصوده نفي التحية فيما بينهم قطعاً لأن الضرب الوجيع ليس بتحية فيلزم أن لا تحية بينهم البتة فكذا إذا قيل لأهل النار هي ناصركم يراد به أن لا ناصر لكم البتة أو متوليكم أي المتصرف فيكم تتولاكم كما توليتم في الدنيا موجباتها {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي المرجع النار.
وفي التأويلات النجمية أي نار القطيعة والهجران مولاكم ومتسلطة عليكم وبئس الرجوع إلى تلك النار وعن الشبلي قدس سره أنه رأى غصناً طرياً قد قطع عن أصله فبكى فقال أصحابه ما يبكيك فقال : هذا الفرع قد قطع عن أصله وهو طري بعد ولا يدري إن مآله إلى الذبول واليبس.
شبلي ديده زنى راكه ميكريد وميكويد يا ويلاه من فراق ولدى شبلي كريست وكفت يا ويلاه من فراق الأخدان زن كفت را نين ميكويى شبلى كفت توكريه ميكنى بر مخلوقى كه هراينه فانى خاهد شد من را كريه نكنم برفراق خالقى كه باقى باشد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
فرزند وريار ونكه بميرند عاقبت
أي دوست دل مبند بجز حى لا يموت
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 39 من صفحة 363 حتى صفحة 373
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} من أنى الأمر يأنى انيا واناء واناء إذا جاء أناه أي وقته وحان حينه وأدرك والخشوع ضراعة وذل أي ألم يجيىء وقت أن تخشع قلوبهم بذكره تعالى وتطمئن به ويسارعوا إلى طاعته بالامتثال لأوامره والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان ولا فتور قال بعضهم : الذكر أن كان غير القرآن يكون المعنى أن ترق وتلين قلوبهم إذا ذكر الله فإن ذكر الله سبب الخشوع القلوب أي سبب فالذكر مضاف إلى مفعوله واللام بمعنى الوقت وإن كان القرآن فهو مضاف إلى الفاعل واللام للعلة لمواعظ الله تعالى التي ذكرها في القرآن ولآياته التي تتلى فيه وبالفارسية آيا وقت نيايد مر آنانرا كه كرويده اند آنكه بترسد ونرم شود دلهاى ايشان براى ياد كردن خداى {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضاً فالعطف لتغاير العنوانين فإنه ذكر وموعظة كأنه حق نازل من السماء وإلا فالعطف كما في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ومعنى الخشوع له الانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه من الخشوع فنزلت وعن ابن مسعود
363
(9/297)
رضي الله عنه ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن وعن الحسن رحمه الله والله لقد استبطأهم وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
وقولي آنست كه مزاح ومضاحك درميان اصحاب بسيار شد آيت نازل.
كشت كما قال الإمام الغزالي رحمه الله في منهاج العابدين ثم الصحابة الذين هم خير قرن كان يبدو منهم شيء من المزاح فنزل قوله تعالى : ألم يأن الخ وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فكبوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا قست القلوب قال السهروردي في العوارف حتى قست القلوب أي تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما استغربته حتى تتغير والواجد كالمستغرب ولهذا قال بعضهم : حالي قبل الصلاة كحال في الصلاة إشارة منه إلى استمرار حال الشهود انتهى فقوله : حتى قست القلوب ظاهره تقبيح للقلوب بالقسوة والتلوين وحقيقته تحسين لها بالشهود والتمكين قال البقلي رحمه الله في الآية هذا في حق قوم من ضعفاء المريدين الذين في نفوسهم بقايا الميل إلى الحظوظ حتى يحتاجوا إلى الخشوع عند ذكر الله وأهل الصفوة واحترقوا في الله بنيران محبةولو كان هذا الخطاب للأكابر لقال : أن تخشع قلوبهملأن الخشوعموضع فناء العارف في المعروف وإرادة الحق بنعت الشوق إليه فناؤهم في بقائه بنعت الوله والهيمان والخشوع للذكر موضع الرقة من القلب فإذا رق القلب خشع بنور ذكر اللهكأنه تعالى دعاهم بلطفه إلى سماع ذكره بنعت الخشوع والخضوع والمتابعة لقوله والاستلذاذ بذكره حتى لا يبقى في قلوبهم لذة فوق لذة ذكره قال أبو الدرداء رضي الله عنه : استعيذ بالله من خشوع النفاق قيل : وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ور آوازه خواهى در اقليم فاش
برون حله كن كو درون حشو باش
اكر بيخ اخلاص در يوم نيست
ازين در كسى ون تو محروم نيست
زر اندود كانرا بآتش برند
ديد آيد آنكه كه مس يا زرند
{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلُ} عطف على تخشع والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله : {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامَدُ} أي الأجل والزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم أو الأعمار والآمال وغلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من التوراة والإنجيل إذا تلوهما وسمعوهما {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فهي كالحجارة أو أشد قسوة والقسوة غلظ القلب وإنما تحصل من اتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا تجتمعان {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} أي خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية لفرط الجفاء والقسوة ففيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.
وكفته اند نتيجه سختى دل غفلت است ونشأه نرمى دل توجه بطاعت :
دلى كزنور معنى نيست روشن
مخو انش دل كه آن سنكست وآهن
364
دلى كز كرد غفلت نك دارد
ازان دل سنك وآهن ننك دارد
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/298)
روي أن عيسى عليه السلام قال : لا تكثروا الكلام بغير ذكل الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيب للترغيب في الخشوع والتحذير عن القسامة.
وقال الكاشفي : بدانيد أي منكران بعث إن الله يحيى الأرض بعد موتها وبهمان منوال زنده خواهد ساخت امواترا {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايَـاتِ} التي من جملتها هذه الآيات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
سببتوبت فضيل بن عياض رحمه الله ميكويندكه سماع اين آيت يعني ألم يأن الخ بود دربدء كار مردانه راه زدند وبر ناشايسته قدم نهادند وقتى سوداى عشق صاحب جمال درسروى افتاد باوى ميعادى نهاد درميانه شب بسرآن وعده باز شد بديوار برمى شدكه كوينده كفت ألم يأن للذين الخ أين آيت تيروار درنشانه دل وى نشست دردى وسوزى ازدرون وى سر برزد كمين عنايت برو كشادند اسير كمند توفيق كشت از آنجا بازكشت وهمى كفت بلى والله قد آن بلى والله قد آن از آنجا بركشت ودر خرابه شد جماعتى كاروانيان آنجا بودند وبا يكديكر ميكفتند فضيل در راهست اكر برويم راه برمازند ورخت ببرد فضيل خودرا ملامت كرد كفت اى بد مرداكه منم اين ه شقاوتست كه روى بمن نهاده درميانه شب بقصد معصيت ازخانه بدر آمده وقومى مسلمانان ازبيم من درين كنج كريخته روى سوى آسمان كرد واز دلى صافى توبت نصوح كرد كفت اللهم انى تبت اليك وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام الهي ازبد سزايىء خود بدردم وازناكسىء خود بفغان دردمرا درمان سازاى درمان ساز همه درد مندان اى اك صفت از عيب اي عالى صفت زآشوب اى بى نياز از خدمت من اى بى نقصان از خيانت من من بجاى رحمتم ببخشاى برمن اسير بند هواى خويشم بكشاى مرا ازين بند الله تعالى دعاء ويرا مستجاب كرد وبوى كرامتها كرد از آنجا بركشت وروى بخانه كعبه نهاد سالها آنجا مجاور شد واز جمله اوليا كشت :
كداى كوى تواز هشت خلد مستغنيست
اسير عشق توازهر دون آزادست
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
وقال ابن المبارك رحمه الله : كنت يوماً في بستان وأنا شاب وكان معي أصحابي فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فأخذت العود في الليل لأضرب به فنطق العود وقال : ألم يأن للذين الخ فضربته بالأرض وكسرته وتركت الأمور الشاغلة عن الله تعالى وعن مالك بن دينار رحمه الله إنه سئل عن سبب توبته فقال : كنت شرطياً وكنت منهمكاً عن شرب الخمر ثم إني اشتريت جارية نفيسة ووقعت مني أحسن موقع فولدت لي بينتاً فشغفت بها فلما دبت علي الأرض ازدادت في قلبي حباً وألفتني وألفتها فكنت إذا وضعت المسكر جاءت إلي وجاذبتني إياه وأراقته علي ثوبي فلما تم لها سنتان ماتت فأكمدني الحزن عليها فلما كانت
365
(9/299)
ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة جمعة بت ثملاً من الخمر ولم أصل صلاة العشاء فرأيت كأن أهل القبور قد خرجوا وحشر الخلائق وأنا معهم فسمعت حساً من ورائي فالتفت فإذا أنا بتنين عظيم أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مسرعاً نحوي فمررت بين يديه هارباً فزعاً مرعوباً فمررت في طريق بشيخ نقي الثياب طيب الرائحة فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت له : أجرني وأغثني فقال : أنا ضعيف وهذا أقوى مني وما أقدر عليه ولكن مر وأسرع فلعل الله يسبب لك ما ينجيك منه فوليت هارباً على وجهي فصعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى أهلها فكدت أهوى فيها من فزع التنين وهو في طلبي فصاح بي صائح ارجع فلست من أهلها فاطمأننت إلى قوله ورجعت ورجع التنين في طلبي فأتيت الشيخ فقلت : يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل فبكى الشيخ وقال : أنا ضعيف ولكن سر إلى هذ الجبل فإن فيه ودائع للمسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك فنظرت إلى جبل مستدير فيه كوى مخرقة وستور معلقة على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلان باليواقيت مكللان بالدر وعلى كل مصراع ستر من الحرير فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه والتنين ورائي حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة ارفعوا الستور وافتحوا لمصاريع وأشرفوا فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه وإذا الستور قد رفعت والمصاريع قد فتحت فأشرف علي أطفال بوجوه كالأقمار وقرب التنين مني فتحيرت في أمري فصاح بعض الأطفال ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه فأشرفوا فوجاً بعد فوج فإذا بابنتي التي ماتت قد أشرفت علي معهم فلما رأتني بكت وقالت : أبي والله ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلث بين يدي فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى فتعلقت بها ومدت يدها اليمنى فولى هارباً ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي وقالت : يا أبت ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فبكيت وقلت : يا بنية وأنتم تعرفون القرآن؟ فقالت : يا أبت نحن أعرف به منكم قلت : فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني قالت : ذلك عملك السوء قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم قلت : فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي قالت : يا أبت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء قلت : يا بنية وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت : نحن أطفال المسلمين قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم فانتبهت فزعاً فلما أصبحت فارقت ما كنت عليه وتبت إلى الله تعالى وهذا سبب توبتي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
سر از جيب غفلت بر آرر كنون
كه فردا نماند بحجلت نكون
كنون بايد اى خفته بيدار بود
و مرك اندر آردز خوابت ه سود
زهجران طفلى كه درخاك رفت
ه نالى كه اك آمد واك رفت
تواك آمدى بزحذر باش واك
كه ننكست نا ك رفتن بخاك
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ} أي المتصدقين والمتصدقات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
366
عطف على الصلة من حيث المعنى أي إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا الله قرضاً حسناً وأقرضن والاقراض الحسن عبارة عن التصدق من الطيب عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة ففيه دلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإخلاص فيندفع توهم التكرار لأن هذا تصدق مقيد وما قبله تصدق مطلق وفي الحديث : "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار" وفيه إشارة إلى زيادة احتاجهن إلى التصدق.
ـ وروي ـ مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال : شهدت مع رسول الله عليه السلام صلاة العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال رضي الله عنه فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى إلى النساء فوعظهن وذكرهن فقال : تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم قالت امرأة : لم يا رسول الله فقال : لا نكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير أي المعاشر وهو الزوج فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين في ثوب بلال حتى اجتمع فيه شيء كثير قسمه على فقراء المسلمين {يُضَـاعَفُ لَهُمْ} على البناء للمفعول مسند إلى ما بعده من الجار والمجرور وقيل إلى مصدر ما في حيز الصلة على حذف مضاف أي ثواب التصدق {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهو الذي يقترن به رضى وإقبال :
بدنيا توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حشرت خورى
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/300)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} كافة وهو مبتدأ {أولئك} مبتدأ ثان {هُمُ} مبتدأ ثالث خبره قوله {الصِّدِّيقُونَا وَالشُّهَدَآءُ} وهو مع خبره خبر للأول أو هم ضمير الفصل وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصول أي أولئك {عِندَ رَبِّهِمْ} بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو المرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله قال في فتح الرحمن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وهم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم الحقه اللهبهم وإن تم به الأربعون لم عرف من صدق نيته وقيل الشهداء على ثلاث درجات الدرجة الأولى الشهيد بين الصفين وهو أكبرهم درجة ثم كل من قضى بقارعة أو بلية وهي الدرجة الثانية مثل الغرق والحرق والهالك في الهدم والمطعون والمبطون والغريب والميتة بالوضع والميت يوم الجمعة وليلة الجمعة والميت على الطهارة والدرجة الثالثة ما نطقت به هذه الآية العامة للمؤمنين وقال بعضهم : في معنى الآية هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخباره تعالى ورسله والقائمون بالشهادةبالوحدانية ولهم بالإيمان أو على الأمم يوم القيامة وقال بعض الكبار يعني الذين آمنوا بالله إيماناً حقيقياً شهودياً عيانياً لا علمياً بيانياً وذلك بطريق الفناء في الله نفساً وقلباً وسراً وروحاً والبقاء به وآمنوا برسله بفناء صفات القلب والبقاء بصفات الروح أولئك هم المتحققون بصفة الصديقية البالغون أقصى مراتب الصدق والشهداء على نفوسهم بالصدق والوفاء بالعهد لترشح رشحات الصدق عنهم لا جرم لهم أجر الصديقين ونور الشهداء مختص بهم لا بمن آمن بالتقليد وصدق وشهد باللسان من غير العيان والعيان يترتب على الفناء وفرقوا بين الصادق
367
والصديق بأن الصادق كالمخلص بالكسر من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق كالمخلص بالفتح من تخلص أيضاً عن شوائب الغيرية والثاني أوسع فلكاً وأكثر إحاطة فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس قال أبو علي الجرجاني قدس سره : قلوب الأبرار متعلق بالكون مقبلين ومدبرين وقلوب الصديقين معلقة بالعرش مقبلين بالله
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/301)
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} مبتدأ وخبر والجملة خبر ثان للموصول والضمير الأول على الوجه الأول للموصول والأخيران للصديقين والشهداء ولا بأس بالفك عند الأمن أي لهم مثل أجرهم ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال وقد حذف أداة التشبيه تنبيهاً على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك حيث قيل هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعاف ليحصل التفاوت وأما على الوجه الثاني فمرجع الكل واحد والمعنى لهم الأجر والنور الموعود أن لهم قال بعض الكبار : لا يكون الأجر إلا مكتسباً فإن أعطاك الحق تعالى ما هو خارج عن الكسب فهو نور وهبات ولا يقال له أجر ولهذا قال تعالى : لهم أجرهم ونورهم فإن أجرهم ما اكتسبوه ونورهم ما وهبه الحق لهم من ذلك حتى لا ينفرد الأجر من غير أن يختلط به الوهب لأن الأجر فيه شائبة الاستحقاق إذ هو معاوضة عن عمل متقدم يضاف إلى العبد فما تم أجر إلا ويخالطه نور وذلك لتكون المنة الإلهية مصاحبة للعبد حيث كان فإن تسمية العبد أجيراً مشعر بأن له نسبة في الطاعات والأعمال الصادرة عنه فتكون الإجارة من تلك النسبة ولذلك طلب العبد العون على خدمة سيده فإن قلت من أي جهة قبل العبد الأجرة والبعد واجب عليه الخدمة لسيده من غير أن يأخذ أجرة وإن جعلناه أجنبياً فمن أي جهة تعين الفرض عليه ابتداء قبل الأجرة والأجير لا يفترض عليه إلا حين يؤجر نفسه قلت : الإنسان مع الحق تعالى على حالتين حالة عبودية وحالة إجارة فمن كونه عبداً فهو مكلف بالفرض كالصلاة والزكاة وجميع الفرائض ولا أجر له على ذلك جملة واحدة ومن كونه أجيراً له الأجرة بحكم الوعد الإلهي ولكن ذلك مخصوص بالأعمال المندوبة لا المفرضة فعلى تلك الأعمال التي ندب الحق إليها فرضت الأجور فإن تقرب العبد بها إلى سيده أعطاه إجارته وإن لم يتقرب لم يطلب بها ولا عوتب عليها ومن هنا كان العبد حكمه حكم الأجنبي في الإجارة للفرض الذي يقابله الجزاء إذ هو العهد الذي بين الله وبين عباده وأما النوافل فلها الأجور المتجة للمحبة الإلهية كما قال لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه والحكمة في ذلك أن المتنفل عبد اختياري كالأجير فإذا اختار الإنسان أن يكون عبد الله لا عبد هواه فقد آثر الله على هواه وهو في الفرائض عبد اضطرار لا عبد اختيار وبين عبودية الاضطرار وعبودية الاختيار ما بين الأجير والعبد المملوك إذ العبد الأصلي ماله على سيده استحقاقاً إلا ما لا بد منه من مأكل وملبس ثم يقوم بواجبات مقام سيده ولا يزال في دار سيده لا يبرح ليلاً ولا نهاراً إلا إذا وجهه في شغل آخر فهو في الدنيا مع الله وفي القيامة مع الله وفي الجنة مع الله لأنها جميعاً ملك لسيده فيتصرف فيها
368
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
تصرف الملاك والأجير ماله سوء ما عين له من الأجرة منها نفقته وكسوته وماله دخول على حرم سيده وموجره ولا له اطلاع على أسراره ولا تصريف في ملكه إلا بقدر ما استؤجر عليه فإذا انقضت مدة إجارته وأخذ أجرته فارق مؤجره واشتغل بأهله وليس له من هذا الوجه حقية ولا نسبة تطلب ممن استأجره إلا أن يمن عليه رب المال بأن يبعث خلفه ويجالسه ويخلع عليه فذلك من باب المنة وقد ارتفعت عنه في الآخرة عبودية الاختيار فإن تفطنت لهذا نبهك على مقام جليل تعرف منه من أي مقام قالت الأنبياء عليهم السلام مع كونهم عبيداً خلصاً لم يملكهم هوى نفوسهم ولا أحد من خلق الله ومع هذا قالوا : إن أجري إلا على الله وذلك لأن قولهم هذا راجع إلى تحققهم بدخولهم تحت حكم الأسماء الإلهية بخلاف غيرهم ومن هناك وقعت الإجارة فهم في حال الاضطرار والاختيار عبيد للذات وهم لها ملك فإن الأسماء الإلهية تطلبهم لنظهر آثارها فيهم وهم مخيرون في الدخول تحت أي اسم إلهي شاءوا وقد علمت الأسماء الإلهية ذلك فعينت لهم الأجور وكل اسم يناديهم ادخلوا تحت أمري وأنا أعطيكم كذا وكذا فلا يزال أحدهم في خدمة ذلك الاسم حتى يناديه السيد من حيث عبودية الذات فيترك كل اسم الهي ويقوم لدعوة سيده فإذا فعل ما أمر به حينئذ رجع إلى أي اسم شاء ولهذا يتنقل الإنسان ويتعبد بما شاء حتى يسمع إقامة الصلاة المفروضة فيؤمر بها ويترك النافلة فهو دائماً مع سيده بحكم عبودية الاضطرار كذا في كتاب الجواهر للإمام الشعراني قدس سره {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه أُولَئكَ} الموصوفون بالصفات القبيحة {أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} بحيث لا يفارقونها أبداً وفيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاً وأراد بالكفر الكفر بالله فهو في مقابلة الإيمان بالله وبتكذي الآيات تكذيب ما بأيدي الرسل من الآيات الإلهية وتكذيب
جزء : 9 رقم الصفحة : 344(9/302)
ها تكذيبهم فهو في مقابلة الإيمان والتصديق بالرسل وفيه وصف لهم بالوصفين القبيحين اللذين هما الكفر والتكذيب وفيه إشارة إلى أن الذين كفروا بذاتنا وكذبوا بصفاتنا الكبرى كفراً صريحاً بينا قلباً وسراً وروحاً أولئك أصحاب جحيم البعد والطرد واللعن المخصوص بالخلود وعبر عن الصفات بالآيات لأن الكتب الإلهية صفات الله تعالى وأيضاً الأنبياء عليهم السلام صفات الله من حيث أنهم مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا وقست عليهم سائر المجالي والمرائي لكنهم متفاوتون في الظهور بالكمال وإذا كان تكذيب الأنبياء وآياتهم مما يوجب الوعيد فكذا تكذيب الأولياء وآياتهم فإن العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين والمراد بآيات الأولياء الكرامات العلمية والكونية فالذين من معاصريهم وغير معاصريهم صدقوهم أولئك أصحاب النعيم والذين كذبوهم أولئك أصحاب الجحيم وهذه الآيات وأصحابها لا تنقطع إلى قيام الساعة فإن باب الولاية مفتوح نسأل الله سبحانه أن يتولانا بعميم أفضاله بحرمة النبي وآله {اعْلَمُوا} بدانيد أي طالبنان دنيا {أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} لفظ الحياة زائد والمضاف مضمر أي أمور الدنيا ويجوز أن تجعل الحياة الدنيا مجازاً عن أمورها بعلاقة
369
اللزوم وفي كشف الأسرار الحياة القربى في الدار الأولى وبالفارسية زندكانىء اين سراى.
وما صلة فإن المقصود الحياة في هذه الدار فكل ما قبل الموت دنيا وكل ما تأخر عنه أخرى {لَعِبٌ} أي عمل باطل تتعبون فيه أنفسكم أتعاب اللاعب بلا فائدة :
باز به ايست طفل فريب اين متاع دهر
بى عقل مرد مانكه بد ومبتلا شوند
{وَلَهْوٌ} تلهون به أنفسكم وتشغلونها عما يهمكم من أعمال الآخرة {وَزِينَةٌ} من الملابس والمراكب والمنازل الحسنة تزينون بها {وَتَفَاخُرُا بَيْنَكُمْ} بالأنساب والاحساب تتفاخرون بها والفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويعبر عن كل نفيس بالفاخر كما في المفردات {وَتَكَاثُرٌ فِى الامْوَالِ وَالاوْلْـادِ} بالعدد والعدد يعني ومباهاتست بكثرت أموال وأولاد لا سيما التطاول بها على أولياء الله.
وبدانيد كه در اندك زمانى آن بازى برطرف شود ولهو وفرح بغم وترح مبدل كردد وريشها از همه فرو ريزد وتفاخر وتكاثر ون شراره آتش نابود شود.
وقيل لعب كلعب الصبيان وزينة كزينة النسوان وتفاخر كتفاخر الأقران وتكاثر كتكاثر الدهقان قال علي لعمار رضي الله عنهما : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء : مطعوم ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح فأكبر طعامها العسل وهو ريقة ذبابة وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان وأكبر الملبوس الديباج وهو نسج دودة وأكبر المشموم المسك وهو دم ظبية وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال وفي الحديث : "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها" :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
جهان اى سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفادار اميد نيست
{كَمَثَلِ غَيْثٍ} محل الكاف النصب على الحالية من الضمير في لعب لأن فيه معنى الوصف أي تثبت لها هذه الأوصاف مشبهة غيثاً أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كمثل أو خبر بعد خبر للحياة الدنيا والغيث مطر محتاج إليه بغيث الناس من الجدب عند قلة المياه فهو مخصوص بالمطر النافع بخلاف المطر فإنه عام {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي الحراث قال الأزهري : العرب تقول للزراع كافر لأنه يكفر أي يستر بذرع بتراب الأرض والكفر في اللغة التغطية ولهذا يسمى الكافر كافراً لأنه يغطي الحق بالباطل والكفر القبر لسرتها الناس وفي الحديث "أهل الكفور أهل القبور" والليل كافر لستره الأشخاص {نَبَاتُهُ} أي النبات الحاصل منه والمراد الكافرون بالله لأنهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا ولا المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدره صانعه فأعجب بها والكافر لا يتخطى فكره عما أحسن به فيستغرق فيه إعجاباً وقد منع في بعض المواضع عن إظهار الزينة صوناً لقلوب الضعفاء كما في الأعراس ونحوها {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف بعد خضرته ونضارته بآفة سماوية أو أرضية يقال : هاج النبت يهيج هيجاً وهيجاناً وهياجاً بالكسار يبس والهائجة أرض يبس بقلها أو اصفر وأهاجه أيبسه وأهيجها وجدها هائجة للنبات {فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا} بعدما رأيته ناضراً مونقاً وإنما لم يقل فيصفر
370
(9/303)
إيذاناً بأن اصفراره مقارن لجفافه وإنما المرتب عليه رؤيته كذلك {ثُمَّ يَكُونُ} س كردد بعد از زردى {حُطَـامًا} درهم شكسته وكوفته وريزه ريزه شده.
قال في القاموس : الحطم الكسر أو خاص باليابس فالآية تحقير لأمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل ومنه المثل وببيان أنها أمور خيالية أي باطلة لا حقيقة لها وعن علي رضي الله عنه : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا قليلة النفع سريعة الزوال لا يركن إليها العقلاء فضلاً عن الاطمئنان بها وتمثيل لحالها في سرعة تقضيها وقلة نفعها بحال النبات المذكور زينة الحياة الدنيا هي زينة الله إلا أنها تختلف بالقصد وهي محبوبة بالطبع فإذا تحرك العبد إليها بطبعه كانت زينة الحياة الدنيا فذم بذلك وإن كانت غير محرمة شرعاً وإذا تحرك إليها بأمر من ربه كانت زينة الله وحمد بها وذلك لأن أمر الله وكل ما يرجع إليه جد كله والحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وفخر الإنسان على مثله إنما هو من جهله بحقيقته فهذا سبب الذم قال بعض الكبار : الشهوات سبع وهي ما ذكر في قوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وقد أنزلها الله إلى خمس في هذه الآية وهي اعلموا إنما الحياة الدنيا الخ ثم أنزل هذه الخمس إلى أمرين في آية أخرى كما قال في سورة محمد إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ثم جعل هذين الأمرين أمراً واحداً في قوله تعالى فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فالهوى جامع لأنواع الشهوات فمن تخلص من الهوى من كل قيد وبرزخ بلغ مسالك الوصول إلى المطلب الأعلى والمقصد الأقصى
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَفِى الاخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لمن أقبل عليها ولم يطلب بها الآخرة وقدم ذكر العذاب لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة كائنة {مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} كثير لا يقادر قدره لمن أعرض عنها وقصد بها الآخرة بل الله تعالى فإن الدنيا والآخرة حرامان على أهل الله :
أي طالب دنيا توبسى مغرورى
وى مائل عقبى تويكى مزدورى
وى آنكه زميل هردو عالم دورى
تو طالب نور بلكه عين نورى
وفيه إشارة إلى فضل النية الحسنة وأنها تحيل المباح ونحوه طاعة قال بعض الكبار : من استقامت سريرته وصلحت نيته أدرك جميع ما تمناه من الأعمال الصالحة وفي الخبر من نام على طهارة وفي عزمه أنه يقوم من الليل فأخذ الله بنفسه إلى الصباح كتب الله له قيام ليله وورد مثل ذلك فيمن خرج لجهاد أو حج وتأمل الطباخ والخباز يقوم من الليل يهيىء الطعام والخبز للآكلين وهم نائمون وهو طالب للربح ناسياً حاجة الناس ولو كان ذا بصيرة لفعل ذلك بقصد مصالح العباد وجعل ربحه ونفعه بحكم البيع والحاصل أن أهل الكسب سواء كانوا من أهل السوق أو من غيرهم ينبغي أن تكون نيتهم السعي في مصالح العباد والتقوى بكسبهم على طاعة الله حتى يكونوا مأجورين في ذلك ومن استرقه الكون بحكم مشروع كالسعي في مصالح العباد والشكر لأحد من المخلوقين من جهة نعمة أسداها إليه فهو لم يبرح عن عبوديته تعالى لأنه في أداء واجب أوجبه الحق عليه وتعبد العبد لمخلوق عن أمر الله لا يقدح في العبودية بخلاف
371
(9/304)
من استرقه الكون لغرض نفسي ليس للحق فيه رائحة أمر فإن ذلك يقدح في عبوديتهويجب عليه الرجوع إلى الحق تعالى قال بعض الكبار : من ذم الدنيا فقد عق أمه لأن جميع الإنكاد والشرور التي ينسبها الناس إلى الدنيا ليس هو فعلها وإنما هو فعل أولادها لأن الشر فعل المكلف لا فمل الدنيا فهي مطية العبد عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر فهي تحب أن لا يشقى أحد من أولادها لأنها كثيرة الحنو عليهم وتخاف أن تأخذهم الضرة الأخرى على غير أهبة مع كونها ما ولدتهم ول تعبت في تربيتهم فمن عقوق أولادها كونهم ينسبون جميع أفعال الخير إلى الآخرة ويقولون أعمال الآخرة والحال أنهم ما عملوا تلك الأعمال إلا في الدنيا فللدنيا أجر المصيبة التي في أولادها ومن أولادها فمن أنصف من ذمها بل هو جاهل بحق أمه ومن كان كذلك فهو بحق الآخرة أجهل وفي الحديث : "إذا قال العبد لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعظانا لربه" وقال بعضهم : طلب الثواب على الأعمال بحسن النيات والرغبة فيه لا يختص بالعامة بل لا يتحاشى عنه الكمل لعلمهم أن الله تعالى أنشأهم على أمور طبيعية وروحانية فهم يطلبون ثواب ما وعد الله به ويرغبون فيه إثباتاً للحكم إلا لهي فإن المكابرة بالربوبية غير جائزة فهم مشاركون للعامة في طلب الرغبة ويتميزون في الباعث على ذلك فكان طلب العارفين ذلك لإعطاء كل ذي حق حقه ليخرجوا عن ظلم أنفسهم إذا وفوها حقها فمن لم يوف نفسه حقها فقد نزل عن درجة الكمال وكان غاشاً لنفسه {وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ} أي كالمتاع الذي يتخذ من نحو الزجاج والخزف مما يسرع فناؤه يميل إليه الطبع أول ما رآه فإذا أخذه وأراد أن ينتفع به ينكسر ويفنى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ـ حكي ـ أنه حمل إلى بعض الملوك قدح فيروزج مرصعاً بالجواهر لم ير له نظير وفرح به الملك فرحاً شديداً فقال لمن عنده من الحكماء : كيف ترى هذا؟ قال : أراه فقراً حاضراً ومصيبة عاجلة قال : وكيف ذلك؟ قال : إن انكسر فهو مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر فاتفق أنه انكسر القدح يوماً فعظمت المصيبة على الملك وقال : صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا ثم كونها متاع الغرور والخدعة إنما هو لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة وأما من اشتغل فيها بطلب الآخرة فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها وهي الجنة فالدنيا غير مقصودة لذاتها بل لأجر الآخرة وفي الحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح.
وفي المثنوي :
مال راكذ بهر حق باشى حمول
نعم مال صالح كفتش رسول
فما شغل العبد عن الآخرة فهو من الدنيا ومالاً فهو من الآخرة قال بعض الكبار : ورد خطاب إلهي يقول فيه : خلقت الخلق لينظروا إلى مفاتيح الدنيا ومحاسن الناس فيؤديهم النظر في مفاتيح الدنيا إلى الزاهد فيها ويؤديهم النظر في محاسن الناس إلى حسن الظن بهم فعكسوا القضية فنظروا إلى محاسن الدنيا فرغبوا فيها ونظروا إلى مساوي الناس فاغتابوهم.
ـ حكي ـ أن الشيخ الفوارس شاهين بن شجاع الكرماني رحمه الله خرج للصيد وهو ملك كرمان فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع فلما
372
رأيته ابتدرت نحوه فزجرها الشاب عنه فلما دنا إليه سلم عليه وقال له : يا شاه ما هذه الغفلة عن الله اشتغلت بدنياك عن آخرتك وبلذتك وهواك عن خدمة مولاك إنما أعطاك الله الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة إلى الاشتغال عنه فبينما الشاب يحدثه إذ خرجت عجوز وبيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيه إلى الشاه فرشبه فقال : ما شربت شيئاً ألذ منه ولا أبرد ولا أعذب ثم غابت العجوز فقال الشاب : هذه الدنيا وكلها الله إلى خدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إلى حين يخطر ببالي أما بلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها : يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه فلما رأى ذلك تاب واجتهد إلى أن كان من أهل الله تعالى فإن قلت إن الله تعالى خلق للإنسان جميع ما في الأرض ولا ينبغي للعروس أن تجمع ما نثر عليها بطريق الإعزاز والإكرام فمن عرف شأنه الجليل ما نظر إلى الأمر الحقير القليل بل كان من أهل المروءة والهمة العالية في الإعراض عما سوى الله تعالى والإقبال والتوجه إلى الله تعالى {سَابِقُوا} أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار وهو الميدان {إِلَى مَغْفِرَةٍ} عظيمة كائنة {مِّن رَّبِّكُمْ} أي إلى أسبابها وموجباتها كالاستغفار وسائر الأعمال الصالحة أي بحسب وعد الله وإلا فالعمل نفسه غير موجب وفي دعائه عليه السلام أسألك عزائم مغفرتك أي أن توفقني للأعمال التي تغفر لصاحبها لا محالة ويدخل فيها المسابقة إلى التكبيرة الأولى مع الإمام ونحوها.
سلمى قدس سره كفت كه وسيله معفرت حضرت رسالت است عليه السلام س حق سبحانه وتعالى ميفرمايدكه شتاب نماييد بمتابعت اوكه سبب آمر زش است :
(9/305)
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يمبركسى را شفاعت كرست
كه بر جاده شرع يغمبرست
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 40 من صفحة 373 حتى صفحة 383
قال الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : إن الله تعالى أرسلنا من عالم الأمر إلى عالم الأرواح ثم منه إلى عالم الأجسام وخلقنا في أحسن تقويم وأعطانا اختياراً جزئياً وقال : إن كنتم صرفتم ذلك الاختيار إلى جانب العبادات والطاعات وإلى طريق الوصول إلى الحسنات أخدلكم الجنة وأيسر لكم الوصال ورؤية الجمال وأمرنا بالإسراع إلى تلك الطريق على وجه المبالغة فإن صيغة المفاعلة للمبالغة وإنما أمر بمبالغة الإسراع لقلة عمر الدنيا وقد ذهب الأنبياء والأولياء ونحن نذهب أيضاً فينبغي أن نسرع في طريق الحق لئلا يفوت الوصول إلى الدرجات العالية بالإهمال والتكاسل وطريق الإسراع في مرتبة الطبيعة الامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي وفي مرتبة النفس تزكيتها عن الأخلاق الردئية كالكبر والرياء والعجب الغضب والحسد وحب المال وحب الجاه وتحليتها بالأخلاق المحمودة كالتواضع والإخلاص ورؤية التوفيق من الله والحل والصبر والرضى والتسليم والعشق والإرادة ونحوها وفي مرتبة الروح بتحصيل معرفة الله تعالى وفي مرتبة السر بنفي ما سوى الله تعالى وقال البقلى قدس سره دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق وقد دخل الكل في مظنة الخطاب لأن الكل قد وقعوا في بحار الذنوب حين لم يعرفوه حق معرفته ولم يعبدوه حق عبادته فدعاهم جميعاً إلى التطهير في بحر رحمته حتى صاروا متطهرين من غرورهم بأنهم
373
عرفوه فإذا وصلوا إلى الله عرفوا أنهم لم يعرفوه فيأخذ الله بأيديهم بعد ذلك ويكرمهم بأنواع ألطافه ثم أن المسابقة إنما تكون بعد القصد والطلب.
وفي المثنوي :
كر كران وكر شتابنده بود
آنكه كوينده است يا بنده بود
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} أي كعرض سبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض على أن يكون اللام في السماء والأرض للاستغراق وإذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها فإن طول كل شيء أكثر من عرضه قال إسماعيل السدي رحمه الله : لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلاً فبكل خردلةجنة عرضها كعرض السموات والأرض ويقال : هذا التشبيه تمثيل للعباد بما يعقلون ويقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وتقديم المغرفة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية {أُعِدَّتْ} هيئت {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فيه دليل على أن الجنة مخلوقة بالفعل كما هو مذهب أهل السنة وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها إذ لم يذكر مع الإيمان شيء آخر ولكن الدرجات بأعمال وفيه شيء فإن الإيمان بالرسل إنما يكمل بالإيمان بما في أيديهم من الكتب الإلهية والعمل بما فيها {ذَالِكَ} الذي وعد من المغفرة والجنة {فَضْلِ اللَّهِ} وعطاؤه وهو ابتداء لطف بلا علة {يُؤْتِيهِ} تفضلاً وإحساناً {مَن يَشَآءُ} إيتاءه إياه من غير إيجاب لا كما زعمه أهل الاعتزال {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ولذلك يؤتى من يشاء مثل ذلك الفضل الذي لا غاية وراءه والمراد منه التنبيه على عطاء أن العظيم عظيم والإشارة إلى أن أحداً لا يدخل الجنة إلا بفضل الله نبياً أو ولياً قال عليه السلام : خرج منه عندي خليلي جبرائيل عليه السلام آنفاً فقال : يا محمد والذي بعثك بالحق إن عبداً من عباد الله عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل يحيط به بحر فأخر الله له عيناً عذبة في أسفل الجبل وشجرة رمان كل يوم تخرج رمانة فإذا أمسى نزل وأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام للصلاة فسأل ربه أن يقبض روحه ساجداً وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء على جسده سبيلاً على يبعثه الله وهو ساجد ففعل ونحن ونمر عليه إذا هبطنا وءذا عرجنا وهو على حاله في السجود قال جبريل : فنحن نجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول له الرب : ادخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول العبد : بل بعملي فيقول الله قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت عليه النعم الباقية بلا عبادة في مقابلتها فيقول الله ادخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي ويقول برحمتك ادخلني الجنة فيقول الله ردوه إلي فيوقف بين يديه فيقول عبدي : من خلقك ولم تك شيئاً فيقول من قواك على عبادة خمسمائة سنة فيقول : أنت يا رب فيقول : من أنزلك في جبل وسط البحر وأخرج الماء العذب من بين المالح وأخرج لك رمانة كل ليلة وإنما تخرج في السنة مرة واحدة وسألتني أن أقبضك ساجداً من فعل بك ذلك كله؟ فيقول : أنت يا رب قال : فذلك كله برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ورويى بخدمت نهى بر زمين
خدار ثنا كوى وخودرا مبين
اميدى كه دارم بفضل خداست
كه برسعى خود تكيه كردن خطاست
374
(9/306)
همين اعتمادم بيارىء حق
اميدن بآمر زكارىء حق
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرْضِ} ما نافية والمصيبة أصلها في الرمية يقال أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم اختص بالنائبة أي ما حدث من حادثة كائنة في الأرض كجدب وعاهة في الزروع والثمار {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} أي إلا مكتوبة مثتبة في علم الله أو في اللوح المحفوظ {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} نخلق الأنفس أو المصائب أو الأرض فإن البرء في اللغة هو الخلق والبارىء الخالق وذكر ربيع بن صالح الأسلمي قال : دخلت على سعيد بن جبير حين جيىء به إلى الحجاج حين أراد قتله فبكى رجل من قومه فقال سعيد : ما يبكيك؟ قال : ما أصابك قال : فلا تبك قد كان في علم الله أن يكون هذا ألم تسمع قول الله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها.
قال في الروضة : رؤى الحجاج في المنام بعد وفاته فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : قتلني بكل قتيل قتلة وبسعيد بن جبير سبعين قتلة وفي الآية دليل على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود وكذا جميع أعمال الخلق بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ليستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه تعالى عالماً بجميع الأشياء قبل وجودها وليعرفوا حلمه فإنه تعالى مع علمه إنهم يقومون على المعاصي خلقهم ورزقهم وأملهم وليحذروا من أمثال تلك المعاصي وليشكروا الله على توفيقه ءياهم للطاعات وعصمته إياهم من المعاصي وفيها دليل أيضاً أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها لأن إثباتها في الكتاب محال ولو سأل سائل أن الله تعالى هل يعلم عدد أنفاس أهل الجنة؟ يقال له : إن الله يعلم أنه لا عدد لأنفاسهم {إِنَّ ذَالِكَ} أي إثباتها في كتاب مع كثرتها {عَلَى اللَّهِ} متعلق بقوله : {يَسِيرٌ} لاستغنائه فيه عن العدة والمدة وإنك ان عسيراً على العباد قال الجنيد قدس سره : من عرف الله بالربوبية وافتقر إليه في إقامة العبودية وشهد بسره ما كشف الله له من آثار القدرة بقوله : ما أصاب الخ فسمع هذا من ربه وشهد بقلبه وقع في الروح والراحة وانشرح صدره وهان عليه ما يصيبه فإن قلت كان الله قادراً على أن يوصل العباد إليه بلا تعب ولا مصيبة فكيف أوقعهم في المحن والبلايا قلت : أراد أن يعرفهم بامتحان القهر حقائق الربوبية وغرائب الطرق إليه حتى يصلوا إليه من طريق الجلال والجمال ففي الآية توطين للنفوس على الرضى بالقضاء والصبر على البلاء وحمل لها على شهود المبتلى في عين البلايا فإن به يسهل التحمل وإلا فمن كان غافلاً عن مبدأ اللطف والقهر فهو غافل في اللطف والقهر ولذا تعظم عليه المصيبة بخلاف حال أهل الحضور فإنهم يلتذون بالبلاء التذاذهم بالعافية بل ولذة البلاء فوق لذة العافية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ازدست تومشت بردهانم خوردن
خوشتركه بدست خويش نانم خوردن
ومن أمثال العرب ضرب الحبيب زبيب أي لذيذ {لِّكَيْلا تَأْسَوْا} يقال أسى على مصيبته يأسى أسى من باب علم أي حزن أي أخبرناكم بإثباتها وكتابتها في كتاب كيلا يحصل لكم الحزن والألم {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من نعم الدنيا كالمال والخصب والصحة والعافية
375
{وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ} أي أعطاكم الله منها فإن من علم أن كلاً من المصيبة والنعمة مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت إذ يجوز أن يقدر ذهابه عن قريب وقيل لبرز جمهر أيها الحكيم مالك لا تحزن على ما فات ولا تفرح بما هو آت قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة والآتي لا يستدام بالحبرة أي بالحبور والسرور لا التأسف يرد قفائتاً ولا الفرح يقرب معدوماً قال ابن مسعود رضي الله عنه لأن أمس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء لم يكن ليته كان.
قال الكاشفي : اخبارست بمعنى نهى يعني ازادبار دنيا ملول واز اقبال او مسرور مشويد كه نه آنرا قراريست ونه اين را اعتبارى كردست :
دهد كراى شادى نكند
ورفوت شود نير نيرزد بغمى
واز مرتضى رضي الله عنه منقولست كه هركه بدين آيت كار كند هر آيينه فرا كيردزهد اورا بهردو طرف او يعني زاهدي تمام باشد وه زيبا كفته اند :
ندست سنديده بكن ياد ازان
تاديني ودينت شود آباد ازان
(9/307)
والمراد بالآية نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاختيال ولذا عقب بقوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فإن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها لا محالة والمختال المتكبر المعجب وهو من الخيلاء وهو التكبر من تخيل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه ومنها يتأول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرساً إلا وجد في نفسه نخوة وبالفارسية وخداى تعالى دوست ندارد هر متكبري راكه بر نعمت دنيا برديكرى تطاول كند فخور نازنده بدنيا وفخر كننده بدان برا كفاه واقران.
قال في بحر العلوم : المختال ذو الخيلاء والكبر وهو من العام المخصوص بدليل قول النبي عليه السلام إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله أما الخيلاء التي يحبها الله فالاختيال عند الصدقة واختيال الرجل بنفسه عند اللقاء وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالاختيال في البغي والفجور أي لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور مبالغ في الفخر به على الناس انتهى وصف بعض البلغاء متكبراً فقال : كأن كسرى حامل غاشيته وقارون وكيل نفقته وبلقيس إحدى دايانه وكأن يوسف لم ينظر إلا بمقلته ولقمان لم ينطق إلا بحكمته وكأن الخصراء له عرشت والغبراء باسمه فرشت وفي تخصيص التذييل بالنهي عن الفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى وفي الآية إشارة إلا أنه يلزم أن يثبت الإنسان على حال في السراء والضراء فإن كان لا بد له من فرح فليفرح شكراً على عطائه لا بطراً وإن كان لا بد من حزن فليحزن صبراف على قضائه لا ضجراً قال قتيبة بن سعيد : دخلت على بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوء من الإبل الميتة بحيث لا تحصى ورأيت شخصاً على تل يغزل صوفاً فسألته فقال : كانت باسمي فارتجعها من أعطاها ثم أنشأ يقول :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
لاو الذي أنا عبد من خلائقه
والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن
376
ما سرني أن أبلى في مباركها
وما جرى من قضاء الله لم يكن
قال البقلي قدس سره : طالب الله بهذه الآية أهل معرفته بالاستقامة والاتصاف بصفاته أي كونوا في المعرفة بأن لا يؤثر فيكم الفقدان والوجدان والقهر واللطف والاتصال والانفصال والفراق والوصال لأن من شرط الاتصاف أن لا يجري عليه أحكام التلوين والاضطراب في اليقين والاعوجاج في التمكين قال القاسم رحمه الله : ولا تأسوا على ما فاتكم من أوقاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم من توبتكم وطاعتكم فإنك لا تدري ما قدر الله فيك وقضى وقال الواسطي رحمه الله : الفرح بالكرامات من الاغترارات والتلذذ بالأفضال نوع من الإغفال والخمود تحت جريان الأمور زين لكل مأمور وقال شيخي وسندي رحمه الله في كتاب اللائحات والبرقيات لا تحزنوا بما فاتكم مما سوى الله ولا تفرحوا بما آتاكم مما عدا الله حتى لا تظلموا الحزن والفرح بوضعهما في غير موضعهما واحزنوا بما فاتكم من الله وافرحوا بما آتاكم من الله حتى تعدلوا فيهما بوضعهما في موضعهما لأن الله تعالى حق وما خلاه باطل فكما أن الحزن والفرح بالحق حق وعدل لهما والفاعل للحق محق وعادل فكذلك أن الحزن والفرح بالباطل باطل وظلم لهما والفاعل بالباطل مبطل وظالم ولا يفرح ولا يحزن بالله إلا المهاجرون إلى الله ولا يحزن ولا يفرح بما سوى الله إلا المعرضون عن الله فعليك بسبيل العادلين في جميع أحوالك وإياك وطريق الظالمين ومما سوى الله المال والملك قال الحسن رضي الله عنه لصاحب المال في ماله مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما يسلب عن كله ويسأل عن كله :
همه تخت وملكى ذيرد زوال
بجز ملك فرمان ده لا يزال
هنر بايد وفضل ودين وكمال
كه كاه آيدوكه رود جاه ومال
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/308)
ـ حكي ـ أن طيراً في عهد سليمان عليه السلام كان له سورة حسنة وصوت حسن اشتراه رجل بألف درهم وجاء طير آخر فصاح صيحة فوق قفصه وطار فسكت الطير وشكا الرجل إلى سليمان فقال : أحضروه فلما أحضروه وقال سليمان لصاحبك عليك حق فقد اشتراك بثمن غال فلم سكت؟ قال : يا نبي الله قل له حتى يرفع قلبه عني إني لا أصيح أبداً ما دمت في القفص قال : لم؟ قال : لأن صياحي كان من الجزع إلى الوطن والأولاد وقد قال لي ذلك الطير إنما حبسك لأجل صوتك فاسكت حتى تنجو فقال سليمان للرجل ما قال الطير فقال الرجل : أرسله يا نبي الله فإني كنت أحبه لصوته فأعطاه سليمان ألف درهم ثم أرسل الطير فطار وصاح سبحان من صورني وفي الهواء طيرني ثم في القفص صيرني ثم قال سليمان : إن الطير ما دام في الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه وبسببه خلص الرجل من التعلق به ففيه إشارة إلى الفناء عن أوصاف النفس فإذا فنى العبد عنها تخلص من الاضطراب وجاز إلى عالم السكون ومعرفة سر القدر وفي الحديث : "الإيمان بالقدر يذهب إليهم والحزن" قال الشيخ أبو عليه السلام محمد بن علي الترمذي الحكيم قدس سره ولقد مرضت في سالف أيامي مرضة فلما شفاني الله منها مثلث نفسي بين ما دبر الله لي من هذه العلة في مقدار هذه المدة وبين عبادة الثقلين في مقدار أيام علتي فقلت : لو خيرت بين
377
هذه العلة وبين أن تكون لي عبادة الثقلين في مقدار مدتها إلى أيهما تميل اختياراً فصح عزمي ودام يقيني ووقعت بصيرتي على أن مختار الله تعالى لي أكثر شرفاً وأعظم خطراً وأنفع عاقبة وهي العلة التي دبرها لي ولا شوب فيه إذ كان فعله فشتان بين فعله بك لتنجو به وبين فعلك لتنجو به فلما رأيت هذا دق في عيني عبادة الثقلين مقدار تلك المدة في جنب ما آتاني الله فصارت العلة عندي نعمة وصارت النعمة منة وصارت المنة أملاً وصار الأمل عطفاً فقلت في نفسي بهذا كانوا يستمرون في البلاء على طيب النفوس مع الحق وبهذا الذي انكشف كانوا يفرحون بالبلاء انتهى.
قال الصائب :
ترك هستى كن كه آسودست از تاراج سيل†
هركه يش از سيل رخت خود برون از خانه ريخت†
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالباً ويأمر غيره به وهذا غاية الذم إنه يبخل الإنسان ويأمر غيره بالبخل والمعنى يمسكون أموالهم ولا يخرجون منها حق الله فإن البخل إمساك المقتنيات هما يحق إخراجها فيه ويقابله الجود يقال بخل فهو باخل وأما البخيل فالذي يكثر منه البخل كالرحيم من الراحم والبخل ضربان بخل بقنيات نفسه وبخل بقنيات غيره وهو أكثرهما وعلى ذلك قوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل كما في المفردات وبالفارسية مختال وفخور آنانند كه باوجود دنيا دارى وجمع أسباب آن بخل كنند ومال خود در راه خدا صرف ننمايند وبا وجود بخل خود امر نمايند مرد ما نرا به بخيلي كردن.
وعن النبي عليه السلام أنه قال لبني سلمة : من سيدكم؟ قالوا : الجد بن قيس وإنا لنبخله فقال : وأي داء أدوأ من البخل بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح وفي الحديث أربعة لا يجدون ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام البخيل والمنان ومدمن الخمر والعاق للوالدين {وَمَن} وهركه {يَتَوَلَّ} يعرض عن الإنفاق {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ} عنه وعن إنفاقه {الْحَمِيدُ} المحمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره ولا ينفعه التقرب إليه بشيء من نعمه وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق وإشارة إلى أن من أعرض عن الإقبال على الله والإدبار عن الإنفاق فإن الله غني بحسب ذاته عن إقباله وبحسب صفاته عن إدباره بل هو حميد في ذاته وصفاته لا ينفعه إقباله ولا يضره إدباره إذ الضار النافع هو لا غيره وأيضاً إلى النفوس البشرية الأمارة بالسوء بالتقاعد عن الإقدام على الطاعة والعبارة ودعوة القلوب والأرواح إلى الارتكاب للمعاصي والاجتناب عن الطاعات بحسب الغلبة في بعض الأوقات لاستهلاك القوى الروحانية بحسب ظلمات القوى الجسمانية قال بعض الكبار : الإنسان من حيث نشأته الطبيعية سعيد وكذلك من حيث نفسه الناطقة ما دامت كل نشأة منفردة عن صاحبتها فما ظهرت المخالفة ءلا بالمجموع ولما جبل الإنسان على الإمساك لأن أصله التراب وفيه يبس وقبض لم يرض بذهاب مال نفسه وغيره فلذا بخل وأمر بالبخل :
زر از بهر خوردن بود اي در
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
زبهر نهادن ه سنك وه زر
378
(9/309)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم وهو الأظهر كما في الإرشاد {بِالْبَيِّنَـاتِ} بحجتهاى روشن كه معجز اتست باشريعتهاى واضحه.
فإن قلت المعجزات يخلقها الله على يدي مدعي النبوة كإحياء الموتى وقلب العصا واليد البيضاء وشق القمر من غير نزول الملك بها نعم معجزة القرآن نزل بها الملك ولكن نزوله بها على كل رسول غير ثابت قلت معنى نزول الملك بها أن الله يخبره على لسانه بوقوع تلك المعجزة على يده {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ} أي جنس الكتب الشامل للكل لتبيين الحق وتمييز صواب العمل أي لتكميل القوة النظرية والعملية.
قوله معهم يجعل على تفسير الرسل بالأنبياء حالاً مقدرة من الكتاب أي مقدراً كونه معهم وإلا فالأنبياء لم ينزلوا حتى ينزل معهم الكتاب فالنزول مع الكتاب شأن الملائكة والإنزال إليهم شأن الأنبياء ولذا قدم الوجه الأول إذ لو كان المعنى لقد أرسلنا الأنبياء إلى الأمم لكان الظاهر أن يقال وأنزلنا إليهم الكتاب {وَالْمِيزَانَ} بالفارسية ترازو {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ليتعاملوا بينهم بالعدل ايفاء واستيفاء ولا يظلم أحد أحداً في ذلك وإنزاله إنزال أسبابه والأمر بإعداده وإلا فالميزان من مصنوعات البشر وليس بمنزل من السماء.
ـ وروي ـ أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان نفسه فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال : مر قومك يزنوا به يعني تاتسويه حقوق كنند بدان درميان يكديكر بوقت معاملات.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله : أتظن أن الميزان المقرون بالكتاب هو ميزان البر والشعير والذهب والفضة أم تتوهم أنه هو الطيار والقبان ما أبعد هذا الحسبان وأعظم هذا البهتان فاتق الله ولا تتعسف في التأويل.
واعلم يقيناً أن هذا الميزان هو ميزان معرفة الله ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته ليتعلم كيفية الوزن به من أنبيائه كما تعلموا من ملائكته فالله هو المعلم الأول والثاني جبرائيل والثالث الرسول والخلق كلهم يتعلمون من الرسول ما لهم طريق في المعرفة سواه والكل عبارته بلا تغيير وليت شعري ما دليله على ما ذهب إليه من العدول عن الظاهر كذا في بحر العلوم.
يقول الفقير : لعل دليله قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط أي حاكماً بالعدل أو مقيماً للعدل في جميع أموره فإذا كان الله قائماً بالعدل في جميع الأمور كان الواجب على العباد أن يقوموا به أيضاً ولن يقوموا به حقيقة إلا بعد العلم الشامل والمعرفة الكاملة وهي معرفة الله فهي الميزان الكلي وما عداه من جميع الأمور مبني عليه وموزون به {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} قيل : نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : الأول السندان وهو سندان الحداد بالفتح كما في القاموس وإياه عنى الشيخ سعدي في قوله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
و سندان كسى سخت رويى تبرد
كه خايسك تأديب بر سر نخورد
والثاني الكلبتان وهو ما يأخذ به الحداد الحديد المحمى كما في القاموس والثالث الميقعة بكسر الميم بعدها ياء مثناة تحتانية أصله موقعة قال في القاموس الميقعة خشبة القصار يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل وقد وقعته بالميقعة فهو وقيع حددته بها والرابع المطرقة وهي آلة الطرق أي الضرب والخامس الإبرة وهي مسلة الحديد وروى ومعه المر والمسحاة قال
379
(9/310)
في القاموس المر بالفتح المسحاة وهي ما سحى به أي قشر وجرف وفي الحديث أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع والحديد وعن الحسن رحمه الله وأنزلنا الحديد خلقناه كقوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام وذلك أن أوامره وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء قال بعضهم : وأخرجنا الحديد من المعادن لأن العدل إنما يكون بالسياسة والسياسة مفتقرة ءلى العدة والعدة مفتقرة إلى الحديد وأصل الحديد ماء وهو منزل من السماء {فِيهِ} أي في الحديد {بَأْسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به أو قوة شديدة يعني السلاح للحرب لأن آلات الحرب إنما تتخذ منه وبالفارسية كارزار سخت است يعني آلتها كه دركار زار بكار آيداز وسازند خواه از براى دفع دشمن ون سنان ونيزه وشمشبر ويكان وخنر وامثال آن وخواه براى حفظ نفس خود ون زره وخود وجوشن وغير آن.
وفيه إشارة إلى أن تمشية قوانين الكتاب واستعمال آلة التسوية يتوقفان على دال صاحب سيف ليحصل القيام بالقسط وإن الظلم من شيم النفوس والسيف حجة الله على من عنده ظلم {وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ} كالسكين والفأس والمر والإبرة ونحوها وما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها وفيه إشارة إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى القائم بالسيف يحتاج أيضاً إلى ما به قوام التعايش من الصنائع وآلات المحترقة وإلى سيف الجذبة المتخذ من حديد القهر إذ لا بد لكل تجلي جلالي من كون التجلي الجمالي فيه وبالعكس وهم الأولياء وهم يميلون إلى الحق بكثرة الألطاف والإعطاف الربانية كما قال تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُه وَرُسُلَهُ} عطف على محذوف يدل عليه ما قبله فإنه حال متضمنة للتعليل كأنه قيل ليستعملوه وليعلم الله علماً يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة في مجاهدة أعدائه {بِالْغَيْبِ} حال من فاعل ينصر أي غائبين عنه تعالى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ينصرونه وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب من غير معاينة للمطاع أو من مفعوله أي حال كونه تعالى غائباً عنهم غير مرئي لهم {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ} على إهلاك من أراد إهلاكه {عَزِيزٌ} لا يفتقر إلى نصرة الغير وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتطال فيه والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف وهي في حق الله بمعنى القدرة وهي الصفة التي يتمكن الحي من الفعل وتركه بالإرادة والعزة الغلبة على كل شيء قال الزروقي رحمه الله : القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبراهيم وخاصة هذا الاسم ظهور القوة في الوجود فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك وكفى أمره وخاصية الاسم العزيز وجود الغنى والعز صورة أو معنى فمن ذكره
380
أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه فلم يحوجه لأحد من خلقه وفي الأربعين الإدريسية يا عزيز المنيع الغالب ملى أمره فلا شيء يعادله قال السهروردي رحمه الله : من قرأ سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك خصمه وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده فإنهم ينهزمون {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي وبالله قد بعثنا {نُوحًا} إلى قومه وهم بنوا قابيل وهو الأب الثاني {وَإِبْرَاهِيمَ} إلى قومه أيضاً وهم نمرود ومن تبعه ذكر الله رسالتهما تشريفاً لهما بالذكر ولأنهما من أول الرسل وابوان للأنبياء عليهم السلام فالبشر كلهم من ولد نوح والعرب والعبرانيون كلهم من ولد إبراهيم {وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا} أي في نسلهما {النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/311)
بأن استنبأنا بعض ذريتهما وأوحينا إليهما الكتب مثل هود وصالح وموسى وهارون وداود وغيرهم فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدللٍ إليهما بأمتن الأسباب وأعظم الإنسان {فَمِنْهُم} أي فمن ذرية هذين الصنفين أو من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين يعني س بعضي از انهاكه أنبياء برايشان آمدند {مُّهْتَدٍ} أي الحق يعني إيمان آورده بكتاب ونبي وثابت شد بردين خود {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} خارجون عن الطريق المستقيم فيكونون ضالين لا محالة {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا} أي ثم أرسلنا بعدهم رسلنا والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من الأمم يعني بعد از نوح وهود وصالح را وبعد از إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف را.
أو من عاصرهما من الرسل ولا يعود إلى القرية فإن الرسل المقفى بهم من الذرية يقال قفا أثره اتبعه وقفى على أثره بفلان أي اتبعه إياه وجاء به بعده والآثار جمع أثر بالكسر تقول خرجت على أثره أي عقبه فالمعنى اتبعنا من بعدهم واحداً بعد واحد من الرسل قال الحريري في درة الغواص : يقال شفعت الرسول بآخر أي جعلتهما اثنين فإذا بعثت بالثالث فوجه الكلام أن يقال عززت بثالث أي قويت كما قال تعالى : فعززنا بثالث فإن واترت الرسل فالأحسن أن يقال قفيت بالرسل كما قال تعالى : ثم قفينا على آثارهم برسلنا {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم فأتينا به بعدهم يعني وازيى در آورديم اين رسل راوتمام كرديم انبياء بني إسرائيل را بعيسى ابن مريم.
فأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى {ثُمَّ قَفَّيْنَا} دفعة واحدة {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ} المؤمنين {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي عيسى في دينه كالحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً} وهي اللين {وَرَحْمَةً} وهي الشفقة أي وقفينا رأفة أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم ورحمة أي رقة وعطفاً على من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله عنهم : رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين قيل امروا في الإنجيل بالصفح والإعراض عن مكافأة الناس على الأذى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن إلى من اسا
وقيلي لهم من لطم خدك الأيمن قوله خدك الأيسر ومن سلب رداءك فأعطه قميصك
381
ولم يكن لهم قصاص على جناية في نفس أو طرف فاتبعوا هذه الأوامر وأطاعوا الله وكانوا متوادين ومتراحمين ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب إما بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا أي أتباع عيسى رهبانية {ابتَدَعُوهَا} أي حملوا أنفسهم على العمل بها وإما بالعطف على ما قبلها وابتدعوها صلة لها أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم أي وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها قال في فتح الرحمن المعتزلة تعرب رهبانية على أنها نصب بإضمار فعل يفسره ابتدعوها وليست بمعطوفة على رأفة ورحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم انتهى والرهبانية المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم ولبس المسوح وترك أكل اللحم والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الغير أن ومعناها العفلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح وهو الخائف فإن ارهبة مخافة مع تحزن واضطراب كما في المفردات فعلان من رهب كخشيان من خشي وقرىء بضم الراء كأنها نسبة إلى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان ولعل التردد لاحتمال كون النسبة إلى المفتوح والضم من التغيير النسب يعني أن الرهبان لما كان اسماً لطائفة مخصوصة صار بمنزلة العلم وإن كان جمعاً في نفسه فالتحق بأنصار وإعراب وفرائض فقيل : رهباني كما قيل أنصاري وإعرابي وفرائضي بدون رد الجمع إلى واحده في النسبة وقال الراغب في المفردات : الرهبان يكون واحداً وجمعاف فمن جعله واحداً جمعه على رهابين ورهبانية بالجمع أليق انتهى وهي الخصال المنسوبة إلى الرهبان وسبب ابتداعهم إياها أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى فقاتلوا ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل فخافوا أن يفتتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال فأرين بدينهم مخلصين أنفسهم للعبادة منتظرين البعثة النبوية التي وعدها لهم عيسى عليه السلام كما قال تعالى : ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/312)
ـ وروي ـ أن الله لما أغرق فرعون وجنوده استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة موسى عليه السلام في الرجوع إلى الأهل والمال بمصر فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا في رؤوس الجبال فكانوا أول من ترهب وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام {مَا كَتَبْنَـاهَا عَلَيْهِمْ} جملة مستأنفة والنفي متوجه إلى أصل الفعل أي ما فرضنا عليهم تلك الرهبانية في كتابهم ولا على لسان رسولهم {إِلا} استثناء منقطع أي لكن ابتدعوها {ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي لطلب رضاه تعالى {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما رعوا جميعاً حق رعايتها بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه السلام ونحوها إليه قال عليه السلام : من آمن بي وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون قال مقاتل : لما استضعفوا بعد عيسى التزموا الغيران فما صبروا وأكلوا الخنازير وشربوا الخمور ودخلوا مع الفساق وفي المناسبات فما رعوها أي لم يحفظها المقتدون بهم بعدهم كما أوجبوا على أنفسهم حق رعايتها أي بكمالها بل قصروا فيها ورجعوا عنها ودخلوا في دين
382
ملوكهم ولم يبق على دين عيسى عليه السلام إلا قليل ذمهم الله بذلك من حيث أن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه سيما إذا قصد رضاه تعالى {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم} أي من العيسيين إيماناً صحيحاً وهو الإيمان برسول الله عليه السلام بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها فإنها بعد البعثة لغو محض وكفر بحت وأنى لها استتباع الأجر قال في كشف الأسرار لما بعث النبي عليه السلام ولم يبق منهم إلا قليل حط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب الدير وديره فآمنوا به والصومعة كل بناء متصومع الرأس أي متلاصقه والدير خان النصارى وصاحبه ديار {أَجْرَهُمْ} أي ما يحسن ويليق بهم من الأجر وهو الرضوان {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} أي من العيسيين وهم الذين ابتدعوا فضيعوا وكفروا بمحمد عليه السلام {فَـاسِقُونَ} خارجون عن حد الاتباع وهم الذين تهودوا وتنصروا قال في تفسير المناسبات وكذلك كان في هذه الأمة فإنه لما توفي رسول الله تبعه خلفاؤه بإحسان فلما مضت الخلافة الراشدة وتراكمت الفتن كما أخبر عليه السلام واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الإيمان ورجم البيت بحجارة المنجنيق وهدم وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه واستبيحت مدينة رسول الله عليه السلام ثلاثة أيام وقتل فيها خيار المسلمين رأى المؤمنين العزلة واجبة فلزموا الزوايا والمساجد وبنوا الربط على سواحل البحر وأخذوا في الجهاد للعدو والنفوس وعالجوا تصفية أخلاقهم ولزموا الفقر أخذاً من أحوال أهل الصفة وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع والصدق والمنازل والأحوال والمقامات فهؤلاء وزان أولئك انتهى وفي الحديث يا ابن أم معبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت : الله ورسوله أعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ـ روي ـ أن نفراً من الصحابة رضي الله عنهم أخذهم الخوف والخشية حتى أراد بعضهم أن يعتزل عن النساء وبعضهم الإقامة في رؤوس الجبال وبعضهم ترك الأكل والشرب وبعضهم غير ذلك فنهاهم عليه السلام عن ذلك كله وقال : لا رهبانية في الإسلام وقال رهبانية أمتي في المسجد يعني المتعبدون من أمتي لا يأخذون مأخذ النصارى بل يعتكفون في المساجد دون رؤوس الجبال وقال في نفي صوم الوصال : إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني.
وفي المثنوي :
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 41 من صفحة 383 حتى صفحة 393
هين مكن خودرا خصى رهبان مشو
زانكه عفت هست شهوت راكرو
بى هوا نهى از هوا ممكن نبود
فازيى بر مردكان نتوان نمود
س كلوا از بهر دام شهوتست
بعد ازان لا تسرفوا آن عفتست
ونكه رنج صبر نبود مرترا
شرط نبود س فرونايد جزا
حبذا آن شرط وشادا آن جزا
آن جزاى دلنواز جان فزا
قال الشافعي رحمه الله أربعة لا يعبأ الله بهم يوم القيامة : زهد خصى وتقوى جندى وأمانة امرأة وعبادة صبي وهو محمول على الغالب كما في المقاصد الحسنة ثم ذكر لا تنبغي الخلوة والعزلة قال في الأحياء لما بنى عروة قصره بالعقيق وهو كأمير موضع بالمدينة لزومه فقيل له : لزمت
383
القصر وتركت مسجد رسول الله فقال : رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وما هنالك عما أنتم فيه عافية.
(9/313)
ـ وحكي ـ أن جماعة من السلف مثل مالك وغيره تركوا إجابة الدعوات وعبادة المرضى والجنائز بل كانوا أحلاس بيوتهم لا يخرجون إلا إلى الجمعة وزيارة القبور وبعضهم فارق الأمصار وانحاز إلى قلل الجبال تفرغاً للعبادة وفراراً من الشواغل واختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير وهذا يقتضي لزوم الهجرة وفي الآية دليل على أن الشروع في نقل العبادة ملزم وإن من شرع فيما ليس عليه ثم تركه استحق اسم الفسق والوعيد فيجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
ـ وروي ـ عن بعض الصحابة رضي الله عنهم عليكم بإتمام هذه التراويح لأنها لم تكن واجبة عليكم وقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتم صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية وكثير منهم فاسقون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يقول الفقير : وهكذا شأن الصلاة المعروفة بالرغائب والبراءة والقدر فإنها ملحقة بالتراويح لكونها من صلاة الليل وقد كانت سنة مسلوكة للعلماء بالله فلا تترك أبداً عند من اعتقد اعتقادهم قال في فتح الرحمن : واختلف الأئمة فما إذا أنشأ صوماً أو صلاة تطوعاً فقال أبو حنيفة : لم يجز له الخروج منه فإن أفسده فعليه القضاء لقوله تعالى : ولا تبطلوا أعمال لكم وقال مالك رحمه الله : كذلك إلا أنه اعتبر العذر فقال : إن خرج منه لعذر فلا قضاء وإلا وجب وقال الشافعي واحمد رحمهما الله متى أنشأ واحداً منهما استحب إتمامه فإن خرج منه لم يجب عليه قضاء على الإطلاق وأما إذا كان التطوع حجاً أو عمرة فيلزم إتمامه أفسده وجب قضاؤه لوجوب المضي في فاسده انتهى.
قال بعض الكبار : جميع ما ابتدع من السنة الحسنة على القربة إلى الله تعالى داخل في الشريعة التي جاءت بها الرسل عن أمر الله قال تعالى : ورهبانية الخ فأقرهم تعالى عليها ولم يعب عليهم فعلها إنما عاب عليهم عدم رعايتهم لها في دوام العمل فقط وخلع عليها اسم البدعة في حقهم بخلاف هذه الأمة خلع على ما استحسنوه اسم السنة تشريفاً لهم كما قال عليه السلام : من سن سنة حسنة وما قال من ابتدع بدعة حسنة فافهم فأجاز لنا ابتداع ما هو حسن وسماه سنة وجعل فيه أجراً لمن ابتدعه ولمن عمل به وأخبر أن العباد له تعالى بما يعطيه نظره إذا لم يكن على شرع من الله معين أنه يحشر أمة وحده بغير إمام يتبعه كما قال تعالى في إبراهيم أن إبراهيم كان أمة قانتاًوذلك لنظره في الأدلة قبل أن يوحى إليه وقال عليه السلام : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فمن كان عليها فهو على شرع من ربه وإن لم يعلم وقال بعضهم : جميع ما ابتدعه العلماء والعارفون مما لم تصرح الشريعة بالأمر به لا يكون بدعة إلا أن خالف صريح السنة فإن لم يخالفها فهو محمود وذلك كحلق الرأس ولبس المرقعات والرياضة بقلة الطعام والمنام والمواظبة على الذكر والجهر به على الهيئة المشهورة ونحو ذلك من جميع أوصافهم فإنها كلها نواميس حكمية لم يجىء بها رسول الله عليه السلام في عموم الناس من عند الله لكونها طريقة أهل الخصوص السالكين طريق الحق وهذه الطريق لا تحتمل العامة الأمر بها ولا تجب هي عليهم فقد علمت أن طريق
384
(9/314)
القوم صادرة عن الله ولكن من غير الطريق الصريح النبوي ولولا أنه عليه السلام فتح لأمته باب الاستنان ما اجترأ أحد منهم على أن يزيد حكماً ولا وضعاً ففي الصحيح من سن سنة حسنة فله أجرها وأجز من عمل بها وقال بعضهم : المقصود بالوضع الشرعي الإلهي هو تكميل النفوس علماً أو عملاً وهم أتوا بأمور زائدة على الطريقة النبوية موافقة لها في الغاية والغرض كالأمور التي التزمها الصوفية في هذه الأمة بغير إيجاب من الله كتقليل الطعام وكثرة الصيام والاجتناب عن مخالطة الأنام وقلة المنان والذكر على الدوام وقال بعضهم : ما يصدر عن الواصل من الأفعال شريعة وكذا الباقي فلا بد من الاعتدال ولذلك قال عليه السلام : الشريعة أقوالي والطريقة أطواري والمعرفة رأس مالي والحقية نقد حالي وقال بعضهم : لا تبتدع فيوجب الله ذلك الابتداع عليك وفي شرعنا من سن سنة حسنة فما سماها بدعة فإن شرعنا قد قررها فليشكر الله صاحب هذه البدعة وليلزمها حيث ألحقه تعالى بأنبيائه ورسله وأباح له أن يسن ما سنته الرسل مما يقرب إلى الله تعالى ولا يخفى أن الكامل من عباد الله من سد باب الابتداع ولم يزد في التكاليف حكماً واحداً موافقه لمراد الله ومراد رسول الله من طلب الرفق والرحمة وقال بعضهم : لا تجعل وردك غير ما ورد في الكتاب والسنة تكن من العلماء الأدباء لأنك حينئذ تجمع بين الذكر والتلاوة فيحصل لك أجر التالين والذاكرين فما ترك الكتاب والسنة مرتبة يطلبها الإنسان من خير الدنيا والآخرة إلا وقد ذكرها فمن وضع من الفقراء ورداً من غير الوارد في السنة فقد أساء الأدب مع الله ورسوله إلا أن يكون ذلك بتعريف من الله فيعرفه خصائص كلمات يجمعها فيكون حينئذ ممتثلاً لا مخترعاً وذلك مثل حزب البحر للشاذلي رحمه الله ونحوه فإنه رحمه الله صرح بأنه ما وضع حرفاً منه إلا بإذن الله ورسوله وقال : من دعا بغير ما دعا به رسول الله فهو مبتدع وقال بعضهم : العبد في أداء الفرائض عبد اضطرار وفي فعل النوافل عبد اختيار وعبودية الاضطرار أشرف وأسلم في حقه من عبودية الاختيار لما قد يخطر بباله في عبودية الاختيار من شائبة الامتنان ومن ههنا ترك أكابر الرجال من الملامية فعل النوافل واقتصروا على أداء الفرائض خوفاً من خطور ذلك على قلوبهم فيجرح عبوديتهم وفي الحكم العطائية من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات وهذا حال غالب الخلق إلا من عصمه الله ترى الواحد منهم يقوم بالنوافل الكثيرة ولا يقوم بفرض أحد على وجهه
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي بالرسل المتقدمة {اتَّقُوا اللَّهَ} فيما نهاكم عنه {وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ} أي بمحمد عليه السلام وفي إطلاقه إيذان بأنه علم فرد الرسالة لا يذهب الوهم إلى غيره {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبين وأجرين نقل عن الراغب الكفل الحظ الذي فيه الكفالة كأنه تكفل بأمره والكفلان هما النصيبان المرغوب فيهما بقوله تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة {مِن رَّحْمَتِهِ} از بخشايش خود.
وذلك لإيمانكم بالرسول وبمن قبله من الرسل لكن لا على أن شريعتهم باقية بعد البعثة بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : الرجل يكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها
385
يؤدبها فيحسن تأديبها ثم يعتقها ويتزوجها فله أجران ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً ثم آمن بالنبي فله أجران والعبد الذي يؤدي حق الله وينصح لسيده ولذا بكى بعض العبيد حين أعتق لأنه ذهب أجر النصح لسيده وبقي أجر أداء حق الله :
تادلت هست اسير عشق سليم
مسند تخت سلطنت مطلب
وقال الشيخ سعدي :
اسيرش نخواهد رهايى زبند
شكارش نجويد خلاص از كمند
وقال المولى الجامي :
مريض عشق توون مثائل شفا كردد
اسير قيد توكى طالب نجات شود
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/315)
{وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يوم القيامة حسبما نطق به قوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم فهو الضياء الذي يمشون به على الصراط إلى أن يصلوا إلى الجنة وذلك لأن جهنم خلقت من الظلمة إذ هي صورة النفس الأمارة وهي ظلمانية فنور الإيمان والتقوى يدفعها ويزيلها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي فإما حسنات الكفار فمقبولة بعد إسلامهم على ما ورد في الحديث الصحيح {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة وفيه إشارة إلى مغفرة الذنب الذي هو ملاحظة النفس فإنه من أكبر الذنوب والمعاصي كما قالوا وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر "مصراع" ومرد راه شدى بكذراز سر ودستار {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} متعلق بمضموم الجملة الطلبية المتضمنة معنى الشرط إذ التقدير أن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب أي ليعلموا ولا مزيدة كهى في ما منعك أن لا تسجد كما ينبىء عنه قراءة ليعلم ولكي يعلم ولأن يعلم بإدغام النون في الياء قال في كشف الأسرار : وإنما يحسن إدخالها في كلام يدخل في أواخره أو أوائله جحد {أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} أن مخففة من الثقيلة واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلمون أنهم لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} عطف على أن لا يقدرون يعني آفزوني ثواب وجزاء وأمثال آن بدست قدرت خداست {يُؤْتِيهِ} عطا كند {مَن يَشَآءُ} هركرا خواهد.
وهو خبر ثان لأن {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والعظيم لا بد أن يكون إحسانه عظيماً.
قال الكاشفي : وخداى تعالى خداوند فضل بزركست يعني نعمتي تمام كه خواص وعوام را فرا رسيده :
فيض كرم رساندة از شرق تا بغرب
خوان نعم نهادة ازقاف تابقاف
هستند بيش وكم زنوال تو بهره مند
دارند نيك وبد بعطاء تو اعتراف
وقد جوز أن يكون الأمر بالتقوى والإيمان لغير أهل الكتاب فالمعنى اتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله تعالى : أولئك يؤتون أجرهم مرتين ولا ينقصكم من مثل أجرهم لأنكم مثلهم في الإيمانين
386
لا تفرقون بين أحد من رسله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ـ وروي ـ أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على سائر المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم فنزلت وفي الحديث "إنما مثلنا ومثل الذين أوتوا الكتاب من قبلنا مثل رجل استأجر إجراء فقال : من يعمل إلى آخر النهار على قيراط قيراط فعمل قوم ثم تركوا العمل نصف النهار ثم قال من يعمل نصف النهار إلى آخر النهار على قيراط قيراط فعمل قوم إلى العصر على قيراط قيراط ثم تركوا العمل ثم قال : من يعمل الليل على قيراطين قيراطين فعمل قوم إلى الليل على قيراطين قيراطين فقال الطائفتان الأوليان مالنا أكثر عملاً وأقل أجراً فقال : هل نقصتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا : لا قال : ذلك فضلي أوتيه من أشاء" ففيه إشارة إلى أن أهل الكتاب أطول زماناً وعمراً وأكثر اجتهاداً وأقل أجراً وهذه الأمة أقصر مدة وأقل سعياً وأعظم أجراً وإلى أن الثواب على الأعمال ليس من جهة الاستحقاق لأن العبد لا يستحق على مولاه بخدمته أجرة بل من جهة الفضل ولله أن يتفضل على من يشاء بما يشاء قال البقلي رحمه الله : اخرج فضله من الاكتساب وعلل الجهد والطلب يؤتى كراماته من يشاء من عباده المصطفين وهو ذو العطاء في الأزل إلى الأبد والفضل العظيم ما لا ينقطع عن المنعم عليه أبداً.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ويقول إن فيهن آية أفضل من ألف آية ويعني بالمسبحات الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.
يقول الفقير : إنما أخفى عليه السلام تلك الآية ولم يصرح بها لتجتهد الأمة بتلاوة جميع السور كما أخفى الله ساعة الإجابة وليلة القدر ونحوهما بعثاً للعباد على الاجتهاد وإحياء الليالي.
قال الشيخ سعدي :
وهر كوشه تير نياز افكنى
اميدست نا كه كه صيدى زنى
همه سنكها اس دار اى سر
كه لعل از ميانش نباشد بدر
غم جمله خور در هواى يكى
مراعات صدكن براى يكى
387
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
تفسير سورة المجادلة
اثنتان وعشرون آية مدنية
جزء : 9 رقم الصفحة : 387
جزء : 9 رقم الصفحة : 388(9/316)
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَـادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} سمع مجاز مرسل عن أجاب بعلاقة السببية والمجادلة المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة يعني كار براندن باكسى بر سبيل نزاع.
وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه والمراد هنا المكالمة ومراجعة الكلام أي معاودته والمعنى قد أجاب الله دعاء المرأة التي تكالمك في حق زوجها استفتاء وتراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من ظهاره إياها بغير وجه مشروع وسبب مقبول {وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ} عطف على تجادلك أي تتضرع إلى الله تعالى وتظهر ما بها من المكروه قال في المفردات الشكاية والشكاة والشكوى إظهار البث يقال : شكوت واشتكيت وأصل الشكوى فتح الشكوة وإظهار ما فيها وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء وكان في الأصل استعارة كقولك بثثت له ما في وعائي ونفضت ما في جرابي إذا أظهرت ما في قلبك وفي كشف الأسرار الاشتكاء إظهار ما يقع بالإنسان من المكروه والشكوى إظهار ما يصنعه غيره به وفي تاج المصادر الاشتكاء كله كردن وشكوه كرفتن.
وهي قربة صغيرة المجادلة هي خولة بنت ثعلب بن مالك بن خزاعة الخزرجية وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة روي أنها كانت حسنة البدن رآها أوس وهي تصلي فاشتهى مواقعتها فلما سلمت راودها فأبت وكان به خفة فغضب عليها بمقتضى البشرية وقال : أنت علي كظهر أمي وكان أول ظهار وقع في الإسلام ثم ندم على ما قال بناء على أن الظهار والإيلاء كانا من طلاق الجاهلية فقال لها : ما أظنك إلي وقد حرمت علي فشق ذلك عليها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت أبو ولدي وابن عمي وأحب الناس إلى ظاهر مني وما ذكر طلاقاً وقد ندم على فعله فهل من شيء يجمعني وإياه فقال عليه السلام : ما أراك إلا وقد حرمت عليه فقالت : لا تقل ذلك يا رسول الله وذكرت فاقتها ووحدتها بتفاني أهلها وأن لها صبية صغاراً فقالتك إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إلى أبيهم ضاعوا فأعاد النبي عليه السلام قوله الأول وهو حرمت عليه فجلت تراجع رسول الله مقالتها الأولى وكلما قال لها رسول الله حرمت عليه هتفت وقالت : أشكوا إلى الله مما لقيت من زوجي حال فاقتي ووحدتي وقد طالت معه صحبتي ونفضت له بطني تريد بذلك أني قد بلغت عنده سن الكبر وصرت عقيماً لا ألف بعد وكانت في كل ذلك ترفع رأسها إلى السماء على ما هو عادة
388
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
الناس استنزالاً للأمر الإلهي من جانب العرش وتقول : اللهم أنزل على لسان نبيك فقامت عائشة تغسل الشق الآخر من رأسه عليه السلام وهي ما زالت في مراجعة الكلام مع رسول الله وبث الشكوى إلى الله حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات الأربع سمعاً لدعائها وقبولاً لشكواها فكانت سبباً لظهور أمر الظهار وفي قد إشعار بأن الرسول والمجادلة كانا يتوقعان أن ينزل الله حكم الحادثة ويفرج عنها كربها لأنها إنما تدخل على ماض متوقع {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ} أي يعلم تراجعكما الكلام وتخاطبكما وتجاوبكما في أمر الظار فإن التحاور بمعنى التجاوب وهو رجع الكلام وجوابه يعني يكديكر را جواب دادن.
من الحور بمعنى الرجوع وذلك كان برجوع الرسول إلى الحكم بالحرمة مرة بعد أخرى ورجوع المجادلة إلى طلب التحليل كذلك ومثله المحاورة في البحث ومنه قولهم في الدعاء نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي الرجوع إلى النقصان بعد الوصول إلى الزيادة أو إلى الوحشة بعد الأنس وقال الراغب الحور التردد إما بالذات وإما بالتفكر وقيل : نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه أو من نقصان وتردد في الحال بعد الزيادة فيها وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده وفي نظمها في سلك الخطاب مع أفضل البريات تغليب إذ القياس تحاورها وتحاورك تشريفاً لها من جهتين والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن الحافها في المسألة ومبالغاتها في التضرع إلى الله ومدافعته عليه السلام إياها بجماب منبىء عن التوقف وترقب الوحي وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة وفي كشف الأسرار ليس هذا تكراراً لأن الأول لما حكته عن زوجها والثاني لما كان يجري بينها وبين رسول الله لأن الأول ماض والثاني مستقبل {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ} مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات ومن قضيته أن يسمع تحاورهما ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع :
يا من يرى ما في الضمير ويسمع
أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة
ولئن رددت فأي باب أقرع
حاشى للطفك أن تقنط عاصياً
الفضل أجزل والمواهب أوسع
(9/317)
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يبق له في مهمه أحد سوى ربه وصدق في دعائه وشكواه كفاه الله ذلك ومن كان أضعف فالرب به ألطف :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
دعاى ضعيفان اميد وار
زبازوى مردى به آيد بكار
وفيها أن من استمع الله ورسوله والورثة إلى كلامه فسائر الناس أولى.
ـ روي ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بهذه المرأة في خلافته وهو على حمار والناس معه فاستوففته طويلاً ووعظته وقالت : يا عمر قد كنت تدعى عميراً ثم قيل لك عمر ثم قيل لك أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن الموت خاف الفوت ومن أيقن الحساب خاف العذاب وهو
389
واقف يسمع كلامها فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف الطويل؟ فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما زلت إلا للصلة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلب سمع الله قولها من فوق سبع سموات أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر وهذه الفوقية لا يلزم منها الجهة لأن الله هو العلي المتعال فاعرف ثم إنه من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه اتقي الله فيقول في جوابه عليك نفسك أي الزم نفسك أنت تأمرني بهذا وذلك لأنه إذا ذكر اسم الله يلزم التعظيم له سواء صدر من مسلم أو كافر وأعلم الناس لا يستغنى عن تنبيه وإيقاظ :
بكوى آنه دانى سخن سود مند
وكر هي كس رانيايد سند
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
يقال : اللائق بالعاقل أن يكون كالنحل يأخذ من كل شيء ثم يخرجه عسلاً فيه شفاء من كل داء وشمعاً له منافع لا سيما الضياء فطالب الحكمة يأخذها من كل مقام سواء قعد أو قام "المرء لولا عرفه فهو الدمي.
والمسك فولا عرفه فهو الدم" العرف الأول بالضم بمعنى المعروف والثاني بالفتح الرائحة والدمي بضم الدال وفتح الميم جمع دمية وهي الصورة المنقشة من رخام أو عاج {الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِنكُم} أيها المؤمنون فلا يلحق بهم الذمي لأنه ليس من أهل الكفارة لغلبة جهة العبادة فيها فلا يصح ظهاره {مِن نِّسَآاـاِهِمْ} هذا شروع في بيان الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعاً بطريق الاستئناف والظهار بلغة مصدر ظاهر الرجل أي قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي والظهر العضو والجارحة ويعبر عن البطن بالظهر أي أنت علي حرام كبطن أمي فكنى عن البطن بالظهر الذي هو عمود البطن لئلا يذكر ما يقارب الفرج تأدباً ثم قيل ظاهر من امرأته فعدى بمن لتضمين معنى التجنب لاجتناب أهل الجاهلية من المرأة المظاهر منها إذ الظهار طلاق عندهم كما مر في قولهم : آلى منها لما ضمنه من معنى التباعد من الألية بمعنى الحلف وفي القرآن واجنبني وبني أن نعبد الأصنام أي بعدني وإياهم من عبادة الأصنام فمعنى البعد إنما هو في الاجتناب ونحوه المتعدي بمن لان معنى الابتداء الذي هو معنى من لا يخلو عن البعد فإن من معاني عن لا من ثم إنه ألحق الفقهاء بالظهر نحو البطن والفخذ والفرج مما يحرم النظر إليها من الأم فمن قال أنت علي كبطن أمي أو فخذها أو فرجها كان ظهاراً بخلاف مثل اليد أو الرجل وكذا ألحقوا بالأم سائر المحارم فلو وضع المظاهر مكان الأم ذات رحم محرم منه من نسب كالخالة والعمة أو رضاع أو صهر كان ظهاراً مثل أن يقول : أنت عليه كظهر خالتي أو عمتي أو أختي نسباً أو رضاعاً أو كظهر امرأة ابني أو أبي ولو شبهها بالخمر والخنزير أو الدم أو الميتة أو قتل المسلم أو الغيبة أو النميمة أو الزنى أو الريا أو الرشوة فإنه ظهار إذا نوى وفي أنت علي كأمي صح نية الكرامة أي استحقاق البر فلا يقع طلاق ولا ظهار وصح نية الظهار بأن يقصد التشبيه بالأم في الحرمة فيترتب عليه أحكام الظهار لا غير ونية الطلاق بأن يقصد إيجاب الحرمة فإن لم ينو شيئاً لغا وأنت علي حرام كأمي صح فيه ما نوى من ظهار أو طلاق أو إيلاء ولو قال
390
أنت أمي أو أختي أو بنتي بدون التشبيه فهو ليس بظهار يعني إن قال : إن فعلت كذا فأنت أمتي وفعلته فهو باطل وإن نوى التحريم ولو قالت لزوجها : أنت علي كظهر أمي فإنه ليس بشيء وقال الحسن إنه يمين وفي إيراد منكم مع كفاية من نسائهم مزيد توبيخ للعرب وتقبيح لعادتهم في الظهار فإنه كان من أيمان جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم فلا يليق بهم بعد الإسلام أن يراعوا تلك العادة المستهجنة فكأنه قيل منكم على عادتكم القبيحة المستنكرة ويحتمل أن يكون لتخصيص نفع الحكم الشرعي للمؤمنين بالقبول والاقتداء به أي منكم أيها المؤمنون المصدقون بكلام الله المؤتمرون بأمر الله إذ الكافرون لا يستمعون الخطاب ولا يعملون بالصواب وفى من نسائهم إشارة إلى أن الظهار لا يكون في الأمة ومن ذلك قالوا : إن للظهار ركناً وهو التشبيه المذكور وشرطاً وهو أن يكون المشبه منكوحة حتى لا يصح من الأمة وأهلاً وهو من كان من أهل الكفارة حتى لا يصح للذمي والصبي والمجنون وحكماً وهو حرمة الوطىء حتى يكفر مع بقاء أصل الملك
(9/318)
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
{مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِمْ} خبر للموصول أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت يعني أن من يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم وجاعلها مثلها وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين وكانوا يريدون بالتشبيه الحرمة في المظاهر منها كالحرمة في الأم تغليظاً وتشديداً فإن قيل فحاصل الظهار مثلاً أنت محرمة علي كما حرمت علي أمي وليس فيه دتوى الأمومة حتى تنفي وتثبت للوالدات يقال : إن ذلك التحريم في حكم دعوى الأمومة أو أن المراد نفي المشابهة لكن نفي الأمومة للمبالغة فيه {إِنَّ} نافية بمعنى ما {أُمَّهَـاتِهِمْ} في الحقية والصدق {الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ} جمع التي أي النساء اللاتي {وَلَدْنَهُمْ} أي ولدن المظاهرين فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من أزواج النبي عليه السلام والمرضعات ومنكوحات الآباء لكرامتهن وحرمتهن فدخلن بذلك في حكم الأمهات وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلا تلحق بهن بوجه من الوجوه {إِنَّهُمْ} أي وإن المظاهرين منكم {لَيَقُولُونَ} يقولهم ذلك {مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ} على أن مناط التأكيد ليس صدور القول عنهم فإن أمر محقق بل كونه منكراً أي عند الشرع وعند العقل والطبع أيضاً كما يشعر به تنكيره وذلك لأن زوجته ليست بأمه حقيقة ولا ممن ألحقه الشرع بها فكان التشبيه بها إلحاقاً لأحد بالمتباينين بالآخر فكان منكراً مطلقاً غير معروف {وَزُورًا} أي كذباً باطلاً منحرفاً عن الحق فإن الزور بالتحريك الميل فقيل للكذب زور بالضم لكونه مائلاً عن الحق قال بعضهم : ولعل قوله وزوراً من قبيل عطف السبب على المسبب فإن قلت قوله أنت علي كظهر أمي إنشاء التحريم الاستمتاع بها وليس بخير والإنشاء لا يوسف بالكذب قلت هذا الإنشاء يتضمن إلحاق الزوجة المحللة بالأم المحرمة أبداً وهذا إلحاق مناف لمقتضى الزوجية فيكون كاذباً وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك
391
بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور إلا وقول الزور وشهادة الزور إلا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يقولها حتى قلت : لا يسكت رواه البخاري قال بعضهم : لما كان مبني طلاق الجاهلية الأمر المنكر الزور لم يجعله الله طلاقاً ولم تبق الحرمة إلا إلى وقت التكفير وقال الظهار : الذي هو من طلاق الجاهلية إن كان في الشرع بمقدار من الزمان أولاً طلاقاً كانت الآية ناسخة وإلا فلا لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع وما قال عليه السلام إنها حرمت فلا يعين شيئاً من الطرفين إلا أن بعض المفسرين جعله مؤيداً للوجه الأول
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/319)
{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة لما سلف منه على الإطلاق على المذهب الحق أو بالمناب عنه على مذهب الاعتزال وذلك أن ما دون الشرك حكمه موكول إلى مشيئة الله إن شاء يغفره وإن لم يتب العبد عنه وإن شاء يغفره بعد التوبة وأما إذا لم يتب عنه فعذبه عليه فإنما يعذبه على حسب ذنبه لكن الظاهر هنا الحث على التوبة لكون الكلام في دم الظهار وإنكاره {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} اللام والى يتعاقبان كثيراً نحو يهدي للحق وإلى الحق فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يعودون إلى ما قالوا وإلى ما فات عنهم بسببه من الاستمتاع بالتدارك والتلافي بالتقرر والتكرر ومنه قولهم عاد الغيث على ما أفسد أي تداركه بإصلاح فإفساده إمساكه وإصلاحه إحياؤه ففيه إطلاق اسم السبب على المسبب فإن العود إلى الشيء من أسباب التدارك والوصول إليه فيكون محازاً مرسلاً قال ابن الشيخ العود يستعمل على معنيين أحدهما أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل ذلك فتركه فيكون بمعنى الرجوع إلى ما فارق عنه والآخر أن يصير ويتحول إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل والعود بهذا المعنى لا يلزم أن يكون رجوعاً إلى ما فارق عنه والعود الذي هو سبب للتدارك والوصول هو العود بهذا المعنى وهو العود إلى شيء مطلقاً فحاصل المعنى ثم يعودون إلى تدارك ما قالوا ودفع ما لزم عليهم به من الفساد من حرمة الحلال ويجوز أن يكون المعنى ثم يريدون العود إلى ما حرموا على أنفسهم بلفظ الظهار من الاستمتاع ففيه تنزيل للقول منزلة المقول فيه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} التحرير جعل الإنسان حراً وهو خلاف العبد والرقبة ذات مرقوق مملوك سواء كان مؤمناً أو كافراً ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً هندياً أو رومياً فالمعنى فتداركه أو فالواجب إعتاق رقبة أي رقبة كانت وإن كان تحرير المؤمن أولى والصالح أحسن فيعتقها مقروناً بالنية وإن كان محتاجاً إلى خدمتها فلو نوى بعد العتق أو لم ينو لم ينجزىء وإن وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليه فله الصيام كما في الكواشي ولا يجزىء أم الولد والمدبر والمكاتب الذي أدى شيئاً فإن لم يؤد جاز ويجب أن تكون سليمة من العيوب الفاحشة بالإنفاق وعند الشافعي يشترط الإيمان قياساً على كفارة القتل كما قال تعالى فتحرير رقبة مؤمنة قلنا حمل المطلق على المقيد إنما هو عند اتحاد الحادثتين واتحاد الحكم أيضاً وهنا ليس كذلك والفاء للسببية ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار لأن تكرر السبب يوجب تكرر المسبب كقراءة آية السجدة في موضعين فلو ظاهر
392
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
من امرأته مرتين أو ثلاثاً في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر منها بالآخر جماعاً وتقبيلاً ولمساً ونظراً إلى الفرج بشهوة وذلك لأن اسم التماس يتناول الكل وإن وقع شيء من ذلك قبل التكفير يجب عليه أن يستغفر لأنه ارتكب الحرام ولا يعود حتى يكفر وليس عليه سوى الكفارة الأولى بالإنفاق وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رحمه الله ولا تسقط الكفارة بل يأتي بها على وجه القضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها فإنه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها وفي الآية دليل على أن المرأة لا يسعها أن تدع الزوج أن يقربها قبل الكفارة لأنه نهاهما جميعاً عن المسيس قبل الكفارة قال القهستاني لها مطالبة التكفير والحاكم يجبر عليه بالحبس ثم بالضرب فالنكاح باق والحرمة لا تزول إلا بالتكفير وكذا لو طلقها ثم تزوجها بعد العدة أو زوج آخر حرم وطئها قبل التكفير ثم العود الموجب لكفارة الظهار عند أبي حنيفة رحمه الله هو العزم على جماعها فمتى عزم على ذلك لم تحل له حتى يكفر ولو ماتت بعد مدة قبل أن يكفر سقطت عنه الكفارة لفوت العزم على جماعها {ذَالِكُمْ} أي الحكم بالكفارة أيها المؤمنون {تُوعَظُونَ بِهِ} الوعظ زجر يقترن بتخويف أي تزجرون به من ارتكاب المنكر المذكور فإن الغرامات مزاجر من طعاطي الجنايات والمراد بذكره بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه والحاصل أن في المؤاخذة الدنيوية نفعاً لكل من المظاهر وغير المظاهر بأن يحصل للمظاهر الكفارة والتدارك ولغير المظاهر الاحتياط والاجتناب كما قيل :
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بينداندر بند
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 42 من صفحة 393 حتى صفحة 404
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/320)
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من جناية الظهار والتكفير ونحو ذلك من قليل وكثير {خَبِيرٌ} أي عالم بظواهرها وبواطنهاومجازيكم بها فحافظوا احدود ما شرع لكم ولا تخلوا بشيء منها {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي فالمظاهر الذي لم يجد الرقبة وعجز عنها بأن كان فقيراً وقت التكفير وه من حين العزم إلى أن تقرب الشمس من الغروب من اليوم الأخير مما صام فيه من الشهرين فلا يتحقق العجز الحقيقي إلا به والاعتبار بالمسكن والثياب التي لا بد منها فإن المعتبر في ذلك هو الفضل والذي غاب ماله فهو واجد {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} أي فعليه صيام شهرين {مُتَتَابِعَيْنِ} ليس فيهما رمضان ولا الأيام الخمسة المحرم وصومها أي يوما العيد وأيام التشريق فيصلهما بحيث لا يفصل يوماً عن يوم ولا شهراً عن شهر بالإفطار فإن أفطر فيهما يوماً أو أكثر بعذر أو بغير عذر استأنف ولم يحسب ما صام إلا بالحيض كما سيجيء {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} ليلاً أو نهاراً عمداً أو خطأ ولو جامع زوجة أخرى ناسياً لا يستأنف ولو أفطرت المرأة للحيض في كفارة القتل أو الفطر في رمضان لا تستأنف لكنها تصل صومها بأيام حيضها ثم إنه إن صام بالأهلة أجزأه وإن صام ثمانية وخمسين بأن كان كل من الشهرين ناقصاً وإن صامها بغيرها فلا بد من ستين يوماً حتى لو أفطر صبيحة تسعة وخمسين وجب عليه
393
الاستئناف {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} أي الصيام بسبب من الأسباب كالهرم والمرض المزمن أي الممتد الغير المرجو برؤه فإنه بمنزلة العاجز من كبر السن وإن كان برجي برؤه واشتدت حاجته إلى وطىء امرأته فالمختار أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصام أجزأه ومن الأعذار الشبق المفرط وهو أن لا يصبر على الجماع فإنه عليه السلام رخص للأعرابي أن يعطي الفدية لأجله {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} الإطعام جعله الغير طاعماً ففيه رمز إلى جواز التمليك والإباحة في الكفارة والمسكين ويفتح ميمه من لا شيء له أوله ما لا يكفيه وأسكنه الفقر أي قلل حركته والذليل والضعيف كما في القاموس قال القهستاني في شرح مختصر الوقاية قيد المسكين اتفاقي لجواز صرفه إلى غيره من مصارف الزكاة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
يقول الفقير إنما خص المسكين بالذكر لكونه أحق بالصدقة من سائر مصارف الزكاة كما ينيىء عنه ما سبق آنفاً من تفسير القاموس وإطعام ستين مسكيناً يشمل ما كان حقيقياً وحكمياً بأن يطعم واحداً ستين يوماً فإنه في حكم ستين مسكيناً وإن أعطاه في يوم واحد وبدفعات لا يجوز على الصحيح فيطعم لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره كما في الفطرة والصاع أربعة أمداد ونصفه مدان ويجب تقديمه على المسيس لكن لا يستأنف إن مس في خلاف الإطعام لأن الله تعالى لم يذكر التماس مع الإطعام هذا عند أبي حنيفة رحمه الله وأما عند الآخرين فالإطعام محمول على المقيد في العتق والصيام ويجوز دفع الكفارة لكافر وإخراج القيمة عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً للثلاثة وفي الفقه هذا إذا كان المظاهر حراً فلو كان عبداً كفر بالصوم وإن أعطاه المولى المال وليس له منعه عن الصوم فإن أعتق وأيسر قيل التكفير كفر بالمال {ذَالِكَ} أي ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها واقع أو فعلنا ذلك {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم إن قيل إذا كان ترك الظهار مفروضاً فما بال الفقهاء يجعلونه باباً في الفقه أجيب بأن الله وإن أنكر الظهار وشنع على من تعود به من الجاهلين إلا أنه تعالى وضع له أحكاماً يعمل بها من ابتلى به من الغافلين فبهذا الاعتبار جعلوه باباً ليبينوا تلك الأحكام وزادوا قدر ما يحتاج إليه مع أن المحققين قالوا : إن أكثر الأحكام الشريعية للجهاد فإن الناس لو احترفوا عن سوء المقال والفعال لما احتيج إلى تكثير القيل والقال ودلت الآية على أن الظهار أكثر خطأ من الحنث في اليمين لكون كفارته أغلظ من كفارة الحنث واللام في لتؤمنوا للحكمة والمصلحة لأنها إذا قارنت فعل الله تكون للمصلحة لأنه الغني المطلق وإذا قارنت فعل العبد تكون للغرض لأنه المحتاج المطلق فأهل السنة لا يقولون لتلك المصلحة غرضاً إذ الغرض في العرف ما يستكمل به طالبه استدفاعاً لنقصان فيه يتنفر عنه طبعه والله منزه عن هذا بلا خلاف والمعتزلة يقولون بناء على أنه هو الشيء الذي لأجله يراد المراد ويفعل عندهم ولو قلنا بهذا المعنى لكنا قائلين بالغرض وهم لو قالوا بالمعنى لما كنا قائلين به {وَتِلْكَ} إشارة الأحكام المذكورة من تحريم الظهار وإيجاب العتق للواجد وإيجاب الصوم لغير الواجد إن استطاع وإيجاب الإطعام لمن لم يسطع
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
{حُدُودُ اللَّهِ} التي لا يجوز
394
(9/321)
تعديها وشرائعه الموضوعة لعباده التي لا يصح تجاوزها إلى ما يخالفها جمع حد وهو في اللغة المنع والحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وحد الزنى وحد الخمر سمي بذلك لكونه مانعاً لمتعاطيه عن المعاودة لمثله وجميع حدود الله على أربعة أضرب أماشي لا يجوز أن يتعدى بالزيادة عليه وإلا القصور عنه كأعداد ركعات صلاة الفرض وإما شيء يجوز الزيادة عليه ولا يجوز النقصان منه وإما شيء يجوز النقصان منه ولا يجوز الزيادة عليه وإما شيء يجوز الزيادة عليه والنقصان منه كما في المفردات {وَلِلْكَـافِرِينَ} أي الذين لا يعملون بها ولا يقبلونها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} عبر عنه بذلك للتغليظ على طريقة قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين يعني أن إطلاق الكفر لتأكيد الوجوب والتغليظ على تارك العمل لا لأنه كفر حقيقة كما يزعمه الخوارج قال بعضهم في قوله عليه السلام : من ترك الصلاة فقد كفر أي قارب الكفر يقال : دخل البلدة لمن قاربها قال في برهان القرآن قوله وللكافرين عذاب أليم وبعده وللكافرين عذاب مهين لأن الأول متصل بضده وهوا لإيمان فتوعدهم على الكفر العذاب الأليم هو جزاء الكافرين والثاني متصل بقوله كبتوا وهو الإذلال والإهانة فوصف العذاب مثل ذلك فقال : وللكافرين عذاب مهين انتهى والأليم بمعنى المؤلم أي الموجع كالبديع بمعنى المبدع أو بمعنى المتألم لكن أسند مجازاً إلى العذاب مبالغة كأنه في الشدة بدرجة تتألم بها نفسه وفي إثبات العذاب للكافرين حث للمؤمنين على قبول الطاعة ولما نزلت هذه الآيات الأربع تلاها عليه السلام فقال لأوس بن الصامت رضي الله عنه : هل تستطيع عتق رقبة قبل إذن يذهب جل مالي؟ قال : فصيام شهرين متتابعين قال : يا رسول الله إذا لم آكل اليوم ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني قال : فإطعام ستين مسكيناً قال : لا إلا أن تعينني عليه قال : أعينك بخمسة عشر صاعاً وأنا داع لك بالبركة وتلك البركة بقيت في إله كما في عين المعاني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
يقول الفقير في وجوه الأحكام المذكورة إما وجه العتق فلان العاصي استحق النار بعصيانه العظيم فجعل عتق المملوك فداء لنفسه من النار كما قال عليه السلام : من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إرباً منه من النار ودل تقييد الرقبة بالمؤمنة على أفضلية إعتاق المؤمن وأيضاً إن ثمن العبد أكثر غالباً من فدية الإطعام والمال يعد من النفس لشدة علاقة النفس به ففي بذله تخليص لها من رذيلة البخل وتنحية لها عن النار وأما الوجه في الصيام فلأن الأصل فيه صيام شهر رمضان وهو ثلاثون يوماً ففي صيام ستين يوماً تضعيف المشقة وتشديد المحنة على النفس وأما الوجه في إطعام المساكين إما في نفس الإطعام فلأن الصوم التخلق بوصف الصمدية فإذا فات عنه ذلك لزوم المعالجة بضده وهو الإطعام لأن في بذل المال إذابة النفس كما في الصوم ومن هذا يعرف سر التنزيل من الرقبة إلى الصوم ثم منه إلى الإطعام وإما في عدد المساكين فلأن الإطعام بدل من الصيام وخلف له فروعي فيه من العدد ما روي في الصيام ويجوز أن يقال إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من ستين نوعاً من طبقات الأرض فأمر بإطعام ستين مسكيناً من أولاد آدم حتى تقع المكافأة لجميع أولاده لأنه لا يخرج أحد
395
منهم عن هذه الستين نوعاً وأيضاً سر العدد كون عمر هذه الأمة بين الستين والسبعين فمن راعى العدد فكأنما عبد الله ستين سنة التي هي مبلغ عمره ومنتهى أمده بحسب الغالب فيتخلص من النار ولكن فيه إشارة إلى فضيلة الوقت فإنه إذا فات العمل من محله لا يخير بالقضاء بكماله الأولى بل يصير ساقطاً عن درجة الكمال الأولى بستين درجة ولذا وجب صيام ستين وإطعامها.
قال المولى الجامي :
هردم از عمر كرامى هست كنج بي بدل
ميرود كنجى نين هر لحظه برباد آخ آخ
وقال الشيخ سعدي :
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/322)
وفي الآية إشارة إلى أن النفس مطية الروح وزوجته فإذا ظاهر زوج الروح من زوجة النفس بقطع الاستمتاع عنها لغلبة الروحانية عليها ثم بحسب الحكمة الإلهية المقتضية لتعلق زوج الروح مع زوجة النفس أراد أن يستمتع منها فعلى زوج الروح يجب من طريق الكفارة تحرير رقبة عن ذلك الاستمتاع والتصرف فيها بأن لا يستمتع ولا يتصرف فيها إلا بأمر الحق ومقتضى حكمته لا بمقتضى طبعه ومشتهيات هواه فإنه لا يجوز له وعلى تقدير شدة اشتباك زوج الروح بزوجة النفس وقوة ارتباطهما الذاتية ارتباط الراكب بالمركوب وارتباط ربان السفينة بالسفينة إن لم يقدر على تحرير رقبة عن هذا الارتباط فيجب على زوج الروح أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا يعني أن يمسك نفسه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار من غير تخلل التفات وإن لم يتمكن من قطع هذا التفات لبقاء بقية من بقايا أنانيته فيه فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية المستهلكة تحت سلطنة النفس وصفاتها ليقيمهم على التخلق بالأخلاف الإلهية والتحقق بالصفات الروحانية {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي عادونهما ويشاقونهما وكذا أولياء الله فإن من عادى أولياء الله فقد عادى الله وذلك لأن كلاً من المتعاديين كما أنه يكون في عدوة وشق غيره عدوة الآخر وشقه كذلك يكون في حد غير حد الآخر غير أن لورود المحادة في أثناء ذكر حدود الله دون المعاداة والمشاقة من حسن الموقع ما لا غاية وراءه وبالفارسية مخالفت ميكنند باخدا ورسول او از حدود امر ونهي تجاوز مينمايند.
وقال بعضهم : المحادة مفاعلة من لفظ الحديد ولمراد المقابلة بالحديد سواء كان في ذلك حديد حقيقة أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد وقال بعضهم في معنى الآية يحادون أي يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما ففيه وعيد عظيم للملوك والأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموها القانون ونحوه :
ادشاهى كه طرح ظلم افكند
اى ديوار ملك خويش بكند
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
وفي الآية إشارة إلى أن النفس مطية الروح وزوجته فإذا ظاهر زوج الروح من زوجة النفس بقطع الاستمتاع عنها لغلبة الروحانية عليها ثم بحسب الحكمة الإلهية المقتضية لتعلق زوج الروح مع زوجة النفس أراد أن يستمتع منها فعلى زوج الروح يجب من طريق الكفارة تحرير رقبة عن ذلك الاستمتاع والتصرف فيها بأن لا يستمتع ولا يتصرف فيها إلا بأمر الحق ومقتضى حكمته لا بمقتضى طبعه ومشتهيات هواه فإنه لا يجوز له وعلى تقدير شدة اشتباك زوج الروح بزوجة النفس وقوة ارتباطهما الذاتية ارتباط الراكب بالمركوب وارتباط ربان السفينة بالسفينة إن لم يقدر على تحرير رقبة عن هذا الارتباط فيجب على زوج الروح أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا يعني أن يمسك نفسه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار من غير تخلل التفات وإن لم يتمكن من قطع هذا التفات لبقاء بقية من بقايا أنانيته فيه فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية المستهلكة تحت سلطنة النفس وصفاتها ليقيمهم على التخلق بالأخلاف الإلهية والتحقق بالصفات الروحانية {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي عادونهما ويشاقونهما وكذا أولياء الله فإن من عادى أولياء الله فقد عادى الله وذلك لأن كلاً من المتعاديين كما أنه يكون في عدوة وشق غيره عدوة الآخر وشقه كذلك يكون في حد غير حد الآخر غير أن لورود المحادة في أثناء ذكر حدود الله دون المعاداة والمشاقة من حسن الموقع ما لا غاية وراءه وبالفارسية مخالفت ميكنند باخدا ورسول او از حدود امر ونهي تجاوز مينمايند.
وقال بعضهم : المحادة مفاعلة من لفظ الحديد ولمراد المقابلة بالحديد سواء كان في ذلك حديد حقيقة أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد وقال بعضهم في معنى الآية يحادون أي يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما ففيه وعيد عظيم للملوك والأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموها القانون ونحوه :
ادشاهى كه طرح ظلم افكند
اى ديوار ملك خويش بكند
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
{كُبِتُوا} أي اخزوا يعني خوار ونكو نسار كرده شوند.
وفي المفردات : الكبت الرد بعنف وتذليل وفي القاموس كبته يكبته صرعه وأخزاه وصرفه وكسره ورد العدو بغيظه
396
(9/323)
وأذله قال ابن الشيخ وهو يصلح لأن يكون دعاء عليهم وأخباراً عما سيكون بالماضي لتحققه أي سيكبتون ويدخل فيهم المنافقون والكافرون جميعاً أما الكافرون فمحادتهم في الظاهر والباطن وأما المنافقون ففي الباطن فقط {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام مثل أقوام نوح وهود وصالح وغيرهم.
وكان السري رحمه الله يقول : عجبت من ضعيف عصى قوياً فيقال له : كيف ذلك ويقول وخلق الإنسان ضعيفاً {وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ} حال من واو كبتو أي كبتوا أي كبتوا لمحادتهم والحال إنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم أو آيات بينات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به والسؤال بأن الإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يتصور في الأجسام ولآيات التي هي من الكلام من الإعراض الغير القارة فكيف يتصور الإنزال فيها مجاب عنه بأن المراد منه إنزال من يتلقف من الله ويرسل إلى عباده تعالى فيسند إليها مجازاً لكونها المقصودة منه أو المراد منه الإيصال والإعلام على الاستعارة {وَلِلْكَـافِرِينَ} بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم منا لإهانة بمعنى التحقير والمراد عذاب الكبت الذي هو في الدنيا فيكون ابتداء كلام أو عذاب الآخرة فيكون للعطف بمعنى أن لهم الكبت في الدنيا ولهم عذاب مهين في الآخرة فهم معذبون في الدارين قال بعضهم : وصف الله العذاب الملحق بالكافرين أولاً بالإيلام وثانياً بالإهانة لأن الإيلام يلحق بهم أولاً ثم يهانون به وإذا كانت الإهانة ما في الآخرة فالتقديم ظاهر وقد سبق غير هذا وفي الآية إشارة إلى أن من يعادون مظاهر الله وهم الأولياء المتحققون بالله المجتمعون بأسماء الله ويشاققون مظاهر رسوله وهم العلماء القائمون بأحكام الشرائع حجوا وأفحموا بأبلغ الحجج وأظهر البراهين من الكرامات الظاهرة ونشر العلوم الباهرة وكيف لا وقد أنزلنا بصحة ولا يتهم وآثار وراثتهم آيات بينات فمن سترها بستائر ظلمات إنكاره قله عذاب القطيعة الفظيعة والإهانة من غير إبانة
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} منصوب باذكر المقدر تعظيماً لليوم وتهويلاً له والمراد يوم القيامة أي يحييهم الله بعد الموت للجزاء {جَمِيعًا} أي كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث فيكون تأكيداً للضمير أو مجتمعين في حالة واحدة فيكون حالاً منه {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} من القبائح ببيان صدورها منهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد وتخجيلاً لهم وتشهيراً لحالهم وتشديداً لعذابهم واإلا فلا فائدة في نفس الأنباء لينبهوا على ما صدر منهم {أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ} كأنه قيل كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض منقضية متلاشية فقيل : إحصاه الله أي أحاط به عدداً وحفظه كما عمله لم يفت منه شيء ولم يغب قال الراغب : الإحصاء التحصيل بالعدد يقال أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصى واستعمال ذلك فيه لأنهم كانوا يعتمدون اعتماد نافيه على الأصابع وقال بعضهم : الإحصاء عد بإحاطة وضبط إذ أصله العدد بآحاد الحصى للتقوى في الضبط فهو أخص من العد لعدم لزوم الإحاطة فيه {وَنَسُوهُ}
397
والحال أنهم قد نسوه لكثرته أو لتهاونهم حين ارتكبوه لعدم اعتقادهم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} لا يغيب عنه أمر من الأمور فالشهيد بمعنى الشاهد من الشهود بمعنى الحضور وكفته اندركواهست ومناسب آن مكافات خواهد فرمود وكسى كواهى اورد نتواند كرد :
حاكم ز حكم دم نزندكر كواه نيست
حاكم كه خود كواه بود قصه مشكلست
فلا بد من استحضار الذنوب والبكاء عليها وطلب التوبة من الله الذي يحصى كل شيء ولا ينساه قبل أن يجيىء ثوم يفتضح فيه المصر على رؤوس الإشهاد ولا يقبل الدعاء والمعذرة من العباد.
واعلم أن القول بأنه تعالى شهيد قول بأنه حاضر لكن بالحضور العلمي لا بالحضور الجسماني فإنه منزه عن ذلك فقول من قال الله حاضر محمول على الحضور العلمي فلا وجه لا كفار قائله مع وجوده في القرآن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} استشهاد على شمول شهوده تعالى والهمزة للإنكار المقرر بالرؤية لما أن الإنكار نفي معنى ونفي النفي يقرر الإثبات فتكون الرؤية ثابتة مقررة والخطاب للرسول عليه السلام أو لكل من يستحق الخطاب والمعنى ألم تعلم علماً يقينياً بمرتبة المشاهدة إنه تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/324)
ـ روي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدثون فقال أحدهم : أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر يعلم بعضاً وقال الثالث إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقط علمها كلها لأن كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم فنزلت الآية {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ} ما نافية ويكون تامة بمعنى يوجع ويقع ومن مقحم ونجوى فاعله وهو مصدر بمعنى التناجي كالشكوى بمعنى الشكاية يقال نجاه نجوى ونجوى ساره كناجاه مناجاة والنجوى السر الذي يكتم اسم ومصدر كما في القاموس وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض أي مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله كأن المتنجاي بنجوة من الأرض لئلا يطلع عليه أحد والمعنى ما يقع من تناجي ثلاثة نفر ومسارتهم فالنجوى مصدر مضاف إلى فاعله {إِلا هُوَ} أي الله تعالى {رَابِعُهُمْ} أي جاعلهم أربعة من حيث أنه تعالى يشاركهم في الاطلاع عليها كما قال الحسين النوري قدس سره : إلا هو رابعهم علماً وحكاً لا نفساً وذاتاً وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما يوجد في حال ما إلا في هذه الحال وفي الكلام اعتبار التصيير قال النصر أبادي : من شهد معية الحق معه زجره عن كل مخالقة وعن ارتكاب كل محذور ومن لا يشاهد معيته فإنه متخط إلى الشبهات والمحارم {وَلا خَمْسَةٍ} أي ولا نجوى خمسة نفر {إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} أي إلا وهو تعالى جاعلهم ستة في الاطلاع على ما وقع بينهم وتخصيص العددين بالذكر لخصوص الواقعة لأن المنافقين المجتمعين في النجوى كانوا مرة ثلاثة وأخرى خمسة ويقال إن التشاور غالباً إنما يكون من ثلاثة إلى ستة ليكونوا أقل لفظاً وأجدر رأياً وأكتم سراً ولذا ترك عمر رضي الله عنه حين علم بالموت أمر الخلافة شورى بين ستة أي على أن يكون أمر الخلافة بين ستة ومشاورتهم واتفاق رأيهم وفي الثلاثة إشارة إلى الروح والسر والقلب وفي الخمسة إليها بإضافة
398
النفس والهوى ثم عمم الحكم فقال : {وَلا أَدْنَى مِن ذَالِكَ} أي أقل مما ذكر كالاثنين والواحد فإن الواحد أيضاً يناجي نفسه وبالفارسية وبه كمتر باشد ازسه عدد {وَلا أَكْثَرَ} كالستة وما فوقها {إِلا هُوَ مَعَهُمْ} أي الله مع المتناجين بالعلم والسماع يعلم ما يجري بينهم ولا يخفى عليه ما هم فيه فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم وقد تعالى عن المشاهدة والحضور معهم حضوراً جسمانياف {أَيْنَ مَا كَانُوا} أي في أي مكان كانوا منا لأماكن ولو كانوا تحت الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قرباً وبعداً :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
أين معيت درنيابد عقل وهوش
زين معيت دم مزن بنشين خموش
قرب حق بابنده دورست از قياس
بر قياس خود منه آنرا اساس
قال بعض العارفين : اكر مؤمنان امت احمدوا خود اين تشريف يودى كه رب العالمين درين سوره ميكويد كه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله هو معهم تمام بودى أصحاب كهف را باجلال رتبت ايشان وكمال منزلت ميكويد.
ثلاثة رابعهم كلبهم ويوقولن خمسة سادسه كلبهم فانظر كم من فرق بين من كان الله رابعهم وسادسهم وبين من كان أخس الحيوانات رابعهم وسادسهم وحظية المؤمن من المعية أن يعلم أن الخير في أن يكون جليسه صالحاً وكلامه نافعاً ولا يتكلم بما لا طائل تحته فيكون عيباً في صحيفته وعبثاً في صحبته ومعية الله تعالى على العموم كما صرح به قوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم ثم إنه قد يكون له تعالى معية مخصوصة ببعض عباده بحسب فيضه وإيصال لطفه إليه ونحو ذلك {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} أي يخبرهم بالذي عملوه في الدنيا {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} تفضيحاً لهم وإظهاراً لما يوجب عذابهم {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء يعني نسبت علم أو باهمه معلومات يكسانست حالات أهل آسمانرا نان داندكه حالات اهل زمين را وعلم أو بمخفيات أمور بدان وجه احاطه كندكه بجليات :
نهان وآشكارا هردو يكسانست بر علمت
نه اين رازود تربينى نى آنرا ديد تردانى
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/325)
أنه العالم بكل شيء راقبه في كل شيء واكتفى بعلمه في كل شيء فكان واثقاً به عند كل شيء ومتوجهاً له بكل شيء قال ابن عطاء الله : متى علمت عدم أقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك فارجع إلى علم الله فيك فإن كان لا يقنعك علمه فيك فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم انتهى والتخلق بهذا الاسم تحصيل العلم وإفادته للمحتاجين إليه ومن أدمن ذكر يا علام الغيوب بصيغة النداء إلى أن يغلب عليه منه حال فإنه يتكلم بالمغيبات ويكشف ما في الضمائر وترقى روحه إلى أن يرقى في العالم العلوي ويتحدث بأمور الكائنات والحوادث قال الفقهاء : من قال بأنعالم بذاته أي لا عالم بعلمه قادر بذاته أي لا قادر بقدرته يعني لا يثبت له صفة العلم القائمة بذاته ولا صفة القدرة كالمعتزلة والجهمية يحكم بكفره لأن نفي الصفات الإلهية كفر قال الرهاوي : من أقر بوحدانية الله وأنكر الصفات كالفلاسفة والمعتزلة لا يكون إيمانه معتبراً كذا قالوا وفيه شيء بالنسبة إلى المعتزلة فإنهم من أهل القبلة ومن ثمة قال في شرح العقائد والجمع بين قولهم لا يكفر أحد من أهل
399
القبلة وقولهم بكفر من قال بخلق القرآن واستحالة الرؤية وسب الشيخين وأمثال ذلك مشكل انتهى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتحلقون ثلاثة وخمسة ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون أن يغيظوهم فنهاهم رسول الله عليه السلام ثم عادوا لمثل فعلهم والخطاب للرسول والهمزة للتعجب من حالهم وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة قال الخدري رضي الله عنه : خرج عليه السلام ذات ليلة ونحن نتحدث فقال : هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى فقلنا : تبنا إلى الله إنا كنا في حديث الدجال قال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم منه هو الشرك الخفي يعني المرآة {وَيَتَنَـاجَوْنَ} وراز ميكويند {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} عطف على قوله : يعودون داخل في حكمه وبيان لما نهوا عنه لضرره في الدين أي بما هو إثم في نفسه وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول والعدوان الظلم والجور والمعصية خلاف الطاعة {وَإِذَا جَآءُوكَ} وون برتو آنيد.
يعني أهل النجوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
{حَيَّوْكَ} ترا تحيت وسلام كنند والتحية في الأصل مصدر حياك على الاخبار من الحياة فمعنى حياك الله جعل لك حياة ثم استعمل للدعاء بها ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام فكل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول حياة أو سبب حياة إما في الدنيا وإما في الآخرة {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} أي بشيء لم يقع من الله أن يحييك به فيقولون السام عليك والسام بلغة اليهود.
مرك است ياقتل بشمشير.
وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليك وكان عليه السلام يرد عليهم فيقول : عليكم بدون الواو ورواية وعليكم بالواو خطأ كذاف ي عين المعاني أو يقولون : أنعم صباحاً وهو تحية الجاهلية من النعومة أي ليصر صباحك ناعماً ليناً لا بؤس فيه والله سبحانه يقول : وسلام على المرسلين واختلفوا في رد السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجد لظاهر الأمر بذلك وقال مالك : ليس بواجب فإن رددت فقل : عليك وقال بعضهم : يقول في الرد علاك السلام أي ارتفع عنك وقال بعض المالكية : يقول في الرد : السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة {وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ} أي فيما بينهم إذا خرجوا من عندك {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} لولا تحضيضية بمعنى هلا أي هلا يعذبنا الله ويغضب علينا يوقهرنا بجراءتنا على الدعاء بالشر على محمد لو كان نبياً حقاً {حَسْبُهُمْ} س است ايشانرا {جَهَنَّمُ} عذاباً مبتدأ وخبر أي محسبهم وكافيهم جهنم في التعذيب من أحسبه إذا كفاه {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها ويقاسون حرها لا محالة وإن لم يعجل تعذيبهم لحكمة والمراد الاستهزاء بهم والاستخفاف بشأنهم لكفرهم وعدم إيمانهم {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي جهنم قال في برهان القرآن : الفاء لما فيه من معنى التعقيب أي فبئس المصير ما صاروا إليه وهو جهنم انتهى قال بعض المفسرين وقولهم ذلك من جملة ما غفلوا عما عندهم من العلم فإنهم كانوا أهل كتاب يعلمون أن بعض الأنبياء قد عصاه أمته وآذوه ولم يعجل تعذيبهم لحكمة ومصلحة علمها عند الله تعالى انتهى.
ثم إن الله يستجيب دعاء رسول الله عليه السلام كما روى أن عائشة رضي الله عنها سمعت
400
قول اليهود فقالت : عليكم السام والذام واللعن فقال عليه السلام : يا عائشة ارفقي فإن الله يحب الرفق في كل شيء ولا يحب الفحش والتفحش ألا سمعت ما رددت عليهم فقلت عليكم فيستجاب لي فيهم وقس عليه حال الورثة الكاملين فإن أنفاسهم مؤثرة فمن تعرض لواحد منهم بالسوء فقد تعرض لسوء نفسه وفي البستان :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/326)
كزيرى باهى در افتاده بود
كه از هول او شير نرماده بود
همه شب زفرياد وزراى نخفت
يكى بر سرش كوفت سنكى وكفت
توهر كز رسيدى بفرياد كس
كه ميخواهى امروز فرياد رس
كه بر جان ريشت نهد مرهمى
كه جانها بنالد زدستت همى
تومارا همى اه كندى براه
بسر لا جرم بر فتادى باه
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بألسنتهم وقلوبهم {إِذَا تَنَـاجَيْتُمْ} ون راز كوييد بايكديكره يعني في أنديتكم وخلواتكم {فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ} كما يفعله المنافقون واليهود {وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول قال سهل رحمه الله بذكر الله وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وحده لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيكم بكل ما تأتون وما تذرون.
يعني بسوى أو جمع كرده خواهيد شد س از موت.
دلت الآية على أن التناجي ليس بمنهي عنه مطلقاً بل مأمور به في بعض الوجوه إيجاباً واستحباباً وإباحة على مقتضى المقام إن قيل كيف يأمر الله بالاتقاء عنه وهو المولى الرحيم والقرب منه ألذ المطالب والأنس به أقصى المآرب فالتقوى توجب الاجتناب والحشر إليه يستدعى الإقبال إليه يجاب بأن في الكلام مضافاً إذا التقدير واتقوا عذاب اًّ أو قهر الله أو غيرهما فإن قيل إن العبد لو قدر على الخلاص من العذاب والقهر لأسرع إليه لكنه ليس بقادر عليه كما قال تعالى إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله والأمر إنما يكون بالمقدور لا يكلف الله نفساً إلا وسعها أجيب بأن المراد الاتقاء عن السبب من الذنوب والمعاصي الصادرة عن العبد العاصي فالمراد واتقوا ما يفضي إلى عذاب الله ويقتضي قهره في الدارين من الإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي السبب الموجب لذلك فالمراد النهي عن مباشرة الأسباب والأمر بالاجتناب عنها إن قيل إن ذلك الاتقاء إنما يكون بتوفيق الله له فإن وفق العبد له فلا حاجة إلى الأمر به وإن لم يوفقه فلا قدرة له عليه والأمر إنما يحسن في المقدور أجيب بأنه تعالى علمه الحق أولاً ووهب له إرادة جزئية يقدر بها على اختيار شيء فله الاختيار السابق على إرادة الله تعالى ووجود الاختيار في الفاعل المختار أمر يطلع عليه كل أحد حتى الصبيان
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
{إِنَّمَا النَّجْوَى} المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان بقرينة ليحزن {مِنَ الشَّيْطَـانِ} لا من غيره فإنه المزين لها والحامل عليها فكأنها منه {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} خبر آخر من الحزن بالضم بعده السكون متعد من الباب الأول لا من الحزن بفتحتين لازماً من الرابع كقوله تعالى : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيكون الموصول مفعوله وفي القاموس
401
الحزن بالضم ويحرك الهم والجمع أحزان وحزن كفرح وحزنه الأمر حزناً بالضم وأحزنه جعله حزيناً وحزنه جعل فيه حزناً وقال الراغب : الحزن والحزن خشونة في الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم ويضاده الفرح ولاعتبار الخشونة بالغم قيل : خشنت بصدره إذا أحزنته والمعنى إنما هي ليجعل الشيطان المؤمنين محزونين بتوهمهم أنها في نكبة أصابهم في سيرتهم يعني أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا متألمين بذلك فاترين في تدبير الغزو إلى غير ذلك مما يشوش قلوب المؤنين وفي الحديث : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن قلك يحزنه {وَلَيْسَ} أي الشيطان أو التناجي {بِضَآرِّهِمْ} بالذي يضر المؤمنين {شَيْـاًا} من الأشياء أو شيئاً من الضرر.
يعني ضرر رساننده مؤمنان بيزى {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئته وإرادته أي ما أراده من حزن أو وسوسة ما روي أن فاطمة رضي الله عنها رأت كأن الحسن والحسين رضي الله عنهما أكلا من أطيب جزور بعثه رسول الله إليهما فماتا فلما غدت سألته عليه السلام وسأل هو جبريل ملك الرؤيا فقال : لا علم لي به فعلم أنه من الشيطان وفي الكشاف إلا بإذن الله أي بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة قال في الأسئلة المقحمة : أين ضرب الحزن؟ قلت : إن الحزن إذا سلمت عاقبته لا يكون حزناً في الحقيقة وهذه نكتة أصولية إذ الضرر إذا كانت عاقبته الثواب لا يكون ضرراً في الحقيقة وهذه نكتة أصولية إذ الضرر إذا كانت عاقبته الثواب لا يكون ضرراً في الحقيقة والنفع إذا كانت عاقبته العذاب لا يكون نفعاً في الحقيقة {وَعَلَى اللَّهِ} خاصة {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ليفوضوا أمورهم إليه وليثقوا به ولا يبالوا بنجواهم فإنه تعالى يعصمهم من شرها وضررها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/327)
دكر بما سخن خصم تندخوى مكوى كه اهل مجلس مارا ازان حسابي نيست وفي الآية إشارة إلى أن الشيطان يناجي النفس الأمارة ويزين لها المعارضات ونحوها ليقع القلب والروح في الحزن والاضطرار وضيق الصدر ويتقاعد إن من شؤم المعارض عن السير والطير في عالم الملكوت ويحرمان من مناجاة الله تعالى في عالم السر لكنهما محروسان برعاية الحق وتأييده ومنه يعلم أن كل مخالفة فهي في النفس والطبيعة والشيطان لأنها ظلمانية وإن كل موافقة فهي في القلب والروح والسر لأنها نورانية إلا أن يغلب عليها ظلمة أهل الظلمة وتختفي أنوارها تحت تلك الظلمة اختفاء نور الشمس تحت ظلمة السحاب الكثيف فليكن العبد على المعالجة دائماً لكن ينبغي له التوكل التام فإن المؤثر في كل شيء هو الله تعالى يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} يعني المخلصين {إِذَا قِيلَ لَكُمْ} من أي قائل كان من الإخوان {تَفَسَّحُوا} التفسح جاى فراخ كردن وفراخ نشتن در مجلس.
وكذا الفسح لكن التفسح يعدي بفي والفسح باللام أي توسعوا ليفسح بعضكم عن بعض ولا تتضاموا من قولهم افسح أعني أي تنح وأنت في فسحة من دينك أي في وسعة ورخصة وفلان فسيح الخلق أي واسع الخلق {فِى الْمَجَـالِسِ} قال في الإرشاد متعلق بقيل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
يقول الفقير : الظاهر أنه متعلق بقوله تفسحوا لأن البيهقي صرح في تاج المصادر بأن التفسح يعدي بفي على ما أشرنا إليه آنفاً {فَافْسَحُوا} س جاى كشاده كنيد بر مردم {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} أي
402
في كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغيرها فإن الجزاء من جنس العمل والآية عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجرة سواء كان مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانوا يتضامون تنافساً في القرب منه عليه السلام وحصراً على استماع كلامه أو مجلس حرب وكانوا يتضامون في مراكز الغزاة ويأتي الرجل الصف ويقول : تفسحوا ويأبون لحرصهم على الشهادة أو مجلس ذكر أو مجلس يوم الجمعة وإن كل واحد وإن كان أحق بمكان الذي سبق إليه لكنه يوسع لأخيه ما لم يتأذ لذلك فيخرجه الضيق من موضعه وفي الحديث "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا" وفي رواية "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا" وقيل : إن رجلاً من الفقراء دخل المسجد وأراد أن يجلس بجنب واحد من الأغنياء فلما قرب منه قبض الغني إليه ثوبه فرأى رسول الله عليه السلام ذلك فقال للغني : أخشيت أن يعديه غناك ويعديك فقره وفيه حث على التواضع والجلوس مع الفقراء والتوسعة لهم في المجالس وإن كانوا شعثاً غبراً {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا} يقال نشز الرجل إذا نهض وارتفع في المكان نشزاً والنشز كالفلس وكذا النشز بفتحتين المكان المرتفع من الأرض ونشز فلان إذا قصد نشزاً ومنه فلان عن مقره وقلت ناشز ارتفع عن مكانه رعباً والمعنى وإذا قيل لكم قوموا للتوسعة على المقبلين أي على من جاء بعدكم {فَانشُزُوا} فارتفعوا وقوموا يعني إذا كثرت المزاحمة وكانت بحيث لا تحصل التوسعة بتنحي أحد الشخصين عن الآخر حال قعود الجماعة وقيل : قوموا جميعاً تفسحوا حال القيام فانشزوا ولا تثاقلوا عن القيام أو إذا قيل لكم قوموا عن مواضعكم فانتقلوا منها إلى موضع آخر لضرورة داعية إليه أطيعوا من أمركم به وقوموا من مجالسكم وتوسعوا لإخوانكم ويؤيده أنه عليه السلام كان يكرم أهل بدر فأقبلت جماعة منهم فلم يوسعوا لهم فقال عليه السلام : قم يا فلان ويا فلان فأقام من المجلس بعدد المقبلين من أهل بدر فتغامز به المنافقون أنه ليس من العدل أن يقيم أحداً من مجلسه وشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف رسول الله عليه السلام الكراهية في وجوههم فأنزل الله الآية فالقائل هو الرسول عليه السلام ويقال وإذا قيل انشزوا أي انهضوا عن مجلس رسول الله إذا أمرتم بالنهوض عنه فانهضوا ولا تملوا رسول الله بالارتكان فيه أو انهضوا إلى الصلاة أو إلى الجهاد أو الشهادة أو غير ذلك من أعمال الخير فانهضوا ولا تتنيطوا ولا تفرطوا فالقائل يعم الرسول وغيره
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/328)
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ} جواب للأمر أي من فعل ذلك طاعة للأمر وتوسعة للإخوان يرفعهم الله بالنصر وحسن الذكر في الدنيا والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة لأن من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه فالمراد الرفعة المطلقة الشاملة للرفعة الصورية والمعنوية {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي ويرفع العلماء منهم خاصة فهو من عطف الخاص على العام للدلالة على علو شأنهم وسموا مكانهم حتى كأنهم جنس آخر {دَرَجَـاتٍ} أي طبقات عالية ومراتب مرتفعة بسبب ما جمعوا من العلم والعمل فإن العلم لعلو درجته يقتضي للعمل المقرون به مزيد رفعة لا يدرك شاءوه العمل الغاري عنه وإن كان في غاية الصلاح ولذا يقتدي بالعالم في أفعاله ولا يقتدي بغيره فعلم من هذا التقرير
403
أنه لا شركة للمعطوف عليه في الدرجات كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ثم الكلام عند قوله منكم وينتصب الذين أوتوا العلم بفعل مضمر أي ويرفعهم درجات وانتصاب درجات إما على إسقاط الخافض أي إلى درجات أو على المصدرية أي رفع درجات فحذف المضاف أو على الحالية من الموصول أي ذوي درجات {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بعلمكم أو بالذي تعملونه {خَبِيرٌ} عالم لا يخفى عليه شيء منه لا ذاته جنساً أو نوعاً ولا كيفيته إخلاصاً أو نفاقاً أو رياء أو سمعة ولا كميته قلة أو كثرة فهو خبير بتفسحكم ونشزكم ونيتكم فيهما فلا تضيع عند الله وجعله بعضهم تهديداً لمن يمتثل بالأمر أو استكرهه فلا بد من التفسح والطاعة وطلب العلم الشريف ويعلم من الآية سر تقدم العالم غلى غيره في المجالس والمحاضر لأن الله تعالى قدمه وأعلاه حيث جعل درجاته عالية وفي الحديث "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" أي فضل العالم الباقي بالله على العابد الفاني في الله كما في التأويلات النجمية وقال في عين المعاني : المراد علم المكاشفة في ما ورد فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي إذ غيره وهو علم المعاملة تبع للعمل لثبوته شرطاً له إذ العمل إنما يتعد به إذا كان مقروناً بعلم المعاملة قال بعضهم : المتعبد بغير علم كحمار الطاعونة يدور ولا يقطع المسافة :
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 43 من صفحة 404 حتى صفحة 414
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
علم ندانكه بيشترتى خوانى
ون عمل در تونيست ناداني
وحيث يمدح العلم فالمراد به العلم المقرون بالعمل :
رفعت آدمى بعلم بود
هركرا علم بيش رفعت بيش
قيمت هركسى بدانش اوست
سازدا فرون بعلم قيمت خويش
وقال بعضهم :
مرا بتجربه معلوم كشت آخر حال
كه عزمرد بعلم است وعز علم بمال
وعن بعض الحكماء ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم وكل علم لم يوطد بعمل فإلى ذل يصير وعن الزهري رضي الله عنه العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال قال مقاتل : إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة يقال له لست بعالم ادخل الجنة بعملك ويقال للعالم قف على باب الجنة واشفع للناس وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لأن أعلم مسألة أحب إلي من أن أصلي مائة ركعة ولأن أعلم مسألة أحب إلى من أن أصلي أرف ركعة قال أبو هريرة : وأبو ذر رضي الله عنهما : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : إذا جاء الموت طالب العلم على هذه الحال مات وهو شهيد.
واعلم أن جميع الدرجت إما باعتبار تعدد أصحابها فإن لكل عالم رباني درجة عالية أو باعتبار تعددها لقوله عليه السلام : بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجة حضر الجواد المضمر سبعين سنة الحضر بضم الحاء المهملة ارتفاع الفرس في عدوه والجواد الفرس السريع السير وتضمير الفرس أن تعلفه حتى يسمن ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوماً والمضمار الموضع يضمر فيه الخيل وغاية الفرس في السباق يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالإيمان الخالص {إِذَا نَـاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} المناجاة باكسى راز كفتن.
أي إذا كالمتموه سراً في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته عليه السلام
404
ومكالمته سراً بالفارسية : ون خواهيدكه راز كوييد يا رسول وفي بعض التفاسير إذا كالمتموه سراً استفسار الحال ما يرى لكم من الرؤيا ففيه إرشاد للمقتدين إلى عرضها على المقتدى بهم ليعبروها لهم ومن ذلك عظم اعتبار الواقعات وتعبيرها بين أرباب السلوك حتى قيل إن على المريد أن يعرض واقعته على شيخه سواء عبر الشيخ أو لم يعبر فإن الله تعالى قال : إن الله تعالى يأمركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها وهي من جملة الأمانة عند المريد لا بد أن يؤديها إلى الشيخ لما فيها من فائدة جليلة له وقوة لسلوكه وفي التعبير أثر قوي على ما قال عليه السلام الرؤيا على ما أولت
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/329)
{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاـاكُمْ صَدَقَةً} أي فتصدقوا قبلها على المستحق كقول عمر رضي الله عنه : أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته فهو مستعار ممن له يدان على سبيل التخييل فقوله : نجواكم استعارة بالكناية وبين يدي تخييلية وفي بعض التفاسير إذا أردتم عرض رؤياكم عليه ليعبرها لكم فتصدقوا قبل ذلك بشيء ليكون ذلك قوة لكم ونفعاً في أموركم والآية نزلت حين أكثر الناس عليه السؤال حتى أسأموه وأملوه فأمرهم الله بتقديم الصدقة عند المناجاة فكف كثير من الناس أما الفقير فلعسرته وأما الغني فلشحه وفي هذا الأمر تعظيم الرسول ونفع الفقراء والزجر عن الإفراط في السؤال والتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه نسخ بقوله تعالى : أشفقتم الآية وهو وإن كان متصلاً به تلاوة لكنه متراخ عنه نزولاً على ما هو شأن الناسخ واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ فقيل : كان ساعة من النهار والظاهر أنه عشرة أيام لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته وفي رواية فاشتريت به عشرة دراهم فكنت إذا جانيته عليه السلام تصدقت بدرهم يعني كنت أقدم بين يدي نجواي كل يوم درهماً إلى عشرة أيام وأسأله خصلة من الخصال الحسنة كما قال الكلبي تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله عليه السلام وهو على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدته وهي عشرة أيام في بعض الروايات إما لعدم المحوج إليها أو الإشفاق وعلى التقديرين لا يلزم مخالفة الأمر وإن كان للإشفاق وفي بعض التفاسير ولا يظن ظان أن عدم عمل غيره من الصحابة رضي الله عنهم بهذا لعدم الإقدام على التصدق كلا كيف ومن المشهور صدقة أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما بألوف من الدراهم والدنانير مرة وحدة فهلا يقدم من هذا شأنه على تصدق دينار أو دينارين وكذا غيرهما فلعله لم يقع حال اقتضت النجوى حينئذ وهذا لا ينافي الجلوس في مجلسه المبارك والتكلم معه لمصلحة دينية أو دنيوية بدون النجوى إذ المناجاة تكلم خاص وعدم الخاص لا يقتضي عدم العام كما لا يخفى وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت الآية دعاني رسول الله فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه قال : فنصل دينار قلت : لا يطيقونه قال : فكم قلت حبة أو شعيرة؟ قال : إنك لزهيد أي رجل قليل المال لزهدك فيه فقدت على حالك وما في بالك
405
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
من الشفقة على المؤمنين وقوله حبة أو شعيرة أي مقدارها من ذهب وعن ابن عمر رضي الله عنه كان لعلي رضي الله عنه ثلاث : لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى قوله حمر النعم بسكون ميم الحمر وهي من أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وإنه ليس هناك أعظم منه قال بعضهم : إن رسم النثارات للملوك والرؤساء مأخوذ من أدب الله تعالى في شأن رسوله حيث قال : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة {ذَالِكَ} التصدق {خَيْرٌ لَّكُمْ} أيها المؤمنون من إمساكه وبالفارسية بهترست مرشمارا زيراكه طاعت بيفزايد {وَأَطْهَرُ} لأنفسكم من دنس الريبة ودرن البخل الناشيء من حب المال الذي هو من أعظم حب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبالفارسية واكيزه تر براى آنكه كناهان محو كند.
وهذا يشعر بالندب لكن قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} منبىء عن الوجوب لأنه ترخيص لمن لم يجد في المناجاة بلا تصدق والمعنى بالفارسية س اكر نيابيد يزى كه صدقه دهيد س خداى تعالى آمر زنده است مركسى راكه اين كناه كند مهر بانست بنده راكه تكليف ما لا يطاق ننمايد.
قال بعض أهل الإشارة : إن الله تعالى أدب أهل الإرادة بهذه الآية أن لا يناجوا شيوخهم في تفسير الإلهام واستفهام علم المكاشفة والأسرار إلا بعد بذل وجودهم لهم والإيمان بهم بشرط المحبة والإرادة فإن الصحة بهذه الصفة خير لقلوبهم وأظهر لنفوسهم فإن ضعفوا عن بعض القيام بحقوقهم ومعهم الإيمان والإرادة وعلموا قصورهم في الحقيقة فإن الله تعالى يتجاوز عن ذلك التقصير وهو رحيم بهم يبلغهم إلى درجة الأكابر.
قال المولى الجامي :
ه سود اى شيخ هرساعت فزون خرمن طاعت
و نتوانى كه يك جواز وجود خويشتن كاهى
(9/330)
{ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاـاكُمْ صَدَقَـاتٍ} الإشفاق الخوف من المكروه ومعنى الاستفهام التقرير كان بعضهم ترك المناجاة للإشفاق ولا ومخالفة للأمر وجمع صدقات لجمع المخاطبين قال في بعض التفاسير أفرد الصدقة أولاً لكفاية شيء منها وجمع ثانياً نظراً إلى كثرة التناجي والمناجى والمعنى أخفتم الفقر يا أهل الغنى من تقديم الصدقات فيكون المفعول محذوفاً للاختصار وأن تقدموا في تقدير لأن تقدموا وأخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
هون عليك ولا تولع بإشفاق
فإنما ما لنا للوارث الباقي
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وبالفارسية س ون نكر ديد اين كاررا {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن رخص لكم في أن لا تفعلوه وأسقط عنكم تقديم الصدقة وذلك لأنه لا وجه لحملها على قبول التوبة حقيقة إذ لم يقع منهم التقصير في حق هذا الحكم بأن وقعت المناجاة بلا تصدق وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم
406
من الانفعال ما قام مقام توبتهم وإذ على بابها يعني الظرفية والمضي بمعنى إنكم تركتم ذلك فيما مضى وتجاوز الله عنكم بفضله فتداركوه بما تؤمرون به بعد هذا وقيل بمعنى إذا للمستقيل كما في قوله إذ الإغلال في أعناقهم ومعنى أن الشرطية وهو قريب مما قبله إلا أن يستعمل فيما يحتمل وقوعه واللاوقوعه {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ} مسبب عن قوله فإذ لم تفعلوا أي فإذ فرطتم فيما أمرتم به من تقديم الصدقات فتداركوه بالمواظبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المفروضة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائر الأوامر فإن القيام بها كالجابر لما وقع في ذلك من التفريط وهو تعميم بعد التخصيص لتتميم النفع {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} عالم بالذي تعملون من الأعمال الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه خافية فيجازيكم عليه فاعملوا ما أمركم به ابتغاء لمرضاته لا لرياء وسمعة وتضرعوا إليه خوفاً من عقوباته خصوصاً بالجماعة يوم الجمعة ومن الأدعية النبوية : اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وفي تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين العبادات المرادة بالأمر بالإطاعة العامة إشارة إلى علو شأنهما وإنافة قدرهما فإن الصلاة رئيس الأعمال البدنية جامعة لجميع أنواع العبادات من القيام والركوع والسجود والقعود من التعوذ والبسملة والقراءة والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والصلاة على النبي عليه السلام ومن الدعاء الذي هو مخ العبادة ومن ذلك سميت صلاة وهي الدعاء لغة فهي عبادة من عبد الله تعالى بها فهو محفوظ بعبادة العابدين من أهل السموات والأرضين ومن تركها فهو محروم منها فطوبى لأهل الصلاة وويل لتاركها وإن الزكاة هي أم الأعمال المالية بها يطهر القلب من دنس البخل والمال من خبث الحرمة فعلى هذا هي بمعنى الطهارة وبها ينمو المال في الدنيا بنفسه لأنه يمحق الله الربا ويربي الصدقات وفي الآخرة بأجره لأنه تعالى يضاعف لمن يشاء وفي الحديث : "من تصدق بقدر تمرة من كسب حلال ولا يقبل الله إلا الثيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" فعلى هذا هي من الزكاء بمعنى النماء أي الزيادة في الستان :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
بدنيا توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حسرت خورى
زر ونعمت آيدكسى رابكار
كه ديوار عقبى كند زر نكار
{أَلَمْ تَرَ} تعجيب من حال المنافقين الذين يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين والخطاب للرسول عليه السلام أو لكل من يسمع ويعقل وتعدية الرؤية بإلى لكونها بمعنى النظر أي ألم تنظر يعني آيانمى نكرى {إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا} من التولي بمعنى المولا ة لا بمعنى الإعراض أي والوا يعني دوست كفتند {قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} وهم اليهود كما أنبأ عنه قوله تعالى من لعنه الله وغضب عليه والغضب حركة للنفس مبدأها إرادة الانتقام وهو بالنسبة إليه تعالى نقيض الرضى أو إرادة الانتقام أو تحقيق الوعيد أو الأخذ الأليم والبطش الشديد أو هتك الأسرار والتعذيب بالنار أو تغيير النعمة {مَّا هُم} أي الذين تولوا {مِنكُم} في الحقيقة {وَلا مِنْهُمْ} أي من القوم المغضوب عليهم لأنهم منافقون
407
(9/331)
مذبذبون بين ذلك فهو وإن كانوا كفاراً في الواقع لكنهم ليسوا من اليهود حالاً لعدم اعتقادهم بما اعتقدوا وعدم وفائهم لهم ومآلا لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والجملة مستأنفة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} الحلف العهد بين القوم والمحالفة المعاهدة والحلف أصله اليمين التي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد ثم عبر به عن كل يمين أي يقولون والله إنا لمسلمون فالكذب المحلوف عليه هو ادعاء الإسلام وهو عطف على تولوا وأدخل في حكم التعجيب وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف وتجدده حسب تكرر ما يقتضيه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس وهو الحلف على فعل أو ترك ماض كاذباً عمداً سمي بالغموس لأنه يغمس صاحبه في الإثم ثم في النار ولم يجعل حلفهم غموساً لأن الغموس حلف على الماضي وحلفهم هذا على الحال والجملة حال من فاعل يحلفون مقيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم إنه كذب في إماية القبح وفي هذه التقييد دلالة على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته للواقع وما لا يعلمه فيكون حجة على النظام والجاحظ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
ـ وروي ـ أنه عليه السلام كان في حجرة من حجراته فقال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان فدخل عبد الله بن نبتل المنافق بتقديم النون على الباء الموحدة كجعفر وكان أزرق فقال له عليه السلام : على م تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال عليه السلام : فعلت فانطلق بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت فالكذب المحلوف عليه على هذه الرواية هو عدم شتمهم {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} بسبب ذلك {عَذَابًا شَدِيدًا} در دنيا بخوارى ورسوايى ودر آخرت بآتش دوزخ والمراد نوع من العذاب عظيم فالنوعية مستفادة من تنكير عذاباً والعظيم من توصيفه بالشدة {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي تمرنوا عليه وأصروا وتمرنهم أي اعتيادهم واستمرارهم على مثل ما عملوه في الحال من العمل السوء مستفاد من كان الدالة على الزمان الماضي أي العمل السيىء دأبهم {اتَّخَذْوا أَيْمَـانَهُمْ} الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة واليمين في الحلف مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المحالف والمعاهد عنده {جُنَّةً} وهي الترس الذي يجن صاحبه أي يستره والمعنى وقاية وسترة يسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم ونهب أموالهم يعني ناهى كه خون ومال ايشان درامان ماند.
فالاتخاذ عبارة عن إعدادهم لإيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بهاويتخلصوا من المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية والخيانة واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضاً كما تعرب عنه الفاء في قوله {فَصَدُّوا} أي منعوا الناس وصرفوهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن دينه في خلال أمنهم وسلامتهم وتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم {فَلَهُمْ} بسبب كفرهم وصدهم {عَذَابٌ مُّهِينٌ} مخزى بين أهل المحشر وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة {لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم مِّنَ اللَّهِ} أي من عذابه تعالى {شَيْـاًا} قليلاً من الإغناء يقال أغنى عنه كذا إذا كفاه يعني إنهم يحلفون
408
كاذبين للوقاية المذكورة ولا تنفعهم إذا دخلوا النار أموالهم ولا أولادهم التي صانوها وافتخروا بها في الدنيا أو يقولون إن كان ما يقول محمد حقاً لندفعن العذاب عن أنفسنا بأموالنا وأولادنا فأكذبهم الله بهذه الآية فإن يوم القيامة يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يكفي أحد أحداً في شأن من الشؤون {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الصفات القبيحة قال في برهان القرآن بغير واو موافقة للجمل التي قبلها ولقوله أولئك حزب الله {أَصْحَـابُ النَّارِ} أي ملازموها ومقارنوها أو مالكوها لكونها حاصلهم وكسبهم الذي اكتسبوه في الدنيا بالسيئة المردية المؤدية إلى التعذيب {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} لا يخرجون منها أبداً وضميرهم لتقوية الإسناد ورعاية الفاصلة لا للحصر لخلود غير المنافقين فيها من الكفار {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يا دكن روزى راكه برانكيزد خداى تعالى همه منافقان ازقبور وزنده كند س ازمرك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
(9/332)
وجميعاً حال من ضميرالمفعول بمعنى مجموعين {فَيَحْلِفُونَ} في ذلك اليوم وهو يوم القيامة {لَهُ} أيتعالى على أنهم مسلمون مخلصون كما قالوا والله ربنا ما كنا مشركين {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا {وَيَحْسَبُونَ} في الآخرة مصدره الحسبان وهو أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله فيحسبه ويعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك ويقاربه الظن لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما الآخر {إِنَّهُمْ} بتلك الأيكان الكاذبة {عَلَى شَىْءٍ} من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَـاذِبُونَ} المبالغون في الكذب إلى غاية لا مطمح وراءها حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه كما تروجه عند الغافلين وألا حرف تنبيه والمراد التنبيه على توغلهم في النفاق وتعودهم به بحيث لا ينفكون عنه موتاً ولا حياة ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وأنهم لكاذبون {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَـانُ} من حذت الإبل إذا استوليت عليها وجمعتها وسقتها سوقاً عنيفاً أي استولى عليهم الشيطان وملكهم لطاعتهم له في كل ما يريد منهم حتى جعلهم رعيته وحزبه وهو مما جاء على الأصل كاستصوب واستنوق أي على خلاف قياس فإن القياس أن يقال استحاذ فهو فصيح استعمالاً وشاذ قياساً.
ـ وحكي ـ إن عمر رضي الله عنه قرأ استحاذ {فَأَنسَـاـاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} المصدر مضاف إلى المفعول أي كان سبباً بالاستيلاء لنسيانه تعالى فلم يذكره بقلوبهم ولا بألسنتهم {أولئك} المنافقون الموصوفون بما ذكر من القبائح {حِزْبُ الشَّيْطَـانِ} أي جنوده وأتباعه الساعون فيما أمرهم به والحزب الفريق الذي يجمعه مذهب واحد {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـانِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم قال بعض المشايخ بوأه الله الدرجات الشوامخ علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والملابس ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمه عليه والقيام بشكرها ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب واللغو والغيبة والبهتان وسمعه عن الحق
409
بسماع اللهو والهذيان قال بعض أهل الإشارة إذا أراد الشيطان أن ينبت في سبخة أرض النفس الأمارة حنظل الشهوة يثب إليها ويغريها على إنفاذ مرادها فتكون النفس مركبة فيهجم إلى بلد القلب ويخربه بأن يدخل فيه ظلمة الطبيعة فلا ترى عين القلب مسلك الذكر وصفاته فلما احتجب عن الذكر صار وطن إبليس وجنوده وغلب الملعون عليه وهذا يكون بإرادة الله تعالى وسببه استحواذ غرور الملعون وتزيينه بأن يلبس أمر الدين بأمر الدنيا ويغويه من طريق العلم فإذا لم يعرف دقائقه صار قرينه والشيطان دون الملك والرحمن إذ لا يجتمع الحق مع الباطل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
نظر دوست نادر كند سوى تو
و در روى دشمن بود روى تو
ندانى كه كمترنهد دوست اي
و بيند كه دشمن بود در سراى
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يعادونهما ويخالفون أمرهما يوتعدون حدودهما ويفعلون معهما فعل من ينازع آخر في أرض فيغلب على طائفة منها فيجعل لها حداً لا يتعداه خصمه ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم وأتباعهم فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد أعز منهم قال تعالى : نفياً لهذا الغرور الظاهر {أولئك} الأباعد والأسافل بما فعلوا من المحادة {فِى الاذَلِّينَ} أي في جملة من هو أذل خلق الله من الأولين والآخرين لا ترى أحداً أذلن منهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من يحاده كذلك وذلك بالسبي والقتل في الدنيا وعذاب الناري في الآخرة سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم سوقة كانوا أو ملوكاً كفرة كانوا أو فسقة {كَتَبَ اللَّهُ} استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي قضى وأثبت في اللوح وحيث جرى ذلك مجرى القسم أجيب بما يجاب به {لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى} أكده لما لهم من ظن الغلبة بالكثرة والقوة والمراد الغلبة بالحجة والسيف أو بأحدهما والغلبة بالحجة ثابتة لجميع الرسل لأنهم الفائزون بالعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة وأما الغلبة بالسيف فهي ليست بثابتة للجميع لأنهم منهم من لم يأمر بالحرب قال الزجاج غلبة الرسل على نوعين : من بعث منهم بالحرب فهو غالب بالحرب ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة وإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالسيف كان أقوى :
محالست ون دوست دارد ترا
كه دردست دشمن كذارد ترا
(9/333)
وعن مقاتبل أنه قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال رئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله إنهم لأكثر عدد وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزل قوله تعالى : كتب الله الآية قال البقلي رحمه الله : كتب الله على نفسه في الأزل أن ينصر أولياءه على أعطائه من شياطين الظاهر والباطن ويعطيهم رايات نصرة الولاية فحيث تبدو راياتهم التي هي سطوع نور هيبة الحق من وجوههم صار الأعداء مغلوبين بتأييد الله ونصرته قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله أهل الحق لهم الغلبة أبداً ورايات الحق تسبق رايات غيره جميعاً لأن الله تعالى جعلهم أعلاماً في خلقه وأوتاداً في أرضه ومفزعاً لعباده وعمارة لبلاده
410
فمن قصدهم بسوء كبه الله لوجهه وأذله في ظاهر عزه {أَنَّ اللَّهَ} تعليل للقهر والغلبة أده لأن أفعالهم مع أوليائه أفعال من يظن ضعفه {قَوِىٌّ} على نصر أنبيائه قال بعضهم : القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجزي نقض ولا إبراهيم والقوة في الأصل عبارة عن شدة النبية وصلابتها المضادة للضعف ويراد بها القدرة بالنسبة إلى الله تعالى {عَزِيزٌ} لا يغلب عليه في مراده :
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
حكمي كه آن زباركه كبريا بود
كس را دران مجال تصرف كجا بود
فإن قلت : فإذا كان الله قوياً عزيزاً غير عاجز فما وجه انهزام المسلمين في بعض الأحيان وقد وعد النصرة قلت : إن النصرة والغلبة منصب شريف فلا يليق بالكافر لكن الله تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين لأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الضروري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله ولأن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون تشدد المحنة عليه في الدنيا تمحيصاً لذنوبه وتطهيراً لقلبه وأما تشديد المحنة على الكافر فهو من قبيل الغضب ألا ترى أن الطاعون مثلاً رحمة للمؤمنين ورجز للكافرين وما من سابق عدل إلا له لا حق فضل ولا سابق فضل ءلا له لا حق عدل غير أن أثري العدل والفضل قد يتعلقان بالبواطن خاصة وقد يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن وقد يكون اختلاف تعلقهما في حالة واحدة وقد يكون على البدل وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر اللاحق وقد أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم ثم عقب ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره وذلك كثير موجود باستقراء فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنهم أن يجري على ظاهرهم من آثار العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب إلى غير ذلك من فوائد التربية ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جرا رأى من أحسن بلاء الله ما يشهد لما قرر بالصحة والمبتلى به يصير على ذلك بل يتلذف كما هو شأن الكبار :
هره از دست توايد خوش بود
كرهمه درياى ر آتش بود
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
وفي الآية إشارة إلى أعداء النفوس الكافرة فإنها تحمل القلوب والأرواح على مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة وتمحو الذكر من ألواحها بغلبة محبة الدنيا وشهواتها لكن الله تعالى ينصرها ويؤيدها حتى تغلب على النفوس الكافرة بسطوات الذكر فيحصل لها غاية الذلة كأهل الذمة في بلدة المسلمين وذلك لأن الله تعالى كتب في صحائف الاستعدادات غلبتها على النفوس وذلك من باب الفضل والكرم {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} الخطاب للنبي عليه السلام أو لكل أحد وتجد إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى :
411
(9/334)
{يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} مفعوله الثاني أو إلى واحد بأن كان بمنى صادف فهو حال من مفعوله لتخصيصه بالصفة وهو يؤمنون والموادة المحابة مفاعله من المودة بمعنى المحبة وهي حالة تكون في القلب أولاً ويظهر آثارها في القالب ثانياً والمراد بمن حاد الله ورسوله المنافقون واليهود والفساق والظلمة والمبتدعة والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال وإن جد في طلبه كل أحد وجعل ما لا ينبغي وجوده غير موجود لشركته في فقد الخير ويجوز أن يقال لا تجد قوماً كاملي الإيمان على ما يدل عليه سياق النظم فعدم الوجدان على حقيقته قال في كشف الأسرار أخبر أن الإيمان يفسد بموادة الكفار وكذا بموادة من في حكمهم وعن سهل بن عبد الله التستري قدس سره : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر من نفسه العداوة والبغضاء ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن ومن تحبب إلى مبتدع لطلب عز في الدنيا أو عرض منها أذله الله بتلك العزة وأفقره الله بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ومن لم يصدق فليجرب وأما المعاملة للمبايعة العادية أو للمجاورة أو للمرافقة بحيث لا تضر بالدين فليست بمحرمة بل قد تكون مستحبة في مواضعها قال ابن الشيخ المعنى لا يجتمع الإيمان مع ودادة أعداء الله فإن قيل اجتمعت الأمة على أن يجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة فالجواب أن الموادة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودنيا مع كونه كافراً وما سوى ذلك جائز.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
ـ روي ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول : اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحى إلي لا تجد قوماً الخ فعلم منه أن الفساق وأهل الظلم داخلون فيمن حاد الله ورسوله أي خالفهما وعاداهما واستدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم وهم القائمون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله ومشيئته يعني هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله وسموا بذلك لمبالغتهم في نفيه وكثرة مدافعتهم إياه وقيل لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد وليس بشيء لأن المناسب حينئذ القدري بضم القاف {وَلَوْ كَانُوا} أي من حاد الله ورسوله وبالفارسية واكر ه باشند از مخالفان خدا ورسول.
والجمع باعتبار معنى من كما أن الأفراد فيما قبله باعتبار لفظها {ءَابَآءَهُمْ} أي آباء الموادين {أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} قدم الأقدم حرمة ثم الأحكم محبة {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} نسباً {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} العشيرة أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون بمنزلة العدد الكامل وذلك أن العشرة هو العدد الكامف لصار العشيرة لكل جماعة من أقارب الرجل يتكثر بهم والعشير المعاشر قريباً أو معارفاً وفي القاموس عشيرة الرجل بنوا أبيه إلا دنون أو قبيلته انتهى يعني أن المؤمنين المتصلبين في الدين لا يوالون هؤلاء الأقرباء بعد أن كانوا محادين الله ورسوله فكيف بغيرهم فإن قضية الإيمان بالله أن يهجر الجميع بالكلية بل أن يقتلهم ويقصدهم بالسوء كما روى أن أبا عبيدة قتل أباه الجراح يوم بدر وأن عبد الله بن أبي بن سلول جلس إلى جنب رسول الله عليه السلام
412
فشرب رسول الله الماء فقال عبد الله رضي الله عنه : يا رسول الله ابق فضلة من شرابك قال : فما تصنع بها فقال : اسقيها أبى لعل الله يطهر قلبه ففعل فآتاها أباه فقال : ما هذا؟ قال : فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها لعل الله يطهر قلبك فقال له أبوه : هلا جئتني ببول أمك فرجع إلى النبي عليه السلام فقال : يا رسول الله ائذن لي في قتل أبي فقال عليه السلام : بل ترفق به وتحسن إليه وأن أبا قحافة قبل أن أسلم سب النبي عليه السلام فصكه أبو بكر رضي الله عنه صكة أي ضربه ضربة سقط منها فقال عليه السلام : أوفعلته قال : نعم قال : فلا تعد إليه قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته قال في التكملة في هذه الرواية نظر لأن هذه السورة مدينة أبو بكر مع أبيه الآن بمكة انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
يقول الفقير : لعله على قول من قال إن العشر الأول من هذه السورة مدني والباقي مكي وأن أبا بكر رضي الله عنه دعا ابنه عبد الرحمن إلى البراز يوم بدر فأمره عليه السلام أن يقعد قال : يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى وهي القطعة من الفرسان فقال عليه السلام : متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك بمنزلة سمعي وبصري.
(9/335)
يقول الفقير : يعلم منه فضل أبي بكر على علي رضي الله عنهما فإن هذا فوق قوله عليه السلام لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى فتفطن لذلك وأن مصعباً رضي الله عنه قتل أخاه عبيد بن عمير بأحد وأن عمر رضي الله عنه قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وأن علياً وحمزة وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم قتلوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وكانوا من عشيرتهم وقرابتهم وكل ذلك من باب الغيرة والصلابة كما قال عليه السلام : الغيرة من الإيمان والمنية من النفاق ومن لا غيرة له لا دين له.
ـ وروي ـ عن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان ففيه زجر عن مصاحبتهم وعن عبد العزيز ابن أبي دؤاد أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها وفي الحديث : "من مشى خلف ظالم سبع خطوات فقد أجرم" وقد قال الله تعالى : إنا من المجرمين منتقمون {أولئك} إشارة إلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحماً {كَتَبَ} الله سبحانه {فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} أي أثبته فيها وهو الإيمان الوهبي الذي وهبه الله لهم قبل خلق الأصلاب والأرحام إذ لا يزال بحال أبداً كالإيمان المستعار وفيه دلالة على خروج العمل من مفهوم الإيمان فإن الجزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعاً ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه وهو حجة ظاهرة على القدرية حيث زعموا أن الإيمان والكفر يستقل بعملهما العبد {وَأَيَّدَهُم} أي قواهم وأصله قوى يدهم {بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي من عند الله فمن لابتداء الغاية وهو نور القرآن أو النصر على العدو أو نور القلب وهو بإدراك حقيقة الحال والرغبة في الإرتقاء إلى المدارج الرفيعة الروحانية والخلاص من درك عالم الطبيعة الدنية وكل ذلك سمي روحاً لكونه سبباً للحياة قال سهل رحمه الله : حياة الروح بالتأييد وحياة النفس بالروح وحياة الروح بالذكر وحياة الذكر بالذاكر وحياة الذاكر بالمذكور {وَيُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها أو قصورها {الانْهَـارُ} الأربعة يعني جويها أزاب وشير وخمر وعسل {خَـالِدِينَ فِيهَا}
413
أبد الآباد لا يقرب منهم زوال ولا موت ولا مرض ولا فقر كما قال عليه السلام ينادي مناد آن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وآن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وآن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وآن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً {رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} خشنود شد خداى ازايشان بطاعتي كه دردنيا كردند.
وفي الإرشاد استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض عليهم من آثار رحمته العاجلة والآجلة والرضى ترك السخط {وَرَضُوا عَنْهُ} وخشنود شدند ايشان ازخداى بكرامتى كه وعده كرده ايشانرا در عقبى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
وفي الإرشاد بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلاً وآجلاً {أولئك حِزْبُ اللَّهِ} تشريف لهم ببيان اختصاصهم به عز وجل أي جنده وأنصار دينه قال سهل رضي الله عنه : الحزب الشيعة وهم الإبدال وأرفع منهم الصديقون {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الناجون من المكروه والفائزون بالمحبوب دون غيرهم المقابلين لهم من حزب الشيطان المخصوصين بالخذلان والخسران وهو بيان لاختصاصهم بالفوز بسعادة النشأتين وخير الدارين وقال بعض أهل الإشارة حزب الله أهل معرفته ومحبته وأهل توحيده هم الفائزون بنصرة الله من مهالك القهريات ومصارع الامتحانات وجدوا الله بالله إذا ظهر واحد منهم ينهزم المبطلون ويتفرق المغالطون لأن الله تعالى أسبل على وجوههم نور هيبته وأعطى لهم أعلام عظمته يفر منهم الأسود ويخضع لهم الشامخات كلأهم الله بحسن رعايته ونورهم بسنا قدرته ورفع لهم أذكارهم في العالمين وعظم أقدارهم وكتم أسرادهم.
وإمام ثعلبي ازجرجراني كه اواز مشايخ خود شنيده كه داود عليه السلام ازحق تعالى رسيد كه حزب توكيست خطاب آمد از حضرت عزت كه الغاضة أبصارهم والسليمة أكفهم والنقية قلوبهم أولئك حزبي وحول عرشي هركه شم اواز محارم فروبسته بود ودست او از آزار خلق وأخذ حرام كوتاه باشد ودل خود ازما سوى اكيزه كرده از جمله حزب حضرت الله است ودرين باب كفته اند :
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 44 من صفحة 414 حتى صفحة 424
ازهره نار واست برو ديدها ببند
وزهر ه ناسند بود دست بازدار
لوح دل ازغبار تعلق بشوى اك
تابا شدت بحلقه أهل قلوب بار
(9/336)
وفي الآية إشارة إلى أبوة الروح بالنسبة إلى السر والخفي والقلب والنفس والهوى وصفاتها لولادة الكل عن مادة ازدواج الروح مع القالب وإلى نبوة الكل إلى الروح وإلى أخوة السر مع النفس وأخوة القلب مع الهوى وعشيرة عصفاتهما مع الخفي لكون الكل من واد واحد وأصل متحد هو الروح فمن قطع ارتباط التعلق مع النفس والهوى وصفاتهما الظلمانية الشيطاينة بالتوجه الكلى الروحي والسرى والقلبي والخلفي إلى الحضرة الإلهية فهم الذين كتب الله في ألواح قلوبهم وصفاح أسرارهم الإيمان الحقيقي الشهودي العياني وأيدهم بروح الشهود الكلي الجمعي الجامع بين شهود الوحدة الذاتية الحقيقية وبين شهود الكثرة الأسمائية النسبية والجمع بين الشهودين دفعة واحدة من غير تخلل بينهما ومن غير احتجاب أحدهما عن الآخر ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار مياه التجليات الذاتية
414
والصفاتية والأسمائية المشتملة على العلوم والمعارف والحقائق والحكم على الدوام والاستمرار رضي الله عنهم بفنائهم عن الناسوتية ورضوا عنه ببقائهم بلاهوتيته أولئك حزب الله أي مظاهر ذاته وصفاته وأسمائه ألا إن حزب الله هو المفلحون لقيامهم بقيومية الحق تعالى.
واعلم أنه كائن الدنيا والآخرة يومان متعاقبان متلاصقان فمن ذلك يعبر عن الدنيا باليوم وعن الآخرة بغد ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإنكم اليوم في دار العمل والإحسان وأنتم غداً في دار الآخرة ولا عمل ونعيم الدنيا منقطع دون نعيم الآخرة ثم إن هذا شأن الأبرار وأما المقربون فهم أهل الله لا أهل الدارين ونعيمهم ما ذكر من التجليات فهم حزب الله حقيقة لكمال نصرتهم في الدين ظاهراً وباطناً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 388
تفسير سورة الحشر
مدنية وآيها أربع وعشرون
جزء : 9 رقم الصفحة : 414
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} التسبيح تبعيد الله عن السوء وتطهيره عما لا يليق بشأن ألوهيته ويكون بالجنان واللسان والحال والأول اعتقاد العبد بتعاليه عما لا يليق بالألوهية وذلك لأن من معاني التفعيل الاعتقاد بشيء والحكم به مثل التوحيد والتمجيد والتعظيم بمعنى الاعتقاد بالوحدة والمجد والعظمة والحكم بها وعلى هذا المعنى مثل التكفير والتضليل ومثل التجويز والترجيح والثاني القول بما يدل على تعاليه مثل التكبير والتهليل والتأمين بمعنى أن يقول الله أكبر ولا إله إلا الله وآمين وهو المشهور وعند الناس والثالث دلالة المصنوعات على أن صانعها متصف بنعوت الجلال متقدس عن الإمكان وما يتبعه والمفسرون فسروا ما في القرآن من أمثال الآية الكريمة على كل من الثاني والثالث ليعم تسبيح الكل كذا في بعض التفاسير وجمهور المحققين على أن هذا التسبيح تسبيح بلسان العبارة والإشارة لا بلسان الإشارة فقط فجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم سبحه تعالى يعني تسبيح ميكويد كه وبه اكى مستأنس ميكند مرخدايرا كه مستحق ثناست.
كما سبق تحقيقه في أول سورة الحديد وفي مواضع أخر من القرآن :
بذكرش هره بيني در خروش است
دلى داند درين معنى كه كوش است
نه بلبل بر كلش تسبيح خوانست
كه هر خاري به توحيدش زبانست
وفي الحديث : "إني لأعرف حجراً بمكة كان سلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" وعن ابن مسعود رضي الله عنه ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل على أن شهادة الجوارح والجلود مما نطق به القرآن الكريم وقال مجاهد : كل الأشياء تسبححياً كان أو جماداً وتسبيحها سبحان الله وبحمده وهذا على الإطلاق وأما بالنسبة إلى كل موجود
415
فالتسابيح مختلفة فلكل موجود تسبيح مخصوص به من حيث ما يقتضيه نشأته كما قال بعض الكبار فإذا رأيت هؤلاء الهوالم مشتغلين بالذكر الذي أنت عليه فكشفك خيالي غير صحيح لا حقيقي وإنما ذلك خيالك أقيم لك في الموجودات فإذا شهدت في هؤلاء تنوعات الأذكار فهو الكشف الصحيح انتهى {وَهُوَ الْعَزِيزُ} ذو العزة القاهرة {الْحَكِيمُ} ذو الحكمة الباهرة وفي إيراد الوصفين بعد التسبيح إشارة إلى الباعث له والداعي إليه لأن العزة أثر الجلال والحكمة أثر الجمال فله الاتصاف بصفات الكمال.(9/337)
وفي التأويلات النجمية : سبحما في السموات العقول عن معقولاتهم المقتنصة بشبكة الفكر بطريق ترتيب المقدمات وتركيب القياسات وإذامة البراهين القطعية والأدلة الفكرية لعدم جدواها في تحصيل المطلوب فإن ذاته منزهة عن التنزيهات العقلية المؤدية إلى التعليل وما في السموات النفوس من التشبيه بل ذاته المطلقة جامعة للتنزيه العقلي والتنشبيه النفسي كما قال ليس كمثله شيء وهو التنزيه وهو السميع البصير وهو التشبيه فجمعت ذاته المطلقة بأحدية الجمعية بين التنزيه والتشبيه دلعة واحدة بحيث يكون التنزيه عين التشبيه والتشبيه عين التنزيه كما قال العارف المحقق قدس سره : "فإن قلت بالأمرين كنت مسدداً.
وكنت إماماً في المعارف سيداً" فإن التنزيه نتيجة اسمه الباطن والتشبيه نتيجة اسمه الظاهر فافهم جداً وهو العزيز المنيع جنابه أن ينزه من غير التشبيه الحكيم الذي تقتضي حكمته أن لا يشبه من غير التنزيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة صالح بن النضير كأمير وهم رهط من اليهود من ذرية هارون أخي موسى عليه السلام قال السهيلي رحمه الله ونسبتهم إلى هارون صحيحة لأن النبي عليه السلام قال لصفية رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير وقد وجدها تبكي لكلام قيل لها أبوك هارون وعمك موسى وبعلك محمد عليهم السلام والحديث معروف مشهور وفي بعض الكتب من أولاد الكاهن بن هارون ونزلوا قريباً من المدينة في فتن نبي إسرائيل انتظاراً لبعثة النبي عليه السلام وكان يقال لهم ولبني قريظة الكاهنان لأنهم من أولاده أيضاً وكان بنوا النضير وقريظة وبنوا قينقاع في وسط أرض العرب من الحجاز وإن كانوا يهوداً والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق في أرض الحجاز وكانت منازلهم يثرب والجحفة إلى مكة فشكت بنوا إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السلام فوجه إليهم جيشاً وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحداً ففعلوا ذلك وترك منهم ابن ملك لهم كان غلاماً حسناً فرقوا له ثم رجعوا إلى الشأم وموسى قد مات فقالت بنو إسرائيل قد عصيتم وخالفتم فلا نؤويكم فقالوا : نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها ونكون بها فرجعوا إلى يثرب فاستوطنوها وتناسلوا بها إلى أن نزل عليهم الأوس والخزرج بعد سيل العرم فكانوا معهم إلى الإسلام فلما هاجر عليه السلام عاهد بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه فلما ظهر عليه السلام أي غلب يوم بدر قالوا فيما بينهم النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية يعني نتوان بودكه كسى بروى ظفر يابد يارايت اقبال وى كسى بيفكند.
فلما كان يوم أحد ما كان ارتابوا ونكثوا فخرج
416
(9/338)
كعب من الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالفوا قريشاً عند الكعبة على قتاله عليه السلام وعاهدوا على الإضرار به ناقضين العهد.
كعب أشرف باقوم خود بمدينه باز آمد وجبريل امين رسول را خبرداد ازان عهد ويمان كه درميان ايشان رفت.
فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري بفتح الميم وكان أخا كعب من الرضاعة فقتل كعباً غيلة بالكسر أي خديعة فإن الغيلة أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله وذلك أنه أتاه ليلاً فاستخرجه من بيته بقوله : إني أتيتك لأستقرض منك شيئاً من التمر فخرج إليه فقتله ورجع إلى النبي عليه السلام وأخبره ففرح به لأنه أضعف قلوبهم وسلب قوتهم وفي بعض الأخبار أنه عليه السلام ذهب إلى بني النضير لاستعانة في دية في نفر من أصحابه أي دون العشرة فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فقالوا له : نعم يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك وكان عليه السلام جالساً إلى جنب جدار من بيوتهم فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه فقال أحد ساداتهم وهو عمرو بن جحاش : أنا لذلك فقال لهم أحدا ساداتهم وهو سلام بن مشكم : لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به إنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه فلما صعد الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام عليه السلام مظهراً أنه يقضي حاجته وترك أصحابه في مجالسهم ورجع مسرعاً إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من أصحابه فقاموا في طلبه لما استبطأوه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه فقال : رأيته داخل المدينة فأقبل أصحابه حتى انتهوا إليه فأخبرهم بما أرادت بنو النضير فندم اليهود وقالوا : قد أخبر بأمرنا فأرسل عليه السلام إليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن اخرجوا من بلدي أي لأن قريتهم زاهرة كانت من أعمال المدينة فلا تساكنوني بها فلقد هممتم بما هممتم من الغدر فسكتوا ولم يقولوا حرفاً فأرسل إليهم المنافقون أن أقيموا في حصونكم فإنا نمدكم فأرسلوا إلى رسول الله إنا لا نخرج من ديارنا فافعل ما بدا لك وكان المتولي أمر ذلك سيد بني النضير حيى بن أخطب والد صفية أم المؤمنين فاغتر بقول المنافقين فسار رسول الله عليه السلام مع المؤمنين وهو على حمار مخطوم بليف وحمل رايته علي رضي الله عنه حتى نزل بهم وصلى العصر بفنائهم وقد تحصنوا وقاموا على حصنهم يرمون النبل والحجارة وزربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم النبي عليه السلام إحدى وعشرين ليلة فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم إلا السلاح.
س ششنصد شتربار خودرا بر آراستند وإظهار جلادت نموده دفعها ميزدند وسرور كويان از بازار مدنه كذشتند.
فجاءوا الشام إلى أريحا من فلسطين وإلى اذرعات من دمشق إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وهي بالكسرة بلد بقرب الكوفة ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان أحدهما سفيان بن عمير بن وهب والثاني سعد بن وهب أسلما على أموالهم فأحرزاها فأنزل الله
417
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/339)
تعالى سبح لله إلى قوله والله على كل شيء قدير قال محمد جلاء بني النضير كان مرجع النبي عليه السلام من أحد سنة ثلاث من الهجرة وكان فتح بني قريظة مرجعه من الأحزاب في سنة خمس من الهجرة وبينهما سنتان وفي إنسان العيون كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة والجلاء بالفتح الخروج من البلد والتفرق منه يقال أجليت القوم عن منازلهم وجلوتهم فأجلوا عنها وجلوا أي أبرزتهم عنها فإن أصل الجلو الكشف الظاهر ومنه الطريقة الجلوتية بالجيم فإنها الجلاء والظهور بالصفات الإلهية كما عرف في محله والجلاء أخص من الخروج لأنه لا يقال الجلاء إلا لخروج الجماعة أو لإخراجهم والخروج والإخراج يكون للجماعة والواحد وقيل في الفرق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد بخلاف الخروج فإنه لا يستلزم ذلك قال العلماء مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ والآن لا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم {هُوَ الَّذِى} اوست خداوندى كه ازروى إذلال {أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} بيان لبعض آثار عزته وأحكام حكمته أي أمر بإخراج أهل التوراة يعني بني النضير {مِن دِيَـارِهِمْ} جمع دار والفرق بين الدار والبيت أن الدار دار وإن زالت حوائطها والبيت ليس ببيت بعدما انهدم لأن البيت اسم مبني مسقف مدخله من جانب واحد بنى للبيتوتة سواء كان حيطانه أربعة أو ثلاثة وهذا المعنى موجود في الصفة إلا أن مدخلها واسع فيتناولها اسم البيت والبيوت بالمسكن اسم أخص والأبيات بالشعر كما في المفردات {لاوَّلِ الْحَشْرِ} اللام تتعلق بأخرج وهي للتوقيت أي عند أول حشرهم إلى الشأم وفي كشف الأسرار اللام لام العلة أي اخرجوا ليكون حشرهم الشام أول الحشر والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط إذ كان انتقالهم من بلاد الشام إلى جانب المدينة عن اختيار منهم وهم أول من أخرج به جزيرة العرب إلى الشام فعلى هذا الوجه ليس الأول مقابلاً للآخر وسميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات قال الخليل بن أحمد مبدأ الجزيرة من حفر أبي موسى إلى اليمن في الطول ومن رمل يبرين وهو موضع بحذاء الإحساء إلى منقطع السماوة في العرض والسماوة بالفتح موضع بين الكوفة والشأم أو هذا أول حشرهم وآخر حشرهم أجلاء عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى الشام وذلك حين بلغه الخبر عن النبي عليه السلام لا يبقين دينان في جزيرة العرب وقيل آخر حشرهم حشر يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشأم
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{مَا ظَنَنتُمْ} أيها المسلمون {أَن يَخْرُجُوا} من ديارهم بهذا الذل والهوان لشدة بأسهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم {وَظَنُّوا} أي هؤلاء الكافرون ظناً قوياً هو بمرتبة اليقين فإنه لا يقع إلا بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته {أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} الحصون جمع حصن بالكسر وهو كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه والقلعة الحصن الممتنع على الجبل فالأول أعم من الثاني وتحصن إذا اتخذ الحصن
418
(9/340)
مسكناً ثم تجوز به فقيل درع حصينة لكونها حصناً للبدن وفرس حصان لكونه حصناً لراكبه والمعنى ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وقهره وقدم الحبر وأسند الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي بسببها فتقديم المسند يفيد قصر المسند إليه على المسند فإن معنى قائم زيد أن زيداً مقصور على القيام لا يتجاوزه إلى القعود وكذا معنى الآيتان حصونهم ليس لها صفة غير المانعية ويجوز أن يكون مانعتهم خيراً لأن وحصونهم مرتفعاً على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ فإن قيل ما المانع من جعل مانعتهم مبتدأ وحصونهم خيراً فإن كليهما معرفة قلت كون مانعتهم نكرة لأن إضافتها غير مخصصة وإن القصد إلى الإخبار عن الحصون {فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ} أي أمر الله وقدره المقدور لهم {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب من الأشرف غرة على يد أخيه فإنه مما أضعف قوتهم وقل شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب والفاء إما للتعقيب إشارة إلى أن البأس لم يكن متراخياً عن ظنهم أو للسبب إشارة إلى أنهم إنما أخذوا بسبب إعجابهم بأنفسهم وقطعهم النظر إلى قدرة الله وقوته {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} القذف الرمي البعيد والمراد هنا الإلقاء قال في الكشاف قذف الرعب إثباته وركزه ومنه قالوا في صفة الأسد مقذف لما أن قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجوائه والرعب الانقطاع من امتلاء الخوف ولتصور الامتلاء منه قيل رعبت الحوض أي ملأته وباعتبار القطع قيل رعبت السنام أي قطعته قال بعضهم : الرعب خوف يملأ القلب فيغير العقل ويعجز النفس ويشوش الرأي ويفرق التدبير ويضر البدن والمعنى أثبت فيها الخوف الذي يرعبها ويملأها لأن المعتبر هو الثابت وما هو سريع الزوال فهو كغير الواقع وقال بعضهم : فلا يلزم التكرار لأن الرعب الذي اشتمله قوله فأتاهم الله هو أصل الرعب وفرق بين حصول أصله وبين ثباته ودلت الآية على أن وقوع ذلك الرعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله بهذا الطريق كذا في اللباب
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} الجملة استئناف لبيان حالهم عند الرعب أي يخربونها بأيديهم ليسدوا بما تنضوا منها من الخشب والحجارة أفوه الأزقة ولئلا تبقى بعد جلائهم مساكين للمسلمين ولينتقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل والاخراب والتخريب واحد يقال خرب المكان خراباً وهو ضد العمارة وقد أخربه وخربه أي أفسده بالنقض والهدم غير أن في التشديد مبالغة من حيث التكثير لكثرة البيوت وهو قراءة أبي عمرو وفرق أبي عمرو بين اُراب والتخريب فقال : خرب بالتشيديد بمعنى هدم ونقض وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الوضع وقال أي أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد لأن الاخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن وبنوا النضير لم يتركوها خراباً وإنما خربوها بالهدم كما يدل عليه قوله بأيديهم وأيدي المؤمنين إن قيل البيوت
419
هي الديار فلم لم يقل يخربون ديارهم على وفق ما سبق وأيضاً كيف ما كان الإخراج من ديارهم وهي مخربة أجيب بأن الدار ماله بيوت فيجوز اخراب بعضها وإبقاء بعضها على مقتضى الرأي فيكون الخروج من الباقي على أن الإخراج لا يقتضي العمارة إذ يجوز أن يكون بإخراب المساكن والطرح منها قال سهل رحمه الله : يخربون بيوتهم بأيديهم أي قلوبهم بالبدع وفي كشف الأسرار نخست دين ودل خويش ازروى باطن خراب كردند تا خرابي باطن بظاهر سرايت كرد وخانه خود نيز خراب كردند {وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ} حيث كانوا يخربونها إزالة لمحتصنهم ومتمنعهم وتوسيعاً لمجال القتال وإضراراً بهم وإسناد هذا إليهم لما أنهم السبب فيه فكأنهم كلفوهم إياه وأمروهم به وهذا كما في قوله عليه السلام : لعن الله من لعن والديه وهو كقوله عليه السلام : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه فقالوا : وكيف يسب الرجل والديه؟ فقال : يساب الرجل فيسب أباه فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه.
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن استناد الكفار إلى الحصون والأحجار وإن اعتماد المؤنين على الله الملك الغفار ولا شك أن من اعتمد على المأمن الحقيقي ظفر بمراده فيه دنياه وآخرته ومن استند إلى ما سوى الله تعالى خسر خسراناً مبيناً في تجارته وإن الإنسان بنيان الرب فربما قتل المرء نفسه وتسبب له فهدم بنيان الله فصار ملعوناً وقس على هذا حال القلب فإنه بيت الله واجتهد حتى لا يغلب عليه النفس والشيطان.
قال الحافظ :
من آن نكين سليمان بهيج نستانم
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
كه كاه كاه برودست اهر من باشد
(9/341)
{فَاعْتَبِرُوا} س عبرت كيريد يا اأُوْلِى الابْصَـارِ} أي يا أولي الألباب والعقول والبصائر يعني اتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي وانتقلوا من حال الفريقين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب كبني النضير الذين اعتمدوا على حصونهم ونحوها بل توكلوا على الله تعالى وفي عين المعاني فاعتبروا بها خراب جميع الدنيا :
جهان اي سر ملك جاويد نيست
ز دنيا وفادارى اميد نيست
والاعتبار مأخوذ من العبور وهو المجاوزة من شيء إلى شيء ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الحد وسمي أهل التعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حاله نفسه :
و بركشته بختى در افتد ببند
ازونيك بختان بكيرند ند
والبصر يقال للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال القلب المدركة بصيرة وبصر ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة كما في المفردات قال بعض التفاسير الأبصار جمع بصر وهو ما يكون في الرأس وبه يشاهد عالم الملك وهو عالم الشهادة حتى لو كان بين الرائي والمرئى مقدار عدة آلاف سنة يشاهده في طرفة عين بوصول نور من حدقة العين إلى المرئي حكاية للرائي والبصيرة في القلب كالبصر في الرأس وبها يشاهد عالم الملكوت وهو عالم الغيب
420
حتى لو شاهد المشاهد في العالم الأعلى وفي اللوح المحفوظ بل في علم الله تعالى مما تتعلق مشيئة الله بمشاهدة أحد إياه من عباده لشاهده في آن واحد وقد يشاهد الممتنع والمحال وغير المتناهي بنوع مشاهدة كما نجده في وجداننا وكل ذلك من غرائب صنع الله وجعل البعض البصر ههنا مجازاً عن المشاهدة لأنه كثيراً ما يكون آلة لمشاهدتها ويكون هو معتبراً باعتبارها حتى لولاها يكون هو في حكم المفقود وبهذا الاعتبار أورد الإبصار في مقام البصائر فقال في تفسيره : فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم يا ذوي العقول والبصائر وهذا هو الأليق بشأن الإتعاظ والأوفق لقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الألباب إذ اللب وهو العقل الخالص عن الكدورات البشرية والبصيرة التي هي عين القلب حين ما كانت مجلوة خاصة بالعقلاء اللائقين للخطاب بالأمر بالاعتبار وأما البصر فيوجد في البهائم والبصيرة الغير المجلوة فتوجد في العوام وجعله البعض الآخر على حقيقته فقال في تفسيره فاعتبر يا من عاين تلك الوقائع لكن مآل القولين واحد إذ مجرد البصر المعاين لا يفيد الاعتبار بلا بصيرة صحيحة وفي الوسيط معنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها قال يحيى بن معاذ رحمه الله : من لم يعتبر بالمعاينة استغنى عن الموعظة وقد استدل بالآية على حجية القياس من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له كما فصل في الكتب الأصولية وأشار بأهل الكتاب إلى يهودي النفس ونصراني الهوى وإنما نسبنا التنصر إلى الهوى والتهود إلى النفس لغلبة عطلة النفس فإن الهوى بالنسبة إلى النفس كالروح بالنسبة إلى الجسم البدني ولهذا المعنى قيل الهوى روح النفس ينفخ فيها هوى الشهوات الحيوانية ويهوى إلى هاوية الجحيم والله تعالى يستأصلها من ديار صفاتها الظلمانية بالصدمة الأولى من قتال الحشر الأول وظنوا أن حصون طباعهم الرديئة تمنعهم عن الانسلاخ من صفاتهم الخسيسة فأتاهم الله بالتجلي القهري وقذف في قلوب النفس والهوى رعب المفارقة بينهما فإن كل واحد منهما كان متمسكاً بالآخر تمسك الروح بالبدن وقيام البدن بالروح يخربون بيوت صفاتهم بأدي أهوائهم المضلة وبقوة أيدي الروح والسر والقلب لغلبة نوريتهم عليها فاعبروا يا أولي الأبصار الذين صار الحق تعالى بصرهم كما قال فبي يبصر وبي يسمع وبي يبطش الحديث بطوله
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ} حكم {عَلَيْهِمُ} أي على بني النضير {الْجَلاءَ} أي الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع وقد سبق الكلام في الجلاء ولولا امتناعية وما بعدها مبتدأ فإن أن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن المقدر أي ولولا أنه وكتب الله خبرها والجملة في محل الرفع بالابتداء بمعنى ولولا كتاب الله عليهم الجلاء واقع في علمه أو في لوحه {لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا} بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة من اليهود قال بعضهم لما استحقوا بجرمهم العظيم قهراً عظيماً أخذوا بالجلاء الذي جعل عديلاً لقتل النفس لقوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلى قليل منهم مع أن فيه احتمال إيمان بعضهم بعد مدة وإيمان من يتولد منهم {وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} استئناف غير متعلق بجواب لولا إذ لو كان معطوفاً
421
(9/342)
عليه لزم أن ينجو من عذاب الآخرة أيضاً لأن لولا تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط وإنما جيىء به لبيان أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء لا نجاة لهم من عذاب الآخرة.
يقول الفقير لا يلزم من نجاتهم من عذاب الدنيا أن لا يكون جلاؤهم من قبيل العذاب وإنما لم يكن منه بالنسبة إلى عذاب الاستئصال والوجه في جلائهم إنهم قصدوا قتل النبي عليه السلام وقتله شر من ألف قتل فأخذوا بالجلاء ليموتوا كل يوم ألف مرة لأن انقطاع النفس عن مألوفاتها بمنزلة موتها فجاء الجزاء من جنس العمل قال بعض أهل الإشارة ولولا أن كتب الله على يهودي النفس ونصراني الهوى جلاء الانسلاخ من ديار وجوداتهم لعذبهم في طلب الدنيا ومحبتها ولهم في آخر الآمر عذاب نار القطيعة عن مألوفاتهم الطبيعية ومسحتسناتهم الحسية {ذَالِكَ} أي ما حاق بهم وسيحيق {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} خالفوا أمرهما وفعلوا ما فعلوا مما حكي عنهم من القبائح والمشاقة كون الإنسان في شق ومخالفه في شق {وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ} كائناً من كان {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} له فهو نفس الجزاء بحذف العائد أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب فإذا لهم عقاب شديد أيضاً لكونهم من المشاقين وأياً ما كان فالشرطية تحقيق للتسببية بالطريق البرهاني وفيه إشعار بأن المخالفة تقتضي المؤاخذة بقدر قوتها وضعفها فليحذر المؤمنون من العصيان مطلقاً :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
همينست بسندست اكر بشنوى
كه كر خار كارى سمن ندورى
اعلم أن ا الذي هو الاسم الأعظم جامع لجميع الأسماء الإلهية المنقسمة إلى الأسماء الجلالية القهرية والجمالية اللطفية والتشاقق فيه استدعاء أحد الشقين من التجليين الجمالي والجلال بأن يطلب الطالب منه اللطف والجمال وهو ممن يستحق القهر والجلال لا ممن يستحق اللطف والجمال فهو يستدعي من الحق شيء لا تقتضي حكمته البالغة إعطاءه إياه وهو من قبيل التحكم الذي لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى كما قال تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وأن إصابته فتنة انقلب على وجهه.
قال الحافظ :
درين من نكنم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميدهند مى رويم
والمشاقة مع الرسول عليه السلام المنازعة في حكمة أمره ونهيه مثل أسرار الصلوات الخمس واختلاف أعدادها وقراءتها جهراً وسراً ومثل أسرار الزكاة واختلاف أحكامها ومثل أحكام الحج ومناسكه ونحن أمرنا بمحض الامتثال والانقياد وما كلفنا بمعرفة أسرارها وحقائقها والنبي عليه السلام مع كمال عرفانه وجلال برهانه يقول : إن أتبع إلا ما يوحى إلي وقال : نحن نحكم بالظواهر والله يعلم السرائر قوله فإن الله شديد العقاب ومن شدة عقابه ابتلاء عبده بامتثال هذه الأشياء مع عدم تكليفه إياه بمعرفة حقائقها والمراد بالعقاب الأتعاب وإلا فالأحكام من قبيل الرحمة لا العذاب ولذا من قال هذه الطاعات جعلها الله علينا عذاباً من غير تأويل كفر {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} ما شرطية نصب بقطعتم واللينة فعلة نحو حنطة من اللون على أن أصلها لونة فياؤها مقلوبة عن واو لكسرة ما قبلها نحو ديمة وفيمة وتجمع على ألوان وهي ضروب النخل كلها وقيل من اللين وتجمع على لين وأليان وهي النخلة
422
الكريمة الشجرة بكونها قريبة من الأرض والطيبة الثمرة قال الراغب في المفردات : اللين ضد الخشونة ويستعمل ذلك في الأجسام ثم يستعار للخلق ولغيره من المعاني فيقال فلان لين وفلان خشن وكل واحد منهما يمدح به طوراً ويذم به طوراً بحسب اختلاف المواضع وقوله ما قطعتم من لينة أي من نخلة ناعمة ومخرجه مخرج فعلة نحو حنطة ولا يختص بنوع من دون نوع انتهى والمعنى أي شيء قطعتم من نخلة من نخيلهم بأنواعها وقيل : اللينة ضروب النخلة كلها ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا}
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/343)
الضمير لما وتأنيثه لتفسيره بالليلة كما في قوله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها {قَآاـاِمَةً} حال من ضمير المفعول {عَلَى أُصُولِهَا} كما كانت من غير أن تتعرضوا لها بشيء من القطع جمع أصل وهو ما يتشعب منه الفرع {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فذاك أي قطعها وتركها بأمر الله فلا جناح عليكم فيه فإن في كل من القطع والترك حكمة ومصلحة {وَلِيُخْزِىَ الْفَـاسِقِينَ} أي وليذل اليهود الخارجين عن دائرة الإسلام إذن في قطعها وتركها فهو علة لمحذوف يقال خزي الرجل لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ومصدره الخزاية وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي أذن الله في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف أحبوا ويتصرفون فيها حسبما شاءوا من القطع والترك يزدادون غيظاً ويتضاعفون حسرة وذلك أن رسول الله عليه السلام حين أمر أن تقطع نخيلهم وتحرق قالت اليهود وهو بنو النضير : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخيل وإحراقها فشق ذلك على النبي عليه السلام وكان في أنفس المؤمنين أيضاف من ذلك شيء فنزلت وجعل أمر رسول الله أمره تعالى لأنه عليه السلام ما ينطق عن الهوى واستدل به على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم مثمرة كانت أو غير مثمرة وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم وتخصيص اللينة بالقطع إنك انت من الألوان ليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية اللتين هما كرام النخيل وإن كانت هي الكرام ليكون غيظهم أشد ويقال إن العتيق والعجوة كانتا من نوح في السفينة والعتيق الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذا شق على اليهود قطعها وظهر من هذا أن اللون هو ما عدا العجوة والبرني من أنواع التمر بالمدينة والبرني بالفارسية حمل مبارك أو جيد لأن أصله برنيك فعرب ومن أنواع تمر المدينة الصيحاني وفي شرح مسلم للنووي أن أنواع التمر مائة وعشرون وفي تاريخ المدينة الكبير للسيد السمنودي أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مائة وبضعاً وثلاثين ويوافقه قول بعضهم اختبرناها فوجدنا أكثر مما ذكره النووي قال : ولعل ما زاد على ما ذكر حدث بعد ذلك وأما أنواع التمر بغير المدينة كالمغرب فلا تكاد تنحصر فقد نقل أن عالم فاس محمد بن غازي أرسل إلى عالم سلجماسة ابراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة فأرسل إليه حملاً أو حملين من كل نوع تمرة واحدة فأرسل إليه هذا ما تعلق به علم الفقير وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وفي نسق الأزهار أن بهذه البلدة رطباً يسمى البتوني وهو أخضر اللون وأحلى من عسل النحل ونواه في غاية الصغر
423
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
وكانت العجوة خير أموال بني النضير لأنهم كانوا يقتاتوتها وفي الحديث "العجوة من الجنة وتمرها يغذي أحسن الغذاء".
روي أن آدم عليه السلام نزل بالعجوة من الجنة وفي البخاري من تصبح كل يوم على سبع تمرات عجوة لم يصبه في ذكل اليوم سم ولا سحر وقد جاء في العجوة العالية شفاء وإنها ترياق أول البكرة وفي كلام بعضهم العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني تضرب إلى السواد وهي مما غرسه النبي عليه السلام بيده الشريفة وقد علمت أنها في نخل بني النضير وعن ابن عباس رضي الله عنهما هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء بالآسة وهي سيدة ريحان الدنيا والسنبلة وهي سيدة طعام الدنيا والعجوة وهي سيدة ثمار الدنيا وفي الحديث : "إن العجوة من غرس الجنة وفيها شفاء وإنها ترياق أو البكرة وعليكم بالتمر البرني فكلوه فإنه يسبح في شجره ويستغفر لآكله وإنه من خير تمركم وإنه دواء وليس بداء" وجاء بيت لا تمر فيه جياع أهله قال ذلك مرتين ولما قطعت العجوة شق النساء الجيوب وضربن الحدود ودعون بالويل كما في إنسان العيون قال بعض أهل الإشارة يشير إلى من قطع نخلة محبة الدنيا من أرض قلبه بأمر الله وحكمته المقتضية لذلك الأمر بالقطع وهم المحرمون المنقطعون عن الدنيا ومحبتها وشهواتها ولذاتها المتوجهون إلى طريق السلوك إلى الله بتزكية النفس وتصفية القلب وتخلية السر وتحلية الروح وإلى من ترك الدنيا في أرض قلبه قائمة على أصولها على حالها بإذن الله وحكمته البالغة المقتضية لإبقائها وهم الكاملون المكملون الواصلون المواصلون الذين ليس للدنيا ولا للآخرة عندهم قدر ومقدار ما زاغ نظر ظاهرهم ولا بصر باطنهم إليهما لاشتغالهم بذكر الله أي بذكر ذاته وصفاته وأسمائه كما قال في حقهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وليخزي الفاسقين الذين خرجوا من مقام المعرفة والعرفان وما عرفوا أن للحق عباداً ليس للدنيا والآخرة عندهم قدر ومقدار وما زاغ بصر ظاهرهم ولا نظر باطنهم إليهما وطعنوا فيهم بمحبة الدنيا ونسبوا إليهم حب الشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية فأخزاهم الله بشؤم هذا الطعن والله يشهد أنهم لكاذبون.
قال الحافظ :
س تجربه كرديم درين دير مكافات
بادرد كشان هركه در افتاد بر افتاد
كتاب روح البيان ج9 متن
(9/344)
الهام رقم 45 من صفحة 424 حتى صفحة 434
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع وما موصولة مبتدأ وقوله فما أوجفتم خبره ويجوز جعلها شرطية وقوله فما أوجفتم جواباً والفيىء في الأصل بمعنى الرجوع وأفاء أعاد وأرجع فهو على أصل معناه هنا والمعنى ما أعاده إليه من مالهم أي جعله عائداً ففيه إشعار بأنه كان حقيقياً بأن يكون له عليه السلام وإنما وقع في أيديهم بغير حق فرجعه الله إلى مستحقه لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين وهو عليه السلام رأسهم ورئيسهم وبه أطاع من أطاع فكان أحق به فالعود على هذا بمعنى أن
424
يتحول الشيء إلى ما فارق عنه وهو الأشهر ويجوز أن يكون معناه صيره له فالعود على هذا بمعنى أن بتحول الشيء إلى ما فارق عنه وإن لم يكن ذلك التحول مسبوقاً بالحصول له والحمل هنا على هذا المعنى لا يحوج إلى تكلف توجيه بخلاف الأول وكلمة على تؤيد الثاني وقال بعضهم : أفاء الله مبني على أن الفيىء الغنيمة فمعنى أفاء الله على رسوله جعله فيئاً له خاصة وقال الراغب الفيىء والفيئة الرجوع إلى حالة محمودة وقيل للغنيمة التي لا يلحق فيها مشقة فيىء قال بعضهم : سمي ذلك بالفيىء تشبيهاً بالفيىء الذي هو الظل تنبيهاً على أن أشرف إعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل والفئة الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض في التعاضد وقال المتطرزي في المغرب في الفرق بين الغنيمة والفيىء والنفل أن الغنيمة عن أبي عبيد ما نيل من أهل الشرك عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس وسائرها بعد الخمس للغانمين خاصة والفيىء ما نيل منهم بعدما تضع الحرب أوزارها وتصير الدار دار إسلام وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس والنفل ما بنفله الغازي أي يعطاه زائداً على سهمه وهو أن يقول الإمام أو الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه أو قال للسرية : ما أصبتم فلكم ربعه أو نصفه ولا يخمس وعلى الإمام الوفاء به وعن علي بن عيسى الغنيمة أعم من النفل والفيىء أعم من الغنيمة لأنه اسم لكل ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك قال أبو بكر الرازي فالغنيمة فيىء والجزية فيىء ومال أهل الصلح فيىء والخراج فيىء لأن ذلك كله مما أفاه الله على المسلمين من المشركين وعند الفقهاء كل ما يحل أخذه من أموالهم فهو فيىء
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{مِنْهُمْ} أي بني النضير {فَمَآ} نافية {أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أي فما أجريتم على تحصيله وتغنمه من الوجيف وهو سرعة السير يقال أوجفت البعير أسرعته وفي القاموس الوجيف ضرب من سير الخيل والإبل وقيل : أوجف فأعجف {مِنْ خَيْلٍ} من زائدة بعد النفي أي خيلاً وهو جماعة الافراس لا واحد له أو واحده خائل لأنه يختال والجمع أخيال وخيول كما في القاموس وقال الراغب الخيلاء التكبر من نخيل فضيلة تترا أي للإنسان من نفسه ومنها تتأول لفظة الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرساً إلا وجد في نفسه نخوة والخيل في الأصل اسم للافراس والفرسان جميعاً قال تعالى : ومن رباط الخيل ويستعمل في كل واحد منهما مفرداً نحو ما روي يا خيل الله اركبي فهذا للفرسان وقوله عليه السلام : عفوت لكم عن صدقة الخيل يعني الافراس انتهى.
والخيل نوعان : عتيق وهجين فالعتيق ما أبواه عربيان سمي بذلك لعتقه من العيوب وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة وسميت الكعبة بالبيت العتيق لسلامتها من عيب الرق لأنه لم يملكها ملك قط وإذا ربط الفرس العتيق في بيت لم يدخله شيطان والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية والفرق أن عظم البرذونة أعطم من عظم الفرس وعظم الفرس أصلب وأثقل والبرذونة أحمل من الفرس والفرس أسرع منه والعتيق بمنزلة الغزال والبرذونة بمنزلة الشاة والفرس برى المنامات كبني آدم ولا طحال له وهو مثل لسرعته وحركته كما يقال للبعير لأمرارة له أي له جسارة {وَلا رِكَابٍ} هي ما يركب من الإبل خاصة كما أن الراكب عندهم راكبها لا غير وأما راكب الفرس فإنهم يسمونه فارساً ولا واحد لها من لفظها وإنما الواحدة منها
425
(9/345)
راحلة قال في المفردات : الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان وقد يستعمل في السفينة والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير جمعه ركب وركبان وركوب واختص الركاب بالمركوب والمعنى ما قطعتم ولها شقة بعيدة ولا لقيتم مشقة شديدة ولا قتالاً شديداً وذلك وأنه كانت قرى بني النضير على ميلين من المدينة وهي ساعة واحدة بحساب الساعات النجومية فذهبوا إليها مشياً وما كان فيهم راكب إلا النبي عليه السلام وكان يركب حماراً مخطوماً بليف على ما سبق أو جملاً على ما قاله البعض فافتتحها صلحاً من غير أن يجري بينهم مسايفة كأنه قال وما أفاء الله على رسوله منهم فما حصلتموه بكد اليمين وعرق الجبين {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَه عَلَى مَن يَشَآءُ} أي سنته تعالى جالية على أن يسلطهم على من يشاء من أعدائهم تسليطاً خاصاً وقد سلط النبي عليه السلام على هؤلاء تسليطاً غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايقالحطوب وتقاسوا شدائدالحروب فلا حق لكم في أموالهم يعني أن الأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء فلا يقسم قصمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً وذلك أنهم طلبوا القسمة كخيبر فنزلت {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة وأخرى على غيرها :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
تيغى كه آسمانش از فيض خود دهد آب
تنها جهان بكيرد بى منت ساهى
اعلم أن الفيض الإلهي الفائض من الله على ساحة قلب السالك على قسمين : إما بالوهب المحض من خزانة اسمه الوهاب من غير تعمل من العامل فيه من ركب خيل النية الصالحة ومن سوق ركاب العمل الصالح من الفرائض والنوافل فهو مقطوع الروابط من جانب السالك العامل فليس للسالك أن يضيف ذلك الفيض والوارد القلبي إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا إلى الأعمال الصادرة منه بسبب الأعضاء والجوارح بل يتركه على صرافة الوهب الرباني وطراوة العطاء الامتناني والآية الكريم دالة هذا القسم وإما مشوب بتعمله فهو من خزانة اسمه الجواد فله أن يضيفه إلى نفسه وأعضائه وجوارحه ليظهر أثره عليها كلها والآية الثالثة الآتية تشير إلى القسم الثاني وقد جمع بينهما قوله تعالى لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فإن الأول إشارة إلى الأول والثاني إلى الثاني وأراد برسوله رسول القلب وإنما سمي القلب بالرسول لأن الرسالة من حضرة الروح إلى النفس الكافرة والهوى الظالم بدعوتهما إلى الحق تعالى بالإيمان والهدى {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بيان لمصارف الفيىء بعد بيان إفاءته عليه صلى الله عليه وسلّم من غير أن يكون للمقاتلة فيه حق ولذا لم يعطف عليه كأنه لما قيل ما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة فلا يقسم قسمة الغنائم فكأنه قيل فكيف يقسم فقيل : ما أفاء الله الخ قال في برهان القرآن قوله وما أفاء الله وبعده ما أفاء الله بغير واو لأن الأول معطوف على قوله ما قطعتم من لينة والثاني استئناف وليس له به تعلق وقول من قال بدل من الأول مزيف عند أكثر المفسرين انتهى وإعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير ووضع أهل القرى موضع ضميرهم للإشعار بشمول ما لعقاراتهم أيضاً فالمراد بالقرى قرى بني النضير.
وقال الكاشفي : من أهل القرى
426
از اموال وأملاك أهل دهها وشهرها بحرب كرفته نشود وفي عين المعاني أي قريظة والنضير بالمدينة وفدك وخيبر.
وفي إنسان العيون وفسرت القرى بالصغرى ووادي القرى أي بثلث ذلك كما في الإمتاع وينبع وفسرت بني النضير وخيبر أي بثلاثة حصون منها وهي الكيتية والوطيح والسلالم كما في الإمتاع وفدك أي نصفها قال العلماء : كانت الغنائم في شرع من قبلنا الله خاصة لا يحل منها شيء لأحد وإذا غنمت الأنبياء عليهم السلام جمعوها فتنزل نار من السماء فتأخذها فخص نبينا عليه السلام من بينهم بأن أحلت له الغنائم قال عليه السلام : أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} يأمران ما أحبا وقيل ذكر الله للتشريف والتعظيم والتبرك وسهم النبي عليه السلام سقط بموته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ روي ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه فكانت لرسول الله خالصة وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة وما بقي جعله في الخيل والسلاح عدة في سبيل الله {وَلِذِى الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم وبنو المطلب الفقراء منهم لما حرموا الصدقة أي الزكاة وروي أبو عصمة عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز دفع الزكاة إلى الهاشمي وإنما كان لا يجوز في ذلك الوقت ويجوز النفل بالإجماع وكذا يجوز النفل للغني كذا في فتاوي العتابي وذكر في المحيط بعدما ذكر هذه الرواية.
(9/346)
ـ وروي ـ ابن ساعدة عن أبي يوسف رحمه الله إنه لا بأس بصدقة بني هاشم بعضهم على بعض ولا أرى الصدقة عليهم وعلى مواليهم من غيرهم كذا في النهاية وقال في شرح الآثار عن أبي حنيفة رحمه الله أن الصدقات كلها جائزة على بني هاشم والحرمة كانت في عهد النبي عليه السلام لوصول خمس الخمس إليهم فلما سقط ذلك بموته حلت لهم الصدقة قال الطحاوي وبالجواز نأخذ كذا في شرح الوقاية لابن الملك {وَالْيَتَـامَى} جمع يتيم واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه وفي سائر الحيوانات من قبل أمه {وَالْمَسَـاكِينِ} جمع مسكين ويفتح ميمه وهو من لا شيء له أوله ما لا يكفيه أو أسكنه الفقر أي قلل حركته والذليل الضعيف كما في القاموس وهو من السكون فنونه أصلية لا نون جمع ولذلك تجري عليه الأعاريب الثلاثة {وَابْنِ السَّبِيلِ} أي المسافر البعيد عن ماله وسمي به لملازمة له كما تقول للص القاطع ابن الطريق وللمعمر ابن الليالي ولطير الماء ابن الماء وللغراب ابن دأية بإضالة الابن إلى دأية البعير لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت والدأية الجنب قال أهل التفسير اختلف في قسمة الفيىء قيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة وسائر المساجد ويصرف ما بقي وهي خمسة أسداس الستة إلى المصارف الخمسة التي يصرف إليها خمس الغنيمة وقيل يخمس لأن ذكر الله للتعظيم ويصرف كل خمس إلى مصارف خمس الغنيمة ويصرف الآن سهم الرسول عليه السلام إلى الإمام علي قول وإلى العساكر والثغور على قول وهو الأصح عند الشافعية وإلى مصالح المسلمين على قول وقيل يخمس خمسة كالغنيمة فإنه عليه السلام كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء أي كان يقسم الفيىء أخماساً ويصرف الأخماس الأربعة لذي القربى
427
واليتامى والمساكين وابن السبيل ويخمس الخمس الباقي ويختار خمس الخمس لنفسه ويصرف الأخماس الأربعة الباقية كما يشاء والآن على الخلاف المذكور من صرف سهمه عليه السلام إلى الإمام أو العساكر والثغور أو مصالح المسلمين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
وفي التأويلات النجمية ذووا القربى الروح والقلب والسر والخفي وهم مقربوا الحق تعالى بقرب الحسب والنسب واليتامى المتولدات من النفس الحيوانية الباقية بعد فناء النفس بحسب سطوات تجليات القهر والمساكين هم الأعضاء والجوارح وابن السبيل القوى البشرية والحواس الخمس المسافرون إلى عوالم المعقولات والمتخيلات والموهومات والمحسوسات بقدم العقل والخيال والوهم والحس وقال بعض أهل الإشارة ذووا القربى هم الذين شاركوه في بعض مقاماته عليه السلام واليتامى هم الذين انقطعوا عما دون الحق إلى الحق فبقوا بين الفقدان والوجدان طلاب الوصول والمساكين هم الذين ليس لهم بلغة المقامات وليسوا بمتمكنين في الحالات وابن السبيل هم الذين سافروا من الحدثان إلى القدم {كَىْ لا يَكُونَ} علة لقوله فلله وللرسول أي تولي الله قسمة الفيىء وبين قسمته لئلا يكون أي الفيىء الذي حقه أن يكون للفقراء يعيشون به {دُولَةَ} بضم الدال وقرىء بفتحها وهي ما يدول للإنسان أي يدور من الغنى والجد والغلبة أي كيلا يكون جدا {بَيْنَ الاغْنِيَآءِ مِنكُمْ} يتكاثرون به والخطاب للأنصار لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غنى كما في فتح الرحمن أو كيلا يكون دولة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزبز أي من غلب سلب فيجعلون الاستقلال بمال الغنيمة والانفراد به منوطاً بالغلبة عليه فكل من غلب على شيء منه يستقل به ولا يعطي الفقراء والضعفاء شيئاً منه.
قال الكاشفي : در معالم آورده كه اهل جاهليت ون غنيمتى كرفتندى مهتر ايشان ربعى بر داشتى وازباقى نيز بر اى خود تحفه اختيار كردى وانرا صفى كفتندى وباقي را باقوم كذا شتى وتوانكران قوم بردرويشان دران قسمت حيف كردندى جمعى از رؤساى أهل إيمان درغنايم بني النضير همين خيال بسته كفتند يا رسول الله شما ربعي ونصفي مغنم را ترداريد وبكذا ريد تاباقي را قسمت كنيم حق سبحانه وتعالى آنرا خاصه حضرت يغمبر عليه السلام كردانيد وقسمت آنرا بر وجهي كه مذكور شد مقرر ساخت وفرمودكه حكم فيىء يدا كرديم تانباشد آن فيء كردان دست بدست ميان توانكران از شماكه زياده از حق خود بردراند وفقرارا اندك دهند يا محروم سازند نانكه در زمان جاهليت بوده.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/347)
وقيل الدولة بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف أي إن الدولة اسم للشىء الذي يتداوله القوم بينهم فيكون مرة لهذا ومرة لهذا والتداول بالفارسية از يكديكر فرا كرفتن.
وتداول القوم كذا وداول الله بينهم كذا فالمعنى كيلا يكنون الفيىء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء والدولة بالفتح مصدر بمعنى التداول وفيه إضمار محذوف فالمعنى كيلا يكون ذا تداول بينهم أو كيلا يكون إمساكه وأخذه تداولاً لا يخرجونه إلى الفقراء وقيل هي بالفتح بمعنى انتقال حالة سارة إلى قوم عن قوم وتستعمل في نفس الحالة السارة التي تحدث للإنسان
428
يقال هذه دولة فلان وقيل الضم للأغنياء والفتح للفقراء وفي الحديث "اغتنوا دولة الفقراء" كما في الكواشي وفي الآية إشارة إلى إعطاء كل ذي حق حقه كيلا يحصل بين الأغنياء والفقراء نوع من الجور والدولة الجاهلية يقال كان الفقراء في مجلس سفيان الثوري أمراء أي كالأمراء في التقديم والإكرام والعزة {وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ} ما موصولة والعائد محذوف والإيتاء الإعطاء والمناولة أي ما أعطاكموه أيها المؤمنون من الفيىء {فَخُذُوهُ} فإنه حقكم {وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ} أي عن أخذه {فَانتَهُوا} عنه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفته عليه السلام {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيعاقب من يخالف أمره ونهيه والأولى حمل الآية على العموم فالمعنى وما آتاكم الرسول من الأمر مطلقاً فيئاً أو غيره أصولاً اعتقادياً أو فروعاف عملية فخذوه أي فتمسكوا به فإنه واجب عليكم.
هرشربتي ازدست او درآيد بستانيد كه حيات شما دررنست وآن لوح راخوانيدكه نويسد زيرا ضروريات شما در صفحه او بيانست وما نهاكم عن تعاطيه أياً كان فانتهوا عنه زيراً أمر ونهى أو بحق است هركه ممتثل امر أو كردد نجات يابد وهركه از نهى أو اجتناب ننمايد دروروطه هلاك افتد :
آنكس كه شد متابع امر توقد نجا
وانكو خلاف راى توورزيد قد هلك
وفيه دليل على أن كل ما أمر به النبي عليه السلام أمر من الله تعالى قال العلماء اتباع الرسول عليه السلام في الفرائض العينية فرض عين وفرض كفاية في الفروض على سبيل الكفاية وواجب في الواجبات وسنة في السنن فما علمنا من أفعاله واقعاً على جهة نقتدي به في اتباعه على تلك الجهة وما لم نعلم على أي جهة فعله فلنا فعله على أدنى منازل أفعاله وهو الإباحة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ روي ـ إن ابن مسعود رضي الله عنه لقي لاجلاً محرماً وعليه ثيابه فقال : انزع عنك هذا فقال الرجل : أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله قال : نعم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
ـ وروي ـ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : "لعن الله الواشمات" أي فاعلات الوشم وهو ما يوشم به اليد من نؤور أو نيلج قال في القاموس : الوشم كالوعد غرز الإبرة في البدن ور النيلج عليه والنؤور كصبور النيلج ودخان الشحم وحصاة كالإثمد تدق فيسفها اللثة "والموستوشمات" يقال استوشمت الجارية طلبت أن يوشم بها "والمتنمصات للحسن" وهي أي المتنمصة التي تنتف شعرها يعني بركننده موى از براي حسن.
قال في القاموس : النمص نتف الشعر ولعنت النامصة وهي مزينة النساء بالنمص والمتنمصة وهي مزينة به "المغيرات خلق الله" آن زنانى كه تغيير كنند آفريده خدارا.
ويدخل فيه تحديد الأسنان وإصلاحها ببعض الآلات وثقب الأنف وأما ثقب الأذن فمباح للنساء لأجل التزيين بالقرط وحرام على الرجال كحلق اللحية "فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت" س آمدآن زن نزد "ابن مسعود رضي الله عنه فقال : قد بلغني أنك قلت كيت وكيت" يعني مرا رسيده است كه توكفته نين ونين "فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله ومن هو في كتاب الله" يعني ابن مسعود كفت كونه لعنت نكنم آنراكه لعنت كرده است رسول الله وآنراكه در كتاب الله است "فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحتين فما وحدت فيه ما تقول قال : لئن كنت
429
(9/348)
قرأته لقد وجدته أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : بلى قال : فإنه عليه السلام قد نهى عنه" ولذلك قرأ ابن عباس رضي الله عنه هذه الآية للنهي عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت والدباء بالضم والمد القرعة والحنتم بفتح الحاء والتاء وسكون النون قبلها جرة خضراء والنقير ما نقب من حجر وخشب ونحوهما والمزفت بالضم والتشديد جرة أو خابية طليت ولطخت بالوفت بالكسر أي القار وحل عند الإمام الأعظم اتخاذ نبيذ التمر والذرة ونحوه بأن يلقى قي هذه الأوعية وإن حصل الاشتداد بسببها وفي الحديث : "القرآن صعب عسر على من كرهه ميسر على من تبعه وحديثي صعب مستصعب وهو الحكمة فمن استمسك بحديثي وحفظه كان مع القرآن ومن تهاون بحديثي خسر الدنيا والآخرة وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وسئل سهل رحمه الله عن شرائع الإسلام فقال : ما آتاكم الرسول من خبر الغيب ومكاشفة الرب فخذوه باليقين وما نهاكم عنه من النظر إلى غير الله فانتهوا عنه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
وفي التأويلات النجمية يخاطب به ذوي الحقوق من المراتب الأربع ويقال لهم : ما أعطاكم رسول القلب من الفيض الذي حصل له بمددكم الصوري ومعونتكم المعنوية من قبل قتل النفس الكافرة والهوى الظالم فاقبلوه منه بحسن التلقي ولطف القبول وإنه أعطاكم على حسب استعدادكم وما منع عنه فامتنعوا عن الاعتراض عليه واتقوا الله في الاعتراض فإن الله شديد العقاب بحرمانكم من حسن التوجه إليه ولطف الاستفاضة عنه {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَـاجِرِينَ} بدل من لذي القربى وما عطف عليه لا من الله والرسول وألا يلزم دخول الرسول في زمرة الفقراء وهو لا يسمى فقيراً لأنه يوهم الذم والنقصان لأن أصل الفقر كسر فقار الظهر من قولهم فقرته ولهذا سميت الحاجة والداهية فاقرة لأنهما تغلبان الإنسان وتكسران فقار ظهره وإذا لم يصح تسمية الرسول فقيراً فلأن لا يصح تسميته تعالى فقيراً أولى مع أن الله تعالى أخرجه عليه السلام من الفقراء هنا بقوله وينصرون الله ورسوله بقي أن ابن السبيل الذي له مال في وطنه لا يسمى فقيراً نص عليه في التلويح وغيره ومن أعطى أغنياء ذوي القربى كالشافعي خص الإبدال بما بعده بخلاف أبي حنيفة رحمه الله فإن استحقاق ذوي القربى النبي مشروط عنده بالفقر وأما تخصيص اعتبار الفقر بفيىء بني النضير فتعسف ظاهر كما قال في الإرشاد {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} ار سراهاى ايشان كه درمكه داشتند {وَأَمْوَالِهِمْ} ودور افتاده انداز مالهاى خود.
حيث اضطرهم كفار مكة إلى الخروج وأخذوا أموالهم وكاراماثة رجل فخرجوا منها ولا فهم هاجروا باخيتراهم حباًورسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من الشدة حتى كان الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ماله دار غيرها وصح عن رسول الله عليه السلام إنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وقال عليه السلام : أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك
430
مقدار خمسمائة عام {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي حال كونهم طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا ومرضاة في الآخرة وصفوا أولاً بما يدل على استحقاقهم للفيىء من الإخراج من الديار وقد أعاد ذلك ثانياً بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده فهو حال من واو اخرجوا وفي ذكر حالهم ترق من العالي إلى الأعلى فإن رضوان الله أكبر من عطاء الدنيا {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} عطف على يبتغون فهي حال مقدرة أي ناوين نصرة الله بإعلاء دينه ونصرة رسوله ببذل وجودهم في طاعته أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة {أولئك} المهاجرون الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة {هُمُ الصَّـادِقُونَ} الراسخون في الصدق حيث ظهر ذلك بما فعلوا ظهوراً بيناً كأن الصدق مقصور عليهم لكمال آثاره الصدق صدقة السر يعني صدقه ملك سراست وصداق الجنة يعني صداق سراى سرورست وصديق الحق يعني صديق ادشاه حق است :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
راست كارى يشه كن كاندر مصاف رستخيز
نيستند از خشم حق جزر استكاران رستكار
مصطفى عليه السلام كفت ما مهتر كليت عالم ايم وبهتر ذريت آدم ومارا بدين فخرنه شربتهاى كرم بردست ما نهادند وهديتهاى شريف بحجره ما فرستادند ولباسهاى نفيس در ما وشيدند وطراز اعزاز براستين ما كشيدند ومارا بدان هي فخرنه كفتند مخترا س اختيار تويست وافتخار توبيست كفت اختيار ما آنست وافتخار ما بدانست كه روزى ساعتى خوييم وبا اين فقراى مهاجرين ون بلال وصهيب وسلمان وعمار ساعتى حديث اوكييم :
بردل ذكر امتش نثارست مرا
وز فقر لباس اختيارست مرا
(9/349)
دينار ودرم به كارست مرا
باحق همه كارون بكارست مرا
بدانكه فقر دواست يكى آنست كه رسول خدا ازان استعاذه كرده وكفته أعوذ بك من الفقر وديكر آنست كه رسول خدا كفته الفقر فخرى آن يكى نزديك بكفر واين يكى نزديك بحق إما آن فقركه بكفر نزديك است فقر دلست كه علم وحكمت وإخلاص وصبر ورضا وتسليم وتوكل ازدل ببرد تادل ازين ولايتها درويش كردد وون زمين خراب شود دل خراب شود منزل شيطان كردد آنكه ون شيطان فرود آمد ساه شيطان روى بوى نهند شهوت وغضب وحسد وشرك وشك وشبه ونفاق ونشان اين فقرآن بودكه هره بيند همه ك بيند سمع او همه مجاز شنود زبان همه دروغ وغيبت كويد قدم بكوى همه ناشايست نهد اين آن فقرست كه رسول خدا كفت كاد الفقر أن يكون كفراً اللهم إني أعوذ بك من الفقر والكفر أما آن فقركه كفت الفقر فخرى آنست كه مرداز دنيا برهنه كردد ودرين برهنكى بدين نزديك كردد وفي الخبر الإيمان عريان ولباسه التقوى همانست كه متصوفه آنرا تجريد كويندكه مرد مجرد شوداز رسوم انسانيت نانكه تيغ مجرد شوداز نيام خويش وتيغ ما دامكه درنيام باشد هنرش آشكارا نكردد وفعل او يدا نيايد همنين دل
431
تادر غلاف انسانيت است هنروى آشكارا نكردد وازوى كارى نكشايد ون از غلاف انسانيت برهنه كردد صورتها وصفتها درو بنمايد.
وقال الشيخ نجم الدين الكاشفي رحمه الله : الافتقار على ثلاثة أقسام : افتقار إلى الله دون الغير وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : الفقر سواد الوجه في الدارين انتها وفي كل من الأحاديث المذكورة معاننٍ أخر جلية على أولى الألباب وطعن أهل الحديث في قوله : الفقر فخري لكن معناه صحيح اللهم أغنني بالافتقار إليك وسئل الحسين رحمه الله من الفقراء؟ قال : الذين وقفوا مع الحق راضين على جريان إرادته فيهم وقال بعضهم : هم الذين تركوا كل سبب وعلاقة ولم يلتفتوا من الكونين إلى شيء سوء ربهم فجعلهم الله ملوكاً وخدمهم الأغنياء تشريفاً لهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
راست كارى يشه كن كاندر مصاف رستخيز
نيستند از خشم حق جزر استكاران رستكار
مصطفى عليه السلام كفت ما مهتر كليت عالم ايم وبهتر ذريت آدم ومارا بدين فخرنه شربتهاى كرم بردست ما نهادند وهديتهاى شريف بحجره ما فرستادند ولباسهاى نفيس در ما وشيدند وطراز اعزاز براستين ما كشيدند ومارا بدان هي فخرنه كفتند مخترا س اختيار تويست وافتخار توبيست كفت اختيار ما آنست وافتخار ما بدانست كه روزى ساعتى خوييم وبا اين فقراى مهاجرين ون بلال وصهيب وسلمان وعمار ساعتى حديث اوكييم :
بردل ذكر امتش نثارست مرا
وز فقر لباس اختيارست مرا
دينار ودرم به كارست مرا
باحق همه كارون بكارست مرا
بدانكه فقر دواست يكى آنست كه رسول خدا ازان استعاذه كرده وكفته أعوذ بك من الفقر وديكر آنست كه رسول خدا كفته الفقر فخرى آن يكى نزديك بكفر واين يكى نزديك بحق إما آن فقركه بكفر نزديك است فقر دلست كه علم وحكمت وإخلاص وصبر ورضا وتسليم وتوكل ازدل ببرد تادل ازين ولايتها درويش كردد وون زمين خراب شود دل خراب شود منزل شيطان كردد آنكه ون شيطان فرود آمد ساه شيطان روى بوى نهند شهوت وغضب وحسد وشرك وشك وشبه ونفاق ونشان اين فقرآن بودكه هره بيند همه ك بيند سمع او همه مجاز شنود زبان همه دروغ وغيبت كويد قدم بكوى همه ناشايست نهد اين آن فقرست كه رسول خدا كفت كاد الفقر أن يكون كفراً اللهم إني أعوذ بك من الفقر والكفر أما آن فقركه كفت الفقر فخرى آنست كه مرداز دنيا برهنه كردد ودرين برهنكى بدين نزديك كردد وفي الخبر الإيمان عريان ولباسه التقوى همانست كه متصوفه آنرا تجريد كويندكه مرد مجرد شوداز رسوم انسانيت نانكه تيغ مجرد شوداز نيام خويش وتيغ ما دامكه درنيام باشد هنرش آشكارا نكردد وفعل او يدا نيايد همنين دل
431
تادر غلاف انسانيت است هنروى آشكارا نكردد وازوى كارى نكشايد ون از غلاف انسانيت برهنه كردد صورتها وصفتها درو بنمايد.
وقال الشيخ نجم الدين الكاشفي رحمه الله : الافتقار على ثلاثة أقسام : افتقار إلى الله دون الغير وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : الفقر سواد الوجه في الدارين انتها وفي كل من الأحاديث المذكورة معاننٍ أخر جلية على أولى الألباب وطعن أهل الحديث في قوله : الفقر فخري لكن معناه صحيح اللهم أغنني بالافتقار إليك وسئل الحسين رحمه الله من الفقراء؟ قال : الذين وقفوا مع الحق راضين على جريان إرادته فيهم وقال بعضهم : هم الذين تركوا كل سبب وعلاقة ولم يلتفتوا من الكونين إلى شيء سوء ربهم فجعلهم الله ملوكاً وخدمهم الأغنياء تشريفاً لهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/350)
وفي التأويلات النجمية أبدل الله من ذوي القربى المهاجرين إلى الله أي ذووا القربى هم المهاجرون من قرية النفس إلى مدينة الروح والقلب بالسير والسلوك وقطع المفاوز النفسانية والبواد الحيوانية المخرجون من ديار وجوداتهم وأموال صفاتهم وأخلاقهم إلى حضرة خالقهم ورازقهم طالبين من فضله وجوده وجوده ونور رضوان صفاته ونعوته ناصرين الله بمظهريتهمالاسم الجامع ورسوله بمظهريتهم لأحكامه وشرائعه الظاهرة أولئك هم الصادقون في مقام الفناء عنهم في رواتهم وصفاتهم وأفعالهم والبقاء به أي بذاته وصفاته وىفعاله جعلنا الله وإياكم هكذا بفضله {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالايمَـانَ} كلام مستأنف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة من جملتها محبتهم للمهاجرين ورضاهم باختصاص الفيىء بهم أحسن رضى وأكمله والأنصار بنو الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة ابن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان قال في القاموس قحطان بن عامر بن شالخ أبو حي انتهى وهو أصل العرب العرباء ومن الأنصار غسان كشداد ماء قرب الجحفة نزل عليه قوم من ولد الأزد فشربوا منه فنسبوا إليه وأصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبو الذي هو منافاة الأجزاء يقال مكان بواء إذا لم يكن نابياً بنازله ويوأت له مكاناً سويت.
ـ وروي ـ إنه عليه السلام كان يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله وتبوأوا لمنزل اتخاذه منزلاً والتمكن والاستقرار فيه فالمتبوأ فيه لا بد أن يكون من قبيل المنازل والأمكنة والدار هي المدينة وتسمى قديماً يثرب وحديثاً طيبة وطابة كذلك بخلاف الإيمان فإنه ليس من هذا القبيل فمعنى تبوئهم الدار والإيمان إنهم اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وتمكنوا فيهما أشد تمكن على تنزيل الحال منزلة المكان وقيل ضمن التبوؤ معنى اللزوم وقيل تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان أو قبلوه أو آثروه كقول من قال علفتها تبناً وماء بارداً.
أي وسقيتها ماء بارداً فاختصر الكلام وقيل غير ذلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
يقول الفقير : لعل أصل الكلام والذين تبوأوا دار الإيمان فإن المدينة يقال لها دار الإيمان لكونها مظهره ومأوى أصله كما يقال لها دار الهجرة وإنما عدل إلى ما ذكر من صورة العطف تنصيصاً على إيمانهم إذ مجرد التبوء لا يكفي في المدح {مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل هجرة المهاجرين فقدر المضاف لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين بل منهم من آمن قبل
432
الهجرة ومنهم من آمن بعدها قال بعضهم مراد أنصار ندكه درديار خود ايمان آوردند وبد وسال يش ازقدوم حضرت مساجد ساختند.
وربوا الإسلام كما يربى الطير الفرخ قال في الإرشاد : يجوز أن يجعل اتخاذ الإيمان مباءة ولزومه وإخلاصه عبارة عن إقامة كافة حقوقه التي من جملتها إظهار عامة شعائره وأحكامه ولا ريب في تقدم الأنصار في ذلك على المهاجرين لظهور عجزهم عن إظهار بعضها لا عن إخلاصه قلباً واعتقاداً إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك وفي الآية إشارة إلى دار القلب التي هي دار الصدق والإخلاص وإلى الإيمان الاختصاصي الوهبي بتحقيقه وتثبيته {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبر للموصول أي يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان ولأن الله وحبيبه أحباهم وحبيب الحبيب حبيب وفي كشف الأسرار كنايتست از مهمان دوستى أنصار {وَلا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ} أي في نفوسهم {حَاجَةً} أي شيئاً محتاجاً إليه {مِّمَّآ أُوتُوا} أي مما أوتي المهاجرون من الفيىء وغيره ومن بيانية يقال خذ منه حاجتك أي ما تحتاج إليه والمراد من نفي الوجدان نفي العلم لأن الوجدان في النفس إدراك علمي وفيه من المبالغة ما ليس في يعلمون وقال بعضهم : طلب محتاج إليه يعني أن نفوسهم لم تبتغ ما أوتوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه وقيل وجداً على تقديمهم عليهم وغيظاً وحسداً ونحو ذلك قال الراغب الحاجة إلى الشيء الفقر إليه مع محبته {وَيُؤْثِرُونَ} أي يقدمون المهاجرين فالمفعول محذوف {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في كل شيء من أسباب المعاش جوداً وكرماً حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم والإيثار عطاؤك ما أنت تحتاج إليه وفي الخبر لم يجتمع في الدنيا قوم قط إلا وفيهم أسخياء وبخلاء إلا في الأنصار فإن كلهم أسخياء ما فيهم من بخيل
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/351)
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي حاجة وخلة وأصلها خصاص البيت وهي فرجة شبه حالة الفقر والحاجة ببيت ذي فرج في الاشتمال على مواضع الحاجة قال الراغب عبر عن الفقر الذي لا يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة والخص بيت من قصب وشجر وذلك لما يرى منه من الخصاصة وكان عليه السلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة رضي الله عنهم وروي لم يعط إلا رجلين سهلاً وأبا دجانة فإن الحارث بن الصمة قتل في بئر معونة وقال لهم : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالت : الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت وكان عليه السلام أعطى بعض الأراضي وأبقى بعضها يزرع له ولما أعطى المهاجرين أمرهم برد ما كان للأنصار لاستغنائهم عنهم ولأنهم ولم يكونوا ملكوهم وإنما كانوا دفعوا لهم تلك النخيل لينتفعوا بثمرها ويدخل في إيثارهم المهاجرين بالفيىء سائر الإيثارات وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : أهدي لرجل من الأنصار رأس شاة وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له زاعماً أنه أحوج إليه منه فوجه جاره أيضاً إلى آخر فلم يزل يبعث به واحداً إلى آخر حتى تداول ذلك الرأس
433
سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول قال حذيفة العدوي انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به فقلت : أسقيك فأشار برأسه أن نعم فإذا برجل يقول آه آه فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت : أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه فجئت إليه فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات وهذا من قبيل الإيثار بالنفس وهو فوق الإيثار بالمال :
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
وقال في التكملة الصحيح أن الآية نزلت في أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه حين نزل برسول الله عليه السلام ضيف ولم يكن عنده ما يضيفه به فقال : ألا رجلاً يضيف هذا رحمه الله فقام أبو طلحة فانطلق به إلى رحله وقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله فنومت الصبية وأطفأت السراج وجعل الضيف يأكل وهما يريان أنهما يأكلان معه ولا يفعلان فنزلت الآية وكان قناعت السلف أوفر ونفوسهم أقنع وبركتم أكثر ونحن نؤثر أنفسنا على الغير فإذا وضعت مائدة بين أيدينا يريد كل منا أن يأكل قبل الآخر ويأخذ أكثر مما يأخذ الرفيق ولذلك لم توجد بركة الطعام وينفد سريعاً ويروى أنه وقع بين ملك ووزيره أنه قال الملك إن العلماء أحسن حالاً وأصلح بالاً من الفقراء وقال الوزير بخلاف ذلك ثم قال الوزير نمتحنهما في أمرين فبعث أحداً بعدة آلاف درهم إلى أهل المدرسة فقال : اذهب وقل لهم إن الملك أمرني أن أعطي هذه الدراهم أفضلهم وأكملكم فمن هو فقال واحد منهم الأفضلية فقال الرسول لم يتميز الأفضل عندي ولم أعرفه ولم يعط شيئاً فعاد وأخبر بما وقع ثم أرسل الوزير تلك الدراهم إلى أهل الخانقاه ففعلوا عكس ما فعله العلماء وأعطى بيده سيفاً فقال : اذهب فقال لهم : إن الملك أمرني أن أضرب عنق رئيسكم فمن هو فقال واحد منهم أنا وقال الآخر بل أنا وهكذا قال كل منهم إيثار إبقاء أخيه واختيار فدار رفيقه بنفسه فقال الرسول : لم يتميز ما هو الواقع عندي فرجع وأخبر بما وقع فأرسل السيف إلى العلماء ففعلوا عكس ما فعله الفقراء فحج بذلك الوزي على الأمير وأنت تشاهد أن فقراء زماننا على عكس هؤلاء الفقراء في البلاد والممالك قال أبو يزيد البسطامي قدس سره غلبني رجل شاب من أهل بلخ حيث قال لي ما حد الزهد عندكم فقلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا فقال : هذا فعل كلاب بلخ عندنا بل إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا :
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 46 من صفحة 434 حتى صفحة 442
كريم كامل آانرامى شناسم اندرين دوران
كه كرنانى رسد از آسياى رخ كردانش
زاستنغنى همت با وجود فقر وبى بركى
زخود واكير دوسازد نثار بى نوا يانش
وفي العوارف من أخلاق الصوفية الإيثار والمواساة وحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعاً وقوة اليقين شرعاً لأنهم يؤثرون الموجود ويصبرون على المفقود قال يوسف بن الحسين رحمه الله : من رأى لنفسه ملكاً لا يصح له الإيثار لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية
434
ملكه إنما الإيثار لمن يرى الأشياء للحق فمن وصل إليه فهو أحق به فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد غصب أو يد أمانة يوصلها إلى صاحبها ويؤديها إليه.
معاذ بن جبل راديدندكه دربازارا مكه ميكر ديد وزيره تره ميجيد وميكفت هذا ملكك مع رضاك وملك الدنيا مع سخطك :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/352)
خيز يارا تاميخانه زمانى دم زنيم
آتش اندر ملكت آل بني آدم زنيم
هره اسبابست جمع آييم وبس جمع آوريم
س بحكم حال بيزارى همه برهم زنيم
{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وهكره نكاه داشته شود ازبخل نفس أو يعني منع كند نفس را از حب مال وبغض انفاق والوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره والشح بالضم والكسر بخل مع حرص فيكون جامعاً بين ذميمتين من صفات النفس وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل أي ومن يوق بتوفيق الله شحها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق {فأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه والفلاح اسم لسعادة الدارين والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم فإن الفتوى هي الأوصاف المذكورة في حقهم فلهم جلائل الصفات ودقائق الأحوال ولذا قال عليه السلام : آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار وقال عليه السلام : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار قال السهروردي في العوارف : السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح والشح من لوازم صفة النفس حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح أي لمن أنفق وبذل والنبي عليه السلام نبه بقوله ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فجعل إحدى المهلكات شحاً مطاعاً ولم يقل مجرد الشح يكون مهلكاً بل إنما يكون مهلكاً إذا كان مطاعاً فإما كونه موجوداً في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك لأنه من لوازم النفس مستمد من أصل جبلتها الترابي وفي التراب قبض وإمساك وليس ذلك بالعجب من الآدمي وهو جبلي فيه وإنما العجب وجود الصخاء في الغريزة وهو في نفوس الصوفية الداعي لهم إلى البذل والإيثار والسخاء أتم وأكمل من الجود وفي مقابلة الجود البخل وفي مقابلة السخاء الشح والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشح والسخاء إذ كانا من ضرورة الغريزة وكل سخي جواد وليس كل جواد سخياً والحق تعالى لا يوصف بالسخاء لأن السخاء من نتيجة الغرائز والله تعالى منزه عن الغريزة والجود يتطرق إليه الرياء ويأتي به الإنسان متطلعاً إلى عوض من الخلق والثواب من الله تعالى والسخاء لا يتطرق إليه الرياء لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأعواض دنيا وآخرة لأن العوض مشعر بالبخل لكونه معلولاً بالعوض فما تمحض سخاء فالسخاء لأهل الصفاء والإيثار لأهل الأنوار وقال الحسن رحمه الله : الشح هو العمل بالمعاصي كأنه يشح بالطاعة فدخل فيه ما قيل الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له وقال عليه السلام : من الشح نظرك إلى امرأة غيرك وذلك فإن الناظر يشح بالغض والعفة فلا يفلح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ وروي ـ أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إني أخاف أن
435
أكون قد هلكت قال : وما ذاك؟ قال : اسمع الله يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال عبد الله : ليس المراد بالشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل وفسر الشح بغير ذلك وعن الحكيم الترمذي قدس سره : الشح أضر من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول : لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً وقال عليه السلام : من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في التائبة فقد برىء من الشح والشح أقبح البخل وقال عليه السلام : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم.
قال الحافظ :
أحوال كنج قارون كايام داد برباد
با غنه باز كويد تا زر نهان ندارد
وقال المولى الجامي في ذم الخسيس الشحيح :
هرند زندلاف كرم مرد درم دوست
دريوزه احسان زدرا ونتوان كرد
ديرين مثلى هست كه از فضله حيوان
نار نج توان ساخت ولى بونتوان كرد
(9/353)
{وَالَّذِينَ جَآءُو مِنا بَعْدِهِمْ} هم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام فالمراد جاءوا إلى المدينة أوالتابعون بإحسان وهم الذين بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين فالمراد حينئذ جاءوا إلى فضاء الوجود وفي الحديث : "مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره" يعني در منفعت وراحت همون باران بهارانند بارانرا ندانندكه اول آن بهترست يا آخر نفعي است عامر او عامه خلق را حال امت من همنين است همان درويشان آخر الزمان آن شكستكان سرافكنده وهمين عزيزان وبزركواران صحابه همه برادرانند ودر مقام منفعت وراحت همه يكدست ويكسانند هم كالقطر حيث ما وقع نفع بر مثال بارانند ياران هركجاكه رسد نفع رساندهم در بوستان هم در خارستان هم بريحان وهم برام غيلان همنين اهل اسلام درراحت يكديكرورأفت بريكديكر يكسانند ويك نشانند {يَقُولُونَ} خبر للموصول والجملة مسوقة لمدحهم بمحبتهم لمن تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الآخرة في الدين والسبق بالإيمان أي يدعون لهم قائلين {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} ما فرط منا {وَلاخْوَانِنَا} أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَـانِ} وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
و خواهى كه نامت بود جاودان
مكن نام نيك بزركان نهان
قدموا أنفسهم في طلب المغفرة لما في المشهور من أن العبد لا بد أن يكون مغفوراً له حتى يستجاب دعاؤه لغيره وفيه حكم بعدم قبول دعاء العاصين قبل أن يغفر لهم وليس كذلك كما دلت عليه الأخبار فلعل الوجه أن تقديم النفس كونها أقرب النفوس مع أن في الاستغفار أقراراً بالذنب فالأحسن للعبد أن يرى أولاً ذنب نفسه كذا في بعض التفاسير يقول الفقير :
436
نفس المرء أقرب إليه من نفس غيره فكل جلب أو دفع فهو إنما يطلبه أولاً لنلسه لإعطاء حق الأذدم وأما غيره فهو بعده ومتأخر عنه وأيضاً أن ذنب نفسه مقطوع بالنسبة إليه وأما ذنب غيره فمحتمل فلعل الله قد غفر له وهو لا يدري وأيضاً تقديمهم في مثل هذا المقام لا يخلو عن سوء أدب وسوء ظن في حق السلف {وَلا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلا} أي حقداً وهو ذميمة فاحشة فورد المؤمن ليس بحقود يعني كينه كش.
قال الراغب : الغل والغلول تدرع الخيانة والعداوة لأن الغلولة اسم ما يلبس بين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما تستعار الدرع لها {لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا} على إطلاق صحابة أو تابعين وفيه إشارة إلى أن الحقد على غيرهم لائق لغيرة الدين وإن لم يكن الحسد لائقاً.
قال الشيخ سعدي :
دلم خانه مهريارست وبس
ازان مى نكنجد درو كين كس
{رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة فحقيق بأن تجيب دعاءنا وفي الآية دليل على أن الترحم والاستغفار واجب على المؤمنين الآخرين للسابقين منهم لا سيما لآبائهم ولمعلمهم أمور الدين قالت عائشة رضي الله عنها : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم وفي الحديث : "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها" وعن عطاء قال : قال عليه السلام من حفظني في أصحابي كنت له يوم القيامة حافظاً ومن شتم أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فالرافضة والخوارج ونحوهم شر الخلائق خارجون من أقسام المؤمنين لأن الله تعالى رتبهم على ثلاثة منازل : المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر الله فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسامهم قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين رضي الله عنه وحكاياته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم فإنه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة فلعل ذلك الخطأ في الاجتهاد لا لطلب الرياسة أو الدنيا كما لا يخفى وقال في شرح الترغيب والترهيب المسمى بفتح القريب والحذر ثم الحذر من التعرض لما شجر بين الصحابة فإنهم كلهم عدول خير القرون مجتهدون مصيبهم له أجران ومخطئهم له أجر واحد وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فصل آفات اللسان الخوض في الباطل هو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال الوقاع ومجالس الخمور وتجبر الظلمة وحكاية مذاهب أهل الأهواء وكذا حكاية ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
أي دل از من اكر بويى ند
رو بأصحاب مصطفى دل بند
همه ايشان آمده ذيشان
خواهشى كن شفاعتى زيشان
(9/354)
وقال بعض أهل الإشارة : ربنا اغفر لنا أي استر ظلمة وجودنا بنور وجودك واستر وجودات إخواننا الذين سبقونا بالإيمان وهم الروح والسر والقلب السابقون في السلوك من قرية النفس إلى مدينة الروح المؤمنين بأن الفناء الوجودي الإمكاني يستلزم الوجود الواجبي الحقاني ولا تجعل في قلوبنا شك الاثنينية والغيرية للذين آمنوا بإخوانية المؤمنين لقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة إنك رؤوف بمن شاهد الكثرة قائمة بالوحدة رحيم بمن شاهد الوحدة
437
ظاهرة بالكثرة وفي تكرير ربنا إظهار لكمال الضراعة وفي الأثر من حزبه أمر فقال خمس مرات : رنبا أنجاه الله مما يخاف قال الإمام الرازي : اعلم أن العقل يدل على تقديم ذكر الله في الدعاء لأن ذكر الله تعالى بالثناء التعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالأسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس فكما أن ذرة من الأكسير إذا وقعت على عالم النحاس انقلب الكل ذهبا ابريزا فكذا إذا وقعت ذرة من اكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح قوي صفاء وكمل إشراقاً ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل وكان حضور الشيء المطلوب عنده أقوى وأكمل وهذا هو السبب في تقديم الدعاء بالثناء انتهى والوارد في القرآن من الدعاء مذكور غالباً بلفظ الرب فإن على العبد أن يذكر أولاً إيجاد الله وإخراجه من العدم إلى الوجود الذي هو أصل المواهب ويتفكر في تربية الله إياه ساعة فساعة وأما دعوات رسول الله عليه السلام فأكثرها الابتداء بقوله اللهم لأنه مظهر الاسم الجامع وقد كان يجمع بينهما ويقول : اللهم ربنا كما جمع عيسى عليه السلام وقال : اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء والله سميع الدعاء وقابل الرجاء {أَلَمْ تَرَ} استئناف لبيان التعجب مما جرى بين الكفرة والمنافقين منا لأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة والمعنى آيا نكاه نكرده يا محمد أويا من له حظ من الخطاب {إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} من أهل المدينة قال الراغب النفق الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ ومنه نافقاء اليربوع وقد نافق اليربوع ونفق ومنه النفاق وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب على هذا نبه بقوله : إن المنافقين هم الفاسقون أي الخارجون عن الشرع {يَقُولُونَ لاخْواَنِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
اللام للتبليغ والمراد بالإخوان بنوا النضير وبأخوتهم أما توافقهم في الكفر فإن الكفر ملة واحدة أو صداقتهم وموالاتهم {لَـاـاِنْ أُخْرِجْتُمْ} اللام موطئة للقسم وهي اللام الداخلة على حرف الشرط بعد تمام القسم ظاهراً أو مقدار ليؤذن أن الجواب له لا للشرط وقد تدخل على غير الشرط والمعنى والله لئن أخرجتم أيها الإخوان من دياركم وقراكم قسراً بإخراج محمد وأصحابه إياكم منها {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم لتمام المحبة بيننا وبينكم وهو جواب للقسم وجواب الشرط مضمر ولما كان جواب القسم وجواب الشرط متماثلين اقتصر على جواب القسم واضمر جواب الشرط وجعل المذكور جواباً للقسم بسعة وكذا وقله لا يخرجون معهم وقوله لا نصرونهم كل واحد منهما جواب القسم ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ} أي في شأنكم {أَحَدًا} يمنعنا من الخروج معكم {أَبَدًا} وإن طال الزمان ونصبه على الظرفية وهو الاستغراق المستقبل كما أن الأزل لاستغراق الماضي ولاستعمالهما في طول الزمانين جداً قد يضافان إلى جمعهما فيقال أبد الآباد وأزل الآزال وأما السرمد فلاستغراق الماضي والمستقبل يعني لاستمرار الوجود لا إلى نهاية في جانبهما.
ومنه قول المولى الجامي :
دردت زازل آيد تاروز أبد ايد
وق شكر كزار دكس اين دولت سرمدرا
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{وَإِن قُوتِلْتُمْ} أي قاتلكم محمد وأصحابه حذفت منه اللام الموطئة {لَنَنصُرَنَّكُمْ} أي
438
(9/355)
لنعاوننكم على عدوكم ولا نخذلكم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} في مواعيدهم المؤكدة بالإيمان الفاجرة {لَـاـاِنْ أُخْرِجُوا} قهراً وإذلالاً {لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} الخ تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال {وَلَـاـاِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ} وكان الأمر كذلك فإن ابن أبي وأصحابه أسلوا إلى نبي النضير وذلك سرا ثم اخلفوهم يعني إن ابن أبي أرسل إليهم لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين وهو جالس في بيته حتى قال أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم لحيى بن أخطب الذي كان هوالمتولى لأمر بني النضير والله يا حيى إن قول ابن أبي لباطل وليس بشيء وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمداً فيجلس في بيته ويتركك فقال حيى نأبى إلا عداوة محمد وإلا قتاله فقال سلام فهو والله جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وشرفنا وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا فكان ما كان كما سبق في أول السورة وفيه حجة بينة لصحة النبوة وإعجاز القرآن أما الأول فلأنه أخبر عما سيقع فوقع كما أخبر وذلك لأن نزول الآية مقدم على الواقعة وعليه يدل النظم فإن كلمة أن للاستقبال وأما الثاني فمن حيث الأخبار عن الغيب {وَلَـاـاِن نَّصَرُوهُمْ} على الفرض والتقدير {لَيُوَلُّنَّ الادْبَـارَ} فراراً وانهزاماً جمع دبر ودبر الشيء خلاف القبل أي الخلف وتولية الأدبار كناية عن الانهزام الملزوم لتولية الإدبار قال في تاج المصادر التولية روى فرا كردن وشت بكردانيدن.
وهي من الأضداد {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} أي المنافقون بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم بنصرهم اليهود أو لينهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين وفي الآية تنبيه على أن من عصى الله ورسوله وخالف الأمر فهو مقهور في الدنيا والآخرة وإن كان سلطاناً ذا منعة وما يقع أحياناً من الفرصة فاستدراج وغايته إلى الخذلان :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
صعوه كوبا عقاب سازد جنك
دهد از خون خود رش رارنك
وإشارة إلى إن الهوى وصفاته كالمنافقين والنفس والكافرة واتباعها كاليهود وبينهما إخوة وهي الظلمة الذاتية والصفاتية وبين حقائقهما وحقائق الروح والسر والقلب تنافر كتنافر النور والظلمة فالهوى وصفاته يقولون للنفس وصفاتها لأن إخرجكم الروح والسر والقلب من ديار وجوداتكم وأنانيتكم بسبب غلبة أنوارهم على ظلمات وجوداتكم لنخرجن معكم ولا تخالفكم وإن قتلتم بسيف الرياضة ورمح المجاهدة نقويكم بالقوى الشهوانية الحيوانية البهيمية السبعية وهم لا يقدرون على شيء بغير إذن الله فهو كاذبون في قولهم ولا يخرج الهوى وصفاته معهم لأن الهوى والنفس وإن كانا متحدين بالذات لكنهما مختلفان بالصفات كالاختلاف زيد وعمرو في الصفات واتحادهما في الذات وهو الإنسانية وارتفاع أحدهما لا يستلزم ارتفاع الآخر والهوى بسبب غلبة روحانية القالب عليه يميل إلى الروح تارة وبسبب غلظته أيضاً يميل إلى النفس أخرى فلا ينصر النفس دائماً ولئن نصرها بنفخ نار الظلمة
439
في حطب وجودها لينهزم بسبب سطوات أشعة أنوار الروح والسر والقلب انهزام النور من الظلمة نفار الليل من النهار ألا أن حزب الله هم الغالبون {لانتُمْ} يا معشر المسلمين وبالفارسية هرآينه شماكه مؤمنانيد {أَشَدُّ رَهْبَةً} الرهبة مخافة مع تحزن واضطراب وهي هنا مصدر من المبنى للمفعول وهو رهب أي أشد مرهوبية وذلك لأن أنتم خطاب للمسلمين والخوف ليس واقعاً منهم بل من المنافقين فالمخاطبون مرهوبون غير خائفين {فِى صُدُورِهِمْ} أي صدور المنافقين {مِّنَ اللَّهِ} أي من رهبة الله بمعنى مرهوبيته قال في الكشاف قوله في صدورهم دال على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله فإن قلت كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى يكون رهبتهم منه أشد قلت معناه أن رهبتهم في السر منكم أشد من رهبتهم من الله التي يظهر ونها لكم وكانوا يظهرون رهبة شديدة من الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/356)
يقول الفقير : إنما رهبوا من المؤمنين لظهور نور الله فيهم فكما أن الظلمة تنفر من النور ولا تقاومه فكذا أهل الظلمة ينفر من أهل النور ولا يقوم معه ومرادنا بالظلمة ظلمة الشرك والكفر والرياء والنفقا وبالنور نورالتوحيد والإيمان والإخلاص والتقوى ولذلك قال تعالى اعلموا أن الله مع المتقين حيث أن الله تعالى أثبت معيته لأهل التقوى فنصرهم على مخالفيهم {ذَالِكَ} أي ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي شيء حتى يعلموا عظمة الله تعالى فيخشوه حق خشيته قال بعض الكبار ليس العظمة بصفة للحق تعالى على التحقيق وإنما هي صفة للقلوب العارفة به فهي عليها كالرداء على لابسه ولو كانت العظمة وصفاً للعظيم لعظم كل من رآه ولم يعرفه وفي الحديث "إن الله يتجلى يوم القيامة لهذه الأمة وفيها منافقوها فيقول أنا ربكم فيستعيذون به منه ولا يجدون له تعظيماً وينكرونه لجهلهم به فإذا تجلى لهم في العلامة التي يعرفونه بها وجدوا عظمته في قلوبهم وخروا له ساجدين والحق إذا تجلى لقلب عبد ذهب منه أخطار الأكوان وما بقي إلا عظمة الحق وجلاله وفيه تنبيه على أن من علامات الفقه أن يكون خوف العبد من الله أشد من خوفه من الغير وتقبيح لحال أكثر الناس على ما ترى وتشاهد" قال عليه السلام : من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين قال بعض العارفين الفقيه عند أهل الله هو الذي لا يخاف إلا من مولاه ولا يراقب إلا إياه ولا يلتفت إلى ما سواه ولا يرجو الخير من الغير ويطير في طلبه طيران الطير قال بعض الكبار لا ينقص الكمل من الرجال خوفهم من سبع أو ظالم أو نحو ذلك لأن الجزع في النشأة الإنسانية أصلى فالنفوس أبداً مجبولة على الخوف ولذة الوجود بعد العدم لا يعد لها لذة وتوهم العدم العيني له ألم شديد في النفوس لا يعرف قدره إلا العماء بالله فكل نفس تجزع من العدم أن يلحق بها أو بما يقاربها وتهرب منه وترتاع وتخاف على ذهاب عينها فالكامل أضعف الخلق في نفسه لما يشهده من الضعف في تألمه بقرصة برغوث فهو آدم ملئان بذله وفقره مع شهوده أصله علماً وحالاً وكشفاً ولذلك لم يصدر قط من رسول ولا نبي ولا ولي كامل في وقت حضوره أنه ادعى دعوى تناقض العبودية أبداً {لا يُقَـاتِلُونَكُمْ} أي اليهود والمنافقون بمعنى لا يقدرون
440
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
على قتالكم ولا يجترئون عليه {جَمِيعًا} أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن {إِلا فِى قُرًى} جمع قرية وهي مجتمع الناس للتوطن {مُّحَصَّنَةٍ} محكمة بالدروب والخنادق وما أشبه ذلك قال الراغب أي مجعولة بالأحكام كالحصون {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُر} دون أن يحضروا لكم ويبارزوكم أي يشافهوكم بالمحاربة لفرط رهبتهم جمع جدار وهو كالحائط إلا أن الحائط يقال اعتباراً بالإحاطة بالمكان والجدار يقال اعتباراً بالنتو والارتفاع ولذا قيل جدر الشجر إذا خرج ورقه كأنه حمص وجدر الصبي إذا خرج جدريه تشبيهاً بجدر الشجر {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} استئناف سيق لبيان أن ما ذرك من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم وحربهم بالنسبة إلى اقرانهم شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله في قلوبهم من الرعب وأيضاً من الشجاع بجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله قال في كشف الأسرار إذا أراد ا نصرة قوم استأسد أرنبهم وإذا أراد الله قهر قوم استرنب أسدهم :
اكر مردى از مردى خود مكوى
نه هرشهسوارى بدر برد كوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/357)
إن قيل إن البأس شدة الحرب فما الحاجة إلى الحكم عليه بشديد أجيب بأنه أريد من البأس هنا مطلق الحرب فأخبر بشدته لتصريح الشدة أو أريد المبالغة في إثبات الشدة لبأسهم مبالغة في شدة بأس المؤمنين لغلبته على ءأسهم بتأييد الله ونصرته لهم عليهم والظرف متعلق بشديد والتقديم للحصر ويجوز أن يكون متعلقاً بمقدر صفة أو حالاً أي بأسهم الواقع بينهم أو واقعاً بينهم فقولهم الظرف الواقع بعد المعرفة يكون حالاً البتة ليس بمرضى فإن الأمرين جائزان بل قد ترجح الصفة {تَحْسَبُهُمْ} يا محمد أو يأكل من يسمع ويعقل {جَمِيعًا} مجتمعين متفقين ذوي ألفة واتحاد {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} أي والحال أن قلوبهم متفرقة لا إلفة بينها فهم بخلاف من وصفهم بقوله ولكن الله ألف بينهم جمع شتيت كمرضى ومريض وبالفارسية را كنده وريشان.
يقال شت يشت شتا وشتاتا وشتيتا فرق وافترق كانشت وتشتت وجاءوا أشتاتاً أي متفرقين في النظام وفي الآية تشجيع لقلوب المؤمنين على قتالهم وتجسير لهم وأن اللائق بالمؤمن الاتفاق والاتحاد صورة ومعنى كما كان المؤمنون متفقين في عهد النبي عليه السلام ويقال الاتفاق قوة والافتراق هلكة والعدو إبليس يظفر في الافتراق بمراده قال سهل أهل الحق مجتمعون أبداً موافقون وإن تفرقوا بالأبدان وتباينوا بالظواهر وأهل الباطل متفرقون أبداً وإن اجتمعوا بالأبدان وتوافقوا بالظواهر لأن الله تعالى يقول تحسبهم الخ {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ} أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي لا يعقلون شيئاً حتى يعرفوا الحق ويتبعوه وتطمئن به قلوبهم وتتحد كلمتهم ويرموا عن قوس واحدة فيقعون في تيه الضلال وتتشتت قلوبهم حسب تشتت طرقه وتفرق فنونه وتشتت القلوب يوهن قواهم لأن صلاح القلب يؤدي إلى صلاح الجسد وفساده إلى فساده كما قالوا كل أناء يترشح بما فيه اعلم أن الله تعالى ذم الكفار في القرآن بكل من عدم الفقه والعلم والعقل قال الراغب الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم والعلم إدراك الشيء بحقيقته وهو نظري وعملي وأيضاً عقلي وسمعي والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك
441
القوة عقل ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
وأن العقل عقلان.
فمسموع ومطبوع.
ولا ينفع مطبوع.
إذا لم يك مسموع.
كما لا تنفع الشمس.
وضوء العين ممنوع.
وإلى الأول أشار عليه السلام بقوله ما خلق الله شيئاً أكرم عليه من العقل وإلى الثاني أشار بقوله ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى وهذا العقل هو المعنى بقوله وما يعقلها إلا العالمون وكل موضع ذم الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول انتهى وفي الحديث العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل وعن أنس رضي الله عنه قيل : يا رسول الله الرجل يكون حسن العقل كثير الذنوب قال وما من آدمي إلا وله ذنوب وخطايا يقترفها فمن كان سجيته العقل وغريزته اليقين لم تضره ذنوبه قيل : كيف ذلك يا رسول الله قال : لأنه كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة وندامة على ما كان منه فيمحو ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة وعنه أيضاً رضي الله عنه أثنى قوم على رجل عند رسول الله حتى بالغوا في الثناء بخصال الخير فقال رسول الله : كيف عقل الرجل فقالوا : يا رسول الله تخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله فقال نبي الله إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم قال علي بن عبيدة : العقل ملك والخصال رعية فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها فسمعه إعرابي فقال : هذا الكلام يقطر عسله وقال بعضهم : إذا كمل العقول نقص الفضول أي لأن العقل بعقله ويمنعه عما لا يعينه كل شيء إذا كثر رخص غير العقل فإنه إذا كثر غلا وقال أعرابي : لو صور العقل لا ظلمت معه الشمس ولو صور الحمق لأضاء معه الليل فالعقل أنور شيء والحمق أظلمه وقبل العاقل يعيش بعقله حيث كان كما يعيش الأسد بقوته أي ففي العقل قوة شجاعة الأسد ويعلم منه بالمقايسة إن في الحمق ضعف حال الأرنب ونحوه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
كشتى بى لنكر آمد مردشر
كه زباد ك نيابد او حذر
لنكر عقلست عاقل را امان
لنكرى در يوزه كن از عاقلان
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 47 من صفحة 442 حتى صفحة 452
(9/358)
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود والمنافقين وصفتهم العجيبة وحالهم الغريبة كمثل أهل بدر وهم مشركوا أهل مكة أو كمثل بني قينقاع على ما قيل إنهم أخرجوا قبل بني النضير وبنو قينقاع مثلثة النون والضم أشهر كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالاً فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ونبذوا العهد كبني النضير فأخرجهم رسول الله من المدينة إلى الشام أي لأن قريتهم كانت من أعمالها ودعا عليهم فلم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون وقد عرفت قصتهم في الجلد الأول {قَرِيبًا} انتصابه بمثل إذ التقدير كوقوع مثل الذين الخ يعني بدلالة المقام لا لاقتضاء الأقرب أي في زمان قريب قال مجاهد : كانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر فلذلك قال قريباً فتكون قبل وقعة أحد وقيل بسنتين فتكون تلك الغزوة
442
في السنة الرابعة لأن غزوة بني النضير كانت بعد أحد وهي كانت بعد بدر بسنة {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} قال الراغب : الوبل والوابل المطر الثقيل القطار ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره وبال وطعام وبيل والأمر واحد الأمور لا الأوامر أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في الدنيا وهو عذاب القتل ببدر وكانت غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بني النضير {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم لا يقادر قدره حيث يكون ما في الدنيا بالنسبة إليه كالذوق بالنسبة إلى الأكل والمعنى أن حال هؤلاء كحال أولئك في الدنيا والآخرة لكن لا على أن حال كلهم كحالهم بل حال بعضهم الذين هم اليهود كذلك وأما حال المنافقين فهو ما نطق به قوله تعالى {كَمَثَلِ الشَّيْطَـانِ} فإنه خبر ثان للمبتدأ المقدر مبين لحالهم متضمن لحال أخرى لليهود وهي اغترارهم بمقالة المنافقين أوله وخيبتهم آخراً وقد أجمل في النظم الكريم حيث أسند كل من الخبرين إلى المقدر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ثقة بأن السامع يرد كلاً من المثلين إلى ما يماثله كأنه قيل مثل اليهود في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائيهم إياهم على القتال حسبما حكي عنهم كمثل الشيطان
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{إِذْ قَالَ لِلانسَـانِ اكْفُرْ} قول الشيطان مجاز عن الإغواء والإغراء أي أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور على المأمور به {فَلَمَّا كَفَرَ} الإنسان المذكور إطاعة لإغوائه وتبعاً لأهوائه {قَالَ} الشيطان {إِنِّى بَرِىاءٌ مِّنكَ} أي بعيد عن عملك وأملك غير راض بكفرك وشركك وبالفارسية من بيزارم ازتو.
يقال برىء يبرأ فهو برىء وأصل البرء والبراءة والتبري التفصي مما يكره مجاورته قال العلماء إن أريد بالإنسان الجنس فهقا التبري من الشيطان يكون يوم القيامة كما ينبىء عنه قوله تعالى : {إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَـالَمِينَ} وإن أريد أبو جهل على أن يكون اللام للعهد فقوله تعالى أكفر أي دم على الكفر.
س ون برآن ثبات ورزيد ونهال شرك درزمين دل أو استحكام يافت.
قال : إني الخ عبارة عن قول إبليس له يوم بدر لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال : إني برىء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب يعني لما قاتلوا ورأى إبليس جبرائيل مع محمد عليهما السلام خافه فتبرأ منهم وانهزم قال بعضهم : هذا من كذبات اللعين وإنه لو خاف حقيقة وقال صدقاً لما استمر على ما أدى إلى الخوف بعد ذلك كيف وقد طلب الإنظار إلى البعث للإغواء وقال أبو الليث قال ذلك على وجه الاستهزاء ولا بعد أن يقول له ليوقعه في الحسرة والحرقة انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
يقول الفقير : الظاهر أن الشيطان يستشعر في بعض المواد جلال الله تعالى وعظمته فيخافه حذراً من المؤاخذة العاجلة وإن كان منظراً ولا شك أن كل أحد يخاف السطوة الإلهية عند طهور إماراتها ألا ترى إلى قوله تعالى وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين على أن نحو قاطع الطريق وقاتل النفس ربما فعل ما فعل وهو خائف من الأخذ {فَكَانَ عَـاقِبَتَهُمَآ} أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان وهو بالنصب
443
(9/359)
على أنه خبر كان واسمها قوله : {أَنَّهُمَا فِى النَّارِ} وقرىء بالعكس وهو أوضح {خَـالِدَيْنِ فِيهَا} مقيمين لا يبرحان وهو حال من الضمير المقدر في الجار والمجرور المستقر وروي خالدان على أنه خبر أن وفي النار لغو لتعلقه بخالدان {وَذَالِكَ} أي الخلود في النار {جَزَاؤُا الظَّـالِمِينَ} على الإطلاق دون هؤلاء خاصة وقال بعض أهل التفسير المراد بالإنسان برصيصاً الراهب من بني إسرائيل.
در روز كار فترت صومعه ساخته بود هفتاد سال دران صومعه مجاور كشته وخدايرا رستيده وابليس دركار وى فرومانده روزى مرده شياطين راجمع كرد وكفت من يكفيني أمر هذا الرجل يكى كفت من اين كار كفايت كنم ومراد تو ازوى حاصل كنم بدر صومعه وى رفت برزى راهبان ومتعبدان كفت مرد راهم عزلت وخلوت مى طلبم تراه زيان اكر من بصحبت توبيايم ودر خلوت خدايرا عبادت كنم برصيصا بصحبت وى تن درنداد وكفت اين لفي شغل عنك يعني مرادر عبادت الله ندان شغلست كه رواى صحبت تونيست وعادت برصيصا آن بودكه ون درنمازشدى ده روز از نماز بيرون نيامدى وروزه دار بودوهرده روز افطار كردى شيطان برابر صومعه وى درنماز ايستاد وجهد وعبادت خود برجهد وعبادت برصيصا بيفزود نانكه بهل روز ازنماز بيرون نيامدى وبهر هل روز افطار كردى آخر برصيصا اورا بخود راه داد ون آن عبادت وجهد فراوان وى ديد وخودرا در جنب وى قاصر ديدآنكه شيطان بعدازيك سال كفت مرا رفيقي ديكر است وظن من نان بودكه تعبد واجتهاد توازوى زيادتست اكنون كه ترا ديدم نه نانست كه مى نداشتم وبا نزديك وى ميروم برصيصا مفارقت وى كراهيت داشت وبصحبت وى رغتبي تمام مى نمود شيطان كفت مرانا ارست رفتن اماترا دعايى آموزم كه بيمار ومبتلى وديوانه كه بروى خوانى در وقت الله تعالى اورا شفادهد وترا اين به باشد ازهزار عبادت كه كنى كه خلق خدا يرا ازتو نفع بودو راحت برصيصا كفت ابن نه كار منست كه آنكه از وقت ورد خود بازمانم وسيرت وسريرت من در شغل مردم شود شيطان تا آنكه ميكوشيدكه آن دعا ويرا درآموخت واورا برسرآن شغل داشت شيطان ازوى باز كشت وبا ابليس كفت والله لقد أهلكت الرجل س برفت ومردى راتحنيق كرد نانكه ديو بامردم آنكه بصورت طبيبي برآمد بردر آن خانه كفت ان يصاحبكم جنونا فأعالجه ون اوراديد كفت انى لا أقوى على جنه يعني من باديو او برنيايم لكن شمارا رشاد كنم بكسى كه اورا دعا كند در وقت شفايابد واو برصيصاى راهب است كه درصومعه نشيند اورا بروى بردند ودعا كرد وآن ديو ازوى باشد وصحت يافت س اين شيطان برفت وزنى را از دختران ملوك بني إرسائيل رنجه وديوانه كرد وآن زن جمال باكمال داشت واوراسه برادر بودند شيطان بصورت طبيب يش ايشان رفت وآن دختررا بوى نمودند كفت ان الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له يعني بران راهب شويدكه دعا كند وشفايابد كفتند
444
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ترسيم كه فرمان مانبرد كفت صومعه سازيد در جنب صومعه وى وزن را دران صومعه بخابابيد وباوى كوبيد اين امانت است بنزديك تونهاديم وما رفتيم ازبهر خدا واميد ثواب نظر ازوى بازمكير ودعايى كن تاشفايابد ايشان همنان كردند وراهب از صومعه خود بزير آمد واورا ديد زنى بغايت جمال واز جمال وى درفتنه افتاد شيطان او را آن ساعت وسوسه كردكه واقعها ثم تب زيراكه درتوبه كشاده ورحمت خدا فراوانست راهب بفرمان شيطان كام خود ازوى برداشت وزن بار كرفت راهب شيمان كشت واز فضيحت ترسيد همان شيطان دردل وى افكندكه اين زن را ببايد كشت ونهان بايد كرد ون برادران آيند كويم كه ديواورا ببرد وايشان مرا براست دارند واز فضيحت ايمن كردم آنكه از زنا وازقتل توبه كتم برصيصا اورا كشت ودفن كرد ون برادران آمدند وخواهررا نديدند كفت جاء شيطانها فذهب بها ولم أقو عليه ايشان اوراراست داشتند وباز كشتند شيطان آن برادر انرا بخواب نمودكه راهب خواهر شما كشت ودر فلان جايكه دفن كرد سه شب ياى ايشانرا نين خواب مى نمودتا ايشان رفتند وخواهر را كشته از خاك برداشتند برادران اورا ازصومعه بزير آوردند وصومعه خراب كردند واورا يش ادشاه وقت بردند تا بفعل وكناه خود مقر آمد وادشاه بفرمود تا اورا بردار كنند آن ساعت شيطان برابروى آمد وكفت اين همه ساخته وآراسته منست اكر آنه من فرمايم بجاى آرى ترانجات وخلاص ديد آيد كفت هره فرمايى ترا اطاعت كنم كفت مراسجده بكن آن بدبخت اورا سجده كرد وكافر كشت واورا در كفر بردار كردند وشيطان آنكه كفت انى بزىء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما يعني الشيطان برصيصا العابد كان آخر أمرهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين :
خيالات نادان خلوت نشين
بهم بركند عاقبت كفر ودين
كزودست بايدكزو برخورى
نبايد كه فرمان دشمن برى
ى نيك مردان ببايد شتافت
كه هركين سعادت طلب كرديافت
وليكن تو دنبال ديو خسى
ندانم كه در صالحان كى رسى(9/360)
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
والمراد من هذا الشيطان هو الشيطان الأبيض الذي يأتي الصلحاء في صورة الحق.
قال الكاشفي : آن بى سعادت بعد از عبادت هفتاد سال بورطه شقاوت ابدى كرفتاركشت.
غافل مشوكه مركب مردان مردرا.
درسنكلاخ وسوسه يها بريد اند وفى زهرة الرياض غير الله الإيمان على برصيصا بعدما عبد الله مائتين وعشرين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وكان ستون ألفاً من تلامذته يمشون في الهوءا ببركته وعبد الله حتى تعجبت الملائكة من عبادته قال الله تعالى لهم : لماذا تتعجبون منه إني لأعلم ما لا تعلمون ففي علمي أنه يكفر ويدخل النار أبداً فسمع إبليس وعلم أن هلاكه على يده فجاء إلى صومعته على شبه عابد
445
وقد لبس المسح فناداه فقال له برصيصاً من أنت وما تريد؟ قال : أنا عابد أكون لك عوناً على عبادة الله قال له برصيصا : من أراد عبادة الله فالله يكفيه صاحباً فقام إبليس يعبد الله ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب قال برصيصا : أنا أفطر وأنام وآكل وأشرب وأنت لا تأكل ثم قال : إني عبدت الله مائتين وعشرين سنة فلا أقدر على ترك الأكل والشرب قال إبليس : أنا أذنبت ذنباً فمتى ذكرته يتنغص علي النوم والأكل والشرب قال برصيصا ما حيلتي حتى أصير مثلك؟ قالك اذهب واعص الله ثم تب إليه فإنه رحيم حتى تجد حلاوة الطاعة قال : كيف أعصيه بعدما عبدته كذا وكذا سنة قال إبليس : الإنسان إذا أذنب يحتاج إلى المعذرة قال : أي ذنب تشير به؟ قال : الزنى قال : لا أفعله قال : أن تقتل مؤمناً قال : لا أفعله قال : اشرب الخمر المسكر فإنه أهون وخصمك الله قال أين أجده؟ قال : اذهب إلى قرية كذا فذهب فرأى امرأة جميلة تبيع خمراً فاشترى منها الخمر وشربها وسكر وزنى بها فدخل عليهما زوجها فضربه وقتله ثم إن إبليس تمثل في صورة الإنسان وسعى به إلى السلطان فأخذه وجلده للخمر ثمانين جلدة وللزنى مائة وأمر بالصلب لأجل الدم فلما صلب جاء إليه إبليس في تلك الصورة قال : كيف ترى حالك؟ قال : من أطاع قرين السوء فجزاؤه هكذا قال إبليس كنت في بلائك مائتين وعشرين سنة حتى صلبتك فلو أردت النزول أنزلتك قال : أريد وأعطيك ما تريد قال : اسجد لي مرة واحدة قال : كيف أسجد على الخشب؟ قال : اسجد بالإيمان فسجد وكفر فذلك قوله تعالى كمثل الشيطان الخ قال ابن عطية هذا أين كون المراد بالإنسان برصيصا العابد ضعيف والتأويل الأول هو وجه الكلام وفي القصة تحذير عن فتنة النساء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ روي ـ أنه عليه السلام كان يصلي في بيت أم سلمة رضي الله عنها فقام عمر بن أم سلمة ليمر بين يديه فأشار إليه أن قف فوقف ثم قامت زينت بنت أم سلمة لتمر بين يديه فأشار إليها أن قفي فأبت ومرت فلما فرغ من صلاته نظر إليها وقال : ناقصات العقل ناقصات الدين صواحب يوسف صواحب كرسف يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام قال الخبازي في حواشي الهداية قال مولانا حميد الدين رحمه الله كرسف اسم زاهد وقع في الفتنة بسبب امرأة وقال المطرزي في المغرب كرسف رجل من زهاد بني إسرائيل كان يقوم الليل ويصوم النهار فكفر بسبب امرأة عشقها ثم تداركه الله بما سلف منه فتاب عليه هكذا في الفردوس ومنه الحديث صاحبات يوسف صاحبات كرسف انتهى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وكانت الرهبان في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية زالكتمان وطمع أهل الفجور والفسق في الأخبار فرموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعدها الرهبان وظهروا للناس وفي الحديث كان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة وكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال أي بقلبه أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان الغد أتته وهو يصلي فقالت : يا جريج فقال : أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان الغد أتته فقالت : يا جريج فقال : أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات فتذاكر بنو اسرائيل جريجاً
446
(9/361)
وعبادته وكانت امرأة بغى يمثل بحسنها فقالت : أي شئتم لأفتنته لكم قال أي النبي عليه السلام فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوى إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت : هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم؟ فقالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك فقال : أين الصبي فجاءوا به فقال : دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى بالصبي فطعن في بطنه وقال : يا غلام من أبوك فقال فلان الراعي قال أي النبي عليه السلام فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكباً على دابة فارهة وهيئته حسنة فقالت أمه : اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال : اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع قال أي الراوي وهو أبو هريرة رضي الله عنه فكأني أنظر إلى رسول الله عليه السلام وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها قال أي النبي عليه السلام ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقال : اللهم اجعلني مثلها فهناك تراجعا الحديث فقالت أمه قد مر رجل حسن الهيئة فقلت اللهم اجعل ابني مثله فقلت : اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها قال أي الرضيع إن ذاك الرجل كان جباراً فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت سرقت ولم تزن ولن تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها انتهى الحديث وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن أن لا يمد عينيه إلى زخارف الدنيا ولا يدعو الله فيما لا يدري أهو خير له أم شربل ينبغي له أن يطلب منه البراءة من السوء وخير الدارين كما قال تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار نسأل الله سبحانه العفو والعافية مطلقاً
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيماناً خالصاً {اتَّقُوا اللَّهَ} في كل ما تأتون وما تذرون فتحرزوا عن العصيان بالطاعة وتجنبوا عن الكفران بالشكر وتوقوا عن النسيان بالذكر واحذروا عن الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم بشهود أفعاله وصفاته {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ما شرطية أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة.
تا اكر تقديم خيرات وطاعات كند شكر كزاري نمايد ودرزيادتى آن كوشد واكر معاصى فرستاده توبه كندوشيمان شوده عبر عن يوم القيامة بالغد لدنوه لأن كل آت قريب يعني سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له وعن الحسن رحنه الله لم يزل يقربه حتى جعله كالغد ونحوه قوله تعالى كأن لم تغن بالأمس يريد تقريب الزمان الماضي أو عبر عنه به لأن الدنيا أي زمانها كيوم والآخر كغده لاختصاص كل منهما بأحوال وأحكام متشابهة وتعقيب الثاني الأول فقوله لغد استعارة.
يقول الفقير : إنما كانت الآخرة كالغد لأن الناس في الدنيا نيام ولا انتباه إلا عند الموت الذي هو مقدمة القيامة كما ورد به الخبر فكل من الموت والقيامة كالصباح بالنسبة إلى الغافل كما أن الغد صباح بالنسبة إلى النائم في الليل ودل هذا على أن الدنيا ظلمانية والآخرة نورانية
447
وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل لغد لا يعرف كنهه لغاية عظمه وأصله غدو حذفوا الواو بلا عوض واستشهد عليه بقول لبيد :
وما الناس إلا كالديار وأهلها
بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
إذ جاء به على أصله والبيت من أبيات العبرة وأما تنكير نفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن لذلك اليوم الهائل كأنه قيل ولتنظر نفس واحدة في ذلك قال بعضهم الاستقلال يكون بمعنى عد الشيء قليلاً وبمعنى الإنفراد في الأمر فعلى الأول يكون المراد استقلال الله النفوس الناطقة كما قال تعالى لكن أكثر الناس لا يعلمون ولكن أكثرهم يجهلون فكأنه أقيم الأكثر مقام الكل مبالغة فأمر على الوحدة فلا يضره وجود النفس الكاملة العاقلة الناظرة إلى العواقب بالنظر الصائب والرأس الثاقب وعلى الثاني كون المراد انفراد النفوس في النظر واكتفاءها فيه بدون انضمام نظر الأخرى في الاطلاع على ما قدمت خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً وجوداً أو عدماً وفيه حث عظيم :
جهل من وعلم توفلك راه تفاوت
آنجاكه بصر نيست ه خوبى وه زشتى
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/362)
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} تكرير للتأكيد والاهتمام في شأن التقوى وإشارة إلى أن اللائق بالعبد أن يكون كل أمره مسبوقاً بالتفوى ومختوماً بها أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل والثاني في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم بما تعملونه من المعاصي فيجزيكم يوم الجزاء عليها.
ودر كشف الأسرار فرمه ده كه اول اشارتست باصل تقوى ودوم بكمال آن يا اول تقواى عوامست وآن رهيز كرده باشد از محرمات وسوم تقواى خواص وآن اجتناب بود از هره ما دون حقست :
اصل تقوى كه زاد اين راهست
ترك مجموع ما سوى اللهست
والتقوى هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وقال بعض الكبار التقوى وقاية النفس في الدنيا عن ترتب الضرر في الآخرة فتقوى العامة عن ضرر الأفعال وتقوى الخاصة عن ضرر الصفات وتقوى أخص الخواص عن جميع ما سوى الله تعالى.
عزيزي كفته است كه دنيا سفالى است وآن نيز در خواب وآخرت نيز جوهري است يافته دربيدارى مردته آنست كه درسفال بخواب ديده متقى شود مرد مردان آنست كه در كوهر دربيدارى يافته متقى شود فلا بد من التقوى مع وجود العمل.
قال الصائب :
بي عمل دامن تقوى زمناهى يدن
احتراز سك مسلخ بود از شاشه خويش
وفي الآية ترغيب في الأعمال الصالحة وفي لأثران ابن آدم إذا مات قالت الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم وعن مالك بن دينار رحمه الله مكتوب على باب الجنة وجدنا ما عملنا ربحنا ما قدمنا خسرنا ما خلقنا :
بقدر الكدر تكتسب المعالي
ومن الطلب العلي سهر الليالي
ـ وحكي ـ عن مالك بن دينار رحمه الله أيضاً أنه قال : دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون
448
المجنون فقلت له : كيف حالك وكيف أنت؟ فقال : يا مالك كيف حال من أصبح وأمسى يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد ثم بكى بكاء شديداً فقلت : ما يبكيك؟ قال : والله ما بكيت حرصاً على الدنيا ولا جزعاً من الموت والبلى لكن بكيت ليوم مضى من عمري ولم يحسن فيه عملي أبكاني والله قلة الزاد وبعد المسافة والعقبة الكؤود ولا أدري بعد ذلك أصير ءلى الجنة أم إلى النار فقلت : إن الناس يزعمون إنك مجنون فقال : وأنت أغتررت بما اغتر به بنو الدنيا زعم الناس أني مجنون وما بي جنة لكن حب مولاي قد خالط قلبي وجرى بين لحمي ودمي فأنا من حبه هائم مشغوف فقلت : يا سعدون فلم لا تجالس الناس ولا تخالطهم فأنشد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
كن من الناس جانباً
وارض بالله صاحباً
قلب الناس كيف شئـ
ــت تجدهم عقارباً
وفي التأويلات النجمية يا أيها الذين آمنوا بالإيمان الحقيقي الشهودي الوجودي اجعلوا الله وقاية نفوسكم في إضافة الكمالات إليه ولتنظر نفس كاملة عارفة بذات الله وصفاته ما هيأت لغد يوم الشهود واتقوا الله عن الالتفات إلى غيره إن الله خبير بما تعملون من الإقبال على الله والإدبار عن الدنيا ومن الإدبار عن الله والإقبال على الدنيا انتهى ويدخل في قوله نفس النفوس الجنية لأنهم من المكلفين فلهم من التقوى والعمل ما للإنس كما عرف في مواضع كثيرة {وَلا تَكُونُوا} أيها المؤمنون {كَالَّذِينَ} أي كاليهود والمنافقين فالمراد بالموصول المعهودون بمعونة المقام أو الجنس كائناً من كان من الكفار أمواتاً أو أحياء {نَسُوا اللَّهَ} فيه حذف المضاف أي نسوا حقوقه تعالى وما قدروه حق قدره ولم يراعوا مواجب أموره ونواهيه حق رعايتها {فَأَنسَـاـاهُمْ} بسبب ذلك {أَنفُسَهُمْ} أي جعلهم ناسين لها فلم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها فالمضي على أصله أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم فالمضي باعتبار التحقق قال الراغب النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما الضعف قلبه وإما عن غفلة أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره وكل نسيان من الإنسان ذمه الله به فهو ما كان أصله من تعمد وما عذر فيه نحو ما روى عن النبي عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فهو ما لم يكن سببه منه فقوله فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا هو ما كان سببه عن تعمد منهم وتركه على طريق الإهانة وإذا نسب ذلك إلى الله فهو تركه إياهم استهانة بهم ومجازاة لما تركوه كما قال في اللباب قد يطلق النسيان على الترك ومنه نسوا الله فنسيهم أي تركوا طاعة الله ترك الناسي فتركهم الله وقال بعض المفسرين إن قيل النسيان يكون بعد الذكر وهو ضد الذكر لأنه السهو الحاصل بعد حصول العلم فهل كان الكفار يذكرون حق الله ويعترفون بربوبيته حتى ينسوا بعد أجيب بأنهم اعترفوا وقالوا بلى يوم الميثاق ثم نسوا ذلك بعدما خلقوا والمؤمنون اعترفوا بها بعد الخلق كما اعترفوا قبله بهداية الله وراعوا حقها قل أو كتر جل أو صغر "سئل ذو النون المصري قدس سره" عن سر ميثاق مقام ألست بربكم هل تذكره فقال كأنه الآن في أذني.
ودرنفخات مذكورست كه على سهل اصفهاني
449
(9/363)
را كفتندكه روز بلى را ياد دارى كفت ون ندارم كويى دى بود شيخ الإسلام خواجه انصاري فرمود كه درين سخن نقص است صوفى رادى وفردا ه بود آن روز را هنوز شب درنيامده وصوفى درهمان روزست.
ويدل عليه قوله الآن أنه على ما كان عليه ثم إن قوله تعالى ولا تكونوا الخ تنبيه على أن الإنسان بمعرفته لنفسه يعرف الله فنسيانه هو من نسيانه لنفسه كما قال في فتح الرحمن لفظ هذه الآية يدل على أنه من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه وقد قال علي رضي الله عنه : اعرف نفسك تعرف ربك وقال سهل رحمه الله نسوا الله عند الذنوب فأنساهم الله أنفسهم عند الاعتذار وطلب التوبة ومن لطائف العرفي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
مالب آلوده بهر توبه بكشاييم ليك
بانك عصيان مزيند ناقوس استغفار ما
{أولئك} الناسون المخذولون بالانساء {هُمُ الْفَـاسِقُونَ} الكاملون في الفسوق والخروج عن طريق الطاعة وهم للحصر فأفاد أن فسقهم كان بحيث أن فسق الغير كأنه ليس بفسق بالنسبة إليه فالمراد هنا الكافرون لكن على المؤمن الغافل عن رعاية حق ربوبية الله ومراعاة حظ نفسه من السعادة الأبدية والقربة من الحضرة الأحدية خوف شديد وخطر عظيم وفيه إشارة إلى أن الذين نسوا الله هم الخارجون عن شهود الحق في بيع المظاهر الجمالية والجلالية وحضوره الداخلون في مقام شهود أنفسهم فمن اشتغل بقضاء حظوظ نفسه نسي طيب العيش مع الله وكان من الغافلين عن اللذات الحقيقية ومن فنى عن شهوات نفسه بقي مع تجليات ربه {لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ} الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود في النار والنار باللام من أعلام جهنم كالساعة للقيامة ولذا كثيراً ما تذكر في مقابلة الجنة كما في هذا المقام وجاء في الشعر :
الجنة الدار فاعلم إن عملت بما
يرضى الإله وإن فرطت فالنار
هما محلان ما للناس غيرهما
فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
والصحبة في الأصل اقتران الشيء بالشيء في زمان ما قل أو كثر وبذلك يكون كل منهما صاحب الآخر وإن كانت على المداومة والملازمة يكون كمال الصحبة ويكون الصاحب المصاحب عرفاً وقد يطلق على الطرفين حينئذ صاحب ومصاحب أيضاً ومن ذلك يكنى عن زوجة بالصاحبة وقد يقال للمالك لكثرة صحبته بمملوكه كما قيل له الرب لوقوع ترتبية المالك على مملوكه فيقال صاحب المال كما يقال رب المال فإطلاق أصحاب النار وأصحاب الجنة على أهلهما إما باعتبار الصحبة الأبدية والاقتران الدائم حتى لا يقال للعصاة المعذبين بالنار مقدار ما شاء الله أصحاب النار أو باعتبار الملك مبالغة ورمزاً إلى أنهما جزاء لأهلهما باعتبار كسبهما بأعمالهم الحسنة أو السيئة {وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة قال في الإرشاد : لعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصاناً لأإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص وعليه قوله تعالى : هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور إلى غير ذلك من المواضع وأما قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته
450
(9/364)
ملكة والإعدام مسبوقة بملكاتها وقال بعضهم : قدم أصحاب النار الذكر لذكر الذين نسوا الله قبله ولكثرة أهلها ولأن أول طاعة أكثر الناس بالخوف ثم بالرجاء ثم بالمحبة في البعض ولا دلالة في الآية الكريمة على أن المسلم لا يقتص بالكافر وإن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر كما هو مذهب الشافعي لأن المراد عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبىء عنه التفسير من الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة وكذا قوله تعالى : {أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بين الفريقين فالفوز الظفر مع حصول السلامة أي هم الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه فهم أهل الكرامة في الدارين وأصحاب النار أهل الهوان فيهما وفيه تنبيه للناس بأنهم لفرط غلفتهم ومحبتهم العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار وبين أصحابهما حتى احا جوا إلى الأخبار بعدم الاستواء كما تقول لمن يعق أباه هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف فكذا نبه الله تعالى الناس بتذكير سوء حال أهل النار وحسن حال أهل الجنة على الاعتبار والاحتراز عن الغفلة ورفع الرأس عن المعاصي والتحاشي من عدم المبالاة قال عليه السلام : إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال عليه السلام : إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراً كان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً ورؤى الشيخ الحجازي ليلة يردد قوله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض ويبكي فقيل له قد أبكتك آية ما يبكي عند مثلها فقال : فما ينفعني عرضها إذا لم يكن لي فيها موضع قدم وخرج على سهل الصعلوكي من مسخن حمام يهودي في طمر أسود من دخانه فقال : ألستم ترون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فقال سهل على البداهة إذا صرت إلى عذاب الله كانت هذه جنتك وإذا صرت إلى نعيم الله كانت هذه سجني فتعجبوا من كلامه.
قال الشيخ سعدي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ومارا بدنياتو كردى عزيز
بعقبي همان شم داريم نيز
عزيزي وخوارى توبخشى وبس
عزيز تو خواري نه بيند زكس
خدايا بعزت كه خوارم مكن
بذل كنه شرمسارم مكن
قال بعض أهل الإشارة أصحاب النار في الحقيقة أصحاب المجاهدات الذين احترقوا بنيرانها وأصحاب الجنة أصحاب المواصلات الذين وقعوا في روح المشاهدات وفي الظاهر أصحاب النار أصحاب النفوس والأهواء الذين أقبلوا على الدنيا وأصحاب الجنة أصحاب القلوب والمراقبات قال الحسين النوري قدس سره أصحاب النار أصحاب الرسوم والعادات وأصحاب الجنة أصحاب الحقائق والمشاهدات والمعاينات {لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ} العظيم الشأن المنزل عليكم أيها الناس المنطوي على فنون الفوارع أو المنزل عليك يا محمد أو على محمد بحسب الالتفات في الخطاب قال ابن عباس رضي الله عنهما أن السماء اطت يعني آوازداد من ثقل الألواح لما وضعها الله عليها في وقت موسى فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها
451
(9/365)
على موسى وكذلك الإنجيل على عيسى والفرقان على محمد عليهم السلام ثم إنه لا يلزم في الإشارة وجود جملة المشار إليه ذي الإبعاض المترتبة وجوداً بل يكفي وجود بعض الإشارة حقيقة ووجود بعض آخر حكماً ويحتمل أن يكون المشار إليه هنا الآن السابقة من قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إلخ فإن لفظ القرآن كما يطلق على المجموع يطلق على البعض منه حقيقة بالاشتراك أو باللغة أو مجازاً بالعلاقة فيكون التذكير باعتبار تذكير المشار إليه {عَلَى جَبَلٍ} من الجبال وهي ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول كما في زهرة الرياض وهي محركة كل وتد للأرض عظم وطال فإن انفرد فأكمة وقنة بضم القاف واعتبر معاينة فاستعير واشتق منه بحسب فقيل فلان جبل لا يتدحرج تصور المعنى الثبات وجبله الله على كذا إشارة إلى ما ركب فيه من الطبع الذي يأبى على الناقل نقله {لَّرَأَيْتَهُ} يأمن من شأنه الرؤية أو يا محمد مع كونه علماً في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه {خَـاشِعًا} خاضعاً ذليلاً وهو حال من الضمير المنصوب في قوله لرأيته لأنه من الرؤية البصرية قال بعضهم : الخشوع انقياد الباطن للحق والخضوع انقياد الظاهر له وقال بعضهم : الخضوع في البدن والخشوع في الصوت والبصر قال الراغب الخشوع ضراعة وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ولذلك قيل فيما روى إذا ضرع القلب خشعت الجوارح {مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي متشققاً منها أن يصيبه فيعاقبه والصدع شق في الأجسام الصلبة كالزجاج والحديد ونحوهما ومنه استعير الصداع وهو الانشقاق في الرأس من الوجع قال العلماء هذا بيان وتصوير لعلو شأن القررن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ أريد به توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه والمعنى لو ركب في الجبل عقل وشعور كما ركب فيكم أيها الناس ثم أنزل عليه القرآن ووعد وأوعد حسب حالكم لخشع وخضع وتصدع من خشية الله حذراً من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والامتثال لما فيه من أمره ونهيه والكافر المنكر أقسى منه ولذا لا يتأثر أصلاً "مصراع" أي دل سنكين تويك ذره سوهان كيرنيست.
وهو كما تقول لمن تعظه ولا ينجع فيه وعظك لو كلمت هذا الحجر لأثر فيه ونظيره قول الإمام مالك للشافعي لو رأيت أبا حنيفة رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقامت حجته :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
دلرا اثر روى توكل وش كند
جانرا سخن خوب تو مدهوش كند
آتش كه شراب وصل تونوش كند
از لطف توسوختن فراموش كند
يقول الفقير : فيه ذهول عن أن الله تعالى خلق الأشياء كلها ذات حياة وإدراك في الحقيقة وإلا لما اندك الجبل عند التجلي ولما شهد للمؤذن كل رطب ويابس سمع صوته ونحو ذلك وقد كاشف عن هذه الحياة أهل الله وغفل عنها المحجوبون على ما حقيق مراراً نعم فرق بين الجبل عند التجلي وعندما أنزل عليه القرآن وبينه عند الاستثار وعدم الإنزال فإن أثر الحياة في الصورة الأولى محسوس مشاهد للعامة والخاصة وأما في الصورة الثانية فمحسوس للخاصة فقط فاعرف {وَتِلْكَ الامْثَـالُ} إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل أي
452
(9/366)
هذا القول الغريب في عظمة القرآن ودناءة حال الإنسان وبيان صفتهما العجيبة وسائر الأمثال الواقعة في القرآن فإن لفظ المثل حقيقة عرفية في القول السائر ثم يستعار لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشان تشبيهاً له بالقول السائر في الغرابة لأنه لا يخلو عن غرابة {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} بيان ميكنيم مرانسانرا قد جاء في سورة الزمر ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل بالأخبار على المضي مع أنها مكية وقال هنا نضربها بالاستقبال مع أن السورة مدينة فلعل الأول من قبيل عد ما سيحقق مما حقق لتحققه بلا خلف والثاني من قبيل التعبير عن الماضي بالمضارع لإحضار الحال أو لإرادة الاستمرار على الأحوال بمعنى أن شأننا أن نضرب الأمثال للناس {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي لمصلحة التفكر ومنفعة التذكير.
يعني شايدكه انديشه كنند دران وبهره بردارند ازان بإيمان.
ولا يقتضي كون الفعل معللاً بالحكمة والمصلحة أن يكون معللاً بالغرض حتى تكون أفعاله تعالى معلة بالأغراض إذ الغرض من الاحتياج والحكمة اللطف بالمحتاج وعن بعض العلماء أنه قال : من عجز عن ثمانية فعليه بثمانية أخرى لينال فضلها من أراد فضل صلاة الليل وهو نائم فلا يعص بالنهار ومن أراد فضل صيام التطوع وهو مفطر فليحفظ لسانه عما لا يعنيه ومن أراد فضل العلماء فعليه بالتفكر ومن أراد فضل المجاهدين والغزاة وهو قاعد في بيته فليجاهد الشيطان ومن أراد فضل الصدقة وهو عاجز فليعلم الناس ما سمع من العلم ومن أراد فضل الحج وهو عاجز فليلتزم الجمعة ومن أراد فضل العابدين فليصلح بين الناس ولا يوقع العداوة ومن أراد فضل الإبدال فليضع يده على صدره ويرضى لأخيه ما يرضى لنفسه قال عليه السلام : أعطوا أعينكم حظها من العبادة قالوا : ما حظها من العبادة يا رسول الله؟ قال : النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
خوش بيان كرد آن حكيم غزنوى
بهر محجوبان مثال معنوي
كه ز قرآن كرنه بيند غير قال
اين عجب نيودز اصحاب ضلال
كز شعاع آفتاب رز نور
غير كرمى مى نيابد شم كور
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بل قلب وعن الحسن البصري رحمة الله من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ومن لم يكن نظره عبرة فهو لهو وعن أبي سليمان رحمه الله الفكرة في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتجبي القلب وكثيراً ما ينشد سفيان بن عيينة ويقول :
إذا المرء كانت له فكرة
ففي كل شيء له عبرة
والتفكر إما أن يكون في الخالق أو الخلق والأول إما في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله أما في ذاته فممنوع لأنه لا يعرف الله إلا الله إلا أن يكون التفكر في ذاته باعتبار عظمته وجلاله وكبريائه من حيث وجوب الوجود ودوام البقاء وامتناع الإمكان والفناء والصمدية التي هي الاستغناء عن الكل وأما في صفاته فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع
453
المعلومات وقدرته بجميع الأشياء وإرادته بجميع الكائنات وسمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المبصرات ونحو ذلك وأما في أفعاله فهو فيها بحسب شمولها وكثرتها ومتانتها ووقوعها على الوجه الأتم كل يوم هو في شأن والثاني أما أن يكون فيما كان من العلويات والسفليان أو فيما سيكون من أهوال القيامة وأحوال الآخرة إلى أبد الآباد قال بعض العارفين : الفكر إما في آيات الله وصنائعه فيتولد منه المعرفة وأما في عظمة الله وقدرته فيتولد منه الحياة وأما في نعم الله ومنته فيتولد منه المحبة وأما في وعد الله بالثواب فيتولد منه الرغبة في الطاعة وأما في وعيد الله بالعقاب فيتولد منه الرهبة من المعصية وأما في تفريط العبد في جنب الله فيتولد منه الحياء والندامة والتوبة ومن مهمات التفكر أن يتفكر المتفكر في أمر نفسه من مبدأه ومعاشه ومن إطاعته لربه ببدنه ولسانه وفؤاده ولو صرف عمره في فكر نفسه نظراً إلى أول أمره وأوسطه وآخره لما أتم وفي الآية إشارة إلى أن الله لو تجلى بصورة القرآن الجمعي المشتمل على حروف الموجودات العلوية وكلمات المخلوقات السفلية على جبل الوجود الإنساني لتلاشى من سطوة التجلي وإلى أن العارف ينبغي أن يذوب تحت الخطاب الإلهي من شدة التأثير وإلى أن هذه الأمة حملوا بهمتهم ما لم تحمله الجبال بقوتها كما قال تعالى فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/367)
{هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلا هُوَ} هو في أصل وضعه كناية عن المفرد المذكر الغائب وهي كناية عن المفردة المؤنثة الغائبة وكثيراً ما يكنى به عمن لا يتصور فيه الذكورة والأنوثة كما هو ههنا فإنه راجع إلى الله تعالى للعلم به ولك أن تقول هو موضوع لمفرد ليس فيه تأنيث حقيقة وحكماً وهر لمفرد يكون يكون فيه ذلك وهو مبتدأ خبره لفظة الله بمعنى هو المعبود بالحق المسمى بهذا الاسم الأعظم الدال على جلال الذات وكمال الصفات فلا يلزم أن يتحد المبتدأ والخبر بأن يكون التقدير الله الله إذ لا فائدة فيه أو الله بدل من هو والموصول مع صلته خبر المبتدأ أو هو إشارة إلى الشأن والله مبتدأ والذي لا إله إلا هو خبره والجملة خبر ضمير الشان ولا في كلمة التوحيد لنفي أفراد الجنس على الشمول والاستغراق واله مبني على الفتح بها مرفوع المحل على الابتداء والمراد به جنس المعبود بالحق لا مطلق جنس المعبود حقاً أو باطلاً فلا يصح في نفسه لتعدد الآلهة الباطلة ولا يفيد التوحيد الحق وإلا هو مرفوع على البدلية من محل المنفي أو من ضمير الخبر المقدر للا والخبر قد يقدر موجود فيتوهم أن التوحيد يكون باعتبار الوجود لا الإمكان فإن نفيوجود اله غير الله لا يستلزم نفي إمكانه وقد يقدر ممكن فيتوهم أن إثبات الإمكان لا يقتضي الوقوع فكم من شيء ممكن لم يقع وقد يقدر لنا فيتوهم أنه لا بد من مقدر فيعود الكلام والجواب أنه إذا كان المراد بالإله المعبود بالحق كما ذكر فهو لا يكون إلا رب العالمين مستحقاً لعبادة المكلفين فإذا نفيت الألوهية على هذا المعنى عن غيره تعالى وأثبتت له سبحانه يندفع التوهم على التقادير كلها إن قيل إن أراد القائل لا إله إلا الله شمول النفي له تعالى ولغيره فهو مشكل نعوذ بالله مع أن الاستثناء يكون كاذباً وإن أراد شموله لغيره فقط فلا حاجة إلى الاستثناء أجيب بأن مراده في قلبه هو الثاني إلا أنه يرى التعميم ظاهراً في أول الأمر ليكون الإثبات
454
بالاستثناء آكد في آخر الأمر فالمعنى لا إله غيره وهذا حال الاستثناء مطلقاً قال الشيخ أبو القاسم : هذا القول وإن كان ابتداؤه النفي لكن المراد به الإثبات ونهاية التحقيق فإن قول القائل لا أخ لي سواك ولا معين لي غيرك آكد من قوله أنت أخي ومعيني وكل من لا إله إلا الله ولا إله إلا هو كلمة توحيد لوروده في القرآن بخلاف لا إله إلا الرحمن فإنه ليس بتوحيد مع أن إطلاق الرحمن على غيره تعالى غير جائز وإطلاق هو جائز نعم أن الأولى كونه توحيداً إلا أنه لم يشتهر به التوحيد أصالة بخلافهما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
اعلم أن هو من أسماء الذات عند أهل المعرفة لأنه بانفراده عن انضمام لفظ آخر إشارة إلى الله مستجمع لجميع الصفات المدلول عليها بالأسماء الحسنى فهو من جملة الأذكار عند الأبرار قال الإمام القشيري رحمه الله هو للإشارة وهو عند هذه الطائفة أخبار عن نهاية التحقيق فءذا قلت هو لا يسبق إلى قلوبهم غيره تعالى فيكتفون به عن كل بيان يتلوه لاستهلاكهم في حقائق القرب واستيلاء ذكر الحق على أسرارهم وقال الإمام الفاضل محمد بن أبو بكر الرازي رحمه الله في شرح الأسماء الحسنى.
اعلم أن هذا الاسم عند أهل الظاهر مبتدأ يحتاج إلى خبر ليتم الكلام وعند أهل الطريق لا يحتاج بل هو مفيد وكلام تام بدون شيء آخر يتصل به أو يضم له لاستهلاكهم في حقائق القرب واستيلاء ذكر الحق على أسرارهم وقال الشيخ العارف أحمد الغزالي أخو الإمام محمد الغزالي رحمه الله كاشف القلوب بقوله : لا إله إلا الله وكاشف الأرواح بقول الله وكاشف الأسرار بقول هو هو لا إله إلا الله قوت القلوب والله قوت الأرواح وهو قوت الأسرار فلا إله إلا الله مغناطيس القلوب والله مغناطيس الأرواح وهو مغناطيس الأسرار والقلب والروح والسر بمنزلة درة في صدفة في حقة فانظر أنه رحمه الله في أي درجة وضع هو وعن بعض المشايخ رأيت بعض الوالهين فقلت له : ما اسمك؟ فقال : هو قلت من أنت؟ قال هو قلت : من أين تجيء قال : هو قلت : من تعني بقولك هو قال : هو فما سألته عن شيء إلا قال هو فقلت : لعلك تريد الله فصاح وخرجت روحه فكن من الذاكرين بهو ولا تلتفت إلى المخالفين فإنهم من أهل الأهواء ولكل من العقل والنفس والقلب والروح معنيان أما العقل فيطلق على قوة دراكة توجد في الإنسان بها يدرك مدركاته وعلى لطيفة ربانية هي حقيقة الإنسان المستخدمة للبدن في الأمور الدنيوية والأخروية وهي العالم والعارف والعاقل وهي الجاهل والقاصر والغافل إلى غير ذلك وكذا النفس تطلق على صفة كائنة في الإنسان جامعة للأخلاق المذمومة داعية إلى الشهوات باعثة على الأهواى والآفات وتطلق على تلك اللطيفة المذكورة كما قال بعض الأفاضل :
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
وتطلب الربح مما فيه خسران
عليك بالنفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/368)
وكذا القلب يطلب على قطعة لحم صنوبرية تكون في جوف الإنسان وعلى تلك اللطيفة وكذا الروح يطلق على جسم لطيف وعلى اللطيفة الربانية المذكورة فكل من الألفاظ الأربعة يطلق على نفس الإنسان الذي هو المتكلم والمخاطب والمثاب والمعاقب الأصالة
455
وبتبعيتها يقع الثواب والعقاب للجسد الذي هو القفص لها فالتغاير على هذا اعتباري فإن النفس نفس باعتبار أنها نفس الشيء وذاته وعقل باعتبار إدراكها وقلب باعتبار انقلابها من شيء إلى شيء وروح باعتبار استراحتها بما يلائمها وتستلذ به وعلى المعاني الأخر لهن حقيقي ثم إن النفس إما أن تكون تابعة للهوى فهي الأمارة لمبالغة أمرها للأعضاء بالسيئات فذكر دائرة النفس لا إله إلا الله وإما أن يهب الله له الإنصاف والندامة على تقصيراتها والميل إلى التدارك لما فات من المهمات فهي اللوامة للومها صاحبها بل نفسها على سوء عملها فذكر هذه الدائرة الله الله ويقال لها دائرة القلب لانقلابها إلى جانب الحق وإما أن تطمئن إلى الحق وتستقر في الطاعة وتتلذذ بالعبادة فهي المطمئنة لاطمئنانها تحت أمر الله بحب الله ويقال لهذه الدائرة دائرة الروح لاستراحتها بعبادة الله وذكره وتلذذها بشكره وذكر هذه الدائرة هو هو وأما ما قال بعض الكبار من أن الذكر بلا إله إلا الله أفضل من الذكر بكلمة الله الله وهو هو من حيث أنها جامعة بين النفي والإثبات ومحتوية على زيادة العلم والمعرفة فبالنسبة إلى حال المبتدى فكلمة التوحيد تظهر مرءاة النفس بنارها فتوصل السالك إلى دائرة القلب وكلمة الله تنور القلب بنورها فتوصل إلى دائرة الروح وكلمة هو تجلي الروح فتوصل من شاء الله إلى دائرة السر والسر لفظ استأثره المشايخ للحقيقة التي هي ثمرة الطريقة التي هي خلاصة الشريعة التي هي لازمة القبول لكل مؤمن إما أخذاً مما روي عن النبي عليه السلام أنه قال حكاية عن الله بيني وبين عبدي سر لا يسعه ملك مقرب ولا نبي مرسل وإما لكونه مستوراً عن أكثر الناس ليس من لوازم الشريعة والطريقة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم يشهد الله أينما يبدو أنه لا إله إلا هو :
هست هر ذره بو حدث خويش
يش عارف كواه وحدت او
اك كن جامى از غبار دويى
لوح خاطر كه حق يكيست نه دو
{عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} اللام للاستغراق فيعلم كل غيب وكل شهادة أي ما غاب عن الحسن من الجواهر القدسية وأحوالها وما حضر له من الإجرام وإعراضها ومن المعدوم والموجود فالمراد بالغيب حينئذ ما غاب عن الوجود ومن السر والعلانية ومن الآخرة والأولى ونحو ذلك قال الراغب : ما غاب عن حواس الناس وبصائرهم وما شهدوه بهما والمعلومات إما معدومات يمتنع وجودها أو معدومات يمكن وجودها وإما موجودات يمتنع عدمها أو موجودات لا يمتنع عدمها ولكل من هذه الأقسام الأربعة أحكام وخواص والكل معلوم تعالى وقدم الغيب على الشهادة لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به من حيث كونه موجوداً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
واعلم أن ما ورد من إسناد علم الغيب إلى الله فهو الغيب بالنسبة إلينا لا بالنسبة إليه تعالى لأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء وإذا انتفى الغيب بالنسبة إليه انتفى العلم به أيضاً وأيضاً لما سقطت جميع النسب والإضافات في مرتبة الذات البحت والهوية الصرفة انتفت النسبة العلمية مطلقاً فانتفى العلم بالغيب فافهم {هُوَ الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ} كرر هو لأن له شأناف شريفاً ومقاماً منيفاً من اشتغل به ملك من أعرض عنه هلك والله تعالى رحمته الدنيوية عامة لكل إنسي وجني مؤمناً كان أو كافراً :
اديم زمين سفره عام اوست
برين خان يغما ه دشمن ه دوست
على ما قال عليه السلام أيها الناس إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر يحق فيها الحق ويبطل الباطل كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها ولدها ولذلك يقال يا رحمن الدنيا لأن ما فيه زيادة حرف يراد به زيادة في المعنى ورحمته الأخروية خاصة بالمؤمنين ولذا يقال يا رحيم الآخرة فعلى هذا في معنى الرحمن زيادة باعتبار المنعم عليه ونقصان باعتبار الأنواع والأفراد وفي تخصيص هذين الإسمين المنبئين عن وفور رحمته في الدارين تنبيه على سبق رحمته وتبشير للعاصين أن لا يقنطوا من رحمة الله وتنشيط للمطيعين بأنه يقبل القليل ويعطي الجزيل وحظ العبد من اسم الرحمن الرحيم أن يكون كثير الرحمة بأن يرحم نفسه أولاً ظاهراً وباطناً ثم يرحم غيره بتحصيل مراده وإرشاده والنظر إليه بعين الرحمة كما قال بعض المشايخ :
وارحم بني جميع الخلق كلهمو
وانظر إليهم بعين اللطف والشفقة
وقر كبير همو وارحم صغيرهمو
وراع في كل خلق حق من خلقه
(9/369)
قال الزروقي رحمه الله كل الأسماء يصح التخلق بمعانيها إلا الاسم الله فإنه للتعلق فقط وكل الأسماء راجعة إليه فالمعرفة به معرفة بها ولا بد للعبد من قلب مفرد فيه توحيد مجرد وسر مفرد وبه يحصل جميع المقاصد سئل الجنيد قدس سره كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله تعالى قال : بتوبة تزيل الإصرار وخوف يزيل التسويف ورجاء يبعث على مسالك العمل وإهانة النفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل قيل له بماذا يصل العبد إلى هذا قال : بقلب مفرد فيه توحيد مجرد انتهى وهو عجيب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
وفي التأويلات النجمية تشير الآية إلى هويته الجامعة عالم غيب الوجود المسمى باسم الباطن وعالم شهادة الوجود المسمى باسم الظاهر هو الرحمن الرحيم أي هو المتجلي بالتجلي الرحماني العام وهو المتجلي بالتجلي الرحيمي الخاص وهو المطلق عن العموم والخصوص في عين العموم والخصوص غير اعتباراته وحيثياته {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلا هُوَ} كرر هو لإبراز الاعتناء بأمر التوحيد يعني اوست خداى كه بهي وجه نيست خداى سزاى ريتش مكروى {الْمَلِكُ} ادشاهى كه جلال ذاتش ازوجه احتياج مصونست وكمال صفاتش باستغناء مطلق مقرون فمعناه ذو الملك والسلطان والملك بالضم هو التصرف بالأمر والنهي في الجمهور وذلك يختص بسياسة الناطقين ولهذا يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء فقوله تعالى ملك يوم الدين تقديره الملك في يوم الدين كما في المفردات وعبد الملك هو الذي يملك نفسه وغيره بالتصرف فيه بما شاء الله وأمره به فهو أشد الخلق على خليقته قال الإمام الغزالي قدس سره مملكة العبد الخاصة به قلبه وقالبه وجنده شهوته وغضبه وهواه ورعيته لسانه وعيناه ويداه وسائر أعضائه فإذا ملكها ولم
456
يطعها فقد نال تملكه درجة الملك في عالمه.
قال الشيخ سعدي :
وجود توشهريست رنيك وبد
توسلطان ودستور دانا خرد
هما ناكه دونان كردن فراز
درين شهر كبرست وسودا وآز
و سلطان عنايت كند بابدان
كجا ماند آسايش بخردان
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
فإن انضم إليه استغناؤه عن كل الناس واحتاج الناس كلهم إليه في حياتهم العاجلة والآجلة فهو الملك في العالم العرضي وتلك رتبة الأنبياء عليهم السلام فإنهم استغنوا في الهداية إلى الحياة الآخرة عن كل أحد إلا عن الله تعالى واحتاج إليهم كل أحد ويليهم في هذا الملك العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وإنما ملكهم بقدر مقدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن الاسترشاد وهذا الملك عطية للعبد من الملك الحق الذي لا مثنوية في ملكه وإلا فلا ملك للعبد كما قيل لبعض العارفين ألك ملك؟ فقال : أنا عبد لمولاي فليس لي نملة فمن أنا حتى أقول لي شيء هذا كلام من استغرق في ملاحظة ملكية الله ومالكيته فما حكي أن بعض الأمراء قال لبعض الصلحاء سلني حاجتك قال : أولي تقول هذا ولي عبدان هما سيداك قال : من هما؟ قال الشهوة والغضب وفي بعض الرواية الحرص والهوى غلبتهما وغلباك وملكتهما وملكاك فهو أخبار عن لطف الله وتمليكه من ضبط نفسه واستخدمها فيما يرضاه الله نصحاً لذلك الأمير ولغيره من السامعين شاهدين أو غائبين قال بعضهم لبعض الشيوخ أوصني فقال : كن ملكاً في الدنيا تكن ملكاً في الآخرة معناه اقطع طمعك وشهوتك في الدنيا فإن الملك في الحرية والاستغناء ومن مقالات أبي يزيد البسطامي قدس سره في مناجاته الهي ملكي أعظم من ملكك وذلك لأن الله تعالى ملك أبا يزيد وهو متناه وأبا يزيد ملك الله وهو باق غير متناه وخاصة اسم الملك صفاء القلب وحصول الفناء والأمرة ونحوها فمن واظب عليه وقت الزوال كل يوم مائة مرة صفا قلبه وزاد كدره ومن قرأه بعد الفجر مائة وإحدى وعشرين مرة أغناه الله من فضله أما بأسباب أو بغيرها {الْقُدُّوسُ} هو من صيغ المبالغة من القدس وهو النزاهة والطهارة أي البليغ في النزاهة عما يوجب نقصاناً ما وعن كل عيب وهو بالعبري قديساً ونظيره السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح قال الزمخشري إن الضفادع تقول في نقيقها سبحان الملك القدوس قال ثعلب : كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر وقد يفتحان وقال بعضهم المفتوح قليل في الصفات كثير في الأسماء مثل التنور والسمور والسفود وغيرها قال بعض المشايخ حقيقة القدس الاعتلاء عن قبول التغير ومنه الأرض المقدسة لأنها لا تتغير بملك الكافر كما يتغير غيرها من الأرضين واتبع هذا الاسم اسم الملك لما يعرض للملوك من تغير أحوالهم بالجور والظلم والاعتداء في الأحكام وفيما يترتب عليها فإن ملكه تعالى لا يعرض له ما يغيره لاستحالة ذلك في وصفه وقال بعضهم : التقديس التطهير وروح القدس جبريل عليه السلام لأنه ينزل بالقدس من الله أي ما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي والبيت المقدس هو المطهر من النجاسة أي الشرك أو لأنه يتطهر فيه من الذنوب وكذلك الأرض المقدسة وحظيرة
458
(9/370)
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
القدس الجنة.
قال الكاشفي : قدوس يعني اك از شوائب مناقص ومعايب ومنزه از طرق آفات ونوايب.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يفضي به تفكر ولست أقول منزه عن العيوب والنقائض فإن ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب فليس من الأدب أن يقول القائل ملك البلد ليس بحائك ولا حجام ولا حذاء فإن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص بل أقول القدوس هو المنزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق كما لا قال الزروقي رحمه الله كل تنزيه توجه الخلق به إلى الخالق فهو عائد إليهم لأن الحق سبحانه في جلاله لا يقبل ما يحتاج للتنزيه منه لاتصافه بعلى الصفات وكريم الأسماء وجميل الأفعال على الإطلاق فليس لنا من تقدسه إلا معرفة أنه القدوس فافهم وعبد القدوس هو الذي قدسه الله عن الاحتجاب فلا يسمع قلبه غير الله وهو الذي يسع قلبه الحق كما قال لا يسعني أرضي وسمائي ويسعني قلب عبدي ومن وسع الحق قدس عن الغير إذا لا يبقى عند تجلي الحق شيء غيره فلا يسع القدوس إلا القلب المقدس من الأكوان قال بعضهم : حظ العارف منه أن يتحقق أنه لا يحق الوصول إلا بعد العروج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب وتنزيه السر عن المتخيلات والمحسوسات والتطواف حول العلوم الإلهية والمعارف الزكية عن تعلقات الحس والخيال وتطهير القصد عن أن يحوم حول الحظوظ الحيوانية واللذائذ الجسمانية فيقبل بشراً شره على الله سبحانه شوقاً إلى لقائه مقصور الهم على معارفه ومطالعة جماله حتى يصل إلى جناب العز وينزل بحبوحة القدس وخاصية هذا الاسم إنه إذا كتب سبوح قدوس رب الملائكة والروح على خبز إثر صلاة الجمعة وأكله بفتح الله له العبادة ويسلمه من الآفات وذلك بعد ذكر عدد ما وقع عليه وفي الأربعين الإدريسية يا قدوس الطاهر من كل آفة فلا شيء يعادله من خلقه قال السهروردي : من قرأه كل يوم ألف مرة في خلوة أربعين يوماً شمله مما يريد وظهرت له قوة التأثير في العالم {السَّلَـامُ} ذو السلامة من كل آفة ونقص وبالفارسية سالم از عيوب وعلل ومبرا از ضعف وعجز وخلل وهو مصدر بمعنى السلامة وصف به للمبالغة لكونه سليماً من النقائص أو في عطائه السلامة فيكون بمعنى التسليم كالكلام بمعنى التكليم فما ورد من قوله أنت السلام معناه أنت الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل نقص وقوله ومنك السلام أي الذي يعطي السلامة فيسلم العاجز من المكاره ويخلصه من الشدائد في الدارين ويستر ذنوب المؤمنين وعيوبهم فيسلمون من الخزي يوم القيامة أو يسلم على المؤمنين في الجنة لقوله تعالى : سلام قولاً من رب رحيم وقوله وإليك يرجع السلام إشارة إلى أن كل من عليها فان ويبقى وجه ربك وقوله وحيناً ربنا بالسلام طلب السلامة منه في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال الإمام الغزالي رحمه الله هو الذي يسلم ذاته من العيب وصفاته من النقص وأفعاله من الشر يعني ليس في فعله شر محض بل في ضمنه خير أعظم منه فالمقضي بالأصالة هو الخير وهو والقدوس من الأسماء الذاتية السلبية إلا أن يكون بمعنى المسلم قال الراغب
459
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/371)
السلام والسلامة التعري من الآفات الظاهر والباطنة قيل وصف الله بالسلام من حيث لا تلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق انتهى وعبد السلام هو الذي تجلى له اسم السلام فسلمه من كل نقص وآفة وعيب فكل عبد سلم من الغش والحقد والحسد وإرادة الشر قلبه وسلم من الآثام والمحظورات جوارحه وسلم من الانتكاس والانعكاس صفاته فهو الذي يأتي الله بقلب سليم وهو السلام من العباد القريب في وصفه من السلام المطلق الحق الذي لا مثنوية في صفاته وأعني بالانتكاس في صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه إذا الحق عكسه وهو أن تكون الشهوة والغضب أسيري العقل وطوعه فإذا انعكس فقد انتكس ولا سلامة حيث يصير الأمير مأموراً والملك عبداً ولن يوصف بالسلام والإسلام إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده وخاصية هذا الاسم صرف المصائب والآلام حتى أنه إذا قرىء على مريض مائة وإحدى عشرة مرة برىء بفضل الله ما لم يحضر أجله أو يخفف عنه {الْمُؤْمِنُ} أي الموحد نفسه بقوله شهد الله إنه لا إله إلا هو قاله الزجاج أو واهب الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الذي آمن الناس من ظلمه وآمن من آمن من عذابه وهو من الإيمان الذي هو ضد التخويف كما في قوله تعالى وآمنهم من خوف وعنه أيضاً أنه قال : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله لباقه أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن فيخرجهم من النار ببركة هذين الإسمين.
قال الكاشفي : ايمن كننده مؤمنان ازعقوبت نيران يا داعي خلق بإيمان وأمان يا مصدق رسل باظهار معجزه وبرهان.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : المؤمن المطلق هو الذي لا يتصور أمن وأمان إلا ويكون مستفاداً من جهته وهو الله تعالى وليس يخفي أن الأعمى يخاف أن يناله هلاك من حيث لا يرى فعينه البصيرة تفيد أمناً منه والأقطع يخاف آفة لا تندفع إلا باليد واليد السليمة أمان منها وهكذا جميع الحواس والأطراف ولمؤمن خالقها ومصورها ومقومها ولو قدرنا إنساناً وحده مطلوباً من جهة أعدائه وهو ملقى في مضيق لا تتحرك عليه أعضاؤه لضعفه وإن تحركت فلا سلاح معه وإن كان معه سلاح لم يقاوم أعداءه وحده وإن كانت له جنود لم يأمن أن تنكسر جنوده ولا يجد حصناً يأوي إليه فجاء من عالج ضعفه فقواه وأمده بجنود وأصلحة وبنى حوله حصناً فقد أفاده أمناً وأماناً فبالحرى أن يسمى مؤمناً في حقه والبعد ضعيف في أصل فطرته وهو عرضة الأمراض والجوع والعطش من باطنه وعرضة الآفات المحرقة والمغرقة والجارحة والكاسرة من ظاهره ولم يؤمنه من هذه المخاوف إلا الذي أعد الأدوية دافعة لأمراضه والأطعمة مزيلة لجوعه والأشربة مميطة لعطشة والأعضاء دافعة عن بدنه والحواس جواسيس منذرة بما يقرب من مهلكاته ثم خوفه الأعظم من هلاك الآخرة ولا يحصنه منها إلا كلمة التوحيد والله هاديه إليها ومرغبه فيما حيث قال لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن من عذابي فلا أمن في العالم إلا وهو مستفاد من أسباب هو منفرد بخلقها
460
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/372)
والهداية إلى استعمالها وعبد المؤمن هو الذي آمنه الله من العقاب وآمنه الناس على ذواتهم وأموالهم وأعراضهم من المصطلحات فحظ العبد من هذا الوصف أن يأمن الخلق كلهم جانبه بل يرجو كل خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك عن نفسه في دينه ودنياه كما قال عليه السلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليؤمن جاره بواثقه وفي ترجمة وصايا الفتوحات واكر خواهى كه از هيكس نترسى هي كس را مترسان تا ازهمه آمن باشى ون همه كس ازتو آمن باشند شيخ اكبر قدس سره الأطهر فرموده كه در عنفوان شباب كه هنوز بدين طريق رجوع نكرده بودم در صحبت والده وجمعى در سفر بودم ناكاه ديدم كله كور خردر مرعى ومن برصيد ايشان عظيم حريص بودم وكو دكان من اره دوربودند در نفس من اين فكر افتادكه ايشانرا نر نجانم ودل بران نهادم وخاطررا برترك تعرض وايذاى ايشان تسكين كردم وحصانى كه بروى سوار بودم بجانب ايشان ميل ميكرد سر او محكم كردم ونيزه بدست من بود ون بديشان رسيدم ودرميانه ايشان در آمدم وقت بودكه سنان نيزه ببعضى ميرسيد واودر را كردن خود بود والله هي يكى سر بر نداشت تامن از ميان ايشان كذشتم بعد ازان كود كان وغلامان رسيدند وآن جماعات حمر وحش از ايشان رميدند ومتفرق شدند ومن سبب آن نمى دانستم تا وقتى كه بطريق الله رجوع كردم ومرا در معامله نظر افتاد دانستم كه آن امان كه در نفس من بود در نفوس ايشان سرايت كرد واحق العباد باسم المومن من كان سبباً لأمن الخلق من عذاب الله بالهداية إلى طريق الله والإرشاد إلى سبيل النجاة وهذه حرفة الأنبياء والعلماء ولذلك قال عليه السلام : إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم لعلك تقول الخوف من الله على الحقيقة فلا مخوف إلا هو فهو الذي خوف عباده وهو الذي خلق أسباب الخوف فكيف ينسب إليه إلا من فجوا بك إن الخوف منه والأمن منه وهو خالق سبب الأمن والخوف جميعاً وكونه مخوفاً لا يمنع كونه مؤمناً كما أن كونه مذلاً لم يمنع كونه معزاً بل هو المعز والمذل وكونه خافضاً لم يمنع كونه رافعاً بل هو الرافع والخافض فكذلك هو المؤمن المخيف لكن المؤمن ورد التوقيف به خاصة دون المخوف وخاصية هذا الاسم وجود التأمين وحصول الصدق والتصديق وقوة الإيمان في العموم لذاكره ومن ذلك أن يذكره الخائف ستاً وثلاثين مرة فإنه يأمن على نفسه وماله ويزاد في ذلك بحسب القوة والضعف {الْمُهَيْمِنُ} قال بعض المشايخ هذا الاسم من أسمائه التي علت بعلو معناها عن مجاري الاشتقاق فلا يعلم تأويله إلا الله تعالى وقال بعضهم : هو المبالغ في الحفظ والصيانة عن المضار من قولهم هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فرخه حماية له وفي الإرشاد الرقيب الحافظ لكل شيء وقال الزروقي هو لغة الشاهد ومنه قوله تعالى ومهيمناً عليه يعني شاهداً عالماً وقال بعضهم : مفيعل من الأمن ضد الخوف وأصله مؤأمن بهمزتين فقلبت الهمزة الثانية ياء لكراهة اجتماعهما فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا في أراق الماء هراقه فيكون في معنى المؤمن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ حكي ـ أن ابن
461
قتيبة لما قال في المهيمن أنه مصغر من مؤمن والأصل مؤمن فأبدلت الهمزة هاء قيل له هذا يقرب من الكفر فليتق الله قائله وذلك لأن فيه ترك التعظيم وقال الإمام الغزالي رحمه الله معنى المهيمن في حق الله أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه وكل مشرف على كنه الأمر مستول عليه حافظ له فهو مهيمن عليه والإشراف يرجع إلى العلم والاستيلاء إلى كمال القدرة والحفظ إلى الفعل فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن ولن يجمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا الله تعالى ولذلك قيل إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة وعبد المهيمن هو الذي شاهد كون الحق رقيباً شهيداً على كل شيء فهو يرقب نفسه وغيره بإيفاء حق كل ذي حق عليه لكونه مظهر الاسم المهيمن يعني حظ العارف منه أن يراقب قلبه ويحفظ قواه وجوارحه ويأخذ حذره من الشيطان ويقوم بمراقبة عباد الله وحفظهم فمن عرف أنه المهيمن خضع تحت جلاله وراقبه في كل أحواله واستحيى من اطلاعه عليه فقام بمقام المراقبة لديه.
ـ حكي ـ أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله كان يصلي قاعداً فجلس ومد رجليه فهتف به هاتف هكذا تجالس الملوك وإن الحريري كان لا يمد رجليه في الخلوة فقيل له : ليس يراك أحد فقال : حفظ الأدب مع الله أحق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/373)
يقول الفقير يقرب من هذا ما وقع لي عند الكعبة فإني بعدما طفت بالبيت استندت إلى مقام إبراهيم حباله فقيل لي من قبل الله تعالى ما هذا البعد في عين القرب فعلمت أن ذلك من ترك الأدب في جالسة الله معي فلم أزل ألازم باب الكعبة في الصف الأول مدة مجاورتي بمكة وخاصة هذا الاسم الإشراف على البواطن والأسرار ومن قرأه مائة مرة بعد الغسل والصلاة في خلوة بجمع خاطر نال ما أراد ومن نسبته المعنوية علام الغبوب عن التأمل وفي الأربعين الإدريسية يا علام الغيوب فلا يفوت شيء من علمه ولا يؤوده قال السهرودي من داوم عليه قوي حفظه وذهب نسيانه {الْعَزِيزُ} غالب در حكم يا بخشنده عزت.
قال بعضهم : من عز إذا غلب فمرجعه القدرة المتعالية عن المعارضة والممانعة أو من عز عزازة إذا قل فالمراد عديم المثل كقوله تعالى : ليس كمثله شيء وقال الإمام الغزالي رحمه الله العزيز هو الحظير الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه فما لم يجمع فيه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه العزيز فكم من شيء يقل وجوده ولكن إذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيراً وكم من شيء يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزاً كالشمس مثلاً فإنها لا نظير لها والأرض كذلك والنفع عظيم في كل واحدة منهما والحاجة شديدة إليهما ولكن لا توصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاتهما فلا بد من اجتماع المعاني الثلاثة ثم في كل واحد من المعاني الثلاثة كمال ونقصان فالكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى الواحد إذ لا أقل من الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله وليس هذا إلا الله تعالى فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان فيمكن وجود مثلها والكمال في النفاسة وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء حتى في وجوده وبقائه
462
وصفائه وليس ذلك الكمال إلا الله تعالى وعبد العزيز هو الذي أعزه الله بتجلي عزته فلا يغلبه شيء من أيدي الحدثان والأكوان وهو يغلب كل شيء قال الغزالي رحمه العزيز ن العباد من يحتاج إليه عباد الله في مهام أمورهم وهي الحياة الأخروية والسعادة الأبدية وذلك مما يقل لا محالة وجوده ويصعب إدراكه وهذه رتبة الأنبياء عليهم السلام ويشاركهم في العز من يتفرد بالقرب منهم أي من درجتهم في عصرهم كالخلفاء وورثتهم من العلماء وعزة كل واحد بقدر علو رتبته عن سهولة النيل والمشاركة وبقدر غنائه في إرشاد الخلق وقال بعضهم حظ العبد من هذا الإسم أن يعز نفسه فلا يستهينها بالمطامع الدنية ولا يدنيها بالسؤال من الناس والافتقار إليهم قيل إنما يعرف عزيزاً من أعز أمر الله بطاعته فأما من استهان بأوامره فمن المحال أن يكون متحققاً بعزته وقال الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلوقين فمن عرف أنه العزيز لا يعتقد لمخلوق جلالاً دون جلال الله تعالى فالعزيز بين الناس في المشهور من جعله الله ذا قدر ومنزلة بنوع شرف باق أو فان فمنهم من يكون عزيزاً بطاعة الله تعالى ومنهم من يكون بالجاه ومنهم من يكون عزيزاً بالعلم والمعرفة والكمال ومنهم من يكون بالسطوة والشوكة والمال ثم منهم من يكون عزيزاً في الدارين ومنهم من يكون في الدنيا لا في العقبى ومنهم من يكون على العكس فكم من ذليل عند الناس عزيز عند الله وكم من عزيز عند الناس ذليل عند الله والعزيز عند المولى هو الأصل والأولى قال في أبكار الأفكار غير رسول الله عليه السلام اسم العزيز لأن العزةوشعار العبد الذلة والاستكانة وخاصية هذا الاسم وجود الغنى والعز صورة أو حقيقة أو معنى فمن ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه فلم يحوجه إلى أحد من خلقه وفي الأربعين الإدريسية يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله قال السهر وردي رحمه الله : من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك خصمه وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده فإنهم ينهزمون
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/374)
{الْجَبَّارُ} الذي جبر خلقه على ما أراد أي قهرهم وأكرههم عليه أو جبر أحوالهم أي أصلحها فعلى هذا يكون الجبار من الثلاثي لا من الأفعال وجبر بمعنى أجبر لغة تميم وكثير من الحجازيين واستدل بورود الجبار من يقول أن أمثلة مبالغة تأتي من الميد عن الثلاثة فإنه من أجبره علي كذا أي قهره والقا الفراء : لم يسمع فعال من أفعل إلا في جبار ودراك فإنهما من أجبر وأدرك قال الراغب أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر وقد يقال في إصلاح المجرد نحو قول علي رضي الله عنه يا جابر كل كسير ومسهل كل عسير والإجبار في الأصل حمل الغير على أن يجبر الأمور لكن تعورف في الإكراه المجرد وسمي الذين يدعون أن الله تعالى يكره العباد على المعاصي في تعارف المتكلمين مجبرة وفي قول المتقدمين جبرية والجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من المعالي لا يستحقها وهذا لا يقال إلا على طريقة الذم وفي وصف الله لأنه الذي يجبر الناس بفائض نعمه أو يقهرهم على ما يريده من مرض وموت وبعث ونحوها وهو لا يقهر إلا على ما تقتضي الحكمة أن يقهر عليه فالجبار المطلق هو الذي ينفذ مشيئته
463
على سبيل الإجبار في كل أحد ولا ينفذ فيه مشئة أحد.
ـ روي ـ أن في بعض الكتب الإلهية عبدي تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أبقيتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد وعبد الجبار هو الذي يجبر كسر كل شيء ونقصه لأن الحق جبر حاله وجعله بتجلي هذا الاسم جابر الحال كل شيء مستعلياً عليه ومن علم أنه الجبار دق في عينه كل جبار وكان راجعاً إليه في كل أمر بوصف الافتقار بجبر المكسور من أعماله وترك الناقص من آماله فتم له الإسلام والاستسلام وارتفعت همته عن الأكوان فيكون جباراً على نفسه جابراً لكسر عباده وقال بعضهم حظ العارف من هذا الاسم أن يقبل على النفس ويجبر نقائصها باستكمال الفضائل ويحملها على ملازمة التقوى والمواظبة على الطاعة ويكسر منها الهوى والشهوات بأنواع الرياضات ويترفع عما سوى الحق غير ملتفت إلى الخلق فيتحلى بحلى السكينة والوقار بحيث لا يزلزله تعاور الحوادث ولا يؤثر فيه تعاقب النوافل بل يوقى على التأثير في الأنفس والآفاق بالإرشاد والإصلاح وقال الإمام الغزالي حمه الله الجبار من العباد من ارتفع عن الاتباع ونال درجة الاستتباع وتفرد الخلق ولا يستفيد ويؤثر ولا يتأثر ويستتبع ولا يتبع ولا يشاهده أحد إلى ويفنى عن ملاحظة نفسه ويصير مستوفى الهم غير ملتفت إلى ذاته ولا يطمع أحد في استدراجه واستتباعه وإنما حظي بهذا الوصف سيد الأولين والآخرين عليه السلام حيث قال : لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي وأنا سيد ولد آدم ولا فخر وخاصية هذا الاسم الحفظ من ظلم الجبابرة والمعتدين في السفر والإقامة يذكر بعد قراءة المسبعات عشر صباحاً ومساء إحدى وعشرين مرة ذكره الزروقي في شرح الأسماء الحسنى {الْمُتَكَبِّرُ} الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصاناً أو البليغ الكبرياء والعظمة يعني أن صيغة التفعل للتكلف بما لم يكن فإذا قيل تكبر وتسخى دل على أنه يرى ويظهر الكبر والسخاء وليس بكبير ولا سخي والتكلف بما لم يكن كان مستحيلاً في حق الله تعالى حمل على لازمه وهو أن يكون ما قام به من الفعل على أتم ما يكون وأكمله من غير أن يكون هناك تكلف واعتمال حقيقة ومنه ترحمت على إبراهيم بمعنى رحمته كمال الرحمة وأتممتها عليه فإذا قيل إنه تعالى متكبر كان المعنى إنه البالغ في الكبر أقصى المراتب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ روي ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله عليه السلام قائماً على هذا المنبر يعني منبر رسول الله في المدينة وهو يحكي عن ربه تعالى فقال : إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جمع السموات والأرضين في قبضته تبارك وتعالى ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها ثم يقول أنا الله أنا الرحمن أنا الرحيم أنا الملك أنا القدوس أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبابرة :
قهار بي منازع وغفار بي ملال
ديان بي معادل وسلطان بي ساه
باغير اوضافت شاهى بود نان
بريك دو وب اره زشطرنج نام شاه
464
(9/375)
قال الراغب : التكبر يقال على وجهين أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره وعلى هذا وصف الله بالمتكبر وهو ممدوح والثاني أن يكون متكلفاً لذلك متشبعاً وذلك في وصف عامة الناس والموصوف به مذموم وفي الحديث : "الكبرياء ودائي والعظمة ازاري فمن نازعني في شيء منهما قصمته" قال بعضهم : الفرق بين المتكبر والمستكبر أن المتكبر عام لإظهار الكبر الحق كما في أوصاف الحق تعالى ولإظهار الكبر الباطل كما في قوله سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق والكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره والتكبر إظهاره ذلك كما في العوارف والاستكبار باطلاً كما في قوله تعالى في حق إبليس استكبر وغير ذلك كما تجده في موارد استعمالاته في القرآن والحديث وقال في الأسئلة المقحمة ما معنى المتكبر من أسماء الله فإن التكبر مذموم في حق الخلق والجواب معناه هو المتعظم عما لا يليق به سبحانه وهو من الكبرياء لا من التكبر ومعناه المبالغة في العظمة والكبرياء في الله وهو الامتناع عن الإنقياد فلهذا كان مذموماً في حق الخلق وهو صفة مدح في حق الله تعالى انتهى فإن قلت ما تقول في قوله عليه السلام حين قال له عمه أبو طالب ما أطوعك ربك يا محمد وأنت يا عم لو أطعته أطاعك قلت هذه الإطاعة والانقياد للمطيع لا للخارج عن أمره فلا ينافي عدم انقياده لغيره فهو المتكبر للمتكبر كما أنه المطيع للمطيع قال بعضهم : المتكبر هو الذي يرى غيره حقيراً بالإضافة إلى ذاته فينظر إلى الغير نظر المالك إلى عبده وهو على الإطلاق لا يتصور إلا تعالى فإنه المتفرد بالعظمة والكبرياء بالنسبة إلى كل شيء من كل وجه ولذلك لا يطلق على غيره تعالى إلا في معرض الذم لما أنه يفيد التكلف في إظهار ما لا يكون قال عليه السلام : تحاجت النار والجنة فقالت : هذه يدخلني الجبارون المتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها ومن عرف علوه تعالى وكبرياءه لازم طريق التواضع وسلك سبيل التذلل قيل الفقير في خلقه أحسن منه في جديد غيره فلا شيء أحسن على الخدم من لباس التواضع بحضرة السادة قال بعض الحكماء ما أعز الله عبداً بمثل ما يدل على ذل نفسه وما أذله بمثل ما يدل على عز نفسه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ـ حكي ـ أن بعضهم قال : رأيت رجلاً في الطواف وبين يديه خادمان يطردان الناس ثم بعد ذلك رأيته يتكفف على جسر فسألته عن ذلك فقال : إني تكبرت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله في موضع يترفع فيه الناس وعبد المتكبر هو الذي فنى تكبره بتذلله للحق حتى قام كبرياء الله مقام كبره فيتكبر بالحق على ما سواه فلا يتذلل للغير قال الإمام الغزالي قدس سره المتكبر من العباد هو الزاهد ومعنى زهد العارف أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتكبر في كل شيء سوء الله تعالى فيكون مستقراً للدنيا والآخرة مرتفعاً عن أن يشغله كلتاهما عن الحق وزهد العارف معاملة ومعارضة فهو إنما يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة فيترك الشيء عاجلاً طمعاً في إضعافه آجلاً وإنما هو سلم ومبايعة ومن استبعدته
465
شهوته المطعم والمنكح فهو حقير وإنما المتكبر من يستحقر كل شهوة وحظ بتصور أن تشاركه فيها البهائم وخاصية هذا الاسم الجلالة ظهور الخير والبركة حتى أن من ذكره ليلة دخوله بزوجته عند دخوله عليها وقرأه قبل جماعها عشراً رزق منها ولداً صالحاً ذكراً وفي الأربعين الإدريسية يا جليل المتكبر على كل شيء فالعدل أمره والصدق وعده قال السهر وردي رحمه الله مداومه بلا فترة يجل قدره ويعز أمره ولا يقدر أحد على معارضته بوجه ولا بحال {سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه له تعالى عما يشركون به تعالى أو عن إشراكهم به أثر تعداد صفات لا يمكن أن يشاركه تعالى في شيء منها شيء ما أصلاً أي سبحوا الله تسبيحاً ونزهوه تنزيهاً عما يشركه الكفار به من المخلوقات فالله تعالى أورده لإظهار كمال كبريائه وللتعجب من إثبات الشرك بعدما عاينوا آثار اتصافه بجلال الكبرياء وكمال العظمة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
(9/376)
وفي التأويلات النجمية قوله سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو الملك الخ يشير إلى وحدانية ذاته وفردانية صفاته وتصرفه في الأشياء على مقتضى حكمته الإولية وإلى نزاهته عن النقائص الإمكانية ووصف الا من بين العدم المحض بسبب التحقق بالوجود المطلق وإلى حفظ الأشياء في عين شيئيته وإعزازه أولياءه وقهره وإذلاله أعداءه وإلى كمال كبريائه بظهوره في جميع المظاهر وإلى نزاهة ذاته عما يشركون معنى في ذاته وفي صفاته وفي عرائس البقلي سبحان الله عما يشركون إليه بالنواظر والخواطر انتهى {هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ} أي المقدر للأشياء على مقتضى حكمته ووفق مشيئته فإن أصل معنى الخلق التقدير كما يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بمقياس وإن شاع في معنى الإيجاد على تقدير واستواء وسواء كان من مادة كخلق الإنسان من نطفة ونحوه أو من غير مادة كخلق السموات والأرض وعبد الخالق هو الذي يقدر الأشياء على وفق مراد الحق لتجليه له بوصف الخلق والتقدير فلا يقدر إلا بتقديره تعالى وخاصية هذا الاسم أن يذكر في جوف الليل ساعة فما فوقها فيتنور قلب ذاكره ووجهه وفي الأربعين الإدريسية خالق من في السموات ومن في الأرض وكل إليه معاده قال السهروردي يذكر لجمع الضائع والغائب البعيد الغيبة خمسة آلاف مرة الموجد للأشياء بريئة من التفاوت فإن البرء الإيجاد على وجه يكون الموجد بريئاً من التفاوت والنقصان عما يقتضيه التقدير على الحكمة البالغة والمصلحة الكاملة وعبد الباريء هو الذي يبرأ عمله من التفاوت والاختلاف فلا يفعل إلا ما يناسب حضرة الاسم البارىء متعادلاً متناسباً بريئاً من التفاوت كقوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت وخاصية هذا الاسم أن يذكره سبعة أيام متوالية كل يوم مائة مرة للسلامة من الآفات حتى من تعدى التراب عليه في القبر وفي الأربعين الإدريسية يا بارىء النفوس بلا مثال خلا من غيره قال السهروردي يفتح لذاكره أبواب الغنى والعز والسلامة من الآفات وإذا كتب في لوح من قير وعلق على المجنون نفعه وكذلك أصحاب الأمراض الصعبة {الْمُصَوِّرُ} الموجد لصور الأشياء وكيفياتها كما أراد يعني بحشنده صورت هر مخلوق.
كما يصور الأولاد في الأرحام بالشكل
466
واللون المخصوص فإن معنى التصوير تخصيص الخلق بالصور المتميزة والأشكال المتعينة قال الراغب الصورة ما تتميز به الأعيان عن غيرها وهي محسوسة كصورة الإنسان ومعقولة كالعقل وغيره من المعاني وقوله عليه السلام : إن الله خلق آدم على صورته أراد بالصورة ما خص الإنسان به من الهيئة المدركة بالبصر وبالبصيرة وبها فضله على كثير من خلقه وإضافته إلى الله على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه بل على سبيل التشريف له كقوله بيت الله وناقة الله وروح الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
يقول الفقير الضمير المجرور في صورته يرجع إلى الله لا إلى آدم والصورة الإلهية عبارة عن الصفات السبع المرتبة وهي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام وآدم مظهر هذه الصفات بالفعل بخلاف سائر الموجودات وإطلاق الصورة على الله تعالى مجاز عند أهل الظاهر إذ لا تستعمل في الحقيقة إلا في المحدوسات وأما عند أهل الحقيقة فحقيقة لأن العالم الكبير بأسره صورة الحضرة الإلهية فرقاً وتفصيلاً وآدم صورته جمعا وإجمالاً :
أي زهمه صورت خوب توبه
صورك الله على صورته
روى تو آيينه حق بيني است
در نظر مردم خود بين منه
بلكه حق آيينه وتو صورتى
وهم توى رابميان ره مده
صورت از آيينه نباشد جدا
انت به متحد فانتبه
هركه سر رشته وحدت نيافت
يش وى اين نكته بود مشتبه
رشته يكى دان وكره صد هزار
كيست كزين نكته كشايد كره
هركه و جامى بكره بند شد
كر بسر رشته رود بازبه
(9/377)
والحاصل أن الخالق هنا المقدر على الحكمة الملائكة لنظام العالم والبارىء الموجد على ذلك التقدير والمصور المبدع لصور الكائنات وأشكال المحدثات بحيث يترتب عليها خواصهم ويتم بها كمالهم وبهذا ظهر وجه الترتيب بينهما واستلزام التصوير البرء والبرء الخلق استلزام الموقوف الموقوف عليه كما قال الإمام الغزالي رحمه الله وقدس سره قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة وأن الكل يرجع إلى الخلق والاختراع ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى التقدير أولاً وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانياً وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثاً والله تعالى خالق من حيث أنه مقدر وبارىء من حيث أنه مخترع موجد ومصور من حيث أنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب وهذا كالبناء مثلاً فإنه محتاج إلى مقدر يقدر ما لا بد منه من الخشب واللبن ومساحة الأرض وعدد الأبنية وطولها وعرضها وهذا يتولاه المهندس فيرسمه ويصوره ثم يحتاج إلى بناء يتولى الأعمال التي عندها تحدث وتحصل أصول الأبنية ثم يحتاج إلى مزين ينقش ظاهره ويزين صورته فيتولاه غير البناء هذه هي العادة في التقدير والبناء والتصوير وليس كذلك في أفعال الله تعالى بل هو المقدر والموجد والمزين فهو الخالق البارىء المصور فقدم ذكر الخالق على البارىء لأن الإرادة والتقدير مقدمة على تأثير القدرة وقدم البارىء
467
على المصور لأن إيجاد الذات متقدم على إيجاد الصفات وعن حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه أنه قرأ البارىء المصور بفتح الواو ونصب الراء الذي يبرأ المصور أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات واختلاف الأشكال وعبد المصور هو الذي لا يتصور ولا يصور إلا ما طابق الحق ووافق تصويره لأن فعله يصدر عن مصوريته تعالى ولذا قال بعضهم : حظ العارف من هذه الأسماء أن لا يرى شيئاً ولا يتصور أمراً إلا ويتأمل فيما فيه من باهر القدرة وعجائب الصنع فيترقى من المخلوق إلى الخالق وينتقل من ملاحظة المصنوع إلى ملاحظة الصانع حتى يصير بحيث كلما حتى يصير بحيث كلما نظر إلى شيء وجد الله عنده وخاصية الاسم المصور الإعانة على الصنائع العجيبة وظهور الثمار ونحوها حتى أن العاقر إذا ذكرته في كل يوم إحدى وعشرين مرة على صوم بعد الغروب وقبل الإفطار سبعة أيام زال عقمها وتصور الولد في رحمها بإذن الله تعالى
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
{لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} لدلالتها على المعاني الحسنة كما سبق في سورة طه.
قال الكاشفي : مر اوراست نامهاى نيكى كه در شرع وعقل سنديده ومستحسن باشدع والحسنى صيغة تفضيل لأنها تأنيث الأحسن كالعليا في تأنيث الأعلى وتوصيف الأسماء بها للزيادة المطلقة إذ لا نسبة لأسمائه إلى غير الأسماء من أسماء الغير كما لا نسبة لذاته المتعالية إلى غير الذوات من ذوات الغير وأسماء الله تسعة وتسعون على ما جاء في الحديث ونقل صاحب اللباب عن الإمام الرازي أنه قال : رأيت في بعض كتب الذكر أن تعالى أربعة آلاف اسم ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف في التوراة وألف في الإنجيل وألف في الزبور.
ـ روي ـ إن من دعاء رسول الله عليه السلام : أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب فلعل كونها تسعة وتسعين بالنظر إلى الأشهر الأشرف الأجمع وتعدد الأسماء لا يدل على تعدد المسمى لأن الواحد يسمى أبا من وجه وجداً من وجه وخالاً من وجه وعالماً من وجه وذاته متحدة قال عبد الرحمن البسطامي قدس سره في ترويح القلوب : اعلم أن من السر المكتوم في الدعاء أن تأخذ حروف الأسماء التي تذكر بها مثل قولك الكبير المتعال ولا تأخذ إلا ألف واللام بل تأخذ كبير متعال وتنظر كما لها من الأعداد بالجمل الكبير فتذكر ذلك العدد في موضع خال من الأصوات بالشرائط المعتبرة عند أهل الخلوة لا تزيد على العدد ولا تنقص منه فإنه يستجاب لك بالوقت وهو الكبريت الأحمر بإذن الله تعالى فإن الزيادة على العدد المطلوب إسراف والنقص منه إخلال والعدد في الذكر بالأسماء كأسنان المفتاح لأنها زادت ونقصت لا تفتح الباب وقس عليه باب الإجابة فافهم السر وصن الدر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ثم اعلم أن العارفين يلاحظون في الأسماء آلة التعريف وأصل الكلمة والملامية يطرحون منها آلة التعريف لأنها زائدة على أصل الكلمة قال العلماء : الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع والمسمى هو المعنى الموضع له والتسمية وضعا للفظ له أو إطلاقه عليه وإطلاق الاسم على الله تعالى توقفي عند البعض بحيث لا يصح إطلاق شيء منه عليه إلا بعد أن كان وارداً في القرآن أو الحديث الصحيح وقال آخرون : كل لفظ دل على معنى
468
(9/378)
يليق بجلال الله وشأنه فهو جائز الإطلاق وإلا فلا ومن أدلة الأولين أن الله عالم بلا مرية فيقال له عالم وعليم وعلام لوروده في الشرع ولا يقال له عارف أو فقيه أو متيقن إلى غير ذلك مما يفيد معنى العلم ومن أدلة الآخرين أن الأسماءوصفاته مذكورة بالفارسية والتركية والهندية وغيرها مع أنها لم ترد في القرآن والحديث ولا في الأخبار وأن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها ومنها أن الله تعالى قال : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات الكمال ونعوت الجلال فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسماً حسناً وأنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظ المفيد غير لائق غاية ما في الباب أن يكون وضع الاسم علماً له مستحدثاً وذكر ما يوهم معنى غير لائق به تعالى ليس بأدب أما ذكر ما هو دال على معنى حسن ليس فيه إيهام معنى مستنكر مستنفر فليس فيه من سوء الأدب شيء {يُسَبِّحُ لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ينطق بتنزهه عن جميع النقائص تنزهاً ظاهراً قال في كشف الأسرار : يسبح له جميع الأشياء إما بياناً ونطلقاً وإما برهاناً وخلقاً وقد مر الكلام في هذا التسبيح مراراً وجمهور المحققين على أنه تسبيح عبارة وهو لا ينافي تسبيح الإشارة وكذا العكس {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم قال الإمام الغزالي رحمه الله الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأجل العلوم وأجل الأشياء هو الله تعالى وأجل العلوم هو العلم الأزلي الدائم الذي لا يتصور زواله فليس يعلم الله حقيقة إلا الله ومن عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله بقدر الطاقة البشرية لم يستحق أن يسمى حكيماً فمن عرف الله فهو حكيم وإن كان ضعيف القوة في العلوم الرسمية كليل اللسان قاصر البيان فيها إلا أن نسبة حكمة العبد إلى حكمة الله كنسبة معرفته إلى معرفته بذاته وشتان بين المعرفتين فشتان بين الحكمتين ولكنه مع بعده عنه هو أنفس المعارف وأكثرها خيراً ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب وعبد الحكيم هو الذي بصره الله بمواقع الحكمة في الأشياء ووفقه للسداد في القول والصواب في العمل وهو يرى خللاً في شيء ألا يسده ولا فساداً ألا يصلحه وخاصية هذا الاسم دفع الدواهي وفتح باب الحكمة فمن أكثر ذكره صرف الله عنه ما يخشاه من الدواهي وفتح الله باب الحكمة وإنما مدح الله نفسه بهذه الصفات العظام تعليماً لعباده المدح بصفاته العلي بعد فهم معانيها ومعرفة استحقاقه بذلك طلباً لزيادة تقربهم إليه قال أبو الليث في تفسيره فإن قال قائل قد قال الله فلا تزكوا أنفسكم فما الحكمة في أن الله تعالى نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه قيل له عن هذا السؤال جوابان أحدهما أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص وإذا كان ناقصاً لا يجوز له أن يمدح نفسه والله تعالى تام الملك والقدرة فيستوجب بهما المدح فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه والجواب الآخر أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك أفضال من الله تعالى ولم يكن ذلك بقوة العبد فلهذا لا يجوز أن يمدح نفسه ونظير هذا أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف وقد من على عباده للمعنى
469
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
الذي ذكر في المدح قال بعض الكبار تزكية الإنسان لنفسه سم قاتل وهي من باب شهادة الزور لجهله بمقامه عند الله إلا أن يترتب على ذلك مصلحة دينية فللإنسان ذلك كما قال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر أي لا أفتخر عليكم بالسيادة إنما الفخر بالعبودية والفخر بالذات لا يكون إلاوحده وأما الفخر في عباده فإنما هو للرتب فيقال صفة العلم أفضل من صفة الجهل ونحو ذلك ولا يخفى أن الرتب نسبة عدمية فما افتخر من افتخر إلا بالعدم ولذلك أمر الله نبيه أن يقول إنما أنا بشر مثلكم فلم ير لذاته فضلاً على غيره ثم ذكر شرف الرتبة بقوله يوحى إلي.
(9/379)
اعلم أن الأولى لك أن تسكت عن بحثين وتكل العلم فيهما إلى الله العليم الخبير أحدهما ما يكون بين العلماء من أن صفات الله الثابتة هل هي موجودات بوجودات مستقلة غير وجوده تعالى أولاً بعد الإيمان باتصافه تعالى بهاوكمالها ودوامها والثاني ما يكون بين المشايخ من أن الوجود هل هو واحد والله سبحانه وتعالى هو ذلك الوجود وسائر الموجودات مظاهر له لا وجود لها بالاستقلال أوله تعالى وجود زائد على ذاته واجب لها مقتضية هي إياه ولغيره تعالى من الموجودات وجودات أخر غير الوجود الواجب على ما هو البحث الطويل بينهم وإلى ذلك يرشدك ما قالوا من أن ما اتصف الله به فهو واجب لا يتغير أصلاً وما لم يتصف به فهو ممتنع لا يكون قطعاً فإذا اختلف اثنان في ذاته وصفاته تعالى فلا جرم أن واحداً منهما أما ينفي الواجب أو يثبت الممتنع وكلاهما مشكل وأن ما أبهم علمه فالأدب فيه السكوت بعد الإيمان بما ظهر من القرآن والحديث واتفاق الصحابة رضي الله عنهم فإن المرء لا يسأل إلا عن علم لزمه في إقامة الطاعة وإدامة العبادة لمولاه قال صاحب الشرعة ولا يناظر أحد في ذاته الله وصفاته المتعالى عن القياس والأشباه والأوهام ولخطرات وفي الحديث أن هلاك هذه الأمة إذا نطقوا في ربهم وإن ذلك من أشراط الساعة فقد كان عليه السلام يخر ساجداًتعالى متى ما سمع ما يتعالى عنه رب العزة ولا يجيب السائل عن الله إلا بمثل ما جاء به القرآن في آخر سورة الحشر من ذكر أفعاله وصفاته ولا يدقق الكلام فيه تدقيقاً فإن ذلك من الشيطان وضرر ذلك وفساده أكثر من نفعه قال بعض الكبار ما في الفرق الإسلامية أسوى حالاً من المتكلمين لأنهم ادعوا معرفة الله بالعقل على حسب ما أعطاهم نظرهم القاصر فإن الحق منزه عن أن يدرك أو يعلم بأوصاف خلقه عقلاً كان أو علماً روحاً كان أو سراً فإن الله ما جعل الحواس الظاهرة واباطنة طريقاً إلا إلى معرفة المحسوسات لا غير والعقل بلا شك منها فلا يدرك الحق بها لأنه تعالى ليس بمحسوس ولا بمعلوم معقول وقد تبين لك بهذا خطأ جميع من تكلم في الحق وصفاته بما لم يعلمه من الحق ولا من رسله عليه السلام وقال بعض العارفين سبب توقف العقول في قبول ما جاء في الكتاب والسنة من آيات الصفات وأخبارها حتى يؤول ضعفها وعدم ذوقها فلو ذاقوا كإذاقة الأنبياء وعملوا على ذلك بالإيمان كما عملت الطائفة لأعطاهم الكشف ما أجاله العقل من حيث فكره ولم يتوقفوا في نسبة تلك الأوصاف إلى الحق فالعم ذلك وعمل به تعرف أن علم القوم هو الفلك المحيط الحاوي على جميع العلوم.
470
ـ حكي ـ أن الفاضل محمد الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل كان من كبار المتكلمين وفحولهم وكان له بحث كثير في علم الكلام ربما لم يسبق إليه سواه حتى جمع في ذلك الكتاب تلك المباحث القطعية ثم انتهى أمره إلى العجز فيه والتحير في ذاته حتى رجع إلى مذهب العجائز فقال عليكم بدين العجائز فإنه من أسنى الجوائز وأنشد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
لقد طفت في تلك المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
على طقن أو قارعاً سن نادم
(9/380)
ثم قال والوجه أن يعتقد العبد الدين الذي جاء به محمد عليه السلام ودعا إليه وإليه أناب ولا يدخل في ذلك شيئاً من نظر عقله لا في تنزيه ولا في تشبيه بل يؤمن بكل آية جاءت في ذات الله وصفاته على بابها ويكل علمها إلى الله الذي وصف ذاته بها هذا هو طريق السلامة والدين الصحيح وعلى ذلك كانت الصحابة والسلف الصالحون رضي الله عنهم وإليه ينتهي الراسخون في العلم والعقلاء المحققون عند آخر أمرهم ومن وفقه الله كان عليه وآل نظره إليه ومن بقي على ما أعطاه نظره واجتهاده فليس ذلك بممتبع محمداً عليه السلام فيما جاء به مطلقاً لأنه أدخل فيه حاصل نظره وتأويله واتكل على رأيه وعقله وهذه وصيتي إليكم إن أردتم السلامة وعدم المطالبة ومن أراد غير ذلك لم ينج من السؤال وكان على خطر في المآل لأن القطع بما أراد الله عسير فإنا رأينا العقلاء اختلفت أدلتهم في الله فالمعتزلي يخالف الأشعري وبالعكس وهم يخالفون الحكماء وبالعكس كل طائفة تجهل الأخرى وتكفرها فعلمنا أن سبب ذلك هو اختلاف نظرهم وعدم عثورهم على الدليل الصحيح إما كلهم أو بعضهم ورأينا الأنبياء عليهم السلام لم يختلف منهم إثنان في الله قط عز وجل وكل دعوا إليه تعالى على باب واحد وكان اختلافهم في فروع الأحكام بحكم الله تعالى لا في أصولها قط قال الله تعالى سبحانه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه فقوله ولا تتفرقوا فيه دليل على اجتماعهم على أمر واحد في الأصول لأنه الفروع معلومة بوقوع الاختلاف فيها وذلك لا يضر وإنما يضر الاختلاف في الأصول إذ لو وقع الاختلاف فيها لما وقع الاتفاق ولكانت الدعوة لا تصح لأن الإله الذي يدعو إليه هذا غير إلا له الذي يدعو ذلك إليه والله تعالى قال : وإلهكم إله واحد وعم الطوائف كلها من آدم عليه السلام بالخطاب وهلم جرا إلى يوم القيامة إلى هنا من كلامه أورده حضرة الشيخ صدر الدين قدس سره في رسالته المعمولة وصية للطالبين وعظة للراغبين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
ثم اعلم أن من شرف هذه الأسماء المذكورة في الآخرة ما قال أبو هريرة رضي الله عنه : سألت حبيبي رسول الله عليه السلام عن اسم الله الأعظم فقال : هو في آخر الحشر وفي عين المعاني قال عليه السلام : سألت جبريل عن اسم الله الأعظم فقال : عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته فأعدت عليه فأعاد علي وعنه عليه السلام من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه وفي بعض الروايات
471
يحرسونه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة رواه معقل بن يسار رضي الله عنه وإنما جمع بين استعاذة وقراءة آخر الحشر والله أعلم لأن في الاستعاذة الاشعار بكمال العجز والعبودية وفي آخر الحشر الإقرار بجلال القدرة والعظمة والربوبية فالأول تخلية عن العجب والثاني تخلية بالإيمان الحق وبهما يتحقق منزل قوله تعالى الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيترتب عليه قوله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا الآية كما في تفسير الفاتحة للمولى الفناري رحمه الله وعن أبي أمامة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض من ذلك اليوم أو الليلة فقد استوجب الجنة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قرأ سورة الحشر لم يبق جنة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب ولا السموات السبع والأرضون السبع والهوام والطير والريح والشجر والدواب والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه فإن مات أي من يومه أو ليلته مات شهيداً كما في كشف الأسرار وقوله : مات شهيداً أي يثاب ثواب الشهادة على مرتبة وللشهادة مراتب قد مرت.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
تفسير سورة الممتحنة
مدنية وآيها ثلاث عشرة
جزء : 9 رقم الصفحة : 471
جزء : 9 رقم الصفحة : 472(9/381)
لعل الممتحنة مأخوذة من قول الله تعالى فيما بعد يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن أمر الله المؤمنين هناك بالامتحان فهم الممتحنون بكسر الحاء مجاز للمبالغة وأضيفت السورة إليها وسميت بسورة الممتحنة مثل سورة الفاتحة قيل إن إضافة السورة إلى الفاتحة من قبيل إضافة العام إلى الخاص ولا بعد أن تكون من قبيل إضافة المسمى إلى اسمه مثل كتاب الكشاف فإن الفاتحة من جملة أسماء سورة الفاتحة وقس على ذلك سورة الممتحنة ويحتمل أن يكون المراد الجماعة الممتحنة أي المأمور بامتحانها ويؤيده ما روى أنه قد تفتح الحاء فيكون المراد النساء المحتبرة فالإضافة بمعنى اللام التخصيصية أي سورة تذكر فيها النساء الممتحنة مثل سورة البقرة وأمثالها ويحتمل أن يكون مصدراً ميمياً بمعنى الامتحان على ما هو المشهور من أن المصدر الميمي وأسماء المفعول والزمان والمكان فيما زاد على الثلائي تكون على صيغة واحدة أي سورة الامتحان مثل سورة الإسراء وغيرها يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة العبسي وحاطب بالحاء المهملة قال في كشف الأسرار : ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصله من الأزد وهو حي باليمن وأَتقه عبيد الله بن حميد بن زهير الذي قتله علي رضي الله عنه يوم بدر كافراً وكان حاطب يبيع الطعام ومات بالمدينة وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان من المهاجرين
472
وشهد بدراً وبيعة الرضوان وعمم الله الخطاب في الآية تعميماً للنصح والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد والمراد هنا كفار قريش وذلك أنه لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلّم لغزوة الفتح في السنة الثامنة من الهجرة كتب حاطب إلى أهل مكة أن رسول الله يريدكم فخذوا خذركم فإنه قد توجه إليكم في جيش كالليل وأرسل الكتاب مع سارة مولاة بني عبد المطلب أي معتقتهم وأعطاها عشرة دنانير وبردة وكانت سارة قدمت من مكة وكانت مغنية فقال لها عليه السلام لماذا جئت فقالت : جئت لتعطيني شيئاً فقال : ما فعلت بعطياتك من شبان قريش فقالت : مذ قتلتهم ببدر لم يصل إلي شيء إلا القليل فأعطاها شيئاً فرجعت إلى مكة ومعها كتاب حاطب فنزل جبرائيل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله عليه السلام علياً وعماراً وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ موضع بين الحرمين وخاخ بالمعجمتين يصرف ويمنع فإن بها ظعينة وهي المرأة ما دامت في الهودج وإذا لم تكن فيه فهي المرأة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها فخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها فادركوها ثمة فجحدت فسل علي رضي الله عنه سيفه فأخرجته من عقاصها أي من ضفائرها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
ـ روي ـ أن رسول الله عليه السلام أمن جميع الناس يوم فتح مكة إلا أربعة هي أحدهم فأمر بقتلها فاستحضر رسول الله حاطباً فقال : ما حملك على هذا؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك الغش ترك النصح والنصح عبارة عن التصديق بنبوته ورسالته والانقياد لأوامره ونواهيه ولكنني كنت أمرأ ملصقاً في قريش أي حليفاً ولم أكن من أنفسهم ومن معك من المهاجرين كان له فيهم قرابات يحمون أهاليهم وأموالهم وليس فيهم من يحمي أهلي فأردت أن آخذ عندهم يداً أي أجعل عندهم نعمة ولم أفعله كفراً وارتداداً عن ديني وقد علمت أن كتاب لا يغني عنهم شيئاً فصدقه رسول الله وقبل عذره فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال : يا عمر إنه شهد ردراً وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وفي القصة إشارة إلى جواز هتك ستر الجواسيس وهتك أستار المفسدين إذا كان فيه مصلحة أو في ستره مفسدة وإن من تعاطى أمراً محظوراً ثم ادعى له تأويلاً محتملاً قبل منه وإن العذر مقبول عند كرام الناس.
ـ روي ـ أن حاطباً رضي الله عنه لما سمع يا أيها الذين آمنوا غشى عليه من الفرح بخطاب الإيمان لما علم أن الكتاب المذكور ما أخرجه عن الإيمان لسلامة عقيدته ودل قوله وعدوكم على إخلاصه فإن الكافر ليس بعدو للمنافق بل للمخلص {تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} الود محبة الشيء وتمني كونه ويستعمل في كل واحد من المعنيين أي توصلون محبتكم بالمكاتبة ونحوها من الأسباب التي تدل على المودة على أن الباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى ولا تلقلوا بأيديكم إلى التهلكة أو تلقون إليهم أخبار النبي عليه السلام بسبب المودة التي بينكم وبينهم فيكون المفعول
473
(9/382)
محذوفاً للعلم به والباء للسببية والجملة حال من فاعل لا تتخذوا أي لا تتخذوا حال كونكم ملقين المودة فإن قلت قد نهوا عناتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء والتقييد بالحال يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال قلت عدم جوازه مطلقاً لما علم من القواعد الشرعية تبين أنه لا مفهوم للحال هنا البتة فإن قلت كيف قال لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والعداوة والمحبة لكونهما متنافيتين لا تجتمعان في محل واحد والنهي عن الجمع بينهما فرع إمكان اجتماعهما قلت إنما كان الكفار أعداء للمؤمنين بالنسبة إلى معاداتهمورسوله ومع ذلك يجوز أن يتحقق بينهم الموالاة والصداقة بالنسبة إلى الأمور الدنيوية والأغراض النفسانية فنهى الله عن ذلك يعني فلم يتحقق وحدة النسبة من الوحدات الثمان وحيث لم يكتف بقوله عدوى بل زاد قوله وعدوكم دل على عدم مروءتهم وفتوتهم فإنه يكفي في عداوتهم لهم وترك موالاتهم كونهم أعداى الله سواء كانوا أعداء لهم أم لا
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
{وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} حال من فاعل تلقون والحق هو القرآن أو دين الإسلام أو الرسول عليه السلام {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} حال من فاعل كفروا أي مخرجين الرسول وإياكم من مكة والمضارع لاستحضار الصورة {أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} تعليل للإخراج وفيه تغليب المخاطب على الغائب أي على الرسول والالتفات من التكلم إلى الغيبة حيث لم يقل أن تؤمنوا بي للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى} متعلق بلا تتخذوا كأنه قيل لا نتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي وانتصاب جهاداً وابتغاء على أنهما مفعول لهما لخرجتم أي إن كنتم خرجتم عن أوطانكم لأجل هذين فلا تتخذوهم أولياء ولا تلقوا إليهم بالمودة والجهاد بالكسر القتال مع العدو كالمجاهدة وفي التعريفات هو الدعاء إلى الدين الحق وفي المفردات الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو جهاد العدو الظاهر وجهاد الشيطان وجهاد النفس ويكون باليد واللسان والمرضاة مصدر كالرضى وفي عطف وابتغاء مرضاتي علي جهاداً في سبيلي تصريح بما علم التزاماً فإن الجهاد في سبيل الله إنما هو لا علاء دين الله لا لغرض آخر وإسناد الخروج إليهم معللاً بالجهاد والابتغاء يدل على أن المراد من إخراج الكفرة كونهم سبباً لخروجهم بأذيتهم لهم فلا ينافي تلك السببية كون إرادة الجهاد والابتغاء علة له {تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} استئناف وارد على نهج العتاب والتوبيخ كأنهم سألوا ماذا صدر عنا حتى عوتبنا فقيل تلقون إليهم المودة سراً على أن الباء صلة جيء بها لتأكيد التعدية أو الإخبار بسبب المودة ويجوز أن يكون تعديه الأسرار بالباء لحمله على نقيضه الذي هو الجهر {وَأَنَا أَعْلَمُ} حال من فاعل تسرون أي والحال أني أعلم منكم {بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} من مودة الأعداء والاعتذار وغير ذلك فإذا كان بينهما تساو في العلم فأي فائدة في الأسرار والاعتذار {وَمَن} وهركه {يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي الاتخاذ المنهي عنه أي ومن يفعل ما نهيت عنه من موالاتهم والأقرب من يفعل الأسرار
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} فقد أخطأ طريق الحق والصواب الموصل
474
(9/383)
إلى الفوز بالسعادة الأبدية وبالفارسية س بدرستى كه اوازراه راست كم شد.
وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف وضل متعد وسواء السبيل مفعوله ويجوز أن يجعل قاصراً وينتصب سواء السبيل على الظرفية قال القرطبي هذا كله معاتبة لحاطب وهو يدل على فضله ونصيحته لرسول الله وصدق إيمانه فإن المعاتبة لا تكون إلا من حبيب لحبيب كما قيل إذا ذهب العتاب فليس ود.
ويبقى الود ما بقي العتاب والعتاب إظهار الغضب على أحد لشيء مع بقاء المحبة بالترك وفي الآية إشارة إلى عداوة النفس والهوى والشيطان فإنها تبغض عبادة الله وتبغض عباد الله أيضاً إذا لم يكونوا مطيعين لها في إنفاذ شهواتها وتحصيل مراداتها وأصل عداوة النفس أن تفطمها من مألوفاتها وتحبسها في محبس المجاهدة وعلامة حب الله بغض عدو الله قال عليه السلام أفضل الإيمان الحب في الله والبعض في الله قال أبو حفص رحمه الله من أحب نفسه فقد اتخذ عدو الله وعدوه ولياً وأن النفس تخالف ما أمرت به وتعرض عن سبيل الرشد وتهلك محبها ومتبعها في أول قدم وجاء في أخبار داود عليه السلام يا داود عاد نفسك فليس لي في المملكة منازع غيرها وفي كشف الأسرار بلشكر اندك روم از قيصر بتوان ستد وبجمله أولياي روى زمين نفس را از يكى نتوان ستد زيرا نفس راحيل بسيارست احمد حضرويه بلخى رحمه الله كويد نفس خودرا بأنواع رياضات ومجاهدات مقهور كرده بودم روزى نشاط غزا كرد عجب داشتم كه از نفس نشاط طاعت نيايد كفتم درزير اين كويى ه مكر باشد مكردر كرسنكى طاقت نمى داردكه يوسته اورا روزه همى فرمايم خواهد درسفر روزه بكشايد كفتم أي نفس اكر اين سفر يش كيرم روزه نكشايم كفت روا دارم كفتم مكر از انست كه طاقت نماز شب نميدارد ميخواهدكه درسفر بخسبد كفتم درسفر قيام شب كم نكنم جنانكه در حضر كفت روا دارم تفكر كردم كه مكر ازان نشاط سفر غزا كرده كه در حضر باخلق مى نياميزدكه اورا درخلوت وعزلت ميدارم مرادش آنست كه باخلق صحبت كند كفتم أي نفس هرجاكه روم درين سفر ترا بخرابه فروآرم كه هي خلق رانه بيني كفت روا دارم از دست وى عاجز ماندم بالله تعالى زاريدم وتضرع كردم تا از مكروى مرا آكاهى دادكه در غزا كشتن يكباركى باشد وبهمه جهان شودكه احمد حضوريه بغزا شهادت يافت كفتم سبحان الله آن خداونديكه نفسي آفريند بدين معيوبي كه بدنيا منافق باشد وبعد ازمرك مرايى باشدنه درين جهان حقيقت اسلام خواهدنه دران جهان آنكه كفتم أي نفس اماره والله كه باين غزا نروم تاتودر زير طاعت زنا ربندى س در حضرآن رياضات ومجاهدات كه دران بودم زيادت كردم قوله بما أخفيتم أي من دعوى الأنانية وما أعلنتم من العبودية كما هو شأن النفس وقال أبو الحسين الوارق رحمه الله بما أخفيتم في باطنكم من المعصية وما أعلنتم في ظاهركم للخلق من الطاعة انتهى
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أي يظفروا بكم ويتمكنوا منكم والثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله وثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثم قد تجوز به فاستعمل في الإدراك وإن لم يكن معه ثقافة كما في هذا الموضع ونحوه {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَآءً} أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة
475
(9/384)
ويرتبوا عليها أحكامها ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم {وَيَبْسُطُوا} ويطيلوا {إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّواءِ} أو بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} أي تمنوا ارتدادكم وكونكم مثلهم كقوله ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم فكلمة لو هنا مصدرية وصيغة الماضي للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم أيضاً فهو معطوف على يبسطوا {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} أي قراباتكم قال الراغب الرحم رحم المرأة وهي في الأصل وعاء الولد في بطن أمه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة {وَلا أَوْلَـادُكُمْ} الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم جمع ولد بمعنى المولود يعم الذكر والأنثى {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بجلب نفع أو دفع ضر ظرف لقوله لن تنفعكم فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذٍ أي يفرق الله بينكم بما اعتراكم من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه الآية فما لكم ترفضون حق الله لمراعاة حق من يفر منكم غدا وقيل يفرق بين الوالد وولده وبين القريب وقريبه فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم به وهو أبلغ من خبير لأنه جعله كالمحسوس بحس البصر مع أن المعلوم هنا أكثره المبصرات من الكتاب والاتيان بمن يحمل الكتاب وإعطاء الأجرة للحمل وغيرها وفي الآية إشارة إلى عدواة النفس وصفاتها للروح وأخلاقه فإن النفس ظلمانية سفلية كثيفة والروح وقواه نوارانية علوية لطيفة ولا شك أن بين النور والظلمة تدافعاً ولذا تجتهد النفس أن تغلب الروح بظلمانيتها حتى يكون الحكم لها في مكلة الوجود وهو تصرفها باليد وأما بسط لسانها بالسوء فبمدح الأخلاق الذميمة وذم الأخلاق الحميدة فالقالب كبلد فيه إشراف وإرذال كل بطن واحد لأن القوى الخيرة والشريرة إنما حصلت من ازدواج الروح مع القالب فالنفس وصفاتها من الارذال وعلى مشرب قابيل وكنعان ولدي آدم ونوح عليهما السلام فليست من الأهل في الحقيقة والروح وقواه من الأشراف وعلى مشرب هابيل ونحوه فهي منا لأهل في الحقيقة ولذا تنقطع هذه النسبة يوم القيامة فيكون الروح في النفس والنفس في الجحيم عند تجلي اللطف والجمال والقهر والجلال جعلنا الله وإياكم من أهل الكمال والنوال {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ} أيها المؤمنون {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال الراغب الأسوة الأسوة كالقدوة و
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
القدوة هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبيحاً وإن ساراً وإن ضاراً والأسى الحزن وحقيقته اتباع الفائت بالغم والمعنى خصلة حميدة حقيقة بأن يؤتسى ويقتدى بها ويتبع أثرها قوله أسوة اسم كانت ولكم خبرها وحسنة صفة أسوة مقيدة إن عمت الأسوة المحمودة والمذمومة وكاشفة مادحة إن لم تعم {فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي من أصحابه المؤمنين صفة ثانية لاسوة وقولهم لي في فلان أسوة أي قدوة من باب التجريد لا أن فلاناً نفسه هو القدوة ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي لي في سنته وأفعاله وأقواله وقيل المراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريباً منه قال ابن عطية وهذا القول أرجح لأنه لم يرد
476
(9/385)
أن إبراهيم كان له اتباع مؤمنون في مكافحة نمرود وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشأم مهاجراً بلاد نمرود ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك {إِذْ قَالُوا} ظرف لخبر كان ومعمول له أو لكان نفسها عند من جوز عملها في الظرف وهو الأصح {لِقَوْمِهِمْ} الكفار {إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ} جميع بريء كظريف وظرفاء يعني ما بيزاريم ازشما {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من أصنام أظهروا البراءة أولاً من أنفسهم مبالغة وثانياً من عملهم الشرك إذ المقصود من البراءة أولاً من معبودهم هو البراءة من عبادته ويحتمل أن تكون البراءة منهم أن لا يصاحبوهم ولا يخالطوهم ومن معبودهم أن لا يقربوا منه ولا يلتفتوا نحوه ويحتمل أن تكون البراءة منهم بمعنى البراءة من قرابتهم لأن الشرك يفصل بين القرابات ويقطع الموالاة وحاصل الآية هلا فعلتم كما فعل إبراهيم حيث تبرأ من أبيه وقومه لكفرهم وكذا المؤمنون {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينكم على إضمار المضاف والكفر مجاز عن عدم الاعتداد والجحد والإنكار فإن الدين الباطل ليس بشيء إذ الدين الحق عند الله هو الإسلام {وَبَدَا} بدا الشيء بدوا وبداء أي ظهر ظهوراً بيناً والبادية كل مكان يبدو ما يعن فيه أي يعرض {بَيْنَنَا} ظرف لبدا {وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَدًا} أي هذا دأبنا معكم لا نتركه والبغض ضد الحب.
وقال الكاشفي : وآشكار اشد ميان ما وشماد شمني بدل ودشمني بدست يعني محاربه أبداً هميشه يعني يوسته دشمنى قائم خواهد بود درميان بدل ودست
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
{حَتَّى} غاية لبدا {تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة حينئذ ولاية والبغضاء محبة والمقت مقة والوحشة إلفة فالبغض نفور النفس من الشيء الذي ترغب عنه والحب انجذا النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه فإن قلت ما وجه قوله حتى تؤمنوا بالله وحده ولا بد في الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قلت : الإيمان بالله في حال وحدته يستلزم الإيمان بالجميع مع أن المراد الوحدة الإلهية رداً للأصنام قال بعض المشايخ إسوة إبراهيم خلة الله والتبري مما دون الله والتخلق بخلق الله والتأوه والبكاء من شوق الله وقال ابن عطاء رحمه الله : الأسوة القدوة بالخليل في الظاهر من الأخلاق الشريفة وهو السخاء وحسن الخلق واتباع ما أمر به على الكرب وفي الباطن الإخلاص في جميع الأفعال والإقبال عليه في كل الأوقات وطرح الكل في ذات الله تعالى وأسوة رسول الله عليه السلام في الظاهر العبادات دون البواطن والأسرار لأن أسراره لا يطيقها أحد من الخلق لأنه باين الأمة بالمكان ليلة المعراج ووقع عليه تجلي الذات :
سهدار رسل سرخيل دركاه
سرير افروز ملك لي مع الله
{إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ} آزر {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} يا أبي استثناء من قوله تعالى أسوة حسنة فإن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر وإن كان جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم كما نطق به النص لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلاً إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتماً لورود الوعيد على الإعراض عنه بما سيأتي من قوله تعالى ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد فاستثناؤه من الأسوة إنما يفيد عدم استدعاء الإيمان
477
والمغفرة للكافر المرجو إيمانه وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل وإما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعاً وحمل الأب على العم يخالف العقل والنقل لأن الله تعالى يخرج الحي من الميت والعبرة بالحسب لا بالنسب وعن علي رضي الله عنه شرف المرء بالعلم والأدب لا بالأصل والنسب :
هنر بنماى اكر دارى نه كوهر
كل از خارست وابراهيم از آزر
{وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ} من تمام القول المستثنى فمحله النصب على أنه حال من فاعل لأستغفرن لك أي أستغفر لك وليس في طاقتي إلا الاستغفار دون منع العذاب إن لم تؤمن فمورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده الذي هو في نفسه من خصال الخير لكونه إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر إلى الله تعالى وفي هذه الآية دلالة بينة على تفضيل نبيه محمد عليه السلام وذلك أنه حين أمر بالاقتداء به أمر على الإطلاق ولم يستثن فقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وحين أمر بالاقتداء بإبراهيم استثنى وأيضاً قال تعالى في سورة الأحزاب : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر اللهكثيراً فأطلق الاقتداء ولم يقيده بشيء.
قال الصائب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
هلاك حسن خدا داد او شوم كه سرا
و شعر حافظ شيرازى انتخاب ندارد(9/386)
{رَبَّنَا} الخ من تمام ما نقل عن إبراهيم ومن معه من الأسوة الحسنة {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} اعتمدنا يعني از خلق بريديم واعتماد كلي بر كرم تونموديم {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} رجعنا بالاعتراف بذنوبنا وبالطاعة {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي الرجوع في الآخرة وتقديم الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله تعالى :
سوى تو كرديم روى ودل بتو بستيم
زهمه باز آمديم وباتو تشستيم
هره نه يوند يار بود بربديم
هره نه يمان دوست بود كسستيم
قالوه بعد المجاهدة وشق العصا التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم لا سيما في مدافعة الكفرة وكفاية شرورهم كما ينطق به قوله تعالى : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نطيقه فالفتنة بمعنى المفعول وربنا بدل من الأول وكذا قوله ربنا فيما بعده وقال بعضهم : ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل {وَاغْفِرْ لَنَا} ما فرط منا من الذنوب وإلا كان سبباً لظهور العيوب وباعثاً للابتلاء المهروب {رَبَّنَا} تكرير النداء للمبالغة في التضرع والجؤار فيكون لاحقاً بما قبله ويجوز أن يكون سابقاً لما بعده توسلاً إلى الثناء بإثبات العزة والحكمة والأول أظهر وعليه ميل السجاوندي حيث وضع علامة الوقف الجائز على ربنا وهو في اصطلاحه ما يجوز فيه الوصل والفصل باعتبارين وتلك العلامة الجيم بمسماه وهو.
ج.
{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه {الْحَكِيمُ} لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة وقال بعض أهل الإشارة تعز أولياءك بالفناء فيك وتحييهم ببقائك بلطائف حكمتك فيكون المراد بالفتنة غلبة ظلمة النفس
478
والهوى وبالمغفرة الستر بالهوية الأحدية عن الانيات وبالصفات الواحدية عن التعينات {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيم ومن معه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
تكرير للمبالغة في الحث على الائتساء به عليه السلام وذلك صدر بالقسم وجعله الطيبي من التعميم بعد التخصيص وفي برهان القرآن كرر لأن الأول في القول والثاني في الفعل وفي فتح الرحمن الأولى أسوة في العداوة والثانية في لخوف والخشية وفي كشف الأسرار الأولى متعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم والثانية أمر بالائتساء بهم لينالوا من ثوابهم ما نالوا وينقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم {لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ} بالإيمان بلقائه {وَالْيَوْمَ الاخِرَ} بالتصديق بوقوعه وقيل يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة لأن الرجاء والخوف يتلازمان والرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة وفي المفردات الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة والخوف توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة وفي بعض التفاسير الرجاء يجيىء بمعنى توقع الخير وهو الأمل وبمعنى توقع الشر وهو الخوف وبمعنى التوقع مطلقاً وهو في الأول حقيقة وفي الأخيرين مجاز وفي الثاني من قبيل ذكر الشيء وإرادة ضده وهو جائز وفي الثالث من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام وهو كثير قوله لمن كان الخ بدل من لكم وفائدته الإيذان بأن من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم الإيمان بهما كمنا ينبىء عنه قوله تعالى : {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة أي ومن يعرض عن الاقتداء بهم في التبري من الكفار ووالاهم فإن الله هو الغني وحده عن خلقه وعن موالاتهم ونصرتهم لأهل دينه لم يتعبدهم لحاجته إليهم بل هو ولي دينه وناصر حزبه وهو الحميد المستق للحمد في ذاته ومن صحاح الأحاديث القدسية يا عبادي إنكم لن تبغلوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واجد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبافي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحل يا عباذي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراف فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه قوله هي ضمير القصة يعني ما جزاء أعمالكم إلا محفوظ عندي لأجلكم ثم أؤديها إليكم وافية ثم الحميد فعيل بمعنى المفعول وجوز الإمام القشيري رحمه الله أن يكون بمعنى الفاعل أي حامد لنفسه وحامد للمؤمنين من عباده قال شارح المشكاة وحظ العبد من اسم الحميد أن يسعى لينخرط في سلك المقربين الذين يحمدون الله لذاته لا لغيره قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله حمد الله الذين هو من شكره يجب أن يكون على شهود المنعم لأن حقيقة الشكر الغيبة لشهود المنعم عن شهود النعمة.
(9/387)
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
ـ روي ـ أن داود عبد الله قال في مناجاته : كيف أشكر لك وشكري لك نعمة منك علي فأوحى الله إليه الآن قد شكرتني وقال بعض أهل الإشارة : لقد كان في إبراهيم الخفي ومن معه من قواه الروحانية المجردة
479
من المواد الحسية والمثالية والعقلية أسوة حسنة وهي البراءة من قومه أي النفس الأمارة ولهوى المتبع فمن تأسى واستمر على ذلك بلغ المطلوب المحبوب ومن أعرض عن ذلك التأسي فإن الله غني عن تأسيه حميد في ذاته وإن لم يكن حمده انتهى كلامه {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ} شايد آنكه خداى تعالى يدا كند {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم} أي من أقاربكم المشركين وعسى من الله وعد على عادة الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى ولعل فلا يبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك وذلك الراغب ذكر الله في القرآن عسى ولعل تذكرة ليكون الإنسان منه على رجاء لا على أن يكون هو تعالى راجياً أي كونوا راجين في ذلك والمعاداة والعداء باكسى دشمنى كردن {مَّوَدَّةً} أي بأن يوافقوكم في الدين وعدهم الله بذلك لما رأى منهم من التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطبيباً لقلوبهم ولقد أنجز وعده الكريك حين أباح لهم الفتح فأسلم قومهم كأبي سفيان وسهل بن عمرو وحكيم بن حزام والحارث بن هشام وغيرهم من صناديد العرب وكانوا أعداء أشد العداوة فتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} أي مبالغ في القدرة فيقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفر لمن أسلم من المشركين ويرحمهم بقلب معاداة قاربهم موالاة وقيل غفور لما فرط منكم في موالاتهم من قبل ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم قال ابن عطاء رحمه الله : لا تبغضوا عبادي كل البغض فإني قادر على أن أنقلكم من البغض إلى المحبة كنقلي من المن الحياة إلى الموت ومن الموت إلى النشور كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أنظر إلى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قرأ يخرج الحي من الميت لأنهما من خيار الصحابة وأبواهما أعدى عدو الله ورسوله وكان بعضهم يبغض عكرمة ويسب أباه لما سلف منه من الأذى حتى ورد النهي عنه بقوله عليه السلام : لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات فقلب الله ذلك محبة فكانوا إخواناً في الله وفي الحديث : "من نظر إلى أخيه نظر مودة لم يكن في قلبه أحنة لم يطرف حتى يغفر الله له ما تقدم من ذنبه" وقال سقراط : أثن علي ذي المودة خيراً عند من لقيت فإن رأس المودة حسن الثناء كما أن رأس العداوة سوء الثناء وعنه لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك فكيف بك إذا لم يأمنك صديقك؟ قال داود عليه السلام : اللهم إني أعوذ بك من مال يكون على فتنة ومن ولد يكون على ربا ومن حليلة تقرب المشيب وأعوذ بك من جار تراني عيناه وترعاني أذناه إن رأى خيراً دفنه وإن سمع شراً طار به ومن بلاغات الزمخشري محك المودة والإخاء حال الشدة دون الرخاء.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
وفا مجوى زكس ورسخن نمى شنوى
بهرزه طالب سيمرغ وكيميامى باش
{لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ} أي على الدين أو في حقالدين وإطفاء نوره {وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ} أي لا ينهاكم الله عن مبرة هؤلاء فإن قوله تعالى : {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من الموصول بدل الاشتمال لأن بينهم وبين البلا ملابسة بغير الكلية والجزئية فكان المنهى عنه يرهم بالقول وحسن المعاشرة والصلة بالمال لا أنفسهم وبالفارسية
480
از آنكه نيكويى كنيد با ايشان {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تفسير لتبروا وضمن تقسطوا معنى الإفضاء فغدى تعديته أي تفضوا إليهم بالقسط والعدل ولا تظلموهم وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين ويتحاموا ظلمهم مرحمة عن حال مسلم يجترىء عن ظلم أخيه المسلم كما في الكشاف وقال الراغب : القسط النصيب بالعدل كالنصب والنصفة فالمعنى عدل كنيد وبفرستيد قسطى وبهره براى ايشان از طعام وغير أو {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي العادلين في المعاملات كلها.
(9/388)
ـ روي ـ أن قتيلة بنت عبد العزى على زنة التصغير قدمت في المدة التي كانت فيها المصالحة بين رسول الله عليه السلام وبين كفار قريش مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت فأمرها رسول الله أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها وكانت قتيلة زوجة أبي بكر وكان طلقها في الجاهلية.
وآلأرده اندكه قوم خزاعه رابا حضرت رسول الله عليه السلام عهد ويمان بود وهركز قصد مسلمانان نكردند ودشمنان دين را يارى ندادند حق تعالى در باره ايشان اين آيت فرستاد يامراد زنان وكودكانند كه ايشانرا در قتل واخراج ندان مدخلى نيست.
وفي فتح الرحمن نسختها اقتلوا المشركين والأكثر على أنها غير منسوخة وفي بعض التفاسير القسوط الجور والعدل عن الحق والقسط بالكسر العدل فالأقساط إما من الأول بمعنى إزالة القسوط فهمزته للسلب كأشكيته بمعنى ازلت عنه الشكاية وسلبتها فمن أزال الظلم اتصف بالعدل وأما من الثاني بمعنى أن يصير ذا قسط فهمزته للصيرورة مثل أورق الشجر أي صار ذا ورق وفي الآية مدح للعدل لأن المرء به يصير محبوباً تعالى ومن الأحاديث الصحيحة قوله عليه السلام أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين للذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
شاه را به بود از طاعت صد ساله وزهد
قدر يكساعته عمرى كه در وداد كند
وكان خطاباً لبعض الملوك :
ويبار ملك را آب ازسر شمشيرتيست†
خوش درخت عدل بنشان بيخ بدخواها بكن†
{إِنَّمَا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ} وإطفاء نوره {يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ} وهم عتاة أهل مكة وجبابرتهم {وَظَـاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وهم سائر أهلها.
يعني معاونت كردند وهم شت شدند با اعادى {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدل اشتمال من الموصول أي إنما ينهاكم عن أن تتولوهم والتولي دوستى داشتن باكسى {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} وهركه دوست دارد ايشانرا {فأولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} لوضعهم الولاية في موضع العداوة وهم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب وحساب المتولي أكبر وفساد التولي أكثر ولذلك أورد كلمة الحصر تغليظاً وجمع الخبر باعتبار معنى المبتدأ.
بكسل زدوستان دغا باز وحيله ساز.
يارى طلب كه طالب نقش بقابود.
جعلنا الله وإياكم من الذين يطلبون الباقي
481
لا الفاني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
يقول الفقير : كان الظاهر من أمر المقابلة في الآيتين أن يقال في الأولى أن تولوهم كما في الثانية أو يعكس ويقال في الثانية أن تبروهم كما في الأولى أو يذكر كل منهما في كل من الآيتين لكن الدلائل العقلية والشواهد النقلية دلت على أن موالاة الكافر غير جائزة مقاتلاً كان أو غيره بخلاف المبرة فإنها جائزة لغير المقاتل غير جائزة للمقاتل كالموالاة فحيت أثبت المبرة بناء على أمر ظاهر في باب الصلة نفي الموالاة ضمناً وحيث نفي الموالاة نفي المبرة ضمناً وإنما لم تجز المبرة للمقاتل لغاية عداوته ونهاية بغضه إن قيل إن الإحسان إلى من أساء من أخلاق الأبرار قلنا إن المبرة تقتضي الإلفة في الجملة والإخسان بقطع اللسان ويثلم السيف فيكون حائلاً بين المجاهد والجهاد الحق وقد أمر الله بإعلاء الدين يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين {إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ} أي بدلالة ظاهر حالهن وإقرارهن بلسانهن أو المشارفات للإيمان ولا بعد أن تكون التسمية بالمؤمنات لكونهن كذلك في علم الله وذلك لا ينافي امتحان غيره تعالى {مُهَـاجِرَاتٍ} من بين الكفار حال من المؤمنات {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فاختبروهن بما تغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن في الإيمان قيل إنه من أرادت منهن إضرار زوجها قالت : سأهاجر إلى محمد عليه السلام فلذلك أمر النبي بامتحانهن وكان عليه السلام يقول للتي يمتحنها بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت عن بغض زوج أي غير بغض في الله لحب الله باي ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض بالله ما خرجت التماس دنيا بالله ما خرجت عشقاً لرجل من المسلمين بالله ما خرجت لحدث أحدثه بالله ما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبولرسوله فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطي النبي عليه السلام زوجها مهرها وما أنفق عليها ولا يردها إلى زوجها قال السهيلي : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن وكانت أم كلثوم أخت عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه أرى وأفادت الآية أن الامتحان في محله حسن نافع ولذا تمتحن المنكوحة ليلة الزفاف وتستوصف الإسلام مع سهولة في السؤال وإشارة إلى الجواب لأنها لو قالت ما أعرف بانت من زوجها :
خوش بودكر محك تجربه آمد بميان
(9/389)
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
تاسيه روى شود دروغش باشد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 51 من صفحة 482 حتى صفحة 492
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِهِنَّ} منكم لأنه المطلع على ما في قلوبهن فلا حاجة له إلى الامتحان وليس ذلك للبشر فيحتاج إليه والجملة اعتراض {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعد الامتحان {مُؤْمِنَـاتٍ} العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه جار مجرى العلم في وجوب العلم به ففي علمتموهن استعارة تبعية {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} من الرجع بمن الرد لا من الرجوع ولذلك عدى إلى المفعول أي لا تردوهن إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى : {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم يعني لا تحل مؤمنة لكافر لشرف الإيمان ولا نكاح كافر لمسلمة لخبث الكفر وبالفارسية نه ايشان يعني زنان حلالند مركافر انرا ونه
482
كافران حلال ميشوند مرين زنا نراه تباين دارند جدايى افكنده ميان ايشان.
والتكرير إما لتأكيد الحرمة وإلا فيكفي نفي الحل من أحد الجانبين أو لأن الأول لبيان زوال النكاح الأول والثاني لبيان امتناح النكاح الجديد {وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُوا} هذا هو الحكم الثاني أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور وذلك أي بيان المراد بما أنفقوا هو المهور أن صلح الحديبية كان على أن من جاءنا منكم رددناه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي عليه السلام بالحديبية فأقبل زوجها مسافر المخزومي طالباً لها فقال : يا محمد أردد على امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا فنزلت لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء فاستحلفها رسول الله فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وهو المهر بالإتفاق وتزوج بها عمر رضي الله عنه وإنما رد لرجال دون النساء لضعف النساء عن الدفع عن أنفسهن وعجزهن عن الصبر على الفتنة وفي اللباب أن المخاطب بهذا هو الإمام ليؤتى من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف وأن المقيمة منهن على شركها مردودة عليهم وإن المؤمن يحل له أن ينكح كتابية فإن الرجال قوامون على النساء فليس تسلطه عليها كتسلط الكافر على المسلمة ولعل المراد بإيتاء ما أنفقوا رعاية جانب المؤمنين بالحث على إظهار المروءة وإيثار السخاء وإلا فمن المسائل المشهورة أن المرأة تملك تمام المهر بخلوة صحيحة في قطعة من اليوم أو الليلة وإن لم يقع استمتاع أصلاً وأيضاً أن في الإنفاق تأليف القلوب وإمالته إلى جانب الإسلام وأفادت الآية أن اللائق بالولي كائناً من كان أن يحذر تزويج مؤمنة له ولاية عليها بمبتدع تفضي بدعته إلى الكفر وللحاكم أن يفرق بينه وبينها إن ظهرت منه تلك البدعة إلا أن يتوب ويجدد إيمانه ونكاحه سئل الرستغفني عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال فقال : لا تجوز كما في مجمع الفتاوي وقس عليه سائر الفرق الضالة التي هي يكن اعتقادهم كاعتقاد أهل السنة ولزمهم بذلك الاعتقاد أكفاراً وتضليل ولهم كثرة في هذه الإعصار جداً قال في بعض التفاسير أخاف أن يكون من تلك المبتدعة بعض المتصوفة من أهل زماننا الذي يدعى أن شيخه قطب الزمان يجب الاقتداء به على كل مسلم حتى إن من لم يكن من جملة مريديه كان كافراً وإن مات من لم يمت مؤمناً فيستدل بقوله عليه السلام : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ويقول المراد بالإمام هو القطب وشيخنا هو القطب فمن لم يعرف قطبيته ولم يتبعه مات على سوء الحال وجوابه أن المراد بالإمام هو الخليفة والسلطان وقريش أصل فيه لقوله عليه السلام الإمام من قريش ومن عداهم تبع لهم كشريف الكعبة مع آل عثمان فالشريف إحدى الذات ولذا لا قوة له وآل عثمان وإحدى الذات ولذا صار مظهر سر قوله تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين فاعرف الإشارة وأيضاً المراد من الإمام نبي ذلك الزمان وهو في آخر الزمان رسولنا محمد عليه السلام ولا شك أن من لم يعرفه ولم يصدقه مات ميتة جاهلية ولئن سلم أن المراد بالإمام هو القطب من طريق الإشارة فلا شك أن للقطبية العظمى شرائط لا يوجد واحد منها في الكذابين فلا يثبت لهم القطبية أصلاً على أن التصديق بالقطب لا يستلزم صحبته لأن
483
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
مبني هذا الأمر على الباطن فالأقطاب لم يهتد إليهم إلا أقل الأفراد فإظهارهم لقطبيتهم خارج عن الحكمة ولما قربت القيامة وقع أن يتغير أحوال كل طائفة عاماً فعاماً شهراً فشهراً أسبوعاً فأسبوعاً يوماً فيوماً لا يزال هذا التغيير إلى انقراض الأخيار لأنه لا تقوم الساعة إلا على الأشرار وفي المرفوع لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم.
قال الحافظ :
روزى اكر غمى رسدت تنك دل مباش
روشكركن مبادكه ازبد بترشود
(9/390)
وفي الحديث ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل رواه مسلم وقال عليه السلام : يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يبالي بهم الله وأول التغير كان في الأمراء ثم في العلماء ثم في الفقراء ففي كل طائفة أهل هدى وأهل هوى فكن من أهل الهدى أو المتشبهين بهم فإن من تشبه بقوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم وفي الحديث من أحب قوماً على عملهم حشر في زمرتهم وحوسب بحاسبهم وإن لم يعمل بعملهم {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} هذا هو الحكم الثالث يقال جنحت السفينة أي مالت إلى أحد جانبيها وسمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق جناحاً ثم سمي كل إثم جناحاً {أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي تنكحوا المهاجرات وتتزوجوهن وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب فإن إسلامهن حال بينهن وبين أزواجهن الكفار {إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} إذا ظرفية محضة أو شرطية جوابها محذوف دل عليه ما تقدمها شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذاناً بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر لأن ظاهر النظم يقتضي إيتاءين إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن على سبيل المهر وفي التيسير التزمتم مهورهن ولم يرد حقيقة الأداء كما في قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد أي يلتزموها استدل بالآية أبو حنيفة رحمه الله على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً وقعت الفرقة ولا يرى العدة على المهاجرة ولا على الذمية المطلقة ولا على المتوفى عنها زوجها ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملاً لأنه تعالى نفي الجناح من كل وجه في نكاحهن بعد إيتاء المهور ولم يقيد بمضي العدة وقالا عليها العدة وفي الهداية قول أبي حنيفة فيما إذا كان معتقدهم أنه لا عدة وأما إذا كانت حاملاً فقد قال عليه السلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} هذا هو الحكم الرابع والإمساك نك درزدن.
وبعدي بالباء والعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب والكوافر جمع كافرة والكوافر طائفتان من النساء طائفة قعدت عن الهجرة وثبتت على الكفر في دار الحرب وطائفة ارتدت عن الهجرة ولحقت بأزواجها الكفار والمعنى لا يكن بينكم وبين المشركات عصمة ولا علقة زوجية وقال
484
(9/391)
ابن عباس رضي الله عنهما : من كان له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه كما قال بعض أهل التفسير : المراد بالعصمة هنا النكاح بمعنى من كانت له زوجة كافرة بمكة أو ارتدت ورجعت إليها فلا يعتد بها ويعدها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه فجاز له أن يتزوج بأربع سواها وبرابعة وباختها من غير تربص وعدة وبالفارسية وما يستيد بنكه داشتن زنان كافره وايشانرا بزنان خود مشمريد.
فيكون إشارة إلى حكم اللاتي بقين في دار الكفر وما أسلمن ولا هاجرن بعد إسلام أزواجهن وهجرتهم وعن النخعي عن المسلمة تلحق بدار الحرق فتكفر فيكون قوله ولا تمسكوا بمقابلة قوله إذا جاءكم المؤمنات يعني أن قوله إذا جاءكم الخ إشارة إلى حكم اللاتي أسلمت وهرجن من دار الكفر وقوله ولا تمسكوا الخ إشارة إلى حكم المسلمات اللاتي ارتددن وخرجن من دار الإسلام إلى دار الكفر وعلى التفسير زال عقد النكاح بينهن وبين أزواجهن وانقطعت عصمتهن عنهم باختلاف الدارين فالعصمة هي المنع أريد بها في الآية عقد النكاح الذي هو سبب لمنع أزواجهن إياهن عن الإطلاق أي لا تعتدوا بما كان بينكم وبينهن من العقد الكائن قبل حصول اختلاف الدارين والفرقة عند الحنفية تقع بنفس الوصول إلى دار الإسلام فلا حاجة إلى الطلاق بعد وقوع الفرقة وكانت زيتب بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام امرأة أبي العاص ابن الربيع فلحقت بالنبي عليه السلام وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله عليه السلام وإذا أسلم الزوجان معاً أو أسلم زوج الكتابية فهما على نكاحهما بالاتفاق وإذا أسلمت المرأة فإن كان مدخولاً بها فأسلم في عدتها فهي امرأته بالاتفاق وإن كانت غير مدخول بها وقعت الفرقة بينهما وكان فسخاً عند الثلاثة وقال أبو حنيفة يعرض عليه الإسلام فإن أسلم فهي امرأته وإلا فرق القاضي بينهما بآبائه عن الإسلام وتكون هذه الفرقة طلاقاً عند أبي حنيفة ومحمد وفسخاً عند أبي يوسف ولها المهر إن كانت مدخولاً بها وإلا فلا بالاتفاق وأما إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين فقال أبو حنيفة ومالك تقع الفرقة حال الردة بلا تأخير قبل الدخول وبعده وقال الشافعي وأحمد إن كانت الردة من أحدهما قبل الدخول انفسخ النكاح وإن كانت بعده وقعت الفرقة على انقضاء العدة فإن أسلم المرتد منهما في العدة ثبت النكاح وإلا انفسخ بانقضائها ثم إن كان المرتد الزوجة بعد الدخول فلها المهر وقبله لا شيء لها وإن كان الزوج فلها الكل بعده والنصف قبله بالاتفاق كذا في فتح الرحمن وقال سهل رحمه الله في الآية ولا توافقوا أهل البدع في شيء من آرائهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} هذا هو الحكم الخامس أي واسألوا الكفار أيها المؤمنون ما أنفقتم يعني آنه خرج كرده آيد من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار أي إذا ارتدت امرأة أحدكم ولحقت بدار الحرب فاسألوا مهرها ممن تزوجها ولعل هذا لتطرية قلوب بعض المؤمنين بالمقابلة والمعادلة وإلا فظاهر حال الكرام الاستغناء عنه {وَلْيَسْـاَلُوا} أي الكفار منكم {مَّآ أَنفَقُوا} من مهور أزواجهم المهاجرات أي يسأل كل حربي أسلمت امرأته
485
(9/392)
وهاجرت إلينا ممن تزوجها منا مهرها وبالفارسية ون عصمت زوجيه منقطع شد ميان مؤمن وكافره وميان كافر ومؤمنه س هريك بايدكه رد كند مهريرا كه بصاحبه خود داده اند.
وظاهر قوله وليسألوا يدل على أن الكفار مخاطبون بالأحكام وهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازاً من قبيل إطلاق الملزوم وإرادة اللازم كما في قوله تعالى : وليجدوا فيكم غلظة فإنه بمعنى واغلظوا عليهم {ذَالِكُمْ} الذي ذكر في هذه الآية من الأحكام {حُكْمُ اللَّهِ} ما حكم الله به لأن يراعي وقوله تعالى : {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف للتأكيد والحث على الرعاية والعمل به قال في فتح الرحمن : ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك إلا قوله لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالحكم {حَكِيمٌ} يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة قال ابن العربي : كان حكم الله هذا مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة وقال الزهري ولولا هذه الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله وبين قريش يوم الحديبية لا مسك النساء ولم يرد الصداق وكذا كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد روي أنه لما نزلت الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من مهور المهاجرات إلى زواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين وقالوا : نحن لا نعلم لكم عندنا شيئاً فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فنزل قوله تعالى : {وَإِن فَاتَكُمْ} الفوت بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إذراكه وتعديته بإلى لتضمنه معنى السبق أو الانتفلات دل عليه قوله فآتوا الذين ذهبت أزواجهم أي إلى الكفار والمعنى سبقكم وانفلت منكم أي خرج وفر منكم فجأة من غير تردد ولا تدبر وبالفارسية واكرفوت شود از شما اى مؤمنان {شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} أي أحد من أزواجكم إلى الكفار ودارهم ومهر أو بدست شمانيابد.
وقد قرىء به وايقاع شيء موقعه للتحقير والإشباع في التعميم لأن النكرة في سياق الشرط تفيد العموم والشيء لكونه أعم من الأحد أظهر إحاطة لأصناف الزوجات أي أي نوع وصنف من النساء كالعربية أو العجمية أو الحرة أو الأمة أو نحوها أو فاتكم شيء من مهور أزواجكم على حذف المضاف ليتطابق الموصوف وصفته والزوج هنا هي المرأة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
ـ روي ـ أنها نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان فرت فتزوجها ثقفي ولم ترتد امرأة من قريش غيرها وأسلمت مع قريش حين أسلموا وسيأتي غير ذلك {فَعَاقَبْتُمْ} من العقبة وهي التوبة والمعاقبة المنازبة يقال عاقب الرجل صاحبه في كذا أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر والمعنى وجاءت عقبتكم ونوبتكم من أداء المهر بأن هاجرت امرأة الكافر مسلمة إلى المسلمين ولزمهم أداء مهرها إلى زوجها الكافر بعدما فاتت امرأة المسلم إلى الكفار ولزم أن يسأل مهر زوجته المرتدة ممن تزوجها منهم شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب ونحوه أي يتناوب وإلا فأداء كل واحد من المسلمين والكفار لا يلزم أن يعقب أداء الآخر لجواز أن يتوجه الأداء لأحد الفريقين مراراً متعددة من غير أن يلزم الفريق الآخر شيء وبالعكس فلا يتعاقبون في الأداء {وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} أن من المهاجرة
486
التي تزوجتموها ولا تؤتوا زوجها الكافر يعني إن فاتت امرأة مسلم إلى الكفار ولم يعط الكفار مهرها فإذا فاتت امرأة كافر إلى المسلمين أي هاجرت إليهم وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الذي فات امرأته إلى الكفار مثل مهر زوجته الفائتة من مهل هذه المرأة المهاجرة ليكون كالعوض لمهر زوجته الفائتة ولا يجوز لهم أن يعطوا مهر هذه المهاجرة زوجها الكافر قيل جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أمية كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزي بن نضلة وزوجها عمرو بن عبدور ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر رضي الله عنه ، وأعطاهم رسول الله عليه السلام مهور نسائهم من الغنيمة كما في الكشاف {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ} لا بغيره من الجبت والطاغوت {مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمان به تعالى يقتضي التقوى منه تعالى قال بعضهم : حكم أين آيات تابقاى عهد باقي بود ون مرتفع كشت اين أحكام منسوخ كشت.
وفي الآية إشارة إلى المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
(9/393)
ـ حكي ـ أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين فنزلا في ظل شجرة تحت صفاة فلما دنا الرواح خرجت لهما من تحت الصفاة حية تحمل ديناراً فألقته إليهما فقالا : إن هذا لمن كنز فأقاما عليه ثلاثة أيام كل يوم تخرج لهما ديناراً فقال أحدهما للآخر : إلى متى ننتظر هذه الحية ألا نقتلها ونحفر عن هذا الكنز فأخذه ونهاه أخوه وقال : ما ندري لعلك تعطب ولا تدرك المال فأبى عليه فأخذ فأساً معه ورصد الحية حتى خرجت فضربها ضربة جرت رأسها ولم تقتلها فبادرت الحية فقتلته ورجعت إلى حجرها فدفنه أخوه وأقام حتى إذا كان الغد خرجت الحية معصوباً رأسها ليس عليها شيء فقال : يا هذه إني والله ما رضيت بما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فهل لك أن نجعل الله بيننا لا تضرين بي ولا أضر بك وترجعين إلى ما كنت عليه؟ فقالت الحية : لا فقال : ولم؟ قالت : لأني لأني أعلم أن نفسك لا تطيب لي أبداً وأنت ترى قبر أخيك ونفسي لا تطيب لك وأنا أذكر هذه الشجة فظهر من هذه الحكاية سر المكافأة وشرف التقوى فإنه لو اتقى الله ولم يضع الشر موضع الخير بل شكر صنيع الحية لازداد مالاً وعمراً :
كرم كن نه رخاش وجنك آورى
كه عالم بزير نكين آورى
وكارى برآيد بلطف وخوشى
ه حاجت بتندى وكردن كشى
نمى ترسى أي كرك ناقص خرد
كه روزى لنكيت برهم درد
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} نداء تشريف وتعظيم {إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَـاتُ} ون بيايند بتوزنان مؤمنه {يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة فهي حال مقدرة نزلت يوم الفتح فإنه عليه السلام لما فرغ من بيعة الرجال شرع في بيعة النساء سميت البيعة لأن المبايع يبيع نفسه بالجنة فالمبايعة مفاعلة من البيع ومن عادة الناس حين المبايعة أن يضع أحد المتبايعين يده على يد الآخر لتكون معاملتهم محكمة مثبتة فسميت المعاهدة بين المعادين مبايعة تشبيهاً لها
487
بها في الأحكام والأبرار فمبايعة الأمة رسولهم التزام طاعته وبذل الوسع في امتثال أوامره وأحكامه والمعاونة له وبمايعته إياهم الوعد بالثواب وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم في الغلبة على أعدائهم الظاهرة والباطنة والشفاعة لهم يوم الحساب إن كانوا ثابتين على تلك المعاهدة قائمين بما هو مقتضى المواعدة كما يقال بايع الرجل السلطان إذا أوجب على نفسه إلا طاعة له وبايع السلطان الرعية إذا قبل القيام بمصالحهم وأوجب على نفسه حفظ نفوسهم وأموالهم من أيدي الظالمين {عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} أي شيئاً من الأشياء أو شيئاً من الاشتراك والظاهر أن المراد الشرك الأكبر ويجوز التعميم له وللشرك الأصغر الذي هو الرياء فالمعنى على أن لا يتخذن إليهاً غير الله ولا يعملن إلا خالصاً لوجهه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
مرايى هركس معبود سازد
مرايى را زان كفتند مشرك
قال الحافظ :
كوييا باورنمى دارند روز داورى
كين همه قلب ودغل دركار داور ميكنند
{وَلا يَسْرِقْنَ} السرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء وصار ذلك في الشرك لتناول الشيء من موضع مخصوص وقدر مخصوص أي لا يأخذن مال أحد بغير حق ويكفي في قبح السرقة أن النبي عليه السلام لعن السارق {وَلا يَزْنِينَ} الزنى وطىء المرأة من غير عقد شرعي يقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة قال مظهر الدين الزنى في اللغة عبارة عن المجامعة في الفرج على وجه الحرام ويدخل فيه اللواطة وإتيان البهائم تم كلامه قال عليه السلام : يقتل الفاعل والمفعول به وثبت أن علياً رضي الله عنه أحرقهما وأن أبا بكر رضي الله عنه هدم عليهما حائطاً وذلك بحسب ما رأيا من المصلحة وقال عليه السلام : ملعون من أتى امرأته من دبرها وأما الإتيان من دبرها في قبلها فمباح قال في اللباب اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض واختلفوا في وجوب الكفارة على من جامع فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه فيستغفر وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه تم كلامه وقال عليه السلام : من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه قيل لابن عباس رضي الله عنهما : ما شأن البهيمة؟ قال : ما سمعت فيها من رسول الله شيئاً ولكن أكره أن يحل لحمها وينتفع بها كذلك {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَـادَهُنَّ} أريد به وأد البنات أي دفنهن أحياء خوف العار والفقر كما في الجاهلية قال عليه السلام : لا تنزع الرحمة إلا من شقى.
قال الحافظ :
هي رحمى نه برادربه برادر دارد
هي شوقى نه در رابه سرمى بينم
دخترانرا همه جنكست وجدل بامادر
سر انراهمه بدخواه درمى بينم
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
(9/394)
حكي أن هارون الرشيد زوج أخته من جعفر بشرط أن لا يقرب منها فلم يصبر عنها فظهر حملها فدفنهما هارون حيين غضباً عليهما ويقال ولا يشربن دواء فيسقطن حملهن كما في تفسير أبي الليث وفي نصاب الاحتساب تمنع القابلة من المعالجة لإسقاط الولد بعدما استبان خلقه ونفخ فيه الروح ومدة الاستبانة والنفخ مقدرة بمائة وعشرين يوماً وأما قبله فقيل لا بأس به كالعزل وقيل يكره لأن مآل الماء الحياة كما إذا أتلف محرم بيضة صيد الحرم ضمن لأن مآلها
488
الحياة فلها حكم الصيد بخلاف العزل لأن ماء الرجل لا ينفخ فيه الروح إلا بعد صنع آخر وهو الإلقاء في الرحم فلا يكون مآله الحياة ولعل إسناد الفعل إلى النساء إما باعتبار الرضى به أو بمباشرته بأمر زوجها {وَلا يَأْتِينَ بِبُهُتَـانٍ يَفْتَرِينَه بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} الباء للتعدية والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه أي يدهشه ويجعله متحيراً فيكون أقبح أنواع الكذب وهو في الأصل مصدر يقال بهت زيد عمراً بهتاً وبهتاً وبهتاناً أي قال عليه السلام : ما لم يفعله فزيد باهت وعمر ومبهوت والذي بهت به مبهوت به وإذا قالت لزوجها : هذا ولدي منك لصبي التقطته فقط بهتته به أي قالت عليه ما لم يفعله جعله نفس البهتان ثم وصفه بكونه مفترى مبالغة في وصفهن بالكذب والافتراء والاختلاق يقال فرى فلان كذباً إذا خلقه وافتراه اختلقه قوله يفترينه أما في موضع جر على أنه صفة لبهتان أو نصب على أنه حال من فاعل يأتين وقوله بين أيديهن متعلق بمحذول هو حال من الضمير المنصوب في يفترينه أي يختلقنه مقدراً وجوده بين أيديهن وأرجلهن على أن يكون المراد بالبهتان الولد المبهوت به كما ذهب إليه جمهور المفسرين وليس المعنى على نهيهن عن أن يأتين بولد من الزنى فينسبنه إلى الإزواج لأن ذلك نهى بقوله ولا يزنين بل المراد نهيهن عن أن يلحقن بأزواجهن ولداً التقطنة من بعض المواضع وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك في بطني الذي بين يدي ووضعته من فرجي الذي هو بين رجلي فكنى عنه بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ومخرجه بين رجليها والمعنى ولا يجئن بصبي ملتقط من غير أزواجهن فإنه افتراء وبهتان لهم والبهتان من الكبائر التي تتصل بالشرك {وَلا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} أي لا يخالفن أمرك فيما تأمرهن به وتنهاهن عنه على أن المراد من المعروف الأمور الحسنة التي عرف حسنها في الدين فيؤمر بها والشؤون السيئة التي عرف قبحها فيه فنهى عنها كما قيل كل ما وافق في طاعة الله فعلاً أو تركاً فهو معروف وكما روى عن بعض أكابر المفسرين من أنه هو النهي عن النياحة والدعاء بالويل وتمزيق الثوب وحلق الشعر ونتفه ونشره وخمش الوجه وأن تحدث المرأة الرجال إلا ذا رحم محرم وأن تخلو برجل غير محرم وأن تسافر إلا مع ذي رحم محرم فيكون هذا للتعميم بعد التخصيص ويحتمل أن يكون المراد من المعروف ما يقابل المنكر فيكون ما قبله للنهي عن المنكر وهذا للأمر بالمعروف لتكون الآية جامعة لهما والتقييد بالمعروف مع أن الرسول عليه السلام لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق لأنه لما شرط ذلك في طاعة النبي عليه السلام فكيف في حق غيره وهو كقوله ألا ليطاع بإذن الله كما قال في عين المعاني فدل على أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر ولم يقل ولا يعصين الله لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن ووجه الترتيب بين هذا المنهيات أنه قدم الأقبح على ما هو أدنى قبحاً منه ثم كذلك إلى آخرها ولذا قدم ما هو الأظهر والأغلب فيما بينهن وقال صاحب اللباب ذكر الله تعالى
489
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
(9/395)
في هذه الآية لرسول الله عليه السلام في صفة البيعة خصالا ستاهن اركان ما نهى عنه في الدين ولم يذكر أركان ما أمر به وهي أيضاً ست : الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج والاغتسال من الجنابة وذلك لأن النهي عنها دائم في كل زمان وكل حال فكان التنبيه على اشتراط الدائم أهم وآكد جواب لإذا فهو العامل فيها فإن الفاء لا تكون مانعة وهو أمر من المبايعة أي فبايعهن على ما ذكر وما لم يذكر لوضوح أمره وظهور أصالته في المبالعة من الصلاة والزكاة وسائر أركان الدين وشعائر الإسلام أي بايعهن إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء فإن المبايعة من جهة الرسول هو الوعد بالثواب ومن جهة الآخر التزام طاعته كما سبق وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب والاستغفار طلب المغفرة للذنوب والستر للعيوب {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة فيغفر لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه بزركى فرمود مردمان ميكويند رحمت موقوفست بر ايمان يعني تابنده ايمان نيارد مستحق رحمت نشود ومن مى كويم كه ايمان موقوفست برحمت يعنى تا برحمت خود توفيق بنخشد كسى بدولت ايمان نرسد "مصراع" توفيق عزيزست بهركس ندهند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
يقول الفقير : الأمر بالاستغفار لهن إشارة إلى قبول شفاعة حبيبه عليه السلام في حقهن فهو من رحمته الواسعة وقد عمم هذا الأمر في سورة الفتح فاستفاد جميع عباده وإمائه إلى يوم القيامة من بحر هذا الفضل ما يغنيهم ويرويهم وهو الفياض قال الإمام الطيبي : لعل المبالغة في الغفور باعتبار الكيفية وفي الغفار باعتبار الكمية كما قال بعض الصالحين إنه غافر لأنه يزيل معصيتك من ديوانك وغفور لأنه ينسى الملائكة أفعالك السوء وغفار لأنه تعالى ينسيك أيضاً ذنبك كيلا تستحيي وحظ العارف منه أن يستر من أخيه ما يحب أن يستر منه ولا يفشى منه إلا أحسن ما كان فيه ويتجاوز عما يندر عنه ويكافىء المسيىء إليه بالصفح عنه والإنعام عليه نسأل الله سبحانه أن يجعلنا متخلقين بأخلاقه الكريمة ومتصفين بصفاته العظيمة إنه هو الغفور الرحيم واختلف في كيفية مبايعته عليه السلام لهن يوم الفتح فروي أنه عليه السلام لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا وشرع في بيعة النساء ودعا بذدح من ماء فغمس فيه يده ثم غمس أيديهن فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة خوفاً من رسول الله أن يعرفها لما صنعته بحمزة رضي الله عنه يوم أحد من المثلة فلما قال عليه السلام : أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً رفعت هند رأسها فقالت : والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فلما قال عليه السلام ولا يسرقن قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات أي شيئاً يسيراً فما أدري أيحل لي فقال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك حلال فضحك عليه السلام وقال : أنت هند قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فعفا عنها فقال : ولا يزنين فقالت : وهل تزني الحرة؟ فقال عمر رضي الله عنه : لو كان قلب نساء العرب على قلب
490
هند ما زنت امرأة قط فقال : ولا يقتلن أولادهن فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله فقال : ولا يأتين ببهتان فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال : ولا يعصينك في معروف فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك في شيء.
ـ وروي ـ أنه عليه السلام بايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطري والقطر بالكسر ضرب من البرود يأخذ بطرف منه ويأخذن بالطرف الآخر توقياً عن مساس أيدي الأجنبيات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
ـ وروي ـ أنه جلس على الصفا ومعه عمر رضي الله عنه أسفل منه فجعل عليه السلام يشترط عليهن البيعة وعمر تصافحهن.
ـ وروي ـ أن عمر رضي الله عنه كان يبايع النساء بأمره عليه السلام ويبلغهن عنه وهو أسفل منه عند الصفا.
ـ وروي ـ أنه عليه السلام كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن وهي أميمة أخت خديجة رضي الله عنها خالة فاطمة رضي الله عنها وإلا ظهر الأشهر ما قالت عائشة رضي الله عنها والله ما أخذ رسول الله على النساء قط إلا بما أمر الله وما مست كف رسول الله كف امرأة قط وكان يقول إذا أخذ عليهن قد بايعتك على كلها وكان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله يمتحنهن بقول الله : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات الخ فإذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن : انطلقن فقد بايعتكن.
(9/396)
يقول الفقير : إنما بايع عليه السلام الرجال مع مس الأيدي دون النساء لأن مقام الشارع يقتضي الاحتياط وتعليم الأمة وإلا فإذا جاز مصافحة عمر رضي الله عنه لهن كما في بعض الروايات جاز مصافحته عليه السلام لهن لأنه أعلى حالاً من عمر من كل وجه وبالجملة كانت البيعة مع النساء والرجال أمراً مشروعاف بأمر الله وسنته بفعل رسول الله ومن ذلك كانت عادة مستحسنة بين الفقراء الصوفية حين أرادت التوبة تثبيتاً للإيمان وتجديداً لنور الإيقان على ما أشبعنا الكلام عليه في المبايعة في سورة الفتح وذكرنا كل طرف منها فيها فارجع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
وفي التأويلات النجمية قوله تعالى : يا أيها النبي إذا جاءك الخ يخاطب نبي الروح ويشير إلى النفوس المؤمنة الداخلة تحت شريعة نبي الروح يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً من حب الدنيا وشهواتها ولذاتها وزينتها وزخارفها ولا يسرقن من أخلاق الهوى المتبع وصفاته الرديئة ولا يزنين أي مع الهوى بالاتفاق معه والاتباع له ولا يقتلن أولادهن أي لا يمنعن ولا يرددن أولاد الخواطر الروحانية والإلهامات الربانية ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا يدعين بما لم يحصل لهن من المواهب العلوية من المشاهدات والمعاينات والتجريد والتفريد ولا من العطايا السفلية من الزهد والورع والتوكل والتسليم لأنهن ما بلغن بعد إليها ولا يعصينك في معروف أي في كل ما تأمرهن من الأخلاق والأوصاف فبايعهن أي فأقبل مبايعتهن بين يديك بالصدق والإخلاص واستغفر لهن الله مما وقع منهن قبل دخولهن في ظل أنوارك من المخالفات الشرعية والموافقات الطبيعية إن الله غفر يسترها بالموافقات الشرعية رحيم بهن يرحمهن بالمخالفات الطبيعية يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قوْمًا} دوستى مكيند باكروهى كه.
فالتولي هنا بمعنى الموالاة والموادة {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} صفة لقوماً وكذا قد يئسوا وهم
491
جنس الكفار لأن كلهم مغضوب عليهم لا رحمة لهم من الرحمة الأخروية وقيل اليهود لما روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم وهو قول الأكثرين وقد قال تعالى في حق اليهود وغضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير والقوم الرجال وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع لأن قوم كل نبي رجال ونساء {قَدْ يا ـاِسُوا مِنَ الاخِرَةِ} اليأس انقطاع الطمع يعني نوميد شدند از آخرت.
لكفرهم بها وعدم إيقانهم على أن يراد بقومه عامة الكفرة ومن لابتداء الغاية أو لعلمهم بأنه لا خلاق لهم فيها لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة المؤيد بالآيات على أن يراد به اليهود والتقدير من ثواب الآخرة يعني أنهم أهل الكتاب يؤمنون بالقيامة لكنهم لما أصروا على الكفر حسداً وعناداً يئسوا من ثوابها قال عليه السلام : ما معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً وإني جئتكم بحق فأسلموا {كَمَا يا ـاِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَـابِ الْقُبُورِ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
من بيان للكفار أي كائنين منهم أي كما يئس منها الذين ماتوا منهم لأنهم وقفوا على حقيقة الحال وشاهدوا حرمانهم من نعيمها المقيم وابتلاءهم بعذابها الأليم والمراد وصفهم بكمال اليأس منها قال مقاتل : إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار ثم يسأله من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول : لا أدري فيقول الملك أبعدك الله أنظر إلى منزلتك من النار فيدعو بالويل والثبور ويقول هذا لك فيفتح باب الجنة فيقول هذا لمن آمن بالله فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة فيكون حسرة عليه وينقطع رجاؤه ويعلم أنه لا حظ له فيها وييأس من خير الجنة وقيل من متعلقة بيئس فالمعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا إلى الدنيا أحياء والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلة يأسهم وهو الكفر والقبر مقر الميت والمقبرة موضع القبور وفي الآية إشارة إلى الأبدان المريضة المعتلة النجسة الخبيثة المظلمة فإن الكفار أيسوا من خروجهم ضيق قبور أخلاقهم السيئة إلى سعة قضاء صفاتهم الحسنة وكذا سائرهم من أهل الحجب الكثيفة ومن أصحاب القبور من حاله على عكس هذا كما أشار النبي عليه السلام بقوله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أصحاب القبور وهم من ماتوا بالاختيار قبل الموت بالاضطرار وذلك بالفناء التام فكانت أجسادهم لأرواحهم كالقبور للموتى نسأل الله الختم بالسعادة بحرمة من له كمال السيادة والدفن في أحب البقاع إليه والقدوم بكمال البشرى عليه والقيام بمزيد الفخر لديه :
خدايا بحق بني فاطمة
كه بر قول ايمان كنم خاتمه
خداوندكار انظركن بجو
كه جرم آيداز بندكان دروجود
ومارا بدنيا توكردى عزيز
بعقبى همين شم داريم نيز
492
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
(9/397)
من بيان للكفار أي كائنين منهم أي كما يئس منها الذين ماتوا منهم لأنهم وقفوا على حقيقة الحال وشاهدوا حرمانهم من نعيمها المقيم وابتلاءهم بعذابها الأليم والمراد وصفهم بكمال اليأس منها قال مقاتل : إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك شديد الانتهار ثم يسأله من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول : لا أدري فيقول الملك أبعدك الله أنظر إلى منزلتك من النار فيدعو بالويل والثبور ويقول هذا لك فيفتح باب الجنة فيقول هذا لمن آمن بالله فلو كنت آمنت بربك نزلت الجنة فيكون حسرة عليه وينقطع رجاؤه ويعلم أنه لا حظ له فيها وييأس من خير الجنة وقيل من متعلقة بيئس فالمعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا إلى الدنيا أحياء والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلة يأسهم وهو الكفر والقبر مقر الميت والمقبرة موضع القبور وفي الآية إشارة إلى الأبدان المريضة المعتلة النجسة الخبيثة المظلمة فإن الكفار أيسوا من خروجهم ضيق قبور أخلاقهم السيئة إلى سعة قضاء صفاتهم الحسنة وكذا سائرهم من أهل الحجب الكثيفة ومن أصحاب القبور من حاله على عكس هذا كما أشار النبي عليه السلام بقوله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أصحاب القبور وهم من ماتوا بالاختيار قبل الموت بالاضطرار وذلك بالفناء التام فكانت أجسادهم لأرواحهم كالقبور للموتى نسأل الله الختم بالسعادة بحرمة من له كمال السيادة والدفن في أحب البقاع إليه والقدوم بكمال البشرى عليه والقيام بمزيد الفخر لديه :
خدايا بحق بني فاطمة
كه بر قول ايمان كنم خاتمه
خداوندكار انظركن بجو
كه جرم آيداز بندكان دروجود
ومارا بدنيا توكردى عزيز
بعقبى همين شم داريم نيز
492
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
تفسير سورة الصف
مدنية وقيل مكية وآيها أربع عشرة بلا خلاف
جزء : 9 رقم الصفحة : 492
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
{سَبَّحَ} نزهه عن كل ما لا يلق بجنابه العلي العظيم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من العلويات الفاعلة {وَمَا فِى الأرْضِ} من السفليات القابلة آفاقاً وأنفساً أي سبحه جميع الأشياء من غير فرق بين موجود وموجود كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يكون إلا ما يريد {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا بالحكمة فلا عزيز ولا حكيم على الإطلاق غيره فلذا يجب تسبيحه قال في كشف الأسرار : من أراد يصفو له تسبيحه فليصف عن آثار نفسه قلبه ومن أراد أن يصفو له في الجنة عيشه فليصف عن أوضار الهوى دينه يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيماناً رسمياً {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} روي أن المسلمين قالوا : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فلما نزل الجهاد كرهوه فنزلت تعبيراً لهم بترك الوفاء ولم مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية قد حذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالهما معاً كما في عم وفيم ونظائرهما معناها لأي شيء تقولون نفعل ما لا تفعلون من الخير والمعروف على أن مدار التعبير والتوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم وإنما وجهه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضاً وقد كانوا يحسبونه معروفاً ولو قيل لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود فليس المراد من ما حقيقة الاستفهام لأن الاستفهام من الله محال لأنه عالم بجميع الأشياء بل المراد الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان من نفسه ما لا يفعله من الخير لأنه إن أخبر أنه فعل في الماضي والحال ولم يفعله كان كاذباً وإن وعد أن يفعله في المستقبل ولا يفعله كان خلفاً وكلاهما مذموم كما قال في الكشاف هذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد وهذا بخلاف ما إذا وعد فلم يف بميعاده لعذر من الأعذار فإنه لا إثم عليه وفي عرائس البقلى حذر الله المريدين أن يظهروا بدعوى المقامات التي لم يبلغوا إليها لئلا يقعوا في مقت الله وينقطعوا عن طريق الحق بالدعوى بالباطل وأيضاً زجر الأكابر في ترك بعض الحقوق ومن لم يوف بالعهود ولم يأت بالحقوق لم يصل إلى الحق والحقيقة وأيضاً ليس للعبد فعل ولا تدبير لأنه أسير في قبضة العزة يجري عليه أحكام القدرة وتصاريف المشيئة فمن قال فعلت أو أتيت أو شهدت فقد نسي مولاه وادعى ما ليس له ومن شهد من نفسه طاعة كان إلى العصيان أقرب لأن النسيان من العمى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493(9/398)
وفي التأويلات النجمية يا أيها المؤمنون المقلدون لم تذمون الدنيا بلسان الظاهر وتمدحونها بلسان الباطن شهادة ارتكابكم أنواع الشهوات الحيوانية وأصناف اللذات الجسمانية أو تمدحون الجهاد بلسانكم وتذمونه بقلوبكم وذلك يدل على إعراضكم عن الحق وإقبالكم على النفس والدنيا وهذا كبر مقتاً عند الله تعالى كما قال : {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} كبر من باب نعم وبئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده وأن تقولوا هو المخصوص بالذم والمقت البغض الشديد لمن يراه متعاطياً لقبيح يقال مقته فهو مقيت وممقوت وكان يسمى تزوج امرأة الأب نكاح المقت
493
وعند الله ظرف للفعل بمعنى في علمه وحكمته والكلام بيان لغاية قبح ما فعلوه أي عظم بغضاً في حكمته تعالى هذا القول المجرد فهو أشد ممقوتية ومبغوضية فمن مقته الله فله النار ومن أحبه الله فله الجنة.
قال الكاشفي : ونزد بعضي علماً آيت عامست يعني هركه سخنى كويد ونكند درين عتاب داخلست ويا آن علما نيزكه خلق رابعمل خير فرمايند وخود ترك نمايند اين سياست خواهد بود :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني وحضرت يغمبر عليه السلام درشب معراج ديدكه لبهاى نين كسان بمقراض آتشبن مى بريدند.
ازمن بكوى عالم تفسير كوى را
كردر عمل نكوشى نادان مفسر
بار درخت علم ندانم بجز عمل
باعلم اكر عمل نكنى شاخ بى برى
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
قيل لبعض السلف حدثنا فسكت ثم قيل له حدثنا فقال لهم : أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله قال القرطبي رحمه الله ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس أتأمرون النسا بالبر وتنسون أنفسكم وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون وقد ورد الوعيد في حق من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً أي كما ورد في حق من يترك العمل فالخوف إذا كان على كل منهما في درجة متناهية فكيف على من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف وأكثر الناس في هذا الزمان هكذا والعياذ بالله تعالى قال في اللباب أن الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة الله أن يفي به فإن من التزم شيئاً لزم شرعاف إذا الملتزم أما نذر تقرب مبتدأ كقولهعلى صلاة أو صوم أو صدقة ونحوه من القرب فيلزمه الوفاء إجماعاً أو نذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة كقوله إن قدم غائبي فعلى صدقة أو بشرط رهبة كقوله إن كفاني الله شر كذا فعلى صدقة ففيه خلاف فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به وقال الشافعي في قول لا يلزم وعموم الآية حجة لنا لا بها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أي مقيد بشرط {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَ} أعداء الله {فِى سَبِيلِهِ} في طريق مرضاته وأعلاه دينه أي يرضى عنهم ويثنى عليهم {صَفًّا} صف زده در برابر خصم.
وهو بيان لما هو مرضى عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده وهذا صريح في أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال وصفا مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول ونصبه على الحالية من فاعل يقاتلون أي صافين أنفسهم أو مصفوفين والصف أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار {كَأَنَّهُم بُنْيَـانٌ مَّرْصُوصٌ} حال من المستكن في الحال الأولى والبنيان الحائط وفي القاموس البناء ضد الهدم بناه بنيا وبناء وبنياناً وبنية وبناية والبناء المبني والبنيان واحد لا جمع دل عليه تذكير مرصوص وقال بعضهم :
494
بنيان جمع بنيانة على حد نخل ونخلة وهذا النحو من الجمع يصح تأنيثه وتذكيره والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه كما قال في تاج المصادر الرص استوار برآوردن بنا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص والمعنى حال كونهم مشبهين في تراصهم من غير فرجة وخلل ببنيان رص بعضه إلى بعض ورصف حتى صار شيئاً واحداً وقال الراغب بنيان مرصوص أي محكم كأنما بني بالرصاص يعني كوييا ايشان در اسحكام بنا اندريخته ازارزير كنايتست از ثبات قدم ايشان در معركه حرب وبيكديكر باز سبيدن.
وهو قول الفراء وتراصوا في الصلاة أي تضايقوا فيها كما قال عليه السلام تراصوا بينكم في الصلاة لا يتخللكم الشيطان فالرحمة في مثل هذا المقام رحمة فلا بد من سد الخلل أو المحاذاة بالمناكب كالبنيان المرصوص ولا ينافيه قول سفيان ينبغي أن يكون بين الرجلين في الصف قدر ثلثي ذراع فذاك في غيره كما في المقاصد الحسنة وعن بعضهم فيه ذليل على فضل القتال راجلاً لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة كما في الكشاف.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/399)
يقول الفقير الدليل على فضل الراكب على الراجل أن له سهمين من الغنيمة وإنما حث عليه السلام على التراص لأن المسلمين يومئذ كانوا راجلين غالباً ولم يجدوا راحلة ونحوها إلا قليلاً قال سعيد بن جبير رضي الله عنه هذا تعليم من الله للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم ولذلك قالوا لا يجوز الخروج من الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان أو في رسالة يرسله الإمام أو منفعة تظهر في المقام المنتقل إليه كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف لا بأس بذلك إرهاباً للعدو وطلباً للشهادة وتحريضاً على القتال وقيل لا يبلز أحد لذلك لأن فيه رياء أو خروجاً إلى ما نهى الله عنه وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر كما كانت في حروب النبي عليه السلام يوم بدر وفي غزوة خيبر قال في فتح الرحمن أما حكم الجهاد فهو فرض كفاية على المستطيع بالاتفاق إذا فعله البعض سقط عن الباقين وعند النفير العام وهو هجوم العدو يصير فرض عين بلا خلاف ففي الآية زجر عن التباطىء وحث على التسارع ودلالة على فضيلة الجهاد وروي في الخبر أنه لما كان يوم مؤتة بالضم موضع بمشارف الشام قتل فيه جعفر ابن أبي طالب وفيه كانت تعمل السيوف كما في القاموس واكان عليه السلام بن رواحة رضي الله عنه أحد الأمراء الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ناداهم ياأهل المجلس هذا الذي وعدكم ربكم فقاتل حتى قتل وكان عليه السلام بن رواحة الأنصاري شاعر رسول الله وكان يقص على أصحاب رسول الله في مسجده على حياته وجلس إليه رسول الله يوماً وقال : أمرت أن أجلس إليكم وأمر ابن رواحة أن يمضي في كلامه كما في كشف الأسرار ثم إن الجهاد أما مع الأعداء الظاهرة كالكفار والمنافقين وأما مع الأعداء الباطنة كالنفس والشيطان وقال عليه السلام : المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هاجر الخطايا والذنوب وأعظم المجاهدة في الطاعة الصلاة لأن فيها سر الفناء وتشق على النفس {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي
495
عليه السلام بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المؤمنين المتقاعدين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا بمأمره وعصوه أشد عصيان حيث قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إلى قوله فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون وأصروا على ذلك وآذوه عليه السلام كل الأذية كذا في الإرشاد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/400)
يقول الفقير : لا شك أن قتل الأعداء من باب التسبيح لأنهم الذين قالوا اتخذوا الله ولداً وعبدوا معه الأصنام فكان في مقاتلتهم توسيع ساحة التنزيه ولذا بدأ الله تعالى في عنوان السورة بالتسبيح وأشار بلفظ الحكيم إلى أن القتال من باب الحكمة وأنه من باب دفع القضاء بالقضاء على ما يعرفه أهل الله وبلفظ العزيز إلى غلبة المؤمنين المقاتلين ثم إنهم كرهوا ذلك كأنهم لم يثقوا بوعد الله بالغلبة ووقعوا من حيث لم يحتسبوا في ورطة نسبة العجز إلى الله سبحانه ولذا تقاعدوا عن القتال وبهذا التقاعد حصلت الأذية له عليه السلام لأن مخالفة أولي الأمر أذية لهم فأشار الحق تعالى بقصة موسى إلى أن الرسول حق وأن الخروج عن طاعته فسق وأن الفاسق مغضوب الله تعالى لأن الهداية من باب الرحمة وعدمها من باب السخط والعياذ بالله تعالى من سخطه وغضبه وأليم عذابه وعقابه يا قَوْمِ} أي كروه من.
فأصله يا قومي ولذا تكسر الميم ولولا تقدير الياء لقيل يا قوم بالضم لأنه حينئذ يكون مفرداً معرفة فيبنى على الضم وهو نداء بالرفق والشفقة كما هو شأن الأنبياء ومن يليهم {لِمَ تُؤْذُونَنِى} رامى رنجانيد مرا.
أي بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر إما في نفسه أو في جسمه أو قنياته دنيويا كان أو أخرويا قال في القاموس آذى فعل الأذى وصاحبه أذى وأذاة وأذية ولا تقل إيذاء انتهى فلفظ الإيذاء في أفواه العوام من الأغلاط وربما تراه في عبارات بعض المصنفين {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} جملة حالية مؤكدة لإنكار الأذية ونفي سببها وقد لتحقيق العلم لا للتوقع ولا للتقريب ولا للتقليل فإنهم قالوا إن قد إذا دخلت على الحال تكون للتحقيق وإذا دخلت على الاستقبال تكون للتقليل وصيغة المضارع للدلالة حلى استمرار العلم أي والحال إنكم تعلمون علماً قطعياً مستمراً بمشاهدة ما ظهر بيدي من المعجزات إني مرسل من الله إليكم لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فإن تعظيمي تعظيموإطاعتي إطاعة له وفيه تسلية للنبي عليه السلام بأن الأذية قد كانت من الأمم السالفة أيضاً لأنبيائهم والبلاء إذا عم خف وفي الحديث "رحمة الله على أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وذلك إنه عليه السلام لما قسم غنائم الطائف قال بعض المنافقين هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فتغير وجهه الشريف وقال ذلك
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
{فَلَمَّا زَاغُوا} الزيغ الميل عن الاستقامة والتزايغ التمايل أي أصروا على الزيغ عن الحق الذي جاء به
496
موسى واستمروا عليه {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال وقال الراغب في المفردات أي لما فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك وقال جعفر لما تركوا أوامر الخدمة نزع الله من قلوبهم نور الإيمان وجعل للشيطان إليهم طريقاً فأزاغهم عن طريق الحق وأدخلهم في مسالك الباطل وقال الواسطي لما زاغزا عن القربة في العلم أزاغ الله قلوبهم في الخلقة وقال بعضهم لما زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة يقول الفقير لما زاغوا عن رسالة موسى ونبوته أزاغ الله قلوبهم عن ولايته وجمعيته فهم رأوا موسى على أنه موسى لا على أنه رسول نبي فحرموا من رؤية الحق تعالى {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة وموذن بعليته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية لا هداية موصلة إلى ما يوصل إليها فإنها شاملة للكل والمراد جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولاً أولياء ووصفهم بالفسق نظراً إلى قوله تعالى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين وقوله تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين قال الإمام هذه الآية تدل على عظم أذى الرسول حتى أنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدي انتهى.
ويتبعه أذى العالمين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لأن العلماء ورثة الأنبياء فأذاهم في حكم أذاهم فكما أن الأنبياء والأولياء داعون إلى الله تعالى على بصيرة فكذلك رسل القلوب فإنهم يدعون القوى البشرية والطبيعية من الصفات البشرية السفلية إلى الأخلاق الروحانية العلوية ومن ظلمة الخلقية إلى نور الحقية فمن مال عن الحق وقبول الدعوة لعدم الاستعداد الذاتي ضل بالتوجه إلى الدنيا والإقبال عليها فأنى يجد الهداية إلى حضرة الحق سبحانه {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها وابن هنا وفي عزيز ابن الله بإثبات الألف خطا لنذرة وقوعه بين رب وعبد وذكر وأنثى يا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي فرزندان يعقوب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493(9/401)
ناداهم بذلك استمالة لقلوبهم إلى تصديقه في قوله : {إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاـاةِ} فإن تصديقه عليه السلام إياها من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه أي أرسلت إليكم لتبليغ أحكامه التي لا بد منها في صلاح أموركم الدينية.
والدنيوية در حالتى كه باور دارنده ام من آنيز را كه يش منست از كتاب تورات يعني قبل ازمن نازل شده ومن تصديق كرده ام كلاه آن ازنزد خداست.
وقال أبو الليث يعني اقرأ عليكم الأنجيل موافقاً للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع قال القاضي في تفسيره ولعله لم يقل يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم إذ النسب إلى الآباء وإلا فمريم من بني إسرائيل لأن إسرائيل لقب يعقوب ومريم من نسله ثم إن هذا ذل على أن تصديق المتقدم من الأنبياء والكتب من شعائر أهل الصدق ففيه مدح لأمة محمد عليه السلام حيث صدقوا الكل {وَمُبَشِّرَا} التبشير مده دادن {بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى} معطوف على مصدقاً داع إلى تصديقه عليه السلام من حيث أن البشارة به واقعة في التوراة والعامل فيهما ما في الرسول
497
من معنى الأرسل لا الجار فإنه صلة للرسول والصلاة بمعزل عن تضمن معنى الفعل وعليه يدور العمل أي أرسلت إليكم حال كوني مصدقاً لما تقدمين من التوراة ومبشراً بمن يأتي من بعدي من رسول وكان بين مولده وبين الهجرة ستمائة وثلاثون سنة وقال بعضهم : بشرهم به ليؤمنوا به عند مجيئه أو ليكون معجزة لعيسى عند ظهوره والتبشير به تبشير بالقرآن أيضاً وتصديق له كالتوراة {اسْمُه أَحْمَدُ} أي محمد صلى الله عليه وسلّم يريد أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر فذكر أول الكتب المشهورة الذي يحكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم النبيين وعن أصحاب رسول الله إنهم قالوا : أخبرنا يا رسول الله عن نفسك قال : إنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي رؤيا حين حملتني أنه خرج منها نور أضاء لها قصرو بصري في أرض الشأم وبصري كحبلى بلد بالشام وكذا بشر كل نبي قومه نبينا محمد عليه السلام والله تعالى أفرد عيسى عبد الله بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى كما في كشف الأسرار وقال بعضهم : كان بين رفع المسيح ومولد النبي عليه السلام خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريباً وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثاً وثلاثين سنة وبين رفعه والهجرة الشريفة خمسمائة وثمان وتسعون سنة ونزل عليه جبريل عشر مرات وأته النصارى على اختلافهم ونزل على نبينا عليه السلام أربعة وعشرين مرة وأمته أمة مرحومة جامعة لجميع الملكات الفاضلة قيل : قال الحواريون لعيسى : يا روح الله هل بعدنا من أمة قال : نعم أمة محمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلّم قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في كتاب تلقيح الأذهان سمي من حيث تكرر حمده محمداً من حيث كونه حامل لواء الحمد أحمد انتهى قال الراغب أحمد إشارة للنبي عليه السلام باسمه تنبيهاً على أنه كما وجد اسمه أحمد يوجد جسمه وهو محمود في أخلاقه وأفعاله وأوقاله وخص لفظ أحمد فيما بشر به عيسى تنبيهاً أنه أحمد منه ومن الذين قبله انتهى ويوافقه ما في كشف الأسرار من أن الألف فيه للمبالغة في الحمد وله وجهان أحدهما أنه مبالغة من الفاعل أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثر مناقب وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها انتهى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
زصد هزار محمد كه در جهان آيد
يكى بمزلت وفضل مصطفى نرسد
قال ابن الشيخ في حواشيه يحتمل أن يكون أحمد منقولاً من الفعل المضارع وأن يكون منقولاً من صفة وهي أفعل التفضيل وهو الظاهر وكذا محمد فإنه منقول من الصفة أنه وهو في معنى محمود ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار فإنه محمود في الدنيا بما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة ومحمود في الآخرة بالشفاعة وقال الإمام السهيلي في كتاب التعريف والأعلام أحمد اسم علم منقول من صفة لا من فعل وتكل الصفة افعل التي يراد بها التفضيل فمعنى أحمد أحمد الحامدين لربه عز وجل وكذلك هو في المعنى لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد
498
(9/402)
لم تفتح على أحد قبله فيحمد ربه بها وكذلك يعقد لواء الحمد وأما محمد فمنقول من صفة أيضاً وهو في معنى محمود ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار فمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة وكذلك الممدح ونحو ذلك فاسم محمد مطابق لمعناه والله تعالى سماه به قبل أن يسمي به نفسه فهذا علم من أعلام نبوته إذ كان اسمه صادقاً عليه فهو محمود في الدنيا بما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة وهو محمود في الآخرة بالشفاعة فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان حمد ربه فنبأه وشرفه ولذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقل اسمه أحمد ذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه تلك أمة أحمد فقال : اللهم اجعلن من أمة أحمد فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته فانظر كيف كان ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر في الذكر وفي الوجود وفي الدنيا وفي الآخرة تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين وانظر كيف أنزلت عليه سورة الحمد وخص بها دون سائر الأنبياء وخص بلواء الحمد وخص بالمقام المحمود وانظر كيف شرع له سنة وقرآنا أن يقول عند اختتام الأفعال وانقضاء الأمور الحمدرب العالمين قال الله تعالى وقضى بينهم بالحق وقيل الحمدرب العالمين وقال أيضاً وآخر دعواهم أن الحمد رب العالمين تنبيهاً لنا على أن الحمد مشروع عند انقضاء الأمور وسن عليه السلام الحمد بعد الأكل والشرب قوال عند انقضاء السفر آئبون تائبون ربنا حامدون ثم انظر لكونه عليه السلام خاتم الأنبياء ومؤذناً بانفصال الرسالة انقطاع الوحي ونذيراً بقرب الساعة وتمام الدنيا مع أن الحمد كما قدمنا مقرون بانقضاء الأمور مشروع عندها تجد معاني اسمه جميعاً وما خص به من الحمد والمحامد مشاكلاً لمعناه مطابقاً لصفته وفي ذكره برهان عظيم وعلم واضح على نبوته وتخصيص الله له بكرامته وأنه قدم له هذه المقاما قبل وجوده تكرمة له وتصديقاً لأمره عليه السلام انتهى كلام السهيلي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
يقول الفقير الذي يلوح بالبال أن تقدم الاسم أحمد على الاسم محمد من حيث أنه عليه السلام كان إذ ذاك في عالم الأرواح متميزاً عن الأحد بميم الإمكان فدل قلة حروف اسمه على تجرده التام الذي يقتضيه موطن عالم الأرواح ثم إنه لما تشرف بالظهور في عالم العين الخارج وخلع الله عليه من الحكمة خلعة أخرى زائدة على الخلع التي قبلها ضوعف حروف اسمه الشريف فقيل : محمد على ما يقتضيه موطن العين ونشأة الوجود الخارجي ولا نهاية للأسرار والحمد تعالى قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في كتاب مواقع النجوم ما انتظم من الوجود شيء بشيء ولا انضاف منه شيء إلى شيء إلا لمناسبة بينهما ظاهرة أو باطنة فالمناسبة موجودة في كل الأشياء حتى بين الاسم والمسمى ولقد أشار أبو يزيد السهيلي وإن كان أجنبياً عن أهل هذه الطريقة إلى هذا المقام في كتاب المعارف والأعلام له في اسم النبي عليه السلام محمد وأحمد وتكلم
499
(9/403)
على المناسبة التي بين أفعال الني عليه السلام وأخلاقه وبين معاني إسميه محمد وأحمد انتهى كلام الشيخ أشار رضي الله عنه إلى ما قدمناه من كلام السهيلي وقال بعض العافين سمي عليه السلام بأحمد لكون حمده أتم واشتمل من حمد سائر الأنبياء والرسل إذ محامدهمإنما هي بمقتضى توحيد الصفات والأفعال وحمده عليه السلام إنما هو بحسب توحيد الذات المستوعب لتوحيد الصفات والأفعال انتهى.
قال في فتح الرحمن لم يسم بأحمد أحد غيره ولا دعي به مدعو قبله وكذلك محمد أيضاً لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجود عليه السلام وميلاده أي من الكهان والأحبار أن نبياً يبعث اسمه محمد فسمي قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو وهم محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ومحمد بن مسلمة الأنصاري محمد بن البراء البكري ومحمد بن سفيان بن مجاشع ومحمد بن حمدان الجعفي ومحمد بن خزاعة السلمي فهم ستة لا سابع لهم ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له أو يظهر عليه سبب يشكك أحداً في أمره حتى تحققت السمتان له عليه السلام ولم ينازع فيهما انتهى.
واختلف في عدد أسماء النبي عليه السلام فقيل له عليه السلام ألف اسم كما أن تعالى ألف اسم وذلك فإنه علمه السلام مظهر تام له تعالى فكما أن أسماءه تعالى أسماء له عليه السلام من جهة الجمع فله عليه السلام أسماء أخر من جهة الفرق على ما تقتضيه الحكمة في هذا الموطن فمن أسمائه محمد أي كثير الحمد لأن أهل السماء والأرض حمدوه في الدنيا والآخرة ومنها أحمد أي أعظم حمداً من غيره لأنه حمد الله تعالى بمحامد لم يحمد بها غيره ومنها المقفى بتشديد الفاء وكسره لأنه أتى عقيب الأنبياء وفي قفاهم وفي التكملة هو الذي قفى على أثر الأنبياء أي اتبع آثارهم ومنها نبيالتوبة لأنه كثير الاستغفار والرجوع إلى الله أو لأن التوبة في أمته صارت أسهل ألا ترى أن توبة عبدة العجل كانت بقتل النفس أو لأنه توبة أمته كانت أبلغ من غيرهم حتى يكون التائب منهم كمن لا ذنب له لا يؤاخذ به في الدنيا ولا في الآخرة وغيرهم يؤاخذ في الدنيا لا في الآخرة ومنها نبي الرحمة لأنه كان سبب الرحمة وهو الوجود لقوله تعالى : لولاك لما خلقت الأفلاك وفي كتاب البرهان للكرماني لولاك يا محمد لما خلقت الكائنات خاطب الله النبي عليه السلام بهذا القول انتهى قيل الأولى أن يحترز عن القول بأنه لولا الأنبياء عليهم السلام لان لما خلق الله آدم وإن كان هذا شيئاً يذكره الوعاظ على رؤوس المنابر يون به تعظيم محمد عليه السلام لأن النبي عليه السلام وإن كان عظيم المرتبة عند الله لكن لكل نبي من الأنبياء مرتبة منزلة وخاصية ليست لغيره فيكون كل نبي أصلاً لنفسه كما في التاتار خانية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
يقول الفقير : كان عليه السلام نبي الرحمة لأن هو الأمان الأعظم ما عاش وما دامت سنته باقية على وجه الزمان قال تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهو يستغفرون قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : كان في الأرض أمانان فرفع أحدهما وبقي الآخر فأما الذي رفع فهو رسول الله عليه السلام وأما الذي بقي فالاستغفار وقرأ بعد هذه الآية ومنها نبي الملحمة أي الحرب لأنه بعث بالقتال فإن قلت المبعوث بالقتال كيف يكون رحمة
500
قلت : كان أمم الأنبياء يهلكون في الدنيا إذا لم يؤمنوا بهم بعد المعجزات ونبينا عليه السلام بعث بالسيف ليرتدعوا به عن الكفر ولا يستأصلوا وفي كونه عليه السلام نبي الحرب رحمة ومنها الماحى وهو الذي محا الله به الكفر أو سيئات من اتبعه ومنها الحاشر وهو الذي يحشر الناس على قدمه أي على أثره ويجوز أن يراد بقدمه عهده وزمانه فيكون المعنى أن الناس يحشرون في عهده أي في دعوته من غير أن تنسخ ولا تبدل ومنها العاقب وهو الذي ليس بعده نبي لا مشرعاً ولا متابعاً أي قد غقب الأنبياء فانقطعت النبوة قال عليه السلام : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي أي بالنبوة العرفية بخلاف النبوة التحقيقية التي هي الأنبياء عن الله فإنها باقية إلى يوم القيامة إلا أنه لا يجوز أن يطلق على أهطلها النبي لإيهامه النبوة العرفية الحاصلة بمجيء الوحي بواسطة جبرائيل عليه السلام ومنها الفاتح فإن الله فتح به الإسلام ومنها الكاف قيل معناه الذي أرسل إلى الناس كافة وليس هذا بصحيح لأن كافة لا يتصرف منه فعل فيكون منه اسم فاعل وإنما معناه الذي كف الناس عن المعاصي كذا في التكملة.
(9/404)
يقول الفقير هذا إذا كان الكاف مشدداً وأما إذا كان مخففاً فيجوز أن يشار به إلى المعنى الأول كما قال تعالى يس أي يا سيد البشر ومنها صاحب الساعة لأنه بعث مع الساعة نذيراً للناس بين يدي عذاب شديد ومنها الرؤوف والرحيم والشاهد والمبشر والسراج المنير وطه ويس والمزل والمدثر وعليه السلام وقثم أي الجامع للخير ومنها.
ن.
إشارة إلى اسم النور والناصر ومنها المتوكل والمختار والمحمود والمصطفى وإذا اشتقت أسماؤه من صفاته كثرت جداً ومنها الخاتم بفتح التاء أي أحسن الأنبياء خلقاً وخلقاً فكأنه جمال الأنبياء كالخاتم الذي يتجمل به أي لما أتقنت به النبوة وكملت كان كالخاتم الذي يختم به الكتاب عند الفراغ منه وأما الخاتم بكسر التاء فمعناه أنه آخر الأنبياء فهو اسم فاعل من ختم ومنها راكب الجمل سماه به شعيا النبي عليه السلام فإن قلت : لم خص بركوب الجمل وقد كان يركب غيره كالفرس والحمال قلت : كان عليه السلام من العرب لا من غيرهم كما قال أحب العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي والجمل مركب العرب مختص بهم لا ينسب إلى غيرهم من الأمم ولا يضاف لسواهم ومنها صاحب الهراوة سماه به سطيح الكاهن والهراوة بالكسر العصا فإن قلت لم خص بالعصا وقد كان غيره من الأنيباء يمسكها قلت العصا كثيراً ما تستعمل في ضرب الإبل وتخص بذلك كما قال به كثير في صفة البعير :
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
ينوخ ثم يضرب بالهراوي
فلا عرف لديه ولا نكير
فركوبه الجمل وكونه صاحب هراوة كناية عن كونه عربياً وقيل هي إشارة إلى قوله في الحديث في صفة الحوض اذود الناس عنه بعصاي ومنها روح الحق سماه به عيسى عليه السلام في الإنجيل وسماه أيضاً المنخنا بمعنى محمد ياخود آنكه خداى بفرستد اورا بعد از مسيح وفي التكملة هو بالسريانية ومنها حمياطى بالعبرانية وبر قليطس بالرومية بمعنى محمد وماذ ماذ بمعنى طيب طيب وفار قليطا مقصورا بمعنى أحمد وروى فار قليط بالباء وقيل معناه الذي
501
يفرق بين الحق والباطل وروي أن معناه بلغة لنصارى ابن الحمد فكأنه محمد وأحمد.
ـ وروي ـ أنه عليه السلام قال : اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان واسمي في الإنجيل أحمد وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض فإن قلت قال رسول الله عليه السلام لي خمسة أسماء فذكر محمداً وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وقد بلغت أكثر من ذلك قلت تخصيص الوارد لا ينافي ما سواه فقد خص الخمسة إما لعلم السامع بما سواها فكأنه قال لي خمسة زائدة على ما تعلم أو لفضل فيها كأنه قال لي خمسة أسماء فاضلة معظمة أو لشهرتها كأنه قال لي خمسة أسماء مشهورة أو لغير ذلك مما يحتمله اللفظ من المعاني وقيل لأن الموحى إليه في ذلك الوقت كان هذه الأسماء وقيل كانت هذه الأسماء معروفة عند الأمم السالفة ومكتوبة في الكتب المقتدمة وفيه أن أسماءه الموجودة في الكتب المتقدمة تزيد على الخمسة كما في التكملة لابن عسكر {فَلَمَّا جَآءَهُم} أي الرسول المبشر به الذي اسمه أحمد كما يدل عليه الآيات اللاحقة وأما إرجاعه إلى عيسى كما فعله بعض المفسرين فبعيد جداً وكون ضمير الجمع راجعاً إلى بني إسرائيل لا ينافي ما ذكرنا لأن نبينا عليه السلام مبعوث إلى الناس كافة {بِالْبَيِّنَـاتِ} أي بالمعجزات الظاهرة كالقرآن ونحوه والباء للتعدية ويجوز أن تكون للملابسة {قَالُوا هَـاذَا} مشيرين إلى ما جاء به أو إليه عليه السلام {سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر وفي الآية إشارة إلى عيسى القلب وإسرائيل الروح وبنيه النفس والهوى وسائر القوى الشريرة فإنها متولدة من الروح والقالب منسلخة عن حكم أبيها فدعاها عيسى القلب من الظلمات الطبيعية إلى الأنوار الروحانية وبشرها بأحمد السر لكونه أحمد من عيسى القلب لعلو مرتبته عليه فلما جاءها بصور التجليات الصفاتية والأسمائية قالت : هذا أمر وهمي متخيل لا وجود له ظاهر البطلان وهكذا براهين أهل الحق مع المنكرين {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وكيست ستمكارتر از أن كس كه دروغ مى سازد بر الله.
والفرق بين الكذب والافتراء هو أن الافتراء افتعال الكذب من قول نفسه والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه {وَهُوَ} أي والحال أن ذلك المفترى {يُدْعَى} من لسان الرسول {إِلَى الاسْلَـامِ} الذي به سلامة الدارين أي أي الناس أشد ظلماً ممن يدعي الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر فاللام في الكذب للعهد أي هو أظلم من كل ظالم وإن لم يتعرض ظاهر الكلام لنفي المساوي ومن الافتراء على الله الكذب في دعوى النسب والكذب في الرؤيا والكذب في الأخبار عن رسول الله عليه السلام.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/405)
واعلم أن الداعي في الحقيقة هو الله تعالى كما قال تعالى : والله يدعو إلى دار السلام بأمره الرسول عليه السلام كما قال ادع إلى سبيل ربك وفي الحديث عن ربيعة الجرشي "قال أتى نبي الله عليه السلام فقيل له : لتنم عينك ولتسمع أذنك وليعقل قلبك" قال : فنامت عيناي وسمعت أذناي وعقل قلبي قال فقيل لي سيد بني دارا فصنع مأدبة وأرسل داعياً
502
فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المدأبة وسخط عليه السيد قال : فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة ودخل في دعوة النبي دعوة ورثته لقوله أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ولا بد أن يكون الداعي أميراً أو مأموراً وفي المصابيح في كتاب العلم قال : عوف بن مالك رضي الله عنه لا يقص إلا أمر أو مأمور أو مختال رواه أبو داود وابن ماجه قوله أو مختال هو المتكبر والمراد به هنا الواعظ الذي ليس بأمير ولا مأمور مأذون من جهة الأمير ومن كانت هذه صفته فهو متكبر فضولي طالب للرياسة وقيل هذا الحديث في الخطبة خاصة كما في المفاتيح {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لعدم توجههم إليه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ} الإطفاء الإخماد وبالفارسية فروكشتن آتش وراغ.
أي يريدون أن يطفئوا دينه أو كتابه أو حجته النيرة واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيداً لها كما زيدت لما فيها من معنى الإضافة تأكيداً لها في لا أبا لك أو يريدون الافتراء ليطفئوا نور الله وقال الراغب في المفردات : الفرق أن في قوله تعالى يريدون أن يطفئوا نور الله يقصدون إخفاء نور الله وفي قوله تعالى ليطفئوا يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله {بِأَفْوَاهِهِمْ} بطعنهم فيه وبالفارسية بدهنهاى خود يعني بكفتار ناسنديده وسخنان بي ادبانه.
مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمي ليطفئه {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي مبلغه إلى غايته بنشره في الآفاق وإعلائه جملة حالية من فاعل يريدون أو يطفئوا {وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} إتمامه إرغاماً لهم وزيادة في مرض قلوبهم ولو بمعنى أن وجوابه محذوف أي وإن كرهوا ذلك فالله يفعله لا محالة.
قال الكاشفي : وكراهت ايشانرا أثرى نيست در اطفاى راغ صدق وصواب همون ارادت خفاش كه غير مؤثر است درنابودن آفتار :
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
شب ره خواهد كه نبود آفتاب
تاببيند ديده اومرزو بوم
دست قدرت هر صباحى شمع مهر
مى فروزد كورىء خفاش شوم
وفي المثنوي :
شمع حق رايف كنى تواى عجوز
هم توسوزى هم سرت اى كنده وز
كى شود دريا زوز سك نجس
كى شود خورشيد ازيف منطمس
هركه بر شمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وز او
ون تو خفاشات بسى بينند خواب
كين جهان ماند يتيم از آفتاب
اى بريده آن لب وحلق ودهان
كه كند تف سوى مه يا آسمان
تف برويش باز كردد بى شكى
تف سوى كردون نيابد مسلكى
تا قيامت تف بر ويار دز رب
همون تبت بر رواه بو لهب
قال ابن الشيخ اتمام نوره لما كان من أجل النعم كان استكراه الكفار إياه أي كافر كان
503
من أصناف الكفرة غاية في كفران النعمة فلذلك أسند كراهة إتمامه إلى الكافرين فإن لفظ الكافر أليق بهذا المقام وأما قوله ولو كره المشركون فإنه قد ورد في مقابلة إظهار دين الحق الذي معظم أركانه التوحيد وإبطال الشرك وكفار مكة كارهون له من أجل إنكارهم للتوحيد وإصرارهم على الشرك فالمناسب لهذا المقام التعرض لشركهم لكونه العلة في كراهتهم الدين الحق قال بعضهم : جحدوا ما ظهر لهم من صحة نبوة النبي عليه السلام وأنكروه بألسنتهم وأعرضوا عنه بنفوسهم فقيض الله لقبوله أنفساً أوجدها على حكم السعادة وقلوباً زينها بأنوار المعرفة وأسراراً نورها بالتصديق فبذلوا له المهج والأموال كالصديق والفاروق وأجلة الصحابة رضي الله عنهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/406)
يقول الفقير : هكذا أحوال ورثة النبي عليه السلام في كل زمان فإن الله تعالى تجلى لهم بنور الأزل والقدم فكرهه المنكرون وأرادوا أن يطفئوه لكن الله أتم نوره وجعل لأهل تجليه أصحاباً وإخواناً يذبون عنهم وينفذون أمورهم إلى أن يأتيهم أمر الله تعالى ويقضوا نحبهم وفي الآية إشارة إلى أن النفس لا بد وأن تسعى في إبطال نور القلب وإطفائه لأن النفس والهوى من المظاهر القهرية الجلالية المنسوبة إلى اليد اليسرى والروح والقلب من المظاهر الجمالية اللطفية المنسوبة إلى اليد اليمنى كما جاء في الحديث "الرباني" إن الله مسح يده اليمنى على ظهر آدم الأيمن فاستخرج منه ذرارى كالفضة البيضاء وقال هؤلاء للجنة ومسح يده اليسرى على ظهر آدم الأيسر فاستخرج منه كالحممة السوداء وقال هؤلاء للنار فلا بد للنفس من السعي في إطفاء نور القلب وللقلب أيضاً من السعي في إطفاء نار النفس ولو كره الكافرون الساترون القلب بالنفس الزارعون بذر النفس في أرض القلب {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمداً صلى الله عليه وسلّم {بِالْهُدَى} بالقرآن أو بالمعجزة فالهدى بمعنى ما به الاهتداء إلى الصراط المستقيم {وَدِينِ الْحَقِّ} والملة الحنيفية التي اختارها لرسوله ولأمته وهو من إضافة الموصوف إلى صفته مثل عذاب الحريق {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ليجعله ظاهراً أي عالياً وغالباً على جميع الأديان المخالفة له {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ذلك الإظهار ولقد أنجز الله وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام فليس المراد أنه لا يبقى دين آخر من الأديان بل العلو والغلبة والأديان خمسة : اليهودية والنصرانية والمجوسية والشرك والإسلام كما في عين المعاني للسجاوندي وقال السهيلي في كتاب الأمالي في بيان فائدة كون أبواب النار سبعة وجدنا الأديان كما ذكر في التفسير سبعة : واحدة للرحمن وستة للشيطان فالتي للشيطان اليهودية والنصرانية والصابئية وعبادة الأوثان والمجوسية وأمم لا شرع لهم ولا يقولون نبوة وهم الدهرية فكأنهم كلهم على دين واحد أعني الدهرية وكل من لا يصدق برسول فهؤلاء ستة لا أصناف والصنف السابع هو من أهل التوحيد الخوارج الذين هم كلاب النار وجميع أهل البذع المضلة والجبابرة الظلمة والمصرون على الكبائر من غير توبة ولا استغفار فإن فيهم من ينفذ فيه الوعيد ومنهم من يعفو الله عنه فهؤلاء كلهم صنف واحد غير أنه لا يحتم عليهم بالخلود فيها فهؤلاء سبعة أصناف ستة مخلدون في النار وصنف
504
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
واحد غير مخلدوهم منتزعون يوم القيامة من أهل دين الرحمن ثم يخرجون بالشفاعة فقد وافق عدد الأبواب عدد هذه الأصناف وتبينت الحكمة في ذكرها في القرآن لما فيها من التخويف والإرهاب فنسأل الله العفو والعافية والمعافاة وفي بعض التفاسير الإشراك هو إثبات الشريك تعالى في الألوهية سواء كانت بمعنى وجوب الوجود أو استحقاق العبادة لكن أكثر المشركين لم يقولوا بالأول لقوله تعالى ولئن سؤلتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فقد يطلق ويراد به مطلق الكفر بناء على أن الكفر لا يخلو عن شرك ما يدل عليه قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذفك فإن من المعلوم في الدين أنه تعالى لا يغفر كفر غير المشركين المشهورين من اليهود والنصارى فيكون المراد لا يغفر أن يكفر به وقد يطلق ويراد به عبدة الأصنام وغيرها فإن أريد الله في قوله ولو كره المشركون يكون إيراده ثانياً لوصفهم بوصف قبيح آخر وإن أريد الثاني فلعل إيراد الكافرين أولاً لما أن إتمام الله نوره يكون بنسخ غير الإسلام والكافرون كلهم يكرهون ذلك وإيراد المشركين ثانياً لما أن إظهار دين الحق يكون بإعلاء كلمة الله وإشاعة التوحيد المنبىء عن بطلان الآلهة الباطلة وأشد الكارهين لذلك المشركون والله أعلم بكلامه.
وفي التأويلات النجمية هو الذي أرسل رسول القلب إلى أمة العالم الأصغر الذي هو المملكة الأنفسية الإجمالية المضاهية للعالم الأكبر وهو المملكة الآفاقية التفصيلية بنور الهداية الأزلية ودين الحق الغالب على جميع الأديان وهو الملة الحنيفية السهلة السمحاء ولو كره المشركون الذين أشركوا مع الحق غيره وما عرفوا أن الغير والغيرية من الموهومات التي أوجدتها قوة الوهم وإلا ليس في الوجود إلا الله وصفاته انتهى.
قال الكمال الخجندي :
له في كل موجود علامات وآثار
دوعالم رزمعشوقست كويك عاشق صادق
وقال المولى الجامي :
كرتويى جمله درفضاى وجود
هم خود انصاف ده بكو حق كو
درهمه اوست يش شم شهود
يست ندارى هستى من وتو
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/407)
يقول الفقير : هذه الكلمات المنبئة عن وحدة الوحود قد اتفق عليها أهل الشهود قاطبة فالطعن لواحد منهم بأن وجودي طعن لجميعهم وليس الطعن إلا من الحجاب الكثيف والجهل العظيم وإلا فالأمر أظهر على البصير يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ} آيا دلالت كنم شمارا {عَلَى تِجَـارَةٍ} سيأتي بيان معناها {تُنجِيكُم} أن تكون سبباً لإنجاء الله إياكم وتخليصه وأفادت الصفة المقيدة أن من التجارة ما يكون على عكسها كما أشار إليها قوله تعالى يرجون تجارة لن تبور فإن بوار التجارة وكسادها يكون لصاحبها عذاباً أليماً كجمع المال وحفظه ومنع حقوقه فإنه وبال في الآخرة فهي تجارة خاسرة وكذا الأعمال التي لم تكن على وجه الشرع والسنة أو أريد بها غير الله {مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم جسماني وهو ظاهر وروحاني وهو التحسر والتضجر كأنهم قالوا كيف نعمل أو ماذا نصنع فقيل
505
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مراد آنست كه ثابت باشيد برايمان كه داريد {وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ} بما لهاى خودكه زاد وسلاح مجاهدان خريد {وَأَنفُسِكُمْ} وبنفسهاى خود كه متعرض قتل وحرب شويد.
قدم الأموال لتقدمها في الجهاد أو للترقي من الأدنى إلى الأعلى وقال بعضهم : قدم ذكر المال لأن الإنسان ربما يضن بنفسه ولأنه إذا كان له مال فإنه يؤخذ به النفس لتغزو وهذا خبر في معنى الأمر جيىء به للإيذان بوجوب الامتثال فكأنه وقع فأخبر بوقوعه كما تقول غفر الله لهم ويغفر الله لهم جعلت المغفرة لقوة الرجاء كأنها كانت ووجدت وقس عليه نحو سلمكم الله وعافاكم الله وأعاذكم الله وفي الحديث جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ومعنى الجهاد بالألسنة أسماعهم ما يكرهونه ويشق عليهم سماعه من هجو وكلام غليظ ونحو ذلك وأخر الجهاد بالألسنة لأنه أضعف الجهاد وأدناه ويجوز أن يقال أن اللسان أحد وأشد تأثيراً من السيف والسنان قال علي رضي الله عنه : جراحات السنان لها التئام.
ولا يلتام ما جرح اللسان فيكون من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى وكان حسان رضي الله عنه يجلس على المنبر فيهجو قريشاً بإذن رسول الله عليه السلام ثم إن التجارة التصرف في رأس المال طلباً للربح والتاجر الذي يبيع ويشتري وليس في كلام العرب تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة وأما تجاه فأصلها وجاه وتجوب وهي قبيلة من حمير فالتاء للمضارعة قال ابن الشيخ جعل ذلك تجارة تشبيهاً له في الاشتمال على معنى المبادلة والمعاوضة طمعاً لنيل الفضل والزيادة فإن التجارة هي معاوضة المال بالمال لطمع الريح والإيمان والجهاد شبها بها من حيث أن فيهما بذل النفس والمال طمعاً لنيل رضى الله تعالى والنجاة من عذابه.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
{ذَالِكُمْ} أي ما ذكر من الإيمان والجهاد بقسميه {خَيْرٌ لَّكُمْ} على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم من أهل العلم فإن الجهلة لا يعتد بأفعالهم أو إن كنتم تعلمون إنه خير لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأوالكم فتخلصون وتفلحون فعلى العاقل تبديل الفاني بالباقي فإنه خير له وجاء رجل بناقة مخطومة وقال هذه في سبيل الله فقال عليه السلام : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة.
بزركى فرموده كه اصل مرابحه درين تجارت اينست كه غير حق رابدهى وحق را بستانى ودر نفحات ازابى عبد الله اليسرى قدس سره نقل ميكند كه سروى آمد وكفت سبوى روغن داشتم كه سرمايه من بود ازخانه بيرون مى آوردم بيفتادوبشكست وسرمايه من ضايع شد كفت أي فرزند سرمايه خود آن سازكه سرمايه درتست والله كه در ترا هي نيست دردنيا وآخرت غير الله شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري قدس سره فرموكه سود تمام آن بودكه درش هم نبودى اشارت بمرتبة فناست درباختن سود وسرمايه در بازار شوق لقا :
تاند ببازار خودى ست شوى
بشتاب كه از جام فنامست شوى
506
ازمايه سود دوجهان دست بشوى
سود توهمان به كه تهى دست شوى
(9/408)
ودخل في الآية جهاد أهل البدعة وهم ثنتان وسبعون فرقة ضالة آن كافر خرابى حصن اسلام خواهد اين مبتدع ويرانى حصار سنت جويد آن شيطان در تشويش ولايت دل كوشد اين هواى نفس زيرو زبرىء دين توخواهد حق تعالى ترابر هريكى ازين دشمنان سلاحى داده تا اورابدان قهر كنى قتال با كافران بشمشير سياست است وبا مبتدعان بتيغ زبان وحجت وبا شيطان بمداومت ذكر حق وتحقيق كلمه وبا هواى نفس بتير مجاهده وسنان رياضت اينست بهين اعمال بنده وكزيده طاعات رونده نانه رب العزة كفت ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون وقال بعض الكبار يا أيها الذين آمنوا بالإيمان التقليدي هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله أي تحقيقاً ويقيناً استدلالياً وبعد صحة الاستدلال تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم لأن بذل المال والنفس في سبيل الله لا يكون إلا بعد اليقين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
واعلم أن التوحيد إما لساني وإما عياني أما التوحيد اللساني المقترن بالاعتقاد الصحيح فأهله قسمان : قسم بقوا في التقليد الصرف ولم يصلوا إلى حد التحقيق فهم عوام المؤمنين وقسم تشبثوا بذيل الحجج والبراهين النقلية والعقلية فهؤلاء وإن خرجوا عن حد التقليد الصرف لكنهم لم يصلوا إلى نور الكشف والعيان كما وصف أهل الشهود والعرفان وأما التوحيد العياني فعلى مراتب المرتبة الأولى توحيد الأفعال والثانية توحيد الصفات والثالثة توحيد الذات فمن تجلى له الأفعال توكل واعتصم ومن تجلى له الصفات رضي وسلم ومن وصل إلى تجلي الذات فني في الذات بالمحو والعدم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} في الدنيا وهو جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر ويجوز أن يكون جواباً لشرط أو لاستفهام دل عليه الكلام تقديره أن تؤمنوا وتجاهدوا أو هل تقبلون وتفعلون ما دللتكم عليه يغفر لكم وجعله جواباً لهل أدلكم بعيد لأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة {وَيُدْخِلْكُمْ} في الآخرة {جَنَّـاتٍ} أي كل واحد منكم جنة ولا بعد من لطفه تعالى أن يدخله جنات بأن يجعلها خاصة له داخلة تحت تصل(رفه والجنة في اللغة البستان الذي فيه أشجار متكاثفة مظلة تستر ما تحتها {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها بمعنى تحت أغصان أشجارها في أصولها على عروقها أو من تحت قصورها وغرفها {الانْهَـارُ} من اللبن والعسل والخمر والماء الصافي {وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً} أي ويدخلكم مساكن طيبة ومنازل نزهته كائنة {فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ} أي إقامة وخلود بحيث لا يخرج منها من دخلها بعارض من العوارض وهذا الظرف صفة مختصة بمساكن وهي جميع مسكن بمعنى المقام والسكون ثبوت الشيء بعد تحرك ويستعمل في الاستبطان يقال سكن فلان في مكان كذا استوطنه واسم المكان مسكن فمن الأول يقال سكنت ومن الثاني يقال سكنته قال الراغب أصل الطيب ما يستلذه الحواس وقوله ومساكن طيبة في جنات عدن أي طاهرة زكية مستلذة وقال بعضهم : طيبتها سعتها ودوام أمرها وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه المساكن الطيبة فقال : قصر من لؤلؤ في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراى في كل دار سبعون
507
بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة قال فيعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله قال في الكبير : أراد بالجنات البساتين اليت يتناولها الناظر لأنه تعالى قال بعده ومساكن طيبة في جنات عدن والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين ويكون فائدة وصفها بأنها عدن أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان وأما الجنات الأخر فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب وفي بعض التفاسير تسمية دار الثواب كلها بالجنات التي هي بمعنى البساتين لاشتمالها على جنات كثيرة مترتبة على مراتب بحسب استحقاقات العالمين من الناقصين والكاملين ولذلك أتى بجنات جمعاً منكراً ثم اختلفوا في عدد الجنات المشتملة على جنات متعددة فالمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها سبع : جنة الفردوس وجنة عدن وجنة النعيم ودار الخلد وجنة المأوى ودار السلام وعليون وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على تفاوت الأعمال والعمال.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/409)
ـ وروي ـ عنه أنها ثمان : دار الجلال ودار القرار ودار السلام وجنة عدن وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة الفردوس وجنة النعيم وقال أبو الليث الجنان أربع كما قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان ثم قال ومن دونهما جنتان فذلك جنان أربع إحداهن جنة الخلد والثانية جنة الفردوس والثالثة جنة المأوى والرابعة جنة عدن وأبوابها ثمانية بالخبر وخازن الجنة يقال له رضوان وقد ألبسه الله الرأفة والرحمة كما أن خازن النار ويقال له مالك قد ألبسه الله الغضب والهيبة وميل الإمام الغزالي رحمه الله إلى كون الجنان أربعاً فلعل الجنات في الآية باعتبار الأفراد لا باعتبار الأسماء وما يستفاد من قلتها بحسب أن الجمع السالم من جموع القلة ليس بمراد فإنها في الوجود الإنساني أربع جنات فالغالب في الجنة الأولى التنعم بمقتضى الطبيعة من الأكل والشرب والوقاع وفي الثانية التلذذ بمقتى النفس كالتصرفات وفي الثالثة التلذذ بالأذواق الروحانية كالمعارف الإلهية وفي الرابعة التلذذ بالمشاهدات وذلك أعلى اللذات لأنها من الخالق وغيرها من المخلوق إن قلت لم لم تذكر أبواب الجنة في القرآن وإنها ثمانية كما ذكرت أبواب النار كما قال تعالى لها سبعة أبواب قلت إن الله سبحانه إنما يذكر من أوصاف الجنة ما فيه تشويق إليها وترغيب فيها وتنبيه على عظم نعيمها وليس في كونها ثمانية أو أكثر من ذلك أو أقل زيادة في معنى نعيمها بل لو دخلوا من باب واحد أو من ألف باب لكان ذلك سواء في حكم السرور بالدخول ولذلك لم يذكر اسم خازن الجنة إذ لا ترغيب في أن يخبر عن أهل الجنة أنهم عند فلان من الملائكة أو في كرامة فلان وقد قال وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ولا شك أن من حفثت عنه أنه عند الملك يسقيه أبلغ في الكرامة من أن يقال هو عند خادم من خدام الملك أو في كرامة ولي من أوليائه بخلاف ذكر أبواب النار وذكر مالك فإن فيه زيادة ترهيب قال سهل قدس سره أطيب المساكن ما أزال عنهم جميع الأحزان وأقر أعينهم بمجاورته فهذا الجوار فوق سائر الجوار وقال بعضهم ومساكن طيبة برؤية الحق تعالى فإن المساكن إنما تطيب بملاقاة الأحباب ورؤية العاشق جمال المعشوق
508
ووصول المحب إلى صحبة المحبوب وكذا مساكن القلوب إنما تطيب بتجلي الحق ولقاء جماله جعلنا الله وإياكم من أهل الوصول واللقاء والبقاء {ذَالِكَ} أي ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنات المذكورة بما ذكر من الأوصاف الجميلة
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه قال بعض المفسرين الفوز يكون بمعنى النجاة من المكروه وبمعنى الظفر بالبغية والأول يحصل بالمغفرة والثاني بإدخال الجنة والتنعيم فيها وعظمه باعتبار أنه نجاة لا أعلم بعده وظفر لا نقصان فيه شاناً وزماناً ومكاناً لأنه في غاية الكمال على الدوام في مقام النعيم إعلم أن الآية الكريم أفادت أن التجارة دنيوية وأخروية فالدنيا موسم التجارة والعمر مدتها والأعضاء والقوى رأس المال والعبد هو المشتري من وجه والبائع من وجه فمن صرف رأس ماله إلى المنافع الدنيوية التي تنقطع عند الموت فتجارته دنيوية كاسدة خاسرة وإن كان بتحصيل علم ديني أو كسب عمل صالح فضلاً عن غيرهما فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى ومن صرفه إلى المقاصد الأخروية التي لا تنقطع أبداً فتجارته رائجة رابحة حرية بأن يقال فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ولعل المراد من التجارة هنا بذل المال والنفس في سبيل الله وذكر الإيمان لكونه أصلاً في الأعمال ووسيلة في قبول الآمال وتوصيف التجارة بالإنجاء لأن النجاة يتوقف عليها الانتفاع فيكون قوله تعالى يغفر لكم بيان سبب الإنجاء وقوله ويدخلهم بما يتعلق به بيان المنفعة الحاصلة من التجارة مع أن التجارة الدنيوية تكون سبباً للنجاة من الفقر المنقطع والتجارة الأخروية تكون سبباً للنجاة من الفقر الغير المنقطع قال عليه السلام : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ يعني أن نعمتي الصحة والفراغ كرأس المال للمكلف فينبغي أن يعامل الله بايمان به وبرسوله ويجاهد مع النفس لئلا يغبن ويربح في الدنيا والآخرة ويجتنب معاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح.
قال الحافظ :
كاري كنيم ورنه خجالت براورد
روزى كه وخت جان بجهان دكر كشيم
وقال أيضاً :
كوهر معرفت اندوزكه يا خود ببرى
كه نصيب دكر انست نصاب زروسيم
وقال أيضاً :
دلا دلالت خيرت كنم براه نجات
مكن بفسق مباهات وزهدهم مفروش
وقال المولى الجامي :
ازكسب معارف شده مشغوف زخارف
در هاى ثمين داده وخرمهره خريده
وقال :
جان فداى دوست كن جامى كه هست
كمترين كارى درين ره بذل روح
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/410)
{وَأُخْرَى} أي ولكم إلى هذه النعم العظيمة نعمة أخرى عاجلة فأخرى مبتدأ حذف خبره والجملة عطل على يغفر لكم على المعنى {تُحِبُّونَهَا} وترغبون فيها وفيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل وتوبيخ على محبته وهو صفة بعد صفة لذلك المحذوف {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ} بدل أو بيان لتلك النعمة الأخرى يعني نصر من الله على عدوكم قريش
509
وغيرهم {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي عاجل عطف على نظر.
قال الكاشفي : مراد فتح مكة است يا فتح روم وفارس ابن عطا فرموده كه نصر توحيد است وفتح نظر بجمال ملك مجيد.
وقد بين أنواع الفتوح في سورة الفتح فارجع.
اشارت الآية إلى أن الإيمان الاستدلالي اليقيني وبذل المال والنفس بمقتضاه في طريق الجهاد الأصغر وإن كان تجارة رابحة إلا أن أصحابها لم يتخلصوا بعد من الأعواض والأغراض فللسالك إلى طريق الجهاد الأكبر تجارة أخرى فوق تلك التجارة أربح من الأولى هي نصر من الله بالتأييد الملكوتي والكشف النوري وفتح قريب الوصول إلى مقام القلب ومطالعة تجليات الصفات وحصول مقام الرضى وإنما سماه تجارة لأن صفاتهم الظلمانية تبدل هناك بصفات الله النورانية وإنما قال تحبونها لأن المحبة الحقيقية لا تكون إلا بعد الوصول إلى مقام القلب ومن دخل مقام المحبة بالوصول إلى هذا المقام فقد فخل في أول مقامات الخواص فالمعتبر من المنازل منزل المحبة وأهله عبيد خلص لا يتوقعون الأجرة بعملهم بخلاف من تنزل عن منزلة المحبة فإنهم أجراء يعملون للأجرة قال بعض العارفين من عليه السلام رجاء للثواب وخوفاً من العقاب فمعبوده في الحقيقة هو الثواب والعقاب والحق واسطة فالعبادة لأجل تنعم النفس في الجنة والخلاص من النار معلول ولهذا قال المولى جلال الدين الرومي قدس سره :
هشت جنت هفت دوزخ يش من
هست يدا هموبت يش شمن
وقال بعضهم :
طاعت ازبهر جزا شرك خفيست
يا خدا جوباش ويا عقبى طلب
واعلم أن من جاهد فإنما يجاهد لنفسه لأنه يتخلص من الحجاب فيصل إلى الملك الوهاب {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على محذول مثل قل يا أيها الذين آمنوا وبشرهم يا أكمل الرسل بأنواع البشارة الدنيوية والأخروية فلهم من الله فضل وإحسان في الدارين وكان في هذا دلالة على صدق النبي لأنه أخبر عما يحصل ويقع في المستقبل من الأيام على ما أخبره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
وفي التأويلات النجمية يشير إلى تواتر النعم وتواليها وفتح مكة القلب بعد النصر بخراب بلدة النفص وبشر المؤمنين المحبين الطالبين بالنصر على النفس فتح مكة القلب انتهى وفيه إشارة إلى أن بلدة النفس إنما تخرب بعد التأييد الملكوتي وإمداد جنود الروح بأن تغلب القوى الروحانية على القوى النفسانية كما يغلب أهل الإسلام على أهل الرحب فيخلصون القلعة من أيدي الكفار ويزيلون آثار الكفر والشرك بجعل الكنائس مساجد وبيوت الأصنام معابد ومساكن الكفار مقار المؤمنين المخلصين والله المعين على الفتح المطلق كل حين يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} أي أنصار دينه جمع نصير كشريف وإشراف {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـانَ} سيأتي بيانهم {مِنَ} كيستند {أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ} قال بعض المفسرين : من يحتمل أن يكون استفهاماً حقيقة ليعلم وجود الأنصار ويتسلى به ويحتمل العرض والحث على النصرة وفيه دلالة على أن غير الله تعالى لا يخلو عن الاحتياج والاستنصار وأنه في وقته جائز حسن إذا كانفي الله والمعنى
510
من جندي متوجهاً إلى نصرة الله كما يقتضيه قوله تعالى : {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} فإن قوله عيسى لا يطابق جواب الحواريين بحسب الظاهر فإن ظاهر قول عيسى يدل على أنه يسأل من ينصره فكيف يطابقه جواب الحواريين بأنهم ينصرون الله وأيضاً لا وجه لبقاء قول عيسى على ظاهره لأن النصرة لا تتعدى بإلى فحمل الأنصار على الجند لأنهم ينصرون ملكهم ويعينونه في مراده ومراده عليه السلام نصرة دين الله فسأل من يتبعه ويعينه في ذلك المراد ويشاركه فيه فقوله متوجهاً حال من ياء المتكلم في جندي وإلى متعلق به لا بالنصرة والإضافة الأولى إضافة إحد المتشاركين إلى اخر لما بينهما من الاختصاص يعني الملابسة المخصصة للإضافة المجازية لظهور أن الاختصاص الذي تقتضيه الإضافة حقيقة غير متحقق في إضافة أنصاري والإضافة الثاني إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله أو قل لهم كونوا كما قال عيسى للحواريين والحواريون أصفياؤه وخلصانه من الحور وهو البياض الخالص وهم أول من آمن به وكانوا إثني عشر رجلاً قال مقاتل قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فائت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة فأتاهم عيسى وقال من أنصاري إلى الله فقالوا : نحن ننصرك فصدقوه ونصروه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
(9/411)
وقال الكاشفي : وف يالواقع نصرت كردند دين عيسى رابعد از رفع وى وخلق را بخدا دعوت نمودند.
فالحواريون كانوا قصارين وقيل كانوا صيادين قال بعض العلماء إنما سموا حواريين لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين أو لأنهم كانوا يطهرون نفوسهم الناس بإفادتهم الدين والعلم المشار إليه بقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً وإنما قيل كانوا قصارين على التمثيل والتشبيه وإنما قيل كانوا صيادين لاصطيادهم تفوس الناس وقودهم إلى الحق وقوله عليه السلام الزبير ابن عمتي وحواريي وقوله يوم الأحزاب من يأتيني بخبر القوم فقال الزبير : أنا فقال عليه السلام : إن لكل نبي حوارياً وحواريي الزبير فشبهه بهم في النصرة وقال بعض المفسرين دل الحديث على أن الحواريين ليسوا بمختصين بعيسى إذ هو في معنى الأصحاب الأصفياء وقال معمر رضي الله عنه : كان بحمد الله لنبينا عليه السلام حواريون نصره حسب طاقتهم وهم سبعون رجلاً وهم الذين بايعوه ليلة العقبة وقال السهيلي كونوا أنصاراًفكانوا أنصاراً وكانوا حواريين والأنصار الأوس والخزرج ولم يكن هذا الاسم قبل الإسلام حتى سماهم الله به وكان له عليه السلام حواريون أيضاً من قريش مثل الخلفاء الأربعة والزبير وعثمان بن مظغون وحمز بن عبد المطلب وجعفر ابن أبي طالب ونحوهم يا اأَيُّهَا الَّذِينَ} أي جماعة وهي أقل من الفرقة لقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة {مِّنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي آمنوا بعيسى وأطاعوه فيما أمرهم به من نصرة الذين {وَكَفَرَت طَّآاـاِفَةٌ} أخرى به وقاتلوه {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي قوينا مؤمني قومه بالحجة أو بالسيف وذلك بعد رفع عيسى {عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي على الذين كفروا وهو الظاهر فإيراد العدو أعلام منه إن الكافرون عدو للمؤمنين
511
عداوة دينية وقيل لما رفع عيسى عليه السلام تفرق القوم ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه الله إليه وفرقة قالوا كان عليه السلام ورسوله فرفعه الله وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم {فَأَصْبَحُوا} صاروا {ظَـاهِرِينَ} غالبين عالين يقال ظهرت على الحائط علوته وقال قتادة فأصبحوا طاهرين بالحجة والبرهان كم سبق لأنهم قالوا فيما روي ألستم تعلمون أن عيسى عليه السلام كان ينام والله تعالى لا ينام وإنه يأكل ويشرب والله منزه عن ذلك وفي الآية إشارة إلى غلبة القوى الروحانية على القوى النفسانية لأن القوى الروحانية مؤمنون متنورون بنور الله متقون عما سوى الله تعالى والقوى النفسانية كافرون مظلمون بظلمة الأكوان متلوثون بالعلاقات المختلفة ولا شك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون فبنور الإسلام والإيمان والتقوى والهدى يزيل ظلمة الشرك والكفر والتعلق والهوى مع أن أهل الإيمان وإن كانوا أقل من أهل الكفر في الظاهر لكنهم أكثر منهم في الباطن فهم السواد الأعظم والمظاهرالجمالية.
واعلم أن الجهاد دائم باق ماض إلى يوم القيامة أنفساً وآفاقاً لأن الدنيا مشتملة على أهل الجمال والجلال وكذا الوجود الإنساني ما دام في هذا الموطن فإذا صار إلى الموطن الآخر فأما أهل جمال فقط وهو في الجنة وأما جلال فقط وهو في النار والله يحفظنا وإياكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493(9/412)
وقال الكاشفي : وف يالواقع نصرت كردند دين عيسى رابعد از رفع وى وخلق را بخدا دعوت نمودند.
فالحواريون كانوا قصارين وقيل كانوا صيادين قال بعض العلماء إنما سموا حواريين لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين أو لأنهم كانوا يطهرون نفوسهم الناس بإفادتهم الدين والعلم المشار إليه بقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً وإنما قيل كانوا قصارين على التمثيل والتشبيه وإنما قيل كانوا صيادين لاصطيادهم تفوس الناس وقودهم إلى الحق وقوله عليه السلام الزبير ابن عمتي وحواريي وقوله يوم الأحزاب من يأتيني بخبر القوم فقال الزبير : أنا فقال عليه السلام : إن لكل نبي حوارياً وحواريي الزبير فشبهه بهم في النصرة وقال بعض المفسرين دل الحديث على أن الحواريين ليسوا بمختصين بعيسى إذ هو في معنى الأصحاب الأصفياء وقال معمر رضي الله عنه : كان بحمد الله لنبينا عليه السلام حواريون نصره حسب طاقتهم وهم سبعون رجلاً وهم الذين بايعوه ليلة العقبة وقال السهيلي كونوا أنصاراًفكانوا أنصاراً وكانوا حواريين والأنصار الأوس والخزرج ولم يكن هذا الاسم قبل الإسلام حتى سماهم الله به وكان له عليه السلام حواريون أيضاً من قريش مثل الخلفاء الأربعة والزبير وعثمان بن مظغون وحمز بن عبد المطلب وجعفر ابن أبي طالب ونحوهم يا اأَيُّهَا الَّذِينَ} أي جماعة وهي أقل من الفرقة لقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة {مِّنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي آمنوا بعيسى وأطاعوه فيما أمرهم به من نصرة الذين {وَكَفَرَت طَّآااِفَةٌ} أخرى به وقاتلوه {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي قوينا مؤمني قومه بالحجة أو بالسيف وذلك بعد رفع عيسى {عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي على الذين كفروا وهو الظاهر فإيراد العدو أعلام منه إن الكافرون عدو للمؤمنين
511
عداوة دينية وقيل لما رفع عيسى عليه السلام تفرق القوم ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه الله إليه وفرقة قالوا كان عليه السلام ورسوله فرفعه الله وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم {فَأَصْبَحُوا} صاروا {ظَاهِرِينَ} غالبين عالين يقال ظهرت على الحائط علوته وقال قتادة فأصبحوا طاهرين بالحجة والبرهان كم سبق لأنهم قالوا فيما روي ألستم تعلمون أن عيسى عليه السلام كان ينام والله تعالى لا ينام وإنه يأكل ويشرب والله منزه عن ذلك وفي الآية إشارة إلى غلبة القوى الروحانية على القوى النفسانية لأن القوى الروحانية مؤمنون متنورون بنور الله متقون عما سوى الله تعالى والقوى النفسانية كافرون مظلمون بظلمة الأكوان متلوثون بالعلاقات المختلفة ولا شك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون فبنور الإسلام والإيمان والتقوى والهدى يزيل ظلمة الشرك والكفر والتعلق والهوى مع أن أهل الإيمان وإن كانوا أقل من أهل الكفر في الظاهر لكنهم أكثر منهم في الباطن فهم السواد الأعظم والمظاهرالجمالية.
واعلم أن الجهاد دائم باق ماض إلى يوم القيامة أنفساً وآفاقاً لأن الدنيا مشتملة على أهل الجمال والجلال وكذا الوجود الإنساني ما دام في هذا الموطن فإذا صار إلى الموطن الآخر فأما أهل جمال فقط وهو في الجنة وأما جلال فقط وهو في النار والله يحفظنا وإياكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 493
تفسير سورة الجمعة
إحدى عشرة آية مدنية
جزء : 9 رقم الصفحة : 511
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} جميعاً من حي وجامد تسبيحاً مستمرة فما في السموات هي البدائع العلوية وما في الأرض هي الكوائين السفلية فللكل نسبة إلى الله تعالى بالحياة والتسبيح {الْمَلِكِ} ادشاهى كه ملك او دائمست وبى زوال {الْقُدُّوسِ} اك از سمت عيب وصفت اختلال {الْعَزِيزِ} الغالب على كل ما أراد {الْحَكِيمِ} صاحب الحكمة البديعة البالغة وقد سبق معاني هذه الأسماء في سورة الحشر والجمهور على جر الملك وما بعده على أنها صفات لاسم الله عز وجل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
يقول الفقير : بدأ الله تعالى هذه السورة بالتسبيح لما فيها من ذكر البعثة إذا خلاء العالم من المرشد معاف للحكمة ويجب تنزيه الله عنه ولما اشتملت عليه من بيان ادعاء اليهود كونهم أبناء الله وأحباءه ولما ختمت به من ذكر ترك الذكر واستماع الخطبة المشتملة على الدعاء والحمد والتسبيح ونحو ذلك.
وفي التأويلات النجمية يعني ينزه ذاته المقدسة
512(9/413)
ما في سموات المفهوم من مفهومات العامة ومفهومات الخاصة ومفهومات أخص الخاصة وما في أرض المعلوم من معلومات العامة ومعلومات الخاصة ومعلومات أخص الخاصة وإنما أضفنا السموات إلى المفهوم وأضفنا الأرض إلى المعلوم لفوقية رتبة الفهم على رتبة العلم وذلك قوله ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماء ويدل على ذلك إصابة سليمان حقيقة المسألة المخصوصة بحسب نور الفهم لا بحسب قوة العلم وهو العزير الذي يعزيز من يشاء بخلعة نور الفهم الحكيم الذي يشرف من يشاء بحكمته بلبسه ضياء العلم {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ} جمع أمي منسوب إلى أمة العرب وهم قسمان فعرب الحجاز من عدنان وترجع إلى إسماعيل عليه السلام وعرب اليمن ترجع إلى قحطان وكل منهم قبائل كثيرة والمشهور عند أهل التفسير أن الأمي من لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وعند أهل الفقه من لا يعلم شيئاً من القرآن كأنه بقي على ما تعلمه من أمه من الكلام الذي يتعلمه الإنسان بالضرورة عند المعاشرة والنبي الأمي منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا لكونه على عادتهم كقولك عامي لكونه على عادة العامة وقيل سمي بذلك لأنه لم يكتب ولم يقرأ من كتاب وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله له عنه بقوله سنقرئك فلا تنسى وقيل سمي بذلك لنسبته إلى أم القرى وفي كشف الأسرار سمي العرب أميين لأنهم كانوا على نعت أمهاتهم مذ كانت بلا خط ولا كتاب نسبوا إلى ما ولدوا عليه من أمهاتهم لأن الخط والقراءة والتعليم دون ما جبل الخلق عليه ومن يحسن الكتابة من العرب فإنه أيضاً أمي لأنه لم يكن لهم في الأصل خط ولا كتابة قيل بدئت الكتابة بالطائف تعلمها ثقيف وأهل الطائف من أِل الحيرة بكسر الحاء وسكون المثناة من تحت بلد قرب الكوفة وأهل الحيرة أخذوها من أهل الأنبار وهي مدينة قديمة على الفرات بينها وبين بغداد عشرة فراسح ولم يكن في أصحاب رسول الله عليه السلام كاتب إلا حنظلة الذي يقال له غسيل الملائكة ويسمى حنظلة الكاتب ثم ظهر الخط في الصحابة بعد في معاوية بن سفيان وزيد بن ثابت وكانا يكتبان لرسول الله عليه السلام وكان له كتاب أيضاً غيرهما واختلفوا في رسول الله عليه السلام أنه هل تعلم الكتاب بآخرة من عمره أولاً لعلمائنا فيه وجهان وليس فيه حديث صحيح ولما كان الخط صنعة ذهنية وقوة طبيعية صدرت بالآلة الجسمانية لم يحتج إليه من كان القلم الأعلى يخدمه واللوح المحفوظ مصحفه ومنظره وعدم كتابته مع علمه بها معجزة باهرة له عليه السلام إذ كان يعلم الكتاب علم الخط وأهل الحرف حرفتهم وكان أعلم بكل كمال أخروي أو دنيوي من أهله ومعنى الآية هو الذي بعث في الأميين أي في العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرأون من بين الأمم فغلب الأكثر وإنما قلنا أكثرهم لأنه كان فيهم من يكتب ويقرأ وإن كانوا على قلة
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
{رَسُولا} كائناً {مِنْهُمْ} أي من جملتهم ونسبهم عربياً أمياً مثلهم.
تارسالت اوازتهمت دور باشده فوجه الامتنان مشاكلة حاله لأحوالهم ونفي التعلم من الكتب فهم يعملمون نسبه وأحواله.
ودر كتاب شعيا عليه السلام مذكور است كه انى ابعث امياً في الأميين واختم به النبيين.
قال الكاشفي : ودر اميت
513
آن حضرت عليه السلام نكتهاست ايجا بسه بيت اختصار ميررد :
فيض ام الكتاب روردش
لقب امى ازان خدا كردش
لوح تعليم نا كرفته ببر
همه زاسرار لوح داده خبر
برخط اوست انس وجانراسر
كه نخواندست خط ازان ه خطر
(9/414)
والبعث في الأميين لا ينافي عموم دعوته عليه السلام فالتخصيص بالذكر لا مفهوم له ولو سلم فلا يعارض المنطوق مثل قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس على أنه فرق بين البعث في الأميين والبعث إلى الأميين فبطل احتجاج أهل الكتاب بهذه الآية على أنه عليه السلام كان رسول الله إلى العرب خاصة ورد الله بذلك ما قال اليهود للعرب طعناً فيه نحن أهل الكتاب وأنتم أميون لا كتاب لكم {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ} أي القرآن مع كونه أمياً مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم والفرق بين التلاوة والقرآن أن التلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة والأوراد المظفة والقراءة أعم لأنها جمع الحروف باللفظ لا اتباعها {وَيُزَكِّيهِمْ} صفة أخرى لرسولا معطوفة على يتلو أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء من خبائث العقائد والأعمال وفيه إشارة إلى قاعدة التسليك فإن المزكي في الحقيقة وإن كان هو الله تعالى كما قال بل الله يزكي من يشاء إلا أن الإنسان الكامل مظهر الصفات الإلهية جميعاً ويؤيد هذا المعنى إطلاق نحو قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} قال في الإرشاد صفة أخرى لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصلة بالعلم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعي ترتيب الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزاً إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة انتهى وقال بعضهم : ويعلمهم القرآن والشريعة وهي ما شرع الله لعباده من الأحكام أو لفظه ومعناه أو القرآن والسنة كما قاله الحسن أو الكتاب الخط كما قاله ابن عباس أو الخير والشر كما قاله ابن إسحاق والحكمة الفقه كما قاله مالك أو العظة كما قاله الأعمش أو كتاب أحكام الشريعة وأسرار آداب الطريقة وحاصل معانيه الحكمية والحكمية ولكن تعليم حقائق القرآن وحكمه مختص بأولى الفهم وهم خواص الأصحاب رضي الله عنهم وخواص التابعين من بعدهم إلى قيام الساعة لكن معلم الصحابة عموماً وخصوصاً هو النبي عليه السلام بلا واسطة ومعلم التابعين قرناً بعد قرن هو عليه السلام أيضاً لكن بواسطة ورثة أمته وكمل أهل دينه وملته ولو لم يكن سوى هذا التعليم معجزة لكفاه قال البوصري في القصيدة البردية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية والتأديب في اليتيم
أي كفاك العلم الكائن في الأمي في وقت الجاهلية وكفاك أيضاً تنبيهه على الآداب لعلمه
514
بها في وقت اليتيم معجزة {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} إن ليست شرطية ولا نافية بل هي المخففة واللام هر الفارقة بينها وبين النافية والمعنى وأن الشأن كان الأميون من قبل بعثته ومجيئه لفي ضلال مبين من الشرك وخبث الجاهلية لا ترى ضلالاً أعظم منه وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإزاحة لما عسى يتوهم من تعلمه عليه السلام من الغير فإن المبعوث فيهم إذا كانوا في ضلال قبل البعثة زال توهم أنه تعلم ذلك من أحد منهم قال سعدي المفتي : والظاهر أن نسبة الكون في الضلال إلى الجميع من باب التغليب وإلا فقد كان فيهم مهتدون مثل ورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهم ممن قال رسول الله عليه السلام في كل منهم يبعث أمة وحده.
(9/415)
يقول الفقير : هو اعتراض على معنى الإزاحة المذكورة لكنه ليس بشيء فإن اهتداء من ذكره من نحو ورقة إنما كان في باب التوحيد فقط فقد كانوا في ضلال من الشرائع والأحكام ألا ترى إلى قوله تعالى : ووجدك ضالاً فهدى مع أنه عليه السلام لم يصدر منه قبل البثة شرك ولا غيره من شرب الخمر والزاني واللغو واللهو فكونهم مهتدين من وجه لا ينافي كونهم ضالين من وجه آخر دل على هذا المعنى قوله تعالى يتلو عليهم الخ فإن بالتلاوة وتعليم الأحكام والشرائع حصل تزكية النفس والنجاة من الضلال مطلقاً فاعرفه {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ} جمع آخر بمعنى غير وهو عطف على الأميين أي بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين أو على المنصوب في يعلمهم أي يعلمهم ويعلم آخرين منهم وهم الذين جاءوا من العرب فمنهم متعلق بالصفة لآخرين أي وآخرين كائنين منهم مثلهم في العربية والأمية وإن كان المراد العجم فمنهم يكون متعلقاً بآخرين.
قال الكاشفي : أصح اقوال آنست كه هركه باسلام در آمده ودرمى آيد بعد از وفات آن حضرت عليه السلام همه درين آخرين داخلند.
فيكون شاملاً لكل من أسلم وعمل صالحاً إلى يوم القيامة من عربي وعجمي وفي الحديث : "إن في أصلاب رجال من أمتي رجالاً ونساء يدخلون الجنة بغير حساب" ثم تلا الآية {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} صفة لآخرين أي لم يلحقوا بالأميين بعد ولم يكونوا في زمانهم وسيلحقونه بهم ويكونون بعدهم عرباً وعجماً وذلك لما أن منفي لما لا بد أن يكون مستمر النفي في الحال وأن يكون متوقع الثبوت بخلاف منفي لم فانه يحتمل الاتصال نحو ولم أكن بدعائك رب شقيا والانقطاع مثل لم يكن شيئاً مذكوراً ولهذا جاز لم يكن ثم كان ولم يجز لما يكن ثم كان بل يقال لما يكن وقد يكون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
ـ روي ـ سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : رأيتني أسقي غنماً سوداً ثم أتبعتها غنماً عفراً أولها يا أبا بكر فقال : يا نبي الله أما السود فالعرب وأا العفر فالعجم تتبعك بعد العرب فقال عليه السلام : كذلك أولها الملك يعني جبرائيل عليه السلام يقال شاة عفراء يعلو بياضها حمرة ويجمع على عفر مثل سوداء وسود وقيل لما يلحقوا بهم في الفضل والمسابقة لأن التابعين لا يدركون شيئاً مع الصاحبة وكذلك العجم مع العرب ومن شرائط الدين معرفة فضل العرب على العجم وحبهم ورعاية حقوقهم وفي الآية دليل على أن رسول الله
515
صلى الله عليه وسلّم رسول نفسه وبلاغه حجة لأهل زمانه ومن بلغ لقوله تعالى ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المبالغ في العزة والغلبة ولذلك مكن رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم {الْحَكِيمِ} المبالغ في الحكمة ورعاية المصلحة ولذلك اصطاه من بين كافة البشر {ذَالِكَ} الذي امتاز به من بين سائر الأفراد وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر {فَضْلِ اللَّهِ} وإحسانه {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} تفضلاً وعطية لا تأثير للأسباب فيه فكان الكلام من صرفاً لا تمازجه العلل ولا تكسبه الحيل {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الذي يستحقر دونه نعم الدنيا ونعيم الآخرة وفي كشف الأسرار والله ذو الفضل العظيم على محمد وذو الفضل العظيم على الخلق بإرسال محمد إليهم وتويقهم لمبايعته انتهى.
يقول الفقير وأيضاً والله ذو الفضل العظيم على أهل الاستعداد من أمة محمد بإرسال ورثة محمد في كل عصر إليهم وتوفيقهم للعمل بموجب إشاراتهم ولولا أهل الإرشاد والدلالة لبقي الناس كالعميان لا يدرون أين يذهبون وإنما كان هذا الفضل عظيماً لأن غايته والوصول إلى الله العظيم وقال بعض الكبار والله ذو الفضل العظيم إذ جمع الفضائل الأسمائية تحت الاسم الأعظم وهو جامع أحدية جميع الأسماء وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ذهب أهل الدثور بالأجور فقال : قولوا سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقالوها وقالها الأغنياء فقيل إنهم شاركونا قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وفي بعض الروايات إذا قال الفقير سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر مخلصاً وقال الغني مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير في فضله وتضاعف الثواب وإن أنفق الني معها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
نقنطار زر بخش كردن زكنج
نباشد و قيراطى ازدست رنج
(9/416)
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ} أي علموها وكلفوا العمل بها وهم اليهود ومثلهم صفتهم العجيبة {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي لم يعملوا بما في تضاعيفها من الآيات التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله عليه السلام واقتنعوا بمجرد قراءتها {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} الكاف فيه زائدة كما في الكواشي والمار حيوان عرو يعبر به عن الجاهل كقولهم هو أكفر من الحمير أي أجهل لأن الكفر من الجهالة فالتشبيه به لزيادة التحقير والإهانة ولنهاية التهكم والتوبيخ بالبلادة إذ الحمار يذكر بها والبقر وإن كان مشهوراً بالبلادة إلا أنه لا يلائم الحمل :
تعلم يا فتى فالجهل عار
ولا يرضى به إلا حمار
{يَحْمِلُ أَسْفَارَا} أي كتباً من العلم يتعب بحملهها ولا ينتفع بها ويحمل أما حال والعامل فيها معنى المثل أو صفة للحمار إذ ليس المراد معيناً فإن المعرف بلام العهد الذهني في حكم النكرة كما في قول من قال ولقد أمر على اللئيم يسبني والأسار جمع سفر بكسر السين وهو الكتاب كشبر وأشبار قال الراغب السفر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق أي يكشف وخص لفظ الأسفار في الآية تنبيهاً على أن التوراة وإن كانت تكشف عن معانيها إذا قرئت وتحقق ما فيها فالجاهل لا يكاد يستبينها كالحمار الحامل لها وفي القاموس السفر الكتاب الكبير أو جزء
516
من أجزاء التوراة وفي هذا تنبيه من الله على أن ينبغي لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به لئلا يلحقه من الدم ما لحق هؤلاء.
قال الشيخ سعدي : مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست نه ترتيل سورة مكتوب :
علم ندانكه بيشتر خوانى
ون عمل درتونيست ناداني
نه محقق بود نه دانشمند
ار ايى برو كتاي ند
آن تهى مغزرا ه علم وخبر
كه برو هيز مست با دفتر
وقال الكاشفي :
كت ايزد يحمل اسفاره
بار باشد علم كان نبود زهو
علمهاى اهل دل حمالشلن
لمهاى اهل تنن احمالشان
علم ون بردل زنديارى بود
علم ون كل زندبارى بود
ون بدل خوانى زحق كيرى سبق
ون بكل وانى سيه سازى ورق
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
وفي التأويلات النجمية يعني مثل يهود النفس في حمل توراة العلم والمعرفة بصحة رسالة القلب وعدم اتباع رسومه وأحكامه كمثل حمار البدن في مله أثقال الأمتعة النفسية والاقمشة الشريفة والملابس الفاخرة والطيالس الناعمة فكما أن حمار البدن لا يعرفها ولا يعرف شرفها ولا كرامتها كذلك يهود النفس لا تعرف رفعة رسول القلب ولا رتبته ونعم ما يحكى عن بعض الظراء إنه حضر دعوة لطعام فلم يلتفتوا إليه وأجلسوه في مكان نازل ثم إنه خرج واستعار ألبسة نفيسة وعاد إلى المجلس فلما رأوه على زي الأكابر عظموه وأجلسوه فوق الكل فلما حضر الطعام قال ذلك الظريف خطابا لكمه كل والكم لا يدري ما الطعام وأما اللذة لكن نظر أهل الصورة مقصور على الظاهر لا يرون الفضل إلا بالزخارف والزين فما أبعد هؤلاء عن إدراك المعاني والحقائق {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ} أي بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله لى أن التمييز محذوف والفاعل المفسر له مستتر والمذكور هو المخصوص بالذم وهم اليهود الذين كفروا بما في التوراة من الآيات الشاهدة بصحة نبوة محمد عليه السلام {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} الواضعن للتكذيب في موضع التصديق أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد باختيار الضلالة على الهداية والشقاوة على السعادة والعداوة على العناية كاليهود ونظائرهم وفيه تقبيح لهم بتشبيه حالهم بحال الحمار والمشبه بالقبيح قبيح وقد قال تعالى : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير فصوت الجاهل والمدعى منكر كصوت الحمار وأضل وأنزل فهو ضار محض وفي الحمار نفع لأنه يحمل الأثقال ويركبه النساء والرجال وقد قال في حياة الحيوان إن اتخذ خاتم من حافر الحمار الأهلي ولبسه المصروع لم يصرع ثم إن في الحمار شهوة زائدة على شهوات سائر الحيوانات وهي من الصفات الطبيعية البهيمية فمن أبدلها بالعفة نجا وسلم من التشبيه المذكور وكم ترى من تالعلماء الغير العاملين أن أعينهم تدور على نظر الحرام ومع ما لهم من النكاح يتجاوزون إلى الزنى لعدم إصلاح قوتهم الشهوية السريعة فإن الشريعة أقوالهم
517
لا أعمالهم وأحوالهم نسأل الله العصمة مما يوجب المقت والنقمة إنه ذو المنة والفضل والنعمة {قُلْ يا اأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} من هاد يهود إذا تهود أي تهودوا والتهود جهود شدن ودين جهود داشتن وبالفارسية ايشان كه جهود شديد وازراه راست بكشتيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
(9/417)
فإن المهاداة الممايلة ولذا قال بعض المفرين أي مالوا عن الإسلام والحق إلى اليهودية وهي من الأديان الباطلة كما سبق قال الراغب الهود الرجوع برفق وصار في التعارف التوبة قال بعضهم : يهود في الأصل من قولهم إنا هدنا إليك أي تبنا وكان اسم مد ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم وإن لم يكن فيه معنى المدح كما أن النصارى في الأصل من قولهم نحن أنصار الله ثم صار لازماً لهم بعد نسخ شريعتهم ثم إن الله تعالى خاطب الكفار في أكثر المواضع الواسطة ومنها هذه الآية لأنهم أدخلوا الواسطة يينهم وبين الله تعالى وهي الأصنام وأما المؤمنون فإن الله تعالى خاطبهم في أغلب المواضع بلا واسطة مثل يا أيها الذين آمنوا لأنه أسقطوا الوسائط فأسقط الله بينه وبينهم الواسطات {إِن زَعَمْتُمْ} الزعم هو القول بلا دليل والقول بأن الشيء على صة كذا قولا غير مستند إلى وثوق نحو زعمتك كريماً وفي القاموس الزعم مثلثة القول الحق والباطل والكذب ضد وأكثر ما يقال فيما يشك فيه انتهى.
فبطل ما قال بعضهم من أن الزعم بالضم بمعنى اعتقاد الباطل وبالفتح بمعنى قول الباطل قال الراغب الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلون به وقيل للمتكفل والرئيس زعيم للاعتقاد ي قولهم إنه مظنة للكذب {إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ} جمع ولي بمعنى الحبيب {مِن دُونِ النَّاسِ} صفة أولياء أي من دون الأميين وغيرهم ممن ليس من بني إسرائيل وقال بعضهم من دون المؤمنين من العرب والعجم يريد بذلك ما كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ويدعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً فأمر رسول الله عليه السلام بأن يقول لهم إظهاراً لكذبهم إن زعمتم ذلك {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أي فتمنوا من الله أن يميتكم من دار البلية إلى دار الكرامة وقولوا اللهم أمتنا والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وبالفارسية آرزو خواستن.
قال بعضهم : الفرق بين التمني والاشتهاء أن التمني أعم من الاشتهاء لأنه يكون في الممتنعات دون الاشتهاء {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليا من هذه الدار التي هي قرارة اكدار ولا يصل إليها أحد إلا بالموت قال البقلي جرب الله المدعين في محبته بالموت وأفرز الصادقين من بينهم لما غلب عليهم من شوق الله وحب الموت فتبين صدق الصادقين ههنا من كذب الكاذبين إذ الصادق يختار اللحوق إليه والكاذب يفر منه قال عليه السلام : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه قال الجنيد قدس سره : المحب يكون مشتاقاً إلى مولاه ووفاته أحب إليه من البقاء إذ علم أن فيه الرجوع إلى مولاه فهو يتمنى الموت أبداً
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
{وَلا يَتَمَنَّونَه أَبَدَا} إخبار بما سيكون منهم وأبداً ظرف بمعنى الزمان المتطاول
518
لا بمعنى مطلق الزمان والمراد به ما داموا في الدنيا وفي البقرة ولن يتمنوه لأن دعواهم في هذه السورة بالغة قاطعة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فبالغ في الرد عليهم بلن وهو أبلغ ألفاظ النفي ودعواهم في الجمعة قاصرة مترددة وهي زعمهم أنهم أولياء ا لله تعالى فاقصر على لا كما في برهان القرآن {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الباء متعلقة بما يدل عليه النفس أي يأبون التمني بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي الوجبة لدخول النار نحو تحريف أحكام التوراة وتغيير النعت النبوب وهم يعرفون أنهم بعد الموت يعذبون بمثل هذه المعاصي ولما كانت اليد بين جوارح الإنسان مناط عامة أفاعيله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدوة يعني أن الأيدي هنا بمعنى الذوات استعملت فيها لزيادة احتياجها إليها فكأنها هي {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم في كل أمورهم أي عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدي إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم أحد موته وفي الحديث : "لا يتمنين أحدكم الموت إما محسناً فإن يعش يزدد خيراً فهو خر له وإما مسيئاً فلعله إن يستعتب" أي يسترضي ربه بالتوبة والطاعة وما روي عن بعض أرباب المحبة من التمني فلغاية محبتهم وعدم صبرهم على الاحتراق بالافتراق ولا كلام في المشتاق المغلوب المجذوب كما قال بعضهم :
غافلان ازمرك مهلت خواستند
عاشقان كفتند نى نى زود بان
فللتمني أوقات وأحوال يجوز باعتبار ولا يجوز بآخر أما الحال فكما في الاشتياق الغالب وأما الوقت فكما أشار إليه قوله عليه السلام : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين فإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون.
(9/418)
ـ روي ـ أنه عليه السلام قال في حق اليهود لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي ثم إن الموت هو الفناء عن الإرادات النفسانية والأوصاف الطبيعية كما قال عليه السلام : موتوا قبل أن تموتوا فمن له صدق إرادة وطلب يحب أن يموت عن نفسه ولا يبالي سقط عن الموت أم سقط الموت عليه وإن كان ذلك مراً في الظاهر لكنه حلو في الحقيقة وفيه حياة حقيقية وشفاء للمرض القلبي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
ه خوش كت كروزدار وفروش
شفا بايدت داروى تلخ نوش
وأما من ليس له صدق إرادة وطلب فإنه يهرب من المجاهدة مع النفس ويشفق أن يذبح بقرة الطبيعة فهو عند الموت الطبيعي يقاسي من المرارات ما لا تفي ببيانه العبارات والله الحفيظ {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون على أن تتمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال كفركم {فَإِنَّه مُلَـاقِيكُمْ} البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه يعني بكير دشمارا وشربت آن بشيدوفرار سودى ندارد.
والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف أي باعتبار كون الموصوف بالموصوف في حكم الموصول أي إن فررتم من الموت فإنه ملاقيكم كأن الفرار سبب لملاقاته وسرعة لحقه إذ لا يجد الفار بركة في عمره بل يفر إلى جانب الموت فيلاقيه الموت ويستقبله وقد قيل إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة {ثُمَّ} أي بعد الموت الاضطراري الطبيعي {تُرَدُّونَ}
519
الرد صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله يقال رددته فارتد والآية من الرد بالذات مثل قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ومن الرد إلى حالة كان عليها قوله تعالى يردوكم على أدباركم {إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} الذي لا يخفى عليه أحوالكم أي ترجعون إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه وإنما وصف ذاته بكونه عالم الغيب والشهادة باعتبار أحوالهم الباطنة وأعمالهم الظاهرة وقد سبق تمام تفسيره في سورة الحشر {فَيُنَبِّئُكُم} س خبر دهد شمارا {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي والفواحش الظاهرة والباطنة بأن يجازيكم بها.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى الموت الإرادي الذي هو ترك الشهوات ودفع المستلذات الذي تجتنبون منه لضعف همتكم الروحانية ووهن نهمتكم الربانية فإنه ملاقيكم لا يفارقكم ولكن لا تشعرون به لأنهماككم في بحر الشهوات الحيوانية واستهلاككم في تبار مشتهياتكم الظلمانية فإنكم في لبس من خلق جديد ولا تزالون في الحشر والنشر كما قال وجاءهم الموج من كل مكان أي موج الموت في كل لذة شهية ونعمة نعيمه ثم تردون إلى عالم الغيب غيب النات وغيب الطويات القلبية السرية والشهادة شهادة الطاعات والعبادات فينبئكم أي فيجازيكم بما كنتم تعملون بالنية الصالحة القلبية أو بالنية الفاسدة النفسية انتهى وفيه إشارة إلى أنه كما لا ينفع الفرار من الموت الطبيعي كذلك لا ينفع الفرار من الموت الإرادي لكن ينبغي للعاقل أن يتنبه لفنائه في كل آن ويختار الفناء حباً للبقاء مع الله الملك المنان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
اعلم أن الفرار الطبيعي من الموت بمعنى استكراه الطبع وتنفره منه معذور صاحبه لأن الخلاص منه عسير جداً إلا للمشتاقين إلى لقاء الله تعالى.
ـ حكي ـ أنه كان ملك من الملوك أراد أن يسر في الأرض فدعا بثياب ليلبسها فلم تعجبه فطلب غيرها حتى لبس ما أعجبه بعد مرات وكذا طلب دابة فلم تعجبه حتى أتى بدواب فركب أحسنها فجاء إبليس فنفخ في منخره فملأه كبراف ثم سار وسارت معه الخيول وهو لا ينظر إلى الناس كبراً فجاءه رجل رث الهيئة فسلم فلم يرد عليه السلام فأخذ بلجام دابته فقال : ارسل اللجام فقد تعاطيت أمراً عظيماً قال : إن لي إليك حاجة قال : اصبر حتى أنزل قال : لا إلا الآن فقهره على لجام دابته قال اذكرها قال هو سر فدها إليه فساره وقال : أنا ملك الموت فتغير لون الملك واضطرب لسانه ثم قال : دعني حتى أرجع إلى أهلي وأقضي حاجتي فأودعهم قال : لا والله لا ترى أهلك ومالك أبداً فقبض روحه فخر كأنه خشبة ثم مضى فلقي عبداً مؤمناً في تلك الحال فسلم فرد عليه السلام فقال : إن لي إليك حاجة أذكرها في أذنك فقال : هات فساره أنا ملك الموت فقال : مرحباً وأهلاً بمن طالت غيبته فوالله ما كان في الأرض غائب أحب إلي أن ألقاه منك فقال ملك الموت اقض اجتك التي خرجت لها فقال ما لي حاجة أكبر عندي وإلا أحب من لقاء الله قال فاختر علي أي حالة شئت أن أقبض روحك فقال : أتقدر على ذلك قال : نعم إني أمرت بذلك قال : فدعني تى أتوضأ وأصلي فأقبض روي وأنا ساجد فقبض روحه وهو ساجد.
وفي المثنوي :
س رجال از نقل عالم شادمان
وز بقايش شادمان اين كودكان
ونكه آب خوش نديد آن مرغ كور
يش او كوثر نمايد آب شور
520
(9/419)
وأما الفرار العقلي بمعنى استكراهه الموت أو بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان فالأول منهما إن كان من الانهماك في حظوظ الدنيا فمذموم وإن كان من خوف الموقف فصاحبه معذور كما حكي أن سليمان الداراني قدس سره قال : قلت لأمي أتحبين الموت قالت : لا قلت لم؟ قالت : لأني لو عصيت آدمياً ما اشتهيت لقاءه فكيف أحب لقاءه وقد عصيته وقس عليه الاستكراه رجاء الاستعداد لما بعد الموت وأما الثاني منهما فغير موجه عقلاً ونقلاً إذ المشاهدة تشهد أن لا مخلص من الموت فأينما كان العبد فهو يدرك وأما الفرار من بعض الأسباب الظاهرة للموت كهجوم النار المحرقة للدور والسيل المفرط في الكثرة والقوة وحمل العدو الغالب والسباع والهوام إلى غير ذلك فالظاهر أنه معذور فيه بل مأمور وأما الفرار من الطاعون فما يرجحه العقل والنقل عدم جوازه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
أما العقل فما قاله الإمام الغزالي رحمه الله من أن سبب الوباء في الطب الهواء المضر وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر ولا خلاف أنه غير منهي عنه إلا أن الهواء لا يضر ن حيث أنه يلاقي ظاهر البدن من حيث دوام الاستنشاق له فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاء فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في البطان فالخروج من البلد لا يخلص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل ولكنه يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقي والطيرة وغيرهما وأنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون انكسرت قلوبهم ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهم بأنفسهم فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً وخلاصهم منتظر كما أن خلا الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقام قاطعة لهم بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً والمؤمنون كالجسد الواد إذا اشتكى منه عضو تداعى إلى الاشتكاء سائر أعضائه هذا هو الذي يظهر عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيما إذا لم يقدم بعد على البلد فإنه لم يؤثر الهواء في باطنه وليس له حاجة إليهم.
وأما النقل فقوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجو من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فإنه إنكار لخروجهم فراراً منه وتعجيب بأنهم ليعتبر العقلاء بذلك ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله فالمنهى عنه هو الخروج فراراً فإن الفرار من القدر لا يغني شيئاً وفي الحديث : "الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه له أجر شهيد" وفي الحديث يختصم الشهداء والمتوفون على فراشهم إلى ربنا عز وجل في الذين يتوفون في الطاعون فيقول الشهداء إخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون إخواننا ماتوا على فراشهم كما متنا فيقول ربنا انظروا إلى جراحهم فإن أبهت جراحهم جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
يقول الفقير : دل عليه قوله عليه السلام في الطاعون إنه وخز أعدائكم من الجن والوخز طعن ليس بنافذ والشيطان له ركض وهمز ونفث ونفخ ووخز والجنى إذا وخز العرق من مراق البطن أي مارق منها ولان خرج من وخزه الغدة وهي التي تخرج في اللحم فيكون وخز الجنى سبب الغدة الخارجة فحصل
521
(9/420)
التوفيق بين حديث الوخز وبين قوله عليه السلام غدة كغدة البعير تخرج من مراق البطن وباقي ما يتعلق بالطاعون سبق في سورة البقرة وقد تكفل بتفايله رسالة الشفاء لأدواء الوباء لابن طاش كبرى فارجع يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ} النداء رفع الوت وظهوره ونداء الصلاة مخصوص في الشرع بالألفاظ المعروفة والمراد بالصلاة صلاة الجمعة كما دل عليه يوم الجمعة والمعنى فعل النداء لها أي أذن لها والمعتبر في تعلق الأمر الآتي هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الأعلام به لا الأان بين يدي المنبر وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على با المسجد فإذا نزل أقام الصلاة ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنه وكثرت الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر فأمر بالتأذين الأول على دار له بالسوق يقال لها الزوراء ليسمع الناس فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه {مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} بضم الميم وهو الأصل والسكون تخفيف منه ومن بيان لإذا وتفسير لها أي لا بمعنى أنها لبيان الجنس على ما هو المتبادر فإن وقت النداء جزء من يوم الجمعة لا يحمل عليه فكيف يكون بياناً له بل المقصود أنها لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فتجامع كونها بمعنى في كما ذهب إليه بعضهم وكونها للتبعيض كما ذهب إليه البعض الآخر وإنما سمي جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة فهو على هذا الاسم إسلامي وقيل أول من سماه جمعة كعب بن لؤي بالهمزة تغير لأي سماه بها لاجتماع قريش فيه إليه وكانت العرب قبل ذلك تسميه العروبة بمعنى الظهور وعروبة وباللام يوم الجمعة كما في القاموس وقان ابن الأثير في النهاية الأفصح أنه لا يدخلها الألف واللام وقيل إن الأنصار قالوا قبل الهجرة لليهود يوم يجمعون فيه في كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعة إلى سعد بن زرارة رضي الله عنه بضم الزاي فصلى بهم ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه وحين اجتمعوا ذبح لهم شاة فتعشوا وتغذوا منها لقلتهم وبقي في أكثر القرى التي يقال فيها الجمعة عادة الاطعام بعد الصلاة إلى يومنا هذا فأنزل الله آية الجمعة فهي أول جمعة في الإسلام وإما أول جمعة جمعها رسول الله عليه السلام فهي إنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قبا على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لا ثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين امتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ الإسلامي فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء والخمسي وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمع في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً فخطب وصلى الجمعة وهي أول خطبة خطبها بالمدين وقال فيها : "الحمدوأستعينه وأستهديه وأومن به ولا أكفره وأعادي من يكفر به وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور
522
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
(9/421)
والموعظة والحكم على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالاً بعيداً أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصي به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله واحذر ما ذركم الله من نفسه فإن تقوى من عمل به ومخافته من ربه عنوان صدق على ما يبغيه من الآخرة ومن يصلح الذي بينه وين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكراً عاجل أمره وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد هو الذي صدق قوله وأنجز وعده ولا خل لذلك فإنه يقول ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه ما يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة وييي من حي عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت فإن من يصلجح ما بينه وبينه الله يكفر الله ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ويقضون عليه ويملك من الناس ولا يملكون منه الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" انتهت الخطبة ثم إن هذه الآية رد لليهود في طعنهم للعرب وقولهم لنا السبت ولا سبت لكم {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال الراغب : السعي المشي السريع وهو دون العدو أي امشوا واقصدوا إلى الخطبة والصلالة لاشتمال كل منهما على ذكر الله وما كان ن ذكر رسول ولله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان وهو ن ذكر الله على مراحل كا في الكشاف وبالفارسية رغبت كنيد بدان وسعى نماييد دران.
وعن الحسن رحمه الله أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنيات والخشوع والابتكار ولقد ذكر الزمخشري في الابتكار قولاً وافياً حيث قال وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة أي مملوءة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج وفي الحديث إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم فإذا خرج الإمام طويت الصحف واجتمعوا للخطبة والمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي شاة حتى ذكر الدجاجة والبيضة وفي عبارة السعي إشارة إلى النهي عن التثاقل وحث على
523
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
(9/422)
الذهاب بصفاء قلب وهمة لا بكسل نفس وغمة وفي الحديث إذا أذن المؤذن أي في الأوقات الخمسة أدبر الشيطان وله حصاص وهو بالضم شدة العدو وسرعته وقال حماد بن سلمة قلت لعاصم ابن أبي النجود ما الحصاص قال أما رأيت الحمار إذا أصر بأذنه أي ضمهما إلى رأسه ومصع بذنبه أي حركه وضرب به وعداً أي أسرع في المشي فذلك حصاصه وفيه إشارة إلى أن ترك السعي في فعل الشيطان وهذا بالنسبة إلى غير المريض والأعمى والعبد والمرأة والمقعد والمسافر فإنهم ليسوا بمكلفين فهم غير منادين أي لا سعي من المرضى والمزمني والعميان وقد قال تعالى : فاسعوا وأما النسوان فهو أمرن بالقرار في البيوت بالن والعبد والمسافر مشغولان بخدمة المولى والنقل قا النصر آبادى العوام في قضاء الحوائج في الجمعات والخوا في السعي إلى ذكره لعلمهم بأن المقادير قد جرت فلا زيادة ولا نقصان وقال بعضهم : الذكر عند المذكور حجاب والسعي إلى ذكر الله مقام المريدين يطلبون من المذكرو محل قربة إليه والدنو منه وأما المحقق في المعرة وقد غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلي نفسه لقلبه {وَذَرُوا الْبَيْعَ} يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به ولم يستعمل ماضيه وهو وذر أي اتركوا المعاملة فالبيع مجاز عن المعاملة مطلقاً كالشراء والإجارة والمضاربة وغيرها ويجوز إبقاء البيع على حقيقته ويلق به غيره بالدلالة وقال بعضهم : النهي عن البيع يتضمن النهي عن الشراء لأنهما متضايقان لا يعقلان إلا معاً فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر وأراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا وإنما خص البيع والشراء من بينها لأن يوم الجمعة يوم تجمع فيه الناس من كل ناحية فإذا دنا وقت الظهيرة يتكاثر البيع والشراء فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل لهم بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع نمه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسر وربحه قليل {ذَالِكُمْ} أي السعي إلى ذكر الله وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} من مباشرته فإن نفع الآخرة أجل وأبقى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الخبر والشر الحقيقيين روي أنه عليه السلام خطب فقال : إن الله افترض عليكم الجمعة في يومي هذا وفي مقامي هذا فمن تركها في حياتي وبعد مماتي وله إمام عادل أو جائر من غير عذر فلا بارك الله له ولا جمع الله شمله ألا فلا حج له ألا فلا صوم له ومن تاب تاب الله عليه
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ} التي نوديتم لها أي أديت وفرغ منها {فَانتَشِرُوا فِى الأرْضِ} لإقامة مصالحكم والتصرف في حوائجكم أي تفرقوا فيها بأن يذهب كل منكم إلى موضع فيه حاجة من الحوائج المشروعة التي لا بد من تحصيلها للمعيشة فإن قلت ما معنى هذا الأمر فإنه لو لبث في المسجد إلى الليل يجوز بل هو مستحب فالجواب أن هذا أمر الرخصة لا أمر العزيمة أي لا جنا عليكم في الانتشار بعدما أديتم حق الصلاة {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} أي الربح يعني اطلبوا لأنفسكم وأهليكم من الرزق الحلال بأي وجه يتيسر لكم من التجارة وغيرها من المكاسب المشروعة دل على هذا المعنى سبب نزول قوله وإذا رأوا تجارة الخ كما سيأتي
524
فالأمر للإطلاق بعد الحظر أي للإباحة لا للإيجاب كقوله وإذا حللتم فاصطادوا وذكر الإمام السرخسي أن الأمر للإيجاب لما روي أنه عليه السلام قال : طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة وقيل إنه للندب فعن سعيد بن جبير إذا نصرفت من الجمعة فساوم بشيء وإن لم تشتره وعن ابن عباس رضي الله عنهما لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عبادة المرضى وحضور الجنائز وزيادة أخ في الله وعن الحسن وسعيد بن المسيب طلب العلم.
كما قال الكاشفي : وكفته اند انتشارهم در زمين مسجداست جهت رفتن بمجلس علما ومذكران.
وقيل : صلاة التطوع والظاهر أن مثل هذا إرشاد للناس إلى ما هو الأولى ولا شك في أولوية المكاسب الأخروية مع أن طلب الكفاف من الحلال عبادة وربما يكون فرضاً أن الاضطرار {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالجنان واللسان جميعاً {كَثِيرًا} أي ذكراً كثيراً أو زماناً كثيراً ولا تخصوا ذكره تعالى بالصلاة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
(9/423)
يقول الفقير : إنما أمر تعالى بالذكر الكثير لأن الإنسان هو العالم الأصغر المقابل للعالم الأكبر وكل ما في العالم الأكبر فإنه يذكر الله تعالى بذكر مخصوص له فوجب على أهل العالم الأصغر أن يذكروا الله تعالى بعدد أذكار أهل العالم الأكبر حتى تتقابل المرأتان وينطبق الإجمال والتفصيل فإن قلت فهل في وسع الإنسان أن يذكر الله تعالى بهذه المرتبة من الكثرة قلت : نعم إذا كان من مرتبة السر بالشهود التام والحضور الكامل كما قال أبو يزيد البسطامي قدس ره الذكر الكثير ليس بالعدد لكنه بالحضور انتهى وقد يقيم الله القليل مقام الكثير كما روي أن عثمان رضي الله عنه صعد المنبر فقال : الحمد فارتج عليه فقال : إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يعدان لهذا المقام مقالاً وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال وستأتيكم الخطب ثم نزل ومنه قال إمامنا الأعظم أبو حنيفة رحمه الله : إن اقتصر الخطيب على مقدار ما يسمى ذكر الله كقوله الحمد سبحان الله جاز وذلك لأن الله تعالى سمي الخطبة ذكراً له على أنا نقول قوله عثمان أن أبا بكر وعمر الخ كلام أن كلام في باب الخطبة لاشتماله على معنى جليل فهو يجامع قول صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة وهذا مما لا يتنبه له أحد والحمد على إلهامه وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه الذكر ذاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكر ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح والذكر بهذا المعنى يتحقق في جميع الأحوال قال تعالى : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله والذكر الذي أمر بالسعي إليه أولا هو ذكر خاص لا يجامع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة أمر به أولاً ثم قال : إذا فرغتم منه فلا تتركوا طاعته في جميع ما تأتونه وتذكرونه {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزوا بخير الدارين.
الحاصل ذكروي موجب جمعيت ظاهر وباطن وسبب نجات دنيا وآخرتست :
از ذكر خدا مباش يكدم غافل
كز ذكر بود خير دو عالم حاصل
ذكر است كه اهل شوق رادرهمه حال
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
آسايش جان باشد وآرامش دل
525
(9/424)
وفي التأويلات النجمية إذا حصلت لكم يا أهل كمال الإيمان لذوقي العياني صلاة الوصلة والجمعية والبقاء والفناء فسيروا في أرض البشرية بالاستمتاع بالشهوات المباحة والاسترواح بالروائح الفائحة والمراتعة في المراتع الأرضية وابتغوا من فضل الله من التجارات المعنوي الرابحة واذكروا نعم الله عليكم الظاهرة من الفناء من ناسوتيتكم الظلمانية والباطنة من البقاء بلاهوتيته النورانية لعلكم تفوزون بهذه النعم الظاهرة والباطنة بإرشاد الطالبين الصادقين المتوجهين إلى الله بالروح الصافي والقلب الوافي قال في الأشباه والنظائر اختص يوم الجمعة بأحكام لزوم صلاة الجمعة واشتراط الجامعة لها وكونها ثلاثة سوء الإمام والخطبة لها وكونها قبلها شرط وقراءة السورة المخصوصة لها وتحريم السفر قبلها بشرطه واستنان الغسل لها والطيب ولبس الأحسن وتقليم الأظفار وحلق الشعر ولكن بعدها أفضل والبخور في المسجد والتبكير لها والاشتغال بالعبادة إلى خروج الخطيب ولا يسن الابراد بها ويكره افراده بالصوم وافراد ليلته بالقيام وقراءة الكهف فيه ونفي كراهة النافلة وقت الاستواء على قول أبي يوسف المصحح المعتمد وهو خير أيام الأسبوع ويوم عيد وفيه ساعة إجابة وتجتمع فيه الأرواح وتزار فيه القبور ويأمن الميت فيه من عذاب القبر ومن مات فيه أو في ليلته أمن من فتنة القبر وعذابه ولا تسجر فيه جهنم وفيه خلق آدم وفيه أخرج من الجنة وفيه تقوم الساعة وفيه بزور أهل الجنة ربهم سبحانه وتعالى انتهى وإذا وقعت الوقعة بعرفة يوم الجمعة ضوعف الحج سبعين لأن حج الوداع كان كذلك ذكره في عقد الدرر واللآلي {وَإِذَا رَأَوْا} أي علموا {تِجَـارَةً} هي تجارة دحية بن خليفة الكلبي {أَوْ} سمعوا {لَهْوًا} هو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه يقال ألهى عن كذا إذا أشغله عما هو أهم والمراد هنا صوت الطبل ويقال له اللهو الغليظ وكان دحية إذا قدم ضرب الطبل ليعلم به.
كما قال الكاشفي : وكاروان ون رسيدي طبل شادى زدندى.
كما كما يرمي أصحاب السفينة في زماننا البنادق وما يقال له بالتركي.
طو.
أو كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها أي أهلها بالطبول والدفوف والتصفيق وهو المراد باللهو {انفَضُّوا إِلَيْهَا} الفض كسر الشيء وتفريق بين بعضه وبعض كفض ختم الكتاب ومنه استعير انقض القوم أي تفرقوا وانتشروا كما في تاج المصادر والانفضاض شكسته شدن ورا كنده شدن.
وحد الضمير لأن العطف بأولا يثنى معه الضمير وكان المناسب إرجاعه إلى أحد الشيئين من غير تعيين إلى أن تخصيص التجارة برد الكناية إليها لأنها المقصودة أو للدلالة على أنالانفضاض إليها مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ويجوز أن يكون الترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته فإذا كان الطبل من اللهو وإن كان غليظاً فما ظنك بالمزمار ونحوه وقد يقال الضمير للرؤية المدلول عليها بقوله رأوا وقرىء إليهما على أن أو للتقسيم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
ـ روي ـ إن دحية بن خليفة الكلبي قدم المدينة بتجارة من الشام وكان ذلك قبل إسلامه وكان بالمدينة مجاعة وغلاء سعر وكان معه جميع ما يحتاج إليه من بر ودقيق وزيت وغيرها والنبي
526
عليه السلام يخطب يوم الجمعة فلما علم أهل المسجد ذلك قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه يعني تايشى كيرند از يكديكر بخريدن طعام.
فما بقي معه عليه السلام إلا ثمانية أو أحد عشر أو اثنا عشر أو أربعون فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد ابن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد وبلال وعبد الله بن مسعود وفي رواية عمار بن ياسر بدل عبد الله وذكر مسلم أن جابراً كان فيهم وكان منهم أيضاً امرأة فقال عليه السلام : والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً وفي عين المعاني لولا الباقون لنزلت عليهم الحجارة {وَتَرَكُوكَ} حال كونك {قَآاـاِمًا} أي على المنبر.
(9/425)
ـ روي ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كان النبي عليه السلام بخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس ومن ثمة كانت السنة في الخطبة ذلك وفيه إشعار بأن الأحسن في الوعظ على المنبر يوم الجمعة اقيام وإن جاز القعود لأنه والخطبة من واد واحد لاشتماله على الحمد والثناء والتصلية والنصيحة والدعاء قال حضرة الشيخ الشهير فافتاده قدس سره أن الخطبة عبارة عن ذكر الله والموعظة للناس وكان عليه السلام مستمراً في ذكر الله تعالى ثم لما أراد التنزل لإرشاد الناس بالموعظة جلس جلسة خفيفة غايته أن ما ذكره الفقهاء من معنى الاستراحة لازم لما ذكرنا وكان عليه السلام يكتفي في الأوائل بخطبة واحدة من غير أن يجلس إما لأنه لعظم قدره كان يجمع بين الوصال والفرقة أو لأن أفعاله كانت على وفق الوحي ومقتضى أمر الله فيجوز أن لا يكون مأموراً بالجلسة في الأوائل ثم صار على القياس النسخ وأيضاً وجه عدم جلوسه عليه السلام في الخطبة في بعض الأوقات هو أنه عليه السلام كان يرشد أهل الملكوت كما يرشد أهل الملك فمتى كان أرشاده في الملكوت لا يتنزل ولا يجلس ومتى كان في الملك بأن لم يكن في مجلس الخطبة من هو من أهل الملكوت يتنزل ويجلس مجلس الملك فإن معاشر الأنبياء يكلمون الخلق على قدر عقولهم ومراتبهم وكان عليه السلام متى أراد الانتقال من إرشاد أهل الملك إلى إرشاد أهل الملكوت يقول أرحني يا بلال ومتى أراد التنزل من إرشاد أهل الملكوت إلى إرشاد الملك يقول لعائشة رضي الله عنها كلمني يا حميراء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
اعلم أنه كان من فضل الأصحاب رضي الله عنهم وشأنهم أن لا يفعلوا مثل ما ذكر من التفرق من مجلس النبي عليه السلام وتركه قائماً فذكر بعضهم وهو مقاتل بن حيان أن الخطبة يوم الجمعة كانت بعد الصلاة مثل العيدين فظنوا أنهم قد قضوا ما كان عليهم وليس في ترك الخطبة شيء فحولت الخطبة بعد ذلك فكانت قبل الصلاة وكان لا يخرج واحد لرعاف أو إحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي عليه السلام يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام فيأذن له النبي عليه السلام يشير إليه بيده قال الإمام السهيلي رحمه الله وهذا الحديث الذي من أجله ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب رسول الله عليه السلام موجب لأنه كان صحيحاً.
يقول الفقير هب أنهم ظنوا أنهم قد قضوا ما كان عليهم من فرض الصلاة فكيف يليق بهم أن يتركوا مجلس النبي عليه السلام ومن شأنهم
527
أن يستمعوا ولم يتحركوا كأن على رؤوسهم الطير ولعل ذلك من قبيل سائر الهفوات التي تضمن المصالح والحكم الجليلة ولو لم يكن إلا كونه سبباً لنزول هذه الآية التي هي خير من الدنيا وما فيها لكفى وفيها من الإرشاد الإلهي لعباده ما لا يخفى {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ} من الثواب يعني ثواب نماز واستماع خطبه ولزوم مجلس حضرت يغمبر عليه السلام وما موصولة خاطبهم الله بواسطة النبي عليه السلام لأن الخطاب مشوب بالعتاب {خَيْرٌ} بهتراست وسود مندتر {مِّنَ اللَّهْوِ} ازاستماع لهو {وَمِنَ التِّجَـارَةِ} واز نفع تجارت فإن نفع ذلك محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم فنفع اللهو ليس بمحقق ونفع التجارة ليس بمخلد وما ليس بمخلد فمن قبيل الظن الزائل ومنه يعلم وجه تقديم اللهو فإن للإعدام تقدماً على الملكات قال البقلي وفيه تأديب المريدين حيث اشتغلوا عن صحبة المشايخ بخلواتهم وعباداتهم لطلب الكرامات ولم يعلموا أن ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم لهو قال سهل رحمه الله : من شغله عن ربه شيء من الدنيا والآخرة فقد أخبر عن خسة طبعه ورذالة همته لأن الله فتح له الطريق إليه وأذن له في مناجاته فاشتغل بما يفنى عما لم يزل ولا يزال وقال بعضهم : ما عند الله للعباد والزهاد غدا خير مما نالوه من الدنيا نقداً وما عند الله للعارفين نقداً من واردات القلوب وبوادر الحقيقة خير مما في الدنيا والعقبى {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأنه موجد الأرزاق فإليه اسعوا ومنه اطلبوا الرزق.
وقال الكاشفي : وخداى تعالى بهترين روزى دهند كانست يعني آنانكه وسائط إيصال رزقند وقت باشدكه بخيلى كنند وشايد نيز مصلحت وقت ندانند نقلست كه يكى از خلفاى بعداد بهلول را كفت بياتا روزى هرروز تو مقرر كنم تا وقت متعلق بدان نباشد بهلول جواب دادكه نين ميكردم اكر ند عيب نبودى اول آنكه توندانى كه مراه بايد دوم نشناسى كه مراكى بايد سوم معلوم ندارى كه مرا ند بايد وحق تعالى كافل رزق منست اين همه ميداند وازروى حكمت بمن ميرساند وديكر شايد كه برمن غضب كنى وآن وظيفه ازمن باز كيرى وحق سبحانه وتعالى يكناه ازمن روزى باز نميدارد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
خدايى كه اوساخت ازنيست هست
بعصيان در رزق بركس نيست
از وخواه روزى كه بخشنده اوست
بر آرنده كار هر بنده اوست
(9/426)
وقال لبعضهم : من أين تأكل؟ فقال : من خزانة ملك لا يدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس وقال حاتم الأصم قدس سره لامرأته : إني أريد السفر فكم أضع لك من النفقة؟ قالت : بقدر ما تعلم أني أعيش بعد سفرك فقال : وما ندري كمن نعيش؟ قالت : فكله إلى أن يعلم ذلك فلما سافر حاتم دخل النساء عليها يتوجعن لها من كونه سافر وتركها بلا نفقة فقالت : إنه كان أكالاً ولم يكن رزاقاً قال بعضهم قوله تعالى خير من اللهو وقوله : خير الرازقين من قبيل الفرض والتقدير إذ لا خيرية في اللهو ولا رازق غير الله فكان المعنى إن وجد في اللهو خير فما عند الله أشد خيرية منه وإن وجد رازقون غير الله فالله خيرهم وأقواهم قوة أولاهم عطية والرزق هو المنتفع به مباحاً كان أو محظوراً.
وفي التأويلات النجمية والله خير الرازقين لإحاطته على رزق النفس وهو الطاعة
528
والعبادة بمقتضى العلم الشرعي ورزق القلب وهو المراقبة والمواظبة على الأعمال القلبية من الزهد والورع والتوكل والتسليم والرضى والبسط والقبض والإنس والهيبة ورزق الروح بالتجليات والنزلات والمشاهدات والمعاينات ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية ورزق الخفاء بالنفاء في الله والبقاء به وهو خير رزق فهو خير الرازقين.
وفي المثنوي :
هره ازيارت جدا اندازد آن
مشنو آنرا كه زيان دارد زيان
كربود آن سود صد درصد مكير
بهر زر مكسل زكنجور اي فقير
آن شنوكه ند يزدان زجر كرد
كفت اصحاب نبي را كرم وسرد
زانكه دربانك دهل درسال ننك
جمعه را كردند باطل بى درنك
تانبايد ديكران ارزان خرند
زان سبب صرفه زما ايشان برند
ماند يغمبر بخلوات درنماز
بادوسه درويش ثابت برنياز
كفت طبل ولهو وبازركانى
و نتان ببريد از ربانى
قد فضضت نحو قمح هائماً
ثم خليتم نبيا قائما
بهر كندم تخم باطل كاشتند
وآن رسول حق را بكذا شتند
صحبت او خير من لهواست ومال
بين كرا بكذا شتى شمى بمال
خودنشد حرص شمارا اين يقين
كه منم رزاق وخير الرازقين
آنكه كندم راز خودروزى دهد
كى توكلهات را ضايع كند
ازى كندم جدا كشتى ازان
كه فرستادست كندم زآسمان
وفي الأحياء يستحب أن يقول بعد صلاة الجمعة اللهم يا غني يا حميد يا مبدى يا معيد يا رحيم يا ودود أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك فيقال من دوام على هذا الدعاء أغناه الله تعالى عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب وفي الحديث من قال يوم الجمعة اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله رواه أنس بن مالك رضي الله عنه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
خدايى كه اوساخت ازنيست هست
بعصيان در رزق بركس نيست
از وخواه روزى كه بخشنده اوست
بر آرنده كار هر بنده اوست
وقال لبعضهم : من أين تأكل؟ فقال : من خزانة ملك لا يدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس وقال حاتم الأصم قدس سره لامرأته : إني أريد السفر فكم أضع لك من النفقة؟ قالت : بقدر ما تعلم أني أعيش بعد سفرك فقال : وما ندري كمن نعيش؟ قالت : فكله إلى أن يعلم ذلك فلما سافر حاتم دخل النساء عليها يتوجعن لها من كونه سافر وتركها بلا نفقة فقالت : إنه كان أكالاً ولم يكن رزاقاً قال بعضهم قوله تعالى خير من اللهو وقوله : خير الرازقين من قبيل الفرض والتقدير إذ لا خيرية في اللهو ولا رازق غير الله فكان المعنى إن وجد في اللهو خير فما عند الله أشد خيرية منه وإن وجد رازقون غير الله فالله خيرهم وأقواهم قوة أولاهم عطية والرزق هو المنتفع به مباحاً كان أو محظوراً.
وفي التأويلات النجمية والله خير الرازقين لإحاطته على رزق النفس وهو الطاعة
528
والعبادة بمقتضى العلم الشرعي ورزق القلب وهو المراقبة والمواظبة على الأعمال القلبية من الزهد والورع والتوكل والتسليم والرضى والبسط والقبض والإنس والهيبة ورزق الروح بالتجليات والنزلات والمشاهدات والمعاينات ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية ورزق الخفاء بالنفاء في الله والبقاء به وهو خير رزق فهو خير الرازقين.
وفي المثنوي :
هره ازيارت جدا اندازد آن
مشنو آنرا كه زيان دارد زيان
كربود آن سود صد درصد مكير
بهر زر مكسل زكنجور اي فقير
آن شنوكه ند يزدان زجر كرد
كفت اصحاب نبي را كرم وسرد
زانكه دربانك دهل درسال ننك
جمعه را كردند باطل بى درنك
تانبايد ديكران ارزان خرند
زان سبب صرفه زما ايشان برند
ماند يغمبر بخلوات درنماز
بادوسه درويش ثابت برنياز
كفت طبل ولهو وبازركانى
و نتان ببريد از ربانى
قد فضضت نحو قمح هائماً
ثم خليتم نبيا قائما
بهر كندم تخم باطل كاشتند
وآن رسول حق را بكذا شتند
صحبت او خير من لهواست ومال
بين كرا بكذا شتى شمى بمال
خودنشد حرص شمارا اين يقين
كه منم رزاق وخير الرازقين
آنكه كندم راز خودروزى دهد
كى توكلهات را ضايع كند
ازى كندم جدا كشتى ازان
كه فرستادست كندم زآسمان
(9/427)
وفي الأحياء يستحب أن يقول بعد صلاة الجمعة اللهم يا غني يا حميد يا مبدى يا معيد يا رحيم يا ودود أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك فيقال من دوام على هذا الدعاء أغناه الله تعالى عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب وفي الحديث من قال يوم الجمعة اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله رواه أنس بن مالك رضي الله عنه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 512
تفسير سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدنية بلا خلاف
جزء : 9 رقم الصفحة : 528
{إِذَا} ون {جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ} أي حضروا مجلسك وبالفارسية بتو آيند دو رويان.
والنفاق إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر بالقلب فالمنافق هو الذي يضمر الكفر اعتقاداً ويظهر الإيمان قولاً وفي المفردات النفاق الدخول في الشرع من باب والخروج منه من باب من النافقاء إحدى جحرة اليربوع والثعلب والضب يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى من قبل القاصعاء وهو الذي يدخل منه ضرب النافقاء برأسه فانتفق والنفق هو السرب في الأرض النافذ {قَالُوا} مؤكدين كلامهم بان واللام للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص
529
اعتقادهم ووفور رغبتهم ونشاطهم والظاهر أنه الجواب لإذا لأن الآية نظير قوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وقيل جوابه مقدر مثل أرادوا أك يخدعوك وقيل استئناف لبيان طريق خدعتهم وقيل جوابه قوله فاحذرهم {نَشْهَدُ} الآن أو على الاستمرار {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} والشهادة قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} اعتراض مقرر لمنطوق كلامهم لكونه مطابقاً للواقع ولإزالة إيهام أن قولهم هذا كذب لقوله والله يشهد الخ وفيه تعظيم للنبي عليه السلام وقال أبو الليث والله يعلم أنك لرسوله من غير قولهم وكفى بالله شهيداً محمد رسول الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
اعلم أن كل ما جاء في القرآن بعد العلم من لفظة أن فهي بفتح الهمزة لكونها في حكم المفرد إلا في موضعين أحدهما والله يعلم أنك لرسوله في هذه السورة والثاني قد يعلم أنه ليحزنك الذي يقولون في سورة الأنعام وإنما كان كذلك في هذين الموضعين لأنه يأتي بعدهما لام الخبر فانكسرا أي لأن اللام لتأكيد معنى الجملة ولا جملة إلا في صورة المكسورة وقال بعضهم : إذا دخلت لام ابتداء على خبرها تكون مكسورة لاقتضاء لام الابتداء الصدارة كما يقال لزيد قائم وتؤخر اللام لئلا يجتمع حرفاً التأكيد واختير تأخيرها الترجيح إن في التقديم لعامليته فكسرت لأجل اللام {وَاللَّهُ يَشْهَدُ} شهادة حقة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي أنهم والإظهار في موضع الإضمار لذمهم والإشعار بعلية الحكم أي لكاذبون فيما ضمنوا مقالتهم من أنها صادرة عن اعتقاد وطمأنينة قلب فإن الشهادة وضعت للاخبار الذي طابق فيه اللسان اعتقاد القلب وإطلاقها على الزور مجاز كإطلاق البيع عن الفاسد نظيره قولك لمن يقول أنا أقرأ الحمدرب العالمين كذبت فالتكذيب بالنسبة إلى قراءته لا بالنسبة إلى المقروء الذي هو الحمدرب العالمين ومن هنا يقال إن من استهزأ بالمؤذن لا يكفر بخلاف من استهزأ بالأذان فإنه يكفر قال بعضهم : الشهادة حجة شرعية تظهر الحق ولا توجبه فهي الاخبار بما علمه بلفظ خاص ولذلك صدق المشهود به وكذبهم في الشهادة بقوله والله يعلم الخ دلت الآية على أن العبرة بالقلب والاخلاص بخلوصه يحصل الخلاص وكان عليه السلام يقبل من المنافقين ظاهر الاسلام واما حكم الزنديق في الشرع وهو الذي يظهر الاسلام ويسر الكفر فإنه يستتاب وتقبل توبته عند أبي ولا تقبل عند أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله قال سهل رحمه الله اقروا بلسانهم ولم يعترفوا بقلوبهم فلذلك سماهم الله منافقين ومن اعترف بقلبه وأقر بلسانه ولم يعمل بأركانه ما فرض الله من غير عذر ولا جهل كان كإبليس وسئل حذيفة من المنافق؟ قال : الذي يصف اسلام ولا يعمل به وهم الويم شر منهم لأنهم كانوا يومئذ يكتمونه وهم اليوم يظهرونه وفي الآية إشارة إلى أن المنافقين الذامين للدنيا وشهواتها باللسان المقبلين عليها بالقلب وإن كانوا يشهدون بصحة الرسالة لظهور أنوارها عليهم من المعجزات والكرامات لكنهم كاذبون في شهادتهم لإعراضهم عنه عليه السلام ومتابعته وإقبالهم على الدنيا وشهواتها فحقيقة الشهادة إنما تحصل بالمتابعة وقس عليه شهادة أهل الدنيا عند ورثة الرسول قال الحسن البصري رحمه الله : يا ابن آدم لا يفرنك قول من يقول المرء مع من أحب فإنك لا تلحق الأبرار إلا بأعمالهم فإن اليهود والنصارى
530(9/428)
يحبون أنبياءهم وليسوا معهم وهذه إشارة إلى أن مجرد ذلك من غير موافقة في بعض الأعمال أو كلها لا ينفع كما في إحياء العلوم ولذا قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : المرء مع من أحب في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي وفي الآخرة بالمعاينة والقرب المشهدي انتهى فإذا كانت المحبة المجردة بهذه المثابة فما ظنك بالنفاق الذي هو هدم الاس والأصل وبناء الفرع فلا اعتداد بدعوى المنافق ولا بعمله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
وفي التأويلات القاشانية المنافقون هم المذبذبون الذين يجذبهم الاستعداد الأصلي إلى نور الإيمان والاستعداد العارضي الذي حدث برسوخ الهيئاتالطبيعية والعادات الردئية إلى الكفر وإنما هم كاذبون في شهادة الرسالة لأن حقيقة معنى الرسالة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم الذين يعرفون الله ويعرفون بمعرفته رسول الله فإن معرفة الرسول لا تمكن إلا بعد معرفة الله ويقدر العلم بالله يعرف الرسول فلا يعلمه حقيقة إلا من انسلخ عن علمه وصار عالماً يعلم الله وهم محجوبون عن الله بحجب ذوتهم وصفاتهم وقد أطفأوا نور استعداداتهم بالغواشي البدنية والهيئات الظلمانية فإنى يعرفون رسول الله حتى يشهدوا برسالته انتهى قال الشيخ أبوالعباس معرفة الولي أصعب من معرفة الله فإن الله معروف بكماله وجماله وحتى متى يعرف مخلوقاً مثله يأكل كما يأكل ويشرب كما يشرب {اتَّخَذُوا} أي المنافقون {أَيْمَـانَهُمْ} الفاجرة التي من جملتها ما حكى عنهم لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن أشهد يمين واليمين في الحلف مستعار من اليمين التي بمعنى اليد اعتباراً بما يفعله المحالف والمعاهد عنده واليمين بالله المصادقة جائزة وقت الحاجة صدرت من النبي عليه السلام كقوله والله والذي نفسي بده ولكن إذا لم يكن ضرورة قوية يصان اسم الله العزيز عن الابتذال {جُنَّةً} أي وقاية وترساً عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي أو غير ذلك واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضاً كما يفصح عنه الفاء في قوله {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يقال صد عن الأمر صداً أي منعه وصرفه وصد عنه صدوداً أي أعرض والمعنى فمنعوا وصرفوا من أراد الدخول في الإسلام بأنه عليه السلام ليس برسول ومن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي عنه كما سيحكى عنهم ولا ريب في أن هذا الصد منهم متقدم على حلفهم بالفعل وأصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه والجنان القلب لكونه مستوراً عن الحاسة والمجن والجنة الترس الذي يجن صاحبه والجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ساء الشيء الذي كانوا يعملونه من النفاق والصد والإعراض عن سبيله تعالى وفي ساء معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين {ذَالِكَ} القول الشاهد بأنهم أسوأ الناس أعمالاً وبالفارسية أين حكم حق ببدىء أعمال ايشان {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {ءَامَنُواّ} أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل الإسلام {ثُمَّ كَفَرُوا} أي ظهر كفرهم بما شوهد منهم من شواهد الكفر
531
ودلائله من قولهم إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير وقولهم في غزوة تبوك أيطمع هذا الرجل أن يفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات فثم اللتراخي أو كفروا سراً فثم للاستبعاد ويجوز أن يراد بهذه الآية أهل الردة منهم كما في الكشاف {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ختم عليها يعني مهر نهاده شد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
(9/429)
حتى تمرنوا على الكفر واطمأنوا به وصارت بحيث لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم ومعاقبة على سوء أفعالهم فليس لهم أن يقولوا إن الله ختم على قلوبنا فكيف تؤمن والطبع أن يصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدارهم وهو أعم من الختم وأخص من النقش كما في المفردات {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} حقيقة الإيمان ولا يعرفون حقيقته أصلاً كما يعرفه المؤمنون والفقه لغة الفهم واصطلاحاً علم الشريعة لأنه الأصل فيما يكتسب بالفهم والدراية وإن كان سائر العلوم أيضاً لا ينال إلا بالفهم دل الكلام على أن ذكر بعض مساوي العاصي عند احتمال الفائدة لا بعد من الغيبة المنهي عنها بل قد يكون مصلحة مهمة على ما روي عنه عليه السلام اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس وفي المقاصد الحسنة ثلاثة ليست لهم غيبة الإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته وقال الفاشاني ذلك بسبب أنهم آمنوا بالله بحسب بقية نور الفطرة والاستعداد ثم كفروا أي ستروا ذلك النور بحجب الرذائل وصفات نفوسهم فطبع على قلوبهم برسوخ تلك الهيئات وحصول الرين من المكسوبات فحجبوا عن ربهم بالكلية فهم لا يفهموا معنى الرسالة ولا علم التوحيد والدين {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} وون به بيني منافقاً نراون ابن ابي وأمثال او.
الرؤية بصرية {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} بشكفت آرد ترا اجسام ايشان.
لضخامتها ويروقك منظرهم لصباحة وجوههم وأصله من العجب والشيء العجيب هو الذي يعظم في النفس أمره لغرابته والتعجب حيرة تعرض للنفس بواسطة ما يتعجب منه {وَإِن يَقُولُوا} وون سخن كويند {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم واللام صلة وقيل تصغي إلى قولهم وكان ابن أبي جسيماً صبيحاً فصيحاً يحضر مجلس رسول الله عليه السلام في نفر من أمثاله وهم رؤساء المدينة وكان عليه السلام ومن معه يعجبون بهيا كلهم ويسمعون إلى كلامهم وأن الصباحة وحسن المنظر لا يكون إلا من صفاء الفطرة في اوصل ولذا قال عليه السلام : اطلبوا الخير عند حسان الوجوه أي عغالباً وكم من رجل قبيح الوجه قضاء للحوائج قال بعضهم :
يدل على معروفه حسن وجهه
وما زال حسن الوجه أحد الشواهد
وفي الحديث إذا بعثتم إلى رجلا فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم ثم لما رأى عليه السلام غلبة الرين على قلوب المنافقين وانطفاء نور استعدادهم وإبطال الهيئات الدنية العارضة خواصهم الأصلية ايس منهم وتركهم على حالهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
ـ وروي ـ عن بعض الحكماء أنه رأى غلاماً حسناً وجهه فاستنطقه لظنه ذكاء فطنته فما وجد عنده معنى فقال : ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن وقال آخر طشت ذهب فيه خل {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم أو كلام مستأنف لا محل له والخشب بضمتين جمع
532
خشبة كأكم وأكمة أو جمع خشب محركة كأسد وأسد وهو ما غلظ من العيدان والإسناد الإمالة ومسندة للتكثير فإن التسنيد تكثير الإسناد بكثرة المحال أي كأنها أسندت إلى مواضع والمعنى بالفارسية كويا ايشان و بهاى خشك شده اند بديوار بازنهاده.
شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله مستندين فيها بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحاً خالية عن العلم والخير والانتفاع ولذا اعتبر في الخشب التسنيد لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع فكما أن مثل هذا الخشب لا نفع فيه فكذا هم لا نفع فيهم وكما أن الروح النامية قد زالت عنهم فهم في زوال استعداد الحياة الحقيقية والروح الإنساني بمثابتها.
يقول الفقير فيه إشارة إلى أن الاستناد في مجالس الأكابر أو في مجالس العلم من ترك الأدب ولذا منع الإمام مالك رحمه الله هارون الرشيد من الاستناد حين سمع منه الموطأ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
(9/430)
ـ حكي ـ أن إبراهيم بن أدهم قدس سره كان يصلي ليلة فأعيى فجلس ومدر رجليه فهتف به هاتف أهكذا تجالس الملوك وكان الحريري لا يمد رجليه في الخلوة ويقول حفظ الأدب مع الله أحق وهذا من أدب من عرف معنى الاسم المهيمن فإن من عرف معناه يكون مستحييا من اطلاعه تعالى عليه ورؤيته له وهو المراقبة عند أهل الحقيقة ومعناه علم القلب باطلاع الرب ودلت الآية وكذا قوله عليه السلام إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللهجناح بعوضة على أن العبرة في الكمال والنقصان بالأصغرين اللسان والقلب لا بالأكبرين الرأس والجلد فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال بل إلى القلوب والأعمال فرب صورة مصغرة عند الله بمثابة الذهب والمؤمن لا يخلو من قلة أو علة أو ذلة ولا شك أن بالقلة يكثر الهم الذي يذيب اللحم والشحم وكذا بالعلة يذوب البدن ويطرأ عليه الذبول وفي الحديث مثل المؤمن مثل السنبلة يحركها الريح فتقوم مرة وتقع أخرى ومثل الكافر مثل الأرزة لا تزال قائمة حتى تنقعر قوله الأرزة بفتح الهمزة وبراء مهملة ساكنة ثم زاي شجر يشبه الصنوبر يكون بالشأم وبلاد الأرمن وقيل هو شجر الصنوبر والانقعار.
ازبن بركنده شدن يعني مثل منافق مثل صنوبراست كه بلند واستوار برزمين تاكه افتادن وازبيخ برآمدن.
وفيه إشارة إلى أن المؤمن كثير الابتلاء في بدنه وماله غالباً فيكفر عن سيئاته والكافر ليس كذلك فيأتي بسيئاته كاملة يوم القيامة {يَحْسَبُونَ} يظنون {كُلَّ صَيْحَةٍ} كل صوت ارتفع فإن الصيحة رفع الصوت وفي القاموس الصوت بأقصى الطاقة وهو مفعول أول ليحسبون والمفعول الثاني قوله {عَلَيْهِمْ} أي واقعة عليهم ضارة لهم.
ومراد از صيحه هر فريادى كه برآيد وهرآوازى كه درمدينه بركشند.
وقال بعضهم : إذا نادى مناد في العسكر لمصلحة أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة أو وقعت جلبة بين الناس ظنوه إيقاعاً بهم لجنبهم واستقرار الرعب في قلوبهم والخائن خائف وقال القاشاني لأن الشجاعة إنما تكون من اليقين من نور الفطرة وصفاء القلب وهم منغمسون في ظلمات صفات النفوس محتجبون باللذات والشهوات كأهل الشكوك والارتياب فلذلك غلب عليهم الجبن والخور انتهى وفي هذا زيادة تحقر لهم وتخفيف لقدرهم
533
كما قيل إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً وقيل كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيخ دماءهم وأموالهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
{هُمُ الْعَدُوُّ} أي هم الكاملون في العداوة الراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المكاسر الذي يكاسرك وتحت ضلوعه داء لا يبرح بل يلزم مكانه ولم يقل هم الأعداء لأن العدو لكونه بزنة المصادر يقع على الواحد وما فوقه {فَاحْذَرْهُمْ} أي فاحذر أن تثق بقولهم ونميل إلى كلامهم أو فاحذر مما يلتهم لأعدائك وتخذيلهم أصحابك فإنهم يفشون سرك للكفار {قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم ويخزيهم ويميتهم على الهوان والخذلان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما أي لعنهم قال سعدي المفتي ولا طلب هناك حقيقة بل عبارة الطلب للدلالة على أن اللعن عليهم مما لا بد منه قال الطيبي يعني إنه من أسلوب التجريد كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ومن كفر فأمتعه يا قادر ويجوز أن يكون تعليماف للمؤمنين بأن يدعوا عليهم بذلك ففيه دلالة على أن للدعاء على أهل الفساد محلاً يحسن فيه فقاتلا الله المبتدعين الضالين المضلين فإنهم شر الخصماء وأضر الأعداء وإيراده في صورة الإخبار مع أنه إنشاء معنى للدلالة على وقوعه ومعنى الإنشاء بالفارسية هلاك كناد خداى ايشانرا يا لعنت كناد برايشان.
وقال بعضهم أهلكهم وهو دعاء يتضمن الاقتضاء والمنابذة وتمنى الشر لهم ويقال هي كلمة ذم وتوبيخ بين الناس وقد تقول العرب قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب وقيل أحلهم محل من قاتله عدو قاهر لكل معاند {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} تعجيب من حالهم أي كيف يصرفون عن الحق والنور إلى ما هم عليه من الكفر والضلال والظلمة بعد قيام البرهان من الإفك بفتح الهمزة بمعنى الصرف عن الشيء لأن الإفك بالكسر بمعنى الكذب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
(9/431)
قال في التأويلات النجمية : إذا رأيتهم من حيث صورهم المشكلة تعجبك أجسام أَمالهم المشوبة بالرياء والسمعة الخالية عن أرواح النيات الخالصة الصافية وأن يقولوا قولاً بالحروف والأصوات مجرداً عن المعاني المصفاة تصغ إلى قولهم المكذوب المردود كان صورهم المرجدة عن المعنى المخيلة صورتها القوة الخيالة بصورة الخشب المسندة إلى جدار الوهم لا روح فيها ولا معنا يحسبون كل صيحة صاح بها صور القهر واقعة عليهم لضعف قلوبهم بمرض النفاق وعلة الشقاق هم الكاملون في العداوة الذاتية والبغضاء الصفاتية فاحذرهم بالصورة والمعنى قاتلهم الله بالخزي والحرمان والسوء والخذلان أنى يعدلون عن طريق الدين الصدق {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عند ظهور جنايتهم بطريق النصيحة.
در معالم آورده كه بعد از نزول اين آيتها قوم ابن أبي ويرا كفتند أين آيتها درباره تونازل شده رو نزديك رسول خداى تابراى توآمر زش طلبد آن منافق كردن تاب داد وكفت مرا كفتند ايمان آور آوردم تكليف كرديدكه زكاة مال بده دادم همين مانده است كه محمد را سجده مى بايد كرد آيت آمدكه.
وإذا ذيل لهم : {تَعَالَوْا} أصله تعاليوا فأعل بالقلب والحذف إلا أن واحد الماضي تعالى بإثبات الألف المقلوبة عن الياء المقلوبة عن الواقعة رابعة وواحد الأمر تعالى بحذفها وقفاً وفتح اللام وأصل معنى التعالي الارتفاع فإذا أمرت منه قلت تعالى وتعالوا فتعالوا جميع أمر الحاضر
534
في صورة الماضي ومعناه ارتفعوا فيقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمم يعني ثم استعمل في كل داع يطلب المجيىء في المفرد وغيره لما فيه من حسن الأدب أي هلوا وائتوا وبالفارسية بياييد باعتذار.
ومن الأدب أن لا يقال تعالى فلان أو تعاليت يا فلان أو أنا أو فلان متعال بأي معنى أريد لأنه مما اشتهر به الله تعالى الله الملك الحق {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} بالجزم جواب الأمر أي يدع الله لكم ويطلب منه أن يغفر بلطفه ذنوبكم ويستر عيوبكم وهو من أعمال الثاني لأن تعالوا يطلب رسول الله مجروراً بإلى أي تعالوا إلى رسول الله ويستغفر يطلب فاعلاً فاعمل الثاني ولذلك رفعه وحذف من الأول إذ التقدير تعالوا إليه {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} يقال لوي الرجل رأسه أماله والتشديد للتكثير لكثرة المحال وهي الرؤوس قال في تاج المصادر التلوية نيك يانيدن أي عطفوها استكباراً نانه كسى از مكروهى روى بتابد وقال القاشاني لضراوتهم بالأمور الظلمانية فلا يألفون النور ولا يشتاقون إليه ولا إلى الكمالات الإنسانية لمسخ الصورة الذاتية {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} من الصدود بمعنى الإعراض أي يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار.
وقال الكاشفي : إعراض ميكنند ازرفتن بخدمت حضرت يغمبر صلى الله عليه وسلّم وذلك لانجذابهم إلى الجهة السفلية والزخارف الدنيوية فلا ميل في طباعهم إلى الجهة العلوية والمعاني الأخروية.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
صورت رفعت بود افلاك را
معنى رفعت بوان اك را
صورت رفعت براى جسمهاست
جسمها دريش معنى اسمهاست
{وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن ذلك لغلبة الشيطنة واستيلاء القوة الوهمية واحتجابهم بالأنانية وتصور الخيرية وفي الحديث "إذا رأيت الرجل لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته" {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} كما إذا جاؤوك معتذرين من جناياتهم وفي كشف الأسرار كان عليه السلام يستغفر لهم على معنى سؤاله لهم بتوفيق الإيمان ومغفرة العصيان وقيل لما قال الله أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال عليه السلام : لأزيدن على السبعين فأنزل الله سواء الخ وهو اسم بمعنى مستو خبر مقدم وعليهم متعلق به وما بعده من المعطوف عليه والمعطوف مبتدأ بتأويل المصدر لإخراج الاستفهام عن مقامه فالهمزة في أستغفرت للاستفهام ولذا فتحت وقطعت والأصل إستغفرت فحذفت همزة الوصل التي هي ألف الاستفعال للتخفيف ولعدم اللبس {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كما إذا أصروا على قبائحهم واستكبروا عن الاعتذار والاستغفار {لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} أبداً لإصرارهم على الفسق ورسوخهم في الكفر وخروجهم عن دين الفطرة القيم {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين في الكفر والنفاق أو الخارجين عن دائرة المحقين الداخلين في دائرة الباطلين المبطلين وفي الآية إشارة إلى عدم استعدادهم لقبول الاستغفار لكثابة طباعهم المظلمة وغلظة جبلتهم الكدرة ولو كان لهم استعداد لقبوله لخرجوا عن محبة الدنيا ومتابعة النفس والهوى إلى موافقة
535
الشرع ومتابعة الرسول والهدى ولما بقوا في ظلمة الشهوات الحيوانية والأخلاق البهيمية والسبعية.
قال الحافظ :
عاشق كه شدكه يار بحالش نظر نكرد
اى خواجه دردنيست وكرنه طبيب هست
(9/432)
ومنه يعلم أن الجذبة من جانب المرشد وإن كان لها تأثير عظيم لكن إذا كان جانب المريد خالياف عن الإرادة لم ينفعه ذلك ألا ترى أن استغفار النبي عليه السلام ليس فوقه شيء مع أنه لم يؤثر في الهداية وأصل هذا عدم إصابة رشاش النور في عالم الأرواح ومن لم يجعل الله نوراً فما له من نور.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
ـ حكي ـ أن شيخاً مر مع مريد له خدمه عشرين سنة على قرية فيها شيخ فإن يضرب الطبل فأشار إليه الشيخ فطرح الطبل وتبعه حتى إذا كانوا على ساحل البحر ألقى الشيخ سجادته على البحر وقعد عليها مع الطبال وبقي المريد العتيق في الساحل يصيح كيف ذلك فقال الشيخ هكذا قضاء الله تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} أي للأنصار وهو استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرته تعالى لهم وهو حكاية نص كلامهم {لا تُنفِقُوا} لا تعطوا النفقة التي يتعيش بها {عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} يعنون فقراء المهاجرين وقولهم رسول الله إما للهزؤ والتهكم أو لكونه كاللقب له عليه السلام واشتهاره به فلو كانوا مقرين برسالته لما صدر عنهم ما صدر ويجوز أن ينطقوا بغيره لكن الله تعالى عبر به إكراماً له وإجلالاً {حَتَّى يَنفَضُّوا} أي يتفرقوا عنه ويرجعوا إلى قبائلهم وعشائرهم.
وقال الكاشفي : تا متفرق كردند غلامان بزد خواجكان روند وسران دران يوندند.
والانفضاض شكسته شدن ورا كنده شدن.
وإنما قالوه لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله وبما في أيديهم عما في خزائن الله فيتوهمون الإنفاق منهم لجهلهم {وَلِلَّهِ خَزَآاـاِنُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفقاهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله عليه السلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله خاصة يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ومن تلك الخزائن المطر والثبات قال الراغب قوله تعالى ولله خزائن السموات والأرض إشارة منه إلى قدرته تعالى على ما يريد إيجاده أو إلى الحالة التي أشير إليها بقوله عليه السلام فرغ ربكم من الخلق والأجل والرزق والمراد من الفراغ إتمام القضاء فهو مذكور بطريق التمثيل يعني أتم قضاء هذه الكليات في علمه السابق والخزائن جمع خزانة بالكسر كعصائب وعصابة وهي ما يخزن فيه الأموال النفيسة وتحفظ وكذا المخزن بالفتح وقد سبق في قوله تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه {وَلَـاكِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} ذلك لجهلهم بالله وبشؤونه ولذلك يقولون من مقالات الكفر ما يقولون :
خواجه ندارد كه روزى اودهد
لا جرم براين وآن منت نهد
زان سببها او يكى شد س اكر
كم شود هستند اسباب دكر
حكم روزى بر سببها مى نهد
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
بى سببها نيز روزى ميدهد
قال رجل لحاتم الأصم رحمه الله : من أين تأكل؟ قال : من خزانة ربي فقال الرجل : أيلقي عليك الخبز من السماء فقال : لو لم تكن الأرض له فيها خزائن لكان يلقي علي الخبز من السماء فقد
536
(9/433)
خلق الله في الأرض الأسباب ومنها فتح الأبواب قال بعض الكبار مراعاة حق أم الولد من الرضاع أولى من مراعاة أم الولادة لأن أم الولادة حملته على جهة الأمانة فيكون فيها وتغذي بدم طمثها من غير ءرادة لها في ذلك فما تغذي إلا بما لو لم يخرج منها لأهلكها وأمرضها فللجنين المنة على أمه في ذلك وأما المرضعة فأتما قصدت برضاعه حياته وإبقاءه ولهذا المعنى الذي أشرنا إليه جعل الله المرضعة لموسى أم ولادته حتى لا يكون لامرأة عليه فضل غير أمه فلما كبر وبلغ إقامة الحجة عليه جعله الله كلا على أن إسرائيل امتحاناً له فقلق من تغير الحال عليه وقال : يا رب أغنني عن بني إسرائيل فأوحى الله إليه أما ترضى يا موسى أن أفرغك لعبادتي وأجعل مؤونتك على غيرك فسكت ثم سأل ثانياً فأوحى الله إليه لا يليق بنبي أن يرى في الوجود شيئاً لغير سيده فكل من رزق ربك ولا منة لأحد عليك فسكت ثم سأل ثالثاً فأوحى الله إليه يا موسى إذا كانت هذه شكاسة خلقك على بني إسرائيل وأنت محتاج إليه فكيف لو أغنيتك عنهم فما سأل بعد ذلك شيئاً فالله تعالى يوصل الرزق على عبده بيد من يشاء من عباده مؤمناً أو كافراً وكل ذلك من الحلال الطيب إذا لم يسبق إليه خاطرة أو تعرض ما ولا منة لأحد عليه وإنما يمن الجاهل وابتلاؤه تعالى لأوليائه بالفقر ليس من عدم قدرته على الإعطاء والإغناء من عدم محبته لهم وكرامتهم عنده بل هو من إنعامه عليهم ليكونوا ازهد الناس في الدنيا وأفراجرا في الآخرة ولذا قال عليه السلام في حق فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة بأربعين خريفاً وكان عليه السلام يستفتح بصعاليك المهاجرين أي فقرائهم لقدرهم وقبولهم وجاههم عند الله تعالى على أن الأغنياء إن خصوا بوجود الأرزاق فالفقراء خصوا بشهود الرزاق وهو خير منه وصاحبه أنعم فمن سعد بوجود الرزاق لم يضره ما فاته من وجود الأرزاق قال الجنيد قدس سره : خزائنه في السموات الغيوب وخزائنه في الأرض القلوب فما انفصل من الغيوب وقع على القلوب وما انفصل من القلوب صار إلى الغيوب والعبد مرتهن بشيئين تقصير الخدمة وارتكاب الزلة وقال الواسطي قدس سره من طالع الأسباب في الدنيا ولم يعلم أن ذلك بحجبه عن التوفيق فهو جاهل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
وفي التأويلات النجمية : ولله خزائن الأرزاق السماوية من العلوم والمعارف والحكم والعوارف المخزونة لخواص العباد يرزقهم حيث يشاء ولله خزائن الأرزاق الأرضية من المأكولات والمشروبات والملبوسات والخيول والبغال المخزونة لعوام العباد ينفق عليهم من حيث لا يحتسبون ولكن المنافقين بسبب إفساد استعداداتهم وعدم نورانيتهم وغلبة ظلمانيتهم ما يفهمون الأسرار الإلهية والإشارات الربانية {يَقُولُونَ لئن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ} روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين لقي بني المصطلق وهم بطن من خزاعة على المريسيع مصغر مرسوع وهو ماء لهم في ناحية قديد على يوم من الفرغ بالضم موضع من أضخم أعراض المدينة وهزمهم وقتل منهم واستاق ألفي بعير وخمسة آلاف شاة وسبي مائتي أهل بيت أو أكثر وكانت في السبي جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق أعتقها النبي عليه السلام وتزوجها وهي ابنة
537
(9/434)
عشرين سنة ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفار رضي الله عنه وهو أجير لعمر رضي الله عنه يقود فرسه وسنان الجهني المنافق حليف ابن أبي رئيس المنافقين واقتتلا فصرخ جهجاه بالمهاجرين وسنان بالأنصار فاعان جهجاه جعال بالكسر من فقراء المهاجرين ولطم سنانا فاشتكى إلى ابن أبي فقال لجعال وأنت هناك قال ما صحبنا محمداً إلا لنلطم وا ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا من هذا السفر إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل عني بالأعز نفسه وبالأذل جانب المؤنين فإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به ثم قال لقوله : ماذا فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين فقال ابن أبي اسكت فإنما كنت ألعب فأخبر زيد رسول الله بما قال ابن أبي فتغير وجه رسول الله فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال : إذا ترغم أنوفاً كثيرة بيثرب يعني المدينة ولعل تسميته لها بذلك إن كان بعد النهي لبيان الجواز قال عمر رضي الله عنه : فإن كرهت أن يقتله مهاجري فائمر به أنصارياً فقال : إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه وقال عليه السلام لابن أبي أنت صاحب الكلام الذي بلغني قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وأن زيداً لكاذب فقال الحاضرون : شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام وعسى أن يكون قدوهم فروي أن رسول الله قال له : لعلك غضبت عليه قال : لا قال : فلعله أخطأك سمعك قال : لا قال : فلعله شبه عليك قال : لا فلما نزلت هذه الآية لحق رسول الله زيداً من خلفه فعرك إذنه وقال : وفت أذنك يا غلام إن الله صدقك وكذب المنافقين ورد الله عليهم مقالتهم بقوله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من المنافقين والكافرين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
وعن بعض الصالحين وكان في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً أي كبراً فقال : ليس ذلك بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية وقال بعض الكبار : من كان في الدنيا عبداً محضاً كان في الآخرة ملكاً محضاً ومن كان في الدنيا يدعي الملك الشيء ولو من جوارحه نقص من ملكه في الآخرة بقدر ما ادعاه في الدنيا فلا أعز في الآخرة ممن بلغ في الدنيا غاية الذل في جناب الحق ولا أذل في الآخرة ممن بلغ في الدنيا غاية العزة في نفسه ولو كان مصفوعاً في الأسواق ولا أريد بعز الدنيا أن يكون من جهة الملوك فيها إنما أريد أن يكون صفته في نفسه العزة وكذا القول في الذلة وقال الواسطي رحمه الله عزة الله أن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته وعزة المرسلين أنهم آمنون من زوال الإيمان وغزة المؤمنين إنهم آمنون من دوام العقوبة وقال عزة الله
538
العظمة والقدرة وعزة الرسول النبوة والشفاعة وعزة المؤمنين التواضع والسخاء والعبودية دل عليه قوله عليه السلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لا أفتخر بالسيادة بل أفتخر بالعبودية وفيها عزتي إذ لا عزة إلا في طاعة الله ولا ذل إلا في معصية الله وقال بعضهم : عزة الله قهره من دونه وعزة رسوله بظهور دينه على سائر الأديان كلها وعزة المؤمنين باستذلالهم اليهود والنصارى كما قال وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقيل عزة الله الولاية لقوله تعالى هنالك الولايةالحق وعزة رسوله الكفاية لقوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين وعزة المؤمنين الرفعة لقوله تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
(9/435)
يقول الفقير : أشار تعالى بالترتيب إلى أن العزة له بالأصالة والدوام وصار الرسول عليه السلام مظهراً له في تلك الصفة ثم صار المؤمنون مظاهر له عليه السلام فيها فعزة الرسول بواسطة عزة الله وعزة المؤمنين بواسطة عزة الرسول سواء أعاصروه عليه السلام أم أتوا بعده إلى ساعة القيام وجميع العزةلأن عزة الله له تعالى صفة وعزة الرسول وعزة المؤمنينفعلاً ومنة وفضلاً كما قال القشيري قدس سره العز الذي للرسول وللمؤمنين هو تعالى حلقاً وملكاً وعزه سبحانه له وصفاً فإذا العزة كلهاوهو الجمع بين قوله تعالى من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً وقوله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ومن أدب من عرف أنه تعالى هو العزيز أن لا يعتقد لمخلوق إجلالاً ولهذا قال عليه السلام : من توضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه قال أبو علي الدقاق رحمه الله إنما قال ثلثا دينه لأن التواضع يكون بثلاثة أشياء بلسانه وبدنه وقلبه فإذا تواضع له بلسانه وبدنه ولم يعتقد له العظمة بقلبه ذهب ثلثا دينه فإن اعتقدها بقلبه أيضاً ذهب كل دينه ولهذا قيل إذا عظم الرب في القلب صغر الخلق في العين ومتى عرفت أنه معز لم تطلب العز إلا منه ولا يكون العز إلا في طاعته قال ذو النون قدس سره لو أراد الخلق أن يثبتوا لأحد عزا فوق ما يثبته يسير طاعته لم يقدروا ولو أرادوا أن يثبتوا لأحد ذلة أكثر مما يثبته اليسير من ذلته ومخالفته لم يقدروا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
ـ حكي ـ عن بعضهم أنه قال : رأيت رجلاً في الطواف وبين يديه خدم يطردون الناس ثم رأيته بعد ذلك علس جسر بغداد يتكفف ويسأل فحذقت النظر إليه لأتعرفه هل هو ذلك الرجل أولاً فقال لي مالك تطيل النظر إلي فقلت : إني أشبهك برجل رأيته في الطواف من شأنه كذا وكذا فقال : أنا ذاك إني تكبرت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني في موضع يترفع فيه الناس {وَلَـاكِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون ولعل ختم الآية الأولى بلا يفقهون والثانية بلا يعلمون للتفنن المعتبر في البلاغة مع أن في الأول بيان عدم كياستهم وفهمهم وفي الثاني بيان حماقتهم وجهلهم وفي برهان القرآن الأول متصل بقوله ولله خزائن السموات والأرض وفيه غموض يحتاج إلى فطنة والمنافق لا فطنة له والثاني متصل بقوله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه.
ـ روي ـ أن عبد الله ابن أبي لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصاً وسل سيفه ومنع أباه من الدخول
539
وقال : لئن لم تقرولرسوله بالعز لأضربن عنقك فقال : ويحك أفاعل أنت؟ قال : نعم فلما رأى منه الجد قال : أشهدا أن العزةولرسوله وللؤمنين فقال عليه السلام لابنه : جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً ولما كان عليه السلام بقرب المدينة هاجت ريح شديدة كادت تدفت الراكب فقال عليه السلام : مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة أي لأجل ذلك عصفت الريح فكان كما قال مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة وكان كهفاً للمنافقين وكان من عظماء بني قينقاع وكان ممن أسلم ظاهراً وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله :
وقد عصفت ريح فأخير انها
لموت عظيم في اليهود بطيبة
ولما دخلها ابن أبي لم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات واستغفر له رسول الله وألبسه قميصه فنزل لن يغفر الله لهم وروي أنه مات بعد القفول من غزوة تبوك قال بعض الكبار : ما أمر الله عباده بالرفق بالخلق والشفقة إلا تأسياً به تعالى فيكونون مع الخلق كما كان الحق معهم فينصحونهم ويدلونهم على كل ما يؤدي إلى سعادتهم وليس بيد العبد إلا التبليغ قال تعالى : ما على الرسول إلا البلاغ فعلى العارف إيضاح هذا الطريق الموصل إلى هذا المقام والإفصاح عن دسائسه وليس بيده إعطاء هذا المقام فإٌّ ذلك خاص بالله تعالى قال تعالى : إنك لا تهدي من أحببت فوظيفة الرسل والورثة من العلماء إنما هو التبليغ بالبيان والإفصاح لا غير ذلك وجزاؤهم جواء من أعطى ووهب والدال على الخير كفاعل الخير.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
(9/436)
وفي التأويلات النجمية : ولله العزة أي القوةالاسم الأعظم ولرسول القلاب المظهر الأتم الأعم ولمؤمني القوى الروحانية ولكن منافقي النفس والهوى وصفاتهما الظلمانية الكدرة لا يعلمون لاستهلاكهم في الظلمة وانغماسهم في الغفلة يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيماناً صادقاً {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} في الصحاح لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهياً ولهياناً إذا سلوت وتركت ذكره وأضربت عنه وفي القاموس لها كدعا سلا وغفل وترك ذكره كتلهى وألهاه أي شغله ولهوت بالشيء بالفتح ألهو لهواً إذا لعبت به والمعنى لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكره تعالى من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود ففي ذكر الله مجتاز أطلق المسبب وأريد السبب قال بعضهم : الذكر بالقلب خوف الله وباللسان قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتمجيد والتكبير وتعلم علم الدين وتعليمه وغيرها وبالأبدان الصلاة وسائر الطاعات والمراد نهبهم عن التلهي بها أي عن ترك ذكر الله بسبب الاشتغال بها وتوجيه النهي إليها للمبالغة بالتجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى فلا يكن في صدرك حرج وقد ثبت أن المجاز أبلغ وقال بعضهم : هو كناية لأن الانتقال من لا تلهكم إلى معنى قولنا لا تلهوا انتقال من اللازم إلى الملزوم وقد كان المنافقون بخلاء بأموالهم ولذا قالوا : لا تنفقوا على من عند رسول الله ومتعززين بأولادهم وعشائرهم مشغولين بهم وبأموالهم عن الله وطاعته وتعاون رسوله فنهى المؤمنون أن يكونوا مثلهم في ذلك {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي التلهي بالدنيا عن الدين والاشتغال بما سواه عنه ولو في أقل حين {فأولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي الكاملون في الخسران حيث باعوا
540
العظيم الباقي بالحقير الفاني.
قال الكاشفي : مقتضاي ايمان آنست كه دوستى خداى تعالى غالب بود بردوستى همه اشيا تا حدى كه اكر تمام نوال دنيا ومجموع نعم آخرت بروى عرض كنند بنظر در هي كدام ننكرد :
شم دل ازنعيم دوعالم به بسته ايم
مقصود مازديني وعقبي تويى وبس
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
وفي الحديث ما طلعت الشمس إلا بجنبيها ملكان يناديان ويسمعان الخلائق غير الثقلين يا أيها الناس هلموا إلى ربكم ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وفي الآية إشارة إلى كمل أرباب الإيمان الحقيقي الشهودي يقول الله لهم لا تشغلكم رؤية أموال أعمالكم الصالحة من الصلاة والزكاة والحج والصوم ولا أورد الأحوال التي هي نتيجة الأعمال من المشاهدات والمكاشفات والمواهب الروحانية والعطايا الربانية عن ذكر ذاته وصفاته وأسمائه وظهوره في صورة الأعمال والأحوال ومن يفعل ذلك فإنما يشغل بالخلق ويجتنب بالنعمة عن المنعم فأولئك هم الخاسرون خسروا رأس مال التجارة وما ربحوا إلا الخسران وهو حجاب عن المشهود الحقيقي قال بعضهم في الآية بيان أن من لم يبلغ درجة التمكين في المعرفة لا يجوز له الدخول في الدنيا من الأهل والمال والولد فإنها شواغل قلوب الذاكرين عن ذكر الله ومن كان مستقيماً في المعرفة وقرب المذكور فذكره قائم بذكر الله إياه فيكون محفوظاً من الخطرات المذمومة والشاغلات الحاجبة وأما الضعفاء فلا يخرجون من بحر هموم الدنيا فإذا باشرت قلوبهم الحظوظ والشهوات لا يكون ذكرهم صافياً عن كدورات الخطرات وقال سهل قدس سره : لا يشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن أداء الفرائض في أول مواقيتها فإن من شغله عن ذكر الله وخدمته عرض من عروض الدنيا فهو من الخاسرين {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم} أي بعض ما أعطيناكم تفضلاف من غير أن يكون حصوله من جهتكم ادخار اللآخرة يعني حقوق واجب را اخراج نماييد.
فالمراد هو الإنفاق الواجب نظراً إلى ظاهر الأمر كما في الكشاف ولعل التعميم أولى وأنسب بالمقام {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بأن يشاهد دلائله ويعاين إماراته ومخايله وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما تقدم والتشويق إلى ما تأخر ولم يقل من قبل أن يأتيكم الموت فتقولوا إشارة إلى أن الموت يأتيهم واحداً بعد واحد حتى يحيط بالكل {فَيَقُولَ} عند تيقنه بحلوله {رَبِّ} أي آفريد كارمن {لَوْلا أَخَّرْتَنِى} هلا أمهلتني فلولا للتحضيض وقيل لا زائدة للتأكيد ولو للتمني بمعنى لو أخرتني {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمد قصير وساعة أخرى قليلة وقال أبو الليث يا سيدي ردني إلى الدنيا وأبقني زماناً غير طويل وفي عين المعاني مثل ما أجلت لي في الدنيا
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
(9/437)
{فَأَصَّدَّقَ} تا تصدق كنم وزكاة ادانمايم.
وهو بقطع الهمزة لأنها للتكلم وهمزته مقطوعة وبتشديد الصاد لأن أصله أتصدق من التصدق فأدغمت التاء في الصاد وبالنصب لأنه مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التمني في قوله لولا أخرتني {وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} بالجزم عطفاً على محل فأصدق كأنه قيل إن أخرتني أصدق وأكن وفيه إشارة إلى أن التصدق من أسباب الصلاح والطاعة كما إن تركه من أسباب
541
الفساد والفسق والفرق بين التصدق والهدية الفساد والفسق والفرق بين التصدق والهدية أن التصدق للمحتاج بطريق الترحم والهدية للحبي لأجل المودة ولذا كان عليه السلام يقبل الهدية لا الصدقة فرضاً كانت أو نفلاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من كان له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكه أو مال يبلغه إلى بيت الله فلم يحج يسأل عند الموت الرجعة فقال رجل : اتق الله يا ابن عباس إنما سألت الكفار الرجعة قال ابن عباس رضي الله عنهما : إني أقرأ عليك هذا القرآن فقال : يا أيها الذين آمنوا إلى قوله فأصدق وأكن من الصالحين فقال الرجل : يا ابن عباس وما يوجب الزكاة قال : مائتا درهم فصاعداً قال : فما يوجب الحج قال الزاد والراحلة فالآية في المؤمنين وأهل القبلة لكن لا تخلو عن تعريض بالكفار وإن تمنى الرجوع إلى الدنيا لا يختص بالكفار بل كل قاصر مفرط يتمنى ذلك قال بعض العلماء في الآية دلالة على وجوب تعجيل الزكاة لأن إتيان الموت محتمل في كل ساعة وكذا غيرها من الطاعات إذا جاء وقتها لعل الأولى استحبابه في أغلب الأوقات ولذا اختار بعض المجتهدين أول الوقت عملاً بقوله عليه السلام : أول الوقت رضوان الله أي لأن فيه المسارعة إلى رضى الله والاهتمام بالعمل إذ لا يدري المرء أن يدرك آخر الوقت {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} أي ولن يمهلها مطيعة وعاصية صغيرة أو كبيرة {إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ} أي آخر عمرها أو انتهى إن أريد بالأجل الزمان الممتد من أول العمر إلى آخره يعني ون عمر بآخر رسيد يزى بران نيفزايند وازان كم نكنند(قال الشيخ سعدي) كه يك لحظه صورت نه بندد امان
و يمانه رشد بدور زمان
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
واستنبط بعضهم عمر النبي عليه السلام من هذه الآية فالسورة رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده قال بعضهم : الموت على قسمين اضطراري وهو المشهور في العموم والعرف وهو الأجل المسمى الذي قيل فيه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون والموت الآخر موت اختياري وهو موت في الحياة الدنيا وهو الأجل المقضي في قوله ثم قضى أجلاً ولا يصح للإنسان هذا الموت في حياته إلا إذا وحد الله تعالى توحيد الموتى الذين انكشفت لهم الأغطية وإن كان ذلك الكشف في ذلك الوقت لا يعطي سعادة إلا لمن كان من العامة عالماً بذلك فإذا انكشف الغطاء يرى ما علم عيناً فهو سعيد فصاحب هذا التوحيد ميت لا ميت كالمقتول في سبيل الله نقله الله إلى البرزخ لا عن موت فالشهيد مقتول لا ميت وكذلك هذا المعتنى به لما قتل نفسه في الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس رزقه الله تعالى حكم الشهادة فولاه النيابة في البرزخ في حياته الدنيا فموته معنوي وقتله مخالفة نفسه {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجازيكم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر فسارعوا في الخيرات واستعدوا لما هو آت القاشاني قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا من شدة التعلق بهم وبالأموال غالبة في قلوبكم على محبة الله فتحجبون بهم عنه فتصيرون إلى النار فتخسرون نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما يفنى سريعاً وتجردوا عن الأموال باتفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها لتكون
542
فضيلة في نفسك وهيئة نورية لها فإن الاتفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء وهيئة التجرد في النفس فأما عند حضور الموت فالمال للوارث لا له فلا ينفعه إنفاقه وليس له إلا التحسر والندم وتمنى التأخير في الأجل بالجهل فإنه لو كان صادقاً في دعوى الإيمام وموقناً بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري وإنه مقدر في وقت معين قدره الله فيه بحكمته فلا يمكن تأخره ولتدارك أمره قبل حلول المنية فإنه لا يدري المرء كيف تكون العاقبة ولذا قيل لا تغتر بلباس الناس فإن العاقبة مبهمة :
مسكين دل من كره فراوان داند
در دانش عاقبت فرومى ماند
وفي الحديث : "لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدق بمائة عند موته" وقال عليه السلام : "الذي يتصدق عند موته أو يعتق كالذي يهدي إذا شبع" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً قال : إن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تهمل حتى إذا بلعت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان يعني إِمال نكني تا آن زمان كه جان بحلقوم رسد كويى فلان را اين وفلانرا اين باشد وخود از ان فلان شود به مرك تو.
جزء : 9 رقم الصفحة : 529
ـ روي ـ الإمام الغزالي رحمه الله عن عبد الله المزني إنه قال : جمع رجل من بني إسرائيل مالاً كثيراً فلما أشرف على الموت قال لبنيه ائتوني بأصناف أموالي فأتى بشيء كثير من الخيل والإبل والدقيق وغيره فلما نظر إليها بكى عليها تحسراً فرآه ملك الموت وهو يبكي فقال : ما يبكيك؟ فوالذي خولك ما خولك ما أنا بخارج من منزلك حتى أفرق بين روحك وبدنك قال : فالمهلة حتى أفرقها قال : هيهات انقطع عنك المهلة فهلا كان ذلك قبل حضور أجلك فقبض روحه قال السلطان ولد قدس سره :
بكذار جهان راكه جهان آن تونيست
وين دم كه همى زنى بفرمان تونيست
كرمال جهان جمع كنى شاد مشو
ورتكيه بجان كنى جان آن تونيست
وفي الآية إشارة إلى أنفاق الوجود المجازي الخلقي بالإرادة الروحانية لنيل الوجود الحقيقي من غير أن يأتي الموت الطبيعي بلا إرادة فيموت ميتة جاهلية من غير حياة أبدية لأن النفس لم تزل جاهلة غير عارفة بربها ولا شك أن الحياة الطبيعية إنما هي في معرفة الله وهي لا تحصل إلا بموت النفس والطبيعة وحياة القلب والروح فمن لم يكن على فائدة من هذا الموت الإرادي بتمني الرجوع إلى الدنيا عند الموت الطبيعي لتصدق الوجود المجازي بالإرادة والرغبة والكون من الصالحين لقبول الوجود الحقيقي وكل من كان مستعداً لبذل الوجود الإضافي لقبول الوجود الإطلاقي وجاء زمانه باستيفائه أحكام الشريعة الزهراء واستقصائه آداب الطريقة البيضاء لا يمكن له الوقفة على الحجاب والاحتجاب كما إذا جاء زمان نفخ الروح في الجنين باستكمال المدة يشتعل بنور الروح البتة اللهم إلا أن تعرض آفة تمنعه عن ذلك والله خبير بما تعملون من بذل الوجود الإمكاني ونيل الوجود الواجبي الحقاني كما قال تعالى إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة جعلنا الله وإياكم من الباذلين
543
وجوده والمستفيضين منه تعالى فضله وجوده وأن يختم لنا بالخير بأن يوفقنا للإعراض عن الغير.
544
جزء : 9 رقم الصفحة : 529(9/438)
تفسير سورة التغابن
مختلف في كونها مكية أو مدنية وآيها ثمان عشرة
جزء : 9 رقم الصفحة : 544
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ} من الروحانيات {وَمَا فِى الأرْضِ} من الجسمانيات أي ينزهه سبحانه جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيهاً مستمراً والمراد إما تسبيح الإشارة الذي هو الدلالة فتعم ما كل حي وجماد و تسبيح العبارة الذي هو أن يقول سبحان الله فتعمهما أيضاً عند أهل الله وعن بعضهم سمعت تسبيح الحيتان في البحر المحيط يقلن سبحان الملك القدوس رب الأقوات والأرزاق والحيوانات والنباتات ولولا حياة كل شيء من رطب ويابس ما أخبر عليه السلام إنه يشهد للمؤذن وكم بين الله ورسوله مما ميع المخلوقات عليه من العلم بالله والطاعة له والقيام بحقه فآمن بعضهم وصدق وقبل ما أضافه الله إلى نفسه وما أضاف إليه رسوله وتوقف بعضهم فلم يؤمنوا ولم يسمعوا وتأولوا الأمر بخلاف ما هو عليه وقصدهم بذلك أن يكونوا من المؤمنين وهم في الحقيقة من المكذبين لترجيحهم حسهم على الإيمان بما عرفه لهم ربهم لما لم يشاهدوا ذلك مشاهدة عين وعن بعض العارفين في الآية أي يسبح وجودك بغير اختيارك وأنت غافل عن تسبيح وجودك له وذلك إن وجودك قائم في كل لمحة بوجوده يحتاج إلى الكينونة بتكوينه إياه ابن قلبك ولسانك إذا اشتغل بذكر غيرنا وفي الحقيقة لم يتحرك الوجود إلا بأمره ومشئته وتلك الحركة إجابة داعي القدم في جميع مراده وذلك محض التقديس ولكن لا يعرفه إلا لعارف بالوحدانية {لَهُ الْمُلْكُ} الدآثم الذي لا يزول وهو كمال القدرة ونفاذ التصرف وبالفارسية مروراست بادشاهى كه ارض وسما وما بينهما بيافريد {وَلَهُ الْحَمْدُ}
2
أي حمد الحامدين وهو الثناء بذكر الأوصاف الجميلة والأفعال الجزيلة وتقديم الجار والمجرور للدلالة على تأكيد الاختصاص وإزاحة الشبهة بالكلية فإن اللام مشعر بأصل الاختصاص قدم أو أخر أي له الملك وله الحمد لا لغيره إذ هو المبدىء لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه المتصرف فيه كيف يشاء وهو المولى لأصول النعم وفروعها ولولا إنه أنعم بها على عباده لما قدر أحد على أدنى شيء فالمؤمنون يحمدونه على نعمه وله الحمد في الأولى والآخرة وأما ملك غيره فاسترعاء من جنابه وتسليط منه وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده فللبشر ملك وحمد من حيث الصورة لا من حيث الحقيقة.
باغير أو أضافت شاهى بود نان
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
بريك دووب اره زشطرنج نام شاه(10/1)
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فهو القادر على الإيجاد والإعدام والإسقام والإبراء والإعزاز والإذلال والتبييض والتسويد ونحو ذلك من الأمور الغير المتناهية قال بعضهم درة الله تصلح للخلق وقدرة العبد تصلح للكسب فالعبد لا يوصف بالقدرة على الخلق والحق لا يوصف بالقدرة على الكسب فمن عرف إنه تعالى قادر خشى من سطوات عقوبته عند مخالفته وأمل لطائف نعمته ورحمته عند سؤال حاجته لا بوسيلة طاعته بل بكرمه ومننه وفي التأويلات النجمية ينزه ذاته المسبحة المقدسة عن الأمثال والأضداد والأشكال والأنداد ما في السموات القوي الروحانية وما في أرض القوي الجسمانية له ملك الوجدو المطلق وله الحمد على نعمة ظهوره في الوجود المقيد وهويته المطلقة قادرة على ظهوها الإطلاق والتقييد وهيفي عينها نمزهة عنهما وهما نسبتان اعتباريتان {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ} خلقا بديعاً حاوياً لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية ومع ذلك {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} أي فبعضكم أو فبعض منكم مختار للكفر كاسب له حسبا تقتضيه خلقته ويندرج فيه المنافق لأنه كافر مضمر وكان الواجب عليكم جميعاً إن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنهم منه بل تشعبتم شعاً وتفرقتم فرقاً قال في فتح الرحمن الكفر فعل الكافر والإيمان فعل المؤمن والكفر والإيمان اكتساب العبد لقول النبي عليه السلام كل مولود يولد على الفطرة وقوله فطرة الله التي فطر الناس عليها فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار لإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأن الله تعالى قدر عليه ذلك وعلمه منه وهذا طريق أهل السنة انتهى وفي لآية رد للدهرية والطبيعية فإنهم ينكرون خالقية الله تعالى والخالق هو المخترع للأعيان المبدع لها.
(حكى) إن سنيا ناظر معتزلياً في مسألة القدر ، فقطف المعتزلي تفاحة من شجرة وقال للسني : أليس أنا الذي قطفت هذه فقال له : السني إن كنت الذي قطفتها فردها على ما كانت عليه فأفحم المعتزلي وانقطع ، وإنما ألزمه بذلك لأن القدرة التي صحل بها الإيجاد لا بد أن تكون صالحة للضدين ، فلو كان تفريق الأجزاء بقدرته لكان في قدرته وصلها ومن أدب من
3
عرف إنه سبحانه هو المنفرد بالخلق والإيجاد أن لا يجحد كسب العبد ولا يطوي بساط الشرع في الابتلاء بالأمر والنهي ولا يعتقد إن للعبد على الله حجة بسبب ذلك.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
حكى إن بعض الأكابر تعجب من تجاسر الملائكة في قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ثم قال : ما عليهم شيء هو أنطقهم فبلغ قوله يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه فقال : صدق هو أنقهم ولكن انظر كيف أفحمهم بين بذلك إن مجرد الخلق من جهة الحلق لا يكون عذراً للعبيد في سقوط اللوم عنهم {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} مختار للإيمان كاسب له ويندرج فيه مرتكب الكبيرة الغير التائب والمبتدع الذي لا تفضى بدعته إلى الكفر ، وتقديم الكفر عليه لأنه إلا نسب بمقام التوبيخ والأغلب فيما بينهم ولذا يقول الله في يوم الموقف يا آدم أخرج بعث النار يعني ميز أهلها المبعوث إليها قال : وما بعث النار أي عدده قال ا من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وفي التنزيل ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وقليل من عبادي الشكور والإيمان أعظم شعب الشكر.
(روى) أن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً يقول اللهم اجعلني من القليل فقال له عمر ما هذا الدعاء فقال الرجل إني سمعت يقول وقليل من عبادي الشكور فإنما ادعو أن يجعلني من ذلك القليل فقال عمر : كل الناس اعلم من عمر.
(10/2)
يقول الفقير : هذا القول من عمر من قبيل كسر النفس واستقصار العلم والمعرفة واستقلالهما على ما هو عادة الكمل فلا ينافي كماله في الدين والمعرفة حتى يكون ذلك سبباً لجرحه في باب الخلافة كما استدل به الطوسي الخبيث على ذلك في كتاب التجر يدله وفي الحديث "إلا أن ابن آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمناً ويحيى مؤمناً ويموت مؤمناً ومنهم من يولد كافراً ويحيى كافراً ويموت كافراً ومنهم من يولد مؤمناً ويحيى مؤمناً ويموت كافراً ومنهم من يولد كافراً ويحيى كافراً ويموت مؤمناً".
ومن هنا قال بعضهم : قوم طلبوه فخذلهم وقوم هربوا منه فأدركهم.
إبراهيم خواص قدس سره كفت درباديه وقتى بتجريد مى رفتم يرى راديدم دركوشه نشتسه وكلاهىبرسر نهاده وبزاري وخواري مي كريست كفتم يا هذا توكيسيتي كفت من ابو مره ام كفتم رامى كري كفت كيست بكريستن سزا وارتراز من هل هزار سال بدان دركاه خدمت كرده ام ودرافق أعلى ازمن مقدم تركس نبودا كنون تقدير إلهي وحكم غيبي نكركه مرابه روز آورد آنكه كفت اي خواص نكر تابدين جهد وطاعت خويش غره نباشى كه بعنايت واختيار اوست نه بجهد وطاعت بنده بمن يك فرمان آمدكه آدم راسجده كن نكردم وآدم را فرمان آمدكه ازان درخت مخور خورد ودركار آدم عنايت بود عذرش بنهادند وزلت اودر حساب نياوردند ودركار من عنايت نيود طاعت ديرينه من زلت شمردند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
من لم يكن للوصال أهلا
فكل إحسانه ذنوب
ومن هنا يعرف سر قول الشيخ سعدى :
هركه در سايه عنايت اوست
كنهش طاعتست ودشمن دوست
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} مطلقاً {بَصِيرٌ} فيجازيكم بذلك فاختاروا منه ما يجديكم من الإيمان
4
والطاعة وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان قال القاسم رحمه الله خاطبهم مخاطبة حال كونهم ذرا فسماهم كافرين ومؤمنين في أزله وأظهرهم حين أظهرهم على ما سماهم وقدر عليهم فأخبر بأنه علم ما يعملونه من خير وشر.
واعلم أن الله تعالى يعلم لكنه يحلم ويقدر لكنه يغفر إلا أن من أقصه السوابق لم تدنه السوائل ومن اقعده جده لم ينفعه كده قبل أن بعض الأكابر بلغه أن يهودياً أوصى أن يحمل من بلده إذا مات ويدفن في بيت المقدس فقال ايكابر الأزل أما علم إنه لو دفن في فراديس العلى لجاءت جهنم بأنكالها وحملته إلى نفسها والناس على أربعة أقسام أصحاب السوابق وهو الذين تكون فكرتهم أبداً فيما سبق لهم من الله لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبيد وأصحاب العواقب وهم الذين يكفرون أبداف فيما يختم به أمرهم فإن الأمور بخواتمها والعاقبة مستورة ولهذا قيل لا يغرنكم صفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات وأصحاب الوقت وهم الذين لا يتفكرون في السوابق ولا في اللوحق العواقب بل يشتغلون بمراعاة الوقت وأداء ما كلفوا من أحكام ولهذا قيل العارف ابن وقته وقيل الصوفي من لا ماضي له ولا مستقبل (وفي المثنوى) :
صوفى ابن الوقت باشد أي رفيق
نيست فردا كفتن از شرط طريق
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
والقسم الرابع هم الذين غلب عليهم ذكر الحق فهم مشغولون بشهود الموقت عن مراعاة الوقت وفي الآية إشارة إلى هويته المطلقة عن النسب والإضافات خلقكم أي تجلى لتعيناتكم لجنسية والنوعية والشخصية من غير تقيد وانحصارفمنكم أي فمن بعض هذه التعينات كافر يستر الحق المطلق بالخلق المقيد ويقول بالتفرقة دفعا لطعن الطاعن ومن بعض هذه التعينات مؤمن يؤمن بظهور الحق في الخلق ويستر الخلق بالحق ويوقل بالجمعية تأنيساً للمكاشفين بالحقائق والله بما تعملون بصير من ستر الحق بالخلق دفعا للطاعن ومن ستر الخلق بالحق تأنيساً للطالب الواجد {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} أي بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية والمراد السموات السبع والأرضون السبع كما يدل عليه التصريح في بعض المواضع قال تعالى خلق سبع سموات طباقاً وقال تعالى الله الذي خلق بع سموات ومن الأرض مثلهن فإن قلت ما وجه عدم ذكر العرش والكرسي في أمثال هذه المواضع مع عظم خلقهما قلت إنهما وإن كانا من السماء لأن السماء هو الفلك والفلك جسم شفاف محيط بالعالم وهما أوسع الأفلاك إحاطة إلا أن آثارهم غير ظاهرة مكشوفة بخلاف السموات والأرض وما بينهما فإنها أقرب إلى المخاطبين المكلفين ومعلوم حالها عندهم ومكشوفة آثارها ومنفعتها ولهذا قالوا إن الشمس تتضج الفواكه والقمر يلونها والكواكب تعطيها الطعام إلى غير ذلك مما لا يتناهى على أن الغيرت فيها أظهر فهي على عظم لقدرة أدل وقد قال تعالى كل يوم هو في شأن وأكثر هذه الشؤون في عالم لكون والفساد الذي هو عبارة عن السموات والأرض إذ هما من العنصريات بخلاف العرش والكرسي فإنهما من الطبيعيات ولهذا لاي فنيان {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} الفاء للتفسير أي صوركم أحسن تصوير وخلقكم في أحسن
5
(10/3)
تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم انموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة فلكم جمال الصورة وأحسن الأشكال ولذا لا يتمنى الإنسان أن يكون صورته على خلاف ما هو عليه لكون صورته أحسن من سائر الصور ونم حسن صورته امتداد قامته وانتصاب خلقته واعتدال وجوده ولا يقدح في حسنه كون بعض الصور قبيحاً بالنسبة إلى بعض لأن الحسن وهو الجمال في الخلق واللخق على مراتب كما قالت الحكماء شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان ولكم أيضاً جمال المعنى وكمال الخصال :
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
بدرون تست مصري كه تويى شكر ستانش
ه غمست اكرزبيرون مدد شكر نداريشده غلام صورت بمثال بت رستان
توو يوسفي وليكن سوى خود نظر ندارى
بخدا جمال خود را و در آينه بيني
بت خويش هم توباشى بكسى كذر ندارى
والمعتد به هو الحسن المعنوي لأن الله خلق آدم على صورته أي على الصورة الإلهية التي هي عبارة عن صفاته العليا وأسمائه الحسنى وإلا فالحسن الصوري يوجد في الكافر أيضاً :
ره راست بايدنه بالاي راست
كه كافرهم ازروى صورت وماست
نعم قد يوجد سيرة حسنة وخلق حميد في الكافر كعدل انوشروان مثلاً لكن المعتد به مايكون مقارناً بالإيمان الذي هو أحسن السير قال بعض الكبار كل من كان فيه صفة العدل فهو ملك وإن كان الحق تعالى ما استخلفه بالخطاب الإلهي ، فإن نم الخلفاء من أخذ المرتبة بنفسه من غير عهد إلهي إليه بها وقام بالعدل في الرعايا استناداً إلى الحق كما قال عليه السلام ولدت في زمن الملك العادل يعني كسرى فسماه ملكا ووصفه بالعدل ومعلوم إن كسرى في ذلك العدل على غير شرع منزل لكنه نائب للحق من وراء الحجاب وخرج بقولنا وقام بالعدل في الرعايا من لم يقم بالعدل كفرعون وأمثاله من المنازعين لحدود الله والمغالبين لجنابه بمغالبة رسله فإن هؤلاء ليسوا بخلفاء الله تعالى كالرسل ولا نواباً له ، كالملوك العادلة بل هم إخوان الشياطين قال الحسين رحمه الله أحسن الصور صورة اعتقت من ذل كن وتولى الحق تصويرها بيده ونفخ فيها من روحه وألبسها شواهد النعت وحلاها بالتعليم شفاها واسجد لها الملائكة المقربين واسكنها في جواره وزين باطنها بالمعرفة وظاهرها بفنون الخدمة والجمع في قوله فأحسن صوركم باعتبار الأنواع لأن صورة الرومي ليست كصورة الهندي إلى غير ذلك والإفراد وهو ظاهر {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي وإلى الله الرجوع في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فأحسنوا سر آثركم باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خلقن له حتى يجازيكم بالأنعام لا بالانتقام فكم من صورة حسناء تكون في العقبى شوهاء بقبح السريرة والسيرة وكم من صورة قبيحة تكون حسناء بحسنهما.
ه غم زمنقصت صورت أهل معنى را
وجان زروم بودكوتن ازحبش مى باش
وقد ثبت إن ضرس الكافر يوم القيامة مثل جبل أحد وإن غلظ جسده مسافة ثلاثة أيام وإنه يسوء خلقه فتغلظ شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى
6
ضرب سرته وإن أهل الجنة ضوء وجوههم كضوء القمر ليلة البدر أو على سن كوكب درى في السماء وهم جرد مردمكحلون أبناء ثلاثة وثلاثين فطوبى لأهل اللطافة وويل لأهل الكثافة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
اعلم أن الله تعالى خلق سموات الكليات وأرض الجزئيات بمظهرية الحق وظهوره فيهما بحسب استعداد الكل لا بحسبه وتجلى في مظاهر صور الإنسان بحسبه أي بجميع الأسماء والصفات ولذا قال تعالى فأحسن صوركم أي جعلصوركم أحدية جمع جميع المظهريات الجامعة لجميع المظاهر السماوية العلوية والأرضية السفلية كما قال عليه السلام إن الله خلق آدم على صورته يعني أورد الاسم الجامع في عنوان الخلق إشارة إلى تلك الجمعية فكان مصير الإنسان إلى الهوية الجامعة لجميع الهويات لكن حصل التفاوت بين إفراده بحسب التجلي والاستتار والفعل والقوة فليس لأهل الحجاب أن يدعى كمالات أهل الكشف للتفاوت المذكور فيا عجبا من إنسان خفي عليه ما دفن في أرض وجوده من كنز إلهي غيبي من نال إليه لم يفتقر أبداً وكيف قنع بقشر مع إمكان تحصيل اللب وكيف أقام في الحضيض مع سهولة العروج إلى الأوج.
ه شكرهاست درين شهركه قانع شده اند
شاهبازان طريقت بمقا مسكى م
(10/4)
{يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لأنه الذي يدور عليه الجزاء ففيه تأكيد للوعد والوعيد وتشديد لهما قال في برهان القرآن إنما كرر ما في أول السورة لاختلاف تسبيح أهل الأرض وأهل السماء في الكثرة والقلة والبعد والقرب من المعصية والطاعة وكذلك اختلاف ما تسرون وما تعلنون فإنهما ضدان ولم يكرر ما في السموات والأرض لأن الكل بالإضافة إلى علم الله جنس واحد لا يخفى عليه شيء {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلاً فكيف يخفى عليه ما يسرونه وما يعلنونه وبالفارسية وخداي تعالى داناست بآنه درسينهاست ازخواطر وأفكار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
وإنما قيل لها ذات الصدور وصاحبتها لملابستها لها وكونها مخزونة فها ففي الآية ترققٍ من الأظهر إلى وخفى لأنه عالم بما في السموات وما في الأرض وبما يصدر من بني آدم سراً وعلناً وبما لم يصدر بعد بل هو مكنون في الصدور وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم وتأكيداً استقلال الجملة قبل وتقديم القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قرته بالذات وعلى علمه بما فيها من الاتفاق والاختصاص ببعض الجهات الظاهرة مثل كون السماء في العلو والأرض في السفل أو الباطنة مثل أن يكون السماء متحركة والأرض ساكنة إلى غير ذلك فإن للمتكلمين مسلكين في إثبات العلم الأول إن فعله تعالى متقن أي محكم خال عن وجوه الخلل ومشتمل على حكمك مصالح متكثرة وكل من فعله متقن فهو عالم والثاني إنه فاعل بالقصد والاختيار لتخصيص بعض الممكنات ببعض الانحاء ولا يتصور ذلك إلا مع العلم وفي قوله ما تسرون إشارة إلى علماء الظاهر من الحكماء والمتكلمين وإلى علومهم الفكرية
7
النظرية وما يسرون فيها من عقائدهم الفاسدة ومقصادهم الكاسدة وفي قوله وما تعلنون إشارة إلى علماء الباطن من المشايخ والصوفية وإلى معارفهم ومواجيدهم الذوقية الكشفية وما يظهرون منها من الكرامات وخوارق العادات والله عليم بصدور عمل كل واحد من صدور قلوبهم بحسب الرياء والإخلاص والحق والباطل {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرة والألف للاستفهام ولم للجحد ومعناه التحقيق {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا} أي خبر قوم نوح ومن بعدهم من الأمم المصرة على الكفر {مِن قَبْلُ} أي قبكلم فيكون متعلقاً بكفروا أو قبل هذا الوقت أو هذا العصيان والمعادات فيكون ظرفاً لألم يأتكم {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} عطف على كفروا والذوق وإن كان في التعارف للقليل لكنه مستصلح للكثير والوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور والوبل والوابل المطر الثقيل القطار مقابل الطل وهو المطر الخفيف وأمرهم كفرهم فهو واحد الأمور عبر عنه بذلك للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة والمعنى فذاقوا في الدنيا من غير مهلة ما يستتبعه كفرهم من الضرر والعقوبة وأحسوه إحساس الذآئق المعطوم يعني س شيدن كران بارىء خود ودشوارىء سر انجام خويش وضرر كفر وعقوبت اودردنيا بغرق وريح صرصر وعذاب يوم الظلة وأمثال آن.
وفي إيراد الذوق رمز إلى أن ذلك المذوق العاجل شيء حقير بالنسبة إلى ما سيرون من العذاب الآجل ولذلك قال تعالى {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم لا يقادر قره وفيه أخبار بأن ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم وإلا لم يعذبوا في الآخرة بخلاف المؤمنين فإن ماأصابهم في الدنيا من الآلام والأوجاع والمصائب كفارة لذنوبهم على ما ورد في الأخبار الصحيحة {ذَالِكَ} أي ما ذكر من العذاب الذي زاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة {بِأَنَّهُ} أي بسبب إن الشان {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} أي بالمعجزات الظاهرة والباء إما للملابسة أو للتعدية {فَقَالُوا} عطف على كانت {أَبَشَرٌ} آيا آدميان مثل ما {يَهْدُونَنَا} راه نمايند مارا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
(10/5)
أي قال كل قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك ابشر وآدمى مثلنا يهدينا ويرشدنا إلى الدين أو إلى الله والتقرب منه كما قالت ثمود ابشرا منا واحداً نتبعه أنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون المعبود حجراً وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام وأريد البشر الجنس ، فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب والأمر في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا} وارتفاع بشر على أنه فاعل فعل مضمر يفسره ما بعده فيكون من باب الاشتغال وهو أولى من جعله مبتدأ وما بعده خبراً لأن أداة الاستفهام تطلب الفعل ظاهراً أو مضمراً قال القاشاني : لما حبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل لعيهم بما لا يقاس ولم يجدوا منه إلا البشرية أنكروا هدايته فإن كان كل عارف لا يعرف نمعروفه إلا بالمعنى الذي فيه فلا يوجد النور الكمالي ، إلا بالنور الفطري ولا يعرف الكمال إلا الكامل ولهذا قيل لا يعرف الله غير الله وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما
8
وإلا لما أمكنه التوجه نحوه وكذا كل مصدق بشيء فإنه واجد للمعنى المصدق به بما في نفسه من ذلك المعنى فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري ، أصلاً لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه ولم يعرفوا من الحق شيئا ولم يحدث فيهم طلب حتى يحتاجوا إلى الهداية فأنكروا الهداية ، وقال بعض العارفين : معرفة مقام الأولياء أصعب من الممكن من معرفة الله تعالى لأن الله تعالى معروف بكماله وجماله وجلاله وقهره بخلاف الولي الكامل فإنه ملآن من شهود الضعف يأكل ويشرب ويبول مثل غيره من الخلق ولاكرامة له تظهر إلا بأن يناجي ربه وإني للخلق معرفة مقامه ووالله لو كشف للخلق عن حقيقة الولي لعبد كما عبد عيسى عليه السلام ولو كشف لهم عن مشرقات نوره لانطوى نور الشمس والقمر من مشرقات نور قلبه ولكن في ستر الحق تعالى لمقام الولي حكم وأسرار وأدنى ما في الستر أن لاي تعرض أحد لمحاربة الله تعالى إذا آذاهم بعد أن عرفهم إنهم أولياء الله فكان ستر مقامهم عن الخلق رحمة بالخلق وفتحا لباب اعتذار من آذاهم من غالب الخلق فإن الأذى لم يزل من الخلق لهم في كل عصر لجهلهم بمقامهم فكفروا} أي بالرسل بسبب هذا القول لأنهم قالوه استصغاراً لهم ولم يعلموا الحكمة في اختيار كون الرسل بشراً {وَتَوَلَّوا}
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
عن التدبير فيما أتوا به من البينات وعن الإيمان بهم {وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} أي أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم ولولا غناه تعالى عنهما لما فعل ذلك وقال سعدي المفتي هو حال بتقدير قد وهو بمعنى ني الثلاثي والمراد كمال الغني إذ الطلب يلزمه الكمال {وَاللَّهُ غَنِىٌّ} عن العالمين فضلاً عن إيمانهم وطاعته {حَمِيدٌ} يحمده كل مخلوق بلسان الحال ويدل على إتصافه بالصفات الكمالية لأ يحمده أولياؤه وإن امتنع أعداؤه والحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال ومن عرف إنه الحميد في ذاته وصفاته وأفعاله شغله ذكره والثناء عليه فإنه العبد وإن كثرت محامده من عقائده وأخلاقه وأفعاله وأقواله فلا يخلو عن مذمة ونقص إلى النبي عليه السلام فإنه محمد وأحمد ومحمود من كل وجه وله المحمدة والكمال في الأربعين الأدريسية يا حميد الفعال ذا المن على جميع خلقه بلطفه قال السهرورودي رحمه الله من داومه يحل له من الأموال ما لا يمكن ضبطه {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا} الزعم ادعاء العلمفمعنى أزعم زيداً قائماً أقول إنه كذا ففي تصدير الجملة بقوله ازعم إشعار بأنه لا سند للحكم سوى ادعائه إياه.
وقوله به ويتعدى إلى مفعولين تعدى العلم وقد قام مقامهما إن المخففة مع ما في حيزها فإن مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله والمراد بالموصول كفار مة أي زعموا وادعوا إن الشان لن يبعثوا بعد موتهم أبداً ، ولن يقاموا ويخرجوا من قبورهم وعن شريح رضي الله عنه لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا قال بعض المخضرمين لابنه هب لي من كلامك كلمتين زعم وسوف انتهى ويكره للرجل أن يكثر لفظ الزعم وأمثاله فإنه تحديث بكل ما سمع وكفى بذلك كذباً وإذا أراد أن يتكلم تكلم بما هو محقق لا بما هو مشتبه وبذلك يتخلص من أن يحد بكل ما سمع فيكون معصوماً من الكذب كذا في المقاصد الحسنة {قُلْ} رداً لهم وإبطالاً لزعمهم بإثبات ما نفوه {بَلَى}
9
(10/6)
تبعثون فان لا يجاب النفى الذى قبله وقوله {وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} اى لتحاسبن وتجزون بأعمالكم جملة مستقلة داخلة تحت الامر واردة لتأكيد ما أفاده كلمة بلى من اثبات البعث وبيان تحقق امر آخر متفرع عليه منوط به ففيه تأكيد لتحقق البعث بوجهين فقوله وربى قسم لعل اختياره ههنا لما ان فى البعث اظهار كمال الربوبية المفيدة لتمام المعرفة وايثار دوام التربية بالنعم الجسمانية الظاهرة والنعم الروحانية الباطنة وقوله لتبعثن اصله لتبعثون حذفت واوه لاجتماع الساكنين بمجيئ نون التأكيد وان كان على حده طلبا للخفة واكتفاء بالضمة وهو جواب قسم قبله مؤكد باللام المؤكدة للقيم وثم لتراخى المدة لطوب يوم القيامة او لتراخى الرتبة وظاهر كلام اللباب أن يكون وربى قسما متعلقا بما قبله قد تم الكلام عنده وحسن الوقف عليه ويجعل تبعثن بما عطف عليه جواب قسم آخر مقدر مستانف لتأكيد الاول لعل فائدة الاخبار بالقسم مع ان المشركين ينكرون الرسالة كما ينكرون البعث ابطال لزعمهم بالتشديد والتأكيد ليتأثر من قدر الله له الانصاف وتتأكد الحجة على من لم يقدر له وكان محروما بالكلية {وَذَالِكَ} اى ما ذكر من البعث والجزآء {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} اى سهل على الله لتحقق القدرة التامة وقبول المادة واذا كان الامر كذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 2
{فَـاَامِنُوا} بصرف ارادتكم الجزئية الى اسباب حصول الايمان {بِاللَّهِ} الباعث من القبور المجازى على كل عمل ظاهر أو مستور {وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم الذى اخبر عن شؤون الله تعالى وصفاته {وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا} اى انزلناه على رسولنا وهو القرءآن فانه بأعجازه بين بنفسه.
انه حق نازل من عند الله مبين لغيره ومظهر للحلال و الحرام كما ان النور كذلك والالتفات الى نون العظمة لابراز كمال العناية {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الامثتال بالامر وعدمه {خَبِيرٌ} فمجمازيكم عليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 9
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} ظرف لتنبئون وما بينهما اعتراض او معقول الذكر الظاهر ان الخطاب لمن خوطب اولا بقوله ألم يأتكم {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} ليوم يجمع فيه الاولون والآخرة من الجن والانس واهل السماء والارض اى لاجل ما فيه من الحساب والجزآء وهو يوم القيامة فللام للعهد اى جمع هذا اليوم عن النبى عليه السلام اذا جمع الله الاولين والآخرين جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم اهل الجسم اليوم من اولى بالكرم ثم يرجع فينادى ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادى ليقم الذين كانوا يحمدون الله فى البأساء والضرآء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا الى الجنة ثم يحاسب سائر الناس وقيل المراد مع الله بين العبد وعمله وقيل بين الظالم والمظلوم او بين كل شئ وامته {ذَالِكَ} اليوم {يَوْمُ التَّغَابُنِ} تفاعل من الغبن وهو أن تخسر صاحبك فى معاملة بينك وبينه بضر من الاخفاء والتغابن أن يغبن بعضهم بعضا ويوم القيامة غبن بعض الناس بعضا بنزول السعدآء منازل الاشقيا لو كانوا شعدآء وبالعكس وفيه تهكم لان نزولهم ليس بغبن ان كون نزول الاشقياء منازل السعدآء من النار لو كانوا اشقياء باعتبار الاستعارة التهكمية
10
(10/7)
وإلا فهم بنزولهم في النار لم يغبنوا أهل الجنة وفي الحديث ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة وتخصيص التغابن بذلك اليوم للإيذان بأن التغابن في الحقيقة هو الذي يقع فيه ما لا يقع في أموره الدنيا فاللام للعهد الذي يشار به عند عدم المعهود الخارجي إلى الفرد الكامل أي التغابن الكامل العظيم الذي لا تغابن فوقه قال القاشاني لسي التغابن في الأمور الدنيوية فإنها أمور فانية سريعة الزوال ضرورية الفناء لا يبى شيء منها لأحد فإن فات شيء من ذك أو أفاته أحد ولو كان حياته فإنما فات أو أفيت ما لزم فواته ضرورة فلا غبن ولا حيف حقيقة وإنما الغبن والتغابن في إفاتة شيء لو لم يفته لبقى دائماً وانتفع به صاحبه سرمداً وهو النور الكمالي والاستعدادي فتظهر الحسرة والتغابن هناك في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة كما قال فما ربحت تجارتهم وم كانوا مهتدين فمن أضاع استعداده أو اكتسب منه شيئاً ولم يبلغ غايته كان مغبوناً بالنسبة إلى الكمال التام وكأنما ظفر ذلك الكامل بمقامه ومرامه وبقي هذا متحسراً في نقصانه انتهى وقال الراغب يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله وبقوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وقوله الذين يشترون بعهد الله وأمانهم ثمناً قليلاً فلعلهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوا من ذلك جميعاً وسئل بعضهم عن يوم التغابن فقال تبدو الأشياء بخلاف مقاديرها في الدنيا وقال بعضهم يظهر يومئذٍ غبن الكافر بترك الإيمان وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان وإذا دخل العارف الجنة ورآه صاحب الحال فإنه يراه كما يرى الكوكب الدرى في السماء فيتمنى أن يكون له مثل مرتبة العارف فلا يقدر عليها فيتحسر على تفويته أسباب ذلك في الدنيا وقد ورد لا يتحسر أهل الجنة في الجنة إلا ساعة مرت بهم لم يذكروا الله فيها قيل أشد الناس بنا يوم القيامة ثلاثة نف عالم علم الناس فعملوا بعلمه وخالف هو علمه فدخل غيره الجنة بعلمه ودخل هو النار بعمله وعبد أطاع الله بقوة مال سيده وعصى الله سيده فدخل العبد الجنة بقوة مال مالكه ودخل مالكه النار بمعصية الله وولد ورث مالاً منأبيه وأبوه شح به وعصى الله فيه فدخل أبوه ببخله النار ودخل هو باتفاقه في الخير الجنة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
بخور اي نيك سيرت وسره مرد
كان نكون بخت كرد كرد ونحورد
وفي الحديث لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن وإن كان محسناً إن لم يزدد وقال بعض العارفين لا يجوز الترقي في الآخرة إلا في مقام حصله المكلف في هذه الدار فمن عرف شيئاً وتعلقت همته بطلبه كان له إما عاجلاً وإما إجلاً فإن ظفر به في حياته كان ذلك اختصاصاً واعتناء وإن لم يظفر به في حياته معجلاً كان مدخراً له بعد المفارقة يناله ثم ضرورة لازمة ومن لم يتحقق بمقام في هذا المطون لم يظفر به ثم لذلك سمى يوم التغابن لانقطاع الترقي فيه فاعلم ذلك وقال بعضهم الغبن كل الغبن أن لا يعرف الصفاء في الكدورة واللطف في صورة القهر فتوحش عن الحق بالتفرقة وهو في عين
11
الجمع والأنس وأيضاً يقع الغبن لمن كان مشغولاً بالجزاء والعطاء ورؤية الأعواض وإما من كان مشغولاً بمشاهدة الحق فقد خرج عن حد الغبن وأيضاً يقع الكل في الغبن إذا عاينوا الحق بوصفه وهم وجدوه أعظم وأجل مما وجدوه في مكاشفاتهم في الدنيا فيكونون معبونين حيث لم يعرفوه حق معرفته ولم يعبدوه حق عبادته وإن كانوا لا يعرفونه أبداً حق معرفته وأي غبن أعظم من هذا إذ يرونه ولا يصلون إلى حقيقة وجوده وقال ابن عطاء رحمه الله تغابن أهل الحق على مقادير الضياء عند الرؤية والتجلي وقال بعض الكبار يوم شهود الحق في مقام الجميعة يوم غبن أهل الشهود ولمعرفة على أهل الجحاب والغفلة فإنهم ف ينعيم القرب والجمع وأهل الحجاب في جحيم البعد والفراق {وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ} بالصدق والإخلاص بحسب نور استعداده {وَيَعْمَلْ صَـالِحًا} أي عملاً صالحاً بمقتضى إيمانه فإن العمل إنما يكون بقدر النظر وهو أي العمل الصالح ما يبتغي به وجه الله فرضاً أو نفلاً.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
(10/8)
روى) إن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أراد أن يدخل الحمام فطلب الحمامي الأجرة فتأوه وقال إذا لم يدخل أحد بيت الشيطان بلا أجرة فإني يدخل بيت الرحمن بلا عمل {يُكَفِّرْ} أي يغفر الله ويمح {عَنْهُ سَيِّـاَاتِهِ} يوم القيامة فلا يفضحه بها {وَيُدْخِلْهُ} بفضله وكرمه لا بالإيجاب {جَنَّـاتٍ} على حسب درجات أعماله {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت قصورها أو أشجارها {الانْهَـارُ} الأربعة {خَـالِدِينَ فِيهَآ} حال من الهاء في يدخله وحد أولاً حملاً على لفظ من ثم جمع حملاً على معناه {أَبَدًا} نصب على الظرف وهو تأكيد للخلود {ذَالِكَ} أي ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز ورآءه لانطوآئه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطيبات فيكون أعلى حالاً من الفوز الكبير لأنه يكن بجلب المنافع كما في سورة البروج والفوز العظيم في الحقيقة هو الانخلاع عن الوجود المجازي والتلبس بلباس الوجود الحقيقي وذلك موقوف عل ىالإيمان الحقيقي الذوقي والعمل الصالح المقارن بشهود العامل فإن نور الشهود حينئذٍ يستر ظلمكات وجوده الإضافي وينوره بنور الوجود الحقيقي ويدخله جنات الوصول والوصال التي تجري من تحتها الأنهار مملوءة من ماء المعارف والحكم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} تصريح بما علم التزاماً والمراد بالآيات إما القرآن أو المعجزات فإن كلا منهما آية لصدق الرسول {أولئك أَصْحَـابُ النَّارِ} أي أهلها إما بمعنى مصاحبوها لخلودهم فيها أو مالكوها تنزيلاً لهم منزلة الملاك للتهكم حال كونهم {خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي أبداً بقرينة المقابلة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي النار كأن هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن وإنما قلنا كأن لأن الواو يمانع الحمل على البيان كما عرف في المعاني وفي الآية إشارة إلى المحجوبين عن الله المحرومين من الإيمان الحقيقي به بأن يكون ذلك بطريق الذوق والوجدان لا بطريق اعلم والبرهان المكذبين آيات الله الظاهرة في خواص عباده بحسب التجليات فإنهم أصحاب نار الحجاب وجحيم الاحتجاب على الدوام والاستمرار وبئس المصير هذه النار فعلى العاقل أن يجتهد حتى يكشف الله عمى قلبه وغشاوة بصيرته
12
فيشاهد آثار الله وآياته في الأنفس والآفاق ويتخلص من الحجاب على الإطلاق ففي نظر العرافين عبرة وحكمة وفي حركاته شأن ومصلحة.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
حكى) إن أبا حفص النيسابوري رحمه الله خرج مع حابه في الربيع للتنزه فمر بدار فيها شجرة مزهرة فوقف ينظر إليها معتبراً فخرج من الدار شيخ مجوسي فقال له يا مقدم الأخيار هل تكون ضيفاً لمقدم الأشرار فقال نعم فدخلوا وكان معهم من يقرأ القرآن فقرأ فلما فرغ قال لهم المجوسي خذوا هذه الدراهم واشتروا بها طعاماً من السوق من أهل ملتكم ملتكم تتنزهون عن طعامنا ففعلوا فلما أرادوا الخروج قال المجوسي للشيخ لا أفارقك بل أكون أحد أصحابك ثم أسلم هو وأولاده ورهطه وكانوا بضع عشرة نفساً فقال أبو حفص لأصحابه إذا خرجتم للتنزه فاخرجوا هكذا.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص13 حتى ص23 رقم2
ون نظر ميداشت أرباب شهود
مؤمن آم بي نفاق أهل جحود
(10/9)
{مَا} نافية ولذا زاد من المؤكدة {أَصَابَ} لخلق يعني نرسد بهي كس {مِن مُّصِيبَةٍ} من المصائب الدنيوية في الأبدان والأولاد والأموال {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} استثناء مفرغ منصوب المحل على الحال أي ما أصاب مصيبة ملتبسة بشيء من الأشياء إلا بإذن الله أي بتقديره وإرادته كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان متوقفة على إذنه تعالى إن تصيبه وهذا لا يخالف قوله تعالى في سورة الشعراء [الشورى : 30-15]{وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} أي بسبب معاصيكم ويتجاوز عن كثير منها ولا يعاقب عليها إما أولاً فلان هذا القول فيحق المجرمين فم من مصيبة تصيب من أصابته لأمر آخر من كثرة الأجر للصبر وتكفير السيئات لتوفية الأجر إلى غير ذلك وما أصاب المؤمنين فمن هذا القبيل وإما ثانياً فلان ما أصاب من ساء بسوء فعله فهو لم يصب إلا بإذن الله وإرادته أيضاً كما قال تعالى : قل كل من عند الله أي إيجاداً وإيصالاً فسبحان من لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء وكان الكفار يقولون لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب في أموالهم وأبدانهم في الدنيا فبين الله إن ذلك إنما يصيبهم بتقديره ومشيئته وفي إصباتها حكمة لا يعرفها إلا هو منها تحصيل اليقين بأن ليس شيء من الأمر في يديهم فيبرأون بذلك من حولهم وقوتهم إلى حول الله وقوته ومنها ما سبق آنفاً من تكفير ذنوبهم وتكثر مثوباتهم بالصبر عليها والرضى بقضاء الله إلى غير ذلك ولو لميصب الأنبياء والأولياء محن الدنيا وما يطرأ على الأجسام لافتتن الخلق بما ظهر على أيديهم من المعجزات والكرامات على أن طريان الآلام والأوجاع على ظواهرهم لتحقق بشريتهم لا على بواطنهم لتحقق مشاهدتهم والأنس بربهم فكأنهم معصومون محفوظون منها لكون وجودها في حكم اعدم بخلاف حال الكفار والأشرار نسأل العفو والعافية من الله الغفار وفي الآية إشارة إلى إصابة مصيبة النفس الأمارة بالاستيلاء على القلب وإلى إصبة مصيبة القلب السيار بالغلبة على النفس فإنهما ب5ن تجلية القهري للقلب الصافي بحسب الحكمة أو بإذن تجليه اللطفي الجمالي للنفس الجانية بحسب النقمة ومن يؤمن بالله} يصدق به ويعلم إنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله والاكتفاء
13
بالإيمان بالله لأنه الأصل {يَهْدِ قَلْبَهُ} عند إصابتها للثبات والاسترجاع فيثبت ولا يضطرب بأن يقول قولاً ويظهر وصفا يدل على التضجر من قضاء الله وعدم الرضى به ويسترجع ويقول إناوإنا إليه راجعون ومن عرف الله واعتقد أنه رب العالمين يرضى بقضائه ويصبر على بلائه فإن التربية كم تكون بما يلائم الطبع تكون بما يتنفر عنه الطبع وقيل يهد قلبه أي يوفقه لليقين حتى يعلم إن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيرضى بقضائه ويسلم لحكمه وقيل يهد قلبه أي يطلف به ويشرحه لازدياد الطاعة ، والخير وبالفارسية الله راه نما يددل اورابه سند كارى ومزيد طاعت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
وقال أبو بكر الوراق رحمه الله ومن يؤمن بالله عند الشدة والبلاء فيعلم إنها من عدل الله يهد قلبه لاتباع سنن نبيه عليه السملا وعلامة صحة الإيمان المداومة على السن وملازمة الاتباع وترك الآراء وإلا هواء المضلة وقال بعضهم ومن يؤمن بالله تحقيقاً يهد قلبه إلى العمل بمقتضى إيمانه حتى يجد كال مطلوبه الذي أمن به ويصل إلى محل نظره وقال بعضهم ومن يؤمن بالله بحسب ذاته نور قلبه بنور المعرفة بأسمائه وصفاته إذ معرفة الذات تستلزم معرفة الصفات والأسماء من يغر عكس وباعتبار سبق الهداية ولحوقها فإن الإيمان بالله إنما هو بهداية سابقة وهداية القلب إنما هي هداية لاحقة يندفع توهم إن الإيمان موقوف على الهداية فإذا كانت هي موقوفة عليه كما تفيده من الشرطية لما أن الشرط مقدم على المشروط لدار فإن للهداية مراتب تقدما وتأخراً لا تنقطع ولذلك ندعو الله كل يوم ونقول مراراً اهدنا الصراط المستقيم بناءع لى أن في كل عمل نريده صراطاً مستقيماً يوصل إلى رضى الله تعالى وقيل إنه مقلوب ومعناه من يهد قلبه يؤمن بالله.
(10/10)
وروى في يهد سبع قراآت المختار من السبع يهد مفرداً غائباً راجعاً ضميره إلى الله مجزم الآخر ليكون جواب الشرط المجزوم من الهداية وقرىء نهد بالنون على الالتفات منها أيضاً ويهد مجهولاً برفع قلبه على أنه قائم مقام الفاعل منها أيضاً ويهد بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ورفع قلبه أيضاً بمعنى يهتد كقوله تعالى : {أَمَّن لا يَهِدِّى إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا} من الأشاء التي من جملتها القولب وأحوالها كتسليم من انقاد لامره وكراهة من كرهه وكآفاتها وخلوصها من الآفات.
{عَلِيمٌ} فيعلم إميان المؤمن وخلوصه ويهدي قلبه إلى ما ذكر {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} إطاعة العبد لمولاه فيما يأمره {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إطاعة الأمة لنبيها فيما يأديه عن الله أي لا يشغلنم المصائب عن الاشتغال بطاعته والعمل بكتابه وعن الاشتغال بطاعة الرسول واتباع سننه وليكن جل همتكم في السراء والضراء العلم بما شرع لكم قال القاشاني وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول على حسب معرفتكم بالله وبالرسول فإن أكثر التخلف عن المكال والوقوع في الخسران والنقصان إنما يقع من التقصير في العمل وتأخر القدم لا من عدم النظر كرر الأمر للتأكيد ولإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية وتوضيح مورد
14
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
التولي في قوله {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن إطاعة الرسول {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} تعليل للجواب المحذوف أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وإظهارالرسول مضافاً إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه السلام والإشعار بمدار الحلم الذي هو كون وظيفته عليه السلام محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه وفي التأويلات النجمية أطيعوا الله بتهيئة الأسباب بمظهرية ذاته وصفاته وأطيعوا الرسول بتحصيل القابلية لمظهرية كام شريعته الظاهرة وآداب طريقته الباطنة فإنأعرضتم عن تهيئة الأسباب والاستعداد وتصفية هذين الأمرين الكليين بالإقبال على الدنيا والاستهلاك في بحر شهواتها فإنما على رسولنا البلاغ المبين وعليكم العذاب المهين {اللَّهُ لا إِلَـاهَ} في الوجود {إِلا هُوَ} جملة من مبتدأ وخبر أي هو المستحق للمعبودية لا غير وهو القادر على الهداية والضلالة لا شريك له في الإرشاد والإضلال وليس بيد الرسول شيء من ذلك {وَعَلَى اللَّهِ} أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في تثبيت قلوبهم على الإيمان والصبر على المصائب وإظهار الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعلية التوكل والأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق عما سواه بالمرة وفي الآية بعث لرسول الله وللمؤمنين وحث لهم على الثبات على التوكل والازدياد فيه حتى ينصرهم على المكذبين وعلى من تولى عن الطاعة وقبول أحكام الدين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
واعلم أن التوكل من المقامات العالية وهو إظهار العجز والاعتماد على الغير وفي الحدائق التوكل هو الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس وظاهر الأمر يفيد وجوب التوكل العقلي وهو أن يعتقد العبد إنه ما من مراد من مراداته الندوية والأخروية إلا وهو يحصل من الله فيثق به في حصوله ويرجو منه وإن كانت النفس تلتفت إلى الغير وتتوقع منه نظراً إلى اعتقاد سببيته والله مسبب الأسباب وإما التوكل الطبيعي الذي لا يكون ثقة صاحبه طبعاً إلا بالله وحده ولا اعتماده إلا عليه في جميع مقاصده مع طع النظر عن الأغيار كلها رأساً فهو عسير قلما يوجد إلا في الكمل من الأولياء كما حكى عن بشر الحافي رحمه الله إنه جائه جماعة من الشأم وطلبوا منه أن يحج معهم فقال نعم ولكن بثلاثة شروط أن لا نحمل معنا شيئاً ولا نسأل أحداً شيئاً ولا تقبل من أحد شيئاً فقالوا إما الأول والثاني فنقدر عليه إما الثالث فلا نقدر فقال أنتم الذين تحجون متوكلين عل ىزاد الحاج وقيل من ادعى التوكل ثم شبع فقد حمل زادا وعن بعضهم إه قال حججت أربع عشرة مرة حافياً متوكلاً وكان يدخل الشوك فلا أخره لئلا ينقص توكلي وعن إبراهيم الخواص رحمه الله بينما أنا أسير في البادية إذ قال لي رابي يا إبراهيم التوكل عندنا فأقم عندنا حتى يصح توكلك أما تعلم أن رجاءك دخول بلدفيه أطعمة يحملك ويقويك اقطع رجاءك عن دخول البلدان فتوكل فإذا كان رجاء دخول البلدان مانعاً عن التوكل التام فما ظنك بالإقامة في بلاد خصبة ولذا أوقع الله التوكل على الجلالة لأنها جامعة لجميع الأسماء فالتوكل عليه توكل تام والتوكل على الأسماء الجزئية توكل ناقص فمن عرف الله وكل إليه أمروه وخرج هو من البين ومن
15
(10/11)
جعل الله وكيله لزمه أيضاً أن يكون وكيلاً على نفسه في استحقاق حقوقه وفرائضه وكل ما يلزمه فيخاصم نفسه في ذلك ليلاً ونهاراً أي لا يفتر لحظة ولا يقصر طرفة فإن الأوقات سريعة المرور خاك دردستش بودون بادهنكام اجل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
هركه أوقات كرامي صرف آب وكل كند يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيماناً خالصاً {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} جمع زوج يعم الحليل والحليلة وسيجيء ما في اللباب {وَأَوْلَـادِكُمْ} جمع ولد يعم الابن والبنت {عَدُوًّا لَّكُمْ} يشغلونكم عن طاعة الله وإنلم يكون لهم عداوة ظاهرة فإن العدو لا يكون عدواً بذته وإنما يكون عدواً بفعله فإذافعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة أو يخاصمونكم في أمور الدين أو الدنيا واشد المكر ما يكون في الدين فإن ضرره اشد من ضرر ما يكون في الدنيا وجاء في الخبر ليس عدوك الذي لقيته فقتلته وآجرك الله على قتله ولكن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وامرأتك تضاجعك على فراشك وولدك من صلبك قدم الأزواج لأنها مصادر الأولاد ولأنها لكونها محل الشهوات ألصق بقلوب الناس وأشد أشغالاً لهم عن العبودية ولذا قدمها الله تعالى في قوله زين للناس حب الشهوات من النساء وفي اللباب أن قوله إن من أزاجكم يدخل فيه الذكر فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى فيكون الخطاب هنا عاماً على التغليب ويحتمل أن يكون الدخول باعتبار الحكم لا باعتبار الخطاب الحذر احتراز عن مخيف والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع قال بعضهم احذروهم أي احفظوا أنفسكم من محبتهم وشدة التعلق والاحتجاب بهم ولا تؤثروا حقوقهم على حقوق الله تعالى وفي الحديث : "إذاك ان أمر آؤكم خياركم وؤغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم أي ذا تشاور لا يتفرد أحد برأي دون صاحبه فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نساءكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها وفي الحديث : "شاوروهن وخالفوهن" وقد استشار النبي عليه السلام أم سلمة رضي الله عنها كما في قصة صلح الحديبية فصار دليلاً لجوا استشارة المرأة الفاضلة ولفضل أم سلمة ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين لا نعلم ارمأة اشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة كذا قال وقد استدرك بعضهم ابنة شعيب في أمر موسى عليهما السلام.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
حكى) إن خسروا كان يحب أكل السمك فكان يوماً جالساً في المنظرة وشيرين عنده إذ جاء صياد ومعه سمكة كبيرة فوضعها بين يديه فأعجبته فأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت شيرين بئس ما فعلت وٌّك إذاأعطيت بعد هذا أحداًمن عسكرك هذا القدر احتقره وقال أعطاني عطية الصياد فقال خسرو لقد صدقت لكن يقبح على الملوك أن يرجعوا في عطياتهم فقالت شيرين تدعو الصياد وتقول له هذه السمكة ذكر أو أنثى فإن قال ذكر فقل إنما أردنا أنثى وإن قال أثنى فقل إنما أردنا ذكرا فنودي الصياد فعاد فقال له الملك هذه السمكة ذكر أو أنثى فقال هذه السمكة خنثى فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فقبض ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب معها وحملها على كاهله وهم بالخروج فوقع
16
من الجاب درهم واحد فوضع الصياد الجراب وانحنى على الدرهم فأخذه والملك وشيرين ينظران إليه فقالت شيرين للملك أرأيت إلى خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد فألقى عن كاهله ثمانية آلاف درهم وانحنى على ذلك الدرهم وأخذه ولم يسهل عليه أن يتكره فغضب الملك وقال لقد صدقت ياشيرين ثم امر بإعادة الصياد فقال يا نديء الهمة لست بإنسان ما هذا الحرص والتهالك على درهم واحد فقبل الصياد الأرض وقال إني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على أحد وجهيه اسم الملك وعلى الآخر صورته فخشيت أن يأتي أحد بغير علم فيضع عليه قدمه فيكون ذلك استخفافاً بالملك وصورته فتعجب خسرو من كلامه فأمر له بأربعة إلاف درهم أخرى وكتب وصية للناس بأن لا تطيعوا النساء أصلاً ولا تعملوا برأيهن قطعاً.
(10/12)
(وحكى) إن رجلاً من بني إسرائيل أتى سليمان عليه السلام وقال يا نبي الله أريد أن تعلمني لسان البهائم فقال سليمان إن كنت تحب أن تعلم لسان البهائم أنا أعلمك ولكن إذا أخبرت أحداً تموت من ساعتك فقال لا بر أحداً فقال سليمان قد علمتك وكان للرجل ثور وحمار يعمل عليهما في النهار فإذا أمسى ادخل عليهما علفاً فحط العلف بين يديهما فقال الحمار للثور أعطني الليلة عشاءك حتى يحسب صاحبنا إنك مريض فلا يعمل عليك ثم إني أعطيك عشائي في الليلة القابلة فرفع الثور رأسه من علفه فضحك الرجل فقلت امرأته لم تضحك قال لا شيء فلما جاءت الليلة القابلة أعطى الرجل للحمار علفه وللثور علفه وقال الثور أقضني السلف الذي عندك فإني أمسيت مغلوباً من الجوع والتعب فقال له الحمار إنك لا تدري كيف كان الحال قال الثور وما ذاك قال إن صاحبنا البارحة ذهب وقال للجزار ثوري مريض إذبحه قبل أن يعجف فاصبر الليلة وأسلفني أيضاً عشاءك حتى إذا جاءك الجزارصباحاً وجدك عجيفاً ولا يذبحك فتنجو من الموت ولا تعشيت يمتلىء بطنك فيخشى عليك أن يحسبك سميناً فيذبحك إني أرد لك ما أسفلتني الليلتين فرفع رأسه عن علفه ولم يأكل فضحك الرجل فقالت المرأة لم تضحك أخبرني وإلا طلقني فقال الرجل إذا أخبرتك بما ضحكت أموت من ساعتي فقالت : لا أبالي ، فقال : ائتني بالدواة والقرطاس حتى اكتب وصتي ثم أخبر ثم أموت ، فناولته فبينما هو يكتب إذ طرحت المرأة كسرة من الخبز إلى الكلب ، فسبق الديك وأخذها بمقناره قال الكلب : ظلمتني قال : الديك صاحبنا يريد الموت فتكون أنت شبعناً من وليمة المأتم ولكن نحن نبقى في مبيتا إلى ثلاثة أيام لاي فتح لنا الباب وإن يمت برضى امرأته أبعده الله وأسخطه فإن لي تسع نسوة لا تقدر واحدة منهن أن تسأل عن سري ولو كنت أنا مكانه لأضربنها حتى تموت أو تتوب وبعد ذلك لا تسأل عن سر زوجها فأخذ الرجل عصا ولم يزل يضربها حتى ثابت من ذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
زنى راكه جهلست وبار استى
بلا برسر خود نه زن خواستى
وأفادت من التبعيضية في قوله إن من أزواجكم الخ إن منها ما ليس بعدو كما قال عليه السلام الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة وقال عليه السلام ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة أن أمرها إطاعته وإن نظر إليها سره وإن أقسم عليها أبرته
17
وإن غاب عنها نصحته في نفسها وما له فإذا كانت المرأة على هذه الأوصاف فهي ميمونة مباركة وإلا فهي مشؤومة منحوسة.
كرا خانه آباد وهمخوا به دوست
خدارا برحمت نظر سوى اوست
{وَإِن تَعْفُوا} عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين لكن مقارنة للتوبة {وَتَصْفَحُوا} يترك التثريب والتعيير يقال صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه والتثريب عليه {وَتَغْفِرُوا} بإخفائها وتمهيد عذرها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعاملكم بمثل ما عملتك ويتفضل عليكم وهذا كقوله وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً نزلت في عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه كان ذا أهل وولد وكان إذا أرادا العزو بكوه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرق ويقيم.
وأراد الحطيئة وهو شاعرمشهور سفراً فقال لامرأته :
عدى السنين لغيبتي وتصبري
وذرى الشهور فإنهن قصار
فأجابته :
واذكر صبابتنا إليك وشوقنا
وارحم بناتك إنهن صغار
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
(10/13)
وقيل إن ناساً من المؤمنين أرادوا الهجرة من مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم فزينوا لهم القعود قيل قالوا لهم أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم فضبوا عليهم وقالوا لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا منعوهم الخير فحثوا على أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة قال القاشاني وإن تعفوا بالمداراة وتصفحوا عن جرائمهم بالحلم وتغفروا جناياتهم بالرحمة لا ذنب ولا حرج إنما الذنب في الاحتجاب بهم وإفراط المحبة وشدة التعلق لا في مراعاة العدالة والفضيلة ومعاشرتهم بحسن الخلق فإنه مندوب بل اتصاف بصفات الله فإن الله غفوررحيم فعليكم بالتخلق بأخلاقه وفي الحث على العفو والصفح إشارة إلى أن ليس المراد من الأمر بالحذر تركهم بالكلية والإعراض عن معاشرتهم ومصاحبتهم كيف والنساء من أعظم نعم الجنة وبها نظام العالم فإنه لولا الأزواج لما وجد الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء وقد خلق المخلوقات لأجلهم ومن الله على عبادة تذكير النعمة حيث قال خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وهذا كما روى عنه عليه السلام إنه كان يقول اتقوا الدنيا والنساء فإن الأمر بالاتقاء إنما هو للتحذير عما يضر في معاشرتها لا للترك بالكلية فكما أن الدنيا لا تترك بالكلية ما دام المرء حياًو إنما يحذر من التعلق بها ومحبتها الشاغلة عن محبة الله تعالى فكذا النساء ولأمر ما حبب الله إليه عليه السلام النساء وقال عليه السلام : "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" كما سبق بيانه في سورة النجم فقد حث عليه السلام على وجو الولد الصالح ولم يعده من الديا بل عده من الخير الباقي في الدنيا وبه يحصل العمر الثاني وفي الآية إشارة إلى أن النفوس الأمارة أو اللوامة وأولادها وهي صفات تلك النفوس وأخلاقها الشهوانية عدو للإنسان يمنعه عن الهجرة إلى مدينة القلب فلا بد من الحذر عن متابعتها ومخالطتها بالكلية وتصرفاتها في جميع الأحوال وأن تعفوا عن هفواتهم الباطلة الواقعة منهم في بعض الأوقات لكونهم مطية
18
لكم وتصفحوا بعد التوبيخ والتعيير وتغفروا بأن تستروا ظلمتهم بنور إيمانكم وشعاع معرفة قلوبكم فإن الله غفور ساتر لكم يستر بلطفه رحيم بكم بإضافة رحمته عليكم جعلنا الله وإياكم من أهل تقواه ومغفرته وتغمدنا بأنواع رحمته {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ} بلاء ومحنة يوقعونكم في الإثم والعقوبة من حيث لا تحتسبون.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
وقال الكاشفي) : آز مايش است تا ظاهركردده كدام از ايشان حق را برايشان يثار ميكند وكدام دل درمال وولد بسته از محبت الهي كرائه ميكيرد.
(10/14)
وجيء بإنما للحصر لأن جميع الأموال والأولاد فتنة لأنه لا يرجع إلى مال أو ولداً لا وهو مشتمل على فتنة واشتغال قلب وتأخير الأولاد من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى لأن الأولاد ألصق بالقلوب من الأموال لكونهم من أجزاء الآباء بخلاف الأموال فإنها من توابع الوجود وملحقاته ولذا جعل توحيد الأفعال في مقابلة الفناء عن الأولاد وتوحيد الذات في مقابلة الفناء عن النفس {وَاللَّهُ عِندَه أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والتدبير في مصالحهم زهدهم في الدنيا بأن ذكر عيبها ورغبهم في الآخرة بذرك نعيمها وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة فإنه لسي أحد منكم يرجع إلى مال وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني وذ بك من مضلات الفتن نظيره ما حكى عن محمد ابن المنكدر رحمه الله إنه قال قلت ليلة في الطواف الهم أعصمني واقسمت على الله تعالى ذي ذلك كثيراً فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول لي إنه لا يفعل ذلك قلت لم قال لأنه يريد أن يعصي حتى يفغر وهذا من الأسرار المصونة والحكم المسكوت عنها وفي مشكاة لمصابيح كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخطب إذ جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعران فنزل عليه السلام من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال صدق إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ثم أخذ عليه السلام في خطبته قال ابن عطية وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء فأما فتنة الجهال الفسقة فمؤدية إلى كل فعل مهلك يقال إن أول ما يتعلق بالجل يوم القيامة أهله وأولاده فيوقفونه بين يدي الله تعالى ويوقولن يا ربنا خذ بحقنا منه فإنه ما علمنا ما نجهل وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم فيقتص لهم منه وتأكل عياله حسناته فلا يبى له حسنة ولذا قال لعيه السلام يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له أكل عياله حسناته وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات وهو دود يقع في الطعام والثوب وغيرهما ومن ثم ترك كثير من السلف المال وإلا هل رأسا وأعرضوا عنهما بالكلية لأن كل شيء يشغل عن الله فهو مشؤون على صاحبه ولذا كان عليه السلام يقول في دعائه اللهم من أحبني وأجاب دعوتي فأقلل ماله وولده ، ومن أبغضني وم يجب دعوتي فأكثر ماله وولده وهذا للغالب عليهم النفس وأما قوله عليه السلام في حق أنس رضي الله عنه "اللهم أكثر ماله وولده وبارك فيما أعطيته فهو لغيره"
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أي أبذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم قال بعضهم : أي إن علمتم ذلك وانتصحتم به فاتقوا ما يكون سبباً لمؤاخذة الله إياكم من تدبير أمورهما ولا ترتكبوا ما يخالف أمره تعالى من فعل
19
أو ترك وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} لما اشتد عليهم بأن قاموا حتى ورمت أقدامهم وتقرحت جباههم فنزلت تيسيراً لعباد الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنها آية محكمة لا ناسخ فيها لعله رضي الله عنه جمع بين الآيتين بأن يقول هنا وهنالك فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم واجتهدوا في الاتصاف به بقدر طاقتكم فإنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وحق التقوى ما يحسن أن يقال ويطلق عليه اسم التقوى وذلك لا يقتضي أن يكون فوق الاستطاعة وقال ابن عطاء رحمه الله : هذا لمن رضي عن الله بالثواب فأما من لم يرض عنه إلا به فإن خطابه فاتقوا الله حق تقاته أشار رضي الله عنه إلى الفرق بين الأبرار والمقربين في حال التقوى فقوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم ناظر إلى الأبرار وقوله تعالى : فاتقوا الله حق تقاته ناظر إلى المقربين فإن حالهم الخروج عن الوجود المجازي بالكلية وهو حق التقوى وقال القاشاني فاتطوا الله في هذه المخالفات والآفات في مواضع البليات ما اساتطعتم بحسب مقامكم ووسعكم على قدر حالكم ومرتبتكم.
قال السري قدس سره المتقي : من لا يكون رزقه من كسبه.
ودر كشف الأسرار آورده كه دريك آيت اشارت ميكند بواجب مر ودر ديرى بواجب حق ون واحب أمر بيامد واجب حق را رقم نسخ بركشيد زيراكه حق بنده راك مطالبت كند بواجب أمر كند تافعل اودر دائره عفو داخل تواند شد واكر اورا بواجب حق بكيرد طاعت ومعصيت هزار ساله آنجا يكرنك دارد.
بي نيازي بين واستغنانكر
خواه مطرب باش وخواهى نوحه كر
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
(10/15)
اكر همه انببا وأوليا بهم آيند آن كيست كه طاقت آن داردكه بحق أو جل جلاله قيام نمايد يا جواب حق او باز دهد أمر او متناهيست أما حق أو متناهى نيست زيراكه بقاي أمر ببقاي تكلف است وتكليف درد نيسات كه سراي تكليف است أما بقاي حق ببقاي ذاتست وذات متناهى نست س حق متناهى نيست واجب أمر برخيز داما واجب حق برتخيزد دنيا دركذرد ونوبت أمر باوي دركذرد أما نوبت حق نفركز در نكذرد امروز هركسى را سودايي درسرست كه درا مر مي نكرند انببا ورسل بنبوت ورسالت خوتش مي نكرند فرشتكان بطاعت وعبادت خودمي نكرند مؤحدان ومجتهدان ومؤمنان ومخلصان بتوحيد وإيمان وإخلاص خويش مي نكرند فرد ون سرادقات حق ربوبيت باز كشند انبيا باكمال حال خويش حديث علم خود طي كنند كويند لا علم لنا ملائكه ملكوت صومعهاى عبادت خود آتش درزنندكه ما عبد ناك حق عبادتك عارفان وموحدان كويند ما عرفناك حق معرفتك واسمعوا} مواعظه {وَأَطِيعُوا} اوامره {وَأَنفِقُوا} مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالانفاق فيها خالصاً لوجهه عن ابن عباس رضي الله عنهما إن المراد بالإنفاق الزكاة والظاهر العموم وهو مندرج في الإطاعة ولعل أفراده بالذكر لما إن الاحتياج إليه كان أشد حينئذٍ وإن المال شقيق الروح ومحبوب النفس ومن ذلك قدم الأموال على الأولاد في الموضاع حتى قال الامام الغزالي رحمه الله إنه قد يكون حب المال من أسباب سوء العاقبة فإنه إذا كان حب المال غالباً على حب الله فحين علم محب المال إن الله
20
يفرقه عن محبوب عقد في قلبه البغضنعوذ بالله من ذلك وهذا كما ترى إن أحداً إذا أحب دنياه حباً غالباً على حب ابنه فلو قصد الابن إن يأخذها منه لأبغض الابن وأحب هلاكه {خَيْرًا لانفُسِكُمْ} خبر لكان المقدر جواباً للأوامر أي يكن خيراً لأنفسكم لأ مفعول لفعل محذوف أي ائتوا وافعلوا خيراً لأنفسكم واقصدوا ما هو أنفع لها وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان كلون الأمور المذكورة خيراً لأنفسهم من الأموال والأولاد وما هم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي ومن يقه الله ويعصمه من بخل نفهس الذي هي الرذيلة المعجونة في طينة النفس وقد سبق بيانه في سورة الحشر وبالفارسية وهركه نكاه داشت ازبخل نفس خود يعني حق خدا يرا إمساك نكند ودر راه وى بذل مي نمايد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
وهو مجهول مجزوم الآخر بمن الشرطية من الوقاية المتعدية إلى المفعولين وشح مفعول ثان له باق على النصب والأول ضمير من القائم مقام الفاعل {فأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بكل مرام وفي الحديث (كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئاً) وفي حديث الأصمعي أتى أعرابي قوماً فقال لهم هذا في الحق أو فيما هو خير منه قالوا وما خير من الحق قال التفضل والتغافل أفضل من أخذ الحق كله كذا في المقصاد الحسنة.
(روى) عن النبي عليه السلام إنه كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي وقال عليه السلام وما ذنبك صفة لي قال هو أعظم من أن أصفه لك قال ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون قال : بل ذنبي يا رسول الله ، قال : ويحك ذنبك أعظم أم الجبال ، قال : بل ذنبي يا رسول الله ، قال : فذنبك أعظم أم السموات ، قال : بل ذنبي ، قال : فذنبك أعظم أم العرش ، قال : بل ذنبي أعظم ، قال : فذنبك أعظم أم الله ، قال : بل الله أعظم وأعلى ، قال : ويحك صف لي ذنبك ، قال : يا رسول ا إني ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني ليسألتي فكأنما يستقبلني بشعلة من النار ، فقال عليه السلام عني.
يعني دورشو ازمن.
لا تحرقني بنارك فو الذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم بكيت ألفي عام حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقي بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لكبك الله في النار أما علمت أن البخل كفر وإن الكفار في النار ويحك أما علمت أن الله يقول ومن يخبل فإنما يبخل عن نفسه ومن يوق شح نفسه فأولئك المفلحون.
فروماند كاترا درون شادكن
زروز فرو مادنكي يادكن
نه خواهنده بر در ديكران
بشكرانه خواهند ازدر مران
وفي الآية إشارة إلى أن الإنفاق على الغير علما أو ما لا انفاق على نفسك بالحقيقة والناس كنفس واحدة لانتفاء الغيرية في الأحدية وإن من وفق لانفاق الوجود المجازي في الله فاز بالموجود الحقيقي من الله تعالى {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ} بصرف أموالكم إلى المصارف التي عينها وبالفارسية اكر فرض دهيد خدا يرا يعني صرف كنيد در آنه فرمايد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
وذكر القرض تلطف في الاستدعاء كما في الكشاف ، قال : في اللباب القرض القطع ومنه المقراض لما
21
(10/16)
يقطع به وانقرض القوم إذا هلكوا وانقطع أثرهم ويل للقرض قرض لأنه قطع شيء من المال هذا أصل الاشتقاق ثم اختلفوا فيه فقيل اسم لكل ما يلتمس الجزاء عليه وقيل أن يعطي أحداً شيئاً ليرجع إليه ثم قيل لفظ القرض هنا حقيقة على المعنيين وقيل مجاز على الثاني لأن الراجع ليس مثله بل بدله وإليه يميل ما في الكشاف في سورة البقرة إقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه لعله الوجه فيكون بقرض استعارة تصريحية تبعية وقوله {قَرْضًا حَسَنًا} تصريحية ألية أي مقروناً بالإخلاص وطيب النفس قال سهل رضي الله عنه القرض الحسن المشاهدة بقلوبكم في أعمالكم كما قال إن تعبد الله كأنك تراه وقرضاً إن كان بمعنى أقراضاً كان نصبه على المصدرية وإن كان بمعنى مقرضاً من النفقة كان مفعولاً ثانياً لتقرضوا لأن الأقراض يتعدى إلى مفعولين ففي التعبير عن الإنفاق بالإقراض وجعله متعلقاً بالله الغنى مطلقاً والتعبير عن النفقة بالقرض إشارة إلى حسن قبلو الله ورضاه وإلى عدم الضياع وبشارة باستحقاق المنفق ببركة إنفاقه لتمام الاستحقاق {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} من المضاعفة بمعنى التضعيف أي التكثير فليس المفاعلة هنا للاشتراك أي يجعل لكم أجره مضاعفاً ويكتب بالواحد عشرة وسبعين وسبعائة وأكثر بمقتى مشيئته على حسب النيات والأوقات والمحال {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركة الانفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب {وَاللَّهُ شَكُورٌ} يعطي الكثير بمقابلة اليسير من الطاعة أو يجازي العبد على الشكر وهو الاعتراف بالنعمة على سبيل الخضوع فسمى جزاء الشكر شكراً أو الله شكور بمعنى إنه كثير الثناء على عبده بذكر أفعاله الحسنة وطاعته فالشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه وهذا المعنى مختار الامام القشيري رحمه الله والشكو مبالغة الشاكر والشاكر من له الشكر سئل بعضهم من أشكر الشاكرين فقال الطاهر من الذنوب يعد نفسه من المذنبيني والمجتهد في النوافل بعد أداء الفرائض يعد نفسه من المقصرين والراضي بالقليل من الدنيا يعد نفسه من الراغبين والقاطعبذكر الله دهره يعد نفسه من الغافلين والراغب في العمل يعد نفسه من المفلسين فهذا أشكر الشاكرين ومن أدب من عرف أنه تعالى شكور أن يجد في شكره ولا يفتر ويواظب على حمده ولا يقصر والشكر على أقسام شكر بالبدل وهو أن لا تستعمل جوارحك في غير طاعته وشكر بالقلب وهو آن لا تشغل قلبك بغير ذكره ومعرفته وشكر باللسان وهو أن لا تستعمله في غير ثنائه ومدحته وشكر بالمال وهو أن لا تنفقه في غير رضاه ومحبته.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
نفس مي نيارم زد از شكر دوست
كه شكرى نه دانم كه درخورد اوست
عاييست هر موي از وبر تنم
كونه بهر موى شكرى كنم
وأحسن وجوه الشكر لنعم الله أن لا تستعملها في معاصيه بل في طاعته وخاصية اسم الشكور التوسعة ووجود العافية في البدن وغيره بحيث لو كتبه من به ضيق في النفس وتعب في ائبدن أعياء أشد الأعياء وثقل في الجسم وتمسح به وشرب منه برىء بإذن الله تعالى وإن تمسح به ضعيف البصر على عينيه وجد بركة ذلك ويكتب إحدى وأربعين مرة {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم بالبخل والإمساك ونحوهما فيحلم حتى يظن الجاهل أنه
22
ليس عيلم ويستر حتى يتوهم الغافل إنه ليس يبصر ، قال الامام الغزالي رحمه الله الحليم هو الذي شاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظه ولا يحمله على المسارعة إلى الانقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال الله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة.
(حكى) إن إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات والأرض رأى عاصياً في معصيته فقال اللهم أهلكه فأهلكه الله ثم رأى آخر فدعا عليه فأهلكه الله ثم رأى آخر فدعا عليه فأهلكه الله ثم رأى رابعاً فدعا عليه فأوحى الله إليه أن قف يا إبراهيم فلو أهلكنا كل عاص رأيناه لم يبق أحد من الخلق ولكنا بحملمنا لا نعذبهم بل نمهلهم فأما أن يتوبوا وأما أن يصروا فلا يفوتنا شيء قيل الحلم حجاب الآفات وقيل الحلم ملح الأخلاق.
وشتم الشعبي رجل فقال إن كنت كاذباً غفر الله لك وإن كنت صادقاً غفر الله لي وكان الأحنف يضرب به المثل في الحلم وهو يقول إني صبور ولست بحليم والفرق بين الحليم والصبور إن المذنب لاي أمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم يعني إن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم كما في المفاتيح والتخلق بالاسم الحليم إنما هو بأن يصفح عن جنايات الناس ويسامح لهم فيما يعاملونه به من السيئات بل يجازيهم بلإحسان تحقيقاً للحلم والغفران وفي الأربعين الإدريسية يا حليم ذا الأناة فلا يعادله شيء من خلقه قال السهر وردى رحمه الله من ذكره كان مقبول القول وافر الحرمة قوي الجاش بحيث لا يقدر عليه سبع ولا غيره والأناة على وزن القناة هو التثبت والوقار {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} خبر بعد خبر أي لا يخفى عليه خافية.
(
سورة الطلاق(10/17)
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
وقال الكاشفي) : ميداند آنه ظاهر ميكنند از تصدق وانه نهان ميدارند دردلها از راي واخلاص.
وقد سبق الكلام عليه في أواخر سورة الحشر ولعل تقديم الغيب لأن عالم الغيب أعم والعلم به أتم {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} البالغة في القدرة والحكمة.
(وقال الكاشفي) : غالبست انتقام تواند كشيد از كسى كه صدقه أو خالص نبود حكم كننده بكرامت آنهراكه ازروى صدق تصدق نمايند.
والحكم سابق فالعبرة به لا بالصورة ولذا رد بلعم بن باعور وقبل كلب أصحاب الكهف قال أبو علي الدقاق قدس سره لما صرفوا ذلك الكلب ولم ينصرف أنقه الله تعالى فقال لم تصرفونني إن كان لكم إرادة فلي أيضاً إرادة وإن كان خلقكم فقد خلقني أيضاً فازدادوا بكلامه يقيناً ولما سمعوا كلامه اتفقوا على استصحابه معهم إلا إنهم قالوا يستدل علينا بآثار قدمه فالحيلة أن تحمله بالحيلة فحلمه الأولياء على أعناقهم وهم يمشون لما أدركه من العناية الألية وكذا لم يكن في الملائكة أكبر قدراً ولا أجل خطراً من إبليس إلا أن الحكم الأزلي بشقاوته كان خفياً عن العباد فلما ظهر فيه الحكم الأزلي لعنه من عرفه ومن لم يعرفه.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص23 حتى ص33 رقم3
كليد قدر نيست دردست كس
تواناي مطلق خدايست وبس
ززنبور كرد اين حلاوت بديد
همانكس كه در مار زهر آفريد
خدايا بغفلت شكستيم عهد
ه زور آورد باقضا دست جهد
23
ه بر خيزد از دست تدبيرما
همين نكته بس عذر تقصير ما
همه هره كردم توبرهم زدى
ه قوت كندبا خداي خودى
نه من سرز حكمت بدرمى روم
كه حكمت نين مى رود بر سرم
وقال الحافظ الشيرازي رحمه الله :
نقش مستورى ومستى نه بدست من وتست
آنه سلطان ازل كفت بكن آن كردم
(وقال أيضاً) :
درين من نكنم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميد هندمى رويم
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما من مولود يولد إلا في شبابيك رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن يعني نيست هج مولودي كه مولودمى شود مكركه در مشبكهاهى شرش مكتوبست نج آيت از سورءه تغابن.
والشبابيك جمع شباك بالضم كزنار مثل خفافيش وخفاش أو جمع شباكة بمعنى المشبك وهو ما تداخل بعضه في بعض وفي الحديث (من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجاءة) وهي بالمدمع ضم الفاء وبالقصر مع فتح الفاء البغتة دون تقدم مرض ولا سبب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 10
تفسير
اثنتا عشرة آية مدنية وتسمى سورة النساء القصرى
جزء : 10 رقم الصفحة : 23
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
يا اأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} التطليق طلاق دادن يعني عقدة نكاح راحل كردن وكشادن.
قال في المفردات : أصل الطلاق التخلية من وثاق ويقال : أطلقت البعير من عقاله وطلقته وهو طالق وطلق بلا قيد ومنه استعير طلقت المرأة إذا خليتها فهي طالق أي مخلاة عن حبالة النكاح انتهى والطلاق اسم بمعنى التطليق كالسلام والكلام بمعنى التسليم والتكليم وفي ذلك قالوا المستعمل في المرأة لفظ التطليق وفي غيرها لفظ الإطلاق حتى لو قال : أطلقتك لم يقع الطلاق ما لم ينو ولو قال طلقتك وقع نوى أو لم ينو والمعنى إذا أردتم تطليق النساء المدخول بهن المعتدات بالإقراء وعزمتم عليه بقرينة فطلقوهن فإن الشيء لا يترتب على نفسه ولا يؤمر أحد بتحصيل الحاصل ففيه تنزيل المشارف لشليء منزلة الشارع فيه والأظهرإنه من ذكر السبب وإرادة المسبب وتخصيص النداء به عليه السلام مع عموم الخطاب لأمته أضاً لتحقيق إنه المخاطب حقيقة ودخولهم في الخطاب بطرق استتباعه عليه السلام إياهم وتغليبه عليهم ففيه تغليب المخاطب عى الغائب والمعنىء إذا طلقت أنت وأمتك وفي الكشاف خص النبي بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي أمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه وإنه لسان قومه فكأنه هو وحده في حكم كلهم لصدورهم عن رأيه
24
كما قال البقلي إذا خاطب السيد بأن شرفه على الجمهور إذ جمع الجميع في اسمه ففيه إشارة إلى سر الاتحاد وفي كشف السرار فيه أربعة أقوال أحدها إنه خطاب للرسول وذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كما يخاطب الملوك بلفظ الجمع والثاني إنه طاب له والمراد أمته والثالث أن التقدير يا اأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} فحذف لأن الحكم يدل لعيه والرابع معناه يا أيها النبي قل للمؤمنين إذا طلقتم انتهى.(10/18)
يقول الفقير هذا الأخير أنسب بالمقام فيكون مثل قوله يا أيها النبي قل لأزواجك قل للمؤمنين قل للمؤمنات ولأن النبي عليه السلام وإن كان أصيلاً في المأمورات كما أن أمته أصيل في المنهيات إلا أن الطلاق لما كان أبغض المباحات إلى الله تعالى كما سيجيء كان الأولى أن يسند التطليق إلى أمته دونه عليه السلام مع أنه عليه السلام قد صدر منه التطليق فإنه طلق حفصة بنت عمر رضي الله عنهما واحدة فلما نزلت الآية راجعها وكانت علامة كثيرة الحديث قريباً منزلتها من منزلة عائشة رضي الله عنها فقيل له عليه السلام راجعها فإنه صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة حكاه الطبري وفي الحديث بيان فضل العلم وحفظ الحديث ومحبة الله الصيام والقيام وكرامة أهلهما عنده تعالى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
وآورده اندكه عبد الله ن عمر رضي الله عنهما زن خودرا درحال حيض طلاق داد حضرت رسالت فرمود تارجوع كندو آنكاه كه از حيض اك شود اكرخواهد طلاق دهدو درين باب آيت آمد.
والقول الأول : هو الأمثل والأصح فيه إنه بيان لشرع مبتدأ كما في حواشي سعدى المفتي فطلقوهن لعدتهن} العدة مصدر عدة يعده وسئل رسول الله عليه السلام ، متى تكون القيامة ، قال : "إذا تكاملت العدتان أي عدة أهل الجنة وعدة أهل النار أي عددهم وسمى الزمان الذي تتربص فيه المرأة عقيب الطلاق أو الموت عدة لأنها تعد الأيام المضروبة عليها وتنتظر أوان الفرج الموعود لها" كما في الاختيار ، المعنى فطلقوهن مستقبلات لعدتهن متوجهات إليها وهي الحيض عند الحنفية فاللام متعلقة بمحذوف دل لعيه معنى الكلام والمرأة إذا طلقت في طهر يعقب القرء الأول من أقرآئها فقد طلقت مستقبلة لعدتها والمراد أن يطلقن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يخلين حتى تنقضى عدتهن وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم لأنه ربما ندم في إرسال الثلاث دفعة فالطلاق السني هو أن يكون في طهر لمي جامعها فيه وإن يفرق الثلاثق في الإطهار الثلاثة وأن يطلقها حاملاً فإنها إذا على طهر ممتد فتطليقها حلال وعلى وجه السنة والبدعي على وجوه أيضاً منها أن يكون في طهر جامع فيه لما فيه من تطويل العدة أيضاً على قول من يجعل العدة بالإطهار وهو الشافعي حيث إن بية الطهر لا تحتسب من العدة ومنها ما كان في الحيض أو النفاس لما فيه من تطويل العدة أيضاً على قول من يجعل العدة الحيض وهو أبو حنيفة رحمه الله لأن بقية الحيض لا تحتسب إلا أن تكون غير مدخول بها فإنه لا بدعة في طلاقها في حال الحيض إذ ليس عليها عدة أو تكون مما لا يلزمها العدة بالإقراء فإن طلاقها لا يتقيد بزمان دون زمان ومنها ما كان بجمع الثلاث أي أن يطلقها ثلاثاً دفعة أو في طهر واحد متفرقة ويقع الطلاق المخالف للسنة في قول عامة
25
الفقهاء وهو مسيء بل آثم وذا كان عمر رضي الله عنه لاي ؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضرباً وطلق رجل امرأته ثلاثاً بين يديه عليه السلام فقال : أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم أي ميم بينكم وفيه إشارة إلى أن ترك الأدب في حضور لأكابر أفحش ينبغي أن يصفع صاحبه أشد الصفع وقال الشافعي : اللام في لعدتهن متعلقة بطلقوهن لأنها للتوقيت بمعنى عند أوفى فيكون المعنى في الوقت الذي يصلح لعدتهن وهو اطهرو قال أبو حنيفة رحمه الله : الطلاق في الحيض ممنوع بالإجماع فلا يمنك جعلها للتوقيت فإن قلت قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الإقراء واليائسات والصغائر والحوامل فكيف صح تخصيصه بذوات الإقراء المدخول بهن قلت لا عموم ثمة ولا خصوص ولكن الإنساء اسم جنس للإناث من الأنس وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فلما قيل فطلقوهن لعدتهن علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض فإن قلت الطلاق موقوف على النكاح سابقاً أو لاحقاً والنكاح موقوف على الرضى من المنكوحة أو من وليها فيلزم أن يكون الطلاق موقوفاً على الرضى بالنكاح وهو واقع غير باطل لا موقوفاً على الرضى نفسه الذي هو الباطل الغير الواقع فتكفر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/19)
واعلم أن النكاح والطلاق أمر أن شرعيان من الأمور الشرعية العادية لهما حسن موقع وقبح موقع بحسب الأحوال والأوقات وقد طلق عليه اسلام حفصة رضي الله عنها تطليقة واحدة رجعية كما سبق وكذا تزوج سودة بنت زمعة بمكة بعد موت خديجة رضي الله عنها وقبل العقد على عائشة رضي الله عنها ثم طلقها بالمدينة حين دخل عليها وهي تبكي على من قتل من أقاربها يوم بدر فاستشفعت إلى النبي عليه السلام وهبت يومها لعائشة فراجعها فإن قلت كيف فعل رسول الله ذلك وقد قال : "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وقال عليه السلام : "يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق" وذلك لأن النكاح يؤدي إلى الوصال والطلاق يؤدي إلى الفراق والله يحب الوصال ويبغض الفراق لا شمس ليوم الفراق ولا نهار ليلة القطعية.
رابعة عدوية كفته كه كفر طعم فراق دارد وإيمان لذت وصال.
وقس عليه الإنكار والإقرار.
وآن طعم واين لذت فرداي قيامت بديد آيدكه دران صحراى هيبت وعرصة سياست قومي راكويند فراق لا وصال وقومي راكويند وصال لا نهاية له.
سوختكان فراق همي كويند
فراق أو ززماني هزار روز آرد
يبلاي اوزشبي هم هزار سال كند
افرو ختكان وصال همي كويند
سرا رده وصلت كشيد روزنواخت
بطبل رحلت برزد فراق يا دوال
وفي الحديث تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش وعنه عليه السلام لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات وعنه عليه السلام إيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما باس فحرام عليها رائحة الجنة قلت يحتمل أن يكون في ذلك حكمة لا نلع عليها بعد أن علمنا إنه عليه السلام نبي حق لا يصدر منه ما هو خلاف الحق وقد دل
26
الحديث الآخر إن النهي إنما يكون عما لا وجه فيه وأن يكون لإظهار جواز الطلاق والرجعة منه كما وجهوا بذلك ما وقع من غلبة النوم عليه وعلى أصحابه ليلة التعريس إلى أن طلعت الشمس وارتفعت بمقدار فإن بذلك علم شرعية لاضاءوأن يصلي بالجماعة وأن يصدر منه عليه السلام الأحاديث المذكورة بعد ما وقع قضية حفصة وسودة رضي الله عنهما وأن يكون من قبيل ترك الأولى وقد جوزوا ذلك للأنبياء عليهم السلام فإن قلت لعل ما فعله أولى من وجه وإن كان ما أمر الله به أولى من وجه آخر قلت لا شك أن ما أمر الله به كان أرجح وترك الأرجح ترك الأولى هذا ولعل أرجحية المراجعة في وقت لا تقتضي أرجحية ترك الطلاق على فعله في وقت آخر لأن في كل وقت احتمال أرجحية أمر والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
يقول الفقير : أمده الله القدير إن النبي عليه السلام كان قد حبب إليه النساء لما يحب في النكاح من ذوق القربة والوصلة فالنكاح إشارة إلى مقام الجمع الذي هو مقام الولاية كما دل عليه قوله عليه السلام : "أرحني يا بلال والطلاق إشارة إلى مقام الفرق الذي هو مقام النبوة" كما دل قوله عليه السلام : "كلميني يا حميراء فالأول وصل الفصل والثاني فصل الوصل" وإن كان عليه السلام قد جمع بين الفصل والوصل والفرق والجمع في مقام واحد وهو جمع الجمع كما دل عليه قوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} الإحصاء دانستن وشمردن بر سبيل استقصاء.
أي وأضبطوها بحفظ القوت الذي وقع فيه الطلاق وأكملوها ثلاثة أقراء كوامل لا نقصان فيهن أي ثلاث حيض كما عند الحنفية لأن الغرض من العدة استبراء الرحم وكماله بالحيض الثلاث لا بالإطهار كما يغسل الشيء ثلاث مرات لكمال الطهارة والمخاطب بالإحصاء هم الأزواج لا الزوجات ولا المسلمون وإلا يلزم تفكيك الضمائر ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق وقال أبو الليث : أمر الرجال بحفظ العدة لأن في النساء غفلة فربما لا تحفظ عدتها وإليه مال الكاشفي ، حيث قال : وشمار كنيد اي مردان عدت زنانراكه ايشان ازضبط عاجزند يا ازاحصاي آن غافل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/20)
فالزوج يحصى ليتمكن من تفريق الطلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، فإن إرسال الثلاث في طهر واحد مكروه عن أبي حنيفة وأصحابه وإن كان لا بأس به عند الشافعي وأتباعه حيث قال : لا أعرف في عد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح وليعلم بقاء زمان الرجعة ، ليراجع إن حدثت له الرغبة فيها وليعلم زمان وجوب الانفاق عله وانقضائه وليعلم إنها هل تستحق عليه يسكنها في البيت أوله أن يخرجها وليتمكن من إلحاق نسب ولدها به وقطعه عنه قالوا وعلى الرجال في بعض المواضع العدة (منها إنه إذا كان للرجل إربع نسوة فطلق إحداهن لا يحل له أن يتزوج بارمأة أخرى ما لم تنقض عدتها ومنها ه إذا كان له ارمأة ولها أخت فطلق امرأته لاي حل له يتزوج أختها ما دامت في العدة) ومنها إنه إذا اشترى جارية لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة (ومنها إنه إن تزوج حربية لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة) ومنها إنه إذا بلغ المرأة وفاة زوجها فاعتد وتزوجت وولدت ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته لأنها كانت منكوحته ولم يعترض شيء من أسباب الرقة فبقيت على النكاح السابق ولكن
27
لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني ووجوب العدة لا يتوقف على صحة النكاح إذا وقع الدخول بل تجب العدة في صورة النكاح الفاسد أيضاً على تقدير الدخول) ومنها : إه إذا تزوج حربية مهاجرة إلى داربا بأمان وتركت زوجها في دار الحرب فلا تحل له ما لم يستبرئها بحضة عند الإمامين وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العدة (ومنها إنه إذا تزوج امرأة حاملاً لا يحل له أن يطأها حتى تضع الحمل) ومنها إنه إذا تزوج بامرأة وهي حائض لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من حيضها ومنها إنه إذا تزوج بارمأة نفساء لا يحل له أن يقربها حتى تتطهر من نفاسها ونمها إنه إذا زنى بمرأة ثم تزوجها لا يحل له أن يقربها ما لم يستبرئها بحيضة {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} في تطويل لعدة عليهم والإضرار بهن بإيقاع طلاق ثان بعد الرجعة فالأمر بالتقوى متعلق بما قبله وفي وصفه تعالى بربوبيته لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء والتقوى في الأصل اتخاذ الوقاية وهي ما بقي الإنسان مما يكرهه ويؤمل أن يحفظه ويحو بينه وبين ذلك المكروه كالترس ونحوه ثم استعير في الشرع لاتخاذ ما بقي العبد بوعد الله ولطفه من قهره ويكون سبا لنجاته من المضار الدائمة وحياته بالمنافع القائمة وللتقوى فضائل كثيرة ومن اتقى الله حق تقواه في جميع امراتب كوشف بحقائق البيان فلا يقع له في الأشياء شك ولا ريب
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
{لا تُخْرِجُوهُنَّ} بيرون مكنيد زنان مطلقه {مِنا بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة أي لا تخرجوهن من مساكنكم عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن وإنما أضيفت البهن مع إنها لأزواجهن لتأكيد النهي بيبان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن وفي ذكرالبيوت دون الدار إشارة إلى أن اللازم على الزوج في سكنهاهن ما تحصل المعية فيه لأن الدار ما يشتمل البيوت {وَلا يَخْرُجْنَ} ولو بإذن منكم فإن الأذن بالخروج في حكم الإخراج ولا أثر عندنا لاتفاقهما على الانتقال لأن وجوب ملازمة مسكن الفراق حق الشرع ولا يسقط بإسقاط العبدك ما قال في الكشاف فإن قلت ما معنى الإخراج وخروجهن قلت معنى الإخراج أي لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن وإن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن أذنهم لاأثر له في دفع الحظر ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك انتهى فإن خرجت المعتدة لغير ضرورة أو حاجة أثمت فءٌّ وقعت ضرورة بأن خافت هدماً أو حرقاً لها أن تخرج إلى منزل آخر وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهاراً لا ليلاً كما في كشف الأسرار {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أي الزنى فيخرجن لإقامة الحدعليهن ثم يعدن وبالفارسية مكر بيارند كردار ناخوش كه روشن كننده حال زنان بود دربد كرداري.
وقال بعضهم : مبينة هنا بالكسر لازم بمعنى بين متبينة كمبين من الإبانة بمعنى بين والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وهو الزنى في هذا المقام وقيل البذاء بالمدو هو القولا لقبيح وإطالة اللسان فإنه في حكم النشور في إسقاط حقهن فالمعنى إلا أن يبذون على الأزواج وأقاربهم كالأب والأخ فيحل حينئذٍ إخراجهن وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو كل
28
(10/21)
معصية وهو استثناء من الأول أي لا تخرجوهن في حال من الأحوال إلا حال كونهن آتيات بفاحشة أو من الثاني للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجها فاحشة أي لا يخرجن إلا إذا ارتكبن الفاحشة بالخروج يعني إن من خرجت أتت بفاحشة كما يقال لا تكذب إلا أن تكون فاسقاً يعني أن تكذب تكن فاسقاً {وَتِلْكَ} الأحكام {حُدُودُ اللَّهِ} التي عينها عباده والحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر {وَمَن يَتَعَدَّ} أصله يتعدى فحذفت اللام بمن الشرطية وهو من التعدي المتعدي بمعنى التجاوز أي ومن يتجاوز {حُدُودُ اللَّهِ} حدوده المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في حين الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلية الحكم في قوله تعالى : {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي أضربها قال البقلي قدس سره : إن الله حدا لحدود بأوامره ونواهيه لنجاة سلاكها فإذا تجاوزوا عن حدوده يسقطون عن طريق الحق ويضلون في ظلمات البعد وهذا أعظم الظلم على النفوس إذ منعوها من وصولها إلى الدرجات والقربى قال بعضهم : التهاون بالأمر من قلة المعرفة بالآمر فلا يد من الخوف أو الرجاء أو الحياة أو العصمة في علم الله فهي أسباب أربعة لا خامس لها حافظة من الوقوع فيما لا ينبغي فمن لسي له واحد من هذه الأسباب وقد وقع ف يالمعصية وظلم النفس فالكامل يعطي نفسه حقها ظاهراً وباطناً ولا يظلمها.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
حكى) إن معروف الكرخي قدس سره رأى جارية من الحور العينف قال : لمن أنت يا جارية ، فقالت : لمن لا يشرب الماء المبرد في الكيزان ، وكان قد برد له كوز ماء ، ليشربه فتناولت الحوراء الكوز ، فضربت به الأرض فكسرته ، قال السري السقطي رحمه الله : ولقد رأيت قطعه في الأرض لم ترفع حتى عفا عليها التراب ، فكانت الحوراء لمعروف حين امتنع من شر الماء المبرد وكانت جزاء له في إعطائه نفسه حقها فإن في جسده من يطلب ضد الجارية ونحوها فلا بد من إعطاء كل ذي حق حقه {لا تَدْرِى} تعليل لمضمون الشرطية أي فإنك أيها المتعدي لا تدري عاقبة الأمر وقال بعضهم : لا تدري نفس {لَعَلَّ اللَّهَ} شايد خداي تعالى {يُحْدِثُ} يوجد في قلبك فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء والحدوث كون الشيء بعد أن لم يكن عرضاً كان ذلك أو جوهر أو إحداثه إيجاده {بَعْدَ ذَالِكَ} الذي فعلت من التعدي {أَمْرًا} يقتضي خلاف ما فعلته فيبدل ببضها محبة وبالإعراض عنها إقبالاً إلها ولا يتسنى تلافيه برجعة أو استئناف نكاح فالأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلاب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فالظلم عبارة عن رر دنيوي يلحقه بسب تعديه ولا يمكن تداركه أو ن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي ويخص التعليل بالدنيوي ليكون احتراز الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى وفي الآية دلالة على كراهة التطليق ثلاثاً بمرة واحدة لأن إحداث الرجعة لاي كون بعد الثلاث ففي الثلاث عون للشيطان وفي تركها رغم له فإن الطلاق من أهم مقاصده كما روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه أي جنوده وأعوانه من الشياطين فيفتنون الناس فأعظمهم عنده
29
الأعظم فتنة يجبيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئاً ثم يجبيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه منه ويقول نعم أنت أي نعم المضل أو الشرير أنت فيكون نعم بكسر النون فعل مدح حذف المخصوص به أو نعم أنت ذاك الذي يستحق الإكرام فيكون بفتح النون حرف إيجاب {فَإِذَا بَلَغْنَ} س ون برسدزنان {أَجَلُهُنَّ} أي شارفن آخر عدتهن وهي مضى ثلاث حيض ولو لم تغتسل من الحيضة الثالثة وذلك لأنه لا يمكن الرجعة بعد بلوغهن آخر لعدة فحمل البلوغ على المشارفة كما قال في المفردات : البلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى القصد والمبتغى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة ، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه مثل فإذا بلغن الخ فإنه للمشارفة فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها والأجل المدة المضروبة للشيء {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي فأنم بالخيار فإن شئتم فراجعوهن والرجعة عند أبي حنيفة تحصل بالقول وكذا بالوطىء واللمس والنظر إلى الفرج بشهودة فيهما {بِمَعْرُوفٍ} بحسن معاشرة واتفاق لائق وفي الحديث (أكمل المؤمنين أحسنهم حلقاً وألطفهم بأهله) {أَوْ فَارِقُوهُنَّ} يج ذدا شويد از ايشان وبكذاريد {بِمَعْرُوفٍ} بإيفاء الحق واتقاء الضرار بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلاً للعدة {وَأَشْهِدُوا} كوه كيريد.
ثي
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/22)
أي عند الرجعة والفرقة قطعاً للتنازع إذقد تنكر المرأة بعد انقضاء العدة رجعته فيها وربما يموت أحدهما بعد الفرقة فيدعى الباقي منهما ثبوت الزوجية لأخذ الميراث وهذا أمر ندب لا وجوب {ذَوَىْ عَدْلٍ} تثنية ذا منصوب ذو بمعنى الصاحب أي أشهدوا اثنين {مِّنكُمْ} أي من المسلمين كما قال الحسن : أو من أحراركم ، كما قاله قتادة يكونون عادلين لا ظالمين ولا فاسقين ، والعدالة هي الاجتناب عن الكبائر كلها ، وعدم الإصرار على الصغائر ، وغلبة الحسنات على السيئات ، والإلمام من غير إصرار لا يقدح في العدالة إذ لا يوجد من الشبر ، من هو معصوم سوى الأنبياء عليهم السلام كذا في الفروع.
{وَأَقِيمُوا الشَّهَـادَةَ} أيها الشهود عند الحاجة خالصة تعالى وذلك أن يقيموها للمشهود له وعليه لا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم فلو شهد لغرض لابرىء بها من وبال كتم الشهادة لكن لا يثاب عليها لأن الأعمال بالنيات والحاصل إن الشهادة أمانة فلا بد من تأدية الأمانة كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِا إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِه إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا} إشارة إلى الحث على الشهادة والإقامة أو على جميع ما في الآية من إيقاع الطلاق على وجه السنة وإحصاء العدة والكف عن الإخراج والخروج والإشهاد وإقامة الشهادة بأدائها على وجهها من غير تبديل وتغيير {يُوعَظُ بِهِ} الوعظ زجر يقترن بتخويف {مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} إذ هو المنتفع به ولمقصود تذكيره ولم يقل ذلكم توعظون به كما في سورة المجادلة لتهييج المؤمنين على الغيرة فإن من لا غيرة له لا دين له ومن مقتضى الإيمان بالله مراعاة حقوق المعبودية والربوبية وباليوم الآخر الخوف من الحساب والعذاب
30
والرجاء للفضل والثواب فالمؤمن بهما يستحي من الخالق والخلق فلا يترك العمل بما وعظ به ودلت الآية على أن للإنسان يومين اليوم الأول هو يوم الدنيا واليوم الآخر هو يوم الآخرة واليوم عرفا زمان طلوع الشمس إلى غروبها وشرعاً زمان طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وهذان المعنيان ليسا بمرادين هنا وهو ظاهر فيكون المراد مطلق الزمان ليلاً كان أو نهاراً طويلاً كان أو قصيراً وذلك الزمان أما محدود وهو زمان الدنيا المراد باليوم الأول أو يغر محدود وهو زمان الآخرة المراد باليوم الآخر الذي لا آخر له لتأخره عن يوم الدنيا وجوزوا أن يكون المراد من اليوم الآخر ما يكون محدوداً أيضاً من وقت النشور إلى أن يستقر الفريقان مقرهما من الجنة والنار فعلى هذا يمكن أن يكونا مستعارين من اليومين المدودين بالطلوع والغروب اللذين بينهما زمان نوم ورقدة ويراد بما بين ذينك الزمانين زمان القرار فقي القبور قبل النشور كما قال تعالى : حكاية من بعثنا من مرقدنا وعلى هذا يقال ليوم الآخرة غد كما مر في أواخر سورة الحشر قال بعض الكبار : علمك باليقظة بعد النوم ، وعلمك بالبعث بعد الموت ، والبرزخ واحد غير أن للبرزخ بالجسم تعلقاً في النوم لا يكون بالموت وكما تستيقظ على ما نمت عليه كذلك تبعث على ما مت عليه فهو أمر مستقر فالعاقل يسعى في اليوم المنقطع اليوم لا ينقطع ويحيى على الإيمان والعمل ليكون موته ونشره عليهما
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في طلاق البدعة فطلق للسنة ولم يضار المتعدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط في الإشهاد وغيره من الأمور {يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا} مصدر ميمي أي خروجاً وخلاصاً مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب وبالفارسية بيرون شدن.
(10/23)
وقال بعضهم : هو عام أي ومن يتق الله في كل ما يأتي وما يذر يجعل له خروجاً من كل ضيق يشوش البال ويكدر الحال وخلاصاً من غموم الدنيا والآخرة وفيندرج فيه ما نحن فيه اندراجاً أولياً وعن النبي عليه السلام إه قرأها فقال : مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شد آثد يوم القيمة وفي الجلالين من الشدة إلى الرخاء ومن الحرام إلى الحلال ومن النار إلى الجنة أو اسم مكان بمعنى يخرجه إلى مكان يستريح فيه وفي فتح الرحمن يجعل له مخرجاً إلى الرجعة وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه سئل عمن طلق امرأته ثلاثاً أو ألفا هل له من مخرج فقال : لم يتق الله فلم يجعل له مخرجاً ، بانت منه بثلاث والزيادة إثم في عنقه ويقال المخرج على وجهين أحدهما أن يخرجه من تلك الشدة والثاني أن يكرمه بالرضى والصبر فإنه من قبيل العافية أيضاً كما قال عليه السلام : "واسأل الله العافية من كل بلية" ، فالعافية على وجهين : أحدهما : أن يسأل يعافيه من كل شيء ، فيه شدة فإن الشدة إنما يحل أكثرها من أجل الذنوب ، فكأنه سأل أن يعافيه من البلاء ويعفو عنه الذنوب التي من أجلها تخل الشدة بالنفس.
والثاني : إنه إذا حل به بلاء أن لا يكله إلى نفسه ولا يخذله وإن يكلأ.
ويرعاه وفي هذه المرتبة يصير البلاء ولاء والمحنة منحة والمقت مقة والألم لذة والصبر شكراً ولا يتحقق بها إلا الكمل {وَيَرْزُقْهُ} بعد ذلك الجعل {مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} من ابتدائية متعلقة بيرزقه أي من وه لا يخطره بباله ولا يحتسبه فيوفى المهر ويؤدي الحقوق ويعطي النفقات قال في عين المعاني من حيث لا يرتقب من الخان أو يعتد من الحساب.
31
از سببها بكذر وتقوى طلب
تاخدا روزي رسند بي سبب
حق رجايي بحشدت رزق حلال
كه نباشد در كمان ودر خيال
قال عليه السلام : "إني لا علم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله فما زال يقرأها ويعيدها".
وعنه عليه السلام ، من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
وروى) أن عوف بن مالك الأشجعي رحمه الله أسر المشركون ابنه سالماً فأتى رسول فقال : أسر ابني وشكا إليه الفقاة فقال عليه السلام : "ألق الله وأكثر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستقاها فنزلت.
(وقال الكاشفي) : عوف بازن خود بقول حضرت عليه السلام عمل نمودند ابدك فرصتي راسر عوف از أهل شرك خلاص يافته وهار هزار كوسفند ايشانرا رنده بسلامت بمدينة آمد واين آيت نازل شدكه هركه تقوى ورزد روزي حلال يابد.
وفي عين المعاني فأفلت ابنه بأربعة آلاف شاة وبالأمتعة وفي الجلالين وأصاب إبلاً لهم وغنماً فساقها إلى أبيه.
آورده اندكه درروز كار خلافت عمر رضي الله عنه مردى بيامد وازعمر توليت عمل خواست تادر ديوان خلافت عامل باشد عمر كفت قرآن داني كفت ندانم كه نيا موخته أم عمر كفت ما عمل بكسي ندهيم كه قرآن نداند مردبار كشت وجهدي وربح عظيم برخود نهاد در تعلم قرآن بطمع آنكه عمر اورا عمل دهد ون قرآن بيا موخت وياد كرفت بركات قررٌّ وخواندن ودانستن اورا بدان جاي رسانيدكه دردل وي نه حرص ولايت ماندنه تقاضاي دبدار عمر س روزي عمر اورا ديد كفت يا هذا هجرتنا أي جوانمرد ه افتادكه بيكبار كي هجرت ما اختيار كردى كفت يا أمير المؤمنين تونه ازان مردان باشى كه كسى وادارد كه هجرت تواختيار كند ليكن قرآن بيامو ختم ونان توانكردل كشتم كه از خلق واز عمل بي نياز شدم عمر كفت آن كدام آيت است كه ترابدين دركاه بي نيازي دركشيد كفت آن آيت كه درسورة الطلاق است (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب).
واعلم أن كل واحد من الضيق والرزق يكون دنيوياً وأخروياً جسمانياً وروحانياً وإن أعسر الضيق ما يكون أخروياً وأوفر الرزق ما يكون روحانياً فمن يتق الله حق التقوى يجعل له مخرجاً من مضار الدارين ويرزقه من منافعهما فإن قيل إن أتقى الأتقياء هم الأنبياء والأولياء مع أن أكثرهم ابتلى بالمشقة الشديدة والفاقة المديدة كما قال عليه السلام : "أشد الناس بلاء الأنبياء والأولياء" ثم الأمثل فالأمثل أجيب بأن أشد الشدة وأمد المدة ما يكون أخروياً وهم مأمونون من ذلك بلطف الله وكرمه إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإماماً ما صابهم في الدنيا باختيارهم للأجر الجليل وبغير اختيار للصبر الجميل فله غاية حميدة ومنفعة عظيمة والله عليم حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال بعضهم : شكا إليه عليه السلام ، بعض الصحابة الفاقة ، فقال عليه السلام : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فقال : كم من مستديم للطهارة ، لا رتب له كفايته فضلاً عن أن يوسع عليه ويوجه بأن تخلف إلا كالتوسيع
32
(10/24)
مثلاً لمانع لا ينافي الاقتضاء أي اقتضاء لعلة لمعلولها وأثرها إما عند القائلين بتخصيص العلة فظاهر وإما عند غيرهم فيجعل عدم المانع جزء العلة ومن المانع الغفلة وغلبة بعض الجنايات وعند غلبة أحد الضدين لا يبقى للآخر تأثير.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
يقول الفقير والذي يقع في قلبي أن أصحاب الطهارة الدائمة مرزوقون بأنواع الرزق المعنوي والغذآه الروحاني من العلوم والمعارف والحكم والحقائق والتضييق لبعضهم في الرزق الصوري والغذاء الجسماني إنا هو لتطبيق الفقر الظاهر بالباطن والفقر الباطن هو الغني المطلق لقوله عليه السلام اللهم أغنى بالافتقار إليك فأصحاب الطهارة الدائمة مرزوقون أبداً إما ظاهراً وباطناً معاً وإما باطناً فقط على أن لأهلها مراتب من حيث البداية والنهاية ولن ترى من أهل النهاية محروماً من الرزق مطلقاً إلا نادراً والله الغني وفي التأويلات النجمية ومن يتق الله أي يجعل ذاته المطلقة جنة ذاته وصفاته وأفعاله تعالى جنة أفعاله بإضافة الأشياء كلها خلقاف وإيجاداً إلى ذاته وصفاته وأفعاله يجعل له مخرجاً من مضايق ذاته وصفاته وأفعاله إلى وسائع ذاته وصفاته وأفعاله ويرزقه من حيث لا يحتسب من فيض اسمه الوهاب على طريق الوهب لا على طريق الكسب والاجتهاد {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل سكون القلب في كل موجود ومفقود وقطع القلب عن كل علاقة والتلعق بالله في جميع الأحوال {فَهُوَ} أي الله تعالى {حَسْبُه} بمعنى محسب أي كاف يعني كافي المتوكل في جميع أمروه ومعطيه حتى يقول حسبي فإن قلت إذا كان حكم الله في الرزق لاي تغير فما معنى التوكل قلت معناه أن المتوكل يكون فارغ القلب ساكن الجاش غير كاره لحكم الله فلهذا كان التوكل محموداً قال عليه السلام : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغد وخماصاً وتروح بطاناً" ، ومعناه تذهب أول النهار خماصاً أي ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار بطاناً أي ممتلئة البطون وليس في الحديث دلالة على القعود على الكسب بل فيه ما يدل على طلب الرزق وهو قوله تغدو تروح وإنما التوكل بعد الحركة في أمر المعاش كتوكل الزارع بعد إلقاء الحب في الأرض وكان السلف يقولون اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه وربما رأوا رجلاً في جماعة جنازة فقالوا له : إذهب إلى دكانك (وفي المثنوى) :
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص33 حتى ص43 رقم4
كر توكل ميكنى دركاركن
كشت كن س تكيه بر جباركن
رمز الكاسب حبيب الله شنو
از توكل درسبب كاهل مشو
وأما الذين قعدوا عن الحركة والكسب وهم الكمل فطريقتهم صعبة لا يسلكها كل ضامر في الدين ودل الحديث المذكور على أن التوكل الحقيقي أن لا يرجع المتوكل إلى رزق معين وغذاء موظف كالطير ، حتى لا ينتقض التوكل ، اللهم إلا أن يكون من الكمل فإن المعين وغيره سواء عندهم لتعلق قلوبهم بالله لا بغيره وفي التأويلات النجمية.
ومن يتوكل في رزق نفسه من الأحكام الشرعية وفي رزق قلبه من الواردات القلبية ، وفي رزق روحه من العطايا والمنح الإلهية الروحانية ، فالله الاسم الأعظم حسبه من حيث الأسماء الكافية أو التوكل نفسه حسبه فيكون الضمير راجعاً إلى التوكل {إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِهِ} بالإضافة أي : منفذ أمره
33
ومتم مراده وممضى قضائه في خلقه فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا من توكل عليه ، يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً ، وفي التأويلات النجمية : إن الله بالغ أمره في كل مأمور بما هو منتهاه وأقصه وقرىء بتنوين بالغ ونصب أمره أي : يبلغ ما يريد ، ولا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
كما قال الكاشفي) : رساننده است كار خودرا بهر اخواهد يعني آنه مراد حق سبحانه باشد از وفوت نشود.
وقرىء بالغ أمره على الفاعلية أي : نافذ أمره وفي القاموس أمر الله بلغ أيبالغ نافذ يبلغ أين أريد به {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ} من الشدة والرخاء والفقر والغنى والموت والحياة ونحو ذلك {قَدْرًا} أي : تقديراً متعلقاً بنفس ذاته وبزمانه وقومه ، وبجميع كيفياته وأوصافه وإنه بالغ ذلك المقدر على حسب ما قدره وبالفارسية اندازه كه ازان درنكذرداو.
(10/25)
مقداراً وحداً معيناً أو وقتاً واجلاً ونهاية ينتهي إليه لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه ولا يتأتى تغييره يعني بامقداري از زمانكه يش وس نيفتد.
وفي التأويلات النجمية : أي رتبة وكما لا يليق بذلك الشيء ، وقال القاشاني : ومن يتوكل على الله ، بقطع النظر عن الوسائط والانقطاع إليه من الوسائل ، فهو كافيه يوصل إليه ما قد له ويسوق إليه ما قسم لأجله من أنصبة الدنيا والآخرة ، إن الله يبلغ ما أراد من ره لا مانع له ولا عائق فمن تيقن ذلك ما خاف أحداً ولا رجا وفوض أمره إليه ونجا قد عين الله لكل أمر حداً معيناً ووقتاً معيناً في الأزل لا يزيد بسعي ساع ولا ينتقص بمنع مانع وتقصير مقصر ، ولا يتأخر عن وقته ولا يتقدم عليه ، والمتيقن لهذا الشاهد له متوكل بالحقيقة.
انتهى.
وفي المفردات تقدير الله الأشياء على وجهين : أحدهما : بإعطاء القدرة ، والثاني : أن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة وذلك إن فعل ذلك ضربان ضرب أو جده بالفعل ومعنى إيجاده بالفعل إنه أبدعه كاملاً دفعة لا يعتريه الكون والفساد إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسموات وما فيها ومنه ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزائه بالقوة وقدره على وجه لا يتَى غير ماقدر فيه كتقديره في النواة إن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون وتقدير مني الآدمي أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوان فتقدير الله على وجهين أحدهما بالحكم منه أن يكون كذا ولا يكون كذا إما على سبيل الوجوب ، وإما على سبيل الإمكان وعلى ذلك قوله تعالى : {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا} والثاني : بإعطاء القدرة عليه.
انتهى.
والآية بيان لوجوب التوكل عليه وتفويض الأمر إليه لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقدير الله وتوقيته.
لا يبقى إلا التسليم للقدر والتوكل.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
قال الكاشفي) : بناي اين آيت برتقوى وتوكلست تقوى نفخه بوستان قربست واز رتبه معيت خبر دهدكه إن الله مع الذين اتقوا وتوكل رائحة كلزار كفايتست واز بوي ريحان محبت رسدكه إن الله يحب المتوكلين وبي أين دوصفت قدم در طريق تحقيق نتوان نهاد.
سلوك راه معنى راتوكل بايد وتقوى
توكل مركب راهست وتقوى توشه رهرو
قال سهل قدس سره : لا يصح التوكل إلا للمتقين ولا تتم التقوى إلا بالتوكل ولذلك قرن الله بينهما فقال ومن يتق الله الخ وقال بعضهم من تحقق في التقوى هون الله عى قلبه الإعراض
34
عن الدنيا ويسر له أمره في الإقبال عليه والتزين بخدمته وجعله إماماً لخلقه يقتدى به أهل الإرادة فيحملهم على أوضح السنن ، وأوضح المناهج وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله تعالى وذلك منزلة المتقني وقال سهل رحمه الله : من يكل أموره إلى ربه فإن الله يكفيه هم الدارين أجمع قال الربيع رحمه الله : إن الله قضى على نفسه إن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به أنجاه ومن دعاه أتاه وتصديق ذلك في كتاب الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه ومن يؤمن بالله يهد قلبه من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم أجيب دعوة الداع إذا دعان واللائى} من الموصولات جمع التي يعني آن زنان كه يا ـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآاـاِكُمْ} اللاتي دخلتم بهن لكبرهن ويبسهن وقدروه بستين سنة وبخمس وخمسين فلو رأته بعد ذلك لا يكون حيضاً قوله يئسن فعل ماض واليأس القنوط ضد الرجاء يقال : يئس من مراده ييأس يأساً وفي معناه أيس يأيس يأساً وإياساً لا إيساً وفاعلهما آيس لا يائس يقال امرأة آيس إذا كان يأسها من الحيض دون آيسة لأن اتاء إنما زيدت في المؤنث إذا استعملت الكلمة للمذكر أيضاً فرقاً بينهما وإذا لم تستعمل له فأي حاجة إلى الزيادة ومن ذلك يقال امرأة حائض وطالق وحامل بلا تاء إذا كان حملها من الولد وإما إذا كان يأسها وحملها من غير الحيض وحمل الولد يقال آيسة وحاملة وفي المغرب اليأس انقطاع الرجاء وإما إلا ياس في مصدر الآيسة من الحيض فهو في الأصل ائياس على أفعال حذفت منه الهمزة التي هي عين الكلمة تخفيفاف والمحيض الحيض وهو في اللغة مصدر حاضت الأنثى ، فهي حائض وحائضة أي خرج الدم من قبلها ويكون للأرنب والضبع والخفاش كما ذكره الجاحظ وفي القاموس : حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً ومحاضاً فهي حائض وحائضاً من حوائض وحيض سال دمها والمحيض اسم ومصدر قيل ومنه الحوض لأن الماء يسيل إليه والحيضة المرة انتهى وفي الشرع دم ينفضه رحم امرأة بالغة لأداء بها ولا إياس لها أي يجعلها الشارع منقطعة الرجاء عن رؤية الدم ومن الأولى لابتداء الغاية ومتعلقة بالفعل قبلها والثانية للتبيين ومتعلقة بمحذوف {إِنِ ارْتَبْتُمْ} من الإرتياب بالفارسية بشك شدن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/26)
أي شككتم وأشكل عليم حكمهن لانقطاع دمهن بكبر السن وجهلتم كيف عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ} فقوله واللائي يئس الخ مبتدأ خبره فعدتهن وقوله إن أرتبتم اعتراض وجواب الشرط محذوف أي أرتبتم فيها فاعلموا إنها ثلاثة أشهر كذا قالوا والأشهر جمع شهر وهو مدة معروفة مشهورة باهلال الهلال أو باعتبار جزء من اثني عشر جزأ من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة قال في القاموس : الشهر العدد المعروف من الأيام لأنه يشهر بالقمر وآن زنان كه {لَمْ يَحِضْنَ} أي مار أين الدم لصغرهن أي فعدتهن أيضاً كذلك فحذف ثقة بدلالة ما قبله عليه والشابة التي كاتن تحيض فارتفع حيضها بعذر من الأعذار قبل بلوغها سن الآيسات فعند أبي حنيفة والشافعي لا تنقضى عدتها حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة
35
إقراء أو تبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر وضع السجاوندي الطاء الدالة على الوقف المطلق على وضعه وقانونه في لم يحضن لانقطاعه عما بعده وكان الظاهر أن يضع الميم الدالة على اللازم لأن المتبادر الاتصال الموهم معنى فاسدا العله نظر إلى ظهور عدم حمل التي لم تحض لصغرها {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ} واحتدها ذات بمعنى صاحبة والأحمال جمع حمل بالفتح بالفارسية بار.
والمراد الحبل أي الثقل المحمول في الباطن وهو الولد في البطن والمعنى وذوات الأحمال من النساء والحبالي منهن {أَجَلُهُنَّ} أي منتهى عدتهن {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن فلو وضعت المرأة حملها أي ولدت وحطت ما في بطنها يعني ازبالا بزير آورد.
بعد طلاق الزوج أو وفاته بلحظة انقضت عتدها وحلت للأزواج فكيف بعد ساعة أو يوم أو شهر وقد نسخ به عموم قوله تعالى : [الطلاق : 12]{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} لتراخي نزوله عن ذلك وقد صح أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام ، فقال : قد حللت فتزوجي ومن يتق الله} في شأن أحكامه وحقوقه {يَجْعَل لَّه مِنْ أَمْرِه يُسْرًا} أي يسهل عليه أمره ويوفقه للخير ويعصمه من لمعاصي والشر بسب التقوى فمن للبيان قدم على المبين للفواصل أو بمعنى في {ذَالِكَ} المذكور من الأحكام وأفراد الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه مابعده لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى لا لتعيين خصوصية المخاطبين {أَمْرُ اللَّهِ} حكمه الشرعي {أَنزَلَهُ} من اللوح المحفوظ {إِلَيْكُمْ} إلى جانبكم ، وقال أبو الليث : أنزله في القرآن على نبيكم لستعدوا للعمل به فإياكم ومخالفته {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} بالمحافظة على أحكامه {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـاَاتِهِ} يسترها لرضاه عنه باتقانه ، وبالفارسية بوشد خداي تعالى از وبديهاى ويرا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
وربما يبدلها حسنات {وَيُعْظِمْ لَه أَجْرًا} بالمضاعفة وبالفارسية وبزرك ساز دبراي او مزدرا يعني اورامزد زياده دهددر آخرت.
قال بعضهم : يعطيه أجراً عظيماً أي أجر كان ولذلك نكر فالتنكير للتعميم المنبىء عن التتميم قال في برهان : القرآن أمر بالتقوى في أحكام الطلاق ثلاث مرات وعد في كل مرة نوعاً من الجزاء فقال أولاً يجعل له مخرجاً يخرجه مما دخل فيه وهو يكرهه ويهيىء له محبوبه من حيث لا يأمل وقال في الثاني يسهل عليه الصعب من أمره ويفتح له خيراً ممن طلقها والثالث وعد عليه الجزاء بأفضل الجزاء وهو ما يكون في الآخرة من النعماء.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل اسكنوهن من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم والخطاب للمؤمنين المطلقين {مِّن وُجْدِكُمْ} أي من وسعكم أي مما تطيقونه يعني مسكن ايشان بقدر طاقت وتواناي خويش سازيد والوجد القدرة والغنى يقال افتقر فلان بعد وجده وهو عطف بيان لقوله من حيث سكنتم وتفسير له وفي عين المعاني ومن لتبيين الجنس لما في حيث من الإبهام انتهى واعترض عليه أبو حيان بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل إنما عهد ذلك في البدل فالوجه جعله
36
(10/27)
بدلاً قال قتادة إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه.
قال صاحب اللباب : ءٌّ كانت الدار التي طلقها فيها ملكه يجيب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعليه الأجرة وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكترى لها داراً تسكنها قال في كشف الأسرار وأما المعتدة من وطىء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملاً {وَلا تُضَآرُّوهُنَّ} أي ولا تقصدوا عليهن الضرر فى السكنى بأي وجه كان فإن المفاعلة قد لا تكون للمشاركة وبالفارسية ورنج مرسانيد مطلقات را {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} في المسكن بعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو يغر ذلك وتلجئوهن إلى الخروج وبالفارسية براي آنكه تنك كردانيد برايشان مساكن ايشان.
وفيه حث المروءة والمرحمة ودلالة على رعاية الحق السابق حتى يتيسر لها التدارك في أمر المعيشة من تزوج آخر أو غيره {وَإِن كُنَّ} أي المطلقات {أُوْلَـاتِ حَمْلٍ} ذوات حبل وبالفارسية خدا وتدبار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
يعني حاملة وأولات منسوب بالكسر على قانون جمع المؤنث وتنوين حمل للتعميم يعني أي حمل كان قريب الوضع أو بعيده {فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرجن من العدة وتتخلصوا من كلفة الإحصاء ويحل لهن تزوج غيكرم اياشئن فالبائن بالطلاق إذا كانت حاملاً لها النفقة والسكنى بالاتفاق وإما البائن الحائل أي غير الحامل فتستحق النفقة والسكنى عند أبي حنيفة كالحامل إلى أن تنقضى عدتها بالحيض أو بالأشهر خلافاً للثلاثة وإما المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن من التركة ولا سكنى بل تعتد حيث تشاء وإن كن أولات حمل لوقوع الإجماع على إن من بر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه م ماله بعد وته فكذا المتوفى عنها الحامل وهو قول الأكثرين قال أبو حنيفة تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة سواء كانت مطلقة بثلاث أو واحدة رجعية أو بائنة ما دامت في العدة ، أما المطلقة الرجعية فلأنها منكوحة كما كانت وإنما يزول النكاح بمضي العدة وكونه في معرض الزوال بمضي العدة لايسقط نفقتها كما لو آلى وعلق طلاقها بمضي شهر فالمطلقة الرجعية لها النفقة والسكنى بالإجماع وإما المبتوتة فعندنا لها النفقة والسكنى ما ادمت في العدة لقوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} من وجدكم إذا المعنى اسكنوا المعتدات مكاناً من المواضع التي تسكنونها وأنفقوا عليهن في العدة من سعتكم لما قرأ ابن مسعود رضي الله عنه اسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وعند الشافعي لها السكنى لهذه الآية ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاف لقوله تعالى : وإن كن أولات حمل الخ قلت : فائدته إن مدة الحمل ربما طالت فظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم كما في الكشاف فإن أرضعن لكم} الرضاع لغة شرب اللبن من الضرع أو الثدي وشريعة شرب الطفل حقيقة أو حكماً للبن خالص أو مختلط غالباً من آدمية في وقت مخصوص والإرضاع شيردادن يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من غير هن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية
37
وعلاقة النكاح قال لكم ولم يقل أولادكم لما قال تعالى : [الطلاق : 6]{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} لمن أراد أن يتم الرضاعة فالأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئراً لا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ، ولا تجبر عليه ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رحمه الله ما دامت زوجة معتدة من نكاح فآتوهن أجورهن} ، على الإرضاع إن طلبن أورجون فإن حكمهن في ذلك حكم إلا ظئآر حينئذٍ ، قال في اللباب : فإن طلقها فلا يجب عليها الإرضاع إلا أن لا يقبل الولد ثدى غيرها فيلزمها حينئذٍ فإن اختلفا في الأجرة ، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أولى بأر المثل إذ لا يجد الأب متبرعة وإن دعا الأب إلى ر المثل وامتنعت الأم لتطلب شططا فلأب أولى به فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على إرضاع ولدها انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/28)
إن قيل إن الولد للأب فلم لا يتبعه في الحرية والرقية بل يتبع الأم لأنها إذا كانت ملكاًلغير الأب كان الولد ملكاً له وإن كان الأب حراً وإذا كانت حرة كان الولد حراً وإن كان الأب رقيقاً أجيب بأن الفقهاء قالوا في وجهه رحح ماء الأم على ماء الأب في الملكية لأن ماء هامستقر في موضع وماء الأب غير معلوم أفادت هذه المسألة إن المالكية تغلب الوالدية والتحقيق إن الأحكام شرعية لا عقلية والعلم عند شارعها يفعل ما يشا ويحكم ما يريد أيها الآباء والأمهات {بَيْنَكُم} ميان يكدكر دركار فرزند {بِمَعْرُوفٍ} أي تشاوروا وحقيقته ليأمر بعضكم بعضاً بجميل في الإرضاع والأجر وهو المسامحة ولا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة لأنه ولدهما معاً وهما شريكان فيه في وجو الاشفاق عليه فالائتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور يقال ائتمر القوم وتآمروا إذا أمربعضهم بعضاً يعني الافتعال قد يكون بمعنى التفاعل وهذا نمه {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} يقال تعسار القوم إذا تحروا تعسير الأمر أي تضايقتم وبالفارسية واكر دشوار كنيد ومضايقه نماييد أي در ومادر رضاع ومزد دادن يعني شوهر از أجرا باكند يازن شيرندهد {فَسَتُرْضِعُ لَهُ} أي للأب كما في الكشاف وهو الموافق لقوله فإن أرضعن لكم أو للصبي والولد كما في الجلاين وتفسير الكاشفي ونحوهما وفيه إن الظاهر حينئذٍ أن يقول فسترضعه {أُخْرَى} أي فستوجد ولا تعوذ مرضعة أخرى غير الأم ترضعه يعني مرددايه كيرد براي رضيع خود ومادررا باكراه واجبار نفر مايد.
وفيه معاتبة للام على المعاسرة كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتواني سيقضيها غيرك تريد إن تبق غير مقضية فأنت ملوم قال سعدي المفتي ولا يخلو عن معاتبة الأب أيضاً حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إن ضويقت الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى وهي أيضاً تطلب الأجر في الأغلب الأكثر والأم أشفق واحن فهي به أولى وبما ذكرنا يظهر كمال الارتباط بين الشرط والجزاء {لِيُنفِقْ} لام الأمر {ذُو سَعَةٍ} خداوند فراخى وتوانكرى {مِّن سَعَتِهِ} ازغناي خود يعني بقدر تواناي خويش بر مطلقه ومرضعة نفقة كنيد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
ومن متعلقة بقوله لينفق {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق وكان بمقدار القوت وبالفارسية وهركه تنك
38
كرده شده است برو روزي أو يعني فقير وتنكدست است.
ومن هذا المعنى اشتق إلا قدراي القصير العتق وفرس اقدر يضع حافر رجله موضع حافريده وقوله تعالى : {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِه وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ} وإن قل أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه ويطيقه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَآ ءَاتَـاـاهَا} من المال جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وبالفارسية وتكليف نفر مايد خداي تعالى هي تنى رامكر آنه بدو عطا كرده است ازمال يعني تكليف ما لا يطاق نفر ما يد.
وقد أكد ذلك بالوعد حيث قال : {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي عاجلاً أو آجلاً إذ ليس في السين دلالة على تعين زمان وكل آت قريب ولو كان الآخرة ، وبالفارسية زود باشدكه بديد آرد خداي تعالى بعد ازدشوارى وتنكدستي آساني وتوانكري.
فلينتظر المعسر اليسر وفرج الله فإن الانتظار عبادة وفيه تطييب لقلب المعسر وترغيب له في بذل مجهوده ووعد لفقراء الأزواج لا لفقراء ذلك الوقت عموماً كما جوزه الزمخشري حيث قال : موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم أو لفقراء إلا زواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا.
يقول الفقير لا بعد في ذلك من حيث إن القرآن ليس بمحصور ولا التفات في مثل ذا المقام إلى سوق الكلام قال البقلي سيجعل الله بعد ضيق الصدر من الاهتمام بالرزق وإنفاقه سعة الصدر ويسر السخاء والطمأنينة والرضى بالله وأيضاً سيجعل الله بعد عسر الحجاب للمشتاقين يسر كشف النقاب وفي التأويلات النجمية يعني كل ذي سعة مأمور بإنفاق ما يقدر على إنفاقه فالخفي المنفق عليه من جانب الحق ينفق على الروح من سعته والروح ينفق على السر من سعته والسر ينفق على القلب من سعته والقلب ينفق على النفس من سعته والنفس ينفق على الصدر من سعته والدر ينفق على الجسم من سعته ومن قدر عليه رزقه من الفيوض الإلهية فلينفق مما آتاه الله بحسب استعداده لايكلف الله نفساً إلا ما آتاها في استعدادها الأزلي ، وقابليتها الغيبية ، سيجعل الله بعد عسر انقطاع الفيض يسر اتصال الفيض {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} بمعنى كم الخبرية في كونها للتكثير والقرية اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس والمعنى وكثير من أهل قرية وبالفارسية وبسيار ازاهل ديهى وشهري.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/29)
فهو من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ثم وصفه بصفته أو من المجاز العقلي والإسناد إلى المكان وهذه الآية تحذير للناس عن المخالفة في الأحكام المذكورة وتأكيد لإيجابها عليهم{عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} قال في المفردات : العتو النبو عن الطاعة وفي القاموس عتا عتوا وعتيا وعتيا استكبر وجاوز الحد فهو عات وعتى انتهى.
والعتو لا يتعدى بعن وإنما عدى بها لتضمينه معنى الإعراض كأنه قيل اعرتض عن امرر بها وأمر رسل ربها بسبب التجاوز عن الحد في التكبر والعناد وفي إيراده صفة الرب توبيخ لهم وتجهيل لما إن عصيان العبيد لربهم ومولاهم طغيان وجهل بشأن سيدهم ومالكهم وبمرتبة أنفسهم ودوام احتياجهم إليه في التربية قوله وكأني مبتدأ ومن قرية بيان له وعتت خبر المبدأ {فَحَاسَبْنَـاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} أي ناقشناها في الحساب وضيقنا وشددنا عليها في الدنيا وأخذناها بدقائق ذنوبها وجر آئمها
39
من غير عفو بنحو القحط والجوع والأمراض والأوجاع والسيف وتسليط الأعداء عليها وغير ذلك من البلايا مقدماً معجلاً على استئصالها وذوقها العذاب الأكبر لترجع إلى الله تعالى ، لأن البلاء كالسوط للسوق فلم تفعل ولم ترفع رأساً ، فابتلاها الله بما فوق ذلك كما قال : {وَعَذَّبْنَـاـاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} أي نكراً عظيماً هائلاً متنفراً عنه الطبع لشدته وإيلامه أو غير متوقع فإنهم كانوا لا يتوقعونه ولو قيل لهم لما يصدقونه والقهر الغير المتوقع أشد ألماً واللطف الغير المتوقع أتم لذة وبالفارسية وعذاب كرديم ايشانرا عذابي نانكه نديده بودند ونشناخته.
وهو العذاب العاجل بالاستئصال بنحو الإغراق والإحراق والريح والصيحة فالنكر الأمر الصعب الذي لا يعرف والإنكار ضد العرفان.
يقول الفقير : أضاف الله المحاسبة والتعذيب إلى نفسه مع أن سببهما كان العتو عن أمره وأمر رسله لأن الرسل كانوا فانين في الله فاتخذوا الله وكيلاً في جميع أمورهم وتركوا التصرف والتعرض للقهر ونحوه وذلك إنهم قد بعثوا بعد رسوخهم ولهذا صبروا على تكذيب أممهم لهم ولو بعثوا قبل الرسوخ ربما بطشوا بمن كذبهم وِلكوه وقس عليهم أحوال الكمل من الأولياء {فَذَاقَتْ} س بشيدند اهل آن ديه {وَبَالَ أَمْرِهَا} أي ضرر كفرها وثقل عقوبة معاصيها أي أحسته إحساس الذائق المطعوم {وَكَانَ عَـاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} هائلاً لا خسر وراءه يعني زينكارى وكدام زيان ازان بدتركه ازحيات ومنافع آن محروم شدند وبعقوبات مبتلى كشتند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
فتجارتهم خسارة لا ربح فيها لتضييعهم بضاعة العمر والصحة والفراغ بصرفها في المخالفات ، قال في المفردات : الخسر والخسران انتقاض رأس المال وينسب إلى الإنسان فيقال خسر فلان وإلى الفعل فيقال خسرت تجارته ويستعمل ذلك في القنيات الخارجية كمالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر وفي النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب وفي الآية إشارة إلى أهل قرية الوجود الإنساني وهو انفس والهوى وسائر القوي فإنها أعرضت عن حكم الروح فلم تدخل في حكم الشريعة وكذا عن متابعة أمر القلب والسر والخفي فعذبت بعذاب الحجاب واستهلكت في بحر الدنيا وشهواتها ولذاتها وكن عاقبة أمرها خسران الضلالة ونيران الجهالة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} مع ذلك في الآخرة ولام لهم لام التخصيص لا لام النفع كما في قولهم دعا له في مقابلة دعا عليه {عَذَابًا شَدِيدًا} أي قدره في علمه على حسب حكمته أو هيأ أسبابه في جهنم بحيث لا يوصف كنهه فهم أهل الحساب والعذاب في الدنيا والآخرة لا في الدنيا فقط فإن ما أصابهم ، في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم لعدم رجوعهم عن الكفر فعذبوا بعذاب الآخرة أيضاً ، وهذا المعنى من قوله فحاسبناها إلى هنا هو اللائق بالنظم الكريم هكذا ألهمت به حين المطالعة ثم وجدت في تفسير الكواشي وكشف الأسرار وأبي الليث والأسئلة المقحمة ما يدل على ذلك والحمد تعالى فلا حاجة إلى أن يقال فيه تقديماً وتأخيراً وإن المعنى إنا عذبناها عذاباً شديداً في الدنيا ونحاسبها حساباً شديداً في الآخرة على أن لفظ الماضي للتحقيق كأكثر ألفاظ القيامة فإن فيه وفي نحوه تكلفاً ، بينا على ما ارتكبه من يعد من إجلاء المفسرين ودل قوله في الأثر حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
40
على أن المحاسبة عامة لما في الدارين وإن المراد بها في بعض المواضع هو التضييق والتشديد مطلقاً {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا اأُوْلِى الالْبَـابِ} أي اعتبروا بحال الأمم الماضين من المنكرين المعاندين وما نزل بهم من العذاب ، والوبال فاتقوا الله أوامره ونواهيه إن خلصت عقولكم من شوب الوهم فإن اللب هو العقل الخالص من شوائب الوهم وذلك بخلوص القلب من شوائب صفات النفس والرجوع إلى الفطرة الأولى وإذا خلص العقل من الوهم والقلب من النفس كان الإيمان يقينياً فلذلك وصفهم بقوله {الَّذِينَ ءَامَنُوا}
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/30)
أي الإيمان التحقيقي اليقيني العياني الشهودي وفيه إشارة إلى أن منشأ التقوى هو الخلوص المذكور ولاي نافي ذلك وزيادة الخلوص بالتقوى فكم من شي يكون سبباً لأصل شيء آخر ويكون سبباً في زيادته وقوته على ذلك الآخر وبكمال التقوى يحصل الخروج من قشر الوجود المجازي والدخول في لب الوجود الحقيقي والاتصاف بالإيمان العياني قال بعضهم : الذين آموا حقاً وصدقاً ويجوز أن يكون صفة كاشفة لا مقيدة فإنه لا يليق أن يعد غير المؤمنين من أولى الألباب اللهم إلا أن يراد باللب العقل العاري عن الضعف ، بأي وجه كان من البلادة والبله والجنون وغيرها فتخصيص الأمر بالتقوى بالمؤمنين من بينهم لأنهم النمتفعون انتهى والظاهر أن قوله الذين آمنوا مبتدأ خبره قوله تعالى : {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ} والخطاب من قبيل الالتفات {ذِكْرًا} هو النبي عليه السلام كما بينه بأن ابدل منه قوله {رَّسُولا} وعبر عنه بالذكر لمواظبته على تلاوة القرآن أو تبليغه والتذكير به وعبر عن إرساله بالإنزال بطريق الترشيخ أي للتجوز فيه عليه السلام بالذكرأو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه يعني أن رسول الله شبه بالذكر الذي هو القرآن لشدة ملابسته به فأطلق عليه اسم المشبه به استعارة تصريحية وقرن به ما يلائم المستعار منه وهو الإنزال ترشيحاً لها أو مجازاً مرسلاً من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب فإن إنزال الوحي إليه عليه السلام ، سبب لإرساله وقال بعضهم : إن التقدير قد أنزل الله إليكم ذكراً يعني القرآن وأرسل إليكم رسولاً يعني محمداً عليه السلام لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول وقد دل عليه القرينة وهو قوله أنزل نظيره قوله علفتها تبناً وماء بارداً أي وسقيتها ماء بارداً فيكون الوقف في ذكراً تاماً بخلافه ، إذا كان بدلاً وقال القاشاني قد أنزل الله إليكم ذكراً أي فرقناً مشتملاً على ذكر الذات والصفات والأسماء والأفعال والمعاد رسولاً أي روح القدس الذي أنزله به فأبدل منه بدل الاشتمال لأن إنزال الذكر هو إنزاله بالاتصال بالروح النبوي وإلقاء المعاني في القلب {يَتْلُوا} يقرأ ويعرض {عَلَيْكُمْ} يا أولي الألباب أو يا أيها المؤمنون {اللَّهِ مُبَيِّنَـاتٍ} أي القرآن {مُبَيِّنَـاتٍ} أي حال كون تلك الآيات مبينات ومظهرات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام أو مبينات بالفتح بمعنى واضحات لإخفاء في معانيها عند الأهالي أو لا مرية في إعجازها عند البلغاء المنصفين وإنما يتلوها أو أنزله
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
{لِّيُخْرِجَ} الرسول ويخلص أو الله تعالى قال بعضهم : اللام متعلقة بأنزل لا بقوله يتلو لأن يتلو مذكور على سبيل التبعية دون أنزل {رَّسُولا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ} الموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزاله وإلا فإخراج
41
الموصوفين بالإيمان من الكفر لا يمكن إذ لا كفر فيهم حتى يخرجوا منه أي ليحصل لهم الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح بإخراجهم عما كانوا عليه أو ليخرج الله من علم ، أو قدر إنه سيؤمن ولم يقل ليخرجكم إظهاراً لشرف الإيمان والعمل الصالح وبياناً لسبب الإخراج وحثا على التحقيق بهما {مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} أي من الضلالة إلى الهدى ومن الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشهبات إلى الدلالات والبراهين ومن الغفلة إلى اليقظة ومن الإنس بغير الله إلى الإنس بالله على طبقاتهم ودرجاتهم في السعي والاجتهاد بعناية الله تعالى ، وفي التأويلات النجمية : ليخرج الذين آمنوا بالإيمان العلمي وعملوا الصالحات بمقتضى العلم الظاهر لا بمقتضى الحال من ظلمات التقييد بالأعمال والأحوال إلى نور الإطلاق برؤية فاعلية الحق في الأشياء انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/31)
يقول الفقير : إنما جمع الظلمات لتراكمها وتكاثفها ولكثرة أسبابها وأنواعها ولذا قال تعالى : {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي : شد آئدهما فإنها كالظلمات وكذا الأعمال السيئة ظلمات يوم القيامة كما ورد في حق الظلم ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا} خالصاً من الرياء والتصنع والغر وهو استئناف لبيان شرف الإيمان والعمل الصالح ونهاية أمر من اتصف بهما تنشيطاً وترغيباً لغير أهلهما لهما قال بعض الكبار لو كان الإيمان بذاته يعطي مكارم الأخلاق لم يقل للمؤمن أفعل كذا واترك كذا وقد توجد مكارم الأخلاق بدونه وللإيمان وللمكارم آثار ترجع على أصحابها في أي دار كان كما ورد في حق أبي طالب فإنه قال العباس رضي الله عنه ، يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك ، قال : نعم ولولا أنا كان في الدرك الأسفل من النار وكما رؤي أبو لهب في المنام وهو يمص ماء من إبهامه ليلة الاثنين لعتقه بعض جواريه حين بشرته بولادة رسول الله عليه السلام ، وكما قيل : إنه عليه السلام لما عرج به اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام : "ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسه النار" ، فقال جبريل عليه السلام : هذا خاتم طي صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده كما في أنيس الوحدة وجليس الخلوة فإذا كانت المكارم بهذه المرتبة بلا إيمان فكيف مع إيمان وعطف العمل الصالح من الصلاة والزكاة وغيرهما على الإيمان الذيهو تصديق القلب عند المحققين والتصديق مع الإقرار عند البعض يفيد المغايرة على ما هو المذهب الأصح وهو كاف في دخول الجنة بوعد الله وكرمه في القول الحق المثبت بالأدلة القوية فذكر العلم الصالح بعده للاهتمام والحث عليه أخباراً بأنأهله يدخلون ابتداء بلا حساب أو بحساب يسير {يُدْخِلْهُ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت قصورها أو أشجارها {الانْهَـارُ} الأربعة المذكورة في سورة محمد عليه السلام {خَـالِدِينَ فِيهَآ} مقيمين في تلك الجنات دآثمين فيها وهو حال من مفعول يدخله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها {أَبَدًا} ظرف زمان بمعنى دائماً غير منقطع فيكون تأكيداً للخلود لئلا يتوهم إن المراد به المكث الطويل المنقطع آخراً {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَه رِزْقًا} حال أخرى منه وفيه معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله
42
المؤمنين من الثواب لأن الجملة الخبرية إذا لم يحصل منها فائدة الخبر ولا لازمها تحمل على التعجب إذا اقتضاه المقام كأنه قيل ما أحسن رزقهم الذي رزقهم الله وما أعظمه فرزقا ظاهره المفعولية لأحسن والتنوين للتعظيم لإعداده تعالى فيها ما هو خارج عن الوصف أو للتكثير عدداً لما فيه مما تشتهي الأنفس من الرزق والأنفس أو مدداً لأن أكلها دآثم لا ينقطع ولا بعد في أن يكون له بمعنى إليه ويكون رزقاً تمييزاً بمعنى قد هيأ له واعد ما يحسن إليه به من جهة الرزق ، قال بعض الكبار الجزاء على الأعمال في حق العارفين من عين المنة فهو جزاء العمل لا جزاء العامل فافهم قال في الأسئلة المقحمة الظاهر إن الرزق الحسن مال في قدر الكفاية بلا زيادة تطغى ولا حاجة تنسى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
يقول الفقير هذا التفسير ليس في محله لأن المراد رزق الآخرة كما دل عليه ما قبل الآية لا رزق الدنيا.
وفي التأويلات النجمية : ومن يؤمن بالله إيماناً حقيقياً عينياً ويعمل عملاً صالحاً منزهاً عن رؤيته مقدساً عن نسبته إلى العامل المجازي يدخله جنات المكاشفات والمشاهدات والمعاينات والمحاضرات من غير الفترة الحجابية قد أحسن الله له رزقاً فرزق الروح بالتفريد ورزق القلب بالتجريد ورزق السر بالتوحيد ورزق الخفي بالفناء والبقاء {اللَّهُ الَّذِى} الخ.
مبتدأ وخبر أي الملك القادر الذي {خَلَقَ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ} بيافريد هفت آسمان بعضي بالآي بعض.
نكرا للتعظيم المفيد لكمال قدرة صانعها أو لكفايته في المقصود من إثبات قدرته الكاملة على وفق حكمته الشاملة وذلك يحصل بأخبار خلقه تعالى سبع سموات من غير نظر إلى التعيين {وَمِنَ الأرْضِ} أي وخلق من الأرض {مِثْلَهُنَّ} أي مثل السموات السبع في العدد والطباق وبالفارسية وبيافريد از زمين مانند آسمانها بعضي در تحت بعض.
(10/32)
فقوله مثلهن منصوب بفعل مضمر بعد الواو دل عليه الناصب لسبع سموات وليس بمعطوف على سبع سموات لأنه يستلزم الفصل بين حرف العطف وهو صرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور وصرح سيبويه وأبو علي بكراهيته في غير موضع الضرورة واختلف في كيفية طبقات الأرض فالجمهور على أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله وقال الضحاك مطبقة بعضها فوق بعض من غير فتوق وفرجة أي سواء كان بالبحار أو بغيرها بخلاف السموات قال القرطبي والأول الأصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره من أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي عليه السلام ، لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما اذرين نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير منفيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص43 حتى ص52 رقم5
(وروى) شيبان ابن عبد الرحمن قتاة عن الحسن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما النبي عليه السلام جالس إذا أتى عليهم سحاب ، فقال : هل تدرون ما هذا العنان قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : هذه زوايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ، ثم قال : هل تدرون ما الذي فوقكم قالوا الله ورسوله اعلم.
قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وبحر مكفوف
43
.
ثم قال : هل تدرون ما بينكم وبينها قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فوقها العرش وبينه وبين السماء كبعد ما بين سماءين أو كما قال : ثم قال : هل تدرون ما تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم قال : الأرض وتحتها أرض أخرى بينهما خمسمائة عام ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو كم أدلتم بحبل لهبطتم على الله ، ثم قرأ عليه السلام هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ، كما في خريدة العجائب وفي المقاصد الحسنة لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله فسره بعض أهل العلم ، فقال : إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في كتابه انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
قال شيخنا : معناه إن علم الله شمل جميع الأقطار فالتقدير لهبط على علم الله والله تعالى منزه عن الحلول في الأماكن فالله سبحانه كان قبل أن يحدث الأماكن انتهى كلام المقصاد الحسنة ، قال بعض العارفين فيه إشارة إلى أنه ما من جوهر في العالم العلوي والسفلي إلا وهو مرتبط بالحق ارتباط الرب بالمربوب وفي الحديث : (اجتمع أملاك عند الكعبة واحد نازل من السماء وواحد صاعد من الأرض السفلى وثالث من ناحية المشرق ورابع من ناحية المغرب فسأل كل واحد صاحبه من أين جئت فكلهم قالوا من عند الله ثم نرجع ونقول فالأرض بعضها فوق بعض وغلظ كل أرض مسيرة خمسمائة عام وكذا ما بينهما على ما دل عليه حديث أبي هريرة وفي الحديث من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين قال ابن الملك وفيه إشعار بأن الأرض في الآخرة أيضاً سبع طباق وفي الكواشي قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية وإن ما بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام وكذا غلظ كل سماء والأرضون مثل السموات فكما إن في كل سماء نوعاً من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويحمدونه فكذا لكل أرض أهل على صفة وهيئة عجيبة ولكل أرض اسم خاص كما إن لكل سماء اسماً خاصاً وعن بن عباس رضي الله عنهما أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق ، قال : نعم ، قال : فما الخلق قال إما ملائكة أو جن وعن عطاء بن يسار في هذه الآية في كل أرض آدم كآمكم ونوح مثل نوحكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم وعيسى كعيساكم قالوا : معناه إن في كل أرض خلقا لهم سادة يقومون عليهم مقام آدم ونوح وإبراهيم وعيسى فينا ، قال السخاوي : في المقاصد الحسنة حديث الأرضون سبع في كل أرض من الخلق مثل ما في هذه حتى آدم كآدمكم وإبراهيم كإبراهيمم هو مجهول إن صح نقله عن ابن عباس رضي الله عهما على أنه أخذه عن الإسرائيليات أي أقاويل بني إسرائيل مما ذكر في التوراة أو أخذه من علمائهم ومشايخهم كم افي شرح النخبة وذلك وأمثاله إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله انتهى كلام المقاصد مع تفسير الإسرائيليات وقال في إنسان العيون قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ} قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيكم وعيسى كعيساكم رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد وقال البيهقي : إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد وقال البيهقي إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة التمن فقد يكون
44
(10/33)
فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف قال الجلال السيوطي ويمكن أن يؤول على أن لمراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه وحينئذٍ كان لنبينا عليه السلام رسول من الجن اسمه كاسمه ولعل المراد اسمه المشهور وهو محمد فليتأمل انتهى.
ما في إنسان العيون ونظير هذا المقام قول حضرة الشيخ الشهير بافتاده خطاباً لحضرة محمود الهدائي قدس سرهما الآن عوالم كثيرة يتكلم فيها محمود وافتاده كثير قال في خريدة العجائب وليس هذا القول أي خبر في كل أرض آدم الخ بأعجب من قول الفلاسفة أن الشموس شموس كثيرة والأقمار أقمار كثيرة ففي كل إقليم شمس وقمر ونجوم وقالت القدماء الأرض سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الأقاليم لا على المطابقة والمكابسة وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول ومنهم من يرى أن الأرض سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
حكى) الكلبي عن أبي صالح عن أبي عباس رضي الله عنهما إنها سبع أرضين متفرقة بالبحار يعني الحائل بين كل أرض وأرض بحار لا يمكن قطعها ولا الوصول إلى الأرض الأخرى ولا تصل الدعوة إليهم وتظل الجميع السماء قال الماوردي ، وعلى هذا أي وعلى إنها سبع أرضين وفي كل أرض سكان من خلق الله تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا دون من عداهم وإن كان فيهن من يعقل من خلق وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان أحدهما إنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستدون الضياء منها وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة والثاني : إنهم لا يشاهدون السماء وإن الله خلق لهم ضياء يشاهدونه وهذا قول من جعل الأرض كرة قال سعدي المفتي وقد تؤول الآية تارة بالأقاليم السبعة أي فتكون الدعوة شاملة لجميعها وتارة بطبقات العناصر القوابل بالنسبة إلى الأثيريات فهي أرضها التي ينزل عليها منها الصور الكائنة وهي النار الصرفة والطبقة الممتزجة من النار والهواء المسماة كرة الأثير التي فيها الشهب وذوات الأذناب وغيرها وطبقة الزمهرير وطبقة انسم وطبقة الصعيد والماء المشحونة بالنسيم الشاملة للطبقة الطينية التي هي السادسة وطبقة الأرض الصرفة عند المركو وإن جملناها على مراتب الغيوب السبعة المذكورة من غيب القوي والنفس والعقل والسر والروح والخفي وغيب الغيوب أي عين جمع الذات فالأرضون هي الأعضاء السبعة المشهورة.
وفي التأويلات النجمية : هي طبقات القوب من الصدر والقلب والفؤاد والروع والشغاف والمهجة والروح وأراضي النفوس وهي النفس الأمارة واللوامة والملهمة والمطمئنة والنفس المعدنية والنباتية والحيوانية يتنزل الأمر} أي أمر الله واللام عوض عن المضاف إليه {بَيْنَهُنَّ} أي بين السموات السبع والأرضين السبع والظاهر إن الجملة استئنافية للأخبار عن شمول جريان حكمه ونفوذ أمره في العلويات والسفليات كلها فالأمر عند الأكثرين القضاء والقدر بمعنى يجري قصاؤه وينفذ حكمه بين السماء السابعة التي هي أعل السموات وبين الأرض السابعة التي هي أسفل الأرضين ولا يقتضى ذلك أن لا يجري في العرش والكرسي لأن المقام اقتضى ذكر ما ذكره والتخصيص بالذكر لا يقتضي التخصيص بالحكم كذا قالوا.
45
يقول الفقير : تحقيق هذا المقام يستدعى تمهيد مقدمة وهي إنه استوى الأمر الإرادي الإيجادي على العرش كما استوى الأمر التكليفي الإرشادي على الشرع الذي هو مقلوب العرش والتجليات الإيجادية الأمرية المتنزلة بين السموات السبع والأرضين السبع موقوفة على استواء أمر تمام حصول الأركان الأربعة على العرش وتلك الأمور الأربعة هي الحركة المعنوية الإسمائية والحركة النورية الروحانية والحركة الطبيعية المثالية والحركة الصورية الحسية وهي حركة العرش فالعرش مستوى أمره الإيجادي لا مستوى نفسه تعالى عن ذلك ومنه ينزل لأمر الإلهي بينهن وهي التجليات الإلهية الدنيوية والبرزخية والحشرية والنيرانية والجنانية وكلها تجليات وجودية أشير إليها بقوله تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
(10/34)
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} وبقوله : يعلم ما يلج في الأرض ما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وأما التجليات الشهودية فما كانت وتكون في الدنيا والآخرة لقلوب أهل الكمال وأرواحهم وأسرارهم من الأنبياء العظام والأولياء الكرام فمعنى الآية يتنزل أمر الله بالإيجاد والتكوين وترتيب النظام والتكميل بين كل سماء وأرض من جانب العرش العظيم أبداً دآثماً لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال خالقاً في الدنيا والآخرة فيفني ويعدم عوالم ويوجد ويظهر عوالم أخرى لا نهاية لشؤونه فهو كل يوم وآن في أمر وشأن بحسب مقتضايت استعدادات أهل العصر وموجبات قابليات أصحاب الزمان لتعلموا إن الله على كل شيء قدير} متعلق بخلق أو يتنزل أو بمايعهما أي فعل ذلك لتعملوا أن من قدر على ما ذكر قادر على كل شيء ومنه البعث اللحاسب والجزاء فتطيعوا أمره وتقبلوا حكمه وتستعدوا لكسب السعادة والخلاص من الشقاوة واللام لام المصلحة والحكمة لأن فعله تعالى خال عن العبث.
(روى) عن الإمام الأعظم إنه قال إن هذه الآية من أخوف الآيات في القرآن لا لام الغرض فإنه تعالى منزه عن الغرض إذ هو لمن له الاحتياج والله غني عن العالمين {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا} كما اطبه قدرة لاستحالة صدور الأفاعيل المذكورة ممن ليس كذلك والإحاطة العلم البالغ وبالفارسية وبدرستى كه فرارسيده است بهمه يزازروى علم يعني علم قودرت أو محيط است بهمه اشيا از موجودات علمي وعيني هي يز ازدائره علم وقدرت أو خارج نيست.
رمزيست زسرقدرتش كن فيكون
بادانش أو يكيست بيرون ودرون
درغيب وشهادة ذره نتوان يافت
از دائره قدرت وعلمش بيرون
ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزل الأمراي أوحى ذلك وبينه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تشاهدونها والتي تتلقونها من الوحي من عجائب المصنوعات إنه لا يخرج عن علمه وقدرته شيء ما أصلا قوله علماً نصب على التمييز أي أحاط علمه بكل شيء كما في عين المعاني أو على المصدر المؤكد لأن المعنى وإن الله قد علم كل شيء علماً كما فتح الرحمن ، قال البقلي قدس سره : لو كان للإنسان قدرة المعرفة كالأرواح لم يخاطبه بالعلل والاستدلال ليعلم برؤية الأشياء وجود الحق وكان كالأرواح في الخطاب بلا علة في تعريف نفسه إياها تقول ألست بربكم إذ هناك خطاب وشهود وتعريف بغير علة فلما علم عجزه وهو في عالم
46
الجسم عن حمل واردات الخطاب الصرف أحاله إلى الشواهد بقوله : {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الخ.
وليس بعارف في الحقيقة من عرفه بشيء من الأشياء أو بسبب من الأسباب فمن نظر إلى خلق الكون يعرف إنه ذو قدرة واسعة وذو إحاطة شاملة ويخاف من قهره ويذوب قلبه بعلمه في رؤية إطلاع الحق عليه قال الشيخ نجم الدين في تأويلاته وفي هذه الآية الكريمة غوامض من أسرار القرآن مكنونة ويدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن هذه الآية وقال لو فسرتها لقطعوا حلقومي ورجموني والمعنى الذي أشار إليه رضي الله عنه مما لا يعبر عنه ولا يشار إليه ولكن يذاق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 24
تفسير سورة التحريم
اثنتا عشرة آية مدينة
جزء : 10 رقم الصفحة : 46
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} أصل لم لما والاستفهام لإنكار التحريم وهو بالفارسية حرام كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
كما إن الإحلال حلال كردن.
روى أن النبي عليه السلام خلا بسريته مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في يوم عائشة رضي الله عنها ونوبتها وعلمت بذلك حفصة رضي الله عنها فقال لها اكتمي علي ولا تعلمي عائشة فقد حرمت مارية على نفسي وابشرك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يملكان بعدي امر أمتي فأخبرت به عائشة رضي الله عنها ولم تكتم وكانتا متصادقتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي عليه السلام ، قال السهيلي رحمه الله : أمرها أن لا تخبر عائشة ولا سائر أزواجه بما رأت وكانت رأته في بيت ماري بنت شمعون القبطية أم ولده إبراهيم المتوفى في الثدي وهو ابن ثمانية عشر شهراً فخشى أن يلحقهن بذلك غيرة واسر الحديث إلى حفصة فأفشته وقيل خلا بها في يوم حفصة كما قال بعض أهل التفسير كان رسول الله عليه السلام يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه استأذنت رسول الله في زيارة أبيها فأذن لها فلما خرجت ارسل رسول الله إلى أم ولده مارية القبطية (قال في كشف الأسرار) دربيرون مدينة در نخلستان در سرايي مقام داشت كه زنان رسول نمى خواستندكه درمدينه با يشان نشنيد وكاه كاه رسول خدا ازبره طهارت بيرون شدى واورا ديدى انتهى.(10/35)
فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلمارجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال ما يبكيك فقالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي على فراشي فلو رأيت لي حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله أليس هي جاريتي أحلها الله لي اسكني فهي حرام على ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن فلما خرج رسول الله قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله قد حرم عليه
47
أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت فلم تكتم فطلقها رسول الله بطريق الجزاء على إفشاء سره واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية قال أبو الليث : أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة مؤاخذته عليهن حتى نزلت الآية ودخل عمر رضي الله عنه على بنته حفصة وهي تبكي فقال : أطلقكن رسول الله فقالت لا أدري هو ذا معتزلاً في هذه المشربة وهي بفتح الراء وضمها الغرفة والعلية كما في القاموس.
(وروى) إنه قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك قال عمر فأتيته عليه السلام فدخلت وسلمت عليه فإذا هو متكىء على رمل حصير قد أثر في جنبه فقلت : أطلقت نساءك يا رسول الله فقال : لا ، فقلت : الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم وطفقن نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتبسم رسول صلى الله عليه وسلّم وقال عمر للنبي عليه السلام لا تكرتث بأمر نسائك والله معك وأبو بكر معك وأنا معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر قالت عائشة رضي الله عنها لما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على رسول الله ، فقلت يا رسو الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا وإنك قد دخلت في تسع وعشرين أعدهن فقال : الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر كذلك ونزل جبريل فقال لرسول الله عن أمر الله راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها لمن نسائك في الجنة وكان تحته عليه السلام يومئذٍ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أمية وسودة بنت زمعة وغير القرشيات زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
ونقلست كه حضرت يغمبر صلى الله عليه وسلّم عسل وشربت أو وهريزكه حلو باشد دوست داشتى وقتي زينب رضي الله عنها مقداري عسل وشربت أو وهريزكه حلو باشد دوست داشتى وقتي زينب رضي الله عنها مقداري عسل داشت كه بعضي خويشان وى درمكه بطريق هديه فرستادهبودهركاه آن حضرت عليه السلام بخانه وى آمدي زينب شربت فرمودي لأرن حضرت راد خانه وى بسبب آن توقف بيشتر واقع شدى آن حال بر بعضي أزواج طاهرات كران آمد عائشة وحفصة تفاق نمودندكه ون آن حضرت بعد از آشاميدن شربت عسل درخانه وى نزد هركدام ازمادر آيند كوييم ازتوبوى مغافير ميشنويم ومغفور بالضم صمغ درختيست كه عرفط خوانند ازدرختان باديه واكره شيرينس ولكن رايحه كريهه دارد وحضرت بوي خوش دوست ميداشت براى مناجات ملك وازروايح ناخوش محترزمى بود س آن حضرت روزي شربت آشميد ونزد هركدام آمداز أزواج كفتند يا رسول الله ازشما رايحه مغفور مى آيد وايشان درجواب فرمودندكه مغفور نخورده ام أما درخانه زينب شربت عسل آشاميده ام كفتند جرست النحلة العرفط يعني إن تلك النحلة أكلت العرفط وبالفارسية زنبور آن عسل ازشكوفه عرفط ريده بود والجرس خوردن منج رارا.
وفي القاموس الجرس اللحس باللسان أم زاهد رحمه الله آورده كه ون اين صورت مكرر وجود كرفت حضرت عليه السلام فرمود حرمت العسل على نفسي فوالله لا آكله أبداً وأين سوكند بدان خورد
48
تاديكر كس ويرا ازان عسل نيارد فنزلت الآية قال ابن عطية والقول الأول وهو أن لآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح وعليه تفقه الناس في الآية وقال في كشف الأسرار قصة العسل أسند كما قال في اللبابين إن هذا هو الأصح لأنه مذكور في الصحيحين انتهى.
وقصة مارية أشبه ومعنى الآية لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل أي تمتنع من الانتفاع به مع اعتقدا كونه حلالاً لك لأن اعتقاد كونه حراماً بعد ما أحل الله مما لا يتصور من عوام المؤمنين فكيف من الأنبياء قال الفقهاء من اعتقد من عند نفسه حرمة شيء قد أحله الله فد كفر إذ ما أحله الله لا يحرم إلا بتحريم الله إياه بنظم القرآن أو بوحي غير متلو والله تعالى إنما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله فإذا حرم العبد كان ذلك قلب المصلحة مفسدة يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ} الابتغاء جستن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
(10/36)
والمرضاة مصدر كالرضى وفي بعض التفاسير اسم مصدرم ن الرضوان قلبت واوها ألفاً والأزواج جمع زوج فإنه يطلق على المرأة أيضاً بل هو الفصيح كما قال في المفردات وزوجة لغة رديئة وجمع الأزواج مع أن من أرضاها النبي عليه السلام في هذه القصة عائشة وحفصة رضي الله عنهما أما لأن إرضاءها في الأمر المذكور إرضاء لكهن أو لأن النساء في طبقة واحدة في مثل تلك الغيرة لأنهن جبلن عليها على أنه مضى ما مضى من قول السهيلي أو لأن الجمع قد يطلق على الاثنين أو للتحذير عن إرضاء من تطلب منه عليه السلام ما لا يحسن وتلح عليه أيتهن كان لأنه عليه السلام كان حيياً كريماً والجملة حال من ضمير تحرم أي حال كونك مبتغياً وطالباً لرضى أزواجك والحال إنهن أحق بابتغاء رضاك منك فإنما فضيلتهن بك فالإنكار وارد على مجموع القيد والمقيد دفعة واحدة فمجموع الابتغاء والتحريم منكر نظيره قوله تعالى : {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعَـافًا مُّضَـاعَفَةً} وفيه إشارة إلى فضل مارية والعسل وفي الحديث : (أول نعمة ترفع من الأرض العسل) وقد بين في سورة النحل والله غفور} مبالغ في الغفران قد غفر لك وستر ما فعلت من التحريم وقصدت من الرضى لأن الامتناع من الانتفاع بإحسان المولى الكريم يشبه عدم قبول إحسانه {رَّحِيمٌ} قد رحمك ولم يؤاخذك به وإنما عاتبك محافظة على عصمتك.
(وقال الكاشفي) : مهربان كه كفارت سوكند توفرمود قال في كشف الأسرار هذا أشد ما عوتب به رسول الله في القرآن وقال البقلي : أدب الله نبيه أن لا يستبد برأيه ويتبع ما يوحى إليه كما قال بعض المشايخ في قوله لتحكم بين الناس بما أراك الله أن المرادبه الوحي الذي يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه فإالله قد عاتبه لما حرم على نفسه ما حرم في قصة عائشة وحفصة فلو كان الدين بالرأي لكان رأى رسول الله أولى من كل رأي انتهى كلام ذلك البعض وفيه بيان إن من شغله شيء من دون الله وصل إليه منه ضرب لا تبرأن جراحته إلا بالله لذلك قال عقيب الآية والله غفور رحيم قال ابن عطاء لما نزلت هذه الآية على النبي عليه السلام كان يدعو دائماً ويقول اللهم إني أعوذ بك من كل قاطع يقطعني عنك.
آزرده است كوشه نشين از وداع خلق
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
غافل كه اتصال حقست انقطاع خلق
49
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ} الفرض هنا بمعنى الشرع والتبيين كما دل عليه لكم فإن فرض بمعنى أوجب إنما يتعدى بعلى والتحلة مصدر حلل بتضعيف العين بمعنى التحليل أصله تحللة كتكرمة وتعلة تبصرة وتذكرة من كرم وعلل وبصر وذكر بمعنى التكريم التعليل والتبصير والتذكير إلا أن هذا المصدر من الصحيح خارج عن القياس فإنه من المعتل اللام نحو سمى تسمية أو مهموز اللام مثل جزأ تجزئة والمراد تحليل اليمين كان اليمين عقد والكفارة حل يقال : حلل اليمين تحليلاً ، كفرها أي فعل ما يوجب الحنث وتحلل في يمينه استثنى وقال إن شاء الله وقوله عليه السلام : "لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم أي قدر ما يقول إن شاء الله" كما في المفردات أو قدر ما يبرأ الله قسمه فيه بقوله وإن منكم إلا واردها قال في تاج المصادر قوله فعلته تحلة القسم أي لم عله إلا بقدر ما حللت به يميني أن لا أفعله ولم أبالغ ثم قيل لكل شيء لم يبالغ فيه تحليل يقال ضربته تحليلاً والباب يدل على فتح الشيء ومعنى الكفارة الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم على ما مر تفصيله في سورة المائدة ومعنى الآية شرع الله لكم تحليل إيمانكم وبين لكم ما تنحل به عقدتها من الكفارة وهي المرادة ههنا لا الاستثناء أي أن يقول إن شاء الله متصلاً حتى لا يحنث فإن الاستثناء المتصل ما كان مانعاً من انعقاد اليمين جعل كالحل فالتحليل لما عقدته الإيمان بالكفارة أو بالاستثناء وبالفارسية بدرستى كه بيان كرد خداي تعالى براى شما فرو كشادن سوكند هاي شمرا بكفارت يعني آنه بسو كند ببنديد بكفارت توان كشاد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
(10/37)
قال في الهداية ومن حرم على نفسه شيئاً مما يملكه لم يصر محرماً وعليه إن استباحه وأقدم عليه كفارة فتحريم الحلال يمين عند أبي حنيفة رحمه الله ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاماً فقد خلف على أكله أو أمة فعلى وطئها قال ابن عباس رضي الله عنهما التحريم هو اليمين فلو قال لامرأته أنت على حرام فلو نوى الطلاق طلقت وإن نوى اليمين كان يميناً وإن أراد الكذب لم يقع شيء وكذا لو حرم طعاماً على نفسه ونوى اليمين كان يميناً خلافاً للشافعي كما في عين المعاني وقال بعضهم لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنه قال لما أحله الله هو حرام على وإنما امتنع عن مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله والله لا أقربها بعد اليوم فقيل له : لم تحرم ما أحل الله لك أي لم تمنع منه بسب اليمين يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر عن يمينك وظاهر قوله تعالى : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ} فإن قلت هل كفر رسول الله لذلك قلت عن الحسن البصري قدس سره : إنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين وعن مقاتل إنه أعتق رقبة في تحريم مارية وعاودها لأنه لا ينافي كونه مغفوراً له أن يكفر فهو والأمة سواء في الأحكام ظاهراً والله مولاكم} سيدكم ومتولى أموركم {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بما يصلحكم فيشرعه لكم {الْحَكِيمُ} المتقن في أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ} الأسرار خلاف الإعلان ويستعمل في الأعيان والمعاني والسر هو الحديث المكتمم في النفس وأسررت إلى فلان حديثاً أفضيت به إليه في
50
خفية فالأسرار إلى الغير يقتضي إظهار ذلك لمن يفضي إليه بالسر وإن كان يقتضي إخفاءه من غيره فإذا قولهم أسررت إلى فلان يقضتي من وجه الإظهار ومن وجه الإخفاء والنبي رسول الله عليه السلام فإن اللام للعهد وإذ ظرف أي اذكر الحادث وقت الأسرار والأكثر المشهور إنه مفعول أي واذكر يا محمد وقت أسرار النبي وإخفائه على وجه التأنيب والتعتب أو واذكروا أيها المؤمنون فالخطاب إن كان له عليه السلام ، فالإظهار في مقام الإضمار بأنقيل وإذ أسررت للتعظيم بإيراد وصف ينبىء عن وجوب رعاية حرمته ولزوم حماية حرمه عما يكرهه وإن كان لغيره عموماً على الاشتراك أو خصوماً على الإنفراد فذكره بوصف النبي للإشعار بصدقه في دعوى النبوة
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
{إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} وهي حفصة رضي الله عنها تزوجها النبي عليه السلام ، في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة قبل أحد بشهرين وكان ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبنى البيت وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين وصلى عليها مروان بن الحكم وهو أمير المدينة يومئذ وحمل سريرها وحمله أيضاً أبو هريرة وقد بلغت ثلاثا وستين سنة وأبو حفص أبوها عمر رضي الله عنه كناه به رسول الله عليه السلام ، والحفص ولد الأسد {حَدِيثًا} قال الراغب كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له حديث والمراد حديث تحريم مارية أو العسل أو أمر الخلافة قال سعدي المفتي فيه إن تحريم العسل ليس مما أسر إلى حفصة بل كان ذلك عند عائشة وسودة وصفية رضي الله عنهن {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرت حفصة صاحبتها التي هي عائشة بالحديث الذي أسره إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأفشته إليها {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي أطلع الله النبي على إفشاء حفصة ذلك الحديث على لسان جبريل فالضمير راجع إلى الحديث بتقدير المضاف وأظهر ضمن معنى اطلع من ظهر فلان السطح إذا علاه وحقيقته صار عى ظهره وأظهره على السطح أي رفعه عليه فاستعير للإطلاع على الشيء وهو من باب الأفعال بمعنى بررسانيدن كسى را برنهاني وديده وركدانيدن.
قال الراغبي : ظهر الشيء أصله أن يحصل شيء على ظهر الأرض فلا يخفى وبطن إذا حصل في بطنان الأرض فيحقي ثم صار مستعملاً في كل بارز للبصر والبصيرة {عَرَّفَ} ألتبي حفصة والتعريف بالفارسية بيا كاهيدن {بَعْضَهُ} أي بعض الحديث الذي أفشته إلى صاحبتها على طريق العتاب بأن قال لها ألم أك أمرتك أن تكتمي سرى ولا تبديه لأحد وهو حديث الإمامة.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
(10/38)
روى) أنه عليه السلام لما عاتبها قالت والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها وبعض الشيء جزء منه {وَأَعْرَضَ عَنا بَعْضٍ} أي عن تعريف بعض تكرماً وهو حديث مارية وقال بعضهم : عرف تحريم الأمة واعرض عن تعريف أمر الخلافة كراهة أن ينتشر ذلك في الناس وتكرماً منه وحلماً وفيه جواز إظهار الشيوخ الفراسة والكرامات لمريديهم لتزيد رغبتهم في الطريقة وفيه حث على ترك الاستقصاء فيما جرى من ترك الأب فإنه صفة الكرام قال الحسن البصري قدس سره : ما استقصى كريم قط وقال بعضهم : ما زال التغافل من فعل الكرام {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي أخبر النبي حفصة بالحديث الذي أفشته بما أظهره الله عليه من أنها أفشت سره
51
{قَالَتْ مَنْ أَنابَأَكَ هَـاذَا} من أخبرك عني هذا تعني إفشاءها للحديث ظنت أن عئاشة أخبرته وفيه تعجب واستبعاد من أخبار عائشة بذلك لأنا أوصتها بالكتم ولم يقل من بنأك ليوافق ما قبله للتفنن {قَالَ} النبي عليه السلام {نَبَّأَنِىَ} بفتح ياء المتكلم {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} الذي لا يخفى عليه حافية فسكتت وسلمت وبنأ أيضاً من قبيل التفنن يقال : إن أنبأ ونبأ يتعديان إلى مفعولين إلى الأول بنفسهما وإلى الثاني بالباء رقد يحذف الأول للعلم به وقد يحذف الجار ويتعدى الفعل إلى الثاني بنفسه أيضاً ، فقوله تعالى : {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} وقوله : فلما نبأت به على الاستعمال الثاني وقوله : من أنبأك على الاستعمال الثالث وقوله : العلم هو ولعالم والعلام من أسمائه سبحانه ومن أدب من علم إنه سبحانه عالم بكل شيء حتى بخطرات الضمائر ووساوس الخواطر أن يستحي منه ويكف عن معاصيه ولا يغتر بجميل ستره ويحشى بغتات قهره ومفاجأة مكره وعن بعضهم إنه قال : كنت جائعاً ، فقلت لبعض معارفي إني جائع فلم يطعمني شيئاً فمضيت فوجدت درهماً ملقى في الطريق فرفعته فإذا عليه متكوب إما كان الله عالماً بجوعك حتى طلبت من غيره والخبير بمعنى العليم ، وقال الامام الغزالي قدس سره إذا اعتبر العلم المطلق فهو العليم مطلقاً وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو البخير وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد وإذا علم العبد إنه تعالى خبير بأفعاله مطلع على سره علم إنه تعالى أحصى عليه جميع ما عمله أو أخفى في عمله وإن كان هو قد نسيه فيخجل حجلاً يكاد يهلكه.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
حكى) أن رجلاً تفكر يوماً فقال عمري كذا كذا سنة يكون كذا كذا شهراً يكون منها كذا كذا يوماً فبلغ عمره من الأيام ألوفاً كثيرة فقال لو لم اعص الله كل يوم إلا معصية واحدة لكان في ديوان عملي كذا كذا ألف معصية وإني في كل يوم عملت كثيراً من المعاصي ثم صاح وفارق الدنيا.
(يقول الفقير) :
مذنبم كره ولى رب غفوريم كرست
بمن افناده دهد از كرمش شايد دست
أن تتوبا إلى الله} خطاب لحفصة وعائشة رضي الله عنهما فالالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الخطاب لكن العتاب يكون للأولياء كما أن العقاب يكون للأعداء كما قيل :
إذا ذهب العتاب فليس ود
ويبقى الود ما بقي العتاب
ففيه إرادة خير لحفظة وعائشة بإرشادهما إلى ما هو أوضح لهما {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الفاء للتعليل كما في قولك اعبد ربك فالعبادة حق وإلا فالجزاء يجب أن يكون مرتباً على الشرط مسبباً عنه وصغو قلبيهما كان سابقاً على الشرط وكذا الكلام في وان تظاهرا الخ والمعنى فقد وجد منكما ما يوجب التوبة من ميل قلوبكما عما يجبع عليكما من مخالصة رسول الله وحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه من صغا يصغو صغواً مال وأصغى إليه مال يسمعه قال الشاعر :
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص52 حتى ص62 رقم6
تصغى القلوب إلى اغر مبارك
من آل عباس بن عبد المطلب
وجمع القلوب لئلا يجمع بين تثنيتين في كلمة فرارا من اجتماع المتجانسين وربما جمع
52
(10/39)
{وَإِن تَظَـاهَرَا عَلَيْهِ} بإسقاط إحدى التاءين وهو تفاعل من الظهر لأنه أقوى الأعضاء أي تتعاونا على النبي عليه السلام ، بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره وكانت كل منكما ظهرا لصاحبتها فيه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـاـاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قوله هو مبتدأ ثان جيء به لتقوى الحكم لا للحصر وإلا لانحصرت الولاية له عليه السلام ، في الله تعالى فلا يصح عطف ما بعده عليه وقوله وجبريل عطف على موضع اسم إن بعد استكمالها خبرها وكذا قوله وصالح المؤمنين وإليه مال السجاوندي رحمه الله إذ وضع علامة الوقف على المؤمنين والظاهر إن صالح مفردو لذلك كتبت الحاء بدون واو الجمع ومنهم من جوز كونه جمعاً بالواو والنون وحذفت النون بالإضافة وسقطت واو الجمع في التلفظ لإلتقاء الساكنين وسقت في الكتابة أيضاً حملاً للكتابة على اللفظ نحو يمح الله الباطل ويدع الإنسان وسندع الزبانية إلى غير ذلك والمعنى فلن يعدم هو أي النبي عليه السلام ، من يظاهره فإن الله هو ناصره وجبريل رئيس الملائكة المقربين قرينه ورفيقه ومن صلح من المؤمنين أتباعه وأعوانه فيكون جبريل وما بعده أي على تقدير العطف داخلين في الولاية لرسول الله ويكون جبريل أيضاً ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله مولاه ويكون جبريل مبتد وما بعده عطفاً عليه وظهير خبر للجميع تختص الولاية بالله قال ابن عباس رضي الله عنهما أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال في الإرشاد هو اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل ظهيره يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية الأحكام ظاهرة ومعاون آن حضرت كه رضاي أو بررضاي فرزندان خود ايثاركنند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
ولأن بيان مظاهرتهما له عليه السلام ، أشده تأثيراً في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما فكان حقيقاً بالتقديم بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين كما هو المشهور وعن بعضهم إن المرا بصالح المؤمنين الأصحاب أو خيارهم وعن مجاهد هو علي رضي الله عنه ، يقول الفقير : يؤيده قوله عليه السلام ا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى فإن الصالحين الأنبياء هم عليهم السلام ، كما قال تعالى : {وَكُلا جَعَلْنَا صَـالِحِينَ} وقال حكاية عن يوسف الصديق عليه السلام ، وألحقني بالصالحين فإذا كان على بمنزلة هارون فهو صالح مثله وقال السهيلي رحمه الله ، لفظ الآية عام فالأولى حملها على العموم قال الراغب الصلاح ضد الفساد الذي هو خروج الشيء عن الاعتدال والانتفاع قل أو كثروهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل الصلاح في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة.
(وروى) إن رجلاً قال لإبرهيم بن أدهم قدس سره : إن الناس يقولون لي صالح فبم أعرف إني صالح فقال اعرض أعمالك في السر على الصالحين فإن قبلوها واستحسنوها فاعلم إنك صالح وإلا فلا وهذا من كلم الحكمة.
والملائكة} مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم.
(وقال الكاشفي) : وتمام فرشتكان آسمان وزمين {بَعْدَ ذَالِكَ} أي بعد نصرة الله وناموسه الأعظم وصالح المؤمنين وفيه تعظيم لنصرتهم لأنها من الخوارق كما وقعت في بدر ولا يلزم منه
53
أفضلية الملائكة على البشر {ظَهِيرٍ} خبر والملائكة والجملة معطوفة على جملة فإن الله هو مولاه وما عطف عليه أي فوج مظاهر له معين كأنهم يد واحدة على من يعاديه فما ذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه وما ينبىء عنه قوله تعالى : {بَعْدِ ذَالِكَ} من فضل نصرتهم على نصرة غيرهم من حيث إن نصرة الكل نصرة الله بهم وبمظاهرتهم أفضل من سائر وجوه نصرته يعني : إن نصرة الله إما نصرة ذاتية بلا آلة ولا سبب أو نصرة بتوسط مخلوقاته والثاني : يتفاوت بحسب تفاوت قدرة المخلوقات وقوتهم ونصرة الملائكة أعظم وأبعد رتة بالنسبة إلى سائر المخلوقات على حسب تفاوت قدرتهم وقوتهم فإنه تعالى مكن الملائكة على ما لم يمكن الإنسان عليه فالمراد بالبعدية ما كان بحسب الرتبة لا الزمان بأن يكون مظاهة الملائكة ظم بالنسبة ى نصرة المؤمنين وجبيل دخلفي عموم الملائكة ولا يخفى إن نصرة جميع الملائكة وفيهم جبيل أقوى من نصرة جبريل وحده قال في الإرشاد : هذا ما قالوا ولعل الأنسب أن يجعل ذلك إشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة ويكون بيان بعدية مظاهرة الملائكة تداركاً لما يوهمه الترتيب من أفضلية المقدم أي في نصرة فكأنه قيل بعد ذكر مظاهرة صالح المؤمنين وسائر الملائكة بعد ذلك ظهيرله عليه السلام ، إيذاناً بعلو رتبة مظاهرتهم وبعد منزلتها وجبراً لفصلها عن مظاهرة بجريل ، قال بعضهم : لعل ذكر غير الله مع أن الأخبار بكونه تعالى مولاه كاف في تهديدهما لتذكير كمال رفعة شأن النبي عليه السلام ، عند الله وعند الناس وعند الملائكة أجمعين.
(10/40)
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
يقول الفقير : أيده الله القدير هذا ما قالوا والظاهر إن الله تعالى مع كفاية نصرته ذكر بعد نفسه من كان أقوى في نصرته عليه السلام ، من المخلوقات لكون المقام مقام التظاهر لكون عائشة وحفصة متظاهرتين وزاد في الظهير لكون المقام مقام التهديد أيضاً وقدم جبريل على الصلحات لكونه أول نصير له عليه السلام ، من المخلوقات وسفيراً بينه وبين الله تعالى وقدم الصلحاء على الملائكة لفضلهم عليه في باب النصرة لأن نصرة الملائكة نصرة بالفعل القالبي ونصرة الصلحاء نصرة به وبالهمة وهي أشد وما يفيده البعدية من أفضلية تظاهرهم على تظاهر الصلحاء فمن حيث الظاهر إذ هم أقدر على الأفعال الشاقة من البشر فاقتضى مقام التهديد ذكر البعدية وفي قوله وصالح المؤمنين إشارة إل غريبة أطلعني الله تعالى عليها وهي إن صالحا اسم النبي عليه السلام ، كما في المفردات ، فإن قلت كيف هو ونصرة النبي لنفسه محال قلت هذه نصرة من مقام ملكيته لمقام بشريته ومن مقام جمعه لمقام فرقه ومن مقام ولايته لمقام نبوته كالتسليم في قوله السلام عليك أيها النبي إن صح إنه عليه السلام ، قال في تشهده ونظيره نصرة موسى عليه السلام لنفه حين فر من القبط كما قال ففررت منكم وذلك لأن فيه نصرة نفسه الناطقة لنفسه الحيوانية وفيه إشارة أيضاً إلى القلب والقوى الروحانية النمصورة على النفيس بتأييد الله تعالى وتأييد ملك الإلهام قال بعض الكبار ليس في العالم أعظم قوة من المرأة يسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجد العالم وبأي حركة أوجده الحق تعالى وإنه عن مقدمتين فإنه نتيجة والناتج طالب والطالب مفتقر والمنتوج مطلوب والمطلوب له عزة الافتقار إليه
54
والشهوة فيذلك البة فقد فقد بان لك محل المرأة من الموجودات وما الذي ينظر إليها من الخضرة الإلهية وبما ذا كانت لها القوة ود نبه تعالى على ما خصها به من القوة بقوله وإن تظاهرا الخ وما ذكر إلا معيناً قوياً من الملائكة الذين لهم الشدة والقوة فإن صالح المؤمنين يفعل بالهمة وهو أقوى من الفعل فإن فهمت فقد رميت بك على الطريق فإه تعالى نزل الملائكة بعد ذكره نفسه وجبريل وصالح المؤمنين منزلة المعينين ولا قوة إلا بالله وقد أخبر الشيخ أفضل الدين الأقدمي قدس سره : إنه تفكر ذات ليلة في قوله تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو قال فقلت أين النمازع الذي يحتاج في مقاتلته إلى جنود السموات والأرض وقد قال تعالى : والله جنود السموات والأرض وإذا كان هؤلاء جنوده فمن يقاتلون وما خرج عنهم شخص واحد فإذا بها تف يقول لي لا تعجب فثمة ما هو أعجب فقلت وما هو فقال الذي قصه الله في حق عائشة وحفصة قلت وما قص فتلا وإن تظاهرا الخ فهذا أعجب من ذكر الجنود انتهى.
قال : فتحرك خاطري إلى معرفة هذه العظمة التي جعل الله نفسه في مقابلتها وجبريل وصالح المؤمنين فأخبرت بها في واقعة فما سررت بشيء سروري بمعرفة ذلك وعلمت من استندنا إليه ومن يقويهما وعلمت إن الله تعالى لولا ذكر نفسه في النصرة ما استطاعت الملائكة والمؤمنون مقاومتهما وعلمت إنهما حصل لهما من العلم بالله والتأثير في العالم ما أعطاهما هذه القوة وهذا من العلم الذي كهيئة المكنون فشكرت الله على ما أولى انتهى.
وكان الشيخ على الخواص قدس سره يقول : ما أظن أحداً من الخلق استند إلى ما استند إليه هاتان المرأتان يقول لوط عليه السلام : لو أن لي بكم قوة أوآوى إلى ركن شديد فكان عنده والله الركن الشديد ولكن لم يعرفه وعرفاه عائشة وحفصة فلم يعرف قدر النساء لا سيما عائشة وحفصة إلا قليل فءٌّ النساء من حيث هن لهن القوة العظيمة حتى إن أقوى الملائكة المخلوقة من أنفاس العامة الزكية من كان مخلوقاً من أنفسا النساء ولو لم يكن في شرفهن إلا استدعاؤهن أعظم ملوك الدنيا كهيئة السجود لهن عند الجماع لكان في ذلك كفاية فإن السجود أشرف حالات العبد في الصلاة ولولا الخوف من أثاره أمر في نفوس السامعين يؤديهم إلى أمور يكون فيها حجابهم عما دعاهم الحق تعالى إليه لأظرت من ذلك عجباً ولكن لذلك أهل والله عليم وخبير عسى ربه} سزاست وشايد روردكار او.
يعني النبي عليه السلام
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
{إِن طَلَّقَكُنَّ} اكر طلاق دهدشماراكه زنان اوييد.
وهو شرط معترض بين اسم عسى وخبرها وجوابه محذوف أو متقدم أي طلقكن فعسى {أَن يُبْدِلَهُ} أي يعطيه عليه السلام بدلكن {أَزْوَاجًا} مفعلو ثان ليبدله وقوله {خَيْرًا مِّنكُنَّ} صفة للأزواج وكذا ما بعده من قوله مسلمات إلى ثيبات وفيه تغليب المخاطب على الغائبات فالتقدير إن طلقكما وغيركما أو تعميم الخطاب لكل الأزواج بأن يكن كلهن مخاطبات لما عاتبهما بأنه قد صغت قلوبكما وذلك يوجب التوبة شرع في تخويفهما بأن ذكر لهما إنه عليه السلام يحتمل يطلقكما ثم إنه إن طلقكما لا يعود ضرر ذلك إلا اليكما لأنه يبدله أزواجاً خيراً منكما وليس
55
(10/41)
في الآية ما يدل على إنه عليه السلام ، لم يطلق حفصة وإن في النساء خيراً منهن فإن تعليق الطلاق للكل لا ينافي تطليق واحدة وما علق بما لم يقع لا يجب وقوعه يعني إن هذه الخيرية لما علقت بما لم يقع لم تكن واقعة في نفسها وكان الله عالماً بأنه عليه السلام ، لا يطلقهن ولكن تأخير عن قدرته على إنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن كقوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لاي كونوا أمثالكم فءٌّه أخبار عن الدرة وتخويف لهم لا إن في الوجود من هو خير من أصحاب محمد عليه السلام ، قيل : كل عسى في القرآن واجب إلا هذا وقيل هو أيضاً واجب ولكن الله علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن فإن المذهب إنه ليس على وجه الأرش نساء خير من أمهات المؤمنين إلا أنه عليه السلام ، إذا طلقهن لعصبانهن له وأذاهن إياه كان غيرهن من الموصوفات بهذه الصفات مع الطاعة لرسول الله خيراً منهن وفي فتح الرحمن عسى تكون للوجوب في ألفاظ القرآن إلا في موضعين أحدهما : في سورة محمد فهل عسيتم أي علمتم أو تمنيتم والثاني : هنا ليس بواجب لأن الطلاق معلق بالشرط فلما لم يوجد الشرط لم يوجد الإبدال {مُسْلِمَـاتٍ مُّؤْمِنَـاتٍ} مقرات باللسان مخلصات بالجنان فليس من قبيل التكرار أو منقادات انقياد ظاهرياً بالجوارح مصدقات بالقلوب {قَـانِتَـاتٍ} مطبعات أي مواظبات على الطاعة أو مصليات {تَائبَـاتٍ} من الذنوب {عَـابِدَاتٍ} متعيدات أو متذللات لأمر الرسول عليه السلام ، {سَائحَـاتٍ} صائمات سمى الصائم سائحاً لأنه يسيح في النهار بلا زاد فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجبيء وقت إفطاره وقال بعضهم : الصوم ضربان صوم حقيقي هو ترك المطعم والمشرب والمنكح وصوم حكمي وهو حفظ الجوارح من المعاصي كالسمع والبصر واللسان والسائح هو الذي يصوم هذا الصوم دون الأول انتهى أو مهاجرات من مكة إلى المدينة إذ في الهجرة مزيد شرف ليس في غيرها كما قال ابن زيد ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة والسياحة في اللغة الجولان في الأرض {ثَيِّبَـاتٍ} شوهر ديدكان {وَأَبْكَارًا} ودحتران بكر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
والثيب الرجل الداخل بامرأة والمرأة المدخولبها يستوي فيه المذكر ولمؤنث فيجمع المذكر على ثيبين والمؤنث على ثيبات من ثاب إذا رجع سميت به المرأة لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام بها وإلى غيره إن فارقها أو إلى حالتها الأولى وهي إنه لا زوج لها فهي لا تخلو عن الثوب أي الرجوع وقس عليه ارجل وسميت العذراء بالبكر لأنها على أول حالتها التي طلعت عليها قال الراغب سميت التي لم تفتض بكراً اعتباراً بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء ففي البكر معنى الأولية والتقدم ولذا يقال البكرة لأول النهار والباكورة للفاكهة التي تدرك أولاً وسط بينهما العاطف دون غيرهما لتنا فيهما وعدم اجتماعهما في ذات واحدة بخلاف سائر الصفات فكأنه قيل : أزواجاً خيراً منكم متصفات بهذه الصفات المذكورة المحودة كائنات بعضها ثيبات تعريضاً لغير عائشة وبعضها أبكاراً تعريضاً لها فإنه عليه السلام ، تزوجها وحدها بكراً وهو الوجه في إيراد الواو الواصلة دون أو الفاصلة لأنها توهم الكل ثيبات أو كلها أبكار قال السهيلي
56
رحمه الله ، ذكر بعض أهل العلم إن في هذا إشارة إلى مريم البتول وهي البكر وإلى آسية بينت مزاحم امرأة فرعون وإن الله سيزوجه عليه السلام ، إياهما في الجنة كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال أبو الليث رحمه الله : تكون وليمة في الجنة ويجتمع عليها أهل الجنة فيزوج الله هاتين المرأتين يعني آسية ومريم من محمد عليه اسلام وبدأ بالثيب قبل البكر لأن زمن رسية قبل زمن مريم ولأن أزواج النبي عليه السلام كلهن ثيب إلا واحدة وأفضلهن خديجة وهي ثيب فتكون هذه القبلية من قبلية الفضل والزمان أيضاً لأنه تزوج الثيب منهن قبل البكر وفي كشف الأسرار.
(روى) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها يعني وي وفات ميكند.(10/42)
فقال أتكرهين ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكر خيراً كثيراً فإذا قدمت على ضر اتك فاقريئهن مني السلام فقالت يا رسول الله ومن هن قال مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وحليمة أخت موسى فقالت بالرفاء والبنين أي اعرست ملتبساً بالرفاء وهو التئام والاتفاق والمقصود حسن المعاشرة وكان هذا دعاء الأوائل للمعرس واحترز بالبنين عن البنات ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن هذا القول وأمر بأن يقول من دخل على الزوج بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير ثم إن المراد من الإبدال أن يكون في الدنيا كما أفاده قوله تعالى : {إِن طَلَّقَكُنَّ} لأن نساء الجنة يكن أبكارا سواءكن في الدنيا ثيبات أو أبكارا وفي الحديث : إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف ثيب وثمانية آلاف بكر يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا فإن قلت فإذا يكون أكثر أهل الجنة النساء وهو مخالف لقوله عليه السلام : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار قلت : لعل المراد بالرجل بعض الرجال لأن طبقات الأبرار والمقربين متفاوتة كما دل عليه قوله عليه السلام : أدنى أهل الجنة الذي له اثنتان وسبعون زوجة وثمانون ألف خادم ولا بعد في كثرة الخادم لما قال بعضهم أطفال الكفار خدام أهل الجنة على أن الخدام لا ينحصرون فيهم بل لأهل الجنة خدام أخر فإن قلت كان عليه السلام يحب الأخف الأيسر في كل شيء فلما ذا كثر من النساء ولم يكتف منهن بواحدة أو ثنتين قلت ذلك من أسرار النبوة وذا لم يشبع من الصلاة ومن النساء.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
روى) إنه عليه السلام أعطى قوة أربعين رجلاً في البطش والجماع وكل حلال يكدر النفس إلا الجماع الحلال فإنه يصفيها ويجلى العقل والقلب والصدر ويورث السكون باندفاع الشهودة المحركة على أن شهوة الخواص ليست كشهوة العوام فٌّ نار الشهوة للخواص بعد نور المحبة وللعوام قبله ثم إن في الآيات المتقدمة فوائد منها إن تحريم الحلال غير مرضى كما إن ابتغاء رضى الزوج بغير وجهه وجه ليس بحسن ومنها إن إفشاء السر ليس في المروءة خصوصاً إفشاء أسرار السلاطين الصورية والمعنوية لا يعفى وكل سر جاوز الاثنين شاع أي المسر والمسر إليه أو الشفتين ومنها إن من الواجب على أهل الزلة التوبة والرجوع قبل الرسوخ واشتداد القساوة ومنها أن البكارة وجمال الصورة وطلاقة اللسان ونحوها وإن كانت نفاسة جسمانية مرغوبة عند الناس لكن
57
الإيمان والإسلام والقنوت والوبة ونحوها نفاسة روحانية مقبولة عند الله وشرف الحسب أفضل من شرف النسب والعلم الدنيء والأب الشرعي هما الحسب المحسوب من الفضائل فعلى العاقل أن يتحلى بالورع وهو الاجتناب عن الشبهات والتقوى وهو الاجتناب عن المحرمات ويتزين بزين أنواع المكارم والأخلاق الحسنة والأوصاف الشريفة المستحسنة يا أيها الذين آمنوا اقوا أنفسكم} أمر من الوقاية بمعنى الحفظ والحماية الصيانة له أو قيوا كاضربوا والمرادبالنفس هنا ذات الإنسان لا النفس الأمارة والمعنى احفظوا وبعدوا أنفسكم وبالفارسية نكاه داريد نفسهاى خودرا ودور كنيد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
(10/43)
يعني بترك المعاصي وفعل الطاعات بالنصح والتأديب والتعليم أصله أهلين جمع أهل حذفت النون بالإضافة وقد يجمع على أالي على غير قياس وهو كل من في عيال الرجل والنفقته من المرأة والولد والأخ والأخت والعم وابنه والخادم ويفسر بالأصحاب أيضاً ودلت الآية على وجوب الأمر بالمعروف للأقرب فالأقرب وفي الحديث "رحم الله رجلاً قال يا أهلاء صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة" وفي الحديث : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وهو من الرعاية بمعنى الحفظ يعني كلكم ملتزم بحفظ ما يطالب به من العدل إن كان ولياً ومن عدم الخيانة إن كان مولياً عليه وكلكم مسؤول عما التزم حفظه يوم القيامة فالإمام على الناس راع والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وعبد الرجل راع على مال سيده والكل مسؤول وقيل أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله وخص الأهلين بالنصيحة مع أن حكم الأجانب كحكمهم في ذلك لأن الأقارب أولى بالنصيحة لقربهم كما قال تعالى : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} وقال تعالى : وانذر عشيرتك الأقربين ولأن شرائط الأمر والنهي قد لا توجد في حق الأجانب بخلاف الأقارب لا سيما إلا هل فإن الرجل سلطان أهله وقال بعض أهل الإشارة ي الآية طهروا أنفسكم عن دنس محبة الدنيا حتى تكون أهاليكم صالحين بمتابعتكم فإذا رغبتم في الدنيا فهم يشتغلون بها فإن زلة الامام زلة المأمومين وقال القاشاني رحمه الله الأهل بالحقيقة هو الذي بينه وبين الرجل تعلق روحاني واتصال عشقي سواء اتصل به اتصالاً جسمانياً أم لا وكل ما تعلق به تعلقاً عشقياً فبالضرورة يكون معه في الدنيا والآخرة فوجب ليه وقايته وحفظه من الناري كوقاية نفسه فإن زكى نفسه عن الهيئات الظلمانية وفيه ميل ومبحة لبعض النفوس المنغمسة فيها لم يزكها بالحققة لأنه بتلك المحبة ينجذب إليها فيكون معها في الهاوية محجوباً بها سواء كانت قواه الطبيعية الداخلة في تركيبه أم نفوساً إنسانية منتكسة في عالم الطبيعة خارجة عن ذاته ولهذا يجب على الصادق محبة الأصفياء والأولياء ليحشر معه فإن المرء يحشر مع من أحب نارا} نوعاً من النار {وَقُودُهَا} ما يوقد به تلك النار يعني حطبها وبالفارسية آتش انكيزوى.
فالوقود بالفتح اسم لما توقد به النار من الحطب وغيره والوقود بالضم مصدر بمعنى الاتقاد وقرىء به بتقدير أسباب وقودها أو بالحمل على المبالغة {النَّاسِ} كفار الأنس والجن
58
وإنما لم يذكر الجن أيضاً لأن المقصود في الآية تحذير الأنس ولأن كفار الجن تابعة لكفار الإنس لأن التكذيب إنما صدر أولاً من الإنس {وَالْحِجَارَةُ} أي تتقدبها أيضاً اتقاد غيرها بالحطب فيه بيان لغاية إحراقها وشدة قوتها فإن اتقاد النار بالحجارة مكان الحطب من الشجر يكون من زيادة حرها ولذلك قال عليه السلام ، تاركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وعن ابن عباس رضي الله عنهم ، هي حجارة الكبريت وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها ولها سرعة الاتقاد ونتن الرائحة وكثرة الدخان وشدة الإلتصاق بالأبدان فيكون العذاب بها أشد وقيد وقدوها الناس إذا صاروا إليها ولحجارة قبل أن يصيروا إليها.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
قال الكاشفي) :
تابتان سنكين كه كفارمى رستند
دليله قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} وقرن الناس بالحجارة لأهم نحتوها واتخذوها أرباباً من دون الله يا كنجهاى زروسيم كه منشأ آن سنكست :
زدوسيمند سنك زرد وسفيد
اندرين سنكها مينداميد
دلى ازسنك سختتربايد
كه زسنكيش راحت افزايد
دل ازين سنك اكر توبرنكنى
سرز حسرت بسى بسنك زنى
(10/44)
وقيل : أرد بالحجارة اذين هم في صلابتهم عن قبول الحق كالحجارة كمن وصفهم بقوله فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما قال في التأويلات النجمية : يا أيها الذينان آمنوا بالإيمان العلمي قوا أنفسكم وأهليكم من القوى الروحانية نار حجاب البعد والطرد التي يقودها حطب وجود الناسين ميقاق ألست بربكم قالوا بلى وحجارة قلوبهم القاسية وهم الصفات البشرية الطبيعية اليوانية البهيمية السبعية الشيطانية انتهى وأمر الله المؤمنين باتقاء هذه النار المعدة للكافرين كما نص عليه في سورة البقرة حيث قال فإن لم تفعلوا أو لن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين للمبالغة في التحذير ولأن الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم تبع للكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا قوا أنفسكم باجبناب الفسوق مجاورة اذينأعدت لهم هذه النار أصالة ويبعد أن يأمرهم بالتوقى عن الارتداد كما في التفسير الكبير عليها} أي على تلك النار العظيمة {مَلَائكَةٌ} تلى أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية لتسعة عشر وأوانهم فليس المراد بعلى الاستعلاء الحسي بل الولاية والقيام والاستيلاء والغلبة على ما فيها من الأمور قال القاشاني هي القوى السماوية والملكوتية الفعالة في الأمور الأرضية التي هي روحانيات الكواكب السبعة والبروج الأثنى عشر المشار إليها بالزبانية التسعة عشر وغيرها من المالك الذي هو الطبيعة الجسمانية الموكلة بالعالم السفلي وجمع القوى والملكوت المؤثرة في الأجسام التي لو تجردت هذه النفوس الإنسانية عنها ترقت من مراتبها والصلت بعالم الجبروت وصارت مؤثرة في هذه القوى الملكونية ولكنها لما انغمست في الأمور البدنية وقرنت أنفسها بالإجرام الهيولانية المعبر عنها بالحجارة صارت متأثرة منها محبوسة في أسرها معذبة بأيديها {غِلاظٌ} غلاظ القلوب بالفارسية سطبر جكران.
جمع غليظ بمعنى خشن خال قلبه عن الشفقة والرحمة {شِدَادٌ} شدا القوى جمع شديد
59
بمعنى القوى لأنهم أقوياء لا يعجزون عن الانتقام من أعداء الله على ما مروا به وقيل غلاظ الأقوال شداد الأفعال أقوياء على الأفعال الشديدة يعملون بأرجلهم كما يعملون بأيديهم إذا استرحموا لم يرحموا لأنهم خلقوا من الغضبو جبلوا عى اقهر لالذة لهم إلا فيه فمقتضى جبلتهم تعذيب الخلق بلا مرحمة كما إن مقتضى الحيوان الأكل والشرب ما بين منكى أحدهم مسيرة سنة أو كما بين الشمرق والمغرب يضرب أحدهم بمقمعته ضربة واحدة سبيعن ألفاً فيهوون في النار {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} أي أمره في عقوبة الكفار وغيرها على أنه بدل اشتمال من الله وما مصدرية أوفقيا أمرهم به على نزع الخافض واء موصولة أي لا يمتنعون منقبول الأمر ويلتزمونه ويعزمون على إتيانه فليست هذه الجملة مع التي بعدها في معنى واحد (وقال الكاشفي) :
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
برشوت فريفته نشوند تا مخالفت امربا يدكرد
كأعوان ملوك النديا يمتنعون بالرشوة
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي يؤدون ما يؤمرون به من غير تثاقل وتوان وتأخير وزيادة نقصان وقال القاضي لا يعصون الله ما أمرهم فيما مضى ويستمرون على فعل ما يؤمرون به في المستقبل قال بعضهم لعل التعير في الأمر أو لا بالماضي مع نفي العصيان بالمستقبل لما إن العصيان وعدمه يكونان بعد الأمر وثانياً بالمستقبل لما أمرهم بعذاب الأشقياء يكون مرة بعد مرة قال بعض الكبار في هذه الآية دليل على عصمة جميع الملائكة السماوية وذلك لأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة فيهم مطيعون اذات بخلاف البشر والملائكة الأرضية الذين لا يصعدون إلا السماء فإن من الملائكة من لا يصعد من الأرض إلى السماء أبداً كما إن منهم من لا ينزل من السماء إلى الأرض أبداً وفيها دليل أيضاً على أنه لا نهي عند هؤلاء الملائكة فلا عبادة للنهي عندهم ففاتهم أجر ترك المنهيات بخلاف الثقلين وملائكة الأرض فإنهم جمعوا بين أجر عبادة الأمر وأجر اجتناب النهي قال الكرماني في شرح البخاري إن قلت التروك أيضاً عمل لأن الأصح الترك كف النفس فيحتاج إلى النية.
قلت : نعم إذا كان المقصود امتثال أمر الشارع وتحصيل الثواب إما في إسقاط العقاب فلا فالتارك للزنى يحتاج فيهلتحصيل الثواب إلى النية وما اشتهر أن التروك لا تحتاج إليها يريدون به في الإسقاط يعني لو أريد بالتروك تحصيل الثواب وامتثال أمر الشارع لا بد فيها من قصد الترك امتثالاً لأمر الشارع فتارك الزنى إن قصد تركه امتثال إلا مريئات يا اأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يقال لهم عند إدخال الملائكة إياهم النار حسما أمر وابه يعني ون زبانيه كافران رابكناه دوزخ آرند ايشان آغاز اعتذار كرده داعية خلاصي نمايند س حق تعالى باملائكه كويد يا أيها الذين كفروا {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} أي في هذا اليوم يعني عذر مكوييد ر وزكه عذر مقبول نيست وفائده نخواهد داد.(10/45)
قال القاشاني إذ ليس بعد خراب البدن ورسوخ الهيئات المظلمة إلا الجراء على أعمال لامتناع الاستكمال ثمه والاعتذار بالفارسية عذر خواستن.
يقال اعتذرت إلى فلان من جرمي ويعدى بمن والمعتذر قد يكون محقاً وغير محق قال الراغب العذر تحرى الإنسان ما يمحو به ذوبه وذلك ثلاثة اضرب أن يقول لم أفعل أو يقول
60
فعلت لأجل كذا فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنباً أو يقول فعلت ولا أعود ونحو ذلك وهذا الثالث هو التوبة فكل توبة عذر وليس كل عذر توبة واعتذرت إليه أتيت بعذر وعذرته قبلت عذره {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنها أشد النهي وأمرتم بالإيمان والطاعة فلا عذر لكم قطعاً أي حقيقة وأنهى عن الإتيان بما هو عذر صورة وفي حسبانهم وفي بعض التفاسير لا تعذروا اليوم لما أنه ليس لكم عذر يعتد به حتى يقبل فينفعكم وهذا النهي لهم إن كان قبل مجيء الاعتذار منهم فيوافق ظاهر قوله تعالى : {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وإن كان بعده فيؤول هذا القول ويقال لا يأذن لهم أن يتموا أعتذارهم ولا يسمع إليه وفي التأويلات النجمية : قل للذين ستروا الحق بالباطل وحجبوا عن شهود الحق في الدنيا لا تطلبوا مشاهدة الحق في الآخرة إنما تكافأون بعدم رؤية الحق اليوم لعدم رؤيتكم له في يوم الدنيا كما قال ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
قال بعض العارفين لا يتحسر يوم القيامة على فوات الأعمال الصالحة إلا العامة أما العارفون فلا يرون لهم عملاً يتحسرون على فواته بل ولا يصح الفوات أبداً إنما هي قسمة عادلة يجب على كل عبد الرى بها وقول الإنسان أنا مقصر في جنب الله هو من باب هضم انفس لا حقيقة إذ لا يقدر أحد أنينقص مما قسم له ذرة ولا يزيد عليه ذرة فلا صح النوم إلا في عمال توهم العبد إنها له ثم فوتها وذلك لا يقوله عارف.
(مصراع) در دائره قسمت من نقطه تسلم يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} التوبة أبلغ وجوه الاعتذار بأن يقول فعلت وأسأت وقد أقلت وفي اشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمتى اجتمع هذه الأربعة فقد كملت شرائط التوبة كما في المفردات والنصح تحرى فعل أو قول فيه صلاح صاحبه والنصوح فعول من أبنية المبالغة كقولهم رجل صبور وشكور أي بالغة في النصح وصفت التوبة بذلك على الإسناد المجازي وهو صوف التائبين وهو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة فيأتوا بها على طريقها وذلك أن يتوبوا من القبائح لقبحها نادمين عليها مغتمين أشد الاغتمام لارتكابها عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلا أن يعود اللبن في الضرع وكذا لو حزوا بالسيف وأحرقوا بالنار موطنين أنفسهم لعى ذل بحيث لا يلويهم عنه صارف أصلاً وعن علي رضي الله عنه إنه سمع أعرابياً يقول اللهم إني استغفرك وأتوب إليك فقال يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين قال وما التوبة قال إن التوبة يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة وللفرائض الإعادة أي القضاء صلاة أو صوماً أو زكاة أو نحوها ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي قال سعدى المفتي : والمذهب السني إنه يكفي في تحقق التوبة الندم والعزم على أن لا يعود بخلاف أهل الاعتزال حيث يلزم في تحققها عندهم رد المظالم وهو عندنا غير واجب في التوبة قال بعض الكبار ما لم تكن التوبة عامة من جميع المخالفات فهي ترك لا توبة وقيل نصوحاً من نصاحة
61
(10/46)
الثوب بالفتح وهي بالفارسية جامعه دوختن أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك وفي الحديث : "المؤمن واه راقع فطوبى لمن مات على رقعه" ومعناه أن يخرق دينه ثم يرقعه بالتوبة ونحوه استقيموا ولن تحصوا أي لن تستطيعوا أن تستقيموا في كل شيء حتى لا تميلوا ومنه يا حنظلة ساعة فساعة ومن بلاغات ازمخشري ما منع قول الناصح أن يروقك وهو الذي ينصح خروقك شبه فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب وقيل خالصة من قولهم عسل ناصح إذا خلص من الشمع شبه التوبة في خلوصها بذلك وكذا تخلص قول الناصح من الغش بتخلص العسل من الخلط ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعماله الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها وقال ذو لنون المصري قدس سره التوبة ادمان البكاء على ما سلف من الذنوب والخوف من القوع فيها وهجران أخوان السوء وملازمة أهل الجن وقال التستري رحمه الله هي توبة السني لا المبتدع لأنه لا توبة له بدليل قوله عليه السلام حجر الله على كل صاحب بدعة أن يتوب.
وقال الواسطي قدس سره : هي أن يتوب لا لغرض وقال الشيخ أبو عبد الله بن حفيف قدس سره طالب عباده بالتوبة وهو الرجوع إليه من حيث ذهبوا عنه والنصوح في التوبة الصدق فيها وترك ما منه تاب سراً وعلناً وقولاً وفكراً وقال القاشاني رحمه الله : مراتب التوبة كمراتب التقوى فكما أن أول مراتب التقوى هو الاجتناب عن المنهيات الشرعية وآخرها الاتقاء عن الأنانية والبقية فكذلك التوبة أولها الرجوع عن المعاصي وآخرها الرجوع عن ذنب الوجود الذي هو من أمهات الكبائر عند أهل التحقيق :
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص62 حتى ص72 رقم7
توبه ون باشد شيمان آمدن
ردرحق نو مسلمان آمدن
خدمتي از سر كرفتن بانياز
باحقيقت روى كردن ازمجز
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى المؤمنين الذين لم تترسخ أقدامهم في أرض الإيمان ترسخ أقدام الكمل ويحثهم على التوبة إلى الله بالرجوع عن الدنيا ومحبتها والإقبال على الله وطاعته توبة بحيث ترفو جميع خروق وقعت في ثوب دينه بسبب استيفاء اللذات الجسمانية واستقصاء الشهوات الحيوانية ويقال توبة العوام عن الزلات والخواص عن الغفلات والأخص عن رؤية الحسنات وفي الحديث : "أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" ودخل في الناس الذكور والإناث وهي أي التوبة واجبة على الفور لما في التأخير من الإصرار على المحرم وهو يجعل الصغيرة كبيرة وعلامة قبول التوبة أن لاي ذكره الله ذنبه لأن التوبة لا تبقى للذنب وجوداً فمتى ذكر التائب ذنبه فتوبته معلولة وقد تكون التوبة مقبولة عند الله ومع ذلك فلا تدفع عن العاصي العذاب كما لو تاب السارق عند الحاكم لا ترفع توبته عنه حد القطع وفي حديث ماعز كفاية فإنه عليه السلام قال في حقه إنه تاب توبة لو قسمت على أهل مدينة لوسعتم ومع ذلك فلم تدفع توبته عنه الحد بل أمر عليه السلام برجمه فرجم فاعرف (وفي المثنوى) :
62
بود مردى يش ازين نامش نصوح
بدزد لاكى زن اورا فتوح
بود روى اوو رخسار زنان
مدرىء خودرا همى كرداو نهان
أو بحمام زنان دلاك بود
در دغا وحيله بس الاك بود
سالها مى كردد لاكى وكس
بونبرد ازحال وسر آن هوس
زانكه آواز ورخش زن وار بود
ليك شهوت كامل وبيدار بود
دختران خسرو انرا زين طريق
خوش همي ماليدومى شست آن عشيق
توبهامى كردو ادرمى كشيد
نفس كافر توبه اش را مى دريد
رفت يش عارفي آن زشت كار
كفت مارا در دعايى ياد دار
سرا ودانست آن آزاد مرد
ليك ون حلم خدا يدا نكرد
سست خنديد وبكفت اي بدنهاد
ز انكه دانى ازيدت توبه دهاد
آن دعا ازهفت كردون در كذشت
كارآن مسكين بآخر خوب كشت
يك سبب انكيخت صنع ذي الجلال
كه رها نيدش زنفرين ووبال
اندران حمام رمى كردطشت
كوهرى از دخترشه ياوه كشت
كوهرى از حلقهاى كوش او
ياوه كشت وهرزنى درجست وجو
س در حمام رابستند سخت
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
تابجو يند اولش دربيخ رخت
رختها جستند وآن يدا نشد
دزد كوهر نيزهم رسوا نشد
س بجد جستن كرفتند ازكزاف
دردهان وكوش واندرهر شكاف
بانك آمدكه همه عريان شويد
هركه هستيد از عجوز وكرنويد
يك بيك راح حاجبه جستن كرفت
تابديد آيدكهر دانه شكفت
آن نصوح ازترس شد درخلوتى
روى زر دولب كبود از خشيتي
كفت يا رب بارها بركشته ام
توبها وعهدها بشكسته ام
كرده ام آنها كه از من مى سزيد
تا نين سيل سياهى در رسيد
نوبت جستن اكر در من رسد
وه كه جان من ه سختيها كشد
اين نين اندوه كافر رامباد
دامن رحمت كرفتم داد داد
كرمرا اين بارستارى كنى
توبه كردم من زهرنا كردنى
من اكر اين بار تقصيري كنم
س كر مسنودعا وكفتنم
درمين يا رب ويا رب بدو
بانك آمد ازميان جست وجو
جمله را جستيم يش آاى نصوح
كشت بيهوش آن زمان ريد روح
بعد آن خوف وهلاك جان بده
مدها آمدكه اينك كم شده
از غريو ونعره ودستك زدن
(10/47)
رشده حمام قد زال الحزن
آن نصوح رفته باز آمد بخويش
ديد شمش تا بش صدر وزيش
مى حلالى خواست ازوى هركسى
بوسه مى دادند بردستش بسى
63
بد كمان بوديم ما راكن حلال
لحم تو خورديم اندر قيل وقال
زانكه ظن جمله بروى يش بود
زانكه در قربت زجمله يش بود
كوهرار بردتس او بردتس وبس
زملازم تربخا تون نيست كس
أول اورا خواست جستن درنبرد
بهر حرمت داشتش تأخير كرد
تابود كانرا بيندازد بجا
اندرين مهلت رهاند خويش را
س حلاليها ازومى خواستند
وزبراي عذر برمى خواستند
كفت بد فضل خداي دادكر
ورنه زانم كفته شد هستم بتر
آنه كفتندم زبدازصد يكيست
برمن اين كشفست اركس راشكيست
آفرنيها برتو بادا اي خدا
ناكهان كردى مرا ازغم جدا
كر سر هرموي من كردد زبان
شكر هاي تونيايد دربيان
بعد ازان آمد كسى كز مرحمت
دختر سلطان ما مى خواندت
ختر شاهت همي خواند بيا
تا سرش شويى كنون أي ارسا
كفت رور ودست من بي كار شد
وين نصوح توكنون بيمارشد
روكسى ديكر بجوا شتاب وتفت
كه مرا والله دست ازكار رفت
بادل خود كفت كز حد رفت جرم
ازدل من كي رودآن ترس وكرم
من بمردم يك ره وباز آمدم
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
من شيدم تلخى مرك وعدم
توبه كردم حقيقت با خدا
نشكتم تاجانشدن ازتن جدا
بعد آن محنت كرا بار دكر
ارود سوى خطر الاكه خر
{عَسَى رَبُّكُمْ} شايد روردكار شما وفي كشف الأسرار الله برخود واب كرد تائب را از شما {أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ} يسترها بل يمحوها ويبدلها حسنات {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـاتٍ} جمع جنات إما لكثرة المخاطبين لأن لكل منهم جنة أو لتعددها لكل منهم من الأنواع {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} قال في الإرشاد : ورود صيغة الإطماع والترجية للجرى على سنن الكبرياء فإن الملوك يجيبون بلعل وعسى ويقع ذلك موقعالطع والإشعار بأنه تفضل والتوبة غير موجبة له وإن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء وإن بالغ في إقامة وطائف العبادة.
يقول الفقير : التكفير إشارة إلى الخلاص من الجحيم لأن السيئات هيسبب العذاب فإذا ذال السبب زال المسبب وإدخال الجنات إشارة إلى التقريب لأن الجنان موضع القرب والكرامة وجريان الأنهار إشارة إلى الحياة الأبدية لأن الماء أصل الحياة وعنصرها فلا بد للإنسان في مقابلة هذه الأنهار من ماء العلم ولبن الفطرة وعسل الإلهام وخمر الحال فكما إن الحياة المعنوية في الدنيا إنما تحصل بهذه الأسباب فكذا الحياة الصورية في الآخرة إنما تحصل بصورها {يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} ظرف ليدخلكم والإخزاء دور كردن ورسوا كردن وخوار كردن وهلاك كردن.
ومعاني هذه الكلمة يقرب بعضها من بعض كما في تاج المصادر والنبي المعهود.
يعني روزي ه حجل نكند خداى تعالى يغمبررا يعني نه نفس اورا عذاب
64
كندونه شفاعت اورا درباره عاصبان مردود سازد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
(10/48)
قال بعض أهل التفسير يخزى إما من الخزي وهو الفضاحة فيكون تعريضاً للكفرة اذين قال الله تعالى فيهم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين أومن الخزاية بمعنى الحياء والخجل وهو لأنسب هنا بالنظر إلى شأن الرسول خصوصاً إذا تم الكلام في النبي وإن أريد العنى الأول حينئذٍ يجوز يكون باعتبار أن خزي الأمة لا يخلو عن إنشاء خزي ما في الرسول على ما يشعر به قوله في دعائه اللهم لا تخزنا يوم القيامة ولا تفضحنا يوم اللقاء بعض الإشعار حيث لم يقل لا تخزني كما قال إبراهيم عليه السلام ، ولات خزني يوم يبعثون ليكون دعاؤه عاماً لأمته من قوة رحمته وأدخل فيهم نفسه العالية من كمال مروءته قيل الخزي كناية عن العذات لملازمة بينهما والأولى العموم لكل خزي يكون سبباً من الأسباب من الحساب والكتاب والعقاب وغيرها {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} عطف على النبي ومعه صلة لا يخزى أي لا يخزي الله معهالذين آمنوا أي يعمهم جميعاً بأن لا يخزيهم أو حال من الموصول بمعنى كائنين معه أو متعلق بآموا وهو الموافق لقوله تعالى : [النمل : 44-14]{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ} أي ولا يخزى المؤمنين الذين أتبعوه في الإيمان كما قال آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون وذلك بسوء الحساب والتعبير والعتاب وذل الخحجاب ورد الجواب فيحاسهم حساباً يسيراً بل ويرفع الحساب عن بعضهم ويلاطفهم ويكشف لهم جماله ويعطي مأمولهم من الشفاعة لأقاربهم وإخوانهم ونحو لهم وقال دادو القيصري رحمه الله في قوله تعالى : وأسلمت مع سليمان أي إسلام سليمان أي أسلمت كما أسلم سليمان ومع في هذا الموضع كمع في قوله يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه وقوله وكفى بالله شهيداً محمد رسول الله والذين معه ولا شك إن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارناً لزمان إيمان الرسول وكذا إسلام بلقيس ما كان عند إسلام سليمان فالمراد كما إنه آمن بالله آمنوا بالله وكما أنه أسلم أسلمتانتهى كلام القيصري وتم الكلام عند قوله معه وفيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق كما سبق واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم وقيل قوله والذين الخ مبتدأ خبره ما بعده من قوله نورهم الخ.
أو خبره معه والمراد بالإيمان هو الكامل حينئذٍ حتى لا يلزم أن لا يدخل عصاة المؤمنين النار نورهم} أي نور إيمانهم وطاعتهم على الصراط قال في عين المعاني نور الإخلاص على الصراط لأهل المعاملة بمنزلة الشمع ونور الصدق لأرباب الأحوال بمنزلة القمر ونور الوفاء لأهل المحبة بنمزلة شعاع الشمس
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
{يَسْعَى} السعي المشي القوي السريع ففيه إشارة إلى كمال اللمعان {بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي يضيء بين أياديهم يعني قدامهم مع يد يراد بها قدام الشيء لتكون بين اليدين غالباً فالجمع إما بإطلاقه على التثنية أو بكثرة أيدي العباد {وَبِأَيْمَـانِهِم} جمع يمين مقابل الشمال أي وعن إيمانهم وشمائلهم على وجه الإضمار يعني جهة إيمانهم وشمائلهم أو عن جميع جهاتهم وإنما اكتفى ذكرهما لأنهما أشرف الجهاد ومن أدعيته عليه السلام ، اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً وعن يميني نوراً وعن شمالي نوراً وأمامي نوراً وخلفي نوراً وفوقي نوراً وفوقي نوراً وتحتي نوراً واجعلني نوراً وقال بعضهم : تخصيص
65
الأيدي والإيمان لأن أرباب السعادة يؤتون صحائف أعمالهم منهما كما أن أصحاب الشقاوة يأتون من شمائلهم ووراء ظهورهم فيكون ذلك علامة لذلك وقائداً على الصراط إلى دخول الجنة وزينة لهم فيها وقال القاشاني : نورهم يسعى بين أيديهم أي الذي لهم بحسب النظر والكمال العلمي وبأيمانهم أي الذي لهم بحسب العمل وكماله إذ النور العلميم ن منبع الوحدة والعلمي من جانب القلب الذي هو يمين النفس أو نور السابقين منهم يسعى بين أيديهم ونور الأبرار منهم يسعى بإيمانهم وقد سبق تمامه في سورة الحديد وفي الحديث من المؤمنين من نروه أبعد ما بيننا وبين عدن أبين ومنهم من نوره لا يجاوز قدمه {يَقُولُونَ} أي يقول المؤمنون وهو الظاهر أو الرسول لأمته والمؤمنون لأنفسهم إذا طفىء نور المنافقين إشفاقاً أي يشفقون على العادة البشرية على نورهم ويتفكرون فيما مضى منهم من الذنوب فيقولون {رَبَّنَآ} أي روردكارما {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} نكاه دار وباقي دارنورما تابسلامت بكذريم.
(10/49)
فيكون المراد بالاتمام هو الإدامة إلى أن يصلوا إلى دار السلام {وَاغْفِرْ لَنَآ} يعني از ظلمت كناه اك كن {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} من الإتمام والمغفرة وغيرهما وقيل يدعون تقرباً إلى الله تعالى مع تمام نورهم كقوله واستغفر لذنبك وهو مغفور له قال في الكشاف كيف يتقربون وليست الدار دار تقرب قلت لما كانت حالهم كحال المتقربين يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة سماه تقرباً وقيل يتفاوت نورهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلاً فيكون قوله يقولون من باب بنو افلان قتلوا زيداً وقيل السابقون إلى الجية يمرون مثل البرق على الصراط وبغضهم كالريح وبعضهم حبوا وزخفا وأولئك الذين يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وقال سهل قدس سره : لا يسقط الافتقار إلى الله عن المؤمنين في الدنيا ولآخرة وهم في العقبى أشد افتقار إليه وإن كانوا في دار العز والغنى ولشوقهم إلى لقائه يقولون أتمم لنا نورنا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
واعلم أن ما لا يتم في هذه الدار لا يتم هناك إلا ما كان متعلق النظر والهمة هنا فعرف ثم إن الأنوار كثيرة نور الذات ونور الصفات ونور الأفعال ونور الأفعال ونور العبادات مثل الصلاة والوضوء وغيرهما كما قال لعيه السلام في حديث طويل والصلاة نور والسر فيه أن المصلي يناجي رب ويتوجه إليه وقد قال عليه السلام ، في حديث طويل والصلاة نور والسر فيه إن المصلي يناجي ربه ويتوجه إليه وقد قال عليه السلام إن العبد إذا قام يصلي فإن الله ينصب له وجهه تلقاءه والله نور وحقيقة العبد ظلمانية فالذات المظلمة إذا واجهت الظات النيرة وقابلتها بمحاذاة صحيحة فإنها تكتسب من أنوار الذات النيرة ألا ترى القمر الذي هو في ذاته جسم أسود مظلم كثيف صقيل كيف يكتسب النور من الشمس بالمقابلة وكيف يتفاوت اكتسابه للنور بحسب التفاوت الحاصل في المخاذاة والمقابلة فإذا تمت المقابلة وصحت المحاذاة كمل اكتساب النور وفي الحديث بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام في يوم القيامة وفيه إشارة إلى أن كل ظلمة ليست بعذر لترك الجماعة بل الظلمة الشيدة فإن الأعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة المرض الذي يبيح التيمم ومثله كونه مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مفلوجاً أو لا يستطيع المشي أو أعمى أو المطر والطين والبرد الشديد والظلمة الشديدة للصحيح وكذا الخوف من السلطان أو غيره من المتغلبين وفي الحديث وددت
66
أنا قد رأينا إخواننا قالوا يا رسول الله ألسنا أخوانك قال أتنم أصحابي وأخواننا اذين لم يأوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله فقال أرأيتم لو أن رجلاً له خير غير محجلة بين ظهر إني خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض استعار عليه السلام لأثر الوضوء من البياض في وجه المتوضى ويديه ورجليه بنور الوضوء يوم القيامة من البياض الذي في وجه الفرس ويديه ورجليه فإن الغر جمع الأغر والغرة بالضم بياض في جبهة الفرس فوق الدره والتحجيل بتقديم الحاء المهملة بياض قوائم الفرس كلها ويكون في رجلين ويد وفي رجلين فقط وفي رجل فقط ولا يكون في اليدين خاصة إلا مع الرجلين ولا في يد واحدة دون الأخرى إلا مع الجلين والدهم جمع الأدهم بمعنى الأسود فإن الدهمة بالضم السواد والبهم جمع الأبهم وفرس بهيم إذا كان على لون واحد لم يشبه غيره من الألوان ومنه استعير ما روى إنه يحشر الناس يوم القيامة بهما بالضم أي لسي بهم شيء مما كان في الدنيا نحو البرص والعرج والفرط بفتحتين المتقدم لإصلاح الحوض والدلو
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} أي رسول خبر دهنده يا بلند قدر {جَـاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف يعني جهادكن با كفاران بشمشير {وَالْمُنَـافِقِينَ} بالحجة أو بالوعيد والتهديد أو بإلقائهم بوجه قهر أو بإفشاء سرهم وقال القاشاني جاهد الكفار والمنافقين للمضادة الحقيقية بينك وبينهم قيل النفاق مستترفي القلب ولم يكن للنبي عليه السلام سبيل إلى ما في القلوب من النفاق والإخلاص إلا بعد إعلام من قبل الله فأمر عليه السلام ، بمجاهدة من علمه منافقاً بإعلام الله إياه باللسان دون السيف لحرمة تلفظه بالشهادتين وأن يجري عليه أحاكم المسلمين ما دام ذلك إلى أن يموت {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} واستعمل الحشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة وفيه إشارة إلى أن الغلظة على أعداء الله من حسن الخلق فإن ارحم الرحماء إذا كان مأموراً بالغلظة عليهم فما ظنك بغيره فهي لا تنافي الرحمة على الأحباب كما قال تعالى : {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} سيرون فيها عذاباً غليظاً يعني ومقام بازكشت كافران ومنافقان اكرايمان نيارند ومخلص نشوند دوزخست.
(10/50)
قال القاشاني ما داموا على صفتهم اود آئما ابد الزوال استعدادهم أو عدمه {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي جهم أو مصيرهم وفيه تصريح بما علم التزماً مبالغة في ذمهم وفيه إشارة إلى نبي القلب المجاهد في سبيل الله فإنه مأمور بجهاد الكفار أي النفس الأمارة بالسوء وصفاتها الحيوانية الشهوانية وبجهاد المنافقين أي الهوى امتبع وصفاته البهيمة والسبعية وبالغلظة عليهم بسيف الرياضة ورمح المجاهدة ومقامهم جهنم البعد والحجاب وبئس المصير إذ ذل الجاب وبعد الاحتجاب أشد من شدة العذاب.
يقول الفقير : إذ كان الأعداء الظاهرة يحتاجون إلى الغلظة والشدة فما ظنك باعدى الأعداء وهي النفس الأمارة ففي الغلظة عليها نجاة وفي اللين هلاك ولذا قال بعض الشعراء :
هست نرمى آفت جان سمور
وزدرشتى مى برد جان خارشت
وفي المثل العصا لمن عصا وقول الشيخ سعدى :
درشتى ونرمى بهم در بهست
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
و فصاد جراح ومرهم نهست
67
يشير إلى أن للمؤمن صفة الجمال والجلال وبهاء الكمال ، فأول المعاملات الجمال لأن الله تعالى سبقت رحمته ، ثم الجلال ، فلما لم تقبل الكفار الدعوة بالرفق واللين ، وكذا المنافقون.
الإخلاص واليقين أمر الله تعالى ، نبيه عليه السلام ، بالغلظة عليهم ، ليظهر أحكام كل من الأسماء المتقابلة ففيه إشارة إلى أن من خلق للرحمة ، وهم المؤمنون إلا يغضب عليهم ولا يغلظ لأنه قلب الحكمة وعكس لمصلحة وإن من خلق للغضب وهم الكفار والمنافقون لا يرحم لهم ولا يرفق بهم لذلك ودخل فيهم أنه البدعة ولذا لا يجوز أن يلقاهم السني بوجه طلق وقد عاتب الله بعض من فعل ذلك فعلى المؤمن أن يجتهد في طريق الحق حتى يدفعكيد الأعداء ومكر الشياطين عن الظاهر والباطن ويديم ذلك لأن به يحصل الترقي الذي هو من خصائص الإنسان ولذا خص الجهاد بالثقلين وأما جهاد الملائكة فبالتبعية أو بتكثير السواد فاعرف {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} ضرب المثل في أمثال هذه المواضع عبارة عن إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في آل غرابة أي يجعل الله مثالاً لحال هؤلاء الكفرة حالاً ومآلاً على أن مثلاً مفعول ثان لضرب واللام متعلقه به {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ} أي حالهما مفعوله الأول آخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما ويتضح بذلك حال هؤلاء وامرأة نوح هي واعلة بالعين المهملة ، أو والعة وامرأة لوط ، هي واهلة بالهاء {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـالِحَيْنِ} بيان لحالهما الداعية لهما إلى لخير والصلاة والمراد بكونهما تحتهما كونهما في حكمهما وتصرفهما علاقة النكاح والزواج وصالحين صفة عبدين أي كانتا تحت نكاح نبيين وفي عصمة رسولين عظيمي الشأن متمكنتن من تحصيل خير الدنيا والآرخة وخيازة سعادتهما وإظهار العبدين المراد بهما نوح ولوط لتعظيمهما بالإضافة التشريفية إلى ضمير التعظيم والوصف بالصلاح وإلا فيكفى أن يقول تحتهما وفيه بيان شرف العبودية والصلاح {فَخَانَتَاهُمَا} بيان لما صدر عنهما من الجناية العظيمة مع تحقق ما ينفيها من صحبة النيب والخيانة ضد الأمانة فهي إنما تقال اعتباراً بالعهد والأمانة أي فخانتا هما بالكفر والنفاق والنسبة إلى الجنون والدلة على الأضياف ليتعرضوا لهم بالحجور لا بالبغاء فإنه ما بغت امرأة نبي قط فالبغي للزوجة شد في إيراث الأنفة لأهل العار والناموس من الكفر وإن كان الكفر أشد منه في أن يكون جرماً يؤاخذ به العبد يوم القيامة وهذا تصوير لحالهما المحاكية لهؤلاء لكفرة في خيانتهم لرسول الله عليه السلام ، بلكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
{فَلَمْ يُغْنِيَا} الخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن النبيان {عَنْهُمَآ} أي عن تينك المرأتين بحق الزواج {مِنَ اللَّهِ} أي من عذابه تعالى {شَيْـاًا} من الإغناء أي لم يدفعا العذاب عنهما زن نوح غرق شد بطوفان وبر سرزن لوط سنك باريد {وَقِيلَ} لهما عند موتهما أو يوم القيامة وصيغة المضي للتحقق قاله الملائكة الموكلون بالعذاب {ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأولياء ذكر بلفظ جمع المذكر لأنهن لا ينفردن بالذخول وإذا اجتمعا فالغلبة للذكور وقطعت هذه
68
(10/51)
إلا آية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره من غير موافقة له في الطريقة والسيرة وإن كان بينه وبينه لحمة نسب أو وصلة صهر قال القاشاني الوصل الطبيعية والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية بل المحبة الحقيقية والاتصالات الروحانية هي المؤثرة فحسب والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلقة والمعاشرة لا يبقى له أثر فيما بعد الموت إذ لا أنساب بينهم يوم القيامة وقس عليه النسب الباطني فإن جميع القوى الخيرة والشريرة وإن تولدت من بين زوجي الروح والجسد لكن الشريرة ليست من أهل الروح في الحقيقة مثل ولد نوح فكل من السعداء والأشقياء مفترقون في الدارين.
ه نسبت است برندى صلاح وتقويرا
سماع وعظ كجا نغمه رباب كجا
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعداء الله وهي في أعلى غرف الجنة والمراد آسية بنت مزاحم يقال رجل آسى وامرأة آسية من الأسى وهو الحزن قال بعض الكبار : الحزن حلية الأدباء ومن لم يذق طعام الحزن لم يذق لذه العبادة على أنواعها أو من الاسو وهو المداواة والآسى بالمد الطبيب ويقال هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة حتى لا يكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون التي صبرت على أذى فرعون كما سيجيء {إِذْ قَالَتِ} ظرف للمثل المحذوف أي ضرب الله مثلاً للمؤمنين حاله إذ قالت {رَبِّ} أي بروره كا من {ابْنِ لِى} على أيدي الملائكة أو بيد قدرتك فإنه روى إن الله تعالى خلق جنة عدن بيده من غير واسطة وغرس شجرة طوبى بيدة {عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ} أي قريباً من رحمتك على أن الظرف حال من ضمير المتكلم لأن الله منزه عن الحلول في مكان أو ابن لي في أعلى درجات المقربين فيكون عند ظرفا للفعل وفي الجنة صفة لبيتا وفي عين المعاني عندك أي من عندك بلا استحقاق مني بل كرامة منك.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
روى) إنها لما قالت ذلك رفعت الحجب حتى رأت بيتها في الجنة من رة بيضاء وانتزع روحها سئل بعض الظرفاء اين في القرآن مثل قولهم الجار قبل الدار قال قوله ابن لي عندك بيتاً في الجنة فعندك هو المجاورة وبيتا في الجنة هو الدار {وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ} الجاهل {وَعَمَلِهِ} الباطل أي من نفسه الخبيتة وسوء جوارها ومن عمله السيء الذي هو كفره ومعاصيه {وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي من القبط التابعين له في الظلم.
(روى) إنه لما غلب موسى عليه السلام السحرة آمنت امرأة فرعون وقيل هي عمة موسى آمنت به فلما تبين لفرعون إسلامها طلب منها أن ترجع عن إيمانها فأبد فأوتد يديها ورجليها بأربعة أو تاديعني أو راها ميخ كرد وربطها وألقاها في الشمس حق تعالى ملائكة رابفر مودتا كردوى در آمده ببالها خود اورا سايه كردند.
وأراها الله بيتها في الجنة ونسيت ما هي فيه من العذاب فضحكت فعند ذلك قالوا هيم جنونة تضحك وهي في العذاب وفي هذا بيان إنها لم تمل إلى معصية مع أنها كانت معذبه فلتكن صوالح النساء هكذا وقال الضحاك أمر بأن يلقى عليها حجر رخى وهي في الأوتاد فقالت رب ابن لي عندك نينا في الجنة فما وصل الحجر إليها حتى رفع روحها إلى
69
الجنة فألقى الحجر عليها بعد خروج فلم تجد ألماً وقيل اشتقات إلى الجنة وملت من صحبة فرعون فسألت ذلك.
ودر أكثر تفاسير هست كه حق سبحانه ويرا بآسمان ابرد بسدوى وحالا دربهشت است.
كما قال الحسن البصري قدس سره رفعت إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب وتتنعم قال في الكشاف وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عندا لمحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين (وفي المثنوى) :
تا فرود آيد بلايى دافعي
ون نباشد از تضرع شافعي
جز خضوع وبندكى واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبار
فقدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند أهل الطريقة لأنه كالمقاومة مع الله ودعوى التحمل لمشاقة كما قال ابن الفارض قدس سره :
ويحسن إظهار التجلد للعدى
ويقبح غير العجز عند الأحبة
(10/52)
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} عطف على امرأة فرعون وجمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لازوج لها تسلية للأرامل وتطبيباً لأنفسهن وسميت مريم في القرآن باسمها في سبعة مواضع ولم يسم غيرها من النساء لأيها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكالم ومريم بمعنى العابدة وقد سمى الله أيضاً زيداً في القرآن كما سبق في سورة الأحزاب والمعنى وضرب الله مثلاً للذين آمنوا حال مريم ابنة عمران والدة عيسى عليهما السلام ، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع كون قومها كفاراً {الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الإحصان العفاف يعني باز ايستادن اززشتى كما في تاج المصادر والفرج ما بين الرجلين وكنى به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح فيه والمعنى حفظت فرجها عن مساس الرجال مطلقاً حراماً وحلالاً على آكدا لحفظ وبالفارسية آن زناكه نكاه داشت دامن خود را از حرام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
وفاحشه كما في تفسير الكاشفي قال بعضهم : صانته عن الفجور كما صان الله آسية عن مباشرة فرعون لأنه كان عنيناً وهو من لا يقدر على الجماع لمرض أو كبر سن أو يصل إلى الثيب دون البكر فالتعبير عن آسية بالثيب كما مر في ثيبات لكونها في صورة الثيت من حيث إن لها بعلاً وقال السهيلي رحمة الله إحصان الفجر معناه طهارة الثوب يريد فرج القميص أي لم يغلق بثوبها ريبة أي أنها طاهرة الأثواب فكنى بإحصان فرج القميص عن طهارة الثوب من الريبة وفروج القميص أربعة الكمان والأعرى والأسفل فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا لأن القرآن أنزه معنى واو جز لفظاً وألطف إشارة وأحسن عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل انتهى.
قال في الكشاف : ومن بدع التفاسير إن الفرج هو جيب الدرع ومعنى أحصنته منعته {فَنَفَخْنَا فِيهِ} الفاء للسببية والنفخ نفخ الريح في الشيء أي فنفخنا بسبب ذلك في فرجها على أن يكون المراد بالفرج هنا الجيب.
(كما قال الكاشفي) : بس درد ميديم در كريبان جامه أو وكذا السجاوندي في عين المعاني أي فيما انفرج من جيبها وكذا أبو القاسم في الأسئلة لم يقل فيها لأن المراد بالكناية جيب درعها وهو إلى التذكير أقرب فيكون قوله فيه من باب الاستخدام لأن الظاهر إن المراد بلفظ الفرج العضو وأريد بضميره معنى آخر للفرج ومنه
70
قوله تعالى : [الأنبياء : 91]{عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ} وكذا يكون إسناد النفخ إلى الضمير مجازياً أي نفخ جبريل بأمرنا وهو إنما نفخ في جيب درعها من روحنا} أي من روح خلقناه بلا توسط أصل وأضاف الروح إلى ذاته تعالى تفخيماً لها ولعيسى كقوله وطهر بيتي وفي سورة الأنبياء فنفخنا فيها أي في مريم أي أحبنا عيسى في جوفها من الروح الذي هو من أمرنا وقال بعضهم أحيينا في فرجها وأوجدنا في بطنها ولداً من الروح الذي هو بأمرنا وحده بلا سببية أصل وتوسل نسل على العادة العامة أو من جهة روحنا جبريل لأنه نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها أو ففعلنا النفخ فيه وقرىء فيها على وفاق ما في سورة لأنبياء أي في مريم والمآل واحد انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47
(10/53)
يقول الفقير : يلوح لي ههنا سر خفي وهو أن النفخ وإن كان في الجيب إلا أن عيسى لما كان متولداً من الماءين الماء المتحقق وهو ماء مريم ولماء المتوهم وهو ما حصل بالنفخ كان النفخ في الجيب بمنزلة صب الماء في الفرج فالروح المنفوخ في الجيب كالماء المصبوب في الفرج والماء المصبوب وإن لم يكن الروح عينه إلا أنه في حكم الروح لأنه يخلق منه الروح ولذا قال تعالى : [التحريم : 12]{فَنَفَخْنَا فِيهِ} أي في الفرج سواء قلت إن فرج القميص أو العوض فاعرف ولا يقبله إلا الإلباء الروحانيون وصدقت} معطوفع لى أحصنت {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي بالصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام ، وفي كشف الأسرار يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة ويقال صدقت بالبشارات التي بشر بها جبريل {وَكُتُبِهِ} أي بجميع كتبة المنزلة الشاملة للصحف وغيرها من الكتبا لإلهية متقدمة أو متأخرة {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي من عداد المواظبين على الطاعة فمن للتبعيض وفي عين المعاني من المطيعين المعتكفين في المسجد الأقصى والتذكير لتغليب المذكر فإن مريم جعلت داخلة في ذلك اللفظ مع المذكرين والأشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعات الرجال حتى عدت من جملتهم أو كانت من القانتين أي من نسلهم لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليه السلام ، فمن لابتداء الغاية وعن النبي عليه السلام ، كمل من الرجال كثير ولم تكمل من النساء إلا أربع آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام كان العرب لا يؤثرون على الثريد شيئاً حتى سموه بحبوحة الجنة وذلك لأن الثريد مع اللحم جامع بين الغداء واللذة وسهولة التناول وقلة المؤونة في المضغ فضرب به مثلاً يؤذن بأنها أعطيت مع الحسنالخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورصانة العقل والتحبب إلى البعد فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها وحسبك إنها عقلت من النبي عليه السلام ، ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال وقد قال عليه السلام ، في حقها خذو ثلثي دينكم من عائشة ولذا قال في الأمالي :
وللصديقة الرجحان فاعلم
على الزهراء في بعض الخصال
لكن الكمال المطلق إنما هو لفاظمة الزهراء رضي الله عنها ، كما دل عليه الحديث المذكور وأيضاً دل تشبيه عائشة بالثريد على تشبيه غيرها من المذكورات باللحم وهو سيد الإدام.
71
يقول الفقير : رأيت في بعض الليالي المنورة كأن النبي عليه السلام يقول لي عائشة ست النساء اللاتي اجتمعن ومعناه على ما ألهمت وقتئذٍ أن عائشة رضي الله عنها هي السادسة من النسا الست اللاتي اجتمعن في نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلّم كأن الست من التسع متساوية في الفضيلة ومنها عائشة لكن اشتهرت عائشة بالفضل ونودي عليها بذلك وخفيت أحوال الباقيات من الست لحكمة خفية الهية ولذا لم يعين لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بقيت من الست ودل الحديث على كثرة كمال الرجال وقلة كمال النساء فيما بعض عصر النبي عليه السلام ، وإن كانت القرون متفاوتة والإعصار متباينة ولذا قال الحافظ :
نشان أهل خدا عاشقيست باخود دار
كه در مشايخ شهر اين نشان نمى بينم
(وقال المولى الجامي) :
أسرار عاشقا نرا بايد زبان دير
درداكه نيست يدا درشهر همزباني
والله الهادي.
جزء : 10 رقم الصفحة : 47(10/54)
سورة الملك
مكية وآيها ثلاثون بالاتفاق
جزء : 10 رقم الصفحة : 71
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
{تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} البركة النماء والزيادة حسبة أو عقلية ونسبتها إلى الله تعالى باعتبار تعاليه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله يعني لن البركة تتضمن معنى الزيادة وهي تقتضي التعالى عن الغيرك ما قال ليس كمثله شيء أي في ذاته لوجوب وجوده وفي صفاته وأفعاله لكل لكلماله فيهما وأما قوله تخلقوا بأخلاق الله فباعتبار اللوازم وبقدر الاستعداد لا باعتبار الحقيقة والكنه فإن الاتصاف بها بهذا الاعتبار مخصوص بالله تعالى فأين أحياء عيسى عليه السلام ، الأموات من أحياء الله تعالى فإنه من الله بدعائه فالمعجزة استجابة مثل هذا الدعاء ومظهريته له بقدر استعداده وبهذا التقرير ظهر معنى قول بعض المفسرين تزايد في ذاته فإن التزايد في ذاته لايكون إلا باعتبار تعاليه بوجوده الواجب وتنزهه عن الفناء والتغير والاستقلال وصيغة تبارك بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ مثل يتبارك في حقه تبارك وتعالى وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها والموصولات معارف ولا شك إن المؤمنين يعرفونه بكون الملك بيده وإما غيرهم فهم في حكم العارفين لأن الأدلة القطعية
72
لما دلت على ذلك كان في قوة المعلوم عند العاقل واليد مجاز عن القدرة التامة والاستيلاء الكامل لما أن أثرها يظهر في الأكثر من اليد يقال فلان بيده الأمر والنهي والحل والعقد أي له القدرة الغالبة والتصرف العام والحكم النافذ (قال الحكيم السنائي) يد اوقدر تست ووجه بقاش.
آمدن حكمش ونزول عطاش
اصبعينش نفاذ حكم قدر
قد مينش جلال وقهر وخطر
وفي عين المعني اليد صلة والقدرة والمذهب إنها صفة له تعالى بلا تأويل ولا تكييف والملك بمعنى التصرف والسلطنة واللام للاستغراق ولذا قال في كشف الأسرار ملك هجده هزار عالم بدست اوست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
والمعنى تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الذي بقبضة قدرته التصرف الكلى في كل الأمور لا بقبضة غيره فيأمر وينهى ويعطي ويمنع ويحيى ويميت ويعز ويذل ويفقر ويغنى ويمرض ويشفى ويقرب ويبعد ويمر ويحرب ويفرق ويصل ويكشف وبحجب إلى غير ذلك من شؤون العظمة وآثار القدرة الإلهية والسلطنة الأزلية والأبدية وقال بعضهم : البركة كثرة الخير ودوامه فنسبتها إلى الله تعالى باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات أي تكاثر خير الذي بيده الملك وتزايد نعمه وإحسانه كما قال تعالى وإن تعدو نعمة الله تحصوها قال الراغب البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء والمبارك ما فيه ذلك الخير ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة وإلى هذه الزيادة أشير بما روى لا ينقص مال من صدقة وقوله تبارك الذي جعل في السماء بروجاً تنبيه على ما يفيضه علينا من نعمه بوساطة هذه البروج والنيرات المذكورة وكل موضع ذكر فيه لفظة تبارك فهو تنبيه على اختصاصه تعالى بالخيرات المذكورة مع ذكر تبارك وفي الكواشي معنى تبارك تعالى عن صفات المحدثين وجميع المستعمل من (ب ر ك) وبعسكه يشتمل على معنى أي ثبت الثبوت الخير في خرائن الذي وقال سهل قدس سره تعالى من تعظم عن الأشياء والأولاد والأضداد واتذاد بيده الملك يقلبه بحوله وقوته يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء وقيل يريد به النبوة يعز بها من اتبع ويذل بها من خالف وقال جعفر قدس سره : هو المبارك على من انقطع إليه أو كان له أي فإه وارث النبي عليه السلام ، وخليفة وقد قيل في حقه وبارك عليه وقال القاشاني قدس سره الملك عالم الأجسام كما أن الملكوت عالم النفوس ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه في عالم الملك بحسب مشيئته بالتبارك الذي هو غاية العظمة ونهاية الازدياد في العلو والبركة وباعتبار تسخيره عالم الملكوت بمقتضى إرادته بالتسبيح الذي هو التنزيه كقوله : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء كلا بما يناسب لأن العظمة والازدياد والبركة تناس الأجسام والتنزه يناسب المجردات عن المادة وفي الآية إشارة إلى أن لملك إذا كانبيده فهو المالك وغيره المملوك فلا بد للمملوك من خدمة المالك.
خدمت اوكن مكرشاهان تراخدمت كنند
ا كرا وباش تاسلطان ترا كردد غلام
وفي الحديث القدسي يا دنيا اخدمي من خدمني قال في كشف الأسرار ملك انسانيت جداست
73
وملك دلها جدا وملك جانها جدا زيار انسانيت ملك در دنيا راند إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ودل ملك در آخرت راند يحبهم ويحبونه وجان ملك در عالم حقيقت راند وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة آن عزيز راه كوبد فرداكه علم كبرايي اوبقيامت برايدكه لمن الملك اليوم من ازكوشه دل خويش بدستورى اودرى بركشايم ودردى ازدردهاى او بيرون دهم تاكرد قيامت بر آيد وكويم لمن الملك اكر معترضي براه آيد كويم او كه ون ما ضعفا ومساكين دارد ميكويد لمن الملك ماون أو ملك جبارى داريم رانكوييم لمن الملك اكر اورا ون ما بندكانست مار ون او خدا اونداست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/55)
ومن هذا البيان يعرف سر قول عين العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره إلهي ملكي أعظم من ملكك أي فإن ملك العبد هو القديم وملك الرب هو الحادث فاعرف جداً فإن هذا المقام من مزالق الأقدام {وَهُوَ} تعالى وحده {عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء وعلى كل مقدور منا لأنعام والانتقال وغيرهما {قَدِيرٌ} مبالغ في القدرة عليه ومنتهى إلى أقصاها يتصرف فيه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة والجملة معطوفة على الصلة مقررة لمضمونها مفيدة لجريان أحكام ملكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها قال بعضهم وهو على كل شيء قدير أي ما يمكن أن تتعلق به المشيئة من المعدومات الممكنة لأن لموجود الواجب لا يحتاج في وجوده إلى شيء ويمتنع زواله أزلاً وأبداً والموجود الممكن لإيراد وجوده إذ هو تحصيل الحاصل والمعدوم الممتنع لايمكن وجوده فلا تتعلق به المشيئة فتعلق القدرة بالمعدوم بالإيجاد وبالموجود بالإبقاء والتحويل من حال إلى حال قال القاشاني وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات يوجده على ما يشاء فإن قرينة الدرة تخص الشيء بالممكن إذ تعلل القدرة به فيقال إنه مقدور لأنه ممكن.
(وفي التأويلات النجمية) : تعالى وتعاظم في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله الذي بيده المطلقة الملأى السحاء سلطنة الوجود المطلق الفائض على الوجودات المقيدة وهو أي هويته المطلقة ظاهرة في كل شيء قادرة على كل شيء {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} شروع في تحصيل بعض أحكام الملكوآثار القدرة والموصول بدل من الموصول الأول فلا وقف على القدير والموت عند أهل السنة صفة وجودية مضادة للحياة كالحرارة والبرودة والحياة صفة وجودية زائدة على نفس لذات مغايرة للعلم والقدرة مصصححة لاتصاف الذات بهما وما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن الموت والحياة جسمان وإن الله خلق الموت على صورة كبش املح لا يمر بشيء ولاي جد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوتها مد البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حي وهي التي أخذ السامري من أثرها قبضة فألقاها على العجل فحيي فكلام وارد على سبيل التمثيل والتصوير وإلا فهما في التحفقيق من قبيل الصفات لا من قبي الأعيان هكذا قالوا وجوابه إن كون الموت والحياة صفتين وجوديتين لا ينافي أن يكون لهما صورة محسوسة كالأعيان فإنهما من مخلوقات عالم المكوت ولكل منهما صورة مثالية فيذلك العام بها يرى ويشاهد يشاهده من يغيب عن عالم الملك وينسلخ عن البدن يؤيده قوله
74
عليه السلام : "يذبح الموت بين الجنة والنار" على صورة كبش ولا شك أن الذبح إنما يتعلق بالأعيان وأيضاً عالم الآخرة عالم الصفة يعني إن كل صفة باطنة في الدنيا تتصور بصورة ظاهرة في العقبى حسنة أو قبيحة فلا شيء من المعاني إلا وهو مجسم مصور فقول ابن عباس رضي الله عنه محمول على هذا نعم إن قولهم إن الحياة فرس أنثى يخالف قولهم إن البراق حقيقة ثالثة لا ذكر ولا أنثى وقال بعضهم : الموت عبارة عن عدم صفة الحياة عن محل يقبلها يعين إن الموت والحياة من باب العدم والملكة فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية والاضطرارية كالتنفس والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون ل كما قال صاحب الكشاف الحياة ما يصح بوجوده الإحساس والموت عدم ذلك ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/56)
أي إيجاد أثر الموت بقطع ضوء الروح عن ظاهر الحي وباطنه مع كونه في غاية الاقتدار على الحركة والتقلب وبجعله جماداً كان لم تكن به حركة أصلاً وكذا إيجاد أثر الحياة بنفخ الروح وإضاءة ظاهر البدن وباطنه به ويجعله قادراً على التقلب بنفسه بالإرادة وعدم تلك الملكة ليس عدماً محضاً بل فيه شائبة الوجود وإلا لم يعتبر فيه المحل القبال للأمر الوجودي فلذلك صح تعلق الخلق بالموت كتعلقه بالحياة وبهذا التقرير اندفع ما اعترضوا به من أن العدم حال لا يكون مخلوقاً لأن المخلوق حادث وعد الحوادث أزلي ولو كان مخلوقاً لزم وجود الحوادث لإلاً وهو باطل وقال بعضهم : معنى خلق الموت على تقدير أن يكون الموت عبارة عن عدم الحياة قدره فإن الخلق يجبيء بمعنى التقدير كما في قوله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين ولا يبعد أن يقال إن تعلق الخلق بالموت بمعنى الإيجاد إنما هو بتبعية تعلقه بالحياة بذلك المعنى وقدم على الحياة لأنا لموت في عالم الملك ذاتي والحياة عرضية يعني إن الموت أسبق لأن الأشياء كانت مواتاً ثم عرضت لها الحية كالنطفة على ما دل عليه قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولأنه ادعى إلى إحساس العمل وأقرب إلى قهر النفوس فمن جعله نصب عينيه أفلح وفي الحديث : لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت وفي الإرشاد : الأقرب إن المراد به الموت الطاري وبالحياة ما قبله وما بعده لظهور مداريتهما كما ينطق به ما بعد الآية ليبلوكم الخ فإن استدعاء ملاحظتها لإحسان العمل مما لا ريب فيه مع أن نفس العمل لاي تحقق بدون الحياة الدنيوية انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
وظاهره يخالف قوله تعالى : ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا فإن المراد بهذه الحياة هيا لحياة الدنيوية بقرينة النشور والقرآن يفسر بعضه بعضاً ثم إن الألف واللام في الموت والحياة عوض عن المضاف إليه أي موتكم وحياتكم أيها المكلفون لأن خلق موت غير المكلفين وحياتهم لابتلاء المكلفين لا معنى له قال بعض العارفين الموت والحياة عرضان والأعراض والجواهر مخلوقة له تعالى وأصل الحياة حياة تجليه وأصل الموت موت استتاره وهما يتعاقبان للعارفين في الدنيا فإذا ارتفعت الحجب يرتفع الموت عنهم بأنهم يشاهدون عياناً بلا استتار أبداً لا يجري عليهم طوارق الحجاب بعد ذلك قال الله تعالى بل أحياء عند ربهم خلق الموت والحياة يميت قوماً بالمجاهدات ويحيى قوماً بالمشاهدات يميت قوماً بنعت الفناء
75(10/57)
في ظهور سطوات القدم ويحيي قوماً بنعت البقاء في ظهور أنوار البقاء لولا التجلي والاستار لم يظهر شوق المشتاقين وتفاوت درجات الشوق ولا يتبين وله العاشقين وتفاوت درجاتهم في العشق وقال سهل قدس سره الموت في الدنيا بالمعصية والحياة في الآخرة بالطاعة في الدنيا وقال الجنيد قدس سره حياة الأجسام مخلوقة وهي التي قال الله تعالى خلق الموت والحياة وحياة الله دائمة لا انقطع لها أوصلها إلى أوليائه في قديم الدهر الذي ليس له ابتداء فكانوا في علمه أحياء قبل إيجاده لهم ثم أظهرهم فأعارهم الحياة المخلوقة التي أحيى بها الخلق وأماتهم في سره فكانوا في سره بعد الوفاة كما كانوا ثم أورد عليهم حياة الأبد فكانوا أحياء أبداً وقال الواسطي قدس سره من أحياه الله عند ذكره في لإله لاي موت أبداً ومن أماته في ذلك لا يحيي أبداً وكم حي غافل عن حياته وميت غافل عن مماته ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} اللام متعلقة بخلق وظاهرها يدل على أن أفعال الله معللة بمصالح العباد وإنه تعالى يفعل الفعل لغرض كما ذهب إليه المعتزلة وعند أهل السنة ليس هي على ظاهرها بل معناها إن الله تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله منيراعي المصالح لم يفعله إلا لتلك المصلحة والغرض فمثل هذه اللام لام العلة عقلاً ولام الحكمة والمصلحة شرعاً وأيكم مبتدأ وأحسن خبره وعملاً تمييزاً ولجملة الاسمية سادة مسد المفعول الثاني لفعل البلوى عدى إليه بلا واسطة لتضمنه معنى العلم باعتبار عاقبته وإلا فهو لا يتعدى بلا واسطة إلا إلى مفعول واحد فليس هو من قبيل التعليق المشهور الذي يقتضي عدم إيراد المفعول أصلاً وقد ذكر المفعول الأول هنا وهو كم مع اختصاصه بأفعال القلوب ولا من التضمين المصطلح بل هو مستعار لمعنى العلم البلوى الاختبار وليس هنا على حقيقته لأنه إنما يتصور ممن يخفى عليه عواقب الأمور فالابتلاء من الله أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب ولمنى ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملاً فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت طبقات علومكم وأعمالكم فإن العلم يغر مختص بعلم الجوارح ولذلك فسره عليه السلام ، بقوله : أيكم أحسن عقلاً وأورع من محارم الله وأسرع في طاعة الله} يعني أثم عقلاً عند الله فهما لمراده فإن لكل من القلب والقالب ملاً خاصاً به فكما أن الأول أشرف من الثاني كذلك الحال في عمله يكف لا وعمله معرفة الله الواجبة على العباد أول كل شيء وإنما طريقها النظر والتفكر في بدائع صنع الله والتدبر في آياته المنصوبة في الأنفس والآفاق كما قال عليه السلام : لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب ضرورة أن أحداً لا يقدر عى أن يعمل بجوارحه كل يوم مثل عمل أهل الأرض كذا في الإرشاد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
يقول الفقير : لعل حال يونس عليه السلام ، إشارة إلى عمل قالبي مفضل على علم أهل الأرض في زمانه بخواصقلبية فإن أعمال المقربين واحد منها مقابل بمائة ألف بل بغير حساب باعتبار التفاوت في الإحسان والشهود والخلوص ولذا قال تعالى : أحسن فإنه بعبارته إشارة إلى أحوال المقربين وبإشارته إلى أحوال غيرهم من الأبرار والكفار والمنافقين وذلك إن نية الإنسان لا تخلو إما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الدنيا
76
فهو سيء نية وعملاً وهو حال الكفار وإما أن يكون متعلقها في لسانه هو الآخرة وفي جنانه هو الدنيا فهو أسوأ نية وعملاً وهو حال المنافقين وأما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الآخرة فهو حسن نية وعملاً وهو حال الأبرار وأما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو وجه الله تعالى فهو أحسن نية وعملاً وهو حال المقربين ولما كان المقصود لأعظم هو تحصيل هذا الأحسن صرح بذكره دون ذكر الحسن فإنه مفهوم بطريق الإشارة وكذا غيره ولقد أصاب من قال في تفسير الآية تابياز مايد شمارا يعني باشما معامله آزمايند كان كند تاظاهر شودكه دردار تكليف كدام از شما نيكو ترند ازجهت عمل يعني إخلاص كدام بيشترست.(10/58)
وكذا من قال أحسن الأعمال ماك ان أخلص بأن يكون لوجه الله خالصاً وأصوب بأن يكون موافقاف للسنة أي وارداً على النهج الذي ورد عن الشاعر فالعمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ولذا قال عليه السلام للأعرابي : قم صل فإنك لم تصل وكذا إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل أيضاً ولذا جعل الله أعمال أهل الرياء والنفاق هباء منثوراً وقول من قال من العارفين حسن العمل نسيان العمل ورؤية الفضل هو من مراتب الإخلاص فٌّ الإخلاص سر عظيم من أشسرار الله تعالى لا ياله إلا الخواص وفي الاشارد ايثار صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لهم باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضاً لكمال تعاضد الموجبات له وإما الإعراض عن ذلك فلكونه بمعزل من الاندراج تحت الوقوع فضلاً عن الانتظام في سلك الغاية للأفعال الإلهية وإنما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب انتهى.
ثم إن المراد أيكم عمله أحسن من عمل غيره ولا معنى لقول السجاوندي في عين المعاني استفهام بمعنى الهمزة ولذا لم يعمل فيه الفعل تقديره ءأنتم أحسن عملا أم غيركم انتهى.
فإنه يشعر بأن يكون التفاوت بالنسبة إلى الإنسان وغيره كالملائكة ومؤمني الجن مثلاً ولسي بمراد وعبارة القرآتان في إسناد الحسن إلى الإنسان تدل على أن من كان عمله أحسن كان هو أحسن ولو أنه أبشع الناس منظر أو من كان عمله أسوأ كان بخلاف ذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
رءراست بايدند بالاي راست
كه كافرهم ازروى صورت وماست
ولم يقل أكثر عملاً لأنه لا عبرة بالكثرة مع القبح قالوا والحسن إنما يدرك بالشرع فما حسنه الشرع فهو حسن وما قبحه فهو قبيح وقال بعضهم : ليبلوكم أيكم أحسن أخذاً من حياته لموته وأحسن هبة في دنياه لآخرته قال النبي لعبد بن عمر رضي الله عنهما خذ من صحتك لسقمك ومن شبابك لهرمك ومن فراغك لشغلك ومن حياتك لموتك فإنك لا تدري ما اسمك غداً وسئل عليه السلام ، أي المؤمنين اكيس قال أكثرهم للموت ذكراً وأحسنه له استعداداً فالاستعداد للموت وللآخرة بكثرة الأعمال المقارنة للإخلاص سواء كانت صلاة أو صوماً أو زكاة أو حجاً أو نحوها وإن كان لبعض الأعمال تفاوت بالنسبة
77
إلى البعض الآخر كالصلاة فإنها معراج الشهود وفيها كسر النفس وإتعاب البدن ولذا كان السلف الصالح يكثرون منا حتى إن منهم من يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ونحوها وكالصوم وتقليل الطعام فإنه سبب لورود الحكمة الإلهية إلى القلب ولذا كان بعض السلف يوصلون فمنهم من يطوي ثلاثة أيم ومنهم من يطوي فوق ذلك إلى سبعة إلى ثلاثين إلى أربعين فمن طوى أربعين يوماً انفتح له بابا لحكمة العظمى مع أن في الصوم تهذيب الأخلاق أيضاً فإن أكثر المفاسد يجبيء من قبل ل والشرب فيا أيها المؤمنون سابقوا واسارعوا فالنفس مطية والدنيا مضمار والسابقون السابقون أولئك المقربون وقد قال عليه السلام ، قد سبق المفردون والتفريد هو تقطيع الموحد عن الأنفس والآفاق وشهود الحق في عالم الإطلاق فلا بد من السير والسلوك ثم الطيران في هواء الوحدة ولهوية الذاتية فإن به يحصل لانفصال عن منازل لأكوان السفلية الحادثة ويتحقق العروج إلى عالم الوجوب والقدم نسأل الله من فضله أن يرينا وجهه الكريم إنه هو البر الرحيم وهو} أي والمال إنه وحده {الْعَزِيزُ} الذي لا يفوته من أساء العمل {الْغَفُورُ} لمن شاء منهم بالوبة وكذا بالفضل قال بعضهم لما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم بمخالفته قال مرغباً للمسيء في التوبة حتى لا يقول مثلي لا يصلح للخدمة لمالي من القاطعة وأين التراب ورب الأرباب الغفور الذي ستر ذنوب المسيء ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلققٍ كما قال في الحديث القدسي ومن أتاني يمشي أتيته هرولة {الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أبدعها من غير مثال سبق
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/59)
{طِبَاقًا} صفة لسبع سموات وقولهم الصفة في الإعداد تكون للمضاف إليه كما في قوله سبع بقرات سمان لا يطرد ويجوز جعله حالاً لأن سبع سموات معرفة لشمولها الكل وهو مصدر بمعنى الفاعل يقال طابقه مطابقة وطباق الشيء مثل كتاب مطابقة بكسر الباء وطابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذو واحد وألزقتهما والباب يدل على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه والمعنى مطابقة بعضها فوق بعض وسماء فوق سماء غلظ كل سماء خمسمائة عام وكذا جوها بلا علاقة ولا عماد ولا مماسة فالسماء الدنيا موج مكفوف أي ممنوع من السيلان والثانية من درة بيضاء والثالثة من حديد والرابعة من ناس أو صفر والخامسة من فضة والسادسة من ذهب والسابعة من ياقوتة حمراء وبين السابعة وما فوقها من الكرسي والعرش بحار من نور قال القاشاني نهاية كمال عالم الملك في خلق السموات أن لا يرى احكم خلقاً وأحسن نظاماً وطباقاً منها قال الجمهور أن الأرض مستديرة كالكرة وإن السماء الدينا محيطة بها من كل جانب إحاطة البيضة بالمح فالصفرة بمنزلة الأرض وبياضها بمنزلة الماء وجلدها بمنزلة السماء غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستديرة اخرط حتى قال مهندسوهم لو حفر ف يلوهم وجه الأرض لأدى إلى الوجه الآخر ولو ثقب مثلاً بأرض الأندلس لنفذ الثقب بأرض الصين وإن السما الثنية محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاه فما ظنك بما تحته وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة
78
{مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} استئناف والخطاب للرسول أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ووضع خلق الرحمن موضع الضمير إذا المقام مقام أن يقال في خلقه وهي السموات على أن يكون بمعنى المخلوق والإضافة بمعنى اللام للإشعار بأنه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلاً ومن لتأكيد النفي والمعنى ما ترى فيه شيئاً من اختلاف واضطراب في الخلقة وعدم تناسب بل هو مستوٍ مستقيممٍ قال القاشاني : سلب التفاوت عنها بساطتها واستدارتها ومطابقة بعضها بعضاً وحسن انتظامها وتناسبها وهو من الفوت فإن لاك من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر فلا يناسبه ولا يلائمه قال الراغب : التفاوت الاختلاف في الأوصاف كأنه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كل واحد منهما الآخر وجعل بعض العلماء خلق الرحمن عاماً فسئل بأن المخلوقات بأسرها على غاية التفاوت لأن الليل غير النهار إلى غير ذلك من الأضداد ثم أجاب بأن ليس فيها تناقص أو زيادة غير محتاج إليها أو نقصن محتاج إليه بل الكل مستقيمة مستوية دالة على أن خالقها عالم انتهى وفي الآية إشارة إلى شمول رحمته الرحمانية الواسة كل شيء كما قال يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن الموجودات كلها علوي كانت أو سفلية نورانية كانت أو ظلمانية روحانية كانت أو جسمنية خلقت من نور الرحمن ورحمته من غير تفاوت في الخلقة وأصل الرزق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
{فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي رده إلى رؤية السماء حتى يتضح ذلك بالمعاينة ولا يبقى عندك شبهة ما وجع يجيء لازماً ومتعدياً يقال رجع بنفسه رجوعاً وهو العود إلى ما منه البدء مكاناً كان أو فعلاً أو قولاً بذات كان رجوعه أو بجزء من أجزائه أو بفعل من أفعاله ورجعه غير رجعاً أي رده وأعاده {هَلْ تَرَى} فيها {مِن فُطُورٍ} جمع فطر كما في القاموس وهو الشق.
(كما قال في تاج المصادر) : الفطر آفريدن وابتداكردن وشكافتن.
يقال فطره فانفطر أي شقه فانشق والمعنى من شقوق وصدوع لامتناع خرقها والتئامها قاله القاشاني : ولو كان لها فروج لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها أو كمالها كما في المناسبات فإذالم بر في السماء فطور وهي مخلوقة فالخالق أشد امتناعاً من خواص الجسمانيات {ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي رجعتين أخريين وأعد النظر مرة بعد مرة في طلب الخلل والعيب.
يعني اكربيك نكريستن معلوم نكردد تكراركن نكريستن را.
والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك وسعديك يريد إجابات كثيرة وإعانات وفيرة بعضها في أثر بعض وذلك لأن الكلام الآتي لا يقع بالمرتين أي رجة بعد رجعة وإن كثرت قال الحسن رحمه الله لو كررته مرة بعد مرة إلى يوم القيامة لم تر فيه فطوراً وقال الواسطي رحمه الله كرتين أي قلباً وبصراً لأن الأول كان بالعين خاصة والحاصل أن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقيق الحائق وإذا كان ذلك النظر فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الكلال والحرمان تحقق الامتناع وما اتعب من طلب وجود الممتنع {يَنقَلِبْ} ينصرف ويرجع وبالفارسية باز كردد {إِلَيْكَ} بسوى تو {الْبَصَرَ} شم تو {خَاسِئًا} أي
79(10/60)
ذليلاً بعيداف محروماً منإصابة ما التمسه من العيب والخلل كأنه يطرد عن ذلك طرد بالصغار والذلة فقوله ينقلب مجزوم على إنه جواب الاومر وخاسئاً حال من البصر وهو مع إنه اسم فاعل من خسأ بمعنى تباعد وهرب ففيه معنى الصغار والذلة فإذا قيل خسأ الكلب خسوء افمعناه تباعد من هو إنه وخوفه كأني زجر وطرد عن مكانه الأول بالصغار وخسأ يجبي متعدياً أيضاً بقال خسأت الكلب فخسأ أي باعدته وطردته وزجرته مستهيناً به فانزجر وذلك إذا قيل له اخسأ قال الراغب ومنه خسأ البصر أي انقبض من مهانة وفي القاموس اخاسيء من الكلاب والخنازير المبعد لاي ترك أن يدنو من الناس ولا يكون خاسئاً في الآية من المتعدى إلا بأن يكون بمعنى المفعول أي مبعداً {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل وبالاية الأعياء لطول المعاودة وكثرة لمراجعة وهو فعيل بمعنى الفاعل من الحسور الذي هو الأعياء كما في تاج المصادر الحسور رنجه شدن وكندشدن شم از مسافت دور.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
وقال الراغب يقال للمعي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور إنه قد حسر بنفسه قواه وإما المحسور فتصور إن التعب قد حسره وقوله تعالى : {وَهُوَ حَسِيرٌ} يصح أن يكون بمعنى حاسر وبمعنى محسور انتهى.
والجملة حال من البصر أو من الضمير المستتر في خاسئاً فيكون من قبيل الأحوال المتداخلة قال بعضهم فإذا كان الحال هذا في بعض المصنوع فكيف عند طلب العلم بالصانع في كماله وجلاله وجماله فكيف بمن يتفوه بالحلول والاتحاد حسبه جهم وبئس المهاد.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص80 حتى ص90 رقم9
سبحانه من تحير في ذاته سواء
فهم خرد بكنه كمالش نبرد راء
عمري خرد و شمه ها شمها كشاد
تابر كمال كنه اله افكند نكاه
ليكن كشيد عاقبتش در دوديده ميل
شكل الف كه حرف نخستست ازاله
وفي التأويلات النجمية : فرجع بصرك الظاهر من ظواهر الأشياء إلى بصرك الباطن ومن بصرك الباطن إلى بواطن الأشياء يعني انظر باتحاد بصرك وبصيرتك إلى ظواهر الأشياء وبطوانها هل تر من شقوق الخلاف بحسب استعداد كل واحد من الموجودات لإعطائه كل ذي حق حقه ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير معد عن رؤية اخلل ومطالعة الزلل كما قال الامام حجة الإسلام قدس سره في بعض كلماته ليس في الإمكان ابدغ من هذا الوجود لاته لو كان ولم يظهر لكان بخلاف وهو جواد ولكان عجزا وهو قادر كما قال تعالى : الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقال بعضهم إنما لم يكن في الإمكان ابدع مما كان أي أظهر من هذا العالم لأنه مأثم الاتبتان الحق في المرتبة الأولى وهو القدم والعالم في الثانية وهو الإمكان والحدوث فلو خلق ما خلق إلا ما لا يتناهى فلا يزال في المرتبة الثانية الإمكانية ولقد زينا السماء الدنيا} بيان لكون خلق السموات في غاية الحسن والبهاء أثر بيان خلوها عن شائبة القصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال الاعتناء بمضمونها أي وبالله لقد زنيا أقرب السموات إلى الأرض والناس وجملناها فالزين والتزيين بالفارسية آراستن.
وهو ضد الشين بالفارسية معيوب كردن.
والدنيا
80
تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب وكون السماء من سائر السموات إنما هو بالإضافة إلى ما تحتها من الأرض لا مطلقاً لأن الأمر بالعكس بالإضافة إلى ما فوقها من العرش {بِمَصَابِيحَ} برغها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/61)
جمع مصباح وهو السراج وتنكيره للتعظيم والمدح أي بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج من السيارات والثوابت تترآءى كلها مركوزة في السماء الدنيا مع أن بعضها في سائر السماوات لأن السموات إذا كانت شفافة وأجراماً صافية فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو في السموات أخرى فهي لا بد وإن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح ودخل في المصابيح القمر لأنه أعظم نير يضيء بالليل وإذا جعل الله الكواكب زينة السماء التي هي سقف الدنيا فليجعل العباد المصابيح والقناديل زينة سقوف المساجد والجوامع ولا سرف وفي الخير وذكر إن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم كان ء5ا جاء العشاء يوقد فيه بسعف النخلقلما قدم تميم الداري رضي الله عنه المدينة صحب معه قناديل وحبالاً وزيتاً وعلق تلك القناديل بسواري المسجد وأو قدرت فقال عليه السلام : نورت مسجدنا نور الله عليك تاماً والله لو كان لي ابنة لأنكحتكها وسماه سراجاً وكان اسمه الأول فتحاً ثم أكثرها عمر رضي الله عنه حين جمع الناس علي أبي بن كعب رضي الله عنه في صلاة التراويح فلما رآها علي رضي الله عنه ، تزهر قال : نورت مسجدنا نور الله قبرك يا ابن الخطاب وعن بعضهم قال : أمرني المأمون إن اكتب بالاستكثار من المصابيح في المساجد فلم أدر ما اكتب لأنه شيء لم أسبق إيه فرأيت في المنام اكتب فإن فيه أنساً للمتهجدين ونفيا لبيوت الله عنه وحشة الظلم فانتبهت وكتبت بذلك وفيه إشارة إلى سماء القلب لدنوه منك من سماء الورح وزينة أنوار المعارف والعلوم الإلهية والورادات الرحمانية {وَجَعَلْنَاهَا} أي المصابيح المعبر بها عن النجوم أي بعضها كما في تفسير أبي الليث {رُجُومًا} جمع رجم بالفتح وهو ما يرجم به ويرمى للطرد ولزجر أو جمع راجم كسجود جمع ساجد {لِّلشَّيَاطِينِ} هم كفار الجن يخرجون الأنس من النور إلى الظلمات وجمع الشياطين على صيغة التكثير لكثرتهم في الواقع فالمعنى وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من الكواكب لا بالكواكب نفسها فإنها قارة في الفلك على حاله فمنهم من يقتله الشهاب ومنهم من يفسد عضواً من أعضائه أو عقله والشهاب شعلة ساطعة من نار وهو ههنا شعلة نار تنفصل من النجم فأطلق عليها النجم ولفظ المصباح ولفظ الكوكب ويكون معنى جعلناها رجوماً جعلنا منها رجوماً وهي تلك الشهب ومما يؤيد أن الشعلة منفصلة من النجوم ما جاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، إن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل في المساجد مخلوقة من نور وقيل إنها معلقة بأيدي الملائكة وينصر هذا القول قوله تعالى : [الانفطار : 1-12]{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} لأن انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة وقيل : إن هذه ثقب في السماء وينصره قول بعض المكاشفين إن الكواكب ليست مركوزة في هذا التعين وإنما هي بانعكاس الأنوار في بعض عروقه
81
اللطيفة والذي يرى كسقوط النجم فكدفع الشمس من موضع إلى موضع وهذا لا يطلع عليه الحكماء وإنما يعرفه أهل السلوك انتهى.
وقال الفلاسفة أن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجو عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك وقد سبق بيان هذا المقام مفصلاً في أوائل الصافات والحجر فلا نعيده والذي يلوح إن مذهب الفلاسفة قريب في هذه المادة من مذهب أهل الحقائق ومر بيان مذهبهم في الصافات والله أعلم بالخفيات واعتد نالهم}
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
أي هيئنا للشيطان في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ومنه العتاد أي العدة والأهبة {عَذَابَ السَّعِيرِ} أي عذاب جهم الموقدة المشعلة فالسعير فعيل بمعنى مفعلو من سعرت النار إذا أوقدتها ولذلك لم يؤت بالتاء في ره مع آنه اسم للدركة الرابعة من دركات النار السبع وهي جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ولكن كل من هذه الأسماء يطلق على الآخر فيعبر عن النار تارة بالسعير وتارة بجهنم وأخرى بآخر.(10/62)
واعلم أن في كل دركة منها فرقة من فرق العصاة كعصاة أهل التوحيد والنصارى واليهود والصابئة والمجوس والمشركين والمنافقين ولم يذكروا الشياطين في واحدة من الدركات السبع وللعهم يقسمون على مراتب إضلالهم فيدخل كل قسم منهم مع قسم تبعه في إضلاله فكان سبباً لدخوله في دركة من الدركات الست التحتانية جزاء للاله وإضلاله واذية لمن تبعه فيما دعا إليه بمصاحبته ومقارنته كما قال تعالى : [إبراهيم : 49-6]{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَااِذٍ مُّقَرَّنِينَ} وفي الآية إشارة إلى شياطين الخواطر النفسانية والهواجس الظلمانية وعذابها عذاب الرد والانقلاب بغلبة الخواطر الملكية والرحمانية وللذين كفروا بربهم} من الشياطين وغيرهم وكفرهم به إما بالتعطيل أو بالإمساك وقال سعدي المفتي الأظهر حمله على الكفرة غير الشياطين كما يشعر به ما بعده ولئلا يلزم شبه التكرار {عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة يقال رجل جهم الوجه كالح منقبض وفيه إشارة إلى إن عذابه تعالى وانتقامه خارج عن العادة لكونه ليس بسيف ولا سوط ولا عصا ونحوها بل بالنار الخارجة عن الانطفاء وليس للكافر المعذب من الخلاص رجاء {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي جهم وقال بعضهم : جهنم من الجهنام وهي بئر بعيدة القعر ففيه إشارة إلى أن أهل النار مبعدون عن جمال الله تعالى وعن نعيم الجنة محرقون في نار البعد والقطيعة نسأل الله العافية قال في فتح الرحمن تضمنت هذه الآية إن عذاب جهم للكافرين المخلدين وقد جاء في الأثر إنه يمر على جهم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة فالذي في هذه الآية هي جهنم بأسرها أي جميع الطبقات والتي في الأثر هي الطبقة العليا لأنها مقر العصاة انتهى.
وهو مراد من قال من كبار المكاشفين يأتي زمان تبقى جهنم خالية عن أهلها وهم عصاة الموحدين ويأتي على جهنم زمان ينبت في قعرها الجرجير وهي بقلة
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
{إِذَآ أُلْقُوا} أي الذين كفروا أي في جهنم وطرحوا كما يطرح الحطب ي النار العظيمة وفي إيراد إلا لقاء دون الإدخال إشعار بتحقيرهم وكون جهنم سفلية {سَمِعُوا لَهَا} أي لجهنم نفسها
82
وهو متعلق بمحذوف وقع حالاً من قوله {شَهِيقًا} لأنه في الأصل صفة فلما قدمت صارت حالاً أي سمعوا كائناً لها شهيقاً أي صوتاً كصوت الحمير الذي هو أنكر الأصوات وأفظعها غضباً عليهم وهو حسيسها النمكر الفظيع كما قال تعالى : [الأنبياء : 102-7]{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قالوا : الشهيق في الصدر والزفير في الحلق أو شهيف الحمار آخر صوته والزفير أوله والشهيق رد النفس والزفير إخراجه وهي تفور} أي والحال أنها تغلي بهم عليان المرجل بما فيها من شدة التلهب والتسعر فهم لا يزالون صاعدين هابطني كالحب إذا كان الماء يغلي به لإقرار لهم أصلاً الفور شدة الغليان ويقال ذلك في النار وفي القدر وفي الغضب وفوارات الماء سميت تشبيهاً بغليان القدر وفعلت كذا من فوري أي من غليان الحال وفارة المسك تشبيهاً به في الهيئة كما في المفردات قال بعضهم : نطقت الآية بأن سماعهم يكون وقت الإلقاء على ما هو المفهوم من إذا وعلى المفهوم من قوله وهي تفوران يكون بعده اللهم إلا أن تغلي بما فيها كائناً ما كان ويؤول إذا ألقوا بإذا أريد الإلقاء أو إذا قربوا من الإلقاء بناء على أن صوت الشهيف يقتضي أن يسمع قبل الإلقاء انتهى.
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} الجملة خبر آخر وتميز أصله تتميز بتاءين والتميز الانقطاع والانفصال بين المتشابهات والغيظ أشد الغضب يقال يكاد فلان ينشق من غيظه إذا وصف بالإفراط في الغضب والمعنى تكاد تتفرق جهنم من شدة الغضب عليهم أي قرب أن يتمزق تركيبها.
وينفصل بعضه من بعض وبالفارسية نزديكست كه اره اره شود دوزخ از شدت خشم بركافران.(10/63)
شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باعتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه فاستعير اسم الغيظ لذلك الاستعمال استعار تصريحية قال الامام لعل سبب هذا المجاز إن دم القلب يغلي عند الغضب فيعظم مقداره فيزداد امتلاء العروق حتى يكاد يتمزق قال في المناسبات وكان حذف إحدى التءاين إشارة إلى أنه يحصل افتراق واتصال لعى وجه من السرعة لا يكاد يدكر حق الإدراك وذلك كله لغضب سيدها وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر ألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك يقود ونهابه وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر وتقول لأئتقمن اليوم ممن أكل رزق الله وعيد غيره فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلّم يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر به أن يقتلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها فعل من غير كلفة وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفحة كما قال عليه السلام : "لقد أدنيت مني النار حتى جعلت أنفثها خشية أن تغشاكم" قال بعضهم : تلك المهوات لشدة منافاتها بالطبع لعالم النور وأصل فطرة النفس ليشتد غيظها على النفوس كما أن شدة منافرة الطباع بعضها بعضاً تستلزم شدة العداوة والبغض المقتضية لشدة الغيظ.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
يقول الفقير : تقرر من هذا البيان ودل سائر الآثار الصحيحة أيضاً إن جهنم لها حياة وشعور كسائر الإحياء ولذا يصدر منها كما يصدر منهم فلا حاجة إلى ارتكاب المجاز عند أهل الله تعالى في أمثال ذلك قال جعفر الطيار رضي الله عنه كنت مع النبي عليه السلام ، في طريق فاشتد على العطش فعلمه النبي
83
عليه السلام ، وكان خذآءنا جبل فقال عليه السلام : بلغ مني السلام إلى هذا الجبل وقل له يسقيك إن كان فيه ماء قال فذهبت إليه وقلت السلام عليك أيها الجبل فقال الجبل ينطق بنطق فصيح لبيك يا رسول رسول الله فعرضت القصة فقال بلغ سلامي إلى رسول الله وقل منذ سمعت قوله تعالى : [الملك : 8]{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} بكيت لخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود انار بحيث لم يبق في ماء كلما ألقى} الإلقاء بيفكندن {فِيهَا} أي في جهنم {فَوْجٌ} جماعة من الكفرة يدفع الزبانية لهم الذين هم أغيظ عليهم من النار وهو استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان حال نفسها {سَأَلَهُمْ} أي ذلك الفوج وضمير الجميع باعتبار المعنى {خَزَنَتُهَآ} أي خزنة النار وهي مالك وأعوانه من الربانية بطريق التوبيخ والتقريع ليزدادوا عذاباًفوق عذاب وحسرة أي ليزدادوا العذاب الروحاني على العذاب الجسماني جمع خازن بمعنى الحافظ والموكل يعرف ذلك من قولهم بالفارسية خزينة دار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/64)
قال في تاج المصادر الخزن نكاه داشتن مال وسر {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي : وقالوا لهم أيها الكفرة الفجرة ألم يأتكم في الدنيا {نَذِيرٌ} أي منذر يتلو علكيم آيات ربكم وينذكرم لقاء يومكم هذا والإنذار الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف ويعدى إلى مفعولين كما في تاج المصادر {قَالُوا} اعترافاً بأنه تعالى قد از اح عللهم بالكلية ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه وإنهم لم يأتوا من قدره كما تزعم المجبرة وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم خلاف ما اختار الله فأمر به وأوعد على ضده {بَلَى} لإيجاب نفي إتيان النذير {قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ} جمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجب بها مبالغة في الاعتراف وتحسرا على فوت سعادة التصديق وتمهيداً لبيان التفريط الواقع منهم أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاء نا نذير أي واحد حقيقة أو حكماً كأنبياء بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير والحد فأنذا وتلا علينا ما نزل الله عليه من آياته روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام إنه قال أنا النذير والموت المغير يعني موت عارت كننده است والساعة الموعد يعني قيامت وعده كاهست {فَكَذَّبْنَا} ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى فإن قلت هذا يقتضي أن لا يدخلها الفاسق المصر لأنه لم يكذب النذير قلت قد دلت الأدلة السمعية على تعذيب العصاة مطلقاً والمراد بالفوج هنا بعض من ألقى فيها وهم الكفرة كما سبق {وَقَالَ} في حق ما تلاه من الآيات إفراطاً في التكذيب وتمادياً في الكير بسبب الاشتغال في الأمور الدنيوية والأحكام الرسومية الخلقية {مَا نَزَّلَ اللَّهُ} على أحد {مِن شَىْءٍ} من الأشايء فضلاً عن تنزيل الآيات عليكم وقال بعضهم : ما نزل الله من كتاب ولا رسول {إِنْ أَنتُمْ} أي ما تم يا معشر الرسل في ادعاء إن الله تعالى نزل عليكم آيات تنذر وثنا بما فيها {إِلا فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ} بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم النمزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتماً
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
{وَقَالُوا} أيضا معترفين بأنهم لم يكؤنو
84
ممن يسمع أو يعقل {لَوْ كُنَّا} في الدنيا {نَسْمَعُ} كلاماً {أَوْ نَعْقِلُ} شيئاً وفيه دليل على أن القعل حجة التوحيد كالسمع وقدم السمع لأنه لا بد أولاً من سماع ثم تعقل المسموع وقال سعدى المفتي قوله لو كنا الخ.
يجوز أن يكون إشارة إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أي الاستدلالي لأنه يحتاج إلى النظر دون التحقيقي العياني لأنه يحصل بالكشف لا العقل {مَا كُنَّا} اليوم {فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي في عداد أهل النار الموقدة وأتباعهم وهم الشياطين لقوله تعالى : [الملك : 11]{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} كٌّ الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم من السنة السل ولم تعقلوا معانيها حتى لا تكذبوا بها فأجابوا بذلك وفي التأويلات النجمية لو كنا نسمع بأسماع قلوبنا أو نعقل بعقول أروحنا ما كنا في أصحاب السعير ولكنا سمعنا بأسماع محتومة وعقول معلولة مقفولة فاعترفوا} اضطرار أحين لا ينفعهم الاعتراف وهو إقرار عن معرفة وفي عين المعاني عرفوا أنفسهم بالجرم {بِذَنابِهِمْ} اختياراً بصرف قوامهم إلى سوء الاقتراف وهو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ورسله وقال بعضهم أفرد الذنب لأنه يفيد فائدة الجمع بكونه اسم جنس شامل للقليل والثكيرا وأريد به الكفر وهو وإن كان على أنواع فهو ملة واحدة في كونه نهاية الجرم واقتضاء الخلود الأبدي في النار {فَسُحْقًا} مصدر مؤكد إما لفلع متعد من المزيد بحذف الزوائد أي فأسحقهم الله أي أبعدهم من حرمته سحقاً أي إسحاقا وإبعاداً بسبب ذنبهم أو لفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله فسحقوا أي بعدوا سحقاً أي بعداً ويقال سحق الشيء مثل كرم فهو سحيق أي بعد فهو بعيد قيل هو تحقيق وقيل هو على الدعاء وهو تعليم من الله لعباده أن يدعوا عليهم به كما في التيسير ومعناه بالفارسية س دور كرد خداي تعالى دور كردنى ايشان را از رحمت خود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/65)
قال عضهم دعاء عليهم من الله إشعرا ً بأن المدعو عليهم مستحقون لهذا الدعاء وسيقع عليهم المدعو به من البعد والهلاك {لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} اللام للبيان كما في هيت لك والمراد الشياطين والداخلون من الكفرة وفيه إشارة إلى أن الله تعالى بعد أهل الجحاب من جنة القرب وقربهم من جهنم البعد {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} أي يخافون عذابه وهو عذاب يوم القيامة ويوم الموت ويوم القبر خوفاً وراء عيونهم حال كون ذلك العذاب غائباً عنهم ولم يعايتوه بعد على أن بالغيب حال من المضاف المقدر أو غائبين عنه تعالى أي عن معاينة عذابه وأحكام الآخرة أو عن أعين الناس لأنهم ليسوا كالمنافقين الذين إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون على أنه حال من الفاعل وهو ضمير يخشون أو بما خفي منهم وهو قلوبهم فالباء للاستعانة متعلقة يخيشون والألف واللام اسم موصول وكانوا يشمون من كبد أبي بكر الصديق رضي الله عنه رائحة الكبد امشوي من شد الخوف من الله تعالى وكان عليه السلام يصلي ولصدره ازيز كازيز المرجل من البكاء والأزيز الغليان وقيل صوته والمرجل قدر من نحاس {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم ولما كان السرور إنما يتم بالإعطاء قال {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي ثواب
85
عظيم في الآخرة فضلاً منه تعالى كيون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الآلام وتصغر في جنبه لذائذ الدنيا وهو الجنة ونعميها.
كفته اندايمنى از وشاديد ومكاره يعني مزد ثرسندكان امان باشد ازهر ه مى ترسند :
لا تخافوا مده ترسنده است
هركه مى ترسد مبارك بنده است
خوف وخشيت خاص دانيان بود
هركه دانانيست كي ترسان بود
ترسكارى رستكارى آورد
هركه درد آرد عوض درمان بود
فلا بد من العقل أو لا حتى يحصل الخوف ثانياً وكان بعض الأكاسرة وكانوا اعقل الملوك يرتب واحداً يكون وراءه بالقرب منه يقول إذا اجتمعت جنوده أنت عبد لا يزال يكرر ذلك والملك يقلو له كلما قاله نعم وهكذا حال من يعرف مكر النفس ويخاف الله بقلبه قال مسروق إن المخافة قبل الرجاء فإن الله تعالى خلق جنة وناراً فلن تخلصوا إلى الجنة حتى تمروا بالنار قال تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا} قال فضيل قدس سره إذا قيللك أتخاف الله فاسكت فإنك إذا قلت لا فقد جئت بأمر عظيم وإذا قلت نعم فالخائف لا يكون على ما أنت عليه ألا ترى إن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم عليه السلام ، خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى إن خفقان قلبه يسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء وقيل لفضيل بم بلغ بك الخوف الذي بلغ قال بقلة الذنوب فللخوف أسباب وأول الأمر العقل السليم ثم يصحل كما له بترك العصيان وذلك إن ترك المعصية وإن كان نتيجة الخوف لكن القلب يترقى في الرقة بترك المعصية فشيتد خوفه فقاسى القلب لا يعرف الخوف لأن عقله ضعيف مغلوب يقال العقل كالبعل والنفس كالزوجة والجسم كالبيت فإذا سلط العقل على النفس اشغلت النفس بمصالح الجسم كما تشتغل المرأة المقهورة مصالح البيت فصلحت الجملة وإن غلبت النفس كان سعيها فاسداً كالمرأة التي قهرت زوجها ففسدت الجملة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هرستاعتش قبله ديكرست
كرا جامه اكست وسيرت ليد
در دوزخش رانبايد كليد
وأسروا قولكم أو أجهروا به} ونهان سازيد سخن خودرا درشان يغمبر عليه السلام ، يا آشكارا كنيذد مرانرا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ، نزلت في المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشيا يعني درباب حضرت يغمبر سخنان ناشايسته كفتنى.
فيظهرالله رسوله عليها ، فقال بعضهم لبعض أسر وأقولكم كيلاً يسمع رب محمد فيخبره بما لو تقون فقيل لهم أسر وا ذلك او اجهروا به فإن الله يعلمه وأسرار الأقوال وأعلانها مستويان عنده تعالى في تعلق علمه والأمر للتهديد لا للتكليف وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرون من أول الأمر والمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسر ونه اقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلا وهو اومباديه مضمر في القلب
86(10/66)
يتعلق به الأسرار غالباً فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية {إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} مبالغ في الإحاصة بمضمرات جميع الناس وأسراهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلاً فكيف يخفى عليه ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور لكون تلك السر آثر عين علمه فيكف لا يعلم ضمائرها من خلقها وسواها وجعلها مرائي أسراره ولم يقل ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أي عليم بالمضمرات صاحبة الصدور وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه وجعلت صاحبة الصدور بملازمتها لها وحلولها فيها كما يقال للبن ذو الإناء ولولد المرأة وهو جنين ذو بطنها {أَلا يَعْلَمُ} آيانداند {مَنْ خَلَقَ} أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بحكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها فهو إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه تعالى بالمضمر والمظهر ومن فاعل يعلم ويجوز أن يكونمنصوباً لعى أنه مفعول يعلم والعئاد محذفو أي ألا يعلم الله من خلقه {وَهُوَ}
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
أي والحال إنه تعالى وحده {اللَّطِيفُ} العالم بدقائق الأشياء يرى إثر النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء {الْخَبِيرُ} العالم ببواطنها قال القاشاني هو المحيط ببواطن ما خلق وظواهره بل هو هو في الحقيقة باطناً وظاهراً لا فرق إلا بالوجوب والإمكان والإطلاق والتقييد واحتجاب الهيوة بالعندية والحقيقة بالشخصية فإن قلت : ذكر الخبير بعد اللطيف تكرار قلت لا تكرار فيه فإنه قال الامام الغزالي رحمه الله : إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها وما لطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلاتعالى والخبير هو الذي لا يعب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها وهو بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خبرة ويسمى صاحبها خبيراً قال بعضهم : كنا جماعة من الفراء فأصابتنا فاقة ومجاعة فذهبنا إلى إبراهيم الخواص قدس سره وقلت في نفسي أباسط الشيخ في أحوالي وأحوال هؤلاء الفقراء فلما وقع بصره على قال لي الحاجة التي جئتني فيها الله عليم بها أم لا فارفعها إليه فسكت ثم انصرفنا فلما وصلنا إلى المنزل فتح علينا بشي وإذا علم العبد إنه مطلع على سره عليم بخفي ما في صدره يكتفي من سؤاله برفع همته إليه وإحضار حاجته في قلبه من غير أن ينطق بلسانه والله لطيف بعباده ومن لطفه بهم إنه يوصل إليهم ما يحتاجون إليه بسهولة فمن قوته رغيف لو تفكر فيه يعلم كم عين سهرت فيه من أول الأمر حتى تم وصلح للأكل من الحارث والباذر للذر والحاصد والد آئس والمذري والطاحن والعاجن والخابز ويتشعب من ذلك الآلات اتي تتوقف عليها هذه الأعمال من الأخشاب ولحجارة والحديد والحبال والدواب بحيث لا تكاد تنحصر وهكذا كل شيء ينعم به على عبده من مطعوم
87
ومشروب وملبوس فيه مقدمات كثيرة لو احتاج العبد إلى مباشرتها بنفسه لعجز عن ذلك ومن سنة الله سبحانه حفظ كل لطيفة في طي كل كثيفة كصيانة الودائع في المواضع المجهولة ألا ترى أنه جعل التراب الكثيف معدن الذهب والفضة ويرهما من الجواهر والصدف معدن الدلار والذباب معدن الشهد والدود معدن الحرير وكذا جعل قلب العبد محلاً ومعدنا لمعرفته ومحبته وهو مضغة لحم فالقلب خلق لهذا لا لغيره فعلى العبد أن يطهره عن لوث التلعق بما سوى الله فإن الله تعالى لطف به بإيجاده ذلك القلب في جوفه وصوف نفسه بأنه لطيف خبير مطلع على ما في الباطن فإذا كان هو المنظر الإلهي وجب تخليته عن الأفكار والأغيار وتحليته بأنواع المعارف والعلوم والأسرار وتجليته بتجلي الله املك العزيز الغفار بوجوه أسمائه وصفاته بل بعين ذاته نسأل الله تعالى نواله وأن يرينا جماله
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/67)
{هُوَ} وحده {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ} أي لمنافعكم {الارْضَ} اختلفوا ف مبلغ الأرض وكميتها فروى عن مكحول إنه قال ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر ومائتان ليس يسكنها أحد وثمانون فيها يأجوج ومأجوج وعشرون فيها سائر الخلق وعن قتادة إنه قال الدنيا إن بسيطها من حيث يحيط بها البحر المحيط أربعة وعشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ وملك العجم والترم ثلاثة آلاف فرسخ وملك العرب ألف فرسخ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، إنه قال : ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس وقد خرج بطليموس مقدار قطر الأرض واستدارتها في المجطي بالتقريب وهو كتاب له يذكر فيه القواعد التي يتوسل بها في إثبات الأوضاع الفلكية والأرضية بأدلتها التفصيلية قال استدارة الأرض مائة ألف وثمانون ألف ساطاربوس وهي أربعة وعشرون ألف ميل فتكون على هذا الحكم ثمانية اف فرسخ والفرسخ ثلاثة يال والميل ثلاثة آلاف ذراع بالمكي والذراع ثلاثة أشبار وكل شبر اثنتا عشرة أصبعاً والأصبع خمس شعيرات مضمومات بطون بعضها إلى بعض وعرض الشعيرة الواحدة ست شعرات من شعر بغل والاسطاربوس أربعمائة ألف ذراع قال وغلظ الأرض وهو قطرها سبعة آلاف وستمائة وثلاثون ميلاً يكون الفين وخمسمائة فرسخ وخمسة وأربعين فرسخاً وثلثي فرسخ قال فبسيط الأرض كلها مائة واثنان وثلاثون ألف ألف وستمائة ألف ميل فيكون مائتي ألف وثمانية آلاف فرسخ قال صاحب الخريدة فإن كان ذلك حقاً فهو وحي من الحق أو الهام وإن كان قياساً واستدلالاً فهو قريب أيضاً من الحق وأما قول قتادة ومكحول فلا يوجب العلم اليقيني الذي يقطع على الغيب به انتهى {ذَلُولا} أي لينة منقادة اية الانقياد لما تفهمه صيغة المبالغة يسهل عليكم السلوك فيا لتتوصلوا إلى ما ينفعكم وبالفارسية نرم ومناقدتا آسان باشد سير شماربران.
ولو جعلها صخرة خشنة تعسر المشي عليا أو جعلها لينة منبتة يمكن فيها حفر الآبار وشق العيون والأنهار وبناء الأبنية وزرع الحبوب وغرس الأشجار ولو كانت صخرة صلبة لتعذر ذلك ولكانت حارة في الصيف جداً وباردة في الشتاء فلا تكون كفاتاً للإحياء والأموات وأيضاً ثبتها بالجبال الراسبات كيلا
88
تتمايل وتنق بأهلها ولو كانت مضطربة متمايلة لما كان منقادة لنا فكانت على صورة الإنسان الكامل في سكوتها وسكونها وكانت هي وحقائقها في مقابلة القلم الأعلى والملائكة المهيمة والحاصل إن الله تعالى جعل الأرض بحيث ينتفع بها وقسمها إلى سهول وجبال وبراري وبحار وأنهار وعيون وملح وعذب وزرع وشجر وتراب وحجر ورمال ومدر وذات سبع وحيات وفارغة وغير ذلك بحكمته وقدرته قال سهل قدس سره خلق الله الأنفس ذلولاً فمن أذلها بمخالفتها فقد نجاها من الفتن والبلاء والمحن ومن لم يذلها وأتبعها أذلته نفسه وألكته يقال دابة ذلول بينة الذل أو هو بالكسر اللين والانقياد وهو ضد الصعوبة فالذلول من كل شي المنقاد الذي يذل لك وبالضم الهوان ضد العز قال الراغب الذل ما كان عن قهر يقال ذل يذر ذلاً والذل ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر يقال ذل يذل ذلاً وجعلهما البيهقي في تاج المصادر من الباب الثاني حيث قال في ذلك الكتاب والباب الذل خورشدن والذل رام شدن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/68)
وكذا في مختار الصحاح وجعل صاحبا لقاموس الذل ضد الصعوبة بالضم والكسر والذل بمعنى الهوان بالضم فقط والذلول فعول بمعنى الفاعل ولذا عرى عن علامة التأنيث مع أن الأرض مؤنث سماعي {فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا} الفاء لترتيب الأمر على الجعل المذكور وهو أمر إباحة عند بعض أي فاسلكوا في جوانبها وخبر في صورة الأمر عند آخرين أي تمشون في أطرافها من حيث أي منكبي الرجل جانباه فشبه الجوانب بالمناكب وإذا مشوا وساروا في جوانبها وأطرافها فقد أحاطوا بها وحصل لهم الانتفاع بجميع ما فيها قال الراغب المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف ومنه استعير للأرض في قوله فامشوا في مناكبها كاستعارة الظهر لها في قول ما ترك على ظهرها انتهى أو في جبالها وشبهت بالنماكب من حيث الارتفاع وكان لبشر بن كعب سرية فقال لها أن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة فقالت مناكبها جبالها فصارت حرة فأراد أن يتزوجها فسال أبا الدرداء رضي الله عنه فقال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وهو مثل لفظ التذليل ومجاوزته الغاية أي تذليل البعير لا مطلقاً كما في حواشي سعدي المفتي فإن منكب البعير أرق أعضائه وأنباها عنأن يطاها الراكب بقدمه فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبق منها شيء لم يتذلل فخرج الجواب عن وجه تصخيص المشي في الجبال على تقدير أن يراد بالهماكب الجبال لكن من الجبال ما يتعذر سلوكها كجبل السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج ورد في الحدي إنه تزالق عليه الأرجل ولا تثبت ومنها ما يشق سلوكها وإنما لم تعتبر لندرتها قولتها فوي التأويلات النجمية : هو الذي جعل لكم أرض البشرية ذلولاً منقادة فخذوا من أرضها بقدر الحاجة منأعاليها وأسافلها من اللذات الجسمانية المباحة لكم بحكم الشرع لتقوية أبدانكم وتهيئة أسباب طاعاتكم وعباداتكم لئلا تضعف بالكلية وتكل عن العبادة {وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} والتمسوا من نعم الله تعالى فيها من الحبوب والفواكه ونحوها والأمر إن كان أمر إباحة فالرزق ما يكون حلالاً وإنك ان خبراً في صورة الأمر بمعنى تأكلون فيجوز أن
89
يكون شاملاً للحرام أيضاً فإنه من رزقه أيضاً وإن كان التناول منه حراماً {وَإِلَيْهِ} أي إلى الله وحده {النُّشُورُ} أي المرجع بعد البعث فبالغوا في شكر عمه يقال نشر الله الميت نشراً إحياء بعد موته ونشر الميت بنفسه نشوراً فهو يتعدى ولا يتعدى كرجعه رجعاً ورجع بنفسه رجوعاً إلا أنا الميت يحتى بنفسه بدون إحياء الله إذ هو محال {ءَأَمِنتُم} آيا ايمن شديد اي مكذبان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
وهو استفهام توبيخ فالهمزة الألوى استفهامية والثانية من نفس الكلمة {مِنَ} موصولة {فِى السَّمَآءِ} أي الملائكة الموكلين بتدبير هذا العالم أو الله سبحانه على تأويل من في السماء أمره وقضاؤه وهو كقوله تعالى : [الأنعام : 3-16]{وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرْضِ} وحقيقته ءامنتم خالق السماء ومالكها قال في الأسئلة خص السماء بالذكر ليعلم إن الأصنام التي في الأرض ليست بآلهة لا لأنه تعالى في جهة من الجهات لأن ذلك من صفات الأجسام وأراد أنه فوق السماء والأرض فوقية القدرة والسلطنة لا فوقية الجهة انتهى.
على أنه لا يلزم من الإيمان بالفوقية الجهة فقد ثبت فانظر ماذا ترى وكن مع أهل السنة من الورى كما في الكبريت الأحمر للإمام الشعراني قدس سره وإما رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء فلكونها محل البركات وقبلة الدعاء كما إن الكعبة قبلة الصلاة وجناب الله تعالى قبلة القلب ويجوز أن تكون الظرفية باعتبار زعم العرب حيث كانوا يزعمون إنه تعالى في السماء أي ءامنتم من تزعمون إنه في السماء وهو متعال عن المكان وفي فتح الرحمن هذا المحل من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ونؤمن به ولا نتعرض لمعناه ونكل العلم فيه إلى الله قوله من في السماء في موضع النصب على أنه مفعول أمنتم أن يخسف بكم الأرض} بعدما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها وتأكلون من رزقه لكفارنكم تلك النعمة أي يقلبها ملتبسة بكم فيغيبكم فيها كما فعل باقرون وهو بدل اشتمال من من أي ءامنتم من في السماء خسفه والباء للملابسة والخسف بزمين فرو بردن.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص90 حتى ص99 رقم10
والخسوف بزمين فروشدن.
والمشهور إن الباء في مثل هذا الموضع للتعدية أي يدخلكم ويذهبكم فيها وبالفارسية فرو رد شمارا بزمين.
قال الجوهري خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض خسفاً غاب به فيها وفي القاموس أيضاً خسف الله بفلان الأرض غيبه فيها {فَإِذَا هِىَ} س آنكاء زمين اس زفرو بردن شمابوى {تَمُورُ} قال في القاموس المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك أي تضطرب ذهاباً ومجيئاً على خلاف ما كانت عليه من الذل والاطمئنان وقال بعضهم فإذا الأرض تدور بكم إلى الأرض السفلى وبعضهم تنكشف تارة للخوض فيها وتلتئم أخرى للتعذيب بها {أَمْ أَمِنتُم} يا ايمن شديد.(10/69)
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
وهو انتقال إلى التهديد بوجه آخر {مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل أي أم أمنتم من في السماء إرساله على أن قوله أن يرسل بدل من من أيضاً والمعنى هل جعل لكم من هذين أمان واذلا امان لكم منهما فمعنى تماديكم في شرككم {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريب البتة {كَيْفَ نَذِيرِ} أي انذاري عند مشاهتدكم للمنذر به أهو واقع أم لا أشديد أم ضعيف
90
يعني حين حققتم المنذر به تعلمون إنه لا خلف لخبري وإن عذابي لشديد وإنه لا دفع عنه ولكن لا ينفعكم لعلم حينئذٍ فالنذير وكذا النكير الآتي مصدران بمعنى الإنذار والإنكار وأصلهما نذيري ونكيري بياء الإضافة فحذفت اكتفاء بكسر ما قبلها قال في برهان القرآن خوفهم بالخسف أولاً لكونهم على الأرض وإنها أقرب إليهم من السماء ثم بالحاصب من السماء فلذلك جاء ثانياً.
يقول الفقير أشارت الآية الأولى على ما ألهمت في جوف الليل إلى إن الاستتار تحت اللحاف وعدم النهوض إلى الصلاة والمناجاة وقت السحر عقوبة من الله تعالى على أهل الغفلة كالخسف ولذا لما قام بعض العارفين متهجداً فأخذه البرد وبكى من العرى قيل له من قبل الله تعالى أقمناك وانمناهم فتبكى علينا يعين إن إقامتك وإنامة الغافلين نعمة لك ونقحة لهم فاشكر عليها ولا تجزع من العرى فإن بلاء العرى اهون من بلاء لغفلة واشارت الآية الثانية إلى نزول المطر الشديد من السماء فإه ربما يمنع المتهجد عن القيام والاشتغال بالوضوء والطهارة فيكون غضباً في صورة الرحمة فعلى العاقل أن لا يضيع الوقت ويغتنم الفراغ قبل الشغل أيقظتنا الله وإياكم {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة كقوم نوح وعاد وأضرابهم والتفات إلى الغيبة لإبراز الإعراض عنهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة وهذا مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط وإنكار الله تعالى على عبده إن يفعل به أمراً صعباً وفعلاً هائلاً لا يعرف وفي لآية تسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتهديد لقومه {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي اغفلوا ولم ينظروا
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
{إِلَى الطَّيْرِ} فالرؤية بصرية لأنها تتعدى بإلى وإما القلبية فتعديتها بفي والطير يطلق على جنس الطائر وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء إما لكون جمعه في الأصل كركب وراكب أو صمدره جعل اسماً لجنسه فباعتبار تكثره في المعنى وصف بصافات وفي المفردات إنه جمع طائر {فَوْقَهُمْ} يجوز أن يكون ظرفاً ليروا وأن يكون حالاً من الطير أي كائنان حوفهم {صَافَّاتٍ} حال من الطير والصف أن يجعل الشيء على خط مستو كاناس والأشجار ونحو ذلك ومفعلو صافات وكذا يقبضن إنما هو أجنحة الطير لا أنفسها والمعنى باسطات أجنحتهم في الجو عند طير إنها فإنهن إذا بسطتها صففن قوادمها صفا وقوادم الطير مقاديم ريشه وهي شعر في كل جناح الواحدة قادمة {وَيَقْبِضْنَ} ويممنها إذا ضربن بما جنوبهن حينا فحينا للاستظهار به على التحرك وهو الشر في إيثار يقبضن الدال على تجدد القبض تارة بعد تارة على قابضات فإن الطير إن في الهواء كالسباحة في الماء فكما إن الأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها فكذا الأصل في الطيران صف الأجنحة وبسطها والقبض إنما يكون تارة بعد تارة للاستظهار المذكور كما في السابح قال ابن الشيخ ويقبضن عطف على صافات لأنه بمعنى وقابضات وإلا لما عطف الفعل على الاسم {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو وما يأخذهن عن السقوط عند الصف والقبض على خلاف مقتضى الطبع الجسماني فإنه يقتضي الهبوط إلى السفل {إِلا الرَّحْمَانُ} الواسع رحمته كل شيء بأن برأهن على أشكال وخصائص وهيأهن للجري في الهواء {إِنَّه بِكُلِّ شَىْءا بَصِيرٌ} يعلم إبداع المبدعات وتدبير العجائب والبصير هو الذي يشاهد
91
ويرى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وهو في حقه تعالى عبارة عن الوصف الذي به ينكشف كال نعوت المبصرات فالبصر صفة زائدة على علمه تعالى خلافاً للقدرية فمن عرف هذه الصفة كان المراد به دوام المرقابة ومطالبة النفس بدقيق المحاسة والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/70)
حكى) إن بعض الملوك كان له عبد يقبل عليه أكثر مما يقبل على أمثالها ولم يكن أحسن منهم صورة ولا أكثر منهم قيمة فكانوا يتعجبون من ذلك فركب الملك يوماً إلى الصحراء ومعه أصحابه وعبيده فنظر إلى جبل بعيد عليه قطعة ثلج نظرة واحدة ثم اطرق فركض ذلك العبد فرسه من غير أن ينظر الملك إليه ولا أشار بشيء من ذلك ولم تعلم الجماعة لأي شيء ركض فرسه فما لبث إلا ساعة حتى عاد ومعه شيء من الثلج فقيل له بم عرفت إن الملك أراد الثلج فقال لأنه نظر إليه ونظر الملوك إلى شيء لا يكون عبثاً فقال الملك لهذا أقر به وأقدمه عليكم فإنكم مشغولون بأنفسكم وهو مشغول بمراقبة أحوالي وفي التأويلات النجمية : بشير إلى طيران الأرواح العلوية المخلوقة قبل الأجساد بألفي عام الباسطات الأجنحة الروحانية القابضات القوادم الجسمانية من العوالم.
الهيولانبة ما يمسكهن إلا الرحمن المشتمل على الاسم الحفيظ وبه يمسكها فيج و سماء القدرة إنه بكل شيء بصير يعلم كيف يخلق الأشياء الغريبة وكيف يدبر الأمور العجيبة {أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَانِ} لصله أم من على أن أم منقطعة مقدرة ببل المفيدة للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك والاستفهام متوجه إلى تعيين الناظر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه ولا سبيلي هنا إلى تقدير الهمزة مع بل لأن ما بعدها من الاستفهامية ولا يدخل الاستفهام على الاستفهام ومن مبتدأ وهذا خبره والموصول مع صلت صفته وإيثار هذا لتحقير الشمار إليه وينصركم صفة لجند بالاعتبار لفظه والجند جمع معد للحرب والمنى بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم وعسكر وعون من آلهتكم وغيرها ينصركم عند نزول العذاب والآفات متجاوزا نصر الرحمن فمن دون الرحمن حال من فاعل ينصركم ودون بمعنى غيرأ وينصركم نصراً كائناً من دون نصره تعالى على أنه نعت المصدره أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله على إنه متعلق بيصنركم وقد تجعل من موصولة مبتدأ وهذا مبتدأ ثانياً والموصول مع صلته خبره والجملة سلة من بتقدير القول وينصركم وأم منقطعة أو متصلة والقرينة محذوفة بدلالة السياق على أن يكون المعنى الله الذيل هذه الأوصاف الكاملة والقدرة الشاملة ينصركم وينجيكم من الحسف والحصب إن أصابكم أم الذي يشار إليه ويقال في حقه هذا الذي تزعمون إنه جند لكم ينصركم من دون الله وإيثار الرحمن للدلالة على أن رحمة الله هي المنجية من عضبه لا غير قال القاشاني أي من يشار إليه ممن يستعان به من الأغيار حتى الجوارح والآلات والقوى وكل ما ينسب إليه التأثير والمعونة من الوسائط فيقال هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن فيرسل ما أمسك من النعم الباطنة والظاهرة أو يمسك ما أرسل من النعم المعنوية والصورية لو يحصل لكم ما منع ولم يقدر لكم أو يمنع ما أصابكم به وقدر عليكم
92
جزء : 10 رقم الصفحة : 72(10/71)
{إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ} إن نافية بمعنى ما أي ما هم في زعمهم إنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظة تعالى فقط أو أن آلهتهم تحفظهم من بأس الله إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذن باقتضاء حالهم الأعراض عنهو بيان قبائحهم لغيرهم والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به {أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ} يعطيكم الرزق {إِنْ أَمْسَكَ} الرحمن وحبس {رِزْقَهُ} بإمساك المطر ومباديه ولو كان الزق موجوداً أو كثيراً وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسكعنه قوة الابتلاع عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة وإعرابه كإعراب ما سبق والمعنى على تقدير كون من موصولة الله الرزاق ذو القوة المتين يرزقكم أم الذي يقال في حقه هذا الحقير المهين الذي تدعون إنه يرزقكم قال بعض المفسرين كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ويعاندون الرسول عليه السلام ، معتمدين على شيئين أحدهما : اعتمادهم بمالهم وعددهم والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيارت وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله أممن هذا الذي هو جند لكم الخ ورد عليهم الثاني بقوله اممن هذا الذي يرزقكم الخ {بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} مبنىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا في عتواي عناد واستكبار وطفيان ونفور أي شراد عن الحق وتباعد وإعراض لمضادتهم الحق بالباطل الذي أقاموا عليه فاللجاج التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه والعتو والتجاوز عن الحد والنفور الفرار ففيه تحقير لهم وإشارة إلى أنهم (حمر مستنفرة فرت من قسورة) يعني كوييا ايشان خران وحشى اندر ميدكن كه كريخته باشند از شيريا از صياد ياريسمان دام يا مردم تيرانداز يا آو ازهاى مختلف.
كسى راكه ندار درسر بود
مندار هركزكه حق بشنود
{أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِه أَهْدَى} الخ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحاً لحالهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حالهم وتقديم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضائها الصدارة وإما بحسب المعنى فالأمر بالعكس حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي مكباً والمكب الساقط على وجهه وحقيقته صار ذاكب ودخل في الكب وكبه قليه وصرعه يعني اسقطه على وجهه ولا يقال اكبه فإن اكب لازم وعند صاحب القاموس لازم ومتعد ومكبا حال من فاعل يمشي والمعنى فمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلال قواه أشد هداية ورشدا إلى المقصد الذي يؤمه قال في المناسبات لم يسم سبحانه لمشيانه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك ولما كان ربما صادق السهل لا عن بصيرة بل عن اتفاق قال أهدى أي أهو أهدى أم من {يَمْشِى سَوِيًّا} أي قائماً سالماً من الخبط والعثار {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} مستوى الأجزاء لا عوج فيه ولا انحراف وقيل المكب كناية عن الأعمى لأنه لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف يعني بي راه ميرود فيلزمه إن يكب على وجهه بخلاف البصير السوي.
93
فرقست ميان آنكه از روى يقين
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
باديده بينا روداندرره دين
با آنكه دوشم بسته بي دست كسى
هركوشه همي رود بظن وتخمين
وقال قتادة هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله على وجهه إلى النار في العقبى والمؤمن استقام على أمر الله في الدنيا فحشره الله على قدميه إلى الجنة في الآخرة وقيل للنبي عليه السلام ، وكيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشهم على وجوههم وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يظهر للإنسان يوم القيامة ما أبطن اليوم خيراً أو شراً.
سيرتي كاندر وجودت غالبست
هم بران تصوير حشرت واجبست(10/72)
قال القاشاني : أفمن يمشي منتكساً بالتوجه إلى الجهة السفلية والمحبة للملاذ الحسية والانجذاب إلى الأمور الطبيعية أهدى اممن يمشي مستوياً منتصباً على صراط التوحيد الموصوف بالاستقامة التامة التي لا توصف فالجاهل المحجوب الطالب للدنيا المعرض عن المولى الأعمى عن طريق الحق مكبوب على وجه الخجلة بواسطة ظلمة الغفلة والعارف المحقق التارك للدنيا المقبل على المولى المبصر البصير لطريق الحق ماش سوياً بالظاهر والباطن على طريق التوحيد الذي لا فيه امت ولا عوج {قُلْ} يا أفضل الخلق {هُوَ} تعالى وحده {الَّذِى أَنشَأَكُمْ} أيها الكفار كما دل عليه السباق والسياق ويندج فيه الإنسان الغافل أيضاً أي أنشأكم آنشاء بريعا قابلاً لجمع جميع الحقائق الإلهية والكيانية وابتدأ خلقكم على أحسن خلق بأن صوركم فأحسن صوركم {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} وأعطى لكم الأذن لتسمعوا آيات الله وتعملوا بمو جبها بل لتسمعوا الخطابات الغيبية من ألسنة الموجودات بأسرها فإنها كلها تنطق نطق الإنسان كما قال الله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم قيل لبرز جمهر من أكمل الناس قال من لمي جعل سمعه غرضاً للفحشاء وقدم السمع لأنه شرط النبوة ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم ولأن فوائد السمع أقوى بالنسبة إلى العوام وإن كانت فوائد البصر أعلى بالنسبة إلى الخواص ولأن السمع مرتبة الخطاب عند انفتاح باب القلب والبصر مرتبة الرؤية ولا شك إن مرتبة الخطاب أقدم بالنسبة إلى مرتبة الرؤية لأن مرتبة الرأية هي مرتبة لتجلى فهي نهاية الأمر ألا ترى أنه لعيه السلام ، سمع قبل النبوة صوت إسرافيل ولم ير شخصه وإما بعدها فقد رأى جميع لملائكة وأم لهم ليلة المعراج عند السدرة بل ورأى الله تعالى بلا كيف فترقى من مرتبة الخطاب التي هي مرتبة الوي إلى مرتبة التجلي التي هي مرتبة الموحى
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
{وَالابْصَارَ} لتنظيروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى ولتبصروا جميع مظاهره تعالى في غاية الكمال ونهاية الإتقان {وَالافْاِدَةَ} لتتفكر وابها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية وترتقوا في معارج الإيمان والطاعة بل التقبلوا بها الواردت القلبية والإلهامات الغيبية قال في القاموس التقؤد التحرق والتوقد ومنه الفؤاد للقلب مذكر والجمع أفئدة انتهى.
وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن العلوم والمعارف بها تحصل كما في كشف الأسرار ولأن القلب كالحوض حيث ينصب إليه ما حصل من طريق السمع والبصر {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ}
94
أي باستعمالها فيما خلت لأجله من الأمور المذكورة وقليلاً نعت لمحذوف وما مزيدة لتأيد القلة أي شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تشكرون وقيل القلة عبارة عن العدم قال سعدى المفتي القلة بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة أو بمعناها المعروف إن كان للكل يقال قلما افعل كذا أي لا أفعله قال بعضي العارفين :
لو عشت ألف عام
في سجدة لربي
شكر الفضل يوم
لم اقض بالتمام
والعام ألف شهر
والشهر ألف يوم
واليوم ألف حين
والحين ألف عام
قال بعضهم : من وظائف السمع في الشكر التعلم من العلماء والحكماء والإصغاء إلى الموعظة ونصح العقلاء والتقليد لأهل الحق والصواب ورد أقوال أهل البدعة والهوى ومن وظائف الأبصار فيه النظر إلى المصاحف وكتب الدين ومعابد المؤمنين ومسالك المسلمين وإلى وجوه العلماء والصالحين والفقراء والمساكين بعين الرحمة والتفات المحسنين إلى المصوهات ونظر أصحاب اليقين وأرباب الشوق والذوق والحنين إلى غير ذلك مما فيه خير.
زبان آمد از بهر شكر وساس
بغييبت نكر داندش حق شناس
كذركاه قرآن وندست كوش
به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دو شم ازى صنع بارى نكوست
زعيب برادر فروكير ودوست
بهايم خموشنده وكويا بشر
را كنده كوى از بهايم بتر
بنطق است وعقل آدمى زاده فاش
و طوطى سخن كوى رنادان مباش
ببد كفتن خلق ون دم زدى
اكر راست كويى سخن هم بدى
ترا آنكه شم ودهان داد وكوش
اكر عاقلي درخلافش مكوش
مكن كردن ز شكر منعم مي
كه روزسين سر بر آرى بهي
ومن وظائف الأفئدة الفكر في جلال الله وكماله وجماله ونواله والخوف والرجاء منه والمحبة له والاشتياق إلى لقائه والمحبة لأنبيائه وأوليائه والبغض لأعدائه والنظر في المسائل والدلائل والاهتمام في حوائج العيال ونحو ذلك مما فيه فائدة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
صيقلى كن دلت بنور جمال
تاكه حاصل شود جميع كمال(10/73)
{قُلْ} يا أكمل الخلق {هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرْضِ} أي حلقكم وكثركم فيها لا غيره من الذرء وهو بالفارسية آفريدن قال في القاموس ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين {وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره اشتراكاً أو استقلالاً {تُحْشَرُونَ} حشراً جسمانياً أي تجمعون وتبعثون للحساب والجزاء شيئاً فشيئاً إلى البرزخ دفعة واحدة يوم البعث فابنوا أموركم على ذلك ختم الآية بقوله وإليه تحشرون فبين أن جميع الدلائل المذكورة إنما كان لإثبات هذا المطلوب {وَيَقُولُونَ} من فرط عنادهم واستكبارهم أو بطريق الاستهزاء كما دل عليه هذا في قوله {مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ} أي الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى : [الملك : 24 ، 25]{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فالوعد بمعنى الموعود والمشار إليه الحشر وقيل ما حو فوابه من الخسف والحاصب واختيار لفظ المستقبل إما لأن المقصود بيان ما يوجد من الكفار
95
من هذا القول في المستقبل وإما لأن المعنى وكانوا يقولون إن كنتم صادقين} يخاطبون به النبي والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه السلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجوبا الشرط محذوف أي إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته {قُلْ} يا اعلم الخلق {إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقته {عِندَ اللَّهِ} الذي قدر الأشياء ودبر الأمور لا يطلع عليه غيره {وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} مخوف ظاهر بلغة تعرفونها ومظهر للحق كاشف عن الواقع ائذركم وقوع الموعود لام حالة وإما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه أخفى الله علمه في عباده وعن عباده وكل يتبع أمره على جهة الاشتباه لا يعلم ما سبق له وبما ذايختم له وذلك قوله تعالى : [الملك : 26 ، 27]{قُلْ إِنَّمَا} .
.
الخ.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} الفاء فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترييب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه أي رؤية بصرية فلما رأوه نزل الأمر الغير الواقع منزلة الواقع التحققه {زُلْفَةً} حال من مفعول رأوا الآن رأى من رؤية البصر كما أشير إليه آنفاً إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفاً وقرب الحشر هو قرب ما دلهم فيه {سِيائَتْ} بد كردد وزشت شود {وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بأن شيتها الكآبة ورهقها القتر والذلة وخص الوجوه بالذكر لأن الوجه هو الذي يظهر عليه أثر المسرة والمساءة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل المساءة به وأصل الكلام ساءت رؤية الموعود وجوههم فكانت كوجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب والسياءة من ساءه الشيء يسوءه سوأ ومساءة نقيض سره كما في تاج امصادر السوء غمكين كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
ثم بنى للمفعول وفي القاموس ساءه فلع به ما يكره فيكون متعدياً ويجوز أن يكون لازماً بمعنى قبح ومنه ساء مثلاً وسيء إذا قبح قال بعض المفسرين وأهل اللغة ومنه الآية فالفعل في الحقيقة مسند إلى أصحاب الوجوه بمعنى ساؤا وقبحوا قال بعضهم المحجوبين مع اعترافهم بالإبداء منكرون للإعادة فلا جرم يسوء وجوههم رؤية ما ينكرونه وتعلوها الكآبة ويأتيهم من العذاب الأليم ما لا يدخل تحت الوصف {وَقِيلَ} توبيخاً لهم وتشديداف لعذابهم بالنار الروحانية قبل الإحراق بالنار الجسمانية والقائلون الزبانية وإيراد المجحول لكون المراد بيان المقول لا بيان القائل {هَاذَا} مبتدأ أشير به إلى ما رأوه زلفة وخبره قوله {الَّذِى كُنتُم بِه تَدَّعُونَ} أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكاراً واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء على هذا صلة الفعل يال دعا بكذا إذا استدعاه وقيل هو من الدعوى أي كنتم بسبب ذكر النبي عليه السلام ، والمؤمنين العذاب لكم يوم القيامة تدعون إن لا بعث ولا حشر ولا عذاب ، فالباء للسببية ويجوز أن تكون للملابسة وعن بعض الزهاد إنه تلاها في أول الليلة في صلاته فبقي يكررها وهو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر هذه معاملة العارفين بجلال الله مع الله عند ملاحظة جبروته وقهره {قُلْ} يا خير الخلق {أَرَءَيْتُمْ} أي أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية قال بعضهم : لما كانت الرؤية سباً للأخبار عبر بها عنه وقال بعضهم : لما كان الأخبار قوياً بالرؤية شاع أرأيت في معنى أخبر {إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ} أي أماتني
96(10/74)
والتعبير عنه بالإهلاك لما كانوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنون بالهلاك ويتر بصون به ريب المنون ويقولون إن أمر محمد لا يتم ولا يبقى بل يزول عن قريب {وَمَن مَّعِىَ} ومن المؤمنين وحصل مقصودكم بتأخير آجالنا وحصل مقصودنا فنحن في جوار رحمته متربصون لإحدى الحسنيني إما أن يهلك فننقلب إلى الجنة أو نرحم بالنصرة وإلا دالة للإسلام كما نرجو فأنتم ما تصنعون وأي راحة لكم في موتنا وأي منفعة وغايتكم إلى العذاب كما قال تعالى {فَمَن} بس كيست آنكه او {يُجِيرُ} ينجى ويخلص قال في تهذيب المصادر الإجارة زينها دادان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
وفي القاموس إجاره انقده وأعاذه {الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مؤلم شديد إلا يلرلام أي لا ينجيكم منه أحد إذا نزل بكم سواء متنا أو بقينا إنا النجاة بالإيمان والعلم الصالح ووضع الكافرين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفي الإنجاء به وقال بعضهم كيف قال إن أهلكني الله الخ بعد علم إنه تعالى لا يهلك الأنبياء والمؤمنين قلت فيه مبالغة في التخويف كأنه قبل نحن معاشر الأنبياء والمؤمنين نخاف الله أن يأخذنا بذنوبنا فمن يمنعكم من عذابه وأنتم كافرون وكيف لا تخافون وأنتم بهذه المثابة من الإجرام فيكون معنى أهلكنا عذبنا بعذاب ومعنى رحمنا غفر لنا كما في الجلالين {قُلْ} يا أشفق الخلق {هُوَ الرَّحْمَانُ} أي الذي أدعوكم إلى عبادته مولى النعم كلها وموصلحا {بِه وَعَلَيْهِ} وحده لما علمنا إن كل ما سواه فأما نعمة أو منم عليه ولم نكفر به كما كفرتم على أن يكون وقوع آمنا مقدماً على تعريضاً للكفار حيث ورد عقيب ذكرهم {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فوضنا أمورنا لا عى غيره أصلاً كما فعلتم أتنم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم لعلمنا بأن ما عداه كائناً ما كان بمعزل من النفع والضر فوقوع عليه مقدماً يدل عى الاختصاص {فَسَتَعْلَمُونَ} يا كفار مكة عن قريب البتة عند معاينة العذاب {مِنَ} استفهامية أو موصولة {هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} منا ومنكم أي خطأ ظاهر وفي التأويلات النجمية : وعلى فيضه الأتم ولطفه الأعم توكلنا بكليتنا لا على غيره فستعلمون من هو في ضلال مبين أي من توجه إليه بالاستفاضة منها أو من أعرض عنه بالإنكار له {قُلْ} يا أكرم الخلق {أَرَءَيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أَصْبَحَ} اكر كرد.
فهو بمعنى صار {مَآؤُكُمْ} وكان ماء أهل مكة من بئرين بئر زمزم وبئر ميمون الحضرمي {غَوْرًا} خبر أصبح وهو مصدر وصف به أي غاثراً في الأرض بالكلية ذاهباً ونازلاً فيها وقيل بحيث لا تناله الدلاء ولا يمكن لكم نيله بنوع حيلة كما يدل عليه الوصف بالمصدر وبالفارسية فروورفته بزمين ننكه دست ودلو بدان نرسد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
يقال غار الماء نضب والضوب فرودشدن آب درز مين وفي المفردات الغور المنهبط من الأرض {فَمَن يَأْتِيكُم} على ضعفكم حينئذٍ {بِمَآءٍ مَّعِين} جارو بالفارسية س كيست آنكه بيارد براي شما آب جاري.
من عان الماء أو معن كلاهما بمعنى جرى أو ظاهر للعيون سهل المأخذ يعني تناله الأيدي فهو على هذا اسم مفعول من العين بمعنى الباصرة كبميع من البيع لعل تكرير الأمر بقل لتأكيد المقول وتنشيط المقول له فإن قلت كيف خص ذكر النعمته بالماء من بين سائد نعمه قلت لأن الماء أهون
97
موجود واعز مفقود كما في الأسئلة المقحمة.
ودر آثار آمده كه بعد از تلاوت اين آيت بايد كفت كه الله رب العالمين در تفسير زاهدي رحمه الله مذكور است كه زنديقي شنيدكه معلمي شاكرد خودرا تلين مى كرد فمن يأتيكم بماء معين واو جواب دادكه يأتي به المعول والمعين قال في القاموس المعول كمنبر الحديدة تنقربها الجبال انتهى شبانه نابينا شد هاتقي وهو من يسمع صوته ولا يرى شخصه آواز دادكه اينك كه آب شمه شم توغائر شد بكوتا بمعول ومعين بازآرند نعوذ بالله من الجراءة على الله وبيناته وترك حرمة القرآن وآياته وإنما عوقب بذهاب ماء عينيه لأن الجزاء من جنس العمل في المثنوى :
فلسفى منطقى مستهان
مى كذشت ازسوى مكتب آن زمان
ونكه بشنيد آيت اوزا نا سند
كفت ما اريم آبى بر بلند
تا بزخم بيل وتيزى تبر
آب را آريم ازستى زبر
شب بخفت وديد او يك شير مرد
زد طبانه هردو شمش كور كرد
كفت هان زين شمه شم أي شقى
باتبر نورى برآر را صادقي
روز برجست ودوشمش كورديد
نور فائض ازدو شمش نابديد(10/75)
وفي الحديث سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك قال في التيسير هي ثلاثون آية وثثمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، وألف وثلاثمائة واحد وعشرون حرفاً ، وفي حديث آخر وددت أن تبارك الذي بيده الملك في قلب كل مؤمن ، وكان عليه السلام لا ينام حتى يقرأ سورة الملك والم تنزيل السجدة وقال علي رضي الله عنه : من قرأها يجبيء يوم القيامة على أجنحة الملائكة وله وجد في الحسن كوجه يوسف عليه السلام ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ضرب بعض الصحابة خباءه على قبر وهو لا يشعر أنه قبر فإذا فيه إسان يقرأ سورة الملك فأتى النبي عليه السلام ، فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أعلم إنه قبر فإذا إنسان يقرأ سورة الملك فقال عليه السلام : هي المانعة أي من عذاب الله تعالى هي المنجية تنجيه من عذابا لقبر وكانوا يسمونها على عهد رسول الله عليه السلام ، المنجية وكانت تسمى في التوراة المانعة وفي الإنجيل الواقية قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤتى الرجل في قبره من قبل رأسه فيقال ليس لكم عليه سبيل إنه كان يقرأ على رأسه سورة الملك فيؤتى من قبل رجليه فيقال ليس لكم عليه سبيل إنه كان يقوم فيقرأ سورة الملك فيؤتى من قبل جوفه فيقال ليس لم عليه سبيل إنه وعى سورة الملك أي حفظها وأو دعها في جوفه وبطنه من قرأها في ليلة أو يوم فقد أكثر وأطاب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
يقول الفقير : سورة الملك عند أهل الحقائق هي سورة المام الذي يلي يسار القطب وينظر إلى عالم الشهادة وإليه الإشارت بقوله : ملك الناس فسر هذه السورة في أولها كما أن سر يس في آخرها وهو قوله تعالى : {فَسُبْحَانَ الَّذِى} .
.
الخ.
ولذا تقرأ عند المحتضر لأن
98
وقت الموت قبض الملكوت الذي هو الروح وهو بيده تعالى بقي الكلام في قراءة الموتى في قبورهم وهل يصلون وهل يتعلمون العلم بعد الموت فدل حديث ابن عباس رضي الله عنهما على القراءة وكذا ما أخرج السيوطي رحمه الله عن عكرمة رضي الله عنه إنه قال يعطي المؤمن مصحفاً يقرأ في القبر وأخرج عن سعيد بن جبير رحمه الله إنه رأى بعينه ثابتاً البناني رحمه الله ، يصلي في قبره حين سقطت لنبنة من قبره وكانوا يستمعون القرآن كثيراً من قبره وأخرج عنه الحسن البصري قدس سره إنه قال بلغني إن المؤمن إذا مات ولم يحفظ القرآن أمر حفظته أن يعلموه القرآن في قبره حتى يبعثه الله يوم القيامة مع أهله وذكر اليافعي رحمه الله إن مالك بن دينار ماتت له قبل توبته بنت لها سنتان فآها في المنام وهي تقول له يا أبت ألم يأن للذين آمنوا إن تخشع قلوبهم لذكر الله فبكى وقال يا بنية وأنتم تعرفون القرآن فقالت يا أبت نحن أعرف به منكم فكان ذلك سبب توبته ونقل الا م الشعراني فيك تاب الجواهر له عن بعض أهل الله إنه قال من أهل البرزخ من يخلق الله تعالى من همتهم من يعمل في قبورهم بغالب أعمالهم في الدنيا ويكتب الله لعبده ثواب ذلك العمل إلى آخر البزرح كما وقع لثابت البناني رحمه الله ، فإنهم وجدوا في قبره شخصاً على صورته يصلي فظنوا إنه هو وإنما هو مخلوق من همته وكذلك المثالات المتخليلة في صور أهل البزارخ لأهل الدنيا في النوم واليظة فإذا رأى مثال أحدهم فهو أما ملك خلقه الله تعالى من همة ذلك الولي وإما مثال أقامه الله تعالى على صورة لتنفيذ ما شاء الله تعالى من حوائج الناس وغيرا فأرواح إلا ولياً في البرزخ مالها خروج منه أبداً وإما أرواح الأنبياء عليهم السلام ، فإنها مشرفة على وجود النداي والآخرة انتهى.
وقال السيوطي رحمه الله : نقلاً عن بعض المحققين أن رسول الله عليه السلام رأى ليلة المعراج موسى عليه السلام ، قائماً يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة فالروح كانت هناك في مثال الدن ولها اتصال بالبدن بحيث يصلي في قبره ويرد على المسلم عليه وهو في الرفيق الأعلى ولاتنا في بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان ، وقد مثل بعضهم بالشمس في السماء وشعاعها في الأرض ، كالروح المحمدي يرد على من يصلي عليه عند قبره دائماً مع القطع بأن روحه في أعلى عليين وهو لا ينفك عن قبره كما ورد عنه قال الامام الغزالي رحمه الله تعالى والرسول عليه السلام ، له الخيار في طواف العوالم مع أرواح الصحابة رضي الله عنهم لقدر آه كثير من الأولياء وقال صدر الدين القنوي قدس سره : فمن ثبتت المناسبة بينه وبين الأرواح الكمل من الأنبياء والأولياء الماضيين اجتمع بهم متى شاء وتوجه توجهاً وجدانياً يقظة ومناماً انتهى.
99
جزء : 10 رقم الصفحة : 72
تفسير سورة القلم
مكية وآيها ثنتان وخمسون بالاتفاق
جزء : 10 رقم الصفحة : 99
جزء : 10 رقم الصفحة : 100(10/76)
{} أي هذه سورة ن أو بحق ، وهي هذه السورة اقسم الله بها على سبيل التأكيد في إثبات الحكم على ما عليه عادة الخلق مع ما فيه من بيان عظم شأن المقسم به وإلا فكما إنه تعالى لا يليق القسم بشأنه العالي فكذا لا يصح لغيره أن يكون مقسماً به والنون حرف واحد في الكتابة وثلاثة أحرف في التلفظ وقد قال عليه السلام : "من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف" أراد عليه السلام بالحرف ما يتهجى به فيرجى أن يعطي الله بلفظ ن ثلاثين حسنة لأنه مشتمل في التلفظ على نونين بينهما واو وقال بعضهم هو مفتاح اسم النور والناصر أو قسم بنصرة الله المؤمنين اعتباراً قوله تعالى : وكان علينا نصر المؤمنين وقال سهل قدس سره : النون اسم من أسماء الله تعالى وذلك إنه 5ا اجتمعت أوائل هذه السورة الثلاث الروحم ون يكون الرحمن وقيل فيه اته اسم من أسماء النبي عليه السلام كما في التكملة لعل هذه القائل أشار إلى قوله عليه السلام : "أول ما خلق الله نوري" فيكون النور اسمه عليه السلام ، فإن قلت فيلزم التكرار لأن القلم أيضاً من أسمائه كما قال أول ما خلق الله القلم قلت التغاير في العنوان بمنزلة التغاير في الذات فسمى عليه السلام ، باعتبار نورانيته نوراً وباعتبار إنه صاحب القللم قلما كما سمى خالدين وليد رضي الله عنه سيف الله المسلول لكونه صاحب سيف وقال بعضهم : هو لوح من نور أو اسم نهر في الجنة.
(وفي المفردات) النون الحوت العظيم ولذا قال عكرمة في الآية اقسم الله بالحوت الذي لطخ سهم نمرود بدمه لأن نمرود لما روى السهم نحو السماء عاد السهم مختضباً بدم سمكة في بحر معلق في الهواء فأكرم الله ذلك الحوت بأن اقسم به وأحل جنسه من غير ذكاة فإنه لا يحل إلا ميتتان السمك والجراد وفي معناهما ما يستحيل من الأطعمة كدود الفتاح والجبن فإنالاحتراز عنهما غير ممكن فأما إذا أفردت وأكلت فحكمها حكم الذباب والخنفساء والعقرب وكل ما لسي له نفس سائلة ولا سبب في تحريمه إلا الاستقذار ولو لم يكن لكان لا يكره وإن وجد شخص لا يستقذره لا يلتفت إلى خصوص طبعه فإنه التحق بالخبائت لعموم الاستقذار فيكره أكله كما لو جمع المخاط وشربه كره كما في الإحياء يقال : لو أريد به معنى الحوت كانت المناسبة بين المتعاطفين كما في ما بين كم الخليفة والف باذنجانة.
يقول الفقير المناسبة بينهما خفية لا يدركها إلا أهل الحقائق وهي أن كبد الحوت عذاء أهل الجنة قبل كل شيء فيجدون بعد أكله حياة أبدية في أبدانهم كما أن القلم يكتب به من العلوم مافيه حياة باقية لأرواحهم ولذا سمى جبريل روحاً لأنه كان يجبيء بالوحي الذي هو سبب لحياة القلوب والأرواح فيكون ن والقلم كمالماء والعلم ولا شك في ثبوت المناسبة التامة بينهما فالقياس الذي ذكره القائل باطل وقائل الباطل جاهل وقال بعضهم : هو اسم الحوت الذي احتبس يونس عليه السلام ، في بطنه ولذا أسماء الله تعالى ذا النون وقال بعضهم هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو في
100
بحر تحت الأرض السفلي اسمه ليوثاً أو يهموت بالياء المثناة التحتانية وفي عين المعاني لوثيا أو برهوت كما قال علي رضي الله عنه :
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
مالي أراكم كلكم سكوتا
والله ربي خلق البر هوتا
(10/77)
(روى) : إن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تتكهفأ كما تتكفأ السفينة أي تضطرب وتميل فبعث الله ملكاً فهبط حتى دخل تحت الأرض فوضعها على كاهله وهو كصاحب ما بين الكتفني ثم أخرج يديه إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها فاستقرت فلم يكن لقدمي الملك قرار فأهبط الله ثوراً من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ف قائمة فجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه على سنامه فبعث الله ياقوتة خضراء من الجنة غلظها مسيرة كذا ألف عام فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليها قدماً الملك وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض مشبكة إلى تحت العرش ومنخر الثور في ثقبين من تلك الياقوتة الخضراء تحت البحر فهو يتنفس في اليوم نفسين فإذا تنفس مد البحر وإذا رد النفس جزر البحر وهو ضد مد ولم يكن لقوائمه قرار فخلق الله كمكاما من الرمل كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقر عليه قوائم الثور ثم لم يكن للكمكام مستقر خلق الله حوتاً يقال له برهو فوضع الكمكام على وبر الحوت والوبر الجناح الذي يكون في وسط ظهره وذلك مزموم بسلسلة من القدرة كغلظ السموات والأرض مرار وانتهى إبليس لعنه الله إلى ذلك الحوت فقال له ما خلق الله خلقاً أعظم منك فلم لا تزيل الدنيا عن ظهرك فهم بشيء من ذلك فلسط الله عليه بقة في أنفه فشغلته وفي رواية بعث الله دابة قد حلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها فأذن لها فخرجت قال كعب فوالله الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وإنها لتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت قبل وأنبت الله من تلك الياقوتة جبل قاف وهو من زمردة وله رأس ووجه وأسنان وأنبت من جبل قاف الجبال الشواهق كما نبت الشجر من عروق الشجر وزعم وهب إن الحوت والثور يبتلعان ما ينصب من يماه الأرض في البحار فلذلك لا يؤثر في البحار زيادة فإذا امتلأت أجوافهما من المياه قامت القيامة وزعم قوم أن الأرض على الماء والماء على الصخرة على سنام الثور والثور على كمكام من الرمل متلبداً والكمكام على ظهر الحوت والحوت على الريح العقيم الريح على حجاب من ظلمة والظلمة على الثرى وقد انهى علم الخلائق إلى الثرى ولا يعلم ما وراء ذلك أحد إلا الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وهذه اُبار مما تزيد المرء بصيرة في دينه وتعظيماً لقدرة ربه وتحيرا في عجائب خلقه فإنصحت فما خلقها على الصانع القدير بعزيز وإن تكن من اختراع أهل الكتاب وتنميق القصاص فكلها تمثيل وتشبيه ليس بمنكر كذا في "خريدة العجائب".
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
وقال في كشف الأسرار) : بعض مفسران كفتند ماهيت برآب زير هفت طبقه زمين ما هي از كرانى بار زمين خم درخم كرديد بر مثال نون شدشكم بآب فروبرده وسراز مشرق برآورده وذنب ازمغرب وخواست كه ازكران بارى بنالد جبريل بانك بروى زد نان بترسيدكه كران بارىء زمين فراموش كردونا
101
بقيامت نياردكه بجنيد ما هي ون بار برداشت ونناليد رب العالمين او را دو تشريف داديكى آنكه بد وقسم ياد كرد محل قسم خداوند جهان كشت ديكر تشريف آنست كه كارد از حلق او برداشت همه جانور انرا بكارد ذبح كنند واورا نكنند تا عالميان بدانندكه هركه بار كشد رنج او ضياع نكنند اي جوانمرد اكر ماهى بار زمين كشيد بنده مؤمن بار امانت مولى كشيدكه وحملها الإنسان ما هي كه بار زمين برداشت از كار در عقوبت ايمن كشت ه عجب كه اكر مؤمن بار امانت برداشت از كارد قطيعت ايمن كردد {وَالْقَلَمِ} هو ما يكتب به والواو وللقسم على التقدير الأول وللعطف على الثاني والمراد قلم اللوح كما جاء في الخبران أول ما خلق الله القلم ونظر إليه فانشق بنصفين ثم قال له أجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك من الآجال والأعمال والأرزاق وهو القدر الذي يجب أن يؤمن بخيره وشره ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض وبعدما خلق القلم خلق النون أي السمكة فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات واضطراب النون فمادت اوآض فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة وقد عرفت المناسبة بين القلم وبين النون بمعنى السمكة وفي رواية الواحدي في الوسيط أول يزى كه خداي تعالى بيا فريد قلم بود س نون را بيا فريدو آن دو اتست وقلم ازان دوات نوشت آنه بود وهست وبادشو برين تقدير خداي تعالى قسم فرمود بدوات بقلم أعلى كه از نورست كما في تفسير الكاشفي.
(10/78)
وفي القاموس : النون من حروف الزيادة والدواة والحوت انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن المراد بالقلم قلم الكرام الكاتبين أو جنس القلم اقسم الله بالدواة والقلم لكثرة منافعهما وعظم فوائدهما فإن التفاهم بالنطق والبيان إنما يكون بين الحاضرين وإما بالنسبة إلى من غاب وبعد من أهل عصر واحد ومن أهل الزمان الآتي فإنما يكون بالكتابة كما قال بعضهم : البيان اثنان بيان لسان وبيان بنان ونم فضل بيان البنان إن ما تثبة الأقلام باق على الأيام وبيان السان تدرسه الأعوام ولو لم يكن للقلم مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله لكفى به فضلاً موجباً لتعظيمه ومن تعظيمه تعظيم برايته فتوضع حيث لا تطأها الأقدام وإلا أورثت الآلام وعن بعض الحكماء قوام أمور الدين والدنيا بشيئين القلم والسيف والسيف تحت القلم لولا القلم إما قام دين ولا صلح عيش قال بعضهم :
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
له الرقاب ودانت خوفه الأمم
كذا قضى الله للأقلام مذبريت
إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال بعضهم :
إذا قسم الأبطال يوم بسيفهم
وعدوه مما يجلب المجد والكرم
كفى قلم اكتاب فخرا ورفعة
مدى الدهر إن الله أقسم بالقلم
{وَمَا يَسْطُرُونَ} ما موصولة والعائد محذوف والسطر الصف من الكتابة ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف وسطر فلان كذا أي كتبه سطر أسطراً وضمير الجمع لأصحاب
102
القلم المدلول عليه بذكره والمعنى بالفارسية وديكر سوكند ياد فرمود بآنه أصحاب قلم آسمانيان وزنينينان مى نويسند از كتاب وكلام درتبيان از ابن هيضم رحمه الله ، نقل فرمودكه نون دهنست وقلم زبان وما يسطرون آنه حفظه ببنده مى نويسند حق تعالى بدينها سوكند فرموده.
قال بعض العارفين النون نون الذات والقلم قلم الصفات وما يسطرون هي الأفعال والشؤون الإلهية كتبونها على لوح القدرة والإرادة حرفاً حرفاً.
يقول الفقير فيه إشارة إلى أن نون الجمع الذاتي أي دواته وهو أصل كتاب الوجود الذي هو أم الكتاب سمى بالنون لكونه مجتمع مداد مواد نقوش العالم وإن شئت قلت إلى نون النقطة التي هي مرتبة الأحدية وقد كان الامام على رضي الله عنه يقول في خطبته على رؤوس الإشهاد إنا نقطة باء بسم الله الذي رطتم فيه أنا القلم وأنا اللوح المحفوظ وأنا العرش وأنا الكرسي وأنا السموات السبع والأرضون فإذا صحا وارتفع عنه تجلى الوحدة أثناء الخطبة يشرع معتذراً ويقر ببعدويته وضعفه وانقهاره تحت الأحكام الإلهية وفي التأويلات النجمية : يشير بكلمة ن إلى العلم الإجمالي المندمج في الأحدية الذاتية الجمعية وبالقلم إلى العلم التفصيلي في الوحدة الإسمائية وإنما نسبنا الأجمالي الروحي إلى ن والتفصيلي القلبي إلى القلم لأن هذه الدواة مشتملة بما في بطنها على جميع الحروف المجردة والكلمات المركبة اشتمال النواة على الشجرة واندماج الشجرة المفصلة في النواة المجملة فبا لقلم يسطر على لوح القلب بالتفصيل كل ما هو في ضمير الدواة بالإجمالفإذا فهمت المقصود فاعلم إن الله تعالى اقسم بعلمه الأجمالي الكائن في الأحدية وبعلمه التفصيلي الثابت في الواحدية وبالتحقيق أقسم بأحدية ذاته المطلقة وبواحدية أسمائه الجمعية إذ العلم من حيث هو عين ذاته واقسم إذا بكل ما سطر قلمه الكريم من دواته القديم من الحروف الإلهية المجردة العلوية والكلمات الربانية المركبة السفلية انتهى كما قال بعض الكبار في بيان حروف كتاب الوجود الظلى وكلماته وآياته وسورة ان الشؤون الغيبة حروفه العاليات والأعيان الثابتة العلمية كلماته التامات والحقائق إلا رواحية والمثالية آياته المتعاليات والصور الحسية العينية سوره الكاملات وإما كتاب الوجود الحقيقي فحروفه المجردة الأسماء الذاتية الأحدية وكلماته الأسماء الصفاتية الواحدية وآياته الأسماء الأفعاليته الواحدية وصوره الأسماء إلا ثارية المظهرية وكلم نها كتاب مبين انتهى.
وهكذا قالبعض الكبار القلم علم التفصيل والنون علم الأجمال وتلك الحروف التي هي مظاهر تفصيل القلم مجملة في مداد الدواة ولا تقبل التفصيل ما ادمت فيها فإذا انتقل المداد منها إلى القلم تفصلت الحروف به في الوح وتفصل العلم بها لا إلى غاي وإما علم الأجمال المعبر عنه بالنون فإن النون في الرقم نصف دائرة محسوسة ونصف دائرة معقولة تشعر نقطتها في الوسط بكونه مراد التتميم الدائرة الذاتية إلى هي ظرف مداد الوجود ولذلك كان من الحروف الدورية عكسه كطرده فإن النصف المحسوس ظرف مداد عالم اخلق والنف المعقول ظرف مداد عالم الأمر والخط الفاصل بينهما وهو خط ألف قام بين تدوير النونين برزخ جام وهو مسوى الصحف الإلهية والكتب المتفرقة من حيطة الكتاب
103
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
(10/79)
المحيط بالمحيطات المقول فيه ما فر طنافى الكتاب من شيء وهو كتاب ينطوى على العلوم الجمة المنطوى عليها أيضاً مداد النون وتشتمل على مائة وأربع عشرة سورة كما اشتمل النون على عدد يطابقها فإن النونين والواو والألف الذي انتهى إليه اسم النون مائة وثلاثة عشر وكون مسماه حرفاً واحداً متمم لأربعة عشر فاعلم ذلك فإنه دقيق قل تجده في كلام أحد انتهى.
وقال القاشاني : ن هو النفس الكلية والقلم هو العقل الكلي والأول من باب الكناية بالاكتفاء من الكلمة بأول حروفها والثاني من باب التشبيه إذ تنتقش في النفس صور الموجودات بتأثير العقلي كما تنتقش الصور في اللوح بالقلم وما يسطرون من صور الأشياء وما هيأتها وأحوالها المقدرة على ما تقع عليه وفاعل ما يسطرون الكتبة من العقول المتوسطة والأروح المقدسة وإن كان الكاتب في الحقيقة هو الله تعالى لكن لما كان في حضرة الأسماء نسب إليها مجازاً اسم بهما وبما يصدر عنهما من مبادي الوجود وصور القتديرا لإلهي ومبدأ أمره ومخزن غيره لشرفهما وكونما مشتملين على كل الوجود في أول مرتبة التأثير والتأثر ولمناسبتهما للمقسم عليه وهو قوله {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} جواب القسم والباء متعلقة بمضمر هو حال من الضمير في خبر ما وهو مجنون والعامل فيها معنى النفي والجنون حائل بين النفس والعقل وجن فلان أي أصابه الجن أوأصاب جنانه أو حيل بين نفسه وعقله فجن عقله ذلك كأنه قيل انتفى عنك الجنون يا محمد وأنت بريء منه ملتبساً بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة والمراد تنزيهه عليه السلام عما كانوا بنسيونه عليه السلام ، إليه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة مع جزمهم بأنه عليه السلام ، في اية الغايات من حصافة العقل ورزانة الرأي قال أبو حيان قوله : بنعمة ربك قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالة في نتفاء الوصف الذميم عنه عليه السلام ، وذهب إلى القسم أيضاً حضرة الشيخ نجم الدين في تأويلاته روى إنه عليه السلام ، غاب عن خديجة رضي الله عنها إلى حراء فلم تجده فإذا هو قد طلع ووجه متغير بلا غبار فقالت له مالك فذكر نزول جبرائيل عليه السلام ، وإنه قال له اقرأ باسم ربك فهو أول ما نزل من القره آن قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر عليه السلام ، ذلك الخديجة فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد حالف دين قريش ودخل في النصرانية فسألته فقال : أرسليني إلى محمد فأرسلته فأتاه فقال : هل أمرك جبرائيل أن تدعو أحد فقال : لا ، فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ثم مات قبل دعاء الرسول عليه السلام ، ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه مجنون فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما نزل قوله سبح اسم ربك وهذه الآية هي الثانية وفي التأويلات النجمية : ما أنت بنعمة ربك بمستور عما كان من الأزل وما سيكون إلى الأبد لأن الجن هو الستر وما سمى الجن جنا إلا لاستتاره من الأنس بل أنت عالم بما كان خبير بما سيكون وبدل على إحاطة علمه قوله عليه السلام ، فوضع كفه على كتفي فوجدت
104
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
بردها بين ثديي فعلمت ما كان وما سيكون قال الامام القشيري قدس سره في شرح الأسماء الحسنى : نصرة الحقلعبده أتم من نصرة العبد لنفسه قال تعالى لنبيه عليه السلام : ولقد نعلم إنك يضيق صرك بما يقولون ثم انظر بما ذا سلاه وبأي شي خفيف عليه تحمل أثقال الأذى حيث قال فسبح بحمد ربك يعني إذا تأذيت بسماع السوه فيك منهم فاسترح بروح ثنائك علينا ولذة التنزيه والذكر لنا فإن ذلك يريحك ويشغلك عنهم ثم إنه عليه السلام ، لما قبل هذه النصيحة وامتثل بأمر ربه تولى نصرته والرد عنه فلما قيل إنه مجنون اقسم على نفي ذلك بقوله ن والقلم الخ ، تحقيقاً لتنزيهه لما اشتغل عنهم بتنزيه ربه ثم عاب الله القادح فيه بالجنون بعشر خصال ذميمة بقوله : ولا تطع كل حلاف مهين إلى قوله : أساطير الأولين وكان رد الله عنه وذبه أتم من رده عن نفسه حيث كان من جملة القرآن باقياً على الألسنة إلى يوم القيامة {وَإِنَّ لَكَ} بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وحملك لإعبا الرسالة {لاجْرًا} لثواباً عظيماً {غَيْرُ مَمْنُونٍ} مع عظمه كقوله تعالى : {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي يغر منقوص ولا مقطوع ومنه قيل المنون للمنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد وبالفارسية مزدى بردوا مكه هركز انطاع بدان راه نيابد.
ويقال أجر النبي مثل أجر الأمة قاطبة غير منقوص ويجوز أن يكون معناه غير مكدر عليك بسبب المنة لأنه ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل بتداء وإنما تمت الفواضل لا الأجور على الأعمال كما في الكشاف.
(10/80)
(وقال الكاشفي) : غير ممنون منب نانهاده يعني حق تعالى بي واسطه كسى كه ازو منت بايد داشد بتو عطاكرد.
وفي إشارة إلى أن أنوار المكاشفات والمشاهدات غير مقطوعة لكونها سرمدية فلا يزال العارف يترقى في الشهود في جميع المواطن ولا ممنوة لأن الفتح والفيض إنا يجبيء من عند الله لا من عند غيره فا يمن على عباده لا العباد بعضهم لعى بعض وقال بعضهم : أجره قبول شفاعته وهي غير منقطعة عن أهل الكبائر من أمته لا يخيب الله رجاءه عليه السلام ، في فرانهم جميعاً بلا عتاب ولا عذاب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
يقول الفقير : الظاهر أن أجره عليه السلام ، هو الله تعالى مان لا ممنون وإلى هذا المقام يشير قول الصديق رضي الله عنه ، ورسوله أي أبقيت الله ورسوله حين ما قال له ، عليه السلام ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر ، فالله تعالى عوض عن نفس الفاني عن نفسه وعن ولده وماله وهو الأجر العظيم لأنه العظيم وإنك لعلى خلق عظيم} لا يدرك شاوه أحد من الخلق ولذلك تحتل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر قال بعضهم : لكونك متخلقاً بأخلاق الله وأخلاق كلامه القديم ومتأيد بالتأييد القدسي فلا تتأثر بافترائهم ولا تتأذ بأذاهم إذ بالله تصبر لا بنفسك كما قال واصبر وما صبرك إلا بالله والأحد أصبر من الله وكلمة على للاستعلاء فدلت على إنه عليه السلام ، مشتمل على الأخلاق الحميد ومستوللٍ على الأفعال المرضية حتى صارت بمنزلة الأمور الطبيعية له ولهذا قال تعالى : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ} أي لست متكلفاً فيما يظهر لكم م أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً بل يرجع إليه الطبع وللإنسان صورة ظاهرة لها هيئة
105
يشاهدها البصر الذي هو في الرأس وهي عالم الملك وهي الشكل صورة باطنة لها سيرة يشاهدها البصيرة التي هي في القلب وهي من عالم الملكوت وهي الخلق فكما إن لهيئته الظاهرة حسناً أو قبحاً صورياً باعتبار أشكالها وأوضاعها وألوانها فكذلك لسيرته الباطنة حسن أو قبح معنوي باعتبار شمائلها وطبائعها ومن ذلك قسموا الخلق إلى المحمود والمذموم تارة وإلى الحسن والقبيح أخرى وكثيراً ما يطلق ويراد به المحمود فقط لأنه اللائق بأن يسمى خلقاً ومن هذا قوله تعالى : خلق عظيم وعليه قول الامام الرازي الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة ونفس الإتيان بالأفعال الجميلة شيء وسهولة الإتيان بها شيء آخر فالخالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة الخلق وسمى خلقاً لأنه لرسوخه وثباته صار بنمزلة الخلقة التي جبل عليها الإنسان وإن احتاج في كونه ملكة راسخة إلى اعتمال وطول رياضة ومجاهدة ولذا قالوا الخلق يتبدل بالمصاحبة والمعاملة فيكون الحسن قبيحاً والقبيح حسناً على حال المصاحبين والمعاملين كما في الحديث : (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) وفي حديث آخر (لا تجالسوا أهل الأهواء والبدع فإن لهم عرة كعرة الجرب) ومن ذلك كانت مصاحبة الأخيار مستحسنة مرغباً فيها ومصاحبة الأشرار مستقبحة مرهباً عنها وكذلك يتبدل بالسعي في أسبابه ولذلك صنف أطباء الأرواح أبواباً في علم لأخلاق لبيان ما هو صحة روحانية وما هو مرض روحاني كما ألف أطباءالأشباح فصولاً ف يعلم الأبدان لبيان سبب كل مرض وعلاجه وإنما أفرد الخلق ووصفه بالعظمة كما وصف القرآن بالعظيم لينبه على أن ذلك الحلق الذي هو عليه السلام ، عليه جامع المكارم الأخلاق اجتمع فيه شكر نوخ وخلة إبراهيم وإخلاص موسى وصدق وعد إسماعيل وصبر يعقوب وأيوب واعتذار دادو وتواضع سليمان وعيسى وغيرها من أخلاق سائر الأنبياء عليهم السلام ، كما قال تعالى : فبهداهم اقتده إذ ليس هذا الهدى معرفة الله تعالى لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول عليه السلام ، ولا اشرائع لأن شريعته ناسحة لشرائعهم ومخالفة لها في الفروع والمراد منه الاقتداء بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم لو كان كل منهم مختصاًبخلق حسن غالب على سائر أخلاقه فلما أمر بذلك فكأنه أمر بجمع جميع ما كان متفرقاً فيهم فهذه درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء عليهم السلام فلا جرم وصفه الله بكونه على خلق عظيم كما قال بعض العارفين :
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
لكل في الأنام فضيلة
وجملتها مجموعة لمحمد
ولم يتصف عليه السلام ، بمقتى قوته النظرية إلا بالعلم والعرفان والإيقان والإحسان ولم يفعل بمقتضى قوته العملية إلا ما فيه رضي الله من فرض أو واجب أو مستحب ولم يصدر منه حرام أو مفسد أو مكروه فكان هو الملك بل أعلى منه ويجمع هذا كله قول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلقه عليه السلام ، فقالت : كان خلقه القرآن أرادت به أنه عليه السلام ، كان متحلياً بما في القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف ومتخلياً عما يزجر عنه من السيئات وسفساف الخصال وفي رواية قالت للسائل ألست تقرأ القرآن قد أفلح المؤمنون
106
(10/81)
يعني اقرأ الآي العشر في سورة المؤمنين فذلك لقه ويه تنب لسعامعين على عظام أخلاقه من الإيمان الذي هو أصل الأخلاق القلبية والصلاة التي هي عماد الأخلاق البدنية والزكاة التي هي رأس الأخلاق المالية إلى آخر ما في الآيات وفي سلسلة الذهب للمولى الجامي رحمه الله :
بود هم بحر مكرمت هم كان
كوهرش كان خلقه القرآن
وصف خلق كسى كه قرآنست
خل را نعت اوه امكانست
وفي التأويلات النجمية : كان حلقه القرآن بل كان هو القرآن كما قال العارف بالحقائق :
أنا القرآن والسبع المثاني
وروح الروح لا روح الأواني
محمد بن حكيم الترمذي قدس سره فرموده كه هي خلقي بزر كتراز خلق حضرت محمد عليه السلام ، نبوده ه زميشت خوددست باز داشت وخودرا كلى باحق كذاشت وامام قشيري قدس سره كفته كه ازبلا منحرف شد و نه از عطا منصرف كشت وكفته كه آن حضرت راهي مقصد ومقصودي جز خداي تعالى نبوده كما قال الجنيد قدس سره : كان على خلق عظيم لجوده بالكونين :
له همم لا منتهى لكبارها
وهمته الصغر أجلى من الدهر
وقال الحسين النوري قدس سره كيف لا يكون خلقه عظيماً وقد تجلى الله لسره بأنوار أخلاقه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
يقول الفقير : كان خلقه عظيماً لأنه مظهر العظيم فكان خلق العظيم عظيماً فافهم جداً وفي تلقيح الأذهان لحضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أوتى عليه السلام جوامع الكلم لأنه مبعوث لتتميم مكارم الأخلاق كما قال عليه السلام ، ولذلك قال الله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم وهو عين كونه صراط المستقيم قال : إنثلاثائة وستين خلقاً من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة ، قال أبو بكر رضي الله عنه : هل في منها يا رسول الله قال : كلها فيك يا أبا بكر وأحبها إلى الله السخاء انتهى.
ولذلك كان أحسن أخلاق المرء في معاملته مع الحق التسليم والرضى وأحسن أخلاقه في معاملته مع الخلق العفو والسخاء وإنما قال مع التوحيد لأنه قد توجد مكارم الأخلاق والإيمان كما أنه قد يوجد الإيمان ولا أخلاق إذ لو كان الإيمان يعطي بذاته مكارم الأخلاق لم يقل للمؤمن أفعل كذا واترك كذا وللمكارم آثار ترجع على صاحبها في أي دار كان كما ورد في حق أبي طالب قال بعض الكبار من إرادة أن يرى رسول الله ، ممن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن فإنه لا فرق بين النظر فيه وبين النظر إلى رسول الله فكأن القرآن انتشاء صورة جسدية يقال لها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب والقرآن كلام الله وهو صفته فكأن محمداً عليه السلام ، خلعت عليه صفة الحق من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال بعضهم : من أراده أن يرى رسول الله فليعمل بسنته لا سيما في مكان أميتت السنة فيه فإن حياة رسول الله بعد موته هي حياة سنته ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً لأنه المجموع الأتم الأكمل وقال بعضهم : لم يبق بعد بعثة رسول الله سفساف أخلاق أبداً لأنه أبان لنا عن مصارفها كلها
107
من حرص وحسد وشره وبخل وخوف وكل صفة مذمومة فمن أجراها على تلك المصارف عادت كلها مكارم أخلاق وزال عنها اسم الذم قال لمن ركع دون الصف زادك الله حرصاً ولا تعد وقال لا حسد إلا في اثنتين وقال أكثروا من ذكر الله وقال تعالى فلا تخافوهم وخافون وقال تعالى : فلا تقل لهما أف وقال أف لكم وغير ذلك من الآيات.
ولا خبار فما أمر الله باجتناب بعض الأخلاق إلا لمن يعتقد إنها سفساف أخلاق وجهل معنى قوله عليه السلام ، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فمن الناس من علم ومنهم من جهل فالكامل لا يرى في العالم إلا أخلاق الله تعالى التي به وجدت وفي كشف الأسرار في تفسير الآية عرض عليه مفاتيح العرض فلم يقبلها ورقاه ليلة المعراج وأراه جميع الملائكة والجنة فلم يلتفت إليها قال الله تعالى ما زاغ البصر وما طغى ما التفت يميناً وشمالاً فقال تعالى : إنك لعلى خلق عظيم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
أي جوانمرد قدرآن مهتركه داند وكدام خاطر ببدايت زا ورسد صد هذار وبيست وهار هزار نقطه نبوت كه رفتند در برابر درجات أو كواكب بودند وبا آنكه أو غئاب بودهمه نور نبوت ازو كرفتند نانكه آفتاب اكره غائب باشد كواكب نور ازوى كيرند ليكن ون آفتاب يدا شود كواكب در نور او بدا شوند همنين همه انيبا نور ازو كرفتند ليكن ون محمد عليه السلام ، بعالم صورت در آمد ايشان هم كم شدند.
كأنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وفي القصيدة البردية :
فاق النبيين في خلق وفي خلق
ولم يدانوه في علم ولا كرم
فإنه شمس فضل هم كواكبها
يظهر أنورها للناس في الظلم
(10/82)
ومن أخلاقه عليه السلام ، ما أشار إليه قوله صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك فإنه عليه السلام ، ما ر أمته بشيء قبل الائتمار به ، وفي الحديث : (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار) ، وروى عن علي بن موسى الرضى ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، قال قال رسول الله : عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة فستبصر ويبصرون} يقال : أبصرته وبصرت ب علمة وأدركته فإن البصر يقال للجارحة الناظرة ولقوة القلب المدركة ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة وفي تاج المصادر الأبصار ديدن بشم وبدل.
فالمعنى فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل وقال القاشاني : فستبصر ويبصرون عند كشف الغطا بالموت ، وقال مقاتل : هذا وعيد بعذاب بدر.
(ولذا قال الكاشفي) : بدان وقت كه عذاب نازل شود برايشان معلوم كرددكه ديوانه تومى يا ايشان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
وهو الأوضح ففيه وعد لرسول الله عليه السلام بغلبه الإسلام وأهله وبالانتقام من الاعتداء {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي أيكم الذي بتلى بفتنة الجنون فأيكم مبدأ والمفتون بمعنى المجنون خبره والباءم زيدة في المبتدى كما في بحسبك زيد أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر بمعنى الفتون وهو الجنون كالمجلدو بمنى الجلادة والمعقول
108
بمعنى العقل كما في قوله : (حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحماً ولا لفؤاده معقولاً) والباء للإلصاق نحو به داء أو بأي الفريقين منكم المجنون ابفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم فالباء بمعنى في والمفتون مبتدأ مأخر والأمة داخلة في خطاب فستبصر بالتبعية لا يختص به عليه السلام ، كالسوابق وهو تعريض بأبي جهل من هشام الوليد ابن الميغرة وأضرانهما كقوله تعالى : {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الاشِرُ} أصالح عليه السلام قومه إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} تعالى المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجهاً إلى ما يفضيه إلى الشقاوة الأبدية وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضر نفعاً فيؤثره وانتفع ضراً فيهجره {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} إلى سبيله الفائزين بكل مطلوب ناجين من كل محذور وهم العقرء المراجيح فيجزى كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب وإعادة هو أعلم لزيادة التقرير وفي الآية لشعار بأن المجنون في الحقيقة هو العاصي لا المطيع وإشارة إلى الضال عن سبيل الوصول إلى حضرة امولى بسبب محبة الدنيا والميل إلى شهواتها والمهتدي إلى طريق التوحيد والوحدة بنور العناية الأزلية والهداية الأبدية قال بعض الكبار وهو أعلم بالمهتدين أي القابلين للتوفيق فهدة البيان هم الرسل وهادى التوفيق هو الحق تعالى فللهادي الذي هو الله الأبانة والتوفيق وليس للهادي الذي هو المخلوق إلا الإبانة خاصة ومن لا علم له بالحقائق بظن إن العبد إذا صدق في الإرشاد والوعظ أثر ذلك القبول في نفوس السامعين وإذا لم يصدق في ذلك لم يؤثر وهذا من الوهم الفاسد فإنه لا أقرب إلى الله ولا أصدق في التبليغ عنه ولا أحب للقبول لما جاء من عند الله تعالى ، من الرسل لغلبة لرحمة على قلوبهم ومع ذلك فأعم القبول فيمن سمعهم بل قال الرسول الصادق في التبلغي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فرارا فلما لم يعم القبول مع تحققنا هذه المهمة العظيمة من أكابر أولى العزم من الرسل علمنا أن الهمة مالها أثر جملة واحدة في المدعو وإن الذي قبل من السامعين ليس هو من أثر همة الداعي الهادي الذي هو المبلغ وإنما هو قوة الاستعداد في محل القبول من حيث ما وهبه الله تعالى في خلقه من مزاج يقتضي له قبولاً مثل هذا وأمثاله وهو المزاج الخاص الذي لا يعلمه إلا الله الذي خلقهم عليه وهو قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
كفت عالم بكوش جان بشنو
ور نماند بكفتنش كردار
باطلست آنكه مدعى كويد
خفته را خفته كي كند بيدار
مرد بايدكه كيرد اندر كوش
ورنوشته است ند برديوار
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص109 حتى ص120 رقم12
(10/83)
فلا تطع المكذبين} أي إذا تبين عندك ما تقدم فدم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم فيما يدعونك إليه من الكف عنهم يكفو عنك وتصلب في ذلك أمره عليه السلام ، بلتشدد مع قومه وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار فإن هذه السورة من أوائل ما نزل دلت الآية على أن الإطاعة للعاصي عصيان والافتداء بالطاغي طغيان {لَوْ تُدْهِنُ} لو للتمني والإدهان في الأصل مثل التدهين واشتقاقهما من الدهن لكن جعل عبارة عن الملاينة
109
وترك الجد قال في تاج المصادر الادهان مداهنت كردن.
والتركيب بدل على ليان وسهولة وقلة والمعنى أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور وترك الدعوة {فَيُدْهِنُونَ} أي فهم يداهنونك حينئذٍ بترك الطعن.
(كما قال الكاشفي) : فرمان مبر مشركان كه راكه ترا بدين آباء دعوت مى نمايند ودوست مى دارندكه تونرمى كنى با يشان وسرزنشى نكنى برشرك تا يشان نير رب ونرمى كنند وبردين توطعنه نزنند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
فالفاء للعطف على تدهن فيكون يدهنون داخلاً في حيز لو ولذا لم ينصب يدهنون بسقوط النون جواباً للتمني والفعل للاستقبال أو الفاء للسببية فهو مسبب ن تدهن ويجوز أن يكون الفعل للحال على معنى ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون طمعاً في إدهانك فالتسبب عن التمني وتقدير المبتدأ لأنه لولاه لكان الفعل منصوباً لاقتضاء التسب عما في حيز التمني ذلك قال بعضهم لا توافقهم في الظاهر كما لا توافقهمفي الباطن فإن موافقة الظاهر ر موافقة الباطن وكذا المخالفة وإلا كان نفاقاً سريع الزوال ومصانعة وشيكة الانقصاء وإما هم فلانهماكهم في الرذائل وتعمقهم في التلون والاختلاف لتشعب أهوائهم وتفرق أمانيهم يصانعون ويضمون تلك الرذيلة إلى رذيلتهم طمعاً في مداهنتك معهم ومصانعتك إياهم قال بعضهم المداهنة بيع الدين بالدنيا فهي من السيئات والمداراة بيع الدنيا بالدين فهي من الحسنات ويقال الإدهان الملاينة لمن لا ينبغي له ذلك وهو لا ينافي الأمر بالمداراة كما قال عليه السلام : "أمرت بمداراة الناس كما أمرت بالتبليغ" قال الإمام الغزالي رحمه الله : في إحياء الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الأغضاء فإن أغضيت للأمة دينك ولما ترى فيه من إصلاح أخيك بلإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن قال أبو الدرداء رضي الله عنه اتالنبش في وجوه اقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وهذا معنى المداراة وهو مع من يخاف شره {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} كثير الحلف في الحق والباطل لجهله حرمة اليمين وعدم مبالاته من الحنث لسوء عقيدته وتقديم هذا الوصف عى سائر الأوصاف الزاجرة عن الطاعة لكونه أدخل في الزجر قال في الكشاف : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله تعالى : [البقرة : 90]{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ} .
.
انتهى.
ودخل فيه الحلف بغير الله تعالى فإنه من الكبائر واصل الحلف اليمين الذي يُذ بعضهم من بعض بها الحلف أي العهد ثم عبر به عن كل يمين مهين} حقير الرأي والتدبير لأنه لم يعرف عظمة الله ولذا أقدم على كثرته الحلف من الهانة وهي القلة والحقارة ويجوز أن يراد به الكذاب لأنه حقير عند الناس {هَمَّازٍ} عياب طعان يعني عيب كننده در عقب مردم ا طعنه زننده در روى با يشان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
قال الحسن رحمه الله يلوى شدقيه في أقفية الناس وفيه إشارة إلى من يعيب ويطعن في أهل القح في رياضاتهم ومجاهداتهم انزوائهم وعزلتهم عن الناس وفي الحديث : "لا يكون المؤمن طعاناً ولا لعاناً".
وفي حديث آخر : "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس" يعني من ينظر إلى عيب نفسه يكون ذلك مانعاً له عن النظر إلى عيب يره وتعييبه به وذلك لا يقتضي أن لا ينهى العاصي عن معصيته اقتداء بأمر الله تعالى بالنهي عن المنكر لا إعجاباً بنفسه وازدراء لقدر غيره عند الله فامانه العالم
110
ببواطن الأمور والهماز مبالغة هامز والهمز الطعن والضرب والكسر والعيب ومنه المهمز والمهماز بكسر الميم حديدة تطعن با الدابة قيل لأعرابي أتهمز الفارة قال السنور يهمزها واستعير للمغتاب الذي يذكر الناس بالمكروه ويظهر عيوبهم ويكسر إعراضهم كأنه يضربهم بأذاه إياهم مضربه نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم فإن النميم والنميمة السعاية وإظهار الحديث بالوشاية وهو من الكبائر إما نقل الكلام بقصد النصيحة فواجب كما قال من قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليتقلوك فاخرج إني لك من الناصحين وفي التعريفات النمام هو الذي يتحث مع القوم فينم عليهم فيكثف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو الثالث وسواء كان الكثف بالعبارة أو بالإشارة أو بغيرهما وفي الحديث : "لا يدخل الجنة نمام" ، أي : ماش بالسعاية وهي بالفارسية غمز كردن.
(10/84)
وفي التأويلات النجمية : مشاء بنميم يحفظون كلام أهل الحق من هذه الطائفة الكريمة ثم يحكونه عند الجحال من أصحاب الحجب فيضحكون عليهم وينسبون ذلك الكلام إلى السفسفة والسفه {مَّنَّاعٍ} مبالغة مانع {لِّلْخَيْرِ} أيب خيل والخير المال أو متاع الناس من الخير الذي هو الإيمان والمطاعة والاتقان ولأرباب السلوك من إرشاد الطالبين المسترشدين فذكر الممنوع منه دون الممنوع وكان للوليد بن الميغرة عشرة من البنين وكان يقول لهم ولأقاربه من تبع منكم دين محمد لا أنفعه شيء إبداء وكان الوليد موسراً له تسعة آلاف مثقال فضة وكانت له حديثة في الطائف {مُعْتَدٍ} متجاوز في الظلم أي يتجاوز الحق والحد بأن يظلم على الناس ويمكن حمله على جميع الأخلاق الذميمة فإن جميعها تجاوز عن حد الاعتدال.
وفي التأويلات النجمية : متجاوز في الظلم على نفسه بإنغماسه في بحر الشهوات وإنهماكه في ظلمة المنهيات {أَثِيمٍ} كثير الإثم وهو اسم للأفعال المبطعة عن الثواب.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
وقال الكاشفي) : بسيار كناهكار زيانكار.
وفي التأويلات النجمية : كثير الآثام بالركون إلى الأخلاق الرديئة والرغبة في الصفت المردودة {عُتُلٍ} جاف غليظ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة قال الراغب : العتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر كعتل البعير وبالفارسية كشدن بعنف.
(وقال الكاشفي) : عتل يعني سخت روى وزشت خوى انتهى.
ومن كان جافياً في المعاملة غليظ القلب والطبع بحيث لاي قبل الصفات الروحانية ولا يلين للحق اجترأ على كل معصية قال في "القاموس" العتل بضمتين مشددة اللام الأكول المنبع الجافي الغليظ {بَعْدَ ذَالِكَ} أي بعدما عد من مقابحه {زَنِيمٍ} دعى ملصق بالقوم وملحق بهم في النسب وليس منهم فالزنيم هو الذي تبناه أحد أي اتخذه ابنا وليس بابن له من نسبه في الحقيقة ، قال تعالى : {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} قال الراغب : الزنيم والمزن الزائد في القوم وليس منهم أي المنتسب إلى قوم وهو معلق بهم لا منهم تشبيهاً بالزنمتين من الشاة وهما المتدليتان من أذنها ومن الحلق وفي الكشاف الزنيم من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلفة ف يحلقها لأنه زيادة معلقة بغير أهله وفي القاموس الزنمة محركة شيء يقطع من أذن البعير فيترك معلقاً
111
يفعل بكرامها والظاهر من قول ابن عباس رضي الله عنهما الحقيقة حيث قال إنه لم يعرف حتى قيل زنيم فعرف إنه كان له زنمة أي ف حلقة ويقال كان يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها قال العتبي لا نعلم إن الله وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عار إلا يفارقه أبداً وفي قوله بعد ذلك دلالة على أن دعوته أشد معايبه وأقبح قبائحه وكان الوليد دعيا في قريش وليس من نسبهم وسنخهم أي أصلهم ادعاه أبوه المغيرة بعد ثمن عشرة سنة من مولده يعني وليد هده ساله بودكه مغيره دعوى كردكه من در اويم واورا بخود كرفت.
فقوله بعد ذلك ههنا نظير ثم في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا من حيث إنها للتراخي رتبة وفي الحديث : لا يدخل اجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم ، فالجواظ الجموع المنوع والجعظ ري الفظ الغليظ والعتل كل رحيب الجوف أكول شروب غشوم ظلم وفي الحديث ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو سم على الله لأبره إلى أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر) وقيل بغت أم الوليد ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية فمعنى زنيم حينئذٍ ولد الزنى وبالفارسية حرام زاده كه در أو معلوم نباشد قال الشاعر :
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
زنيم ليس يعرف من أبوه
بغى الأم ذو حسب لئيم
در تفسير امام زاهد مذكور است ه ون حضرت رسول الله اين آيت درانجمن قريش بر وليد خواند بهر عيبى كه رسيد درخود بازيافت مكر حرام زادكى باخود كفت من سيد قريش ودر من مردى معروفست ويمدانم كه محمد دروغ نكويد كونه اين مهم را بر سر آرم شمشير كشيده نزدما در آمد القصه بعد از تهديد بسياز ازو اقرار كشيدكه در تو در قصه زنان جرأتي نداشت واورا برادر زادكان بودند شم برميراث وى هاده مررشك آمد غلام فلا نرا بمزد كرفتم وتوف زنداويى ودليل روشن بر صدق قول زن شدت خصومت وليدست وستيزه او بآن حضرت ورين باب كفته اند.
جرم وكناه مدعى از فعل مادرست
كور اخطاي ما د اوخا كسار كرد
(10/85)
والغالب إن النطفة إذا خبثت خبث الولد الناشيء منها ومن ثمة قال رسول الله عليه السلام : لا يدخل الجنة ولد الزنى ولا ولده ولا ولد ولده كما في الكشاف وفي الحديث : لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أو السكران يعمهم الله بعذابه وفي حديث آخر : ولد الزنى شر الثلاثة قال الرهاوي في شرح المنار هذا في مولود خاص لأنا قد نشاهد ولد الزنى أصلح من ولد الرشدة في أمر الدين والدنيا ويستحق جميع الكرامات من قبول شهادته وعبادته وصحة قضائه وأمامته وغير ذلك فالحديث ليس على عمومه انتهى.
يقول الفقير : إذا كان الرضاع بغير الطباع فإن من ارتضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير وشر فما ظنك بالزنى ولا عبرة بالصلاح الظاهر والكرامات الصورية وفي الحديث : ولدت من نكاح لا من سفاح وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام وجميع الأولياء الكرام
112
قدس سره أسارهم فالزنى أقبح من الكفر من وجه فإن الله يخرج الحي من الميت أي المؤمن من الكافر بخلاف الرشيد من الزاني فولد الزنى لا يصلح للولاية الحقيقية وإن كان صالحاف للولاية الصورية وقيل نزلت الآية في الأخنس ابن شريف واسمه أبي وكان ثقفبا مصطلقياً في قريش فلذك قال زنيم لا على جهة الذم لنسبه ولكن على جهة التعريف به ذكره السهيلي ، قال ابن عطية : وظاهر اللفظ عموم من بهذه الصفة والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمن لا سيما لولاة الأمور قال في فتح الرحمن ثم هذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف وإلا فكونه عتلا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه وفي برهان القرآن قوله حلاف إلى قوله زنيم أوصاف تسعة ولم يدخل بينها واو العطف ولا بعد السابع فدل على أن ضعف القول بواو الثمانية صحيح أن كان ذا مال وبنين} متعلق بقوله تعالى : [العلق : 19-15]{وَلا تُطِعْ} على حذف الجاراي لا تطع من هذه مثاليه لأن كان مثولاً ذا مال كثير مستظهراً بالبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} استئناف جار مجرى التعليل المنهي أي إذا تقرأ عليه آيات كلامنا القديم قال هي أحاديث لا نظام لها اكتتبوها كذباً فيما زعموه لقوله اكتتبها فهي تملى عليه وبالفارسية افسا نهاي يشينيانست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
وقال السدي اساجيع الأولين أي جعل مجازاة النعم التي خولناها من المال والبنين الكفر بآياتنا قال البرد الأساطير جمع أسطورة نحواً حدوثة وأحاديث وقد سبق غير هذا وفي التأويلات النجمية : لا تطع الحلاف المهين الحقير في نفسه بسبب ثروة أعماله المنسوبة إلى الرياء والسمعة وبنين الأحوال لمطعونة بالعجب والإعجاب إذا تتلى عليه آياتنا من الحقائق والدقائق قال أساطير الأولين ما سطره الصوفية المتقدمون وهي من ترهاتهم وخرافاتهم {سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ} أصله سنوسمه من الوسم وهو إحداث السمة بالكسر أي العلامة وبالفارسية داغ كردن.
والميسم بالكسر المكواة أي آلة الكي والخرطوم كزنبور الألف أو مقدمه أو ما ضممت عليه النكين كالخرطم كقنفذ كما في "القاموس" ، والمعنى سنجعل له سمة وعلامة يعرف بها بالكي على أكرم مواضعه لغاية إهانته وإذلاله إذ لأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له ولذلك جعلوه مكن العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا الأنف بالأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه ولقد وسم العباس رضي الله عنه أباعره في وجوهها فقال له رسول الله عليه السلام : "أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها" أي : في أدبارها وفي التعبير عن الأنف بلفظ الخروطوم استهانة بصاحبه واستقباح له ، لأنه لا يستعمل إلا في الفيل وخنزير وكلما كان الحيوان أخبث وأقبح كانت الاستهانة والاستقباح أشد وأكثر قيل : أصاب أنف الولد جراحة يوم بدر فبقيت علامتها قال صاحب الكشف هو ضعيف فإن الوليد مات قبله فلم يوسم بوسم بقى أثره مدة حياته وقال الراغب : نلزمه عاراً لا ينمحى عنه كما قال صاحب الكشاف هو عبارة عن أن يذله غاية الإذلال وذلك لأن الوجه أكرم موضع والأنف أبين عضو منه فالوسم على الأنف غاية الإذلال والإهانة لأن الوسم على الوججه شين فكيف إذا كان على أظهر موضع منه وكما قال العتبي وصف الله الوليد بالحلف والمهانة والهمز والمشي بالنميمة والبخل والظلم
113
والإثم والجفوة والدعوة فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة ، قال : والذي يدل عى هذا ما روى عن الشعبي في قوله عتل حيث قال العتل الشديد والزنيم الذي له زنمة من الشر ، يعرف بها كما تعرف الشاة وقيل : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يعلم بها من سائر اكفرة بأن نسود وجه غاية التسويد إذ كان بالغاً في عدغوة سيد المرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام أقصى مراتب العداوة فيكون الخطوم مجازاً عن الوجه على طريق ذكر الجزء وإرادة الكل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
(10/86)
وفي التأويلات النجمية : نكوى خرطوم استعداده بكى نار الحجاب والبعد حتى لا يشم النفحات الإلهية والنسمات الربانية {إِنَّا بَلَوْنَـاهُمْ} يقال : بلى الثوب ، بلى أي : خلق بلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له والبلايا اختبارات والمعنى أنا ابتلينا أهل مكة بالقحط والجوع سبع سنين بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أكلوا الجيفو الجلود والعظام والدم لترمدهم وكفرانهم نعم الله تعالى {كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} أي : ابتلاء مثل ابتلاء أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم ، واللام للعهد والكاف في موضع النصب على أنها نعت المصدر محذوف وما مصدرية ولجنة البستان وبالفارسية باغ.
وأصحاب الجنة قوم من أهل صنعاء وفي كشف الأسرار سه برادر بودند.
كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرخسين وقال السهيلي : هي جنة بضروان وضروان على فراسخ من صنعاء وفي فتح الرحمن الجنة بستان يقال له ضروان باليمن كان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام ، بيسير وكانوا بخلاء وكان أبوهم يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي وكان ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه النمجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت.
(قال الكاشفي) : وده ازيك حاصل نزي برايشان قسمت كردى.
فكان يجتمع لهم شيء كثير ويتزودون به أياماً كثيرة فلما مات أبوهم قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبو ناضاق علينا الأمر ونحن أولوا عيال فحلفوا فيما بينهم وذلك قوله تعالى : {إِذَا قَضَوْا} ظرف لبلونا والإقسام سوكند خوردن يعني سوكند خوردند وارثان باغ كه نهان ازفقرا {لَيَصْرِمُنَّهَا} الصرام والصرم قطع ثمار النخيل وبالفارسية بار خرما بريدن.
من صرمه إذا قطعه أي ليقطعن ثمارها من الرطب والعنب ويجمعن محصولها من الحرث وغيره {مُّصْبِحِينَ} أي داخلين في الصباح مبكرين وسواد الليل باقي قوله ليصر منها جواب للقسم وجاء على خلاف منطوقهم ولو جاء على منطوقهم لقيل النصر منها بنون المتكلم ومصبحين حال من فاعل ليصر منها {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي لا يقولون إن شاء الله وتسميته استثناء مع إنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدي الاستثناء فإن قولك لأخرجن إن شاء الله ولا أخرج إلا إن شاء الله بمعنى واحد والجملة مستأنفة أو حال بعد حال لعل إيراده بعد إيراد أقسامهم على فعل مضمر لمقصودهم مستنكر عند أرباب المروة وأصحاب الفتوة لتقبيح شأنهم بذكر السببين لحرمانهم وإن كان أحدهما كافياً فيه لكن ذكر الأقسام على ر مستنكر أولاً وجعل ترك الاستثناء حالاً منه يفيد أصالته وقوته في اقتضاء الحرمان والأظهر إن المعنى ولا يستثنون حصة المساكين أي لا يميزونها ولا يخرجونها كما كان يفعله
114
أبوهم وقال أبو حيان : ولا ينثنون عما عزموا عليه من منع المساكين قال في تاج المصادر الاسثناء إن شاء الله كفتن واستثنا كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
والباب يدل على تكرير الشيء مرتين أو جعله شيئين متوالين أو متبايين والاستثناء من قياس الباب وذلك إن ذكره يثنى مرة في الجملة ومرة في التفصيل لأنك إذا قلت خرج الناس ففي الناس زيد وعمروا فإذا قلت إلا زيداً فقد ذكرت زيداً مرة رى ذكراً ظاهراً انتهى.
قال الرغب الاستثناء إيراد لفظ يقضتي رفع بعض ما يوجبه عموم لفظ متقدم أو يقتضي رفع حكم اللفظ كما هو فمن الأول قوله تعالى : [الأنعام : 145-19]{قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} ومن الثاني قوله لأفعلن كذا إن شاء الله وعبده عتيق وامرأته طالق إن شاء الله فطاف عليها} أي على الجنة أي أحاط بها طائف بلاء طائف كقوله وأحيط بثمره وذلك ليلاً إذ لا يكون الطائف إلا بالليل وأيضاً دل عليه ما بعده من ذكر النوم وكان ذلك الطائف ناراً نزلت من السماء فأحرقتها {مِن رَّبِّكَ} مبتدىء من جهته تعالى قال الراغب الطوف الدوران حول الشيء ومنه الطائف لمن يدور حول البيت حافظاً ومنه استعير الطائف من الجن والخيال والخادم وغيرها قال تعالى : [القلم : 19-97]{فَطَافَ} .
.
الخ.
تعريضاً بما نالهم نم النائبة انتهى.
وهم نائمون} غافلون عما جرت به المقادير أو غافلون عن طوافه بالنوم الذي هو أخو الموت وبالفارسية وايشان خفتكان بودند.
(10/87)
والنوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه أو أن يتوفى الله النفس من غير موت أي إن يقطع ضوء الروح عن ظاهر الجسد دون باطنه أو النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل وكل هذه التعريفات صحيحة {فَأَصْبَحَتْ} س كشت جنت ايشان با آن بلا {كَالصَّرِيمِ} فعيل بمعنى مفعول أي كالبستان الذي صرمت ثماره لم بحيث لم يبق فيها شيء لأن النار السماوية أحرقتها وقيل كالليل لأن الليل يقال له الصريم أي لصارت سوداء كالليل لاحتراقها {فَتَنَادَوْا} أي نادى بعضهم بعضاً {مُّصْبِحِينَ} حال كونهم داخلين في الصباح {أَنِ اغْدُوا} أي أي دوا على أن إن مفسرة أو بأن اغدوا على أنها مصدرية أي أخرجوا غدوة وأول النهار وبالفارسية بامداد بيرون اييد {عَلَى حَرْثِكُمْ} بستانكم وضيعتكم وفي كشف الأسرار دران بستان هم زرع بودهم درخت انكور انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
يقول الفقير : فالحرث يجوز أن يراد به الحاصل مطلقاً وإن يراد به الزرع خصوصاً لأنه أعز شيء يعيش به الإنسان وتعدية الغدو بعلى لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء وقال بعضهم : إنه يتعدى بعلي كما في "القاموس" غداً عليه غدواً وغدوة بالضم واغتدى بكر قال الراغب الحرث القاء البذر يا الأرض وتهيئتها للزرع ويسمى المحروث حرثاً قال تعالى : {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـارِمِينَ} قاصدين للصرم وقطع الثمرة وجمع المحصول أي فاغدوا فجوابه محذوف {فَانطَلَقُوا} فمضوا إليها وبالفارسية س برفتند بجانب باغ {وَهُمْ يَتَخَـافَتُونَ} التخافت بايكديكر نهان راز كفتن.
أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والسر كيلاً يسمع أحد ولا يدخل عليهم {أَن لا يَدْخُلَنَّهَا} أي الجنة {الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} من المساكين فضلاً عن أن يكثروا
115
وبالفارسية امروز برشما يعني درباغ شمادر ويشى تابهره بكيرد وز حصه ماكم نكردد.
وإن مفسرة لما في التخافت من معنى القول بمعنى أي لا يدخلنها تفسيراً لما يتخافتون والمسكين هو الذي لا شيء له وهو أبلغ من الفقير والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم لا أرينك ههنا فإن دخول المسكين عليهم لازم لتمكينهم إياه من الدخول كما أن رؤية المتكلم المخاطب لازم لحضوره عنده فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم.
(وغدوا) مشوا بكرة وبالفارسية وبامداد برفتند.
(على حرد) الحرد المنع عن حدة وغضب يقال نزل فلان حريدا أي ممتنعاً من مخالطة القوم وحاردت السنة منعت قطرها والناقة منعت درها وحرد غضب.
(قادرين) حال مقدرة من فاعل غدواً فإن القدرة مع الفعل عند أهل الحق والمعنى وخرجوا أول الصباح على امتناع من أن يتناول المساكين من جنتهم حال كونهم قادرين على نفقعهم أو على الاجتنباء والصرم بزعمهم فلم يحصل إلا النكد والحرمان وفي الكشاف وغدواً قادرين على نكد لا غير عاجزين عن النفع يعني إنهم عزموا أن ينكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قارون على نفعهم فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان وذلك إنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة.
(فلما رأوها) س آن هنكام كه دبدنباغ رابخلاف آنه كذاشنه بودند.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
قالوا) : أي قال بعضهم لبعض {إِنَّا لَضَآلُّونَ} قالوه بعد ما تأملوها ووقفوا على حقيقة الأمر وإنها هي مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بل نحن محرومون حرمنا خيرها ومنعنا نفعها بجنايتنا على أنفسنا بسوءنيتنا وهي إرادة حرمان المساكين وقصد منع حق الفقراء {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي رأيا أوسنا وفي الكشاف أعدلهم وخيرهم من قولهم فلان من وسطه قومه وأعطني من وسطات مالك ومنه قوله تعالى : {أُمَّةً وَسَطًا} .
(وقال الكاشفي) : كفت فاضلتر ايشان ازروى عقل يا يزر كتربسن يا صائب تريراي.
(10/88)
قال الراغب : الوسط تارة يقال يما له طرفان مذمومان كالجواد الذي بين البخل والسرف فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط فيمدح به نحو السواء والعدل ونو وكذلك جعلناكم أمة وسطاً وعلى ذلك قال أوسطهم وتارة يقال يما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر ويكنى به عن الرذل نحو قولهم وسط بين الرجال تنبيهاً على إنه قد خرج من حد الخير ألم أقل لكم لولا تسبحون} لولا تذكرون الله بالتسبيح والتهليل وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا إليه من هذه العزيمة الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم وفي الآية دليل على أن العزم على المعصية مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظيرها قوله تعالى : [الملك : 9]{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادا بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وعلى هذا قوله تعالى : وذروا ظاهر الإثم وباطنه والعزم قوة قصد الفعل والجزم به والمحققون على إنه يؤاخذ به وأما الهم وهو ترجيح قصد الفعل فمرفوع قالوا} معترفين بالذنب والاعتراف به يعد من التوبة {سُبْحَـانَ رَبِّنَآ} ننزه ربن عن كل سوء ونقصان سيما عن أن يكون ظالماً
116
فما فعل ابناً {إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ} بقصد حرمان المساكين اتباعاً لشح النفس كأنهم قالوا نستغفر الله من سوء صنيعنا ونتوب إليه من خبث نيتنا حيث قصدنا عدم إخراج حق المساكين من غلة بستاننا ولو تكلموا بهذه الكلمة قبل نزول العذاب لنجوا من نزوله لكنهم تكلموا بها بعد خراب البصرة {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} س روى آوردند بعضي ازايشان بر بضعي ديكر {يَتَلَـاوَمُونَ} اللوم الملامة وبالفارسية نكوهيدن يعني خوار داشتن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
أي يلوم عضهم بعضاً على ما فعلوا فإن منهم من ار بذلك ومنهم من استوصبه ومنه من سكت راضياً به ومنهم من أنكره وبالفارسية أين آنرامى كفت تونين انديشيدي وآن عذرمى آوردكه توهم بدين راضي بودي {قَالُوا} يعني بكناه خود اعتراف نمودند وازروى نياز كفتند يا وَيْلَنَآ} أي وأي بزما ودر دزدكى {إِنَّا كُنَّا طَـاغِينَ} متجاوزين حدود الله تعالى وبالفارسية ازحد برندكان دركنكارى كه درويشانرا محروم ساختيم {عَسَى رَبُّنَآ} شايد روردكار ماكه ازكرم اواميد واريم {أَن يُبْدِلَنَا} أن يعطينا بدلاً منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة {خَيْرًا مِّنْهَآ} بهترى ازان باغ {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} رجون العفو طالبون الخير وإلى لانتهاء الرغبة لانتهاء الله منتهى رجائهم وطلبهم أو التضمنها معنى الرجوع وإلا فالمشهور إن تتعدى الربة بكلمة في أو عن دون إلى روى إنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله خيراً منها لنصعن كما صنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا إليه فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير مها قالوا إن الله أمر جبريل أن يقلتع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزعر من أرض الشام أي موضع قليل النبات ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم الصدق أبدلهم جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً قال أبو خالد اليماني دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم يعني دران باغ خوشه انكور ديدم برابر مرذدى سياه براي ايستاده محققان كفته اندهركه ببلايى مبتلاً كردد وثمال أو عرضة تلف شودودا وتأمل نمايدو داندكه باستحقاق برونارل شده س بكناه اعتراف نموده بحضرت عزت بازشت كندبهترو خوشتر ازآنه ازوبازستده بدودهد نانه بوستان حيون بعوض باغ ضرواني ويررومي قدس سره ازين معنى خبر ميدهد آنجا ميفرمايد.
أو لم خم شكست وسركه بريخت
من نكويم كه اين زيانم كرد
صدخم شهد صافي ازى آن
عوضم داد وشادمانم كرد
وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار فقال لقد كلفتني تعباً وعن الحسن رحمه الله قول أصحاب الجنة أنا إلى ربنا راغبون لا أدري إيماناً كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركني إذا أصابتهم الشدة فتوقف في أمرهم والأكثروني على إنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيري قدس سره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
يقول الفقير : إن كان ذلك القول منهم على حد ما يصدر من المضطر فإبدال الله إياهم جنة خيراً من جنتهم يكون من قبيل الاستدراج وإن كان عن توبة وإخلاص فذلك الإبدال من آثار تحقيق التوبة ونتائج الإخلاص فإن للإخلاص ثمرات عجبة وعن
117
(10/89)
الشيخ أبي الربيع المالقي رحمه الله ، قال : سمعت بامرأة من الصالحات في بعض القرى اشتهر أمرها وكان من دأبنا أن لا نزور امرأة فدعت الحاجة إلى زيارتها للإطلاع على كرامة اشتهرت عنها وكانت تدعى بفضة فنزلنا القرية التي هي بها فذكرلنا إن عندها شاة تحلب لبناً وعسلاً فاشترينا قدحاً جديداً لم يوضع فيه شيء فمضينا إليها وسلمنا عليها ثم قلنا لها نريد أن نرى هذه البركة التي ذكرت لنا عن هذه الشاة التي عندكم فأعطتنا الشاة فحلبناها في القدح فشربنا لبنا وعسلاً فلما رأينا ذلك سألناها عن قصة الشاة فقالت نعم كانت لنا شويهة ونحن قوم فقراء ولم يكن لناشيء فحضر العيد فقال لي زوجي وكان رجلاً صالحاً نذبح هذه الشاة في هذا اليوم فقلت له لا نفعل فإنه قدر خص لنا في الترك الله يعلم حاجتنا إليها فاتفق إن استضاف بنا في ذلك اليوم ضيف ولم يكن عندن قراء فقلت له يا رجل هذا ضيف وقد أمرنا بإكرامه فخذ تلك الشاة فاذبحها قالت فخفنا أن يبكي عليها صغارنا فقلت له اخرجها من البيت إلى وراء الجدار فاذبحها فلما أراق دمها قفزت شاة على الجدار فنزلت إلى البيت فخشيت أن تكون قد انفلتت منه فخرجت لانظرها فإذا هو سلخ الشاة فقلت له يا رجل عجباً وذكرت له القصة فقال لعل الله قد أبدلنا خيراً منها وكانت تلك الشاة تحلب اللبن تحلب اللبن والعسل ببركة إكرامنا الضيف ثم قالت يا أولادي إن شويهتنا هذه ترعى في قلوب المريدين فإذا طابت قلوبهم طاب لبنها وإن تغيرت تغير لبنها فيطيبوا قلوبكم قال اليافعي عنت بالمريدين نفسها وزوجها ولكن أطلقت لفظاً فظاهرة العموم مع إرادة التخصيص تستراً وتحريضاً للمريدين على تطبيب قلوبهم إذ بطيب القلوب حصل كل طيب محبوب من الأنوار ولأسرار ولذة العيش بمنادمة الملك الغار والمعنى لما طابت قلوبنا طاب ما عندنا فطيبوا قلوبكم يطب لكم ما عندكم ولو لم يكن الأمر كذلك بل المراد عموم المريدين لكان بطيب اللبن من سائر الغنم ولو خبث قلبهما لما نقعهما طيب قلوب المريدين وإذا طاباهما لم يضرهما خبث قلوب المريدين {كَذَالِكَ الْعَذَابُ} جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر والألف واللام للعهد أي مثل الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا وفي كشف الأسرار كذلك افعل بأمتك إذا لم تعطف أغنياؤهم على فقرائهم بأن أمنعهم القطر وأرسل عليهم الجوائح وأرفع البركة من زروعهم وتجارتهم ففيه وعيد لمانعي الزكاة والصدقة بإهلاك المال وإنزال العذاب بأي طريق كان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
مكن بدكه بدبيني اي يا رينك
نيايد زتخم بدى بارنيك
كسى نيك بيند بهر دوسراي
كه نيكي رساند بخلق خداي
{وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُ} أعظم وأشد وبالفارسية بزركتراست ه اين عذاب زوال يابد وإن باقي باشد {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} إنه بر لاحترزوا عما يؤديهم إليه ويطرحهم ويرميهم عليه {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} أي من الكفر والمعاصي {عِندَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة وذكر عند للتشريف والتكريم وذلك لأنه لا ملك فيها حقيقة وصورة إلافكأنها حاضرة عند تعالى يتصرف فيها كيف يشاء وإلا فمحال كون عندية الجنة بالنسبة إلى الله تعالى مكانية وهي ظرف معمول للاستقرار الذي تعلق به للمتقين ويجوز أن يكون
118
متعلقاً بمحذوف منصوب على الحالية من المنوى في قوله للمتقين ولا يجوز أن يكون حالاً من جنات لعدم العامل والأظهر إن معنى عند ربهم في جوار القدس فالمراد عندية المكانة المنزهة عن الجهة والتحيز لا عندية المكان كما في قوله تعالى عند مليك مقتدر إذ للمقربين قرب معنوي من الله تعالى قال الراغب عند لفظ موضوع للقرب فتارة يستعمل في المنكان وتارة يستعمل في الاعتقاد نحو عندي كذا وتارة في الزلقى والمنزلة كقوله تعالى : [آل عمران : 169-65]{بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} وعلى ذلك قيل الملائكة المقربون جنات النعيم} جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال كما عليه نعيم الدنيا واستفي الحصر من الإضافة اللامية الاختصاصية فإنها تفيد اختصاص المضاف إليه {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا إن صح أنا نبعث كما يرعم محمد ومن معه لم تكن حالنا وحالهم الأمثل ما هي في الدنيا والألم يزيدوا علينا ولم يفضلونا وأقصى أمرهم أن يساوونا ردهم الله تعالى والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيف في الحكم فجعل المؤمنين كالكافرين في حصول النجاة والوصول إلى الدرجات فالمراد من المجرمين الكافرون على ما دل عليه سبب النزول وهم المجرمون الكاملون الذين أجرموا بالكفر والشكر وإلا فالإجرام في الجملة ينافي الإسلام نعم المسلم المطيع ليس كالمسلم الفاسق فيه وعظ للعاقل وزجر للمتبصر ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده
(10/90)
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تعجيباً من حكمهم واستبعاداً له وإيذاناً بأنه لا يصدر عن عاقل وما استفهامية في موضع الرفع بالابتداء والاستفهام للإنكار أي لإنكار أن يكون لهم وجه مقبول يعتد به في دعواهم حتى يتمسك به ولكم خبرها والمعنى أي شيء ظهر لكم حتى حكمتم هذا الحكم القبيح كأن أمر الجزاء مفوض إليكم فتحكمون فيه بما شئتم ومعنى كيف في أي حال أفي حال العلم أم في حال الجهل فيكون ظرفا أو أعالمين أم جاهلين فيكون حالاً وفي التأويلات النجمية : أفنجعل المتقني لأحكام الشريعة وآداب الطريقة ورموز الحقيقة كالكاسبين للأخلاق الرديئة والأوصاف الرذيلة المخالفة للشريعة والطريقة والحيقة ما لكم كيف تحكمون بهذا الظلم الصريح والقول القبيح {أَمْ لَكُمْ} أي بل ألكم وبالفارسية آياشماراست {كِتَابٌ} نازل من السماء {فِيهِ} متعلق بقوله {تَدْرُسُونَ} أي تقرأون قال في المفردات درس الشيء معناه بقي أثره ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} تخير الشيء واختياره أخذ خيره قال الراغب الاختيار طلب ما هو خير فعله وقد يقال ما يراه الإنسان خيراً وإن لم يكن خيراً وفي تاج المصادر والتخير بركزيدن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
والمعنى ما تتخيرونه وتشتهونه وأصله إن لكم بالفتح لأنه مدروس فيكون مفعولاً واقعاً موضوع المفرد فلا يكسر همزة إن ولكن لما جيء باللام كسرت فإن لام الابتداء لا تدخل على ما هو في حيز أن المفتوحة وهذه اللام للابتداء داخلة على اسم إن والمعنى تدرسون في الكتاب لكم ما تختارونه لأنفسكم وأن
119
يكون اعاصي كالمطيع بل أرفع حالاً منه فائتوا بكتاب إن كنتم صادقين ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله تعالى وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين فيكون الموقع من مواقع كسر إن لعدم وقوعها مقوع المفرد حكاه الله في القرآن بورته والفرق بين الوجهين إن المدروس في الأول ما انسبك من الجملة وفي الثاني الجملة بلفظها وقوله فيه لا يستغني عنه بفيه أولاً فقد يكتب المؤلف فيك تابه ترغيباً للناس في مطالعته إن في هذا الكتاب كذا وكذا قال سعدي المفتي لك أن تمنع كون الضمير للكتاب بل الظاهر إنه ليوم القيام المعلوم بدلالة المقام {أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ عَلَيْنَا} قوله علينا صفة أيمان وكذا بالغة أي عهود مؤكدة بالإيمان {بَـالِغَةٌ} أي متناهية في التوكيد والصحة لأن كل شيء يكون في نهاية الجوة وغاية الصحة يوصف بأنه بالغ يقال لفلان على يمين بكذا إذا ضمنت وكفلت له به وحلفت له على الوفاء به أي بل أضمنا لكم أو أقسمنا بإيمان مغلظة فثبت لكم علينا عهود مؤكدة بالإيمان {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها حتى نحكمكم يومئذٍ ونعطيكم ما تحكمون أو ببالغة أو إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه الذي هو التخحكيم وأتباعنا لحكمهم {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابا لقسم لأ معنى أم لكم إيمان علينا أم أقسمنا لكم كما سبق {سَلْهُمْ} أمر من سال يسال بحذف العين وهمزة الوصل وهو تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتاً لهم يعني برس أي محمد مشركاً نراكه {أَيُّهُمْ} كدام ايشان {بِذَالِكَ} الحكم الخارج عن العقول {زَعِيمٌ} أي قائم يتصدى لتصحيحه كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم فقوله بذلك متعلق بزعيم والزعيم بمعنى القائم بالدعوى وإقامة الحجة عليها قال الراغب قوله زعيم إما من الزامة أي الكفالة أو من الزعم بالقول وهو حكاية قول يكون مظنة للكذب وقيل للمتكفل والرئيس زعيم للاعتقاد في قولهم إنه مظنة للكذب {أَمْ لَهُمْ} آيا يشا نراست {شُرَكَآءَ} يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم {فَلْيَأتُوا بِشُرَكَآاـاِهِمْ} س بكوبياريد شريكان خود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
(10/91)
فالباء للتعية ويجوز أن تكون للمصاحبة {إِن كَانُوا صَـادِقِينَ} في دعواهم إذ لا أقل من التقليد يعني إنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب وهو التسوية بين المحسن والمسيء كما قال ما لكم كيف تحكمون ولا دليل نقلي وهو كتاب درسونه ولا عهود مونقة بالإيمان فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول حتى يقلودهم وإن كان التقليد لا يفلح من تشبث بذيله فثبت إن ما زعموا باطل من كل الوجوه وفيه إشارة إلى أن اللائق بالحاكم تحرى الصواب بقر اوسع فيما ليس بحاضر عنده وإن حكم بلا تحر فلا يخلو عن خطأ وإن أصاب مصل صلى في أرض لم يعلم القبلة فيها فإنه إن صلى بتحر فصلاته صحيحة وإن أخطأ القبلة وإن صلى فيها بغير تحر فغير صحيحة وإن أصابها وإذا كان الحكم بلا تجر خطأ فكيف الحكم بشيء والأدلة قائمة بخلافه {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يوم منصوب باذكر المقدر وعن ساق قائم مقام الفاعل ليكشف والمراد يوم القيامة أي اذكر
120
يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك ولا كشف ولا ساق ثمة كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يدثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل بأن شبهت حال البخيل في عدم تيسر الإنفاق له بحال من غلت يده وكذا شبهت حال من اشتد عليه الأمر في الموقف بالمخدرات اللاتي اشتد عليهن لأمر فاحتجن إلى تشمير سوقهن في الهرب بسبب وقوع أمر هائل بالغ إلى نهاية الشدة مع إنهن لايخرجن من بيوتهن ولا يبدين زينتهن لغير محارمهن لغاية خوفهن وزوال عقلهن من دهشتهن وفرارهن لخلاص أنفسهن فاستعمل في حق أهل الموقف من الأشقياء ما يستعمل في حقهن من غير تصرف في مفردات التركيب بل التصرف إنما هو في الهيئة التركيبية فكشف الساق استعارة تمثيلية في اشتداد الأمر وصعوبته قال المولى الفناري في تفسير الفاتحة فالساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة تقول العرب كشفت الحرب عن ساقها إذا عظم أمرها وتقول لمن وقع في أمر عظيم شديد يحتاج فيه إلى جهد ومقاساة شمر عن ساقك وكذلك التفت الساق بالساق أي دخلت الأهوال والأمور العظام بعضها في بعض يوم القيامة وقيل ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان فإن ساق الشجر مثلاً أصله والأغصان تنبت على ذلك الأصل وتقوم به فالمعنى حينئذٍ يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصر عياناً وتنكيره على الوجه الأول للتهويل لأن يوم القيامة يوم يقع فيه أمر فظيع هائل منكر خارج عن المألوف وعلى الثاني للتعظيم {وَيُدْعَوْنَ} أي الكفار والمنافقون {إِلَى السُّجُودِ} توبيخاً وتعنيفاف على تركهم إياه في الدنيا وتحسيراً لهم على تفريطهم فيذلك لا على سبيل التكليف والتعبد لأن يوم القيامة لا يكون فيه تعيد ولا تكليف وسيأتي غير هذا {فَلا يَسْتَطِيعُونَ} لزوال القدرة الحقيقية عليه وسلامة الأسباب والآلات وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم ذلك ابن مسعود رضي الله عنه تعقم أصلابهم أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثنى عند الرفع والخفض فيبقون قياماً على حالهم حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على تفريطهم وفي الحديث : "وتبقى أصلابهم طبعاً واحداً" أي فقارة واحدة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
ودر خبرست كه شت كافر ومنافق وق سرون كايوك مهره شود (كأن سفافيد الحديد في ظهورهم) عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقول إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا عبدونه في ادنيا فذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون في الدنيا ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم كيف بقيتم فيقولون ذهب الناي فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره فيقال تعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقل لهم كيف ولم تروه قالوا لا يشبهه شيء فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون ن له سجداً ويبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود ولا يستطيعون كقوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ} .
.
الخ يقول الله يا عبادي ارفعوا رؤوسكم قد جعلت بدل كل رجل مكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار ، قال أبو بردة فحدثت بذا الحديث عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو أحدثك أبوك بهذا الحديث فحلفت له بثلاث إيمان فقال
121
(10/92)
عمر : ما سمعت من أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلى من هذا الحديث وفي تفسير الفاتحة للفناري رحمه الله يتجلى الحق في ذلك اليوم فيقول لتتبع كل أمة ما كانت عبد حتى تبقى هذه الأمة وفيها منافقوها فيتجلى لهم الخلق في أدنى صورة من الصور التي كان يتجلى لهم فيها قبل ذلك فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك نحن منتظرون حتى يأتينا ربنا فيقول لهم جل وعلا هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها فيقولون نعم فيتحول لهم في الصورة التي عرفوه فيها بتلك العلامة فيقولون أنت ربنا فيأمرهم بالسجود فلا يبقى من كان يسجدإلا سجد ومن كان يسجد اتقاء ورياء جعل ظهره طبقة نحاس كلما أراد أن يسجد خر على قفاه وذلك قوله تعالى : يوم يكشف الخ.
وقال أيضاً يكون عى الأعراف من تساوت كفتا ميزانه فهم ينظرون إلى النار وينظرون إلى الجنة ومالهم رجحان بما يدخلهم إحدى الدارين فإذا دعوا إلى السجود وهو الذي يبقى يوم القيامة من التكليف يسجدون فيرحج ميزان حسناتهم فيدخلون الجنة انتهى.
وكفته اندكه دران روزنورى عظيم بناميد وخلق بسجده در افتند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
فيكون كشف الساق عارة عن التجلي الإلهي كما ذهب إليه البعض وفي الحديث : يوم يكشف عن ساق قيل : عن نور عظيم يخرون له سجداً كما في كشف الأسرار وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : يأخذ الله عز وجل للمظلوم من الظالم حتى لا يبقى مظلمة عند أحد حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء فإذا فرغ من ذلك نادى مناد ليسمع الحلائق كلهم ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كنوا يعبدون من دون الله فلاي بقى أحد عبد شيئاً من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه ويجعل الله ملكاً من الملائكة على صورة عزير ويجعل ملكاً من الملائكة على صورة عيسى بن مريم فيتبع هذا اليهود ويتبع هذا النصارى ثم تلويهم آلهتهم إلى النار وهم الذين يقول الله لو كان هؤلاء إلهة ما ورودها وكل فيها خالدون وإذا لم يبق إلا المؤمنون وفيهم المنافقون قال الله لهم ذهب الناس فألحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره فينصرفعنهم فيمكث ما شاء أن يمكث ثم يأتيهم فيقول أيها الناس ذهب الناس فألحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد يره فينصرف الله عنهم فيمكث ما شاء أن يمكث ثم يأتيهم فيقول أيها الناس ذهب الناسفألحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون فيقولون والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره فيكشف لهم عن ساق ويتجلى لهم من عظمته مايعرفون به إنه ربهم فيخرون سجداً على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه وتجعل أصلابهم كصياصي البقر ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم انتهى.
واعلم أن حديث التحول مجمع عليه وهو من آثار الصفات الإلهية كرؤيته في المنام في الصورة الإنسانية وإلا فالله تعالى بحسب ذاته منزه عن الصورة وما يتبعها ومن مشى على المراتب لم يعثر ثم إن الآية دلت على جواز ورود الأمر بتكليف ما لا يطاق القدرية لا يقولون بذلك ففيها حجة عليهم كما في أسئلة المقحمة لكن ينبغي أن يعلم أن المراد بما لا يطاق هو المحال العادي كنظر الأعمى إلى المصحف ولا نزاع في تجويز التكليف به وكذا المحال العارضي كإيمان أبي جهل فإنه صار محالاً بسبب عارض وهو أخبار الله
122
تعال بأنه لا يؤمن وقد أجاز الأشاعرة التكليف به ومنعه المعتزلة وإما المحال العقلي وهو الممتنع لذاته كإعدام القديم فلم يذهب إلى جواز التكليف به أحد خاشعة أبصارهم} حال من مروفع يدعون على أن أبصارهم مرتفع به على الفاعلية ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها وإلا فالأعضاء أيضاً خاشعة ذليلة متواضعة بل الخاشع في الحقيقة هو القلب لكونه مبدأ الخشوع.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
وقال الكشافي) : يعني خداوندان أبصار سر دريش افكنده وشر منده باشد.
(10/93)
قال أبو الليث وذلك إن المسلمين إذا رفعوا رؤوسهم من السجود صارت بيضاء كاثلج فلما نظر إليهم اليهود والنصارى والمنافقون وهم الذين لم يقدروا على السجود حزنوا واغتموا واسودت وجوههم كما قال تعالى : {تَرْهَقُهُمْ} تلحقهم وتغشاهم فإن الرهق غشيان الشيء الشيء {ذِلَّةٌ} شديدة تخزيهم كأنه تفسير لخشوع أبصارهم يقال ذل يذل ذلاً بالضم وذلة بالكسر وهو ذليل يعني خوار {وَقَدْ كَانُوا} في الدنيا {يَدَّعُونَ} دعوة التكليف {إِلَى السُّجُودِ} أي إليه والإظهار في الموضع الإضمار لزيادة التقرير أولأن المراد به الصلاة أو ما فيها من السجود وخص السجود بالذكر من حيث إنه أعظم الطاعات قال بعضهم يدعون بدعوة الله ريحاً مثل قوله تعالى : [القلم : 43]{وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا} أو ضمناً مثل قوله تعالى : أقيموا الصلاة فإن الدعوة إلى الصلاة دعوة إلى السجدة وبدعوة رسول الله عليه اسلام صريحاً كقوله عليه السلام ، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء قالوا أي السجود أو ضمناً كقوله علي السلام صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أمولكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم وبدعوة علماء كل عصر ومن أعظم الدعوة إلى السجود إذ إن المؤذنين وإقامتهم فإن قولهم حي على الصلاة دعوة بلا مرية فطوبى لمن أجاب دعوتهم بطوع لا بإكراه امتثالاً لقوله تعالى : أجيبوا داعي الله والجملة حال من ضمير يدعون وهم سالمون} حال من مرفوع يدعون الثاني أي أصحاء في الدنيا سلمت أعضاؤهم ومفاصلهم من الآفات والعلل متمكنون منأداء السجدة وقبول الدعوة أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وإنما ترك ذكره ثقة بظهوره وبالفارسية وايشان تندرست بودند وقادر بران ون فرصت فوت كردند درين روز جز حسرت وندامت بهرء ندارند.
مد فرصت از دست كر بايدت
كه كوى سعادت زميدان برى
كه فصت عزيزست ون فوت شد
بسى دست حسرت بدندان برى
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
وفي الآية وعيد لمن ترك الصلاة المفروضة أو تخلف عن الجماعة المشروعة قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ادع الله أن يرزقني مرافقتك في الجنة ، فقال : أعني بكثرة السجود وكان السلف يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتهم التكبير الأول وسبعة إذا فاتهم الجماعة قال أبو سليمان الداراني قدس سره أقمت عشر بن سنة ولم أحتلم فدخلت مكة فأحدثت بها حدثاً فما أصبحت إلا احتلمت وكان الحدث إن فاتته صلاة العشاء بجماعة وقال الشيخ أبو طالب المكي قد سره : في قوت القلوب ولا بد مق صلاة الجماعة سيما إذا سمع التأذين
123
أو كان في جوار المسجد وحد الجوار أن يكون بينه وبين المسجد مائة دار وأولى المساجد التي يصلي فيها أقربها إليه إلا أن يكون له نية في الأبعد لكثرة الخطي أو لفضل أمام فيه فالصلاة خلف العالم الفاضل أفضل أو يريد أي يعمر بيتاً من بيوت الله بالصلاة فيه وإن بعد وقال سيعد ابن المسيب رحمه الله من صلى الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة ، قال أبو الدرادء رضي الله عنه حالفاً بالله تعالى من أحب لأعمال إلى الله ثلاثة أمر بصدقة وخطوة إلى صلاة جماعة وأصلاح بين الناس وفي الآية إشارة إلى أنه يرفع الحجاب ويبقى المحجوبون في جاب ا نيتهم ويشتد عليهم الأمر ويدعون إلى الفناء في الله فلا يستطيعون لإفساد استعدادهم الفطري بالركون إلى الدنيا وشهواتها ذليلة أبصارهم متحيرة لذهاب قوتها النورية تلحقهم ذلة الحجاب وهو أن الاحتجاب وقد كانوا في زمان استعدادهم يدعون إلى سجود الفناء بترك اللذات والشهوات وهم نائمون في نوم الغفلة لا يرفعون له رأساً الفساد استعداد مزاجهم بالعلل النفسانية والأمراض الهيولانية {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ} من منصوب للعطف على ضمير المتكلم أو على إنه مفعول معه وهو مرجحوح لإمكان العطف من ير ضعف أي وإذا كان حالهم في الآخرة كذلك فدعني ومن يكب بالقرآن وخل بيين وبينه ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عى في الانتقام منه فإني عالم بما يستحقه من العذاب ويطيق له وكافيك أمره يقال ذرني وإياه يريدون كله إلى فإني أكفيك قال في فتح الرحمن وعيد ولم يكن ثمة مانع ولكنه كما تقول دعني مع فلان أي سأ عاقبه والحديث القرآن لأن كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له حديث {سَنَسْتَدْرِجُهُم} يقال استدركه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة درجة حتى يورطه فيه وفي تاج المصادر الاستدراج اندك اندك نزديك دانيدن خداي بنده را بخشم وعقوبت خود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
(10/94)
والمعنى سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإحسان وإدامة الصحة وازدياد النعمة حتى نوقعهم فيه فاستدراج الشخص إلى العذاب عبارة عن هذا الاستنزال والاستدناء {مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي من الجهة التي لا يشعرون إنه استدراج وهو الإنعام عليهم لأنهم يحسونه إيثاراً لهم وتفضيلاً عل المؤمنين وهو سبب لهلاكهم وفي الحديث : "إذا رأيت الله ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم إنه مستدرج" وتلا هذه الآية وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه من وسع عليه دنياه فلم يعلم إنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله.
(وروى) إن رجلاً من بني إسرائيل قال يا رب كم أعصيك ولم أنت لا تعاقبني فأوحى الله إلى نبي زمانه إن قل له كم من عقوبة لي عليك وإن لا تشعر كونها عقوبة إن جمود عينك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت قال بعض المكاشفين من المكرا الإلهي بالعبد أن يرزق العلم ويحرم العمب به أو يرزق العمل وبحرم الإخلاص فيه فمن علم اتصافه بهذا من نفسه فليعلم إنه ممكور به وأخفى ما يكون المكر الإلهي في المتأولين من أهل الاجتهاد وغيرهم ومن يعقتد أن كل مجتهد مصيب يدعو الناس على بصيرة وعلم قطعي وكذلك مكر الله بالخاصة خفي مستور في إبقاء الحال عليهم وتأييدهم
124
بالكرامات مع سوء الأدب الواقع منهم فتراهم يتلذذون بأحوالهم ويهجمون على الله في مقام الإدلال وما عرفوا ما ادخر لهم من المؤاخذات نسأل الله العافية وقال بعض العارفين مكر الله في نعمه أخفى منه في بلائه فالعاقل من لا يأمن مكر الله في شيء وأدنى مكر بصاحب النعمة الظاهرة أو الباطنة إنه يخطر في نفسه إنه مستحق لتلك النعمة وإنها من أجل إكرامه خلقت ويقول إن الله ليس بمحتاج إليها فهي لي بحكم الاستحقاق وهذا يقع فيه كثيراً من لا تحقق عنده من العارفين لأن الله إنما خلق الأشياء بالأصالة لتسبح بحمده وإما انتفاع عباده بها فبحكم التبعية لا بالأول وقال بعض المحققين كل علم ضروري وده العبد في نفسه من غير تعمل فكر فيه ولا تدبر فهو عطاء من الله لوليه الخاص بلا واسطعة ولكن لا عيرف إن ذلك من الله إلا الكمل من الرجال ويحتاج صاحب مقام الفتوح إلى ميزان دقيق لأنه قد يكون في الفتوح مكر خفي واستدراج ولذلك ذكره تعالى في القراء على نوعين بركات وعذاب حتى لا يفرح العاقل بالفتح قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ} وقال تعالى : فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد وتأمل قول قوم عاد هذا عارض ممطرنا لما حجبتهم العادة فقيل لم بل هو ما استعجتلم به ريح فيها عذاب أليم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
واعلم إن كل فتح أعطاك أدباً وترقيا فليس هو بكر بل عناية من الله لك وكل فتح أعطى العبد أحوالاً وكشفاً وإقبالاً من الحق فلحذر منه فإنه نتيجة عجلت في غيره موطنها فينقلب صاحبها إلى الدار اُرة صفر اليدين نسأل الله اللطف قال أبو الحسين رضي الله عنه المستدرج سكران والسكران لا يصل إليه ألم فجع المعصية الأبعد إفاقته فإذا أفاقوا من سكرتهم خلص ذلك إلى قلوبهم فانزعجزا ولم يطمئنوا والاستدراج هو السكون إلى اللذات والتنعم بالنعمة ونسيان ما تحت النعم من المحن والاغترار بحلم الله تعالى وقال أبو سعيد الخراز قدس سره الاستدراج فقدان اليقين فالمستدرج من فقد فوائد باطنه واشتغال بظاهره واستكثر من نفسه حركاته وسعيه لغيبوبته عن المنة وقال بعضهم : بالاستدراج تعرف العقوبة ويخاف المقت وبالانتباه تعرف النعمة ويرجى القرب وأملى لهم} الإملاء مهلت دادن.
أي وأمهلهم بإطالة العمر وتأخير الأجل ليزدادوا إثماً وهم يزعمون إن ذلك لإرادة الخير بهم {إِنَّ كَيْدِى} أي أخذي بالعذاب {مَتِينٌ} قويشديد لا يطاق ولا يدفع بشيء وبالفارسية وبدرستى كه عقوبت من محكم است بهر يزى دفعنشود وكرفتن من سخت است كس را طاقت آن نباشد.
وفي الكشاف سمى إحسانه وتمكينه كيدا كما سماء استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للتورط في الهلكة ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك قال بعضهم الكيد إظهار النفع وإبطان الضر للمكيد وفي المفردات الكيد ضرب من الاحتيال وقد يكون محموداً ومذموماً وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وكذلك الاستدراج والمكر ولكون بعض ذلك محموداً قال تعالى : ذلك كدنا ليوسف قال بعضهم : أراد بالكيد العذاب والصحيح إنه الإمهال المؤدي إلى العذاب انتهى.
وفي التعريفت الكيد ارادة مضرة الغير خفية وهو من الخلق الحيلة السيئة ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق {أَمْ تَسْـاَلُهُمْ} آيا مبطلي
125
از ايشان بر ابلاغ وارشاد ودعوت ايمان وطاعت.
(10/95)
وهو معطوف على قوله أم لهم شركاء {أَجْرًا} دنيوياً {فَهُمُ} لأجل ذلك {مِّن مَّغْرَمٍ} أي من غرامة مالية وهي ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه {مُّثْقَلُونَ} مكلفون حملاً ثقيلاً فيعرضون عنك أي لا تسأل منهم ذلك فليس لهم عذر في إعراضهم وفرارهم {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} أي اللوح أو المغيبات {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يحكمون من التسوية بين المؤمن والكافر ويستغنون بهعن علمك {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم {وَلا تَكُن} في التضجر والعجلة بعقوبة قومك وبالفارسية مباش در دلتنكى وشتاب زدكى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
{كَصَاحِبِ الْحُوتِ} أي يونس عليه السلام ، يعني يونس كه صبر نكرد براذيت قوم وبي فرماني الهي ازميان قوم برفت تابشكم ما هي محبوس كشت {إِذْ نَادَى} داعيا إلى الله في بطن الحوت بقوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظاً وغما يقال كظم السقاء إذا ملأه وشد رأسه وبالقيد الثاني قال تعالى : [آل عمران : 134]{وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ} بمعنى الممسكين عليه وعليه قول النبي من كظلم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لأنها عبارة عن الضجرة والمغاضبة المذكورة صريحاً في قوله وذا النون إذ ذهب مغاضباً لا على النداء فإنه أمر مستحسن ولذلك لم يذكر المنادي وإذ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجرة والمغاضبة فتبتلى ببلائه وهو التقام الحوت لأ بنحو ذلك قال بعضهم فاصبر لحكم ربك بسعادة من سعد وشقاوة من شقى ونجاة من نجا وهلاك من هلك ولا تكن كصاحب الحوت في استيلاء صفات النفس عليه وغلبة الطيش والغضب للاحتجاب عن حكم الرب حتى رد عن جناب القدس إلى مقر الطبع فالتقمه حوت الطبيعة السفلية في مقام النفس وابتلى بالاجتنان في بطن حوت الرحم لولا أن تداركه} ناله وبلغه ووصل إليه وبالفارسية اكرنه آتست كه دريانت اورا {نِعْمَتَ} رحمة كائنة {مِّن رَّبِّهِ} وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وحسن تذكير الفعل للفصل بالضمير وإن مع الفعل في تأويل الصمدر مبتدأ خبره مقدر بمعنى ولولا تدارك نعمة من ربه إياه حاصل {لَنُبِذَ} أي طرح من بطن الحوت فإن النبذ القاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به {بِالْعَرَآءِ} أي بالأرض الخالية من الأشجار قال الراغب : العراء مكان لا سترة به {وَهُوَ مَذْمُومٌ} مليم مطرود من الرحمة والكرامة لكنه رحم فنبذ غير مذموم بل سقيما من جهة الجسد ومليم من ألام الرجل بمعنى أتى ما يلام عليه ودخل في اللوم فإن قلت فسر المذموم بالمليم وقد أثبته الله تعالى بقوله فالتقمه الحوت وهو مليم أجيب على ذلك التفسير بأن الآلامة حين الالتقام لا تستلزم الالامة حين النبذاذ التدارك نفاها فالتفت على ما هو حكم لولا الامتناعية كما أشير إليه في تصوير المعنى آنفاً وهو حال من مرفوع نبذ عليها يعتمد جواب لولا لأنها هي المنفية لا النبذ بالعراء كما في الحال الأولى لأنه نبذ غير مذموم بل محمود
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
{فَاجْتَبَـاهُ رَبُّهُ} عطف على مقدراي فتداركته نعمة ورحمة من ربه فجمعه إليه وقربه بالتوبة عليه يأن در إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون
126
يقال جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء وقيل شتباه إن صح إنه لم يكون نبياً قبل هذه الواقعة ومن أنكر الكرامات والإرهاص لأبدان يختار القول الأول لأن احتاسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكون إرهاصاً ولا كرامة لأبدان يكون معجزة وذلك يقتضي أن يكون رسولاً قبل هذه الواقعة {فَجَعَلَه مِنَ الصَّـالِحِينَ} من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلاً يكون تركه أولى روى إنها نزلت بأحد حين هم رسول الله عليه السلام إن يدعو على المنهزمين فتكون الآية مدينة وقيل حين أراد أن يدعو على ثقيف.
حق تعالى فرمودكه صبركن وآن دعا در توقف داركه كارها بصبر نيكوشود.
كارها از صبر كردد دلسند
خرم آن كز صبر باشد بهره مند
ون دارافتادى بكر داب حرج
صبركن والصبر مفتاح الفرج
(10/96)
دلت الآيات على فضيلة الصبر وعلى أن ترك الأولى يصدر من الأنبياء عليهم السلام وإلا لما كان يونس عليه السلام مليماً وعلى أن الندم على ما فرط من العبد والتضرع إلى الله لذلك من وسائل الإكرام وعلى أن توفيق الله نعمة باطنة منه وعلى أن الصلاح درجة عالية لا ينالها إلا أهل الاجتباء وعلى أن فعل العبد مخلوقلدلالة قوله فجعله من الصالحين على أن الصلاح إنما يكون بجعل الله وخلقه وإن كان للعبد مدخل فيه بسبب الكسب بصرف إرادته الجزئية والمعتزلة يأولونه تارة بالأخبار بصلاحه وتارة باللطف له حتى صلح لكنه مجاز والأصل هو الحقيقة {وَأَنْ} مخففة واللام دليلها {يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـارِهِمْ} يقال الزلقة أزل رجله يعني بلغزانيد {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} لما ظرفية منصوبة بيزلقونك ولمعنى إنهم منشدة عدواتهنم لك ينظرون إليك شزرا أي نظر الغضبان بمؤخر العين بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بعضهم وحسدهم عند سماعه من قولهم نظر إلى نظراً يكاد يصرعني أي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين قال في كشف الأسرار الجمهور على هذا القول روى إنه كان في بني أسد عيانون والعيان والمعيان والعيون شديد الإصابة بالعين وكن الواحد منهم إذا أراد أن يعين شيئاً يتجوع له ثلاثة أيام ثم يتعرض له فيقول تالله ما رأيت أحسن من هذا فيتساقط ذلك الشيء وكان الرجل منهم ينظر إلى الناقة السمينة أو البقرة السمينة ثم بعينها ثم يقول للجارية خذي المكتل والدرهم فائتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع فتنحر والحاصل إنه لا يمر به شءي فيقول فيه لم أر كاليوم مثله الإعانة وكان سبباً لهلاكه وفساده فسأل الكفار من قريش من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما رأيت مثله ولا مثل حجبه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
تار توجمال آن حضرت بآسيب عين الكمال از ساحت عالم محو سازد.
فقال فعصمه الله تعالى : (وقال الكاشفي) : حق تعالى براي عصمت وي از شم بداين آيت را فرستاد.
قال الحسن البصري قدس سره دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية ، (كما قال الحافظ) :
حضور مجلس أنس است دوستان جمعند
وإن يكاد بخوانيد ودر فراز كنيد
127
وفي الأسرار المحمدية : قد قبل إن ف يهذه الآية خاصية لدفع العين تعليقاً وغسلاً وشرباً انتهى.
وفي الحديث : "العين حق" أي أثرها في المعين واقع قالوا إن الشيء لا يعان إلا بعد كماله وكل كامل فإنه يعقبه النقض بقضاء ولما كان ظهور القضاء بعد العين أضيف ذلك إليها ولما خاف يعقوب عليه السلام ، على لألاده من العين لأنهم من العين لأنهم كانوا أعطوا جمالاً وقوة امتداد قامة وكانوا ولد رجل واحد قال : يا بني لا تدخلو من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة فأمرهم أن يتفرقوا في دخولها لئلا يصابوا بالعين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعوذ الحسن والحسين فيقول أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق عليهم السلام ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال : دخلت على رسول الله عليه السلام في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت ءه آخر النهاي فوجدته معافى فقال إن جبريل أاني فرقاني فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك قال عليه السلام فأفقت والرقية بالفارسية افسون كردن.
(10/97)
يقال رقاه الراقي رقيا ورقية إذا عوذه ونفث في عوذته قالوا وإنما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب ولاي دري ما هو ولعله يدخله سحر أو كفر وإما ما كان من القرآن أو شيء من الدعوات فلا بأس به كما في المغرب للمطرزي ولا تختص العين بالأنس بل تكون في الجن أيضاً وقيل : عيونهم أنفذ من اسنة الرماح وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام رأى في بيتها جارية تشتكي وفي وجهها صفرة فقال استرقوا لها فإن بها النظرة وأراد بها العين أصابتها من الجن كما في شرح المصابيح وفي الحديث : "لو كان شيء يسبق القدر لسبقة العين" أي لو كان شيء مهلكاً أو مضراً بغير قضاء الله وقدره لكان العين أي أصابتها لشدة ضررها وعنه عليه السلام ، إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ومما يدفع العين ما روى إن عثمان رضي الله عنه رأى صبياً مليحاً فقال دسموا نونته لئلا تصيبه العين أي سودوا نقرة ذقنه قالوا ومن هذا القبيل نصب عظام الرؤوس في المزارع والكروم ووجهه إن النظر الشؤم يقع عليها أولاً فتنكسر سورته فلا يظهر أثره ومن الشفاء من العين أن يقال على ماء في أناء نظيف ويسقيه منه ويغله عنس عابس بشهاد قابس رددت العين من المعين عليه وإل أحب الناس إليه فارجع البصر هل ترى من فطور والفاتحة وآية الكرسي وست آيات الشفاء وهي ويشف صدور قوم مؤمنين شفاء لما في الصدور فيه شفاء للناس وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وإذا مرضت فهو يشفين قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
ومن الشفاء أن يؤمر العائن فيغتسل أو يتوضأ بماء ثم يغتسل به المعين قيل وجه إصابة العينإن الناظر إذا نظر إلى شيء واستحسنه ولم يرجع إلى الله وإلى رؤية صنعه قد يحث الله في المنظور علة بجناية نظره على غفلة ابتلاء لعباده ليقول المحق إنه من الله وغيره من غيره فيؤاخذ الناظر لكونه سببهاً ووجهها بعض بأن العائن قد ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد كما قيل مثل ذلك في بعض الحيات.
128
(10/98)
قال في الأسرار المحمدية : ذوات السموم تؤثر بكيفاتها الخبيثة الكامنة فيها بالقوة فمتى قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية ومنها ما تشتد كفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ومنها ما يؤثر في طمس البصر ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك النفس وكيفيتها الخبيثة المؤثرة والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية بل بعضه بالمقابلة والرؤية كما اشتهر عن نوع من الأفاعي ها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فهو من هذا الجنس ولا يستبعد إن تنبعث من عين يعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية تتصل المعين وتتخلل مسام جسمه أي ثقبه كالغم والمنخر الأذن فيتضرر به وإذا كانت النفوس مختلفة في جوتهرها وماهياتها لم يمتنع أيضاً اختلافها في لوزمها وآثارها فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية التأثير المذكور وبه يحصل الجواب عمن أنكر إصابة العين وقال إنها لا حقيقة لها لأن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة ولا مماسة ههنا فامتنع حصول التأثير انتهى وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره وبعض النفوس لا تحتاج إلى المقابلة بل يتوجه الروح ونحوه يحصل الضرر فربما يوصف الشيء للأعمى فتؤثر نفسه فيه بالوصف من غير مقابلة ورؤية وإذاقتلت ذوات السموم بعد لسعها خَفَّ أثر لسعها لأن الجسد تكيف بكيفية الاسم وصار قابلاً للانحراف فما دامت حية فإن نفسها تمده بامتزاج الهواء بنفسها وانتشاق الملسوع به قال الجاحظ علماء الفرس والهند وأطباء اليونانيين ودهاة العرب وأهل التجربة من المعتزلة وحذاق المتكلمين كانوا يكرهون الأكل بين يدي السباع يخافون عيونها لما فيها من النهم والشره لما ينحل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء وينفصل من عيونها ما إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده وكانوا يكرهون قيام الخدم بالمذاب والأشربة على رؤوسهم مخافة العين وكانوا يأمرون أتباعهم قبل أن يأكلوا إن يطردوا الكلب والسنور أو يشغلوه بما يطرح له ومن هذا يعرف بعض أسرار قوله عليه السلام : من أكل وذو عينين ينظر إليه ولم يواسه ابتلا بداء لا دواء له وفائدة الرقى الروح إذا تكيفت به وقويت واستعانت بالنفث والتفل قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس لخبيتة والخواص الفاسدة فأزالته والحاصل أن الرقية بما ليس بشرك مشروعة لكن التحرز من العين لازم وإنه واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك ويقول تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ومن عرف بإصابة العين منع من مدخلة الناس دفعاً لضرره قال بعض العلماء يأمره الامام بلزوم بيته وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم به معاشه ويكف أذاه عن الناس وقيل ينفي والاحتياط الأمر بلزوم بيته دون الحبس والنفي وبهذا التقير يعرف حال المجذومين ولذا اتخذوا لهم في بعض البلاد مكاناً مخصوصاً بحيث لا يخالطون الناس ولا بشار كونهم في محلاتهم وذكر الجاحظ إن أعجب ما في الدنيا ثلاثة اليوم لا تظهر بالنهار خوفاً أن تصيبها العين لحسنها قال في حياة الحيوان ولما تصور في نفسه إنه أحسن الحيوان لم يظهر إلا بالليل
129
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
والثاني : الكركي لا يطا الأرض بقدمية بل بإحداهما فإذا وطئها لم يعتمد عليها خوفاً إن تخسف الأرض والثالث الطائر الذي يقعد على سواقي الماء من الأنهار يعرف بمالك الحزين شبيه الكركي لا يشبع من الماء خشية أن يفنى فيموت عطشاً ففي الأول إشارة إلى ذم العجب وفي الثاني إلى مدح الخوف وفي الثالث إلى قدح الحرص فلعتبر العاقل من غير العاقل والسعيد من وعظ بغيره وأخذ الإشارة من كل شي نسأل الله البصيرة التامة بمنه {وَيَقُولُونَ} الغاية حيرتهم في أمره عليه السلام ونهاية جهلهم بما في القرآن من بدائع العلوم ولتنفير الناس عنه وإلا فقد علموا أنه أعقلهم {إِنَّهُ} عليه السلام {لَمَجْنُونٌ} الظاهر أنه مثل قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون.
(وقال الكاشفي) : بدرستى كه اين مرد ديو كرفته يعني با وجنى است كه اورا تعليم ميدهند.
كما قال الوليد ابن المغيرة : معلم مجنون يعني يأتيه رئيي من الجن فيعلمه وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه عليه السلام ، رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل {وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} على إنه حال من فاعل يقولون مفيدة لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العيمة أي يقولون ذلك والحال إن القرآن ذكر للعالمين من الجن والأنس أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه منأموردينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرا ومحيط بجميع حقائقه خبراً مما قالوا في حقه من الجنون أي إنه من أول الأمور على كمال عقله وعلو شأنه فمن نسب إليه القصور فإنما هو من جهله وجنته فإن الفضل لا يعرفه إلا ذووه.
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
(10/99)
فلا غرو أن يرتاب والصحيح مسفر
وقيل : معناه شرف وفضل لقوله تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} وفيه إشارة إلى الإلهام فإنه ذكر لصاحبه ولمن اعتقده واقتدى به إذا الآثار باقية إلى يوم القيامة وقيل الضمير لرسول الله وكونه ذكراً وشرفاً للعالمين لا ريب فيه :
أي شرف جمله عالم بتو
روشنى ديده عالم بتو
وفيه إشارة إلى سادات أمته وأركان دينه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 100
تفسير سورة الحاقة
وآياتها إحدى وخمسون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 129
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
الحاقة} هي منأسماء القيامة من حق يحق بالكسر إذا وجب وثبت لأنها يحق أي يجب مجيئها ويثبت وقوعها كما قال تعالى : [طه : 15-2]{وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} فالإسناد حقيقي وقال الراغب في المفردات لأنها يحق فيها الجزاء فالإسناد مجازذي كنهاره صائم ونحو ما الحاقة} الأصل ما هي أي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر
130
تأكيد الهو لها كما يقال زيد ما زيد على التعظيم لشأه فقوله الحاقة مبتدأ ما مبتدأ ثان وما بعده خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والرابط تكرير المبتدأ بلفظه هذا ما ذكروه في إعراب هذه الجملة ونظائرها ومقتضى التحقيق أن تكون ما الاستفهامية خبراً لما بعدها فإن مناط الفائدة بيان أن الحاقة أمر بديع وخطب فظيع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان إن أمراً بديعاً الحاقة كما يديه كونها مبتدأ وكون الحاقة خبرا كذا في الإرشاد {وَمَآ أَدْرَااكَ} من الدراة بمعنى العلم يقال دراه ودرى به أي علم به من باب رمى وأدراه به أعلمه قال في تاج المصادر الدراية والدرية وادرى دانستن ويعدى بالباء وبنفسه قال سيبويه وبالباء أكثر قوله ما مبتدأ وأدراك خبره ولا مساغ ههنا لعكس والمعنى وأي شيء أعلمك يا محمد وبالفارسية وه يز دانا كردانيدترا {مَا الْحَآقَّةُ} جملة من مبتدأ وخبز في موضع المفعول الثاني لأدراك والجملة اكبيرة تأكيد لهول الساعة وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علم المخلوقات على معنى إن أعظم شأنها ومدى هو لها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم فلا يتسنى الإعلام قال بعضهم إن النبي عليه السلام وإن كان عالماً بوقوعها ولكن لم يكن عالماً بكمال كيفيتها ويحتمل أن يقال له عليه السلام إسماعاً لغيره وفي التأويلات النجمية : يشير بالحاقة إلى التجلي الإحدى الإطلاقي في مراءة الواحدية المفني للكل كما قال لمن الملك اليوم ا الواحد القهار بقهر سطوات أنوار الأحدية جميع ظلمات التعينات الساترة إطلاق الذات المطلقة وسمى بالحاقة لثبوته في ذاته وتحققه في نفسه {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له {وَعَادُ} قوم هود وهي قبيلة أيضاً وتمنع كما في "القاموس"
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
{بِالْقَارِعَةِ} من جملة أسماء الساعة أيضاً لأنها تقرع الناس أي تضرب بفنون الإفزاع والأهوال أي تصيبم بها كأنها تقرعهم بها والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال ، بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعت موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع فيها زيادة في وصف شدتها فإن في القاعة ما ليس في الحاقة من الوصف يقال إصابتهم قوارع الدهر أي أهواله وشدائده قيل : منها قوارع القرآن للآيات التي تقرأ حين افزع من الجن والإنس لقرع قلوب المؤذين بذرك جلال الله والاستمداد من رحمته وحمايته مثل آية الكرسي ونحوها وفي الآية تخويف لأهل مكة من عاقبة تكذيبهم بالبعث والحشر {فَأَمَّا ثَمُودُ} وكانوا عرباً منازلهم بالحجر بين الشأن والحجاز يراها حجاج الشأن ذها باوا يابا {فَأُهْلِكُوا} أي أهلكهم الله لتكذيبهم فأخبر عن الفعل لأنه المراد دون الفاعل لأنه معلوم {بِالطَّاغِيَةِ} أي بالصيحة التي جاوزت عن حد سائر الصيحات في الشدة فرجفب منها الأرض والقلوب وتزلزلت فاندفع ما يرى من التعارض بين قوله تعالى : [الأعراف : 91-6]{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وبين قوله تعالى : فأخذتهم الصيحة والقصة واحدة وفي الآية إشارة إلى أهل العلم الظاهر المحجوبين عن العلوم الحقيقية فإنهم أهل العلم القليل كما إن ثمود أهل الماء القليل فلما كذبوا فناء أهل العلم الباطن من طريق السلوك أهلكهم الله بصاعقة نار البعد والاحتجاب فليس لهم صلاح في الباطن وإن كان لهم صلاح
131(10/100)
في الظاهر وذلك لأنهم لم يتبعوا صالحاً من الصلحاء الحقيقين فبقوا في فساد النفس وأما عاد} وكانت منازلهم بالأحقاف وهي الرمل بين عمان إلى حضر موت واليمن وكانوا عرباً أيضاً ذوي بسطة في الخلق وكان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين وأوسطهم ما بين ذلك وكان رأس الرجل منهم كالقبة يفرخ في عينيه ومنخره السباع وتأخيره عن ثمود من تقدمهم زماناً من قبيل الترقي من الضال الشديد إلى الأضل الأشد {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ} هي الدبور لقوله عليه السلام : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور {صَرْصَرٍ} أي شديدة الصوت لها صرصرة في هبوبها وهي بالفارسية بانك كردن باز رغ وآنه بدان ماند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
أو شديدة البرد تحرق ببردها النبات والحرث فإن الصر بالكسر شدة البرد {عَاتِيَةٍ} مجاوزة للحد في شدة العصن كأنها عتت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها والرياح مسخرة لميكائيل تهب بإذنه وتنقطع بإذنه وله أعوان كأعوان ملك الموت (روى إنه ما يخرج من الريح شيء إلا بقدر معلوم ولما اشتد غضب الله على قوم عاد أصابتهم ريح خارجة عن ضبط الخزان ولذلك سميت عاتية أو المعنى عاتية على عاد فلم يقدر وأعلى ردها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفا في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} التسخير سوق الشيء إلى الغرض المختص به قهراً والمسخر هو المقيض للفعل والمعنى سلط الله تلك الريح الموصوفة على قوم عاد بقدرته القاهرة كما شاء الظاهر أنه صفة أخرى ويقال استئناف لدفع ما يتوهم من كونها باتصالات فلكية مع أنه لو كان كذلك لكان بتسببيه وتقديره فلاي خرج من تسخيره تعالى {سَبْعَ لَيَالٍ} منصوب على الظرفية لقوله سرها أنث العدد لكون الليالي جمع ليلة وهي مؤنث فتبع مفرد موصوفة يقال ليل وليلة ولا يقال يوم ويومة وكذا نهارة وتجمع الليلة على الليالي بزيادة الياء على غير القياس فيحذف ياؤها حالة التنكير بالأعلال مثل الأهالي والأهال في جمع أهل الأحالة النصب نحو قوله تعالى : [سبأ : 18-7]{سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ} لأنه غير منصرف والفتح خفيف وثمانية أيام} ذكر العدد لكون الأيام جمع يوم وهو مذكر {حُسُومًا} جمع حاسم كشهود جمع شاهد وهو حال من مفعول سخرها بمعنى حاسمات عبر عن الريح الصرصر بلفظ الجمع لتكثرها باعتبار وقوعها في تلك الليالي والأيام وقال بعضم صفة لما قبله.
(كما قال الكاشفي) : روزها وشبهاى متوالي.
والمعنى على الأول حال كون تلك الريح متتابعات ما خفق هبوبها في تلك المدة ساعة حتى أهلكتهم تمثيلاً لتتابعها يتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على داء الدابة مرة بعد أخرى حتى ينحسم وينقطع الدم كما قال في تاج المصادر الحسم بريدن ويوسته داغ كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
فهو من استعمال المقيد في المطلق إذا لخسم هو تتابع الكي أو نحسات حسمت كل خير واستأصلته أو قاطعات قطعت دابرهم والحاصل أن تلك اليراح فيها ثلاث حبثيات الأولى تتابع هبوبها والثانية كونها قاطعة لكل خير ومستأصلة لكل بركة أتت عليها والثالثة كونها قاطعة دابرهم فسميت حسوماً معنى حاسمات أما تشبيهاً لها بمن يحسم الداء في تتابع الفعل وأما لأن الحسم في اللغة القطع والاستئصال وسمى السيف حساماً لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عدواته وهي كانت أيام برد العجوز
132
من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال ويقال آخر أسبوع من شهر صفر إلى غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر وعن ابن عباس رضي الله عنه برفعه آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وإنم سميت عجوزاً لأن عجوزاً من عاد تورات في سرب أي في بيت الأرض فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء ذات برد ورياح شديدة فمن نظر إلى الأول قال برد العجوز ومن نظر إلى الثاني قال برد العجز وفي روضة لأخبار رغبت عجوز إلى أولادها أن يزوجوها وكن لها سبعة بنين فقالوا إلى أن تصبري على البرد عارية لكل واحد منا للة فعلت فلما كلفت في السابعة ماتت فسميت تلك الأيام أيام العجوز وأسماء هذه الأيام الصن وهو بالكسر أول أيام العجوز كما في القاموس ولصنبر وهي الريح الباردة والثاني من أيام العجوز كما في "القاموس" والوبر وهو ثالث أيام العجوز والمعلل كمحدث وهو الرابع من أيامها ومطفىء الجمر وهو خامس أيام العجوز أو رابعها كما في "القاموس" وقيل : مكفىء الظعن أي مميلها وهو جمع ظعينة وهو الهودج فيه امرأة أم لا والآمر والمؤتمر قال في "القاموس" آمر ومؤتمر آخر أيام العجوز قال الشاعر :
كسع الشتاء بسبعة غبر
أيام شهلتنا من الشهر
فإذا انقضت أيام شهلتنا
بالصن والصنبر والوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر
ومعلل وبمطفىء الجمر
ذهب الشتاء موليا هربا
وأتتك موقدة من الحر
(10/101)
قال في الكواشي ولم يسم الثامن لأن هلاكهم وإهلاكها كان فيه وفي عين المعاني إن الثامن هو مكفىء الظعن ثم قال في الكواشي ويجوز أنها سميت أيام العجوز لعجزهم عما حل بهم فيها ولم يسم الثامن على هذا لإهلاكهم فيه والذي لم يسم هو الأول وإن كان العذاب واقعاً في ابتدائه لأن ليلته ير مذكورة فلم يسم الوم تبعاً للتلة لأن التالاريخ يكون بالليالي دون الأيام فالصن ثاني الأيام الثمانية أول الأيام المذكورة لياليها انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
يقول الفقير : سر العدد أن عمر الدنيا بالنسبة إلى الإنس سبعة أيام من أيام الآخرة وفي اليوم الثامن تقع القيامة ويعم الهلاك ثم في الليالي السبع إشارة إلى الليالي البشرية الساترة للصفات السبع أُهية التي هي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبضصر والكلام وفي الأيام إشارة إلى الأيام الكاشفات للصفات الثمان الطبيعية وهي الغضب والشهوة والحقد والحسد والبخل والجبن والعجب والشره التي تقطع أمور الحق وأحكامه من الخيرات والمبرات يعني قاطعات كل خير وبر وقال القاشاني : وإما عاد المغالون المجاوزون حد الشرائع بالزندقة والإباحة في التوحيد فأهلكوا بريح هوى النفس الباردة بجمود الطبيعة وعدم حرارة الشوق والعشق العاتية أي الشديدة الغالبة عليم الذاهبة بهم في أودية الهلاك سخرها الله عليهم في مراب الغيوب السبع التي هي لياليهم لاحتجابهم عنها والصفات الثمان الظاهرة لهم كالأيام وهي الوجود والحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والتكلم على ما ظهر منهم وما بطن تقطعهم وتستأصلهم {فَتَرَى} يا محمد أو يا من شأنه أن يرى ويبصر إن كنت حاضراً حينئذٍ {الْقَوْمَ} أي
133
قوم عاد فاللام للعهد وبالفارسية س توميد يدي قوم عاد را اكر حاضر مي بودي {فِيهَا} أي في محال هبوب تلك الريح أو في تلك الليالي والأيام ورجحه أبو حيان للقرب وصراحة الذكر موتى جمع صريع كقتلى وقتيل حال من القوم لأن الروية بصرية ولصريع بمعنى مصروع أي مطروح على الأرض ساقط لأن الصرع الطرح وقد صرعوا بموتهم {كَأَنَّهُمْ} كوبيا ايشان از عظم أجسام {أَعْجَازُ نَخْلٍ} بنخهاى درخت خرما اند.
الكاف في موضع الحال أما من القوم على قول من جوز حالين من ذي حال واحد أو من المنوى في صرعى عند من لم يجور ذلك أي مصروعين مشبهين بأصول نخل كما قال في "القاموس" : العجز مثلثة وكندس وكتف مؤخر الشي وإعجاز النخل أصولها انتهى.
والنخل اسم جنس مفرد لفظاً وجمع معنى واحدتها نخلة {خَاوِيَةٍ} أصل الخوى الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام أي خلا والمعنى متأكلة الأجواف خالتها لا شيء فيها يعني إنهم متساقطون على الأرض أمواتاً طوالاً غلاظاً كأنهم أصول نخل مجوفة بلا فروع شبهوا بها من حيث إن أبدانهم خوت وخلت من أرواحهم كالنخل الخاوية وقيل : كانت اريح تدخل من أفواهم فتخرج ما في أجوافهم من أدبارهم فصاروا كالنخل الخاوية ففيه إشارة إلى عظم خلقهم وضخامة أجسادهم ولذا كانوا يقولون منأشد منا قوة وإلى الذا لريح إبلتهم فصاروا كالنخل الموصوفة وفيه إشارة إلى أن أهل النفس موتى لا حياة حقيقية لهم لأنهم قائمون بالنفس لا بالله كما قال كأنهم خشب مسدة كأنهم أعجاز نخل أي أقوياء بحسب الصورة لا معنى فيهم ولا حياة ساقطة عن درجة الاعتبار والوجود الحقيقي إذ لا تقوم بالله وإلى إن النفس وصفائها مجوفة لسي لها بقاء لأن البقاء إنما هو بفيض الروح يعني إن الذي رش عليه من رطوبة الروح حي باذن الله وصلح قابلاً للصفات الإلهية وإلا مات وفسد {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنا بَاقِيَةٍ} الاستفهام لإنكار الرؤية والباقية اسم كالبقية لا بوصف والتاء للنقل الاسمية ومن زائدة وباقية مفعول ترى أي ما ترى منهم بقية من صغارهم وكبارهم وذورهم وإناثهم غير المؤمنين ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف بمعنى نفس باقية أو مصدراً بمعنى البقاء كالكاذبة والطاغية والبقاء ثبات الشيء على الحالة الأولى وهو يضاد الفناء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
مقر راست كه بودند برزمانه بسى
شهان تخت نشين خسر وإن شاء نشان
و عاصفات قضا ازمهب قهر وزيد
شدند خاك وازان خاك نيزنيست نشان
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يبقى في الدنيا بالعمر الثاني كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه السلام واجعل لي لسان صدق في الآخرين على أن الحياة الباقية الحقيقية هي ما حصلت بالتجلى الإلهي والفيض المآلى الكلى نسأل الله سبحانه أن يفيض علينا سجال فيضه وجوده بحرمة أسمائه وصفاته ووجوب وجوده {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ} أي فرعون موسى أفرده بالذكر لغاية علوه واستكباره {وَمِن قَبْلِهِ} ومن تقدمه من الكفرة غير عاد وثمود فهو من قبيل التعيمم بعد التخصيص ومن صولة وقبل نقيض بعد وقرأ أبو عمرو ويعقوب والكسائي قبله بكسر القاف وفتح الباء بمعنى ومن معه من القبط من أهل مصرف {وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ}
134
(10/102)
أي قرى قوم لوط أي ألها لأنها عطفت على ما قبلها من فرعون ومن قبله يقال افكه عن الشيء أي قلبه وائتفكت البلدة بأهلها أي انقلبت والله تعالى قلب قرى قوم لوط عليهم فهي المنقلبات بالخسف وهي خمس قريات صعبه وصعده وعمره ودوما سدم وهي أعظم القرى ثم هذا من قبيل التخصيص بعد التعميم للتميم لأن قوم لوط أتوا بفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين {بِالْخَاطِئَةِ} الباء للملابسة والتعدية وهو الأظهر أي بالخطأ أو بالغفلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم التي من جملتها تكذيب البعث والقيام فالخاطئة على الأول مصدر كالعاقبة وعلى الأخيرين صفة لمحذوف والبناء للنسبة على التجريد والأظهر أنه من المجاز العقلي كشعر شاعر {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} أي فعصى كل أمة رسولهم حين نهاهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح فالرسول هنا بمعنى الجمع لأن فعولاً وفيعلاً يستوي فيهما المذكر والمؤنث والواحد والجمع فهو من مقابلة الجمع بالجمع المستدعية لانقسام الآحاد على الأماد فالإضافة ليست للعهد بل للجنس {فَأَخَذَهُمْ} أي الله تعالى بالعقوبة أي كل قوم منهم {أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار أو على القدر المعروف عند الناس لما زادت معاصيهم في القبح على معاصي سائر الكفرة أغرق من كذب نوحاً وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة وحمل مدائن لوط بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة ثم قلبها وأتبعها الجارة وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه واغرق فرعون وجنوده أيضاً في بحر القلزم أو في النيل وهكذا عقوب كل أمة عاصية بحسب أعمالهم القبيحة وجوزيت جزاء وفاقاً وفي كل ذلك تخويف لقريش وتحذير لهم عن التكذيب وفيه عبرة موقظة لأولى الألباب يقال : ربا الشيء يربو إذ زاد ومنه الربا الشرعي وهو الفضل الذي يأخذه آكل الربا آئدا على ما أعطاه
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} المعهود وقت الطوفان أي جاوز حده المعتاد تى ارتفع على كل شيء خمسمائة ذراع وقال بعضهم ارتفع على ارفع جبل في الدنيا خمسة عشر ذاعاً أو حده في المعاملة مع خزنة من الملائكة بحيث لم يقدروا على ضبطه وذلك الطغيان ومجاوزة الحد بسبب إصرار قوم نوح على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه فيما أوحى إليه من الأحكام التي جملتها أحوال القيامة فانتقم الله منهم بالإغراق {حَمَلْنَـاكُمْ} أيها الناس أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابكم فكأنكم محمولون بأشخاصكم وفيه تنبيه على المتة في الحمل لأن نجاة آبائهم سبب ولادتهم {فِى الْجَارِيَةِ} يعني في سفينة نوح لأن من شانها أن تجري على الماء والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرف عنه كلمة في فانها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفيتة الجارية بأمرنا وحفظنا من غير غرق وخرق وفيه تنبيه على إن مدار نجاتهم محض عصمته تعالى وإنما السفينة سبب صوري أي لنجعل الفعلة التي هي عارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته
135
فضمير لنجعها إلى المفعلة والقصة بدلالة ما بعد الآية من الوعي.
(وقال الكاشفي) : نا كردانيم آن كشتى رابراي شماندى وعبرتي درنجات مؤمنان وهلاك كافران وفي كشف الأسرار تا آنرا يادكارى كنيم تاجهان بود.
وقد أدرك السفينة أوائل هذه الأمة وكان ألوحها على الجودي {وَتَعِيَهَآ} أي تحفظا وبالفارسية ونكاه دارداين ندرا.
والوعى أن تحفظ اعلم ووعيت الشيء في نفسك يقال وعيت ما قلته ومنه ما قال عليه السلام : لا خير في العيش إلا العالم ناطق ومستمع واع والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء يقال أوعيت المتاع في الوعاء منه ما قال عليه السلام : لا سماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما لا توعى فيوعى الله عليك أرضخي ما استطعت وقال الشاعر :
الخير يبقى وإن طال الزمان به
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
{أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به يقال الوعي فعل القلب ولكن الآذان تؤدي الحديث إلى القلوب الواعية فنعتت الآذن بنعت القلوب (وفي البستان) :
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
وكرنيستى سعى جاسوس كوش
خبركي رسيدي بسلطان هوش
(10/103)
والتنكير والتوحيد حيث لم يقل الآذان الواعية للدلالة على قلتها وإن من هذا شانه مع قلته يتسبب لنجاة الجم الغفير وإدامة نسلهم يعني إن من وعي هذه القصة إنما يعيها ويحفظها لأجل أن يذكرها للناس ويرغبهم في الإيمان المنجى ويحذرهم عن الكفر المردي فيكون سبباً للنجاة والإدامة المذكورتين قال في الكشاف الاذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله وإن ما سواها لا وإن ملأوا ما بين الخافقين وفي الحديث : "فلح من جعل الله له قلباً واعياً" وعن النبي عليه السلام إنه قال لعلي رضي الله عنه نزول هذه الآية سألت الله أن يجعلها إذنك يا علي قال فما نسيت شيئاً بعد وما كان لي أن أنسى إذ هو الحافظ للأسرار الإلهية وقد قال ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة وفي رواية أخذ بأذن علي بن أبي طالب وقال هي هذه ذكره النقاش :
كره ناصح را بود صدداعيه
ندار أذنى ببايد واعيه
كرنبودي كوشهاي غيب كير
وحى ناوردي زكردون يك بشير
قال بعضهم : تلك آذان اسمها الله في الأزل خطابه فهي واعية تعى من الحق كل خطاب وعن أبي هريرة إنه قيل على إنك تكثر رواية الحايث وغيرك لا بروى مثلك فقلت إن المهاجرين والأنصار كان شغلهم عمل أمولهم وكنت أمر مسكيناً ألزم رسول الله وأقنع بقوتي وقال عليه السلام ، يوماً من آل أيام إنه لن يبسط د ثوبه حتى أقضى مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه الأوعى ما أقول فبسطت نمرة على حتى إذا قضى مقالته جمعتها إلى صدري فما نسيت من مقالته عليه السلام شيئاً وفيه إشارة إلى تأثير حسن المقال وفائدته وإلا لكان دعاؤه عليه السلام كافياً في وعيه كما وقع لأمير المؤمنين رضي الله عنه {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} شروع في بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها
136
أثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها وانفخ إرسال الريح من الفم وبالفارسية دميدن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
والصور قرن من نور أوسع من السموات ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله فيحدث صوت عظيم فإذا سمع الناس ذلك الصوت يصيحون ثم يموتون إلا من شاء والمصدر المبهم هو الذي يكون لمجرد التأكيد وإن كان لا يقام مقام الفاعل فلايقال ضرب ضرب إذ لا يفيد أمراز آئدا على مدلول الفعل إلا نه حسن إسناد الفعل في الآية إلى المصدر وهو النفخة لكونها نفخاً مقيداً بالوحدة والمرة لا نفخاً مجرداً مبهماً والمراد بها ههنا النفخة الأولى التي لا يبقى عندها حيوان الأمات ويكون عندها خراب العالم لما دل عليه الحمل والدك الآتيان وفي الكشاف فإن قلت هما نفختان فلم قيل واحدة قلت معناه أنها لا تثنى في وقتها انتهى.
يعني إن حدوث الأمر العظيم بالنفخة وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث إنه نفخ فنبه على ذلك بقوله واحدة وفي كشف الأسرار ذكر الواحدة للتأكيد لأن النفخة لا تكون إلا واحدة {وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ} أي قامت ورفعت من أماكنها بمجرد القدرة الإلهية أو بتوسط الزلزلة والريح العاصفة فإن الريح من قوة عصفها تحمل الأرض والجبال كما حملت أرض وجود قوم عاد وجبال جمالهم مع هوادجها {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أي فضربت الجملتان جملة الأرضين وجملة الجبال أثر رفعها بعضها ببعض ضربة واحدة بلا احتياج إلى تكرار الضرب وتثنية الدق حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً وإلا فالظاهر فدككن دكة واحدة لإسناد الفعل إلى الأرض والجبال وهي أمور متعددة ونظيره قوله تعالى إن السموات والأرض كانتا رتقا حيث لم يقل كن والدك أبلغ من الدق وفي الصحاح الدك الدق وقد دكه إذا ضربه وكسره حتى سواء بالأرض وبابه رد وفي المفردات الدك الأرض اللينة السهلة ودكت الجبال دكا أي جعلت بنمزلة الأرض اللينة ومنه الدكان {فَيَوْمَـاـاِذٍ} أي فحينئذٍ وهو منصوب بقوله {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} هي من أسما القيامة بالغلبة لتحقق وقوعها وبهذا الاعتبار أسند إليه وقعت أي إذا كان الأمر كذلك قامت القيامة التي توعدون بها أو نزلت النازلة العظيمة التي هي صيحة القايمة وهو جواب لقوله فإذا نفخ في الصور ويومئذٍ بدل من إذا كرر لطول لكلام والعامل فيهما وقعت {وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ} وآسمان برشكافت از طرف مجره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
(10/104)
يعني انفرجت لنزول الملائكة لأمر عظيم أراده الله كما قال يوم تشقق السماء بالعمام ونزل الملائكة تنزيلاً أو بسبب شدة ذلك اليوم وهو معطوف على وقعت {فَهِىَ} أي السماء {يَوْمَـاـاِذٍ} ظرف لقوله {وَاهِيَةٌ} ضعيفة مسترخية ساقطة القوة جداً كالغزل المنقوض بعدما كانت محكمة مستمسكة وإن كانت قابلة للخرق والالتئام يقال وهي البناء يهي وهيافهو واه إذا ضعف جداً قال في "القاموس" وهي كوعى وولى تخرق وانشق واسترخى رباطه وفي المفردات الوهى شق في الأديم والثوب ونحوهما {وَالْمَلَكُ} أي اللخق المعروف بالملك وهو أعم من الملائكة ألا ترى إلى قولك ما من ملك إلا وهو شاهد أعم من قولك ما من ملائكة {عَلَى أَرْجَآاـاِهَا} أي جوانب السماء جمع رجى بالقصر وهي جملة حالية ويحتمل أن تعطف على ما قبلها كذا قالوا والمعنى تنشق السماء التي هي مساكنهم فيلجؤون إلى أكنافها
137
وحافلتها قالوا وقوفهم لحظة على أرجائها وموتهم بعدها فإن لملائكة يموتون عند النفخة الأولى لا ينافي التعقيب المدلول عليه بالفاء وقد يقال إنهم هم المستثنون بقوله إلا من شاء الله أي ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا الملائكة ونحوهم قال المولى الفناري في تفسير الفاتحة فإذا وهت السماء نزلت ملائكتها على أرجائها فيرون أهل الأرض خلقاً عظيماً أضعاف ما هم عليه عدد أفيتخيلون إن الله نزل فيهم لما يرون من عظم الملائكة مما لم يشاهدوه من قبل فيقولون أفيكم ربنا فيقول لملائكة سبحان هربنا ليس فينا وهو آت فيصطف الملائكة صفا مستديراً على نواحي الأرض محيطين بعالمي الإنس والجن وهؤلاء هم عمار السماء الدنيا ثم ينزل أهل السماء الثانية بعدما يقبضها الله أيضاً ويرمي بكوكبها في النار وهو المسمى كاتباً وهم أكثر عدداً من أهل السماء الدنيا فيقول الخلائق أفيكم ربنا فيفزع الملائكة فيقولون سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت فيفعلون فعل الأولين من الملائكة يصطفون خلفهم صفا ثانياً مستديراً ثم ينزل أهل السماء الثالثة ويرمي بكوكبها المسمى زهرة في النار فيقبضها الله بيمينه فيقول الخلائق أفيكم ربنا فتقول الملائكة سبحان دبنا ليس هو فينا وهو آت فلا يزال الأمر هكذا سماء بعد سماء حتى ينزل أهل السماء السابعة فيرون خلقاً أكثر من جميع من نزل فيقول الخلائق يكم ربنا فيقول الملائكة سبحان ربنا قد جاء ربنا وإن كان وعد ربنا لمفعولاً فيأتي الله في ظلل من الغام والملائكة على المجنبة اليسرى منهم ويكون إتيانه إتيان الملك فإنه يقول ملك يوم الدين وهو ذلك اليوم فسم بالملك ويصطف الملائكة عليه سبعة صفوف محيطة بالخلائق فإذا أبصر الخلائق جهنم لها فوران وتغيظ على الجبابرة المتبكرين يفرون بأجمعهم منها لعظم ما يرونه خوفاً وفزعاً وهو الفزع الأكبر إلا الطائفة التي لا يحزنهم الفزع الأكبر فتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون فهم الآمنون مع النبيين على أنفسهم غير أن النبيين يفزعون على أممهم للشفقة التي جبلهم الله عليها للخلق فيقولون في ذلك سلم سلم وكان قد أمر أن ينصب للآمنين من خلقه منابر من نور متفاضلة بحسب منازلهم في الموقف فيجلسون عليها آمنين مبشرين وذلك قبل مجيء الب تعالى فإذا فر الناس خوفاً من جهنم يجدون الملائكة صفوفاً لا يتجاوزونهم فتطردهم الملائكة وزعة الملك الحق سبحانه وتعالى إلى الحشر فيناديهم أنبياؤهم ارجعوا ارجعوا أو ينادي بعضهم بعضاً فهو قول الله تعالى فيما يقول رسول الله عليه السلام إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
يقول الفقير : دل هذا البيان على أن المراد بالوهي سقوط السماء على الأرض اتي تسمى بالساهرة وإن نزول الملائكة على أرجاء السماء لا يكون يوم يقوم الناس من قبورهم بالنفخة الثانية وإن ذكر في أثاء النفخة الأولى كما دل عليه ما بعد الآية من حمل العرش والأرض اللذين إنما يكونان بعد النفخة الثانية وإن معنى نزولهم طرد الخلق ونحوه كما قال تعالى لا تنفذون إلا بسلطان أي لا تقصدون مهرباً إلا وهناك لي أعوان ولي به سلطان {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} وهو اللك التاسع وهو جسم عظيم لايعلم عظمة إلا الله تعالى لأنه في الآفاق بمنزلة القلب في الأنفس والقلب أوسع شيء لما وسع الله
138
(10/105)
كما في الحديث وكان عرش الرحمن والفائدة في ذكر العرش عقيب ما تقدم إن العرش بحاله خلاف السماء والأرض ولذلك لا يفنى وإيضاله وجه آخر سيأتي وعن علي بن الحسن رضي الله عنهما قال إن الله خلق العرش رابعاً لم يخلق قبله إلا ثلاثة الهواء والقلم والنور ثم خلق العرش من أنوار مختلفة من ذلك نور ضر منه أخضرت الخضرة نور أصفر منه أصفرت الصفرة ونور أحمر منه أحمرت الحمرة ونور أبيض وهو نور الأنوار ومه ضوء النهار قال بعض الكبار الأنوار أربعة على عدد المراتب الأربع فإذا أعطى الأنوار يعطي في مرتبة الطبيعة نور أسود وفي مرتبة النفس نوراً أحمر وفي مرتبة الروح نوراً أخضر وفي مرتبة السر نوراً أبيض {فَوْقَهُمْ} أي فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء أو فوق الثمانية أي يحملون العرش فوق أنفسهم فالحمول لا يلزم أن يكون فوق الحامل فقد يكون في يده وقد يكون في جيبه فكل واحد من قوله فوقهم ويومئذٍ ظرف لقوله يحمل حينئذ وأما على التقدير الأول فالظاهر أن فوقهم حال من ثمانية قدمت عليها لكونها نكرة {يَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم القيامة {ثَمَـانِيَةٌ} من الملائكة عن النبي عليه السلام هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى فيكون ثمانية قال بعض العلماء الأربعة اللاحقة إشارة إلى الأئمة الأربعة الذين هم أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد لأنهم اليوم حملة الشرع فإذا كان يوم القيامة انقلب الشرع العرش فيكونون من حملته حكماً وروى ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسيحون قال عليه السلام ، إذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش من شحمة إذنه إلى عاتقه خفقان الطير مسيرة سبعمائة سنة يقول سبحانك حيث كتت قال يحيى بن سلام بلغني إن اسمه زوقيل وعن الحسن البصري قدس سره ثمانية أي ثمانية آلاف وعن الضحاك ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
يقول الفقير : الأنسب هو الأول لكونه أدخل في العظمة والهيبة وإظهار والقدرة ولأن الأركان أربعة كآكان الكعبة وأركان القلب إذ في يمين القلب الروح والسر وفي يساره النفس والطبيعة وباعتبار الظاهر والباطن يحصل ثمانية إلاف إذ الأف تفصيل الواحد بحيث لا تفصيل وراءه إلا باعتبار التضعيف والله أعلم ومر في أوائل سورة حم المؤمن بعض ما يتعلق بهذا المقام فلا نعيده.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى عشر الذات الحاملة للصفات الثمانية الذاتية الغيبية التي هي مفاتيح الغيب الموصوفة بحمل ذوات الصفات والصفات تحمل ظهورات الصفات فافهم {يَوْمَـاـاِذٍ} العامل فيه قوله {تُعْرَضُونَ} على الله أي تسألون وتحاسبون عبر عنه بذلك تشبيهاً له بعرض السلطان العسكر لتعرف أحوالهم يقال عرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر ما حالهم والخطاب عام للكل على التغليب.
(روى) أن في يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ وإما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيُذ الفائز كتابه بيمينه والهالك بشماله وهذا العرض وإن كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوماسماً لزمان متسع يقع فيه النفختان والصعقة والنشورو الحساب وإدخال أهل الجنة الجة وأهل النار النار صح جعله ظرفا للكل كما تقول جئت عام كذا وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته
139
وذهب المشبهة من حمل العرش والعرض إلى كونه تعالى محمولاً حاضراً في العرش وأجيب بأنه تمثل لعظمة الله بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم بروزهم للقضاء العام فيكون المراد من إتيانه تعالى في ظلل من الغام إتيان أمره وقضائه وأما حديث التحول فمحمول على ظهوره تعالى في مرتبة الصفت ولا مناقشة فيه لأن النبي عليه اسلام رآه ليلة المعراج في صورة شاب امرد في الصورة الإنسانية أجمع الصور ومثله الرؤيا المنامنية والله تعالى منزه في ذته عن أوصاف الجسمانيات {لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} حال من مرفوع تعرضون ومنكم كان في الأصل صفة لخافية قدم للفاصلة فتحول حالاً أي تعرضون غير خاف عليه تعالى فعلة خفيفة أي سر من أسراركم وإنما العرض لإفشاء الحال والمبالغة في العدل وغير خاف يومئذٍ على الناس كقوله تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} فقوله منكم يتعلق بما قبله وما بعده على التجاذب.
(10/106)
(قال في الكشاف) : خافية أي سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم والسر والسريرة الذي يكتم ويخفى فتظهر يوم القيامة أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم وتظهر أحوال غيرهم فيحصل الحن والافتضاح ففي الآية زجر عظيم عن المعصية لتأديها إلى الافتضاح على رؤوس الخلائق فقلب الإنسان ينبغي أن يكون بحال لو وضع في طبق وأدير على الناس لما وجد فيه ما يورث الخجالة وهو صفة أهل الإخلاص والنصيحة فأما} تفصيل لأحكام العرض {مِنَ} موصولة {أُوتِىَ كِتَـابَهُ} أي مكتوبه الذي كتبت الحفظة فيه تفاصيل أعماله {بِيَمِينِهِ} تعظيماً له لأن اليمين يتيمن بما والباء بمعنى في أول للإلصاق وهو الأوجه والمراد منهم الأبرار فإن ال مقربين لا كتاب لهم ولا حساب لهم لمكانتهم من الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه عليه السلام قال : أول من يعطي كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب وله شعاع كشعاع الشمس قيل ل فأين أبو بكر فقال هيهات زفته الملائكة إلى الجنة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
يقول الفقير : لعل هذا مكافاة له حين أخذ سيفه بيده وخرج من دار الأرقم وهو يظهر الإسلام على ملأ من قريش فبسيفه ظهر الإسلام فرضي الله عنه وعن مجيه وفي الحديث أثببت أحد فإنما عليك نبي والصديق وشهيدان وكان عليه رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فتحرك فقاله دل الحديث على إنه رتبة أبي بكر فوق رتبة غيره لأن الصديقية تلي النبوة {فَيَقُولُ} فرحاً وسروراً فإنه لما أوتى كتابه بيمينه علم إنه من الناجين من النار ومن الفائزين بالجنة فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ} أي خذوا يا أهل بيتي وقرابتي وأصحابي كتابي وتناولوه اقرأ واكتابي زيرا در اينجا عملي نيست كه از إظهار آن شرم دارم ودر تبيان آورده كه اين كتاب ديكر است بغير كتاب اعمل كه نوشته ودراو بشارت جنت است وس ه كتاب حفظ ميان بنده وخدا وندست وكسى آنرانه بيند ونه خواند.
وفي الخبر حسنات المؤمن في ظاهر كتابه وسيئاته في باطنه لا يراها إلا هو فإذا انتهى يرى مكتوباً فقد غفر تهالك فاقلب فيرى في الظاهر قد قبلتها منك فيقول من فرط السرور هاؤم اقرأ وا كتابيه أي هلموا أصحابي كما في عين المعاني
140
يقال هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها وهاؤماً يا رجلان أو يا امرأتان وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة بمعنى خذ خذا خذوا خذي خذا خذن ومفعوله محذوف وكتابي مفعول اقرأ وإلا أقرب العاملين فهو أقوى لكونه بمنزلة العلة القربية وأصله هاؤم كتابي اقرلأا كتابي فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ونظيره آتوني أفرغ عليه قطرا والهاء للوقف والاستراحة والسكت تثبت بالوقف وتسقط في الوصل كما هو الأصل في هاء السكت لأنها إنما جيء بها حفظاً للحركة أي لتحفظ حركة الموقوف عليه إذ لو لاها لسقطت لحركة في الوقف فتثبت حال ال وقف إذ لا حاجة إيها حال الوصل فلذلك كان حقها إن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل إلا أن القراء السبعة اتفقوا في كل المواضع على إثباتها وقفاً وصلاً إجراء للوصل مجرى الوقف واتباعاً رسم الامام فإنها ثابتة في المصحف في كل المواضع وهي كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه وماهيه في القارعة وما كان ثابتاً فيه لا بد أن يكون مثبتاً في اللفظ إلا أن حمزة أسقط الهاء من ثلاث كلم وصلاً وهي ماليه وسلطانيه وماهيه وأثبتها وقفاً على الأصل ولم يعمل بالأصل في كتابيه وحسابيه وأثبتها في الحالين جمعاً بين اللغتين وتبين من هذا التقرير إن المستحب إيثار الوقف اتباعاً للوصل وإن إثباتها وصلاً إنما هو لأتباع المصحف قال في القاموس هاء السكت هي اللاحقة لبيان حركة أو حرف نحو ماهيه وها هناه واصلها أن يوقف عليها وربما وصلت بنية الوقف انتهى.
وهذه الهاء لا تكون إلا ساكنة وتحريكها لحن أي خطأ لأنه لا يجوز الوقف على المتحرك وهاء السكت في القرآن في سبعة مواضع في لم يتسنه وفي فبهداهم اقتده وفي كتابيه وفي حسابيه وفي مالهي وفي سلطانيه وفي ماهيه وإما الهاء التي في القاضية وفي هاوية وخاوية وثمانية وعالية ودانية وأمثالها فللتأنيث فيوقف عليهن بالهاء يوصلن بالتاء {إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ} الحساب بمعنى الحسابية وهو عد أعمال العباد في الآخرة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
خيراً وشراً للمجازاة أي علمت وأيقنت أني مصادق حسابي في ديون الحساب الإلهي وإني أحاسب في الآخرة يعني دانستم وإيمان آوردم كه مرا حساب خواهند كرد وآنرا آماده ومتهيء شدم.
(10/107)
قال الراغب الظن اسم لم ايحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جداً لم تتجاوز حد التوهم انتهى.
ومنه يعلم قول من قال سمى اليقين ظناً لأن الظن يلد اليقين انتهى.
وإنما فسر الظن بالعلم لأن البعث والحساب مما يجب بهما الإيمان ولا إيمان بدون اليقين قال سعدى المفتي وفيه بحث فإيمان القلد ذو اعتبار وصرحوا بأ الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيص يكفي في الإيمان ثم إنه يجوز أن يكون المراد ما حصل له من حسابه اليسير ولا يقين به لوجوب أن يكون المؤمن بين الخوف والرجاء والمراد إني ظننت إني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله عني ذلك وفرج همي انتهى.
يقول الفقير : هذا عدول عما عليه ظاهر القرآن فإن الظن في مواضع كثيرة منه بمعنى اليقين كما في قوله تعالى حكاية قال الذين يظنون إنهم ملاقوا الله وهم المؤمنون بالآخرة وفي قوله
141
تعالى وظن داود إنما فتناه أي علم وأيقن بلعلامة القوية قال القاضي ولعل التعبير عن العلم بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد وما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالباً يعني أن الظن استعير للعلم الاستدلالي لأنه لا يخلو عن الخطرات والوساوس عند الذهول عما قاد إليه من الدليل للإشعار المذكور وإما العلوم الضرورية والكشفية فعارية عن الاضطراب وفي الكشاف وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقام قمام العلم في العادات والأحكام ويقال أظن ظناً كاليقين إن الأمر كيت وكيت {فَهُوَ} أي من لأتى كتابه بيمينه {فِى عِيشَةٍ} نوع من العيش وهو بالفتح وكذا العيشة والمعاش والمعيش والعيشوشة بالفارسية زيستن.
قال بعض العلماء إذا كسر العين من العيش ، يلزمه التاء كما في عيشة والعيش الحياة المختصة بالحيوان وهو أخص من الحياة لأن الحياة تقال في الحيوان وفي البازي وفي الملك ويتشق منه المعيشة لما يتعيش منه قال عليه السلام ، لا عيش إلا عيش الآخرة {رَّاضِيَةٍ} ذات رضى يرضاها من يعيش فيها على النسبة بالصيغة فإن النسبة نسبتان نسبة بالحرف كمكي ومدني وتسبة بالصيغة كلا بن وتامر بمعنى ذي لبن وذي تمر ويجوز أن يجعل الفعل لها وهو لصاحبها فيكون من قبيل الإسناد المجازي ومآل الوجهين كون العيشة مرضية وإلى ما ذكرنا يرجع قول من قال راضية في نفسها فكأنها لرغادتها قد رضيت بما هي فيه مجازاً أو بمعنى مرضية كماء دافق أي مدفوق انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
وفي التأويلات النجمية راضية هنيئة مريئة صافية عن شوائب الكدر طائرة عن نوائب الحذر وبالفارسية در زندكاني باشد سنديده صافي از كدورت ومقرون بحرمت وحشمت.
وذلك أي كون العيشة مرضية لاشتمالها على أمور ثلاثة الأول كونها منفعة صافية عن الشوائب والثاني كونهاد آئمة لا يترقب زوالها وانقطاعها والثالث كونها بحيث يقصد بها تعظيم من رضى بها وا كرامه وإلا يكون استهزاء واستدراجاً وعيشة من أعطى كتابه بيمينه جامعة لهذه الأمور فتكون مرضياً بها كمال الرض قال ابن عباس رضي الله عنهما يعيشون فلا يموتون ويصحون فلا يمرضون وينعمون فلا يرون بؤساً أبداً {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} مرتفعة المكان لأنها في السماء كما أن المنار سافلة لأنها تحت الأرض أو الدرجات أو الأبنية والأشجار فيكون عالية من الصفات الجارية على غير من هي له وهو بدل من عيشة يا عادة الجار ويجوز كونه متعلقاً بعيشة راضية أي يعيش عيشاً مرضياً في جنة عالية {قُطُوفُهَا} ثمراتها جمع قطف بالكسر وهو ما يقطف ويجتنى بسرعة والقطف بالفتح مصدر قال سعدى المفتي اعتبار السرعة في مفهوم القطف محل كلام قال ابن الشيخ معنى اسرعة قطع الكل بمرة وفي "القاموس" القطف بالكسر العنقود واسم للثمار المقطوفة انتهى.
فلا حاجة إلى أن يقال غلب هنا في جميع ما يجتبى من الثمر عنباً كان أو غيره {دَانِيَةٌ} من الدنو وهو القرب أي قريبة من مريدها.
يعني خوشه هاي آن ازدست يننده نزديك.
ينالها القائم والقاعد والمضطجع من غير تعب وقيل لا يتأخر إدراكها انتهى.
وإذا أراد
142
أن تدنو إلى فيه دنت بخلاف ثمار الدنيا فإن في قطفها وتحصيلها تعباً ومشقة غالباً وكذا لا تؤكل إلا بمزاولة اليد.
(10/108)
يقول الفقير : أشجار الجنة على صورة الإنسان يعني أن أصل الإنسان رأسه وهي في طرف العلو ورجله فرعه مع أنها في طرف السفل فكذلك أصول أشجار الجنة في طرف العلو وأغصانها متدلية إلى جانب السفل ولذا لا يرون تعباً في القطف على أن نعيم الجنة تابع لإرادة المتنعم به فيصرف فيه كيف يشاء من غير مشقة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} بإضمار القول والجمع بعد قوله فهو باعتبار المعنى والأمر أمر امتنان وإباحة لا أمر تكليف ضرورة إن الآخرة ليست بدار تكليف وجمع بين الأكل والشرب لأن أحدهما شقيق الآخر فلا ينفك عنه ولذا لم يذكر هنا الملابس وإن ذكرت في موضع آخر يقال لمن أوتى كتابه بيمينه كلوا من طعام الجنة وثمارها واشربوا من شرابها مطلقاً {هَنِياـاَا} أكلا وشربا هنيئاً أي سائغاً لا تنغيص فيه في الحلقوم وبالفارسية خوردنى وآشميدنى كوارنده.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
وجعل الهنيء صفة لهما لأن الصمدر يتناول المثنى أيضاً من هنؤ الطعام والشراب وهنء يهنأ ويهنؤ ويهنىء هناءة وهناء أي صار هنيئاً سائغاً فهو هنيء ومنه اليهنىء المشتهر في اللسان التركي في اللحم المطبوخ ويستعمله العجم بالخاء المعجمة بدل الهاء كما قال في المثنوى :
وين زاز بهرميان روزرا
يخنىء باشدشه فيروزرا
وإسناد الهناءة إلى الأكل والشرب مجاز للمبالغة لأنها للمأكول والمشروب وقولهم هنيئاً عند شرب الماء ونحوه بمعنى صحة وعافية لأن السائغ محظوظ منه بسب الصحة والعافية غالباً {بِمَآ أَسْلَفْتُمْ} بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة أو بدله أو بسبه ومعنى الأسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالأقراض ومنه يقال أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله {فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ} أي الماضية في الدنيا وعن مجاهد أيام الصيام فيكون المعنى كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله في أيام الصيام لا سيما في الأيام الحارة وهو الأولى لأن الجزاء لا بد وإن يكون من جنس العلم وملائماً له كما قال بعض الكبار لم يقل أشهدوا ولا أسمعوا وإنما جوزوا من حيث عملوا ونظيره فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وقوله إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم ونظائر ذلك ورؤى بعضهم في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال رحمني وقال كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب فلم يقل كل يا من قطع الليل تلاوة واشرب يا من ثبت يوم الزحف فإن هذا ما تعطيه الحكمة كما في مواقع النجوم.
(وروى) يقول الله يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدناي وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
قوله قلصت من الباب الثاني يقال قلص الظل أي نقص والماء أي ارتفع في البئر والشفة أي انوت والثوب أي انزوى بعد الغسل ومصدر الجميع القلوص والتركيب يدل على انضمام شيء بعضه إلى بعض وخمصه الجوع خمصاً ومخمصة من الباب الأول يعني باريك ميان كرد ويرا كرسنكى.
وفيه إشارة إلى أيام الأزل الخالية عن الأعمال والعلل والأسباب أي كلوا من نعيم الوصال واشربوا من شراب الفيض بما أسلفه الله لكم في الأزل
143
والقدم من العناية إذ بتلك العناية قمتم مع الحق في جميع الأحوال.
ون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
آن به كه كارخود بعنايت رها كنند
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِشِمَالِهِ} تحقيراً له لأن الشمال يتشاءم بها بأن تلوى يسراه إلى خلف ظهره فيأخذه بها ويرى ما فيه من قبائح الأعمال {فَيَقُولُ} تحزناً وتحسراً وخوفاً مما فيه وهو من قبيل الألم الروحاني الذي هو أشد من الألم الجسمني هؤلاء يا معشر المحشر {لَيْتَنِى} كاشكى من.
وهو تمننٍ للمحال {لَمْ أُوتَ} متكمل مجهول منا لإيتاء بمعنى لم أعط {كِتَـابِيَهْ} هذا الذي جمع جميع سيئاتي {وَلَمْ أَدْرِ} متكلم من الدراية بمعنى العلم {مَا حِسَابِيَهْ} لما شاهد من سوء العاقبة وبالفارسية كاشكى ندانستمى امروز يست حساب من ه حاصلي نيست مرانرا جز عذاب وشدت ومحنت.
فما استفهامية معلق بها الفعل عن العلم ويجوز أن تكون موصولة بتقدير المبتدأ في الصلة يا لَيْتَهَا} تكرير للتمني وتجديد للتحسر أي يا ليت الموتة التي متها وذقتها وذلك إن الموتة وإن لم تكن مذكورة إلا أنها في حكم المذكور بدلالة المقام {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} أي القاطعة لامرى وحياتي ولم أبعث بعدها ولم ألق ألقى ما يتمنى عند مطالعة كتابه إن تدوم عليه الموتة الأولى وإنه لا يبعث للحساب ولا يلقى ما أصابه منالخجالة وسوء العاقبة ويجوز أن يكون ضمير ليتها لما شاهد من الحالة أي يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت على يتمنى إن يكون بدل تلك الحالة الموتة القاطعة للحياة لما إنه وجد تلك الحالة أمر من الموت فتمناه عندها وكان في الدنيا أشد كراهية للموت قال الشاعر :
وشر من الموت الذي إن لقيته
(10/109)
تمنيت منه الموت والموت أعظم
{مَآ أَغْنَى عَنِّى} أيلم يدفع عني شيئاً من عذاب الآخرة على أن ما نافية والمفعول محذوف {مَالِيَهْ} أي الذي كان لي في الدنيا من المال والاتباع على أن ما موصولة واللام جارة داخلة على ياء المتكلم ليعم مثل الاتباع فإنه إذا كان اسماً مضافاً إلى ياء المتكلم لم يعم وفي "الكشاف" ما أغنى نفي واستفهام على وجه الإنكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار انتهى.
حتى ضيعت عمري فيه أي لم ينفعني ولم يدفع عني شيئاً من العذاب فما استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول أغنى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
يقول الفقير : الظاهر أن مالية هو المال المضاف إلى ياء المتكلم أي لم يغن عني المال الذي جمعته في الدنيا شيئاً من العذاب بل ألهاني عن الآخرة وضرني فضلاً عن أن ينفعني وذلك ليوافق قوله تعالى ولا يغنى عنه ماله إذا تردى وقوله ما أغنى عنه ماله وما كسب والنظائر ذلك فما ذهب إليه أكثر أهل التفسير من التعميم عدول عما ورد به ظاهر القرآن {هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ} قال الراغب السلاطة التمكن من القهر ومنه سمى السلطان والسلطان يقال في السلاطة نحو قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطاناً وقد يقال الذي السلاطة وهو الأكثر وسميت الحجة سلطاناً وذلك لما لحق من الهجوم على القلوب لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة من المؤمنين وقوله هلك عني سلطانيه يحتمل السلطانين انتهى.
والمعنى هلك عني
144
ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً أو ضلت عني حجتي كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ومعناه بطلت هجتي التي كنت أحتج بها عليهم في الدنيا وبالفارسية كم كشت از من حجتي كه دردنيا نك دران زده بودم.
ورجح هذا المعنى بأن من أوتى كتابه بشماله لا اختصاص له بالملوك بل هو عام لجميع أهل الشقاوة.
يقول الفقير : قوله تعالى : {مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ} يدل على الأول على أن فيه تعريضاً بنحو الوليد من رؤساء قريش وأهل ثروتهم ، ويجوز أن يكون المنى تسلطي على القوى والآلات فعجزت عن استمالها في العبادات وذلك لأن كل أحد كان له سلطان على نفسه وماله وجوارحه يزول في القيامة سلطانه فلا يملك لنفسه نفعاً خذوه} حكاية لما يقول الله يومئذٍ لخزنة النار وهمالزبانية الموكلون على عذابه والهاء راجع إلى من الثاني أي خذوا العاصي لربه {فَغُلُّوهُ} بلا مهلة أي أجمعوا يديه إلى عنقه بالقيد ولحديذد وشدوه به يقال غل فلان وضع في عنقه أو يده الغل وهو بالضم الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس وبالتفح دست باكردن بستن.
وفي الفقه وكره جعل الغل في عنق عبده لأنه عقوبة أهل النار وقال الفقيه إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الأباق كمال في الكبرى بخلاف التقييد فإنه غير مكروه لأنه سنة المسلمين في المتمردين {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} دل التقديم على التخصيص والمعنى لا تصلوه أي لا تدخلوه إلا الجحيم ولا تحرقوه إلافيها وهي النار العظمى ليكون الجزاء على وفق المعصية حيث كان يتعظم على الناس قال سعدى المفتي فيكون مخصوصاً بالمتعظمين وفيه بحث انتهى.
وقد مر جوابه {ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ} من نار وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة والجار متعلق بقوله فاسلكوه والفاء ليست بمانعة عن التعلق {ذَرْعُهَا} طولها وبالفارسية كزان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
والذراع ككتاب ما يذرع به حديداً أو قضيباً وفي المفردات الذارع العضو المعروف ويعبر به عن المذروع والممسوح يقال ذراع من الثوب والأرض والذرع يمودن.
قوله ذرعها مبتدأ خبره قوله {سَبْعُونَ} والجملة في محل الجر على إنها صفة سلسلة وقوله {ذِرَاعًا} تمييز {فَا سْلُكُوهُ} السلك هو زدخال في الطريق والخيط والقيد وغيرها ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين العذابين الغل وتسلية الجحيم وما بينهما وبين السلك في السلسلة في الشدة لا على تراخي المدة يعني إن ثم أخرج عن معنى المهلة لاقتضاء مقام التهويل ذلك إذ لا يناسب التوعد يتفرق العذاب قال ابن الشيخ إن كلمتي ثم والقاء إن كانتا لعطف جملة فاسلكوه لزم اجتماع حرفي العطف وتواردهما على معطوف واحد ولا وجه له فينبغي أن يكون كلمة ثم لعطف مضمر على مضمر قبل قوله خذوه أي قيل : لخزية النار خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم قيل لهم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه فيكون الفاء لعطف لمقول على المقول مع إفادة معنى التعقيب وكلمة ثم لعطف القول على القول مع الدلالة على أن الأمر الأخير أشد وأهول مما قبله من الأومر مع تعاقب المأمور بها من الأخذ وجعل يده مغلولة إلى عنقه وتصلية الجحيم وسلكهم إياه السلسلة الموصوفة والمعنى فأدخلوه فيها بأن تلفوها على جسده وتجعلوه محاطاً بها فهو فيما بينها مرهق مضيق عليه
145
(10/110)
لا يستطيع حراكاً كما كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل النار يكونون في السلسلة كما يكون الثعلب في الجلبة والثعلب طرف خشبة الرمح الداخل في الجلبة السنان وهي الدرع وذلك إنما يكون رهقاً أي غشية وبالفارسية س در آريد اورادران يعني درجسد أو ييد محكم تا حركت نتواندكرد.
وتقديم السلسلة على السلك كتقديم الجحيم على التصلية في الدلالة على الاختصاص والاهتمام بذكر ألوان ما يعذب به أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة لأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم وجعلها سبعين ذراعاً إرادة لوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد فهو كناية عن زيادة الطول لشيوع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في التكثير وقال سعدى المفتي الظاهر أنه لا منع من الحمل على ظاهره من العدد قال الكاشفي يعني بذراع ملك كه هر ذراعى هفتاد باعتس ورهباعي ازكوفه تامكه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
وقال بعض المفسرين هي بالفراع المعروفة عندنا وإنما خوطبنا بما نعرفه ونحصله وقال الحسن قدس سره الله أعلم بأي ذراع هي وعن كعب لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منا ولو وضعت منها حلقة على جبل لذاب مثل الرصاص تدخل السلسلة في فيه وتخرج من دبره ويلوى فضلها على عنقه وجسده ويقرن بها بينه وبين شيطانه.
يقول الفقير هذا يقتضي أن يكون ذلك عذاب الكافر لأن جسده يكون في العظم مسيرة ثلاثة أيام وضرسه مثل جبل أحد على ما جاء في الحديث وعن النبي عليه السلام قال لو رضراضة أي صخرة قد رأس الرجل وفي رواية لو أن رضرضة مثل هذه وأشار إلى صخرة مثل الجمجة سقطت من السماء إلى الأرض وهي خمسمائة عام لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاف الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها قال الشراح اللام في السلسلة في هذا الحديث للعهد إشارة إلى السلسلة التي ذكرها الله في قوله ثم في سلسلة الخ.
(روى) إن شاباً قد حضر صلاة الفجر مع الجماعة خلف واحد من المشايخ فقرأ ذلك الشيخ سورة الحاقة فلما بلغ إلى قوله تعالى خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه صاح الشاب وسقط وغشى عليه فلما أتم الشيخ صلاته قال من هذا قالوا هو شاب صالح خائف من الله تعالى وله والدة عجوز ليس لها غيره قال الشيخ ارفعوه واحملوه حتى نذهب به إلى أمه ففعلوا ما أمر به الشيخ فلما رأت أمه ذلك فزعت وأقبلت وقالت ما فعلتم يا بني قالوا ما فعلنا به شيئاً إلا أنه حضر الجماعة وسمع آية مخوفة من القرآن فلم يطق سماعها فكان هكذا بأمر الله فقالت آية آية هي فاقرأوها حتى اسمع فقرأها الشيخ فلما وصلت الآية إى سمع الشاب شهق شهقة أخرى خرجت معها روحه بأمر الله فلما رأت الأم ذلك خرت ميتة.
وفي التأويلات النجمية : قوله ثم في سلسلة الخ.
يشير إلى كثرة أخلاقه السيئة وأوصافه الرديئة وأحكام طبيعته الظلمانية إذ هي يوم القيامة كلها سلاسل العذاب وإغلال الطرد والحجاب {إِنَّهُ} بدرستى كه اين كس.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
كأنه قيل ماله يعذب بهذا العذاب الشديد فأجيب بأنه {كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} وصفه تعالى بالعظم للإيذان بأنه المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} الحض الحث على الفعل بالحرص على وقوعه قال الراغب :
146
(10/111)
الحض التحريك كالحث إلا أن الحث يكون بسير وسوق والحض لا يكون بذلك وأصله من الحث على الحضيض وهو قار الأرض والمعنى ولا يحث أهله وغيرهم على إعطاء طعام يطعم به الفقير فضلاً عن أن يعطي ويبذل من ماله على أن يكون المراد من الطعام العين فاضمر ثمل إعطاء أو بذل لأن الحث والتحريض لا يتعلق بالأعيان بل بالأحداث وأضيف الطعام إلى المسكين من حيث إن له آلية نسبة أو المعنى ولا يحثهم على إطعامه على أن يكون اسماً وضع موضع الإطام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء فالإضافة إلى المفعول وذكر الحض دون الفعل ليعلم إن تارك الحض بهذه المنزلة فيكف بتارك الفعل يعني يكون ترك الفعل أشد من أن يكون سبب المؤاخذة الشديدة وجعل حرمان المسكين قرينة للكفر حيث عطفه عليه للدلالة على عظم الجرم ولذلك قال عليه السلام البخل كفر والكافر في النار فتخصيص الأمرين بالذكر لما إن أقبح العقائد الكفر واشنع الرذائل البخل والعطف للدلالة على أن حرمان المسكين صفة الكفرة كما في قوله تعالى : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} فلا يلزم أن يكون الكفار مخاطبين به بالفروع وفي عين المعاني وبه تعلق الشافعي في خطاب الكفار بالشرائع ولاي صح عندنا لأن توجيه الخطاب بالأمر ولا أمر ههنا على أنه ذكر الإيمان مقدماً وبه نقول انتهى.
وقال ابن الشيخ فيه دليل على تكليف الكفار بالفروع على معنى إنهم يعاقبون على ترك الامتثال بها كعدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والانتهاء عن الفواحش والمنكرات لا على معنى إنهم يطالبون بها حال كفرهم فإنهم غير مكلفين بالفروع بهذا المعنى لاعدام أهلية الآداء فيهم لأن مدار أهلية الآداء هو استحقاق الثواب بالأداء ولا ثواب لأعمال الكفار وأهلية الوجوب لا تستلزم أهلية الأداء كما تقرر في الأصول انتهى.
والحاصل إن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة لا غير وعن أبي الدرداء رضي الله عنه إنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين وكان يقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الآخر بالإطعام والحض عليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
جوى بازدارد بلاي درشت
عصايىء شنيدي كه عوجي بكشت
كسى نيك بيند بهردو سراى
كه نيكى رساند بخلق خداي
فليس له اليوم} وهو يوم القيامة {هَـاهُنَآ} أي في هذا المكان وهو مكان الأخذ والغل {حَمِيمٍ} أي قريب نسباً أو وداً يحميه ويدفع عنه ويحزن عليه لأن أولياه يتحامونه ويفرون منه كقوله ولا يسأل حميم حميماً وقال في "عين المعاني" قريب يحترق له قلبه من حميم الماء وقال القاشاني : لاستيحاشه من نفسه فكيف لا يستوحش غيرعه منه وهو من تتمة ما يقال للزبانية في حقه إعلاماً بأنه محروم من الرحمة وحثالهم على بطشه {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} قال في "القاموس" الغسلين بالكسر ما يغسل من الثوب ونحوه كالغسالة وما يسيل من جلود أهل النار والشديد الحر وشجر في النار انتهى.
والمعنى ولا طعام إلا من غسالة أهل النار وما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم بعصر قوة الحرارة النارية وبالفارية زردابه وريمى كه ازتنهاى ايشان ميرود.
(روى) إنه لو وقعت قطرة منه على الأرض لأفسدت على الناس معايشهم
147
يقال للنار دركات ولكل دركة نوع طعام وشراب وسيجيىء وجه التلفيق بينه وبين قوله ليس لهم طعام إلا من ضريع في الغاشية وهو فعلين من الغسل فالياء والنون زائدتان وفي الكواشي أو نونه غير زائدة وهو شجر في النار وهو منأخبث طعامهم والظاهر أن الاستثناء متصل إن جعل الطعام شاملاً للشراب كما في قوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّى إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَا بِيَدِه فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا} صفة غسلين والتعبير بالأكل باعتبار ذكر الطعام أي لا يأكل ذلك الغسلين إلا الآثمون أصحاب الخطايا وهم المشركون كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد جوز أن يراد بهم الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله من خطىء الرجل من باب علم إذا تعمد الخطأ أي الذنب فالخاطىء هو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك والمخطىء هو الذي يفعله غير متعمد أي يريد الصواب فيصير إلى غيره من غير قصد كما يقال المجتهد قد يخطىء وقد يصيب وفي عين المعاني الخاطئون طريق التوحيد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
(10/112)
وفي التأويلات النجمية : ولا يحض مساكين الأعضاء والجوارح باوَمال الصالحات والأقوال الصادقات والأحوال الصافيات فلسي له اليوم ههنا من يعينه ويؤنسه لأن المؤنس ليس إلا الأعمال والأحوال ولا طعام لنفسه الميشومة إلا غسالة أعماله وأفعاله القبيحة الشنيعة لا يأكله إلا المتجاوون عن أعمال الروح والقلب القاصدون مراضي النفس والهوى متبعون للشهوات الجسمانية واللذات الحيوانية {فَلا أُقْسِمُ} أي فأقسم على أن لا مزيدة للتأكيد وإما حمله على معنى نفي الإقسام لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم فيرده تعيين المقسم به بقوله بما الخ وقال بعضهم هو جملتان والتقدير وما قاله المكذبون فلا يصح إذ هو قول باطل ثم قال اقسم {بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} قسم عظيم لأنه قسم بالأشياء كلها على سبيل الشمول والإحاطة لأنها لا خرج عن قسمين مبصر وغير مبصر فالمبصر المشاهدات وغير المبصر المغيبات فدخل فيهما الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والأنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة وغير ذلك مما يكون لائقاً بأن يكون مقسماً به إذ من الأشياء ما لا يليق بأن يكون مقسماً به وإليه الإشارة بقول القاشاني أي الوجود كله ظاهراً وباطناً وبقول ابن عطاء آثار القدرة وأسرارها وبقول الشيخ نجم الدين بما تبصرون من المشهودات والمحسوسات بأبصار الظواهر وما لا تبصرون من المغيبات ببصائر البواطن يعني بالمظاهر الإسمائية والمظاهر الذاتية وبقول الحين أي بما أظهر الله لملائكته والقلم واللوح وبما اختزن في علمه ولم يجر القلم به ولم تشعر الملائكة بذلك وما أظهر الله للخلق من صفاته وأراهم من صنعه وأبدى لهم من علمه في جنب ما اختزن عنهم إلا كذرة في جنب الدنيا والآخرة ولو أظهر الله ما اختزن لذابت الخلائق عن آخرهم فضلاً عن حمله وقال الشيخ أبو طالب المكي قدسي سره في قوت القلوب إذا كان العبد من أهل العلم بالله والفهم عنه والسمع منه والمشاهدة له شهد ما غاب عن غيره وأبصر ما عمى عنه سواء كما قال تعالى : {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ} أي القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ} وقوله قول الحق كما قال وما ينطق عن الهوى وكما قال فأجره حتى يسمع كلام الله
148
وفي كشف الأسرار أضاف القول إليه لأنه لما قال قول رسول اقتضى مرسلاً وكان معلوماً أن ما يقرأه كلام مرسله وإنما هو مبلغه فالإضافة الاختصاصية إلى رسول الله تدل عى اختصاص القول بالرسول من حيث التبليغ ليس إلا إذ شأن الرسول التبليغ لا الاختراع وقد يأتي القول في القرآن والمراد به القراءة قال الله تعالى حتى تعلموا ما تقولون أي ما تقرأون في صلاتكم {كَرِيمٌ} على الله تعالى يعني بزركوار نزدخداي تعالى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
وهو النبي عليه السلام ، ويد عليه مقابلة ورسول بشاعر وكاهن لأن المعنى على إثبات إنه رسول لا شاعر ولا كاهن ولم يقولوا لجبريل شاعر ولا كاهن وقيل هو جبريل أي هو قول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد كما تزعمون وتدعون إنه شاعر أو كاهن فالمقصود حينئذٍ إثبات حقية القرآن وإنه من عند الله والحاصل إن القرآن كلام الله حقيقة ، أظهر في اللوح المحفوظو كلام جبريل أيضاً من حيث إنه أنزله من السموات إلى الأرض وتلاه على خاتم النبيين وكلام سيد المرسلين أيضاً من حيث إنه أظهره للخلق ودعا الناس إلى الإيمان به وجعله حجة لنبوته {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تزعمون تارة.
(قال الكاشفي) : نانه أبو جهل ميكويد وسبق معنى الشعر في يس {قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ} إيماناً قليلاً تؤمنون بالقرآن وكونه كلام الله أو بالرسول وكونه مرسلاً من الله والمراد بالقلة النفي أي لا تؤمنون أصلاً كقولك لمن لا يزورك فلما تَينا وأنت تريد لا تأتينا أصلاً.
يقول الفقير : يجوز عندي أن تكون قلة الإيمان باعتبارق لة المؤمن بمعنى إن القليل منكم يؤمنون وقس عليه نظائره {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تدعون ذلك تارة أخرى.
(قال الكاشفي) : نانه عقبة بن أبي معيط كمان ميبرد.
(10/113)
كرر القول مبالغة في إبطال أقاويلهم الكاذبة على القرآن الحق والرسول الصادق والكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعى معرفة الأسرار ومطلعة علم الغيب وفي كشف الأسرار الكاهن هو الذي يزعم أن له خدماً من الجن يأتونه بضرب من الوحي وقد انقطعت الكهانة بعد نبينا محمد عليه السلام ، لأن الجن حبسوا ومنعوا من الاستماع انتهى.
وقال الراغب في المفردات الكاهن الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن كالعراف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة على نحو ذلك ولكون هاتين الصناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطىء ويصيب عليه السلام ، من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما قال فقد كفر بما زل الله على محمد ويقال كهن فلان كهانة إذا تعاطى ذلك وكهن إذا تخصص بذلك وتكهن تكلف ذلك انتهى.
وفي شرح المشارق لابن الملك العراف من يخبر بما أخفى من السمروق ومكن الضالة والكاهن من يخبر بما يكون في المستقبل وفي الصحاح العراف الكاهن {قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تتذكرون أي لا تتذكرون أصلاً.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
قال الكاشفي) : اندكى ندميكيريد يعني ندكير نمى شويد.
(وفي كشف الأسرار) اندك ندمى ذيريد ودرمى باييد.
(وفي تاج المصادر) التذكر يادكردن ويا ياد آوردن وندكرفتن ومذكرشدن كلمه كه مؤنث بود.
وقال بعضهم المراد من الإيمان القليل إميانهم واستيقانهم بأنفسهم وقد جحدوا بألسنتهم لا معنى النفي وقال بعضهم : إن كان المراد منه الإيمان الشرعي فالتقليل للنفي وإن كان اللغوي فالتقليل على حاله لأنهم كانوا يصدقون
149
ببعض أحكام القرآن كالصلة والخير والعفاف ونحوها ويكذبون ببعضها كالوحدة والحقانية والبعث ونحوها وعلى هذا التذكر قيل ذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية لما إن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند فلا مجال فيه لتوهم عذر لترك الإيمان فلذلك وبخوا عليه وعجب منه بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله عليه السلام ، ومعاني القرآن المنافية لطريفة الكهنة ومعاني أقوالهم فالكاهن ينصب نفسه للدلالة على الضوائع والأخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيراً ويأخذ جعلاً على ذلك ويقتصر على من يسأله وليس واحد منها من دأبه عليه السلام والحاصل إن الكاهن من يأتيه الشياين ويلقون إليه من أخبار السماء فيخبر الناس بما سمعه منهم وما يلقيه عليه السلام ، من الكلام مشتمل على ذم الشياطين وسبهم فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين فإنهم لا ينزلون شيئاً فيه ذمهم وسبهم لا سيما على من يلعنهم ويطعن فيهم وكذا معاني ما يلقيه عليه السلام ، منافية لمعاني أقوال الكهنة فإنهم لا يدعون إلى تهذيب الأخلاق وتصحيح العقائد والأعمال المتعلقة بالمبدأ والمعاد بخلاف معاني قوله عليه السلام ، فلو تذكر أهل مكة معاني القرآن ومعاني أقوال الكهنة لما قالوا بأنه كاهن وفي برهان القرآن خص ذكر الشعر بقوله ما تؤمنون لأن من قال القرآن شعر ومحمد عليه السلام ، شاعر بعدما علم اختلاف آيات القرآن في الطول والقصر واختلاف حروف مقاطعه فلكفره وقلة إيمانه فإن الشعر كلام موزون مقفى وخص ذكر الكهانة بقول ما تذكرون لأن من ذهب إلى أن القرآن كهان وأن محمداً عليه السلام ، كاهن فهو ذاهل عن ذكر كلام الكهانفإنه إسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها ولا يكون في كلامهم ذكر الله انتهى.
قال المولى أبو السعود في الإرشاد : وأنت خبير بأن ذلك أيضاً مما لا يتوقف على تأمل قطعاً انتهى.
أي فتعليلهم بالفرق غير صحيح وفيه إن الإنابة شرط للتذكر كما قال تعالى : [يس : 5]{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ} والكافر ليس من أهل الإنابة وأيضاً ما يذكر إلا أولوا الألباب أي أولوا العقول الزاكية والقلوب الطاهرة والكافر ليس منهم فليس من أهل التذكر ولاشك أن كون الشيء أمراً بينا لا ينافي التذكر ألا ترى إلى قوله تعالى : إله مع الله قليلاً ما تذكرون مع أن شواهد الألوهية ظاهرة لكل بصير باهرة عند كل خبير على إنه يظهر من تقريارتهم إنه لا بد من التذكر في نفي الكهانة لخفاء أمرها في الجملة بالنسبة إلى الشعر والعلم عند الله العلام تنزيل} أي هو منزل فعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة {مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} نزله على لسان جبريل تربية للسعداء وتبشيراً لهم وإنذاراً للأشقياء كما قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} وقال تعالى : ومبشراً ونذيراً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
(10/114)
ولو تقول علينا بعض الأقاويل} كما يتقوله الشعراء أي ولو ادعى محمد علينا شيئاً لم نقله كما تزعمون كما قال تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ} تقوله بل لا يؤمنون وفي ذكر البعض إشارة إلى أن القليل كاف في المؤاخذة الآتية فضلاً عن الكثير سمى الافتراء تولا وهو بناء التكلف لأنه قول متكلف كما قال صاحب الكشاف التقول افتعال القول لأن فيه تكلفاً من المفتعل وسميت الأقول المفتراة أقاويل تحقيراً لها لأن صيغة افعولة إنما تطلق على محقرات الأمور وغرائبها
150
كالأعجوبة لما يتعجب منه والأضحوكوة لما يضحك منه وكان الأقاويل جمع أقوولة من القول وإن لم يثبت عن نقلة اللغلة ولم يكن أقوولة مستعملاً لكن كونه على صورة جمع افعولة كاف في التحقير ويؤيدانه ليس جمع الأقوال لزوم أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال فالأقاويل ههنا بمعنى الأقوال لا إنه جمعه وفي حواشي ابن لشيخ الظاهر إن الأقاويل جمع أقوال جمع قول كأناعيم جمع أنعام جمع نعم لأخذنا منه} حال من قوله {بِالْيَمِينِ} أي بيمينه وقال سعدى المفتي هو من باب ألم نشرح لك في التفصيل بعد الإجمال {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} أي نياط قلبه بضرب عنقه والنياط عرف أبيض غليظ كالقصبة علق به القلب إذا انقطع مات صاحبه وفي المفردات الوتين عرق يسقي الكبد إذا انقطع مات صاحبه ولم يقل لأهلكناه أو لضربنا عنقه لأنه تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه باليف ويضرب عنقه فإنه إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاء أخذ بيساره وإذا أراد أنيوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف أي يواجهه وهو أشد من المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه فلذا خص اليمين درن اليسار وفي المفردات لأخذنا منه باليمين أي منعناه ودفعناه فعبر عن ذلك بالأخذ باليمين كقولك خذ بيمين فلان انتهى.
وقيل اليمين بمعنى القوة فالمنى لانتقمنا بقوتنا وقدرتنا وقيل المعنى حينئذٍ لأخذنا منه اليمين وسلبنا منه القوة والقدرة على التكلم بذلك على أن الباء صلة أي زائدة وعبر عن القوة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه فيكون من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال أو ذكر الملزوم وإرادة اللازم {فَمَا مِنكُم} أيها الناس {مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ} أي عن القتل أو المقتول وهو متعلق بقوله
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
{حَـاجِزِينَ} دافعين وهو صوف لأحد فإنه عام لوقوعه في سياق النفي كما في قوله عليه السلام ، لم تحل الغنائم لأحد أسود الرأس غيرنا فمن أحد في موضع الرفع بالابتداء ومن زائدة لتأكيد النفي ومنكم خبره والمعنى فما منكم قوم يحجزون عن المقتول أو عن قتله وإهلاكه المدلول عليه بقوله ثم لقطعنا منه التين أي لا يقدر على الحجز والدفع وهذا مبني على أصل بني تميم فإنعهم لا يعلمون ما لدخولها على القبيلتين وقد يجعل حاجزين خبراً لما على اللغة الجحازية ولعله أولى فتكون كلمة ما هي المشبهة بليس فمن أحد اسم ما وحاجزين منصوب على إنه خبرها ومنكم حال مقدم وكان في الأصل صفة لأحد وفي الآية تنبيه على أن النبي عليه السلام لو قال من عن نفسه شيئاً أو زاد أو نقص حرفاً واحداً على ما أوحى إليه لعاقبه الله وهو أكرم الناس عليه فما ظنك بغيره منم قصد تغيير شيء من كتاب الله أو قال شيئاً من ذات نفسه كما ضل بذلك بعض الفرق الضالة {وَأَنَّهُ} أي القرآن {لَتَذْكِرَةٌ} موعظة وبالفارسية نديست {لِّلْمُتَّقِينَ} لمن اتقى الشرك وحب الدنيا فإنه يتذكر بهذا القرآن وينتفع به بخلاف المشرك ومن مال إلى الدنيا وغلبه حبها فإنه يكذب به ولا ينتفع وفي تاج المصادر التذكير ولتذكرة باياد دادن وحرف را مذكر كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
ومنه الحديث فذكروه أي فأجلوه لأن في تذكير الشي إجلالاً له {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ} أي منكم أيها الناس مكذبين بالقرآن فنجازيهم
151
(10/115)
على تكذيبهم قال مالك رحمه الله ما أشد هذه الآية على هذه الآية وفيه إشارة إلى مكذبي الإلهام أيضاً فإنهم ملتحقون بمكذبي الوحي لأن الكل من عند الله لكن أهل الاحتجاب لا يبصرون النور كالأعمى فكيف يقرون {وَأَنَّهُ} أي القرآن {لَحَسْرَةٌ} ونداءة يوم القيامة {عَلَى الْكَافِرِينَ} المكذبين له عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين المصدقين به وفي الدنيا أيضاً إذا رأوا دولة المؤمنين ويجوز أن يرجع الضمير إلى التكذيب المدلول عليه بقوله مكذبين {وَأَنَّهُ} أي القرآن {لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي لليقين الذي لا ريب فيه فالحق واليقين صفتان بمعنى واحد أضيف أحدهما إلى الآخر إضافة الشي إلى نفسه كحب الحصيد للتأكيد فإن الحق هو الثابت الذي لا يتطرق إليه الريب وكذا اليقين قال الراغب في المفردات اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وإخواتهما يقال علم اليقني عين اليقني حق اليقين وبينها فرق مذكور في غير هذا الكتاب انتهى.
وقد سبق الفرق من شرح الفصوص في آخر سورة الواقعة فالرجع وقال الامام معناه إنه حق يقين أي حق لا بطلان فيه ويقين لا ريب فيه ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد وقال الزمخشري لليقين حق اليقين كقولك هو العالم حق العالم وجد العالم ويراد به البليغ الكامل في شأنه وفي تفسير القاشاني محض اليقين وصرف اليقين كقولك هو العالم حق العالم وجد العالم أي خلاصة العالم وحقيقته من غير شوب شي آخر وقال الجنيد قدس سره حق اليقين ما يتقق العبد بذلك معرفة بالحق وهو أن يشاهد الغيوب كمشاهدته للمرئيات مشاهدة عيان ويحكم على المغيبات ويخبر عنها بالصدق كما أخبر الصديق الأكبر في مشاهدة النبي عليه السلام ، حين سأله ماذا أبقيت لنفسك قال الله ورسوله فأخبر عن تحققه بالحق وانقطاعه عن كل ما سوى الله ووقوفه على الصدق معه ولم يسأله النبي عليه السلام ، عن كيفيته ما أشار إليه ما عرف من صدقه وبلوغه المنتهيفيه ولما سأل عليه السلام ، حارثة كيف أصبحت قال أصبحت مؤمناً حقاً فأخبر عن حقيقة إيمانه فسأله عليه السلام ، عن ذلك لما كان يجد في نفسه من عظمي دعواه ثم لما أخبر لم يحكم له بذلك فقال عرفت فالزم أي عرفت الطريق إلى حقيقة الإيمان فألزم الطريق حتى تبلغ إليه وكان يرى حال أبي بكر رضي الله عنه مستوراً من غير استخبار عنه ولا استكشاف لما علم من صدقه فيما ادعى وهذا مقام حق اليقين واليقين اسم للعلم الذي زال عنه اللبس ولهذا لا يوصف علم رب العزة باليقين
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فسبح الله بذكر اسم العظيم بأن تقول سبحانه الله تنزيهاً له عن الرضى بالتقول الله وشكراً على ما أوحى إليك فمفعول سبح محذوف والباء في باسم ربك للاستعانة كما في ضربته بالسوط فهو مفعول ثان بواسطة حرف الجر على حذف المضاف والعظيم صفة الاسم ويحتمل أن يكون صفة ربك ويؤيده ما روى أن رسول الله عليه السلام ، قال لما نزلت هذه الآية اجعلوها في ركوعكم فالتزم ذلك جماعة لعلماء كما في فتح الرحمن ، وقال في التأويلات النجمية : نزه وقدس تنزيهاً في عين التشبيه اسم ربك أي مسمى ربك إذا لاسم عين المسمى عند أرباب
152
الحق وأهل الذوق وقال القاشاني نزه الله وجرده عن شوب الغيب بذلك الذي هو اسمه الأعظم الحاوي للأسماء كلها بأن لا يظهر في شهودك تلوين من النفس أو القلب فحتجب برؤية الأننينية أو الأثانية وإلا كنت مشبهاً لا مسبحاً روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إنه قال خرجت يوماً بمكة متعرضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فجئت فوقفت وراءه فافتتح سورة الحاقة فلما سمعت سرد القرآن ، قلت في نفسي إنه لشاعر كما يقول قريش حتى بلغ إلى قوله : إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزل من رب العالمين ثم مر حتى انتهى إلى آخر السورة فأدخل الله في قلبي الإسلام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 130
تفسير سورة المعارج
أربع وأربعون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 152
جزء : 10 رقم الصفحة : 153(10/116)
{سَأَلَ سَآاـاِلُا بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} من السؤال بمعنى الدعاء والطلب يقال دعا بكذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى : [الدخان : 55-12]{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ} أي يطلبون في الجنة كل فاكهة والمعنى دعا داع بعذاب واقع نازل لا حالة سواء طلبه أو لم يطلبه أي استدعاه وطلبه ومن التوسعات الشائعة في لسان العرب حمل النظير على النظير وحمل النقيض على النقيض فتعدية سأل بالباء من قبيل التعدية بحمل النظير على النظير فإنه نظير دعا وهو يتعدى بالباء لا من قبيل التعدية بالتضمين بأن ضمن سأل معنى دعا فعدى تعديته كما زعمه صاحبا لكشاف وٌّ فائدة التضمين على ما صرح به ذلك الفاضل في تفسير سروة النحل إعطاء مجموع المعنيين ولا فائدة في الجمع بين معنى سأل ودعا لأن أحدهما يغني عن الآخر وامراد بهذا السائل على ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما واختاره الجمهور هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث قال إنكاراً واستهزاء اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وصيغة الماضي وهو واقع دون سيوقع للدلالة على تحقق وقوعه إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر فإن النضر قتل يومئذٍ صبراً وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن معاوية إنه قال لرجل من أهل سب ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله عليه السلام ، حين دعاهم إلى الحق إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له وقيل السائل هو الرسول عليه السلام ، استعجل بعذابهم وسأل أن يأخذهم الله أخذاً شديداً ويجعله سنين كسني يوسف وإن قوله تعالى : سأل سائل حكاية لسؤالهم المعهود على طريقة قوله تعالى يسألونك عن الساعة وقوله تعالى متى هذا الوعد ونحوهما إذ هو المعهود باوقوع على الكافرين لا ما دعا به النضر فالسؤال بمعناه
153
وهو التفتيش والاستفسار لأن الكفرة كانوا يسألون النبي عليه السلام ، وأصحابه إنكاراً واستهزاء عن وقوعه وعلى من ينزل ومتى ينزل والباء بمعنى عن كما في قوله تعالى فسأل به خيراً أي فاسأل عنه لأن الحروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض باتفاق العلماء وعن الامام الواحدي إن الباء في بعذاب زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى وهزي إليك بجذع النخلة أي عذاباً واقعاً كقولك سألته الشيء وسألته عن الشيء للكافرين} أي عليهم فاللام بمعنى على كما في قوله تعالى : [الإسراء : 7-9]{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أن فعليها أو بهم فالام بمعنى الباء على كما في قوله تعالى : وإن أسأتم فلها أي فعليها أو بهم فاللام بمعنى الباء على ما ذهب بعضهم في قوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله أي بأن يعبدوا الله أو على معناه أي نازل لأجل كفرهم ومتعلقه على التقادير الثلاثة هو واقع قال بعض العارفين بهذا وصف ل الأمل والظن الكاذب الذين يظنون أنهم يتركون في قبائح أعمالهم وهم لا يعذبون ليس له} أي لذلك العذاب {دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ} أي من جهته تعالى إذ جاء وقته وأوجيب الحكمة وقوعه {ذِي الْمَعَارِجِ} صفةلأنه من الأسماء المضادة مثل فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً ونحوهما والمعارج جمع معرج بفتح الميم هنا بمعنى مصعد وهو موضع الصعود ، قال الراغب : العروج ذهاب في صعود والمعارج المصاعد ومعنا ذي المعارج بالفارسية خداوند درجهاى بلند است.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
والمراد الأفلاك التسعة المرتبة بعضها فوق بعض وهي السموات السبع والكرسي والعرش {تَعْرُجُ الملائكة} المأمورون بالنزول والعروج دون غيرهم من المهيمين ونحوهم لأن من الملائكة من لا ينزل من السماء أصلاً ومنهم من لا يعرج من الأرض قطعاً {وَالرُّوحُ} أي جبريل افرده بالذكر لتميزه وفضله كما في قوله تعالى : [القدر : 4]{تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ} فقد ذكر مع نزولهم في آية وعروجهم في أخرى إليه} أي يعرجون من مسقط الأمر إلى عرشه وإلى حيث تهبط منه أوامره كقوله إبراهيم عليه السلام ، إني ذاهب إلى ربي أي إلى حيث رن رب بالذهاب إليه فجعل عروجهم إلى العرش عروجاً إلى الرب لأن العرش مجلى صفة الرحمانية فمنه تبتد الأحكام وإلى حيث شاء الله تعالى تهبط الملائكة بأعمال بني آدم إلى الله تعالى والروح إليهانا ظرفي ذلك المشهد.
(في يوم) متعلق بتعرج كألى (كان مقداره خمسين ألف سنة) مما يعده الناس كما صرح به قوله تعالى : {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وقوله : خمسين خبر كان وهو من باب التشبيه البليغ والأصل كمقدار مدة خمسين ألف سنة.
واعلم أن تحقيق هذه الآية يستدعى تمهيد مقدمة وهي أن المبروج اثنا عشر على ما أفاده هذا البيت وهو قوله :
ون حمل ون ثور وون جوزا وسرطان وأسد
سنبله ميزان وعقرب قوس وجدى ودلو وحوت
(10/117)
وكان مبدأ الدولة العرشية من الميزان ومنه إلى الحوت أوجد الله فيه الأرواح السماوية والصور الأصلية الكلية التعينة في جوف العرش ولكل برج يوم مخصوص به ومدة
154
هذه البروج الستة وهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت أحد وعشرون ألف سنة ومن الحمل إلى برج السنبلة في الحكم خمسون ألف سنة ومدة دور السنبلة سبعة آلاف سنة وهي الآخرة وفي أول هذه الدورة التي هي دور السنبلة بموجب الأمر الإلهي الموحي به هناك ظهر النوع الإنساني وبعث نبينا عليه السلام في الألف الآخر من السبعة وفي الأجزاء البرزخية بين أحكام دور السنبلة ودور الميزان المختص بالآخرة فإنه إذا تم دور البروج الأثنى عشر ينتقل الحكم إلى الميزان وهو زمان القيامة الكبرى فأخذنا كفة الأف الأولى للدنيا في الدولة المحمدية والكفة الأخرى للآخرة والحشر أي أخذنا النصف الأول من ألف الميزان الثاني لذه النشأة والنصف الأخير منه للنشأة الآخرة ولهذا استقرت الأخبار في قيام الساعة وامتدادها إلى خمسمائة سنة بعد الألف وهي النصف الأول من الألف الثاني من الميزان الثاني ولم يتجاوز حد الدنيا ذلك عند أحد من علماء الشريعة فبعث النبي عليه السلام ، في زمان امتزاج الدنيا بالآخرة كالصح الذي هو أول النهار المشرع ومنه إلى طلوع الشمس نظراً لزمان الذي هو من المبعث إلى قيام الساعة فكما يزداد الضوء بعد طلوع الفجر بالتدريج شيئاً بعد شيء كذلك ظهور أحكام الآخرة من حين المعث يزداد إلى زمان طلوع الشمس من مغربها كما أشار عليه السلام ، إليه بقوله بعثت أنا والساعة كفرسي رهان وبقوله لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل عذبة سوطه وحتى يحدثه فخذه بما يصنع أهله بعده وكذا يسمع جمهور الناس في آخر الزمان نطق الجمادات والنباتات والحيوانات على ما ورد في الأخبار الصحيحة فلليوم مراتب وأحكام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
فيوم كالآن وهو أدنى ما يطلق عليه الزمان ومنه يمتد الكل وهو المشار إليه بقوله تعالى : كل يوم هو في شأن فسمى الزمن الفرد يوماً لأن الشان يحدث فيه وهو أصغر الأزمان وأدقها والساري في كل الأدوار سريان المطلق في المقيد.
ويوم كألف سنة وهو اليوم لإلهي ويوم الآخرة كمال قال تعالى : وإن يوماً عند ربك كألف سنة وقال يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون.
ويوم كخمسين الف سنة وإلى ما لا يتناهى كيوم أهل الجنة فلأحد لأكبر الأيام يوقف عنده فهذا اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة هو يوم المعراج ويوم القيامة أيضاً.
درفتوحات آورده كه هراسمى را ازاسماء الهيه رزيست خاص كه تعلق بدوداردودر قرآن در روزاز إنها مذكوراست يوم الرب كه هزار سالست ويوم ذي المعارج كه نجاه هزار سالست.
وكل ألف سنة دورة واحدة تقع فيها القيامة الصغرى لأهل الدنيا بتبديل الأحكام والشرائع وأنواع الهياكل والنفوس وكل سبعة آلاف سنة دورة لنوع خاص كالأنسان وكل خمسين ألف سنة دورة أيضاً تقع فيما القيامة الكبرى فيفنى العالم وأهله وكان عروج الملائكة من الأرض إلى السماء ونزولهم من السماء إلى الأرض لإجراء أحكام الله وإنفاذ أمره في مدة البروج الستة الآخر التي هي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة وهي خمسون ألف سنة كما سبق وعند العارفين يطلق على نزول الملائكة العروج أيضاً وإن كانت حقيقة العروج إنما هي لطالب العلو
155
وذلك لأنتعالى في كل موجود تجلياً ووجهاً خاصاً به يحفظه فنزول الملائكة وعروجهم دائماً إلى الحق لعدم تحيز وكل ما كان إليه فهو عروج وإن كان في السفليات لأنه هو العي الأعلى فهو صفة علو على الدوام وجعلت أجنحة الملائكة للهبوط عكس الطائر عبرة ليعرف كل موجود عجزه وعدم تمكنه من تصرفه فوق طاقته التي أعطاها الله له فالملائكة إذا نزلت نزلت بجناحها وإذا علت علت بطبعها والطيور بالعكس فاعلم ذلك وكذلك يكون عروجهم ونزولهم أي يقع في اليوم الطويل الذي هو يوم القيامة لإجراء أحكام الله على ما شاء وانفاذ أمره على مقتضى علمه وحكمته وهو مقدار خمسين ألفسنة من سني ادنيا ودل على مدة هذا اليوم قوله عليه السلام : ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم ، أي مرة ثانية ليشتد حرها فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له أي ملكيه إلى نار جهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة أي إن لم يكن له ذنب سوء أو كان ولكن الله عفا عنه وإما إلى النار أي إن كان على خلاف ذلك رواه مسلم.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
(10/118)
وروى) إن للقيامة خمسين موقفاً يسأل العبد في كل منها عن أمر من أمور الدين فإن لم يقدر على الجواب وقف في كل موقف بمقدار اليوم الإلهي الذي هو ألف سنة ثم لا ينتهي اليوم إلى ليل أي يكون وقت أهل الجنة كالنهار أبداً ويكون زمان أهل النار كالليل أبداً إذ كما لا ظلمة لأهل لنور كذلك لا نور لأهل الظمة وفيه تذكير للعاقل على أن يوم القيامة إذا كان أوله مقار خمسين ألف سنة فماذا آخره ثم هذا الطول في حق لكافر والعاصي لا المؤمن والمطيع لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إنه قيل لرسول الله عليه السلام ما أطول هذا اليوم فقال عليه السلام والذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا وفي التمثيل بالصلاة إشارة إلى وجه آخر لمسر المعدد وهو أن الكافر أضاع الصلاة وهي في الأصل خمسون صلاة فكأنه عذب بكل واحدة منها ألف سنة ، ولهذا المسر يكلف يوم القيامة بالسجود لا بغيره ولا يلزم من وجود هذا اليوم بهذا المطول ومن عروج الملائكة في أثنائه إلى العرش أنيكون ما بين أسفل المعالم وأعلى سرادقات العرش مسيرة خمسين ألف سنة لأن المراد بيان طول اليوم عروج الملائكة ونزولهم في مثل هذا اليوم إلى العرش ومنه لتلقى أمره وتبليغه إلى محله مراراً وكراراً لا بيان طول المعارج لأن ما بين مركز الأر ومقعر السماء مسيرة خمسمائة عام وتخن كل واحدة من السموات السبع كذلك فيكون المجمو تسعة آلاف إلى العرش أي بالمنظر الظاهري وإلا فهي أزيد من ذلك بل من كل عدد متصور كما ستجيء الإشارة إليه وقو من قال جعل ما بين الكرسي والعرش كما بين غيرهما غير موجه لما في الحديث الصحيح إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فيكون بين الكرس الذي هو صحن الجنة وبين العرش الذي هو سقف الجنة خمسمائة سنة مائة مرة أولها من أرض الكرسي إلى الدرجة السافلة
156
من العرش فيكون المجموع مقدار خمسين ألف سنة تأمل تعرف إن كلامه ليس بصحيح من وجوه الأول إن المراد في هذا المقام بيان الطول من أسفل العالم إلى أعلاه وإنه مقدار خمسين ألف سنة لا من صحن الجنة إلى سقفها لأنه عل ما ذكره من المسافة بين العرشين يزيد لعى ذلك المقدار وبالنظر إلى أسفل العالم زيادة بينة في حصل القمصود والثاني أن المراد النبي عليه السلام ، من التمثيل بما بين السماء والأرض ليس التحديد بل بيان مجرد السعة وطول الامتداد بما لا يعرفه إلا الله كما يقتضيه المقام والثالث إن الحديث اذي أورده لا يدل على أن نهاية الدرجة الأخيرة من تلك الدرجات منتهة إلى الدرجة السافلة من العرش بل هو ساكت عنه فيجوز أن يكون المقدار ازيد مما ذكره لأن طبقات المجاهدين متفاوتة على أن سقف الجنة وإن كان هو عرش الرحمن لكن المراد به ذروته وهي التي ينتهي دونها عالم التركيب وهي موضع قدم النبي عليه السلام ، ليلة المعراج وما بين أسفل الجنة من محدب الكرسي إلى أعلاها من تلك الذروة التي هي محدب العرش لأحد له يعرف على ما سيجيء في سورة الأعلى إن شاء الله تعالى فإذا تحققت هذا البيان الشافي في الآية الكريمة وهو الذي أشار إليه الحكماء الإلهية فدع عنك القيل والقال الذي قرره أهل المراء والجدال فمنه إن قوله في يوم بيان لغابة ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على منهاج التمثيل والتخييل والمعنى من الارتفاع بحيث لو قدر قطعها في ذلك لكان ذلك الزمان مقدار خمسين ألف سنة من ستي الدنيا انتهى وفيه إن كونه محمولاً على التمثيل إنما يظهر إذا فسرت المعارج بغير السموات وهو خلاف المقصود ومنه إن معناه تعرج الملائكة والروح إلى عرشه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أي يقطعون في يوم من أيام الدنيا ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض ذلك القطع وذلك لغاية سرعتم وقوتهم على الطيران وبالفارسية اكر يكى ازبنى آدم خواهدكه سير كنداز دنيا تا آنجا كه محل امر ملائكة است وايشان بيكروز ميررند او بدين مقدار سال تواند رفت انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
(10/119)
وفيه أن سير الملائكة لحظي فيصلون من أعلى الأوج إلى أسفل الحضيض في آن واحد فتقدير سيرهم باليوم المعلوم في العرف غير واضح ومنه إن اليوم في الآية عارة عنأول أيام الدنيا إلى انقضائها وإها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضي وكم بقي إلا الله تعالى انتهى وفيه أن أيام الديا تزيد على ذلك زيادة بينة كما لا يخفى على أهل الأخيار وعندي إنها ثلاثمائة وستون ألف سنة بمقدار أيام السنة دل عليه قولهم إن عمر الإنسان جامعة من جمع الآخرة وقد أسفلناه في موضعه ومنه أن المراد باليوم هو يوم من أيام الدنيا يعرج فيه الأمر من منتهى أسفل الأرضين إلى منتهى أعلى السموات ومقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة وإما اليوم الذي مقداره ألف سنة كما في سورة الم السجدة فباعتبار نزول الأمر من السماء إلى الأرض وباعتبار عروجه من الأرض إلى السماء فللنزول خمسمائة وكذا للصعود والمجموع ألف وفيه إنه زاد في الطنبور نغمة أخرى حيث اعتبر العروج من أسفل الأرضين ليطول المسافة وظاهر إنه لا يتم المقصود بذلك ومنه إن المراد تصعد الحفظة بأعمال بني آدم كل يوم إلى محلى قربته
157
وكرامته وهو السماء في يوم كان مقادره خمسين ألف سنة من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك لأن الملك يصعدمن منتهى أمر الله من أسفل السفل إلى منهى أمره من فوق السماء السابعة في يوم واحد ولو صعد فيه بنو آدم لصعدوا في خمسين ألف سنة انتهى وفيه ما في السابق من تقدير اليوم في حق الملائكة مع أن قصر الصعود على الصعود بمجرد لعمل قصور لأنه شأن الملائكة الحافظين والآية مطلقة عامة لهم ولغيرهم من المدبرات ومنه إن قوله في ويم متعلق بواقع على أن يكون المراد به يوم القيامة والمعنى يقع العذاب في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سني الدنيا فتكون جملة قوله تعرج الملائكة معترضة بين الظرف ومتعلقه انتهى وفيه إنه من ضيق العطن لأنه لا مانع من إرادة يوم القيامة على تقدير تعلقه بتعرج أيضاً على ما عرف من تقديرينا السابق فإن قلت لما ذا وصف الله ذاته في مثل هذا القمام بذي المعارج قلت للتنبيه على أن عروج الملائكة على مصاعد الأفلاك ونزولهم منها إنما هو للأمر الإلهي كما قال تعالى يتنزل الأمر بينهن ومن أمره إيصال اللطف إلى أوليائه وإرسال القهر على أعدائه ففيه تحذير للكفار من عقوبة السماء النازلة بواسطة الملائكة كما وقعت للأمم الماضية المكذبة وزجر لهم عما يؤدي إلى المحاسبة الطويلة يوم القيامة هذا ما تيسر لي في هذا المقام والعلم عند الله العلام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
وفي التأويلات النجمية : في ذي المعارج أي يصعد بتعذيب أهل الشهوت واللذت مرتبة فوق امرتبة ومصعداً فوق مصعد من معرج نفوسهم إلى معرج قلوبهم ومنه إلى معرج سرهم ومنه إلى معرج روحهم يعذبهم في كل مرتبة عذاباً أشد من أول وفي قوله تعالى : تعرج.
.
الخ أي تعرج الخواطر الروحانية خصوصاً خاطر جبريل الروح في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من أيام الله وهي أيام السماء التي تحت حيطة الله الاسم الجامع فافهم قال القاشاني : ذي المعارج أي المصاعد وهي مراتب الترقي من مقام الطبائع إلى مقام المعادن بالاعتدال ثم إلى مقام النبات ثم إلى الحيوان ثم إلى الإنسان في مدارج الانتقالات المترتبة بعضها فوق بعض ثم في منازل السلوك بالانتباه واليقظة والتوبة والإنابة إلى آخر ما أشار إليه أهل السلوك من نمزل اليقين ومنهل القلب في مراتب الفناء في الأفعال في الذات مما لاي حصى كثرة فإن له تعالى بإزاء كل صفة مصعداً بعد المصاعد المتقدمة على مقام والصفات إلى الفناء الفناء في الصفات تعرج الملائكة من القوى الأرية والسمائية في وجود الإنسان والروح الإنساني إلى حضرته اذاتية الجامعة في القيامة الكبرى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وهو يوم من أيام الله العلي بالذات ذي المعارج العلي وهي الأيام الستة السرمدية من ابتداء الأزل إلى انتهاء الأبد وإما ايوم المقدار بألف سنة في قوله : وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون فهو يوم من أيام الرب المدبر الذي وقت به العذاب وانجاز الوعد في قوله ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده والتدبير في قوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقدار ألف سنة مما تعدون وذلك اليوم الأخير من الأسبوع الذي هو مدة الدنيا المنتهية بنبوة الخاتم والذي قال فيه إن استقامت أمتي فلها يوم وإن لم تسبقم فلها نصف يوم مع قوله بعثت أنا والساعة كهاتين
158
(10/120)
فهذا يوم من أيام الربوبية والتدبير وأما اليوم الذي هو من الأيام الألوهية فهو مقدار ابتداء الربوبية بأسماء الله الغير المتناهية التي تندرج معها لا تناهيها في الأسماء السبعة وهي الحي العالم القادر المريد السميع البصير المتكلم ولكل من هذه السبعة ربوبية مطلقة بالنسبة إلى ربوبيات الأسماءا لنمدرجة تحته ومقيدة بالنسبة إلى ربوبية كل واحد من أخواته إلى انتهائها بالتجلي الذاتي وكما أن هذا اليوم المذكرو سع من أيام الدنيا فمدة الدنيا سبع من ذلك اليوم الإلهي الحاصل من ضرب أيام الدنيا في عدد أسماء الربوبية وهي تسع وأربعون سنة وآخره أول الخمسين الذي هو يوم واحد من أيام الله وهو يوم القيامة الكبرى فاصبر} يا محمد
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
{صَبْرًا جَمِيلا} لا جزع فيه ولا شكوى لغيرافإن العذاب يقع في هذه المدة المتطاولة التي تعرج فيها الملائكة والروح وعن الحسن الصبر الجميل هو المجاملة في الظاهر وعن ابن بحر انتظار الفرج بلا استعجال وهو متعلق بسأل لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بالوحي وذلك مما يضجره عليه السلام ، أو كان عن تضجر واستبطاء للنصر والمعونة {إِنَّهُمْ} أي ل مكة {يَرَوْنَهُ} أي العذاب الواقع أي يزعمونه في رأيهم {بَعِيدًا} أي يستبعدونه بطريق الإحالة كما كانوا يقولون ائذا متنا وكنا تراباً الآية من يحيى العظام وهي رميم فلذلك يسألون به وسبب استبعادهم عدم علمهم باستحقاقهم إياه يقول المرء لخصمه هذا بعيد رداً لوقوعه وإمكانه أي نعلمه {قَرِيبًا} لعلمنا باستحقاقهم إياه بحسب استعدادهم أي هينا في قدرتنا غير بيعد علينا ولا متعذر فالمراد بالبعد هو البعد من الإمكان وبالقرب هو القرب منه وقال سهل رحمه الله إنهم يرون المقضي عليهم من الموت والبعث والحساب بعيداً لبعد آمالهم ونرا قريباً فإن كل كائن قريب والبعيد ما لا يكون وفي الحديث : "ما الدنيا فيما مضى وما بقي إلا كثوب شق باثنين وبقي خيط واحد ألا وكان ذلك الخيط قد انقطع" قال الشاعر :
هل الدنيا وما فيها جميعاً
سوى طل يزول مع النهار
ما همو مسافريم درزير درخت
ون سايه برفت زود بردار درخت
ومن عجب الأيام إنك قاعد
على الأرض في الدنيا وأنت تسير
فسيرك يا هذا كسير سفينة
بقوم قعود والقلوب تطير
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص159 حتى ص170 رقم17
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ} وهو ههنا خبث الحديد ونوه مما يذاب على مهل وتدريج أودردى الزيت لسيلانه على مهل لثخانته وعن ابن مسعود كالفضة المذابة في تلونها أو كالقير والقطران في سوادهما ويوم متعلق بقريباً أي يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم أي يظهر إمكانه وإلا فنفس الإمكان لا اختصاص له بوقت أو متعلق بمضمر مؤخر أي يوم تكون السماء كالمهل يكون من الأحوال والأهوال ما لا يوصف {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} العهن الصوف المصبوغ قال تعالى : [القارعة : 5-10]{كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} وتخصيص العهن لما فيه من اللون كما ذكر في قوله تعالى : فكانت وردة كالدهان والمعنى وتكون الجبال كالصوف المطبوغ ألوانا لاختلاف ألوان الجبال منها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن
159
المنفوش إذا طيرته الريح ، قال في كشف الأسرار أول ما تنغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهنا منفوشاً ثم تصير هباء منثوراً ولا يسأل حميم حميماً} أي لا يسأل قريب قريباً عن أحواله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما شغله عن ذلك وإذا كان الحال بين الأقارب هكذا فكيف يكون بين الأجانب والتنكير للتعميم {يُبَصَّرُونَهُمْ} استئنافك أنه قيل لعله لا يبصره فكيف يسأل عن حاله فقل يصبرونهم والضمير الأول لحميم أول والثاني للثاني وجمع الضميرين لعموم الحميم لكل حميمين لا لحميمين اثنين قال في تاج المصادر التبصير بينا كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
والتعريف والإيضاح ويعدى إلى المفعول الثاني بالباء وقد تحذف الباء وعلى هذا يبصرونهم انتهى.
يعني عدى يبصرونهم بالتضعيف إلى ثان وقام الأول مقام الفاعل والشائع المتعارف تعديته إلى الثاني بحرف الجر يقال بصرته به وقد يحذف الجار وإذ نسبت الفعل للمفعول به حذفت الجار وقلت بصرت زيداً وما في الآية من هذا القبيل والمعنى يبصر إلا حماء إلا حماء يعني بينا كرده شوندايشان بخويشان خود.
فلا يخفون عليهم ولا يمنعهم من التساؤل إلا تشاغلهم بحال أنفسهم وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبعه فيبصر الرجل أباه وأخاه وأقرباءه وعشيرته ولكن لا يسأله ولا يكلمه لاشتغاله بما هو فيه قال ابن عباس رض الله عنهما يتعارفون ساعة ثم يتناكرون {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب {لَوْ} بمعنى التمني فهو حكاية لودادتهم فدادهد.
(10/121)
وهو حفظ الإنسان عن التائبة بما يبذل عنه {مِنْ عَذَابِ يَوْمِـاـاِذ} أي من العذب الذي ابتلوا به يوم إذا كان الأمر ما ذكر وهو بكسر الميم لإضافة العذاب إيه وقرىء يومئذٍ بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن {بِبَنِيهِ} أصله بنين سقطت نونه بالإضافة وجمعه لأن كثرتهم محبوبة مرغوب فيها {وَصَـاحِبَتِهِ} زوجته التي يصاحبها {وَأَخِيهِ} الذي كان ظهيراً له ومعيناً والجملة استئناف لبيان إن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه وَلقهم بقلبه ويجعله فداء لنفسه حتى ينجو هو من العذاب فضلاً عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها كأنه قيل كيف لا يسأل مع تمكنه من السؤال فقيل يود الخ.
{وَفَصِيلَتِهِ} وهي في الأصل القطعة المفصولة من الجسد وتطلق على الآباء الأقربين وعلى الأولاد لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين فلما كان الولد مفصولاً منهما كانا مفصولين منه أيضاً فسمى فصيلة لهذا السبب والمراد بالفصيلة في الآية هو الآباء الأقربون والعشيرة الأدنون لقوله وبنيه {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى} أوى إلى كذا انضم إليه وآواه غيره كما قال تعالى آوى إليه أخاه أي ضمه إلى نفسه فمعنى تؤويه تضمه إليها في النسب أو عند الشدائد فيلوذ بها وبالفارسية وخويشان خودراكه جاي داده انداورا دردنيانزد خود يعني ناكاه وى بوده اند
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
{وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا} من الثقلين والخلائق ومن للتغليب {ثُمَّ يُنجِيهِ} عطف على يفتدى أي يود لو يفدتى ثم ينجيه الافتداء وثم لاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجهي ذلك وهيهات أن ينجيه وفيه إشارة إلى مجرم الروح المنصبغ بصبغة النفس فإنه يود أن يفتدى من هول
160
عذاب يوم الفراق والاحتجاب ببني القلب وصفاته وصاحبة نفسه وأخي سره وفصيلته أي توابعه وشيعته ومن ي أرض بشريته جميعاً من القوى الروحانية والجسمانية ثم ينجيه هذا الافتداء ولا ينفعه لفساد الاستعداد وفوات الوقت {كَلا} ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع إنجاء الافتداء أي لا يكون كما يتمنى فإنه بهيئته الظلمانية الحاصلة من الإجرام استحق العذاب فلا ينجو منه وفي الحديث يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي وعن القرطبي أن كلا يكون بمعنى الردع وبمعنى حقاً وكلا الوجهين جائز إن هنا فعلى الثاني يكون تمام الكلام ينجيه فيوقف عليه ويكون كلا من الجملة الثانية التي تليه والمحققون على الأول ومن ذلك وضع السجاوندي علامة الوقف المطلق على كلا {إِنَّهَا} أي النار المدلول عليها بذكر العذاب والمراد جهنم {لَظَى} وهو علم للنار وللدرك الثاني منها منقول من اللظى بمعنى الهب الخالص الذي لا يخالطه دخان فيكون في غاية الإحراق لقوة حرارته النارية بالصفاء وهو خبر إن بمعنى مسماة بهذا الاسم ويجوز أن يراد اللهب الخالص على الأصل فيكون خبراً بلا تأويل.
(كما قال الكاشفي) : بدرستى كه آتش دوزخ كه مجرم ازوفدا دهد زبانه ايست خالص.
(وفي كشف الأسرار) : آن آتشى است زبانه زن {نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى} نزع الشيء جذبه من مقره وقلعه والشوى الأطراف أي الأعضاء التي ليست بمقتل كالأيدي والأرجل ونزاعة على الاختصاص للتهويل أي أعني بلظى جذابة للأعضاء الواقعة في أطراف الجسد وقلاعة لها بقوة الإحراق لشدة الحرارة ثم تعود كما كانت وهكذا أبداً والشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس يعني أن النار تنزع جلود الرأس وتقشر عنه وذلك لأنهم كانوا يسعون بالأطراف للأذى والجفاء ويصرفون عن الحق الأعضاء الرئيسة التي تشمتلم عليها الرأس خصوصا العقل الذي كانوا لا يعقلون به في الرأس {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ} أي عن الحق ومعرفته وهو مقابل أقبل ومعنى تدعو تجذب إلى نفسها وتحضر فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
قال الكاشفي) : زبنه ميزند وكافر رابخود ميكشد اتزصد اله ودويست ساله راه نانه مقناطيس آهن راجذب ميكند.
وتقول لهم إلى إلى يا كافر ويا منافق ويا زنديق فإني مستقرك أو تدعو الكافرين والمنافقين بلفظ فصيح بأسمائهم ثم تلقتطهم كالتقاط الطير الحبر ويجوز يخلق الله فيها كلاماً كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم وكما خلقه في الشجرة أو تدعو زبانيتها على حذف المضاف أو على الإسناد المجازي حيث أسند فعل الداعي إلى المدعو إليه {وَتَوَلَّى} أي أعرض عن الطاعة لأن من أعرض يولي وجهه وفي التأويلات النجمية : من أدبر عن التوجه إلى الحق بموافقات الشريعة ومخالفات الطبيعة وتولى عن الإقبال على الآخرة والادبار عن الدنيا.
(10/122)
وقال القاشاني : بمناسبة نفسه للجحيم أنجر إليها إذ الجنس إلى الجنس يميل ولظى نار الطبيعة السفلية ما استدعت إلا المدبر عن الحق المعرض عن جناب القدس وعالم النور المقبل بوجهه إلى معدن الظلمة المؤثر لمحبة الجواهر الفانية السفلية المظلمة فانجذب بطبعه إلى مواد النيران الطبيعية واستدعته وجذبته
161
إلى نفسها للجنسية فاحترق بنارها الروحانية المستولية على الأفئدة فكيف يمكن الإنجاء منها وقد طلبها بداعي الطبع ودعاه بلسان الاستعداد {وَجَمَعَ} المال حرصا وحباً للدنيا {فَأَوْعَى} فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد زكاته وحقوقه الواجبة فيه وتشاغل به عن الدين وتكبر باقتنائه وذلك لطول أمله ونعدام شفقته على عباد الله وإلا ما ادخر بل بذل وفي جمع الجمع مع الأدبر والتولي تنبيه على قباحة البخل وخساسة البخيل وعلى إنه لا يليق بالمؤمن وفي الخبر يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج بين يي الله وهو بالفارسية بره.
فيقول له أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فما صنعت فيقول رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به كله فإذا هو عبد لم يدم خيراً فيمضي به إلى النار وفي الخبر بصق عليه السلام يوماً في كفه ووضع عليها أصبه فقال يقول الله لابن آدم تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد يعني زمين را ازتو آواز شديدبود.
فجمعت ومنعت حتى إذا بلت التراقي قلت اتصدق وأني لوان الصدقة وفي التأويلات النجمية : جمع الكمالات الإنسانية من الأخلاق الروحانية والأوصاف الرحمانية ولم ينفق على الطلاب الصادقين العاشقين والمحبين المشتاقين بطريق الإرشاد والتعليم والتسليك {إِنَّ الانسَـانَ} أي جنس الإنسان {خُلِقَ} حال كونه {هَلُوعًا} مبالغ هالع من الهلع وو سرعة الجزع عند مس المكروه بحيث لا يستمسك وسرعة المنع عند مس الخير يقال ناقة هلواع سريعة السير وهو من باب علم وقد فسره أحسن تفسير على ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : {إِذَا} ظرف لجزوعا {مَسَّهُ الشَّرُّ} أي أصبه ووصل إليه الفقر أو المرض أو نحوهما {جَزُوعًا} مبالغة في الجزع مكثراً منه لجهله بالقدر وهو ضد الصبر وقال ابن عطاء الهلوع الذي عند الموجود يرضى وعند المفقود يسخط وفي الحديث شر ما أعطى ابن آدم شح هالع وجبن خالع فالهالع المحزن يعني اند وهكين كننده.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
والخالع الذي يخلع قلبه قال بعض العارفين إنما كرهت نفوس الخلق المرض لأنه شاغل لهم عن أداء ما كلفوا به من حقوق الله تعالى إذا الروح الحيواني حين يحس بالألم يغيب عن تدبير اجسد الذي يقوم بالتكليف وإنما لم تكره نفوس العارفين الموت لما فيه من لقاء الله تعالى فهو نعمة ومنة ولذلك ما خير نبي في الموت إلا اختاره {وَإِذَا} ظرف لمنوعا {مَسَّهُ الْخَيْرُ} أي السعة أو غيرهما {مَنُوعًا} مبالغاً في المنع والإمساك لجهله بالقسمة وثواب الفضل وللصحة مدخل في الشح فإن الغنى قد يعطي في المرض ما لا يعطيه في الصحة ولذا كانت الصدقة حال الصحة أفضل.
ودر لباب از مقاتل نقل ميكندكه هلوع جانوريست درس كوه قاف كه هرروز هفت صحرا ازكياه خالي ميكند يعني همه حشايش آنرامى خورد وآب هفت دريامى آشامد ودرك كرما وسر ما صبر ندارند وهرشب درانديشه روزى بدين دابه تشبيه ميكند.
جانور يراكه بجز آدميست
معده و رشد سبب بي غميست
آدميست آنكه نه سيرى برد
برسر سيرى غم روزى خورد
162
خوردهمه عمر ه بيشت وه كم
روزى هرروزه زخوان كرم
وزره حرص واملش همنان
هي غمى نيست بجز فكرنان
والأوصاف الثلاثة وهي هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً أحوال مقدرة لأن المراد بها ما يتعلق به الذم والعقب وهو ما يدخل تحت التكليف والاختيار وذلك بعد البلوغ أو محقة لأنها بائع جبل الإنسان عليها كما قال المتنبي الظلم من شيم النفوس فإن تجد.
ذا عفة فلعلة لا يظلم
(10/123)
ولا يلزم إن لا تفارقه بالمعالجات المذكورة في كتب الأخلاق فإنها كبرودة الماء ليست من اللوازم المهيئة للوجود بل إنما حصولها فيه بوضع الله تعالى وخلقه وهو يزيلها أيضاً بالأسباب التي سببها إذا أراد فإن قيل فيلزم أن يكون له هلع حين كان في المهد صبياً قلنا نعم ولا محذور ألا يرى إنه كيف يسرع إلى الثدي ويحرص عى الرضاع ويبكي عند مس الألم ويمنع بما سوعه إذا تمسك بشيء فوحم فيه قال الراغب فإن قيل ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوي الأخلاق قلنا الحكمة في خلق الشهوة أن يمانع نفسه إذا نازعته نحوها ويحارب شيطانه عند تزيينه المعصية فيستحق من الله مثوبة وجنة انتهى.
يعني كما إنه ركب فيه الشهوة ركب فيه العقل الرادع وحصلت الدلالة إلى الصراط السوي من الشارع قال بعض العارفين الشح في الإنسان أمر جبلي لا يمكن زواله ولكن يتعطل بعناية الله تعالى استعماله لا غير فلذلك قال ومن يوق شح نفسه فأثبت الشح في النفس إلا أن العبد يوقاه بفضل الله وبرحمته وقال إن الإنسان خلق هلوعاً الخ وأصل ذلك كله إن الإنسان استفاد وجوده من الله فهو مفطور على الاستفادة لا على إفادة فلا تعطيه حقيقته أن يتصدق أو يعطي أحداً شيئاً ولذلك ورد الصدقة برهان يعني دليل إن هذا الإنسان وفي بها شح النفس.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
يقول الفقير : وعليه المزاح المعروف وهو أن بعض العلماء وعق في الماء فكاد يغرق فقال له بعض الحاضرين يا سلطاني نولني يد فقيل لا تقل هكذا فإنه اعتاد الأخذ لا الإعطاء بل قل خذ بيدي وقال بعضهم : الغضب والشر.
والحرص والجبن والبخل والحسد وصف جبلي في لإنسان والجان وما كان من الجبلة فمحال أن يزول إلا بانعدام الذات الموصوفة به ولهذا عين الشارع صلى الله عليه وسلّم لهذه الأمور مصارف فقال لا حسد إلا في اثنتين وأمر بالغضب لا حمية جاهلية وقال ولا ثقل لهما أف ثم مدح من قال أف لكم ولما تعبدون من دون الله وقال ولا تخافوهم ثم قال وخافون فالكل يستعملون هذه الصفات استعمالاً محموداً وكثير من الفقراء يظنون زوال هذه الصفات منهم حين يعطل الله استعمالها فيهم وليس كذلك.
يقول الفقير : ومه يعلم صحة قول من قال إن النفس لأمارة بالسوء وإن كانت نفس الأنبياء على ما أسلفناه في سورة يوسف والحاصل أن أصول الصفات باقية في الكل لبقاء المحاربة مع النفس إذ لا يحصل الترقي إلا بالمحاربة والترقي مستمر إلى الموت فكذا المحاربة المبنية على بقاء أصول الصفات فأصل النفس أمارة لكن لا يظهر أثرها في الكاملين كما يظهر في الناقصين فاعلم ذلك قال القاشاني إن النفس بطبعها معدن الشر ومأوى الرجس لكونها من عالم الظلمات فمن مال إليها بقلبه واستولى عليه مقتضى بلته وخلقته ناسب الأمو السفلية واتصف
163
بالرذائل التي أردأها الجبن والبخل المشار إليهما بقوله وإذا مسه الشر الخ.
لمحبة البدن ما يلائمه وتسببه في شهواته ولذاته وإنما كانا أردأ لجذبهما القلب إلى أسفل مراتب الوجود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
(10/124)
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى هلع الإنسان المستعد لقبول الفيض الإلهي ساعة فساعة ولحظة فلحظة وعدم صبره عن بلوغه إلى الكمال فإنه لا يزال في طريق السلوك يتعلق باسم من الأسماءا لإلهية ويتحقق به ويتخلق ثم يتوجه إلى اسم آخر إلى أن يستوفى سلوك ميع الأسماء إذا مسه الشر الفترة الواقعة في الطريق يجزع ويضطب ويتقلقل ولا يعلم إن هذه الفترة الواقعة في طريقه سبب لسرعة سلوكه وموجب لقوة سيره وطيرانه و5ا مسه الخير من المواهب الذاتية والعطايا الإسمائية يمنع من مستحقيه ويبخل على طالبيه {إِلا الْمُصَلِّينَ} استثناء من الإنسان لأنه في معنى الجمع للجنس وهذا الاستثناء باعتبار الاستمرار أي إن المطبوعين على الصفات الرذيلة مستمرون عليها إلا الصملين فإنهم بدلوا تلك الطبائع واتصفوا بأضدادها {الَّذِينَ هُمْ} تقديم هم يقيد تقوية الحكم وتقريره في ذهن السامع كما في قولك هو يعطي الجزيل قصداً إلى تحقيق إنه يفعل إعطاء الجزيل {عَلَى صَلاتِهِمْ دَآاـاِمُونَ} لا يشغلهم عنها شاغل فيواظبون على أدائها كما روى عن النبي عليه السلام إنه قال أفضل العمل أو دمه وإن قل وقالت عائشة رضي الله عنها كان عمله ديمة قدم الصلاة على سائر الخصال لقوله عليه السلام أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس وأول ما يرفع من أعمالها الصلوات وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاه فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر وإنها آخر ما يجب عليه رعايته فإنه يؤخر الصوم في المرض دون الصلاة إلا أن لا يقدر على التميمي والإيماء ولذا ختم الله الخصال بها كما قال : [المعارج : 24]{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وكان آخر ما أوصى به عليه السلام الصلاة وما ملكت إيمانكم وفي الآية إشارة إلى صلاة النفس وهي التزكية عن المخالفات الشرعية وصلاة القلب وهي التصفية ع الميل إلى الدنيا وشهواتها وزخارفها وصلاة السر وهي التخلية عن الركون إلى المقامات العلية والمراتب السينة وصلاة الروح وهي بالمكاشفات الربانية والمشاهدات الرحمانية والمعاينات الحقانية وصلاً الخفي وهي بالفناء في الحق والبقاء به فالكمل يداومون على هذه الصلوات والذين} أي وإلا الذين {فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} أي نصيب معين يستوجبونه على أنفهسم تقرباً إلى الله تعالى وإشفاقاً على الناس من الزكاة المفروضة الموظفة
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
{لِّلسَّآاـاِلِ} أي للذي يسأل ومن كان له قوت يوم لاي حل له السؤال وأما حكم الدافع له عالمًا بحاله فكان القياس أن يأثم لأنه أعانة على الحرام لكنه يجعله هبة ولا إثم في الهبة للغني وله أن يرده برد جميل مثل أن يقول آتاكم الله من فضله {وَالْمَحْرُومِ} الذي لا يسأل إما حياء أو توكلاً فيظن إنه غني فيحرم وفيه إشارة إلى أحول الحقائق والمعارف الحاصلة من رأس مال الأعمال الصالحة والأحوال الصادقة ففيها حق معلوم للسائل وهو المسعد للسلوك والاجتهاد فينبغي أن يفيض عليه ويرشده إلى طلب الحق والمحروم هو المرمي الساقط على أرض العجز بسبب الأهل والعيال والاشتغال بأسبابهم فيسليهم ويطيب قلوبهم
164
برحمة الله وغفرانه ويفيض عليهم من بركات أنفاسه الشريفة لئلا يحرم من كرم الله وفيضه {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي بأمالهم حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية والمالية طمعاً في المثوبة الأخروية بحيث يستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء فمجرد التصديق بالجنان واللسان وإن كان ينجى من الخلود في النار لكن لا يؤدي إلى أن يكون صاحبه مستثنى من المطبوعين بالأحوال المذكورة ، قال القاشاني : والذين يصدقون من أهل اليقين البرهاني أو الاعتقاد الإيماني بأحوال الآخرة والمعاد وهم أرباب القلوب المتوسطون {وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استقصاراًلها واستعظاماً لجنابه تعالى قال الكاشفي وعلامت ترس إلهي اجتناب از ملاهى ومنا هيست.
وقال الحسن يشفق المؤمن إن لا تقبيل حسناته وتقديم من يحسن أن يكون للحصر امتثالاً لأمره تعالى فارهبون مع جواز أن يكون للتقوية {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} كه عذاب خداوندايشان نه آنست كه ازان ايمن باشند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
(10/125)
وهو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد بل يكون بين الخوف والرجاء لأنه لا يعلم أحد عاقبته ، قال القاشاني : والذين هم الخ.
أي أهل الخوف من المتبدين في مقام النفس السائرين عنه بنور القلب لا لوافقين معه أو المشفقين من عذاب الحرمان والحجاب في مقام القلب من السالكين أو في مقام المشاهدة من التلوين فإنه لا يؤمن الاحتجاب ما بيت بقية كما قال إن عذاب ربهم غير مأمون ومن العذاب إعجاب المرء بنفسه فإنه من الموبقات الموقعات في عذاب نار الجحيم وجحيم العقاب نسأل الله العافية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ} فرج الرجل والمرأة سوء آتهما أي قبلهما عبر به عنها رعاية للأدب في الكلام وأدب المرء خير من ذهبه والجار متعلق بقوله {حَـافِظُونَ} من الزنى متعففون عن مباشرة الحرام فإن حفظ الفرج كناية عن العفة {إِلا عَلَى} بمعنى من كما في كتب النحو {أَزْوَاجِهِمْ} نسائهم المنكوحات {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} من الجواري في أوقات حلها كالطهر من الحيض والنفاس ومضي مدة الاستبراء عبر عنهن بما إجراء لهن لمملكيتهن مجرى غير العقلاء أو لأنوثتهن المنبئة عن القصور وإيراد ما ملكت الإيمان يدل على المراد من الحافظين هنا الذكور وإن كان الحفظ لازماً للإناث أيضاً بل أشد لأنه لازم عليهن على عبيدهن وإن كانوا مما ملكت إيمانهن ترجيحاً لجانب الذكور في صيانة عرضهم {فَإِنَّهُمْ} أي الحافظين {غَيْرُ مَلُومِينَ} على عدم حفظها منهن أي غير معيوبين شرعاً فلا يؤاخذون بذلك في الدنيا والآخرة وبالفارسية بجاي سرزنش نيستند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
وفيه إشعار بأن من لم يحفظ تكفيه ملامة اللائمين فكيف العذاب {فَمَنِ ابْتَغَى} س هركه طلب كندابراى نفس خود {وَرَآءَ ذَالِكَ} الذي ذكر وهو الاستمتاع بالنكاح وملك اليمين وحد النكاح أربع من الحرائر ولا حد الملك اليمين فأولئك المبتغون {هُمُ الْعَادُونَ} المتعدون لحدود الله الكاملون في العدوان المتناهون لأنه من عدا عليه إذا تجاوز الحد في الظلم ودخل فيه حرمة وطىء الذكران والبهائم والزنى وقيل يدخل فيه الاستمناء أيضاً إن العرب كانوا يستمنون
165
في الأسفار فنزلت الآية وفي الحديث ومن لم يستطع أي التزوج فعليه بالصوم استدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه عليه السلام أرشد عند العجز عن التزوج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة جائز وفي رواية الخلاصة الصائم إذا عالج ذكره حتى أمني يحب عليه القضاء ولا كفارة عليه ولا يحل هذا الفعل خارج رمضان إن قصد قضاء الشهوة وإن قصد تشكين شهوته أرجو أن لا يكون عليه وبال وفي بعض حواشي البخاري والاستمناء باليد حرام بالكتاب والسنة قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ} إلى قوله : فأولئك هم العادون أي الضالون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام ، قال البغوي : الآية دليل على أن استمناء باليد حرام ، قال ابن جريج : سألت ابن عطاء عنه فقال : سمعت أن قوماً يحشرون حبالى وأظنهم هؤلاء عن سعيد بن جبير عذاب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم والواجب على فاعله التعزيز كما قال بعضهم : نعم يباح عند أبي حنيفة وأحمد إذا خاف على نفسه الفتنة وكذلك يباح الاستمناء بيد امرأته وجاريته لكن قال القاضي حسين مع الكراهة لأنه معنى العزل وفي التاتار خانية قال أبو حنيفة أحسبه أن يتجوز رأساً برأس.
يقول الفقير من اضطر إلى تسكين شهوته فعليه أن يدق ذكره بحجر كما فعله بعض الصلحاء المتقين حين التوقان صيانة لنفسه عن الزنى ونحوه والحق أحق أن يتبع وهو العمل بالإرشاد النبوي الذي هو الصوم فإن اضطر فالعمل بما ذكرناه أولى وأقرب من أفعال أهل الورع والتقوى والذين هم لأماناتهم وعهدم راعون} لا يخلون بشيء من حقوقها والأمانة اسم لجنس ما يؤتمن عليه الإنسان سواء من جهة الخلق وهي الودائع ونحوها والجمع بالنظر إلى اختلاف الأنواع وكذا العهد شامل لعهد الله وعهد الناس وهو ما عقده الإنسان على نفسهأو لعباده وهو يضاف إلى المعاهد والمعاهد فيجوز هنا الإضافة إلى الفاعل والمفعول وقال الجنيد قدس سره : الأمانة المحافظة على الجوارح والعهدحفظ القلب مع الله على التوحيد والرعاية القيام على الشيء بحفظه وإصلاحه وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخيانة عند ائتمان والكذب عند التحديث والغدر عند المعاهدة والفجور عند المخاصمة من خصال المنافق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
اكرمى بايد ازآتش امانت
فرومكذار قائون امانت
بهر عهدي كه مي بندى وفاكن
رسوم حق كزارى را اداكن
(10/126)
قال بعض الكبار كل من اتصف بالأمانة وكتم الأسرار سمع كلام الموتى وعذابهم ونعيمهم كما سمعت البهائم عذاب أهل القبور لعدم النطق وكذلك يسمع من اتصف بالأمانة كلام أعضائه له في دار الدنيا لأنها حية ناطقة ولذلك تستشهد يوم القيامة فتشهد ولا يشهد إلا عدل مرضي بلا شك.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى الأمانة المعروضة على السموات والأرض والجبال وهي كمال المظهرية وتمام المضاهاة الإلهية وإلى عهد ميثاق ألست بربكم قالوا بلى ورعاية ذلك لعهد أن لا يخالفه
166
بالمخالفات الشرعية والموفقات الطبيعية وقال بعضهم والذين هم لأماناتهم التي استودعوها بحسب الفطرة من المعارف العقلية وعهدهم الذي أخذ الله ميثاقه منهم في لأزل راعون بأن لم يدنسوا الفطرة بالغواشي الطبيعية والإهواء النفسانية {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَـادَاتِهِمْ} الباء متعلق بقوله {قَآاـاِمُونَ} سواء كانت للتعدية أم للملابسة والجمع باعتبار أنواع الشهادة أي مقيمون لها بالعدل ومؤدونها في وقتها أحياء الحقوق الناس فالمراد بالقيام بالشهادة أداؤها عند الأحكام على من كانت هي عليه من قريب أو بيعد شريف أو وضيع قال عليه السلام : إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وتخصيصها بالذكر مع اندرجها في الأمانات لإبانة فضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها وفي كتمها وتركها تضييعها وإبطالها وفي الأشباه إذا كان الحق يقوم بغيرها أو كان القاضي فاسقاً أو كان يعلم إنها لا تقبل جاز الكتمان وفي فتح الرحمن تحمل الشهادة فرض كفاية وأداؤها إذا تعين فرض عين ولا يحل أخذ أجرة عليها بالاتفاق فإذا طلبه المدعى وكان قريباً من القاضي لزمه الشمي إليه وإن كان بعيدا أكثر من نصف يوم لا يأثم بتخفه لأنه يلحقه الضرر وإن كان الشاهد يقدر على المشي فأركبه المدعي من عنده لا تقبل شهادته وإن كان لا يقدر فأركبه لا بأس به ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته عند أبي حنيفة رحمه الله إلا في الحدود والقصاص فإن طعن الخصم فيه سأل عنه وقال صاحباه يسأل عنهم في جميع الحقوق سراً وعلانية وعليه الفتوى وجعل بعضهم شهادة التوحيد داخلة فيها كما قال سهل رحمه الله ، قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة أن لا إله إلا الله فلا يشركون به في شيء من الأفعال والأقوال وقال القاشاني : في الآية أي يعملون بمقتضى شاهدهم من العلم فكل ما شهدوه قاموا بحكمه وصدروا عن حكم شاهدهم لا غير
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} تقديم على صلاتهم يفيد الاختصاص الدال على أن محافظتهم مقصورة على صلاتهم لا تتجاوز إلى أمور دنياهم أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها وآدابها ويحفظونها من الإحباط باقتران الذنوب فالدوام المذكور أو لا يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها وفي المفردات فيه تنبيه على إنهم يحفظون الصلاة بمراعاة أوقاتها وأركانها والقيام بها في غاية ما يكون من الطوق فإن الصلاة تحفظهم بالحفظ الذي نبه عليه في قوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وفي الحديث : "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا جاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي ابن خف وهو الذي ضربه النبي عليه السلام ، في غزوة أحد برمح في عنقه فمات منه في طريق مكة وكان أشد وأطغى من أبي جهل دل عليه كونه مقتولاً بيد النبي عليه السلام ، ولم يقتل عليه السلام ، بيده غيره وبعض العلماء جعل المحافظة شاملة للإدامة على ما هو الظاهر من قوله تعالى : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص لتتميم الفائدة وللإشعار بأن الصلاة أول ما يجب على العبد أداؤه بعد الإيمان وآخر ما يجب عليه رعايته بعده كما سبق.
وكفتم اند دوام تعلق بفرائض دارد ومحافظت بنوافل.
والحاصل إن
167
(10/127)
في تكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولاً وآخراً باعتبارين للدلالة على فضلها وإناقتها على سائر الطاعات وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذاناً بأن كل واحدة من تلك الصفات حقيق بأن يفرد لها موصوف مستقل لشأنها الخطير ولا يجعل شيء منها تتمة للأخرى قال بعضهم : دلت هذه الآية على أن التغاير المفهوم من العطف ليس بذتي بلى هو اعتباري إذ لا يخفى إنه ليس المراد من الدائمين طائفة والمحافظين أخرى فالمقصود مدح المؤمنين بما كانوا عليه في عهد رسول الله من الأخلاق الحسنة والأعمال المرضية ففيه ترغيب لمن يجيء منهم إلى يوم القيامة وترهيب عن المخالفة قال في برهان القرآن قوله إلا المصلين عد عقيب ذكرهم الخصال المذكورة أول سورة المؤمنين وزاد في هذه السورة والذين هم بشهاداتهم قائمون لأنه وقع عقيب قوله والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون وإقامة الشهادة أمانة يؤيها إذا احتاج إليها صاحبها لإحياء حق فهي إذا من جملة الأمانة في سورة المؤمنين وخصت هذه السورة بزيادة بيانها كما خصت بإعادة ذكر الصلاة حيث يقول والذين هم على صلاتهم يحافظون بعد قوله إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
وقال القاشاني : والذي هم على صلاة القلب وهي المراقبة يحافظون أو صلاة النفس على الظاهر وفي فتح الرحمن واتفق القراء على الإفراد في صلاتهم هنا وفي الأنعام بخلاف الحرف المتقدم في المؤمنين لأنه لم يكتنفها فيهما ما كتفها في المؤمنين قبل وبدع من عظيم الوصف المتقدم تعظيم الجزاء في المتأخر فناسب لفظ الجمع ولذلك قرأ به أكثر لقراء ولم يكون ذلك في غيرها فناسب الإفراد أولئك} المصوفون بما كذر من الصفات الفاضلة {فِى جَنَّـاتٍ} أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها {مُّكْرَمُونَ} بالثواب الأبدي والجزءا السرمدي أي سيكونون كذلك فكأن الإكرام فيها واقع لهم الآن وهو خبر آخر أو هو الخبر وفي جنات متعلق به قدم عليه لمراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر أي مكرمون كأنيين في جنات {فَمَالِ الَّذِينَ} أي فما بال الذين {كَفَرُوا} وحرموا من الاتصاف بالصفات الجليلة المذكورة وما استفهامية للإنكار في موضع رفع بالابتداء والذين كفروا خبرها واللام الجارة كتبت مفصولة اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه ، قال ف يفتح الرحمن وقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على الألف دون اللام من قوله فمال هؤلاء في النساء ومال هذا الكتاب في الكهف مال هذا الرسول في الفرقان وفمال الذين في سأل ووقف الباقون في فمال على اللام إتباعاً للخط بخلاف عن الكسائي قال ابن عطية ومنعه قوم جملة لأنها حرف جر فهي بعض المجرور وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس وإما إن اختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا انتهى.
{قِبَلَكَ} حال من المنوى في للذين كفروا أي فما لهم ثابتين حولك {مُهْطِعِينَ} حال من التكن في قبلك من الإهطاع وهو الإسراع أي مسرعين نحوك مادي أعناقهم يك مقبلين بأبصارهم عليك {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} الجار متعلق بعز بن لأنه بمعنى مفترقين وعزين حال بعد حال من المنوى في للذين أي فرقاشتى وبالفارسية كروه كروه
168
حلقه زدكان.
جع عزة وهي الفرقة من الناس وأصلها عزوة من العزو بمعنى الانتماء والانتساب كأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى أما في الولادة أو في المظاهرة فهم مفترقون كان المشركون يتحلقون حول رسول الله حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً ويستهزئون بكلامه ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزت {أَيَطْمَعُ} الطمع نزوع النفس إلى الشيء شهوة له وأكثر الطمع من جهة الهوى {كُلُّ امْرِىاٍ} هرمردى {مِّنْهُمْ} أي من هؤلاء المهطعين {أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} بالإيمان أي جنة ليس فيها إلا التنعم المحض من غير تكدر وتغص {كَلا} ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ أي اتركوا هذا المطع واقطعوا مثل هذا الكلام وبالفارسية نه ايننين است وكافر انرا دربهشت راه نيست آن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
(10/128)
قيل كيف يكون الطمع وهم قالوا ذلك استهزاء أجيب بأن الله عليهم بأحوالهم فلعل منهم من كان يطمع وإلا فيكون المراد م الردع قطع وهم الضعفاء عن احتمال صدق قولهم لعل وجه إيراد يدخل مجهولاً من الأدخل دون يدخل معلوماً من الدخول مع أنه الظاهر في رد قولهم لندخلنها إشعار بأنه لاي دخل من يدخل إلا بإدخال الله وأمره للملائكة به وبأنهم محرومون من شفاعة تكون سبباً للدخول وبأن إسناد الدخول أخباراً وأنشاء إنما يكون للمرضى عنهم والمكرمين عند الله بإيمانهم وطاعتهم كقوله تعالى : [المعارج : 35-39]{فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وقوله : ادخلوا الجنة وفي تنكير جنة إشعار بأنهم مردودون من كل جنة وإن كانت الجنان كثيرة وفي توصيفها بنعيم إشعار بأن كل جنة مملوءة بالتعمة وإن من طرد من راحة النعيم وقع في كدر الجيحم وفي إيراد كل إشعار بأن من آمن منهم بعد قولهم هذا وأطلع الله ورسوله حق له الطمع وتعميم للردع لكل منهم كائناً من كان ممن لم يؤمن إنا خلقناهم مما يعلمون} كما قال ولقد علمتم النشأة الأولى وهو كلام مستأنف ومن ذلك وضع السجاوندي علامة الطاء على كلا لتمام الكلام عنده قد سيق تمهيداً لما بعده من بيان قدرته تعالى على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله وبما نزل عليه من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشىء بدلهم قوماً آخرين فإن قدرته تعالى على ما يعلمون من النشأة الأول من حال النطفة ثم العلقة ثم المضغة حجة بينة على قدرته تعالى على ذلك كما تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} ، وفي التأويلات النجمية : إنا خلقناهم من الشقاوة الأزلية للعداوة الأبدية باليد اليسرى الجلالية القهرية كيف ينزلون مكان من خلقهم من السعادة الأزلية للمحبة الأبدية بالد اليمنى الجالية اللطفية هذا مما يخالف الحكمة الإلهية والإردة السرمدية ولا عبرة بالنطفة والطين لاشتراك الكل فيهما وإنما العبرة بالاصطفائية والخاصية في المعرفة فمن عرف الله كان في جوار الله لأن ترابه من ترات الجنة في الحقيقة وروحه من نور الملكوت ومن جهله كان في بعد عنه لأنه من عالم النار في الحقيقة وكل يرجع إلى أصله فلا أقسم} أي أقسم كما سبق نظائره.
(وقال الكاشفي) : فلا س نه نانست كه كفار ميكويند اقسم سوكند ميخورم {بِرَبِّ الْمَشَـارِقِ وَالْمَغَـارِبِ} جمع
169
المشارق والمغراب أما لأن المراد بهما مشرق كل يوم من السنة ومغربه فيكون لكل من الصيف والشتاء مائة وثمانون مشرقاً ومغرباً وبالفارسية بآفريدكار مشرقها كه آفتاب دارد وهر روز از نقطه ديكر طلوع مينمايد وبخداوند مغربها كه آفتاب راهست وهررور بنقطه ديكر غروب ميكند لأ مشرق كل كوكب ومغربه يعني مراد مشارق ومغارب نجومست ه هريك ازايشان رمحل شروق وغروب ازدائرة افق نقطه ديكرست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
أو المراد بلمشرق ظهور دعوة كل نبي وبالمغرب موته أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات {إِنَّا لَقَـادِرُونَ} جواب القسم {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ} أي نبدلهم حذف المفعول الأول للعلم به وخيراً معفعوله الثاني بمعنى التفضيل على التسليم إذ لا خير في المشركين أو نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتم ولم تقع هذا التبديل وإنما ذكر الله ذلك تهديداف لهم لكي يؤمنوا وقيل بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبين إن أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وبالفارسية يعني كسى برمايشى نتواندكرفت اكر اراده امري كنيم ومغلوب نتوان ساخت در إظهار آن.
(10/129)
وقيل : عاجزين لأن من سبق إلى شيء عجز {فَذَرْهُمْ} فخلهم وشأنهم {يَخُوضُوا} ويشرعوا في باطلهم الذي من جملته ما حكى عنهم وهو جواب الأمرو هو تهذديد لهم وتوبيخ كقوله : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} في الدنيا بالاشتغال بما لا ينفعهم وأنت مشتغل بما أمرت به وهذه الآية منسوخة بالسيف {حَتَّى يُلَاقُوا} من الملاقاة بمعنى المعاينة {يَوْمَهُمُ} هو يوم البعث عند النفخة الثانية والإضافة لأنه يوم كل الخلق وهم منهم أو لأن يوم القيامة يوم الكفار من حيث العذاب ويوم المؤمنين من جهة الثواب فكأنه يومان يوم للكافرين ويوم للمؤمنين {الَّذِى يُوعَدُونَ} الآن أو على الاستمرار وهو من الوعد كقولهم متى هذا الوعد ويجوز أن يكون من الإيعاد وهو بالفارسية بيم كردن {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ} بدل من يومهم ولذا حمل على يوم البعث جمع جدث وهو القبر {سِرَاعًا} حال من مرفوع يخرجون جمع سريع كظراف جمع ظريف أي مسرعين إلى جانب الداعي وصوته وهو إسرافيل ينادي على الصخرة كما سبق {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} حال ثانية من المرفوع وو كل ما نصب فعبد من دون الله وعن ابن عمر رضي الله عنهما هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها واحد الأنصاب كما قال تعالى وما ذبح على النصب وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها وقال الأخفش جمع نصبك رهن ورهن والأنصاب جمع الجمع {يُوفِضُونَ} من الإيفاض وهو بالفارسية شتافتن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص170 حتى ص181 رقم18
وأصله متعد أي يسرعون أيهم يستمله أولاً وفيه تهجين لحالهم الجاهلية وتهكم بهم بذكر جهالتهم التي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعاً ولا ضراً {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} حال من فاعل يوفضون وأبصارهم فاعلها على الإسناد المجازي يعني وصفت أبصارهم بالخشوع مع إنه وصف الكل غاية ظهور آثاره فيها والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعون ما يتوقعون من العذاب {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} هو أيضاً حال من فاعل يوفضون أي تغشاهم ذلة شديدة وحقارة عظيمة وهو بالفارسية خوارى ونكونسارى {ذَالِكَ}
170
اليوم المذكور الذي سيقع فيه الأحوال الهائلة وهو مبتدأ خبره قوله {الْيَوْمُ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} أي يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل وهم يكذبون به فاندفع توهم التكرار لأن الوعد الأول محمول على الآتي والاستمراري كما مر وهذا الوعد محمول على الماضي بدلالة لفظ كان وفي الذلة إشارة إلى ذلة الأنانية فإنهم يوم يخرجون من الأجداث يسارعون إلى صور تناسب هيئاتهم الباطنة فيكون أهل الأنانية في أنكر الصور بحيث يقع المسخ على ظاهرهم وباطنهم كما وقع لإبليس بقوله أنا خير منه فكما إن إبليس طرد من مقام القرب ورهقته ذلة البعد فكذا من في حكمه من الأنس ولذا كان السلف يبكون دماً من الأخلاق السيئة لا سيما ما يشعر بالأنانية من آثار التعيين فإن التوحيد احقيقي هو أن يصير العبد فانياً عن نفسه باياً بربه فإذا لم يحصل هذا فقد بقي فيه بقية من الناصوتية وكل إناء يرشح بما فيه فطوبى لمن ترشح منه الحق لا النفس والله أسأل أن يكرمني به وإياكم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 153
تفسير سورة نوح
مكية وآيها سبع أو ثمان وعشرون
جزء : 10 رقم الصفحة : 170
جزء : 10 رقم الصفحة : 171(10/130)
{إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} مر سر نون العظمة مراراً والإرسال يقابل بالإمساك يكون للتسخير كإرسال الريح والمطر ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل وبالتخلية وترك المنع نحو إنا أرسلنا على الكافرين قال قتادة أرسل نوح من جزيرة فذهب إليهم ونوح اسمه عبد الغفار عليه السلام ، سمى نوحاً لكثرة نوحه على نفسه أو هو سرياني معناه الساكن لأن الأرض طهرت من خبث الكفار وسكنت إليه وهو أول من أوتى الشريعة في قول وأول أولى العزم من الرسل على قول الأكثرين وأول نذير على الشكر وكان قومه يعبدون الأصنام وأول من عذبت أمته وهو شيخ المرسلين بعث ابن أربعين سنة أو ثلاثمائة وخمسين أو أربعمائة وثمانين ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسن عاماً وعاش بعد الطوفان تسعين سنة قال بعض من تصدى للتفسير فيه دلالة على أنه لم يرسل إلى أهل الأرض كلهم لأنه تعالى قال لي قومه فلو أرسل إلى الكل لقيل إلى الخلق أو ما يشابهه كما قيل لرسول الله وما أرسلناك إلاك افة للناس ولقول رسول الله كان البني يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ثم قال : إن قيل فما جريمة غير قومه حتى عممهم في الدعاء عليهم كما قال لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فإنه إذا لم يرسل إليهم لم يكن كلهم مخالفاً لأمره وعاصياً له حتى يستحقوا الدعاء بالإهلاك أجيب بأنه يحتمل إنه تحقق إن نفوس كفرة زمانه على سجية واحدة يستحقون بذلك أن يدعى عليهم بالإهلاك أيضاً انتهى وفنه نظر لأنه قال في إنسان العيون في قوله عليه السلام : وكان كل نبي إنما يرسل إلى قومه أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة ومن الأول نوح عليه السلام ، فإنه كان مرسلاً لجميع من كان في زمنه من أهل اآوض ولما أخبر بأنه لاي ؤمن منهم إلا من آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين أربعين رجلاً وأربعين امرأة أو كانوا
171
أربعمائة كما في العوارف وقد يقال من الآدميين وغيرهم فلا مخالفة دعا على من عدا من ذكر باستئصال العذاب لهم فكان الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن ولو لم يكن مرسلاً إليهم ما دعا عليهم بسب مخالفتهم له في عبادة الأصنام لقوله تعالى : [الإسراء : 15-4]{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أي في الدنيا حتى نبعث رسولا وقول بعض المفسرين أرسل إلى آل قابيل لا ينافي ما ذكر لأنه يجو أن يكون آل قابيل أكثر أهل الأرض وقتئذٍ وقد ثبت أن نوحاً عليه السلام ، أول الرسل أي لمن يعبد الأصنام لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك وحينئذٍ لا يخالف كون أول الرسل آدم أرسله الله إلى أولاده بالإيمان به تعالى وتعليم شرائعه فإن قلت إذا كانت رسالة نوح عامة لجميع أهل الأرض كانت مساوية لرسالة نبينا عليه السلام ، قلت : رسالة نوح عليه السلام ، عامة لجميع أهل الأرض في زمنه ورسالة نبينا محمد عليه السلام عامة لجميع من في زمنه ومن يوجد بعد زمنه إلى يوم القيامة فلا مساوة وحينئذٍ يسقط السؤال وهو أنه لم يبق بعد الطوفال إلا مؤمن فصارت رسالة نوح عامة ويسقط جواب الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان بخلاف رسالة نبينا عليه السلام أن} أي
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
(10/131)
{أَنذِرْ قَوْمَكَ} خوفهم بالنار على عبادة الأصنام كي ينتهوا عن الشرك ويؤمنوا بالله وحده فإن مفسرة لما في الإرسال من معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية حذف منها الجار وأوصل إليها الفعل أي بأن أنذرهم وجعلت صلتها أمراً كما في قوله تعالى : [يونس : 105-1]{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} لأن مدار وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمي إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية وليس الموصول الحرفي كذلك وحيث استوى الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر استويا في صحة الوصل بها فيتجرد عند ذلك كل منهما عن المعنى الخاص بصيته فيبقى الحدث المجرد عن معنى الأمر وللنهي والمضي والاستقبال كأنه قيل أرسلناه بالإنذار كذا في الإرشاد وقال بعض العرافين الأنبياء والأولياء في درجات القرب على تفاوت فبعضهم يخرج من نور الجلال وبعضهم من نور الجمال وبعضهم من نرو العظمة وبعضهم من نور لكبرياء فمن خرج من نور الجمال أورث قومه البسط والأنس ومن خرج من نور العظمة أو رث قومه الهيبة والجلال وكان نوح مشكاة نور عظمة الله ولذلك أرسله إلى قومه بالإنذار فلما عصوه أخذهم بالقهر من قبل أن يأتيهم} من الله تعالى {عَذَابٌ أَلِيمٌ} عاجل كالطوفان والغرق أو آجل كعذاب الآخرة لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا كما قال تعالى : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والأليم بمعنى المؤلم أو المتألم مبالغة والألم جسماني وروحاني والثاني أشد كأنه قيل فما فعل نوح عليه السلام فقيل {قَالَ} لهم يا قَوْمِ} أي كروه من وأصله يا قومي خاطبهم بإظهار الشفقة عليهم وإرادة الخير لهم وتطبيباً لهم {إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ} منذر من عاقبة الكفر والمعاصي وأفرد الإنذار مع كونه بشيراً أيضاً لأن الإنذار أقوى في تأثير الدعوة لما إن أكثر الناس يطيعون أولاً بالخوف من القهر وثانيا بالطمع في العطاء وأقلهم يطيعون
172
بالمحبة للكمال والجمال.
يقول الفقير : الظاهر إن الإنذار أول الأمر كما قال تعالى لنبينا عليه السلام {قُمْ فَأَنذِرْ} والتبشير ثاني الأمر كما قال تعالى : وبشر المؤمنين فالإنذار يتعلق بالكافرين والتبشير بالمؤمنين وإن أمكن تبشير الكفار بشرط الإيمان لا في حال الكفر فإنهم في حال الكفر إنما يستحقون التبشير التهكمي كما قال تعالى : فبشرهم بعذاب أليم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
مبين} موضح لحقيقة الأمر بلغة تعرفونها أو بين الإنذار {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} متعلق بنذير أي بأن اعبدوا الله والأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبت والمندوبات من أفعال القلوب والجوارح {وَاتَّقُوهُ} يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات {وَأَطِيعُونِ} يتناول أمرهم بطاعته في جميع المأمورات والمنهيات والاعتقاديات والعمليات.
(10/132)
وفي التأويلات النجمية : أي في أخلاقي وصفاتي وأفعالي وأعمالي وأقوالي وأحوالي انتهى.
وهذا وإن كان داخلاً في الأمر بعبادة الله وتقواه إلا أنه خصه بالذكر تأكيداً في ذلك التلكيف ومبالغة في تقريره قال بعضهم : أصله وأطيعوني بالياء ولم يقل وأطيعوه بالهاء مع مناسبته لما قبله يعني أسند إلا طاعة إلى نفسه لما إن أطاعة الرسول إطاعة الله كما قال تعالى : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال تعالى : وأطيعوا الرسول فإذا كانوا مأمورين بإطاعة الرسول فكان للرسول أن يقول وأطيعون وأيضاً إن الإجابة كانت تقع له في الظاهر يغفر لكم} جواب الأمر {مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فإن الإسلام يجب ما قبله لا ما تأخر عن الإسلام فإنه يؤاخذ به ولا يكون مغفوراً بسبب الإيمان ولذلك لم يقل يغفر لكم ذنوبكم بطي منالتبعيضية فإنه يعم مغفرة ميع الذنوب ما تقدم منها وما تأخر وقيل المراد ببعض الذنوب بعض ما سبق على الإيمان وهو ما لا يتعلق بحقوق العباد {وَيُؤَخِّرْكُمْ} بالحفظ من العقوبات المهلكة كالقتل والإغراق والإحراق ونحوها من أسباب الهلاك والاستئصال وكان اعتقادهم إن من أهلك بسبب من هذه الأسباب لم يمت بأجله فخاطبهم على المعقول عندهم فليس يريد أن الإيمان يزيد في آجالهم كذا في بعض التفاسير {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} معين مقدر عند الله والأجل المدة المضروبة للشي قال في "الإرشاد" وهو الأمد الأقصى الذي قدره الله لهم بشرط إلا إيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلاً آخر لا يجاوزوه إن لم يؤمنوا به وهو المراد بقوله تعالى {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} وهو ما قدر لكم على تقدير بقائكم على الكفر وهو الأجل القريب المطلق الغير المبرم بخلاف الأجل المسمى فإنه البعيد المبرم وأضيف الأجل هنا إلى الله لأنه المقدر والخالق أسبابه وأسند إلى العباد في قوله إذا جاء أجلهم لأنهم المبتلون المصابون {إِذَا جَآءَ} وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر {لا يُؤَخَّرُ} فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتققى شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه فالمحكوم عليه بالتأخير هو الأجل المشروط بشرط الإيمان والمحكوم عليه بامتناعه هو الأجل المشروط بشرط البقاء على الكفر فلا تناقض لانعدام وحدة الشرط ويجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله تعالى من قبل أن يأتيهم عذاب أليم فإنه أجل موقت له حتماً {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} شيئاً
173
لسارعتم إلى ما أمرتكم به أو لعلمتم أن الأجل لا تأخير فيه ولا إهمال وفيه إشارة إلى أنهم ضيعوا أسباب العلم وآلات تحصيله بتوغلهم في حب الدنيا وطلب لذاتهم حتى بلغوا بذلك إلى حيث صاروا كأنهم شاكون في الموت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
روزى كه اجل در آيد ازيش وست
شك نيست كه مهلت ندهديك نفست
يارى نرسد دران دم از هي كست
برباد شود جمله هوا وهوست
{قَالَ} أي نوح مناجياً لربه وحاكياً له وهو أعلم بحال ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الطوال بعد ما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاوز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل {رَّبِّ} أي روردكارمن {إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى} إلى الإيمان والطاعة {لَيْلا وَنَهَارًا} في الليل والنهار أي دائماً من غير فتور ولا توان فهما ظرفان لدعوت أراد بهما الدوام على الدعوة لأن الزمان منحصر فيهما وفي "كشف الأسرار" بشبها درخانهاى ايشان وبورزها در انجمنهاى ايشان.
وكان يأتي باب أحدهم ليلاً فيقرع الباب فيقول صحب البيت من على الباب فيقول أنا نوح قل لا إله إلا الله {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} مما دعوتهم إليه.
وفي التأويلات النجمية : من متابعي وديني وما أنا عليه من آثار وحيك والفرار وبالفارسية كريختن.
وهو مفعول ثان لقوله لم يزدهم لأنه يتعدى إلى مفعولين يقال زاده الله خيراً وزيده فزد وازدد كما في "القاموس" وإسناد الزيادة إلى الدعاء مع أنها فعل الله تعالى لسببيته لها والمعنى إن الله يزيد الفرار عند الدعوة الصرف لمدعو اختياره إليه {وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي إلى الإيمان.
وفي التأويلات النجمية : كلما دوتهم بلسان الأمر مجرداً عن انضمام الإرادة الموجبة لوقوع المأمور فإن الأمر إذا كان مجرداً عن الإرادة لا يجب أن يقع المأمور به بخلاف ما إذا كان مقروناً بالإرادة فإنه لا بد حينئذٍ من وقوع المأمور به {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بسببه {جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ} أي سدوا ماسمعهم من استماع الدعوة فالجعل المذكور كناية عن هذا السد ولا مانع من الحمل على حقيقته بأن يدخلوا أصابعهم في ثقب آذانهم قصدا إلى عدم الاستماع {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} الاستغشاء جامه بسر در كشيدن.
(10/133)
كما في تاج المصادر مأخوذ من الغاشء وهو الغطاء وفي الأصل اشتمال من فوق ولما كان فيه معنى الستر استعمل معناه وأصل الاستغشاء طلب الشىء أي الستر لكن معنى الطلب هنا ليس بمقصود بل هو بمعنى التغطي والستر وإنما جيء بصيغته التي هي السين للمبالغة والثياب جمع ثوب سمى به لثوب الغزل أي رجوعه إلى الحالة التي قدر لها والمعنى وبالغوا في التغطي بثيابهم كأنهم طلبوا منها إن تغشاهم أي جميع أجزاء بدنهم آلة الأبصار وغيرها لئلا يبصروه كراهة النظر إليه فإن المبطل يكره رؤية المحق للتضاد الواقع بينهما وقس عليهما المتكبر والكافر والمبتدع بالنسبة إلى المتواضع والمؤمن والسني أو لئلا يعرفهم فيدعوهم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
يقول الفقير : هذا الثاني ليس بشيء لأن دعوته على ما سبق كانت عامة لجميع من في الأرض ذكورهم وإناثهم والمعرفة ليست من شرط الدعوة واشتباه الكافر بالمؤمن مدفوع بأن المؤمن كان أقل القليل
174
معلوماً على كل حال على أن التغطي من موجبات الدعوة لأن بذلك يعلم كونه من أهل الفرار إذ لم يكن في ذلك الزمان حجاب وقال بعضهم : ويجوز أن يكون التغطي مجازاً عن عدم ميلهم إلى الاستماع والقبول بالكلية لأن من هذا شأنه لاي سمع كلامه غيره {وَأَصَرُّوا} أي أكبوا وأقاموا على الكفر والمعاصي وفي قول القلوب الإصرار يكون بمعنى يعقد بقلبه إنه متى قدر على الذنب فعله أولاً يعقد الند ولا التوبة منه وأكبر الإصرار السعي في طلب الأوزار.
(وفي تاج المصادر) الإصرار بريزى باستادن وكوش راست كردن است.
يقال اصر الحمار على العانة وهي القطيع من حمر الوحش إذا ضم أذنيه إلى رأسه وأقبل عليها يكدمها ويطردها استعير للإقبال على الكفر والمعاصي والاكباب عليهما بتشبيه الإقبال المذكور بإصرار الخمار على العانة يكدمها ويطردها ولو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مزجرة فكيف والتشبيه في السوء حاله وهو حال الكدم والطرد للسفاد {وَاسْتَكْبَرُوا} تعظموا عن أتباعي وطاعتي وأخذتهم العزة في ذلك {اسْتِكْبَارًا} شديداً لأنهم قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال بعض العارفين : من أصر على المعصية أورثته التمادي في الضلالة حتى يرى قبيح أعماله حسناً فإذا رآه حسناً يتكبر ويعلو بذلك على أولياء الله ولا يقبل بعد ذلك نصيحتهم قال سهل قدس سره : الإصرار على الذنب يورث النفاق والنفاق يورث الكفر {ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ} دعوة {جِهَارًا} أي أظهرت لهم الدعوة يعني آشكارا در محافل ايشان.
والجهر ظهور الشيء فأفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع {ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} إشارة إلى ذكر عموم الحالات بعد ذكر عموم الأوقات أي دعوتهم تارة بعد تارة ومرة غب مرة على وجوه متخالفة وأساليب متقاوتة وثم لفتاوت الوجوه فإن الجار أشد من الأسرار والجمع بينهما أغلظ من الأفراد والإعلان ضد الأسرار يقال أسررت إلى فلان حديثاً أفضيت به إليه في خفية أي من غير إطلاع د عليه وجهرت به أظهرته بحيث اطلع عليه الغير ويجوز أن يكون ثم لتراخي بعض الوجوه عن بعض بحسب الزمان بأن ابتدأ بمناصحتهم ودعوتهم في السر فعاملوه بالأمور الأربعة وهي الجعل والتغطي والإصرار والاستكبار ثم ثتى بالمجاهرة بعد ذلك ذلك لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار أي خلط دعاءه بالعلانية بدعاء السر فكما كلمهم جميعاً كللمهم واحداً واحداً سراً وقال بعضهم : إشكارا كردم مر بعضي ايشانرا يعين باشكرا آوز برداشتم وباعلاي صوت دعوت كردم وبراز كفتم مر بعضي ديكر از ايشانرا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
وفي بعض التفاسير أن نوحاً عليه السلام لما آذوه بحيث لا يوصف حتى كانوا يضربونه في اليوم مرات عيل صبره فسأل الله أن يواريه عن أبصارهم بحيث يسمعن كلامه ولا يرونه فينالونه بمكروه ففعل الله ذلك به دعاهم كذلك زماناً فلم يؤمنوا فسأل أن يعيده إلى ما كان وهو قوله أعلنت لهم وأسررت لهم أسراراً وقال القاشاني : ثم إني دعوتهم جهاراً أي نزلت عن مقام التوحيد ودعوتهم إلى مقام العقل وعالم النور ثم إني أعلنت لهم بالمعقولات الظاهرة وأسررت لهم في مقام القلب بالأسرار الباطنة ليتو
175
(10/134)
صلوا إليها بالمعقول {فَقُلْتُ} لهم عقيب الدعوة عطف على قوله دعوت {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} اطلبوا المغفرة منه لأنفسكم بالتوبة عن الكفر والمعاصي قبل الفوت بالموت {إِنَّهُ} تعالى {كَانَ غَفَّارًا} للتائبين بجعل ذنوبهم كأن لم تكن والمراد من كونه غفاراً في الأزل كونه مريداً للمغفرة في وقتها القمدر وهو وقت وجود المغفور له وفي كشف الأسرار كان صلة إليه ورؤية التقصير في العبودية الندم على ما ضاع من أيامهم بالغفلة عن الله وفي الحديث : "من أعطى الاستغفار لا يمنع المغفرة لأنه تعالى قال : استغفروا ربكم إنه كان غفاراً" ولذا كان علي رضي الله عنه يقول : ما ألهم الله عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه وعن بعض العلماء قال الله تعالى إن أحب عبادي إلى المتحابون بحبي والمعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا آدت أهل الأرض بعقوبة ذكرتهم فتركتهم وصوفت العقوبة عنهم والغفار أبلغ من الغفور وهو من الغافر وأصل الغفر الستر والتغطية ومنه قيل لجنة الرأس مغفر لأنه يستر الرأس والمغفرة من الله ستره للذنوب وعفوه عنها بفضله ورحمته لا بتوبة العباد وطاعتهم وإنما التوبة والطاعة للعبودية وعرض الافتقار وفي بعض الأخبار عبدي لو أتيتن بقراب أصرض ذنوباً لغفرتها لك ما لم تشرك بي.
(حكى) إن شيئخاً حج مع شاب فلما أحرم قال لبيك اللهم لبيك فقيل له لا لبيك فقال الشاب للشيخ ألا تسمع هذا الجواب فقال كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة قال فلأي شيء تتعب نفسك فبكى الشيخ فقال فإلى أي باب التجيء فقيلله قد قبلناك.
همه طاعت آرند ومسكين نياز
بياتا بدركاه مسكين نواز
وشاخ برهنه برآريم دست
كه بي برك ازين بيش نتوان نشست
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
{يُرْسِلِ السَّمَآءَ} أيالمطر كما قال الشاعر إذا نزل السماء بأرض قوم قال وقال بعضهم أي ماء السماء فحذف المشاف {عَلَيْكُم} حال كونه {مِّدْرَارًا} أي كثير الدرور أي السيلا والإنصباب وبالفارسية فرو كشايد برشما باران ي در ي وبيهكنام.
وفي الإرسال مبالغة بالنسبة إلى الإنزال وكذا المدرار صيغة مبالغة ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كقولهم رجل أو امرأة معطار ويرسل جواب شرط محذوف أي أن تستغفروا يرسل السماء وفي قول النجاة في مثة إنه جواب الأمر وهو ههنا استغفروا تسامح في العبارة اعتماداً على وضوح المراد وكسر اللام بالوصل لتحرك الساكن به كأن قوم نوح تعللوا وقالوا إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا بعدما عكفنا عليه دهراً طويلاً نأمرهم الله بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب عليهم المنافع وهو الاستغفار ولذلك وعدهم بالعوائد العاجلة التي هي أوقع في قلوبهم من المغفرة وأحب إليهم إذا النفس حريصة بحب العاجل ولذلك جعلها جواب الأمر بأن قال يوسل السماء الخ دون المغفرة بأن قال يغفر لكم ليرغبوا فيها ويشاهدوا إن أثرها وبركتها ما يقاس عليه حال المغفرة فالاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات كما أن المعصية سبب لخراب العالم بظهور أسباب القهر الإلهي وقيل لما كذبوه بعد تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل
176
سبعين سنة فودعهم أن آمنوا أن يرزقهم الله الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
(10/135)
يقول الفقير : هذا القول هو الموافق للحكمة لأن الله تعالى يبتلى عباده بالخير والشر ليرجعوا إليه ألا ترى إلى قريش حيث إن الله جعل لهم سبع سنين كسني يوسف بدعاء النبي عليه السلام ليرجعوا أعمالاً كانوا عليه من اشرك فلم يرفعوا له رأساً {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي يوصل إليكم ويعط لكم المدد والقوة بهما كما قال الله تعالى ويزدكم قوة إلى قوتكم {وَيَجْعَل لَّكُمْ} أي وينشيء لكم {جَنَّـاتٍ} بساتين ذوات أشجار وأثمار {وَيَجْعَل لَّكُمْ} فيها {أَنْهَـارًا} جارية تزينها بالنبات وتحفظها عن اليبس وتفرح القلوب وتسقي النفوس كان الظاهر تقديم الجنات والأنهار على الامداد لكونهما من توابع الإرسال وإنا رهما لرعاية رأس الآية وللإشعار بأن كلا منهما نعمة إلهية على حدة وعن الحسن البصري قدس سره إن رجلاً شكا إليه الجدب فقال استغفر الله وشكا إليه آخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ربع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجل يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلاله الآية قال في فتح الرحمن ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء وهو الدعاء بطلب السقيا على وجه مخصوص فإذا أجدبت الأرض وقحط المطر سن الاستسقاء بالاتفاق ومنع أبو حنيفة وأصحابه من خروج أهل الذمة ولم يمنعوا عند الثلاثة ولم يختلطوا بالمسلمين ولم يفردوا بيوم وقد سبق بعض تفصيله في سورة البقرة {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهمتعالى وقاراً على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد أي الظن بناء على إنه أي الرجاء إنما يكون بالاعتقاد وأدنى درجته الظن والوقار في الأصل السكون والحلم وهو ههنا بمعنى العظمة لأنه يتسبب عنها في الأغلب ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الاستقرار في لكم ولله متعلق بمضمر وقع حالاً من وقاراً ولو تُر لكان صفة له والمعنى أي سبب حصل لكم واستقر حال كونكم غير معتقدين عظمة موجية لتعظيمه بالإيمان والطاعة له أي لا سبب لكم ي هذا مع تحقق مضمون الجملة الحالية وبالفارسية يست شمارا كه اميدانداريد يعني نمى شناسيد مرخدايرا عظمت وبزر كوارى واعتقاد نمى كنيد تابترسيد ازنا فرمانى او.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
وفي "كشف الأسرار" هذا الرجاء بمعنى الخوف ولوقار العظمة أي لا تخافونعظمة وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما لكم لا تطلبون ولا تكسبون من اسم الله الأعظم ما يوقركم عنده بالتخلق بكل اسم تحته حتى تصيروا بسبب تحققكم بجميع أسمائه الداخلة فيه مظهره ومجلاه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} يقال فعل كذا طوراً بعد طور أي تارة بعد تارة وعدا طوره أي تجاوز حده وقدره والمعنى والحال إنكم على حالة منافية لما أنتم عليه بالكلية وهي إنكم تعلمون إنه تعالى خلقكم وقدركم تارات أي مرات حالاً بعد حال عناصر ثم أغذية ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغا ثم عظاماً ولحوماً ثم أنشأكم خلقاً آخر فإن التقصير في توقير من هذه شؤونه في القرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بها مما لا يكاد يصدر عن العاقل وقال بعضهم : هي إشارة إلى الأطوار السبعة المذكورة في قوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة
177
من ين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين فهذه هي التارات والأحوال السبع المترتب بعضها على بعض كل تارة أشرف مما قبلها وحال الإنسان فيها أحسن مما تقدمها.
ون صورت توبت نه نكارند بكشمير
ون قامت توسرونه كارند بكشور
كر نقش تويش بت آزر بنكارند
اشرم فروريزد نقش بت آزر
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
(10/136)
وقيل : خلقكم صبياً ناوشبانا وشيوخاً وقيل طوالاً وقصاراً وأقوياء وضعفاء مختلفين في الخلق والخلق كما قال تعالى : [الروم : 22-15]{وَاخْتِلَـافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وقيل : خلقهم أطواراً حين أخرجهم من ظهر آدم للعهد ثم خلقهم حين أذن بهم إبراهيم عليه السلام للحج ثم خلقهم ليلة أسرى برسول الله فأراه إياهم وقال بعض أهل المعرفة خلقكم أطواراً من أهل المعرفة ومن أهل المحبة ومن أهل الحكمة ومن أهل التوحيد ومن أهل الشوق ومن أهل العشق ومن أهل الغناء ومن أهل البقاء ومن أهل الخدمة ومن أهل المشاهدة خلق طور الأرواح القدسية من نور الجبروت وطور العقول الهداية العارفة من نور الملكوت وطور القلوب الشائقة من معادن القربة وطور أجسام الصديقين من تراب الجنة فكل طور يرجع إلى معدنه من الغيب ألم تروا} يا قومي والاستفهام للتقرير والرؤية بمعنى العلم لعلهم علموا ذلك بالسماع من أهله أو بمعنى الأبصار والمراد مشاهدة عجائب الصنع الدال على كمال العلم والقدرة {كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ} حال كونها {طِبَاقًا} أي متطابقاً بعضها فوق بعض كما سبق في سورة الملك أتبع الدليل الدال على إنه يمكن أن يعيدهم وعلى إنه عظيم القدرة بدلائل الأنفس لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه ثم اتبع ذلك بدلائل آفاق فقال {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} أي منور الوجه الأرض في ظلمة الليلة ونسبته إلى الكل مع إنه في السماء الدنيا لأن كل واحدة من السموات شفافة لا يحجب ما وراءها فيرى الكل كأنها سماه واحدة ومن ضرورة ذلك أن يكون ما في واحدة منها كأنه في الكل على إنه ذهب ابن عباس وابن عمر ووهب بن منبه رضي الله عنهم إلى أن الشمس والقمر والنجوم وجوهها مما يلي السماء وظهورها مما يلي الأرض وهو الذي يقتضيه لفظ السراج لأن ارتفاع نوره في طرف العلو ولولا ذلك لأحرقت جميع ما في الأرض بشدة حرارتها فجعلها الله نوراً وسراجاً لأهل الأرض والسموات فعلى هذا ينبغي أن يكون تقدير ما بعده وجعل الشمس فيهن سراجاً حذف لدلالة الأول عليه {وَجَعَلَ الشَّمْسَ} هي في السماء الرابعة وقيل في الخامسة وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابع ولو أضءت من الرابعة أو من السماء الدنيا لم يطق لها شيء (كما قال في المثنوى) :
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
آفتابى كزوى اين عالم فروخت
اندكى كريش آيد جمله سوخت
{سِرَاجًا} م باب التشبيه البليغ أي كالسراج يزيل ظلمة الليل عند الفجر ويبصر أهل الدنيا في ضوئها الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون
178
إلى أبصاره وليس القمر بهذه المثابة إنما هو نور في الجملة.
وحضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجهت آن راغ كفته كه كما قال تعالى : {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} نووى تاريكى كفر ونفاق را از عرصه روى زمين زائل كردانيد.
راغ دل شم شم وراغ جان رسول الله
كه شمع ملت است ازر تو احكام اورخشان
درين ظلمت سرا كرنه راغ افرو ختى شرعش
كجاكس را خلاصي بودي ازتاريكى طغيان
(10/137)
والسراج اعراق عند الناس من الشمس بوجه الشبه الذي هو إزالة ظلمة الليلي لأنهم يستعملونه في الليالي فلا يرد أن يقال أن نور القمر عرض مستفاد من الشمس كضوء السراج فتشبه القمر بالسراج أولى من يشبيه الشمس به وأيضاً إنه من تشبيه الأعلى بالأدنى وقال حضرة الشيخ صدر الدين القنوى قدس سره في شرح الأربعين حديثاً الضيء هو امتزاج النور بالظمة وليس في ذات القمر ما يمتزج بالشمس حتى يسمى الناتج بينهما ضياء ولهذا سمى الحق القمر نوراً دون الشمس المشبهة بالسراج لكونه ممدوداً من الشجرة المباركة المنفي عنها الجهات وإنها الحضرة الجامعة للأسماء والصفات والله أنبتكم من الأرض نباتاً} أي إنباتاً عجيباً وأنشأكم منها إنشاء غريباً بواسطة إنشاء أبيكم آدم منها أو أنش الكل منها من حيث إنه خلقهم من النطف المتولدة من النبات المتولد من الأرض استعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من لأرض لأنهم إذا كانوا نباتاً كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات ووضع نباتاً موضع إنباتاً على إنه مصدر مؤكذد لأنبتكم بحذف الزوائد ويسمى اسم مصدر دل عليه القرية الآتية وهي قوله ويخرجكم إخراجاً وقال بعضهم : نباتاً حال لا مصدر ونبه بذلك إن الإنسان من وجه نبات من حي إن بدأه ونشأته من التراب وإنه ينمو نموه وإن كان له وصف زائد على النبات والنبات ما يخرج من الأرض سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل اختص عند العامة بما يأكله الحيوان وقال بعض أهل المعرفة والله أنبتكم من الأرض نباتاً أي جعل غذاءكم الذي تنمو به أجسادكم من الأرض كما جعل النبات ينمو بالماء بواسطة التراب فغذاء هذه النشأة ونموها بما خلقت منه {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي في الأرض بالدفن عند موتكم {وَيُخْرِجُكُمْ} منها عند البعث والحشر {إِخْرَاجًا} محققاً لا ريب فيه وذلك لمجازاة الأولياء ومحاسبة الأعداء ولم يقل ثم يخرجكم بل ذكر بالواو الجامعة إياها مع يعيدكم رمزاً إلى أن الإخراج مع الإعادة في القبر كشيء واحد لا يجوز أن يكون بعضها محقق الوقوع دون بعض.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
وفي التأويلات النجمية : والله أنبت من أرض بشريتكم نبات الأخلاق والصفات ثم يعيدكم في تلك الأرض بالبقاء بعد الفناء بطريق الرجوع إلى أخحكام البشرية بالله لا بالطبع والميل الطبيعي ويخرجكم أي ويظهركم ويغلبكم على التصرف في العالم بالله لا بكم ولا بقدرتكم واستطاعتكم {وَاللَّهُ} كرر الاسم الجليل للتعظيم والتمين والتبرك {جَعَلَ لَكُمُ} أي لمنافعكم {الارْضَ} سبق بيانها في سورة الملك وغيرها {بِسَاطًا} مبسوطة متسعة كالبساط والفراش تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم قال أبو حيان ظاهره إن
179
الأرض ليست كرية بل هي مبسوطة قالسعدي امفتي وإنما هو في التقلب عليها على ما فسروه انتهى.
وقد مر مراراً إن كرية الأرض لاتتا في الحرث والغرس ونحوهما لعظم دائرتها كما يظهر الفرق بين بيضة الحمامة وبيضة النعامة من السلوك وهو الدخول لا من السلك وهو الإدخال {مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} أي طرقاً واسعة جمع سبيل وفج وهو الطريق الواسع فجر دهناً لمعنى الواسع فجعل صفة لسبلا وقيل هو المسلك بين الجبلين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
(10/138)
قال في المفردات : الفج طريق يكتفها جبلان ويستعمل في الطريق ال واسع ومن متعلقة بما قبلها لما فيه من معنى الاتخاذ أي لتسلكوا متخذين من الأرض سبلاً فتصرفوا فيها مجيئاً وذهاباً أو بمضمر هو حال من سبلا أي كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها ثم جعلها بساطاً للسلوك المذكور لا ينافي غيره من الوجوه كالنوم والاستراحة والحرث والغرس ونحوها ثم السلوك إما جسماني بالحركة الاينية الموصلة إلى المقصد وإما روحاني بالحركة الكيفية الموصلة إلى المقصود ولكل منهما فوائد جليلة كطلب العلم والحج والتجارة وغيرها وكتحصيل المحبة والمعرفة والأنس ونحوها وقال القاشاني : والله جعل لكم أرض البدن بساطاً لتسلكوا منها سبل الحواس فجاجاً أي خروقاً واسعة أو من جهتها سبل سماء الروح إلى التوحيد كا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض أراد الطرق الموصلة إلى الكمال من المقامات والأحوال كالزهد والعبادة والتوكل والرضى وأمثال ذلك ولهذا كان معراج النبي عليه السلام ، بالبدن {قَالَ نُوحٌ} أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه فهو بذل من قال الأول ولذا ترك العطف أي قال مناجياً له تعالى {رَّبِّ} أي روردكار من {إِنَّهُمْ عَصَوْنِى} داموا على عصياني ومخالفتي فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير {وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُه وَوَلَدُهُ اإِلا خَسَارًا} أي استمروا على أتباع رؤوسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصارت تلك الأموال والأولاد سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا سوة لهم الخسار وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم إنما اتبعوهم لو جاهتهم الحاصلة لهم بسب الأموال والأولاد لما اشهدوا فيهم من شبهة مصححة للاتباع كما قالت قريش لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فجعلوا الغنى سبباً مصححاً للاتباع ودل الكلام على أن ازدياد المال والولد كثيراً ما يكون سباً للهلاك الروحاني ويورث الضلال في الدين أولاً والاضلال عن اليقين ثانياً قال ابن الشيخ المفهوم من نظم الآية إن أموالهم وأولادهم عين الخسار وإن ازديادهما إنما هو ازدياد خسارهم والأمر في الحقيقة كذلك فإنهما وإن كانا من جملة المنافع المؤدية إلى السعادة الأبدية بالشكر عليهما وصرفهما إلى وجوه الخير إلا أنهما إذا أديا إلى البطر والاغترار وكفران حق المنعم بهما وصارا وسيلتين إلى العذاب المؤبد في الآخرة صارا كأنهما مخض الحسار لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فمن انتفع بهما في الدنيا خسر سعادة الآخرة وصار كمن ل لقمة مسمومة من الحلوى فهلك فإن تلك اللقمة في حقه هلاك محض
180
إذ لا عبرة لانتفاعه بها في جنب ما أدت إليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
نوغافل درانديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد ايمال
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص181 حتى ص191 رقم19
(10/139)
{وَمَكَرُوا} عطف على صلة من لان المكر الكبار يليق بكبر آئهم والجمع باعتبار معناها والمكر الحيلة الخفية وفي كشف الأسرار المكر في اللغة غاية الحيلة وهو من فعل الله تعالى إخفاء التدبير {مَكْرًا كُبَّارًا} أي كبيراً في الغاية وقرىء بالتخفيف والأول أبلغ منه وهو أبلغ من الكبير نحو طوال وطوال وطويل ومعنى مكرهم الكبار احتيالهم في منع الناس عن الدين ونحريشهم لهم علا أذية نوح قال الشيخ لما كان التوحيد أعظم المراتب كان المنع منه والأمر بالشرك أعظم الكبائر فلذا وصفه الله بكونه مكراً كباراً {وَقَالُوا} أي الرؤساء للاتباع والسفلة {لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ} أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح ومن عطف مكروا على اتبعوا يقول معنى وقالوا وقال بعضهم لبعض فالقائل ليس هو الجمع {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} جرد الأخيرين عن حرف النفي إذ بل التأكيد نهايتع وعلم أن القصد إلى كل فرد فرد لا إلى المجموع من حيث هو مجموع والمعنى ولا تذرون عبادة هؤلاء خصوصاً فهو لا إلى المجموع من حيث هو مجموع والمعنى ولا تذرن عبادة هؤلاء خصوصاً فهو من عطف الخاص على العام خصوصاً بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظم ما عندهم وقد انتقلت هذه الأصنام بأعيانها عنهم إلى العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل بضم دال دومة ولذلك سمت العرب بعبد ود قال الراغب : الود صنم سمى بذلك إما لمودتهم له أو لاعتقادهم أن بينه وبين الباري تعالى مودة تعالى عن ذلك وكان سواع لهمدان بسكون الميم قبيلة باليمن ويغوث لمذحج كمجلس بالذال المعجمة وآخره جيم ومنه كانت العرب تسمى عبد يغوث ويعول لمراد وهو كغراب أبو قبيلة سمى به لأنه تمرد ونسر لحمير بكسر الحاء وسكون الميم بوزن درهم موضع عربي صنعاء اليمن وقيل انتقلت أسماؤها إليهم فاتخذوا أمثالها فعبدوها إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام كيف وقد خربت الدنيا في زمان الطوفان ولم يضعها نوح في السفينة لأنه بعث لنفيها وجوابه إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فلم تزل مدفونة حتى أخرجها اللعين لمشركي العرب نظيره ما روى إن آدم عليه السلام كتب اللغات المختلفة في طين وطبخه فلما أصاب الأرض الغرق بقي مدفوناً ثم وجد كل قوم كتاباً فكتبوه فأصاب إسماعيل عليه السلام ، الكتاب العربي وقيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بينآدم ونوح وقيل من أولاد آدم ماتوا فحزن الناس عليهم حزناً شديداً واجتمعوا حول قبورهم لا يكادون يفارقونها وذلك بأرض بابل فلما رأى إبليس فعلهم ذلك جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم هل لكم أن أصور لكم صورهم إذا نظرتم إليها ذكرتموهم واستأنستم وتبركتم بهم قالوا نعم فصور لهم صورهم من صفر ورصاص ونحاس وخشب وحجر وسمى تلك الصور بأسمائهم ثم لما تقادم الزمن وانقرضت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن من قبلكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها في زمان مهلاً ييل بن
181
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
قينان ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية وذلك إما بإخراج الشيطان اللعين تلك الصور كما سبق أو بابه كان لعمرو بن لحي وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة تابع من الجن فقال له اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس وهي ود الخ فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت عبادة الأصنام في العرب وعاش عمرو بن لحي ثلاثمائة وأربعين سنة ورأى من ولده وولد ولد ولده الف مقاتل ومكث هو وولده في ولاية البيت خمسمائة سنة ثم انتقلت الولاية إلى قريش فمكثوا فيها خمسمائة أخرى فكان البيت بيت الأصنام ألف سنة وذكر الامام الشعراني أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين فإنهم نزهوا الله عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم فلما رأوا بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلى والجواهر وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم وغاب عن أولئك العلماء إن ذلك لا يجوز إلا باذل من الله تعالى هذا كلامه قال السهيلي ولا أدري من اين سرت لهم تلك الأسماء القديمة أمن قبل الهند فقد ذكر عنهم إنهم كانوا المبدأ في عبادتهم الأصنام بعد نوح أم الشيطان ألهمهم ما كانت عليه الجاهلية الأولى قبل نوح وفي التكملة روى تقي بن مخلد أن هذه الأسماء المذكورة في السورة كانوا أبناء آدم عليه السلام من صلبه وأن يغوث كان أكبرهم وهي أسماء سريانية ثم وقعت تلك الأسماء إلى أهل الهند فسموا بها أصنامهم التي زعموا إنها على صور الدراري السبعة وكانت الجن تكلمهم من جوفها فافتتنوا بها ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي بن قمعة بن الياس بن مضر فمن قبله سرت إلى أرض العرب وقيل كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر وهو طائر عظيم لأنه ينسر الشي ويقتلعه.
(10/140)
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
وفي التأويلات النجمية : لا تتركن عبودية آلهتكم التي هي ود النفس المصورة بصورة المرأة وسواع الهوى المصور بصورة الرجل ويغوث الطبيعة المشكلة بشكل الأسد ويعوق الشهوة المشكلة بصورة الفرس ونسر الشره المصور بصورة النسر وقال القاشاني : أي معبوداتكم التي عكفتم بهواكم عليها من ود البدن الذي عبدتموه بشهواتكم وأحببتموه وسواع النفس ويغوث الأهل ويعوق المال ونسر الحرص {وَقَدْ أَضَلُّوا} أي الرؤساء والجملة حالية {كَثِيرًا} أي خلقاً كثيراً أو أضل الأصنام كقوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} جمعهم جمع العقلاء لعدهم آلهة ووصفهم بأوصاف العقلاء ولا تزد الظالمين} بالاشتراك فإن الشرك ظلم عظيم إذ أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه فهل شيء أسوأ في هذا من وضع أخس المخلوق وعبادته موضع الخالق الفرد الصمد وعبادته {إِلا ضَلَـالا} الجملة عطف على قوله تعالى : [نوح : 21-87]{رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى} أي قال رب إنهم عصوني ، وقال : ولا نزد الظالمين إلا ضلالاً قالوا ومن الحكاية لا من المحكى أو من كلام الله لا من كلام نوح فنوح قال كل واحد من هذين القولين من غير أن يعطف أحدهما على الآخر فحكى الله أحد قوليه بتصديره بلفظ ، قال : وحكى قوله صا بعطفه على قوله الأول بالواو المنائبة عن لفظ قال فلا يلزم عطف الإنشاء على الأخبار ويجوز
182
عطفه على مقدار أي فأخذلهم قالوا وحينئذٍ من المحكى والمراد بالضلال هو الصيام والهلاك والضلال في تمشية مكرهم وترويجه مصالح دنياهم لا في أمر دينهم حتى لا يتوجه إنه إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد ضلالهم وإن هذا الدعاء يتضمن الرضى بكفرهم وذلك لا يجوز في حق الأنبياء وإنك ان يمكن أن يجاب بأنه بعدما أوحى إليه إنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن وإن المحذور هو الرضى المقرون باستحسان الكفرو نظيره دعاء موسى عليه السلام ، بقوله واشدد على قلوبهم فمن أحب موت الشرير بالطبع على الكفر حتى ينتقم الله منه فهذا ليس بكفر فيؤول المعنى إلى أن يقال ولاي زد الظالمين الإضلال وغيا ليزدادوا عقاباً كقوله تعالى : إنما نملى لهم ليزدادوا إثماً وقوله : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار قالوا دعا نوح الأبناء بعد الآباء حتى بلغوا سبعة قرون فلما ايس من إيمانهم دعا عليهم مما خطيئاتهم} أي من أجل خطيئات قوم نوح وأعمالهم المخالفة للصواب وهي الكفر والمعاصي وما مزيدة بين الجار والمجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم قوله مما خطيئاتهم فإنه يدل على أن إغراقهم بالطوفان لم يكن إلا من أجل خطيئاتهم تكذيباً لقول المنجمين من أن ذلك كان لاقتضاء الأوضاع الفلكية إياه ونحو ذلك فإنه كفر لكونه مخالفاً لصريح هذه الآية ولزيادة ما الإبهامية فائدة غير التوكيد وهي تفخيم خطيئاتهم أي من أجل خطيئاتهم العظيمة ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل خطيئاتهم بدلاً منها والخطيئات جمع خطيئة وقرأ أبو عمر وخطاياهم بلفظ الكثرة لأن المقام مقام تكثير خطيئاتهم لأنهم كفروا ألف سنة والخيئات لكونه جمع السلامة لا يطلق عى ما فوق العشرة إلا بالقرينة والظاهر من كلام الرضى إنكل واحد من جمع السلامة والتكثير لمطلق الجمع من يغر نظر إلى القلة والكثرة فيصلحان لهما ولذا قيل إنهما مشتركان بينهما واستدلوا عليه بقوله تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
{مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ} في الدنيا بالطوفان لا بسبب آخر وفيه زجر لمرتكب الخطايا مطلقاً {فَأُدْخِلُوا نَارًا} تنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه تعالى أعدلهم على حسب خطيئاتهم نوعاً من النار والمراد إما عذاب القبر فهو عقيب الإغراق وإن كانوا في الماء فإن من مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب عن الضحاك إنهم كانوا يغرقون من جانب أي بالأبدان ويحرقون من جانب أي بالأرواح فجمعا بين الماء والنار كما قال الشاعر :
الخلق مجتمع طوراً ومفترق
والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت
الله يجمع بين الماء والنار
أو عذاب جهنم والتعقيب لتنزيله منزلة المتعقب لإغراقهم لاقترابه وتحققه لا محالة واتصال زمانه بزمانه كما دل عليه قوله من مات فقد قامت قيامته على أن النار إما نصف نار وهي للأرواح في البرزخ وإما تمام نار وهي للأرواح والأجسام جميعاً بعد الحشر وقس على الجحيم النعيم {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} أي لم يجد أحد منهم لنفسه واحداً من الأنصار ينصرهم على من أخذهم بالقهر والانتقام وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله وبأنها
183
(10/141)
غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم ومن دون الله حال متقدمة من قوله أنصاراً والجملة الاستئنافية إلى هنا من كلام الله إشعاراً بدعوة إجابة نوح وتسلية للرسول عليه السلام وأصحابه وتخويفاً للعاصي من العذاب وأسبابه {وَقَالَ نُوحٌ} بعدما قنط من اهتدائهم قنوطاً تاما بالامارات الغالبة وبأخبار الله تعالى {رَّبِّ} أي روردكار من {لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ} لا تترك على الأرض {مِنَ الْكَـافِرِينَ} بك وبما جاء من عندك حال متقدمة من قوله {دَيَّارًا} أحد يدور في الأرض فيذهب ويجبيء أي فأهلكهم بالاستئصال والجملة عطف على نظيرها السابق وقوله تعالى : {مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ} الخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام ، للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطيئاتهم التي عددها نوح وأشار إلى للإهلاك لأجلها لما أنها حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلا لأخر عن كاية دعائه هذا وديار من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي أحد وساكن وهو فيعال من الدور أو من الدار أصله ديوار وقد فعل به ما فعل بأصل سيد فمعنى ديار على الأول أحد دور في الأرض فبذهب ويجيء وعلى الثاني أحد ممن ينزل الدار ويسكنها وأنكر بعضهم كونه من الدور إن وقال لو كان من الدور إن لم يبق على وجه الأرض جنى ولا شيطان وليس المعنى على ذل وإنما المعنى لك كل ساكن دار من الكفار أي كل س منهم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
يقول الفقير : جوابه سهل فإن لمراد كل من يدور على الأر من أمة الدعوة وليس الجن والشيطان منها إذ لم يكن نوح مبعوثاً إلى الثقلين وليس ديار فعالاً من الدار وإلا لقيل دوار لأن أصل دار دور فقلبت واوه ألفاً فلما ضعفت عينه كان دواراً بالواو الصحيحة المشددة إذ لا وجه لقلتها ياء إنك أن تذرهم} عليها كلا أو بعضاً ولا تهلكهم بيان لوجه دعائه عليهم وإظهار بأنه كان نم الغيرة في الدين لا لغلبة غضب النفس لهواها {يُضِلُّوا عِبَادَكَ} عن ريق الحق قال بعضهم عبادك المؤمنين وفيه إشعار بأن الأهل لأن يقاللهم عباد أهل الإيمان انتهى.
وفيه نظر بل المراد يصدوا عبادك عن سبيلك.
كقوله تعالى : [محمد : 1-27]{وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دل عليه إنه كان الرجل منهم ينطلق بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا فإه كذاب وإن أبي حذرنيه وأوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ولا يلدوا} ونزايند {إِلا فَاجِرًا} الفجر شق الشي شقاً واسعاً كفجر الإنسان السكر وهو بالكسر اسم لسد النهر وما سد به النهر والفجور شق ستر الديانة {كَفَّارًا} مبالغاً في الكفر والكفران قال الراغب : الكفار أبلغ من الكفور وهو المبالغ في كفران النعمة والمعنى إلا من سيفجر ويكفر فالوجه ارتفاعهم عن وجه الأرض والعلم لك فوصفهم بما يصيرون إليه بعد البلوغ فهو من مجاز الأول وكأنه اعتذار مما عيسى رد عليه من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلاقهم من يؤمن منكر وإنما قاله بالوحي لقوله تعالى في سورة هود {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ} فإن قلت هذا إذا كان دعاء نوح متأخراً عن وحي تلك الآية وذلك
184
غير معلوم قلت الظاهر إن مثل هذا الدعاء إنما يكون في الأوخر بعد ظهور أمارات النكال قال بعضهم لا يلد الحية إلا الحية وذلك في الأغلب ومن هناك قيل : (إذا طاب أصل المرء طابت فروعه) ونحوه الولد سر أبيه قال بعضهم في توجيهه إن الولد إذا كبر إنما يتعلم منأوصاف أبيه أو يسرق من طباعه بل قد يصحب المرء رجلاً فيسرق من طباعه في الخير والشر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
(10/142)
يقول الفقير : معناه فيه ما فيه أي من الجمال والجلال فقد يكون الجمال الظاهر في الأب باطنا في الابن كما كان في قابيل بن آدم حيث ظهر فيه ما بطن في أبيه من الجلال وكان الأمر بالعكس في هابيل بن آدم وهكذا الأمر إلى يوم القايمة في الموافقة والمخالفة وقال بعض الكبار اعتذار نوح يوم القيامة عند طلب الخلق الشفاعة منه بدعوته على قومو إنما هو لما فيها من قوله ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً لا نفس دعائه عليهم من حيث كونه دعوة انتهى.
أشار إلى أن دعاء نوح كان بالامارات حيث جربهم قريباً من ألف سنة فلم يظهر منهم إلا الكفر والفجور ولو كان بالوحي لما اعتذار كما قال القاشاني : مل من دعوة قومه وضجر واستولى عليه الغضب ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله فإن النطفة التي تنشأ منها النفس الخبيثة المحجوبة وتتربى بهيئتها المظلمة لا تقبل إلا مثلها كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسبه وغفل عن أن الولد سر أبيه أي خاله الغالبة على الباطن فربما كان الكافر باقي الاستعداد صافي الفطرة نقي الأصل بحسب الاسعداد الفري وقد استولى على ظاهره العادة ودين آبائه وقومه الذين نشأ بينهم فدان بدينهم ظاهراً وقد سلم باطنه فيلد المؤمن على حال النورية كولادة أبي إبراهيم عليه السلام ، فلا جرم تولد من تلك الهيئة الغضبية الظلمانية التي غلبت على باطنه وحجبته في تلك الحالة عما قال مادة ابنه كنعان وكان عقوبة لذنب حاله انتهى.
ويدل على ما ذكر من أن دعاءه أليس مبنياً على الوحي ما ثبت أن النبي شبه رضي الله عنه في الشدة بنوح وأبا بكر رضي الله عنه في اللين بإبراهيم قال بعض العارفين في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمينفي هذه الآية عتاب لطيف فإنها نزت حين مكث يدعو على قوم شهراً مع أن سبب ذلك الدعاء إنما هو الغيرة على جناب الله تعالى وما يستحقه من الطاعة ومعنى العتاب إني ما أرسلتك سبايا ولا لعاناً وإنما بعثنك رحمة أي لترحم مثل هؤلاء الذين دعوت عليهم كأنه يقول لو كان بدل دعائك عليهم الدعاء لهم لكان خيراً فإنك إذا دعوتني لهم ربما أجيت دعاءك فوقفتهم لطاعتي فترى سرورو عينك وقرتها في طاعتهم لي وإذا لعنتهم ودعوت عليهم وأجبت دعاءك فيهم لم يكن من كرمي إن آخذهم إلا بزيادة طغيانهم وكثرة فسادهم في الأرض وكل ذلك إنما كان بدعائك عليهم فكأنك أمرتهم بالزيادة في الطغيان الذي أخذناهم به فتنبه رسول الله عليه السلام لما أدبه به ربه فقال إن الله أدبني فأحسن تأديبي ثم صار يقول بعد ذلك اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وقام ليلة كاملة إلى الصباح بقوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم لا يزيد عليها فأين هذا من دعائه قبل ذلك على رعل وذكوان وعصية وعلى صناديد قريش اللهم عليك بفلان
185
اللهم عليك بفلان فاعلم ذلك فاقتد بنبيك في ذلك والله يتولى هداك (وقال بعض أهل المعرفة) نوح ون از قوم خود رنجيد بهلاك ايشان دعا كرد ومصطفى عليه السلام ون از قوم خود رنجيد بشفقت كفت اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
واعلم إنه لا يجوز إن يدعى على كافر معين لأنا لا نعلم خاتمته ويجوز على الكفار والفجار مطلقاً وقد دعا عليه السلام ، على من تحزب على المؤمنين وهذا هو الأصل في الدعاء على الكفارين رب اغفر لي} ذنوبي وهي ما صدر منه من ترك الأولى {وَلَوْ كُنتُمْ فِى} ذنوبهما أبو ملك بن متوشلخ على وزن الفاعل كمتد حرج أو هو بضم الميم والتاء المشددة المضمومة وفتح الشين المعجمة وسكون اللام وروى بعضهم الفتح في الميم وأمه سمخابنت انوش كانا مؤمنين قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يكفر لنوح أب ما بينه وبين آدم وفي إشراق التواريخ أمه قسوس بنت كابيل وفي "كشف الأسرار" هيجل بنت لاموس ابن متوشلخ بنت عمه وكانا مسلمين على ملة إدريس عليه السلام وقيل المراد بوالديه آدم وحواء عليهما السلام {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} أي نمزلي وقيل مسجدي فإنه بيت أهل الله وإن كان بيت الله من وجه وقيل سفينتي فإنها كالبيت في حرز الحوائج وحفظ النفوس عن الحر والبرد وغيرهما {مُؤْمِنًا} حالك ون الداخل مؤمناً وبهذا القيد خرت امرأته واعلة وابنه كنعان ولكن لم يجزم عليه السلام ، بخروجه إلا بعد ما قيل له أنه ليس من أهلك {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} بي أو من لدن آدم إلى يوم القيامة.
وكفته ندمراد ابن امت مرحومة اند.
(10/143)
خص أولاً من يتصل به نسباً وديناً لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عمم المؤمنين والمؤمنات وفي الحديث : "ما الميت في القبر إلا كالغريق المتنغوث ينتظر دعوة تلحقه من أب أو أخ أو صديق فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها وإن الله ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثل الجبال وإن هدية الإحياء إلى الأموات الاستغفار لهم {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارَا} أي هلاكاً وكسرا وبالفارسة مكر هلاكي بسختي.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
والتبرد قاق الذهب قال في الأول ولا تزد الظالمين الإضلالا لأنه وقع بعد قوله وقد أضلوا كثيراً وفي الثاني الاتبارا لأنه وقع بعد قوله لا تذر على الأرض الخ.
فذكر في كل مكان ما اقتضاه وما شاكل معناه ولظاهر أنه عليه السلام أراد بالكافرين والظالمين الذين كانوا موجودين في زمانه متمكنين في الأرض ما بين المشرق والمغرب فمسؤوله أن يهلكهم الله فاستجيب دعاؤه فعمهم الطوفان بالغرق وما نقل عن بعض المنجمين من أنه أراد جزيرة العرب فوقع الطوفان عليهم دون غيرهم من الآفاق مخالف لظاهر الكلام وتفسير العلماء وقول أصحاب التواريخ بأن الناس بعد الطوفان توالدوا وتناسلوا وانتشروا في الأطراف مغاربها ومشارقها من أهل السفينة دل الكلام على الظالم إذا ظهر ظلمه وأصر عليه ولم ينفعه النصح استحق أن يدعى عليه وعلى أعوانه وأنصاره قيل غرق معهم صبيانهم أيضاً لكن لا عى وجه العقاب لهم بل لتشديد عذاب آيائهم وأمهاتهم باراء إهلاك أطفالهم الذين كانوا أعز عليهم من أنفسهم قال عليه السلام يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى وعن الحسن إنه
186
سئل عن ذلك فقال علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب وكم من الصبين من يموت بالغرق والحرق وسائر أسباب الهلاك وقيل أعقم الله أرحام نسائهم وايبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي ولا مجنون حين غرقوا لأن الله تعالى قال وقوم نوح لما كذبوا الرسل رقناهم ولم يوجد التكذيب من الأطفال والمجانين وفي الأسئلة المقحمة ولو أهلك الأطفال بغير ذنب منهم ماذا يضرب في الربوبية أليس الله يقول قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً.
يقول الفقير : الظاهر هلاك الصبيان مع الآباء والأمهات لأن نوحاً عليه السلام ألحقهم بهم حيث قال ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً إذ من سيفجر ويكفر في حكم الفاجر والكافر فلذلك دعا على الكفار مطلقاً عموماً بالهلاك لاستحقاق بعضهم له بالأصالة وبعضهم بالتبعية ودعا للمؤمنين والمؤمنات عموماً وخصوصاً بالنجاة لأن المغفور ناج لا حالة وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه كان إذا قرأ القرآن بالليل فمر بآية بقول لي يا عكرمة ذكرني هذه الآية غداً فقرأ ذات ليلة هذه الآية أي رب اغفر لي الخ.
.
فقال يا عكرمة ذكرني هذه غداً فذكرتها له فقال أن نوحاً دعا بهلاك الكافرين ودعا للمؤمنين بالمغفرة وقد استجيب دعاؤه على الكافرين فأهلكوا وكذلك أستجيب دعاؤه في المؤمنين فيغفر الله للمؤمنين والمؤمنات بدعائه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم إنه قال نجاة المؤمنين بثلاثة أشياء بدعاء نوح وبدعاء إسحاق وبشفاعة محمد عليه السلام يعني المذنبين.
وفي التأويلات النجمية : رب اغفر لي ولوالدي من العقل الكلي والنفس الكلي ولمن دخل بيتي مؤمناً من الروح والقلب وللمؤمنين من القوى الروحانية والمؤمنات من النفوس الداخلة تحت نور الروح والقلب بسبب نور الإيمان ولا تزد الظالمين النفس الكافرة والهوى الظالم الاتبار هلاكاً بالكلمة بالفناء في الروح والقلب وعلى هذا التأويل يكون دعاء لهم لا دعاء عليهم انتهى.
وقال القاشاني : رب اغفر لي أي استرني بنورك بالفناء في التوحيد ولروحي ونفسي اللذين هما أبوا ولمن دخل بيتي أي مقامي في حضرة القدس مؤمناً بالتوحيد لعلمي أولاً رواح الذين آمنوا ونفوسهم فبلغهم إلى مقم الفناء في التوحيد ولا تزد الظالمين الذين نقصوا حظهم بالاحتجاب بظلمة نفوسهم عن عالم النور الاتبار إهلاكاً بالغرق في بحر الهيولي وشدة الاحتجاب انتهى.
فيكون دعاء عليهم كما لا يخفى.
187
جزء : 10 رقم الصفحة : 171
تفسير سورة الجن
ثمان وعشرون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 187
{قُلْ} يا محمد لقومك {أُوحِىَ إِلَىَّ} أي ألقى على بطريق الوحي وأخبرت بأعلام من الله تعالى والإيحاء أعلام في خفاء وفائدة أباره بهذه الأخباربيان إنه رسول الثقلين والنهي عن الشرك والحث على التوحيد فإن الجن مع تمردهم وعدم مجانستهم إذا آمنوا فكيف لا يؤمن البشر مع سهولة طبعهم ومجانستهم {أَنَّهُ} بالفتح لأنه فاعل أوحى والضمير الشأن أي أن الشأن والحديث {اسْتَمَعَ} أي القرآن أو طه أو اقرأ وقد حذف لدلالة ما بعده عليه والاستماع بالفارسية نيوشدن.(10/144)
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
والمستمع من كان قاصداً للسماع مصغياً إليه والسامع من اتفق سماعه من غير قصد إليه فكل مستمع سامع من غير عكس {نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} جماعة منهم ما بين الثثة والعشرة وبالفارسية كروهى كه ازده كمتر وازسه يشتر بودند.
قال في "القاموس" : النفر ما دون العشرة من الرجال كالنفير والجمع انفار وفي المفردات النفر عدة رجال يمكنهم النفر إلى الحرب بالفارسية ببرون شدن.
والجن واحده جنى كروم ورومي ونحوه قال ابن عباس رضي الله عنهما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ فأدركهم وقت صلاة الفجر وهم بنخلة فأخذ هو عليه السلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فمر عليهم نفر من الجن وهم في الصلاة فلما سمعوا القرآن استمعوا له وفيه دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن حينئذٍ إذ لو رأهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف بالمشاهدة لا يستند إثباته إلى الوحي وكذا لم يشعر بحضورهم وباستماعهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبره الله بذلك وقد مضى ما فيه من التفصيل في سورة الأحقاف فلا نعيده والجن أجسام رقاق فيصورة تخالف صورة الملك والأنس عالة كالأنس خفية عن أبصارهم لاي ظهرون لهم ولا يكلمونهم إلا صاحب معجزة بل يوسومن سائر الناس يغلب عليهم النارية أو الهوائية ويدل على الأول مثل قوله تعالى : [الرحمن : 15-1]{وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} فإن المشهور إن امركبات كلها من العناصر فما يغلب فيه النار فناري كالجن وما يغلب فيه الهواء فهو آئي كالطير وما يغلب فيه الماء فمائي كالسمك وما يغلب فيه التراب فترابي كالإنسان وسائر الحيوانات الأرضية وأكثر الفلاسفة ينكرون وجود الجن في الخارج واعترف به جمع عظيم من قدمائهم وكذا جمهور أرباب الملل المصدقين بالأنبياء قال القاشاني : إن في الوجود نفوساً أرضية قوية لا في غلظ التقوس السبعية والبهيمة وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعدادتها ليلزم تعلقها بالإجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بإجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها سماها بعض الحكماء الصور المعلقة ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدركاتنا ولما كانت قريبة الطبع إلى الملكوت السماوي
188
أمكنها أن تتلقى من عالمه بعض الغيب فلا يستبعد أن ترتقى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي النفوس المجردة ولما كان أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت تلك القوى فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم ولا ينكر أن تشتعل إجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر عن الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل فإنها أمور ليست بخرجة عن الإمكان وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء خصوصاً أكملهم نبينا محمد وهي في الوجود الإنساني لاستتارها في غيب الباطن فقالوا} لقومهم عند رجوعهم إليهم
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا} أي كتاباً مقروأ على لسان الرسول {عَجَبًا} مصدر بمعنى العجيب وضع موضعه للمبالغة والعجيب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره والمعنى بديعاً مبايناً لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وقال البقلي كتاباً عجيباً تكربه وفيه إشارة إلى أنهم كانوا من أهل اللسان قال عيزارين حريث كنت عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتاه رجل فقال له كنا في سفر فإذا نحن بحية جريحة تتشحط في دمها أي تضطرب فإن الشحط بالحاء المهملة الاضطراب في الدم فقطع رجل مناقطعة منع مامته فلفها فيها فدفنها فلما أمسينا ونزلنا أتانا امرأتان من أحسن نساء الجن فقالتا أيكم صاحب عمرو أي الحية التي دفنتموها فأشرنا لهما إلى صاحبها فقالتا إنه كان آخر من بقي ممن استمع القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان بين كافري الجن ومسلميهم قتال فقتل فيهم فإن كنتم أردتم به الدنيا ثوبناكم أي عوضناكم فقلنا لا إنما فعلنا ذلكفقالتا أحسنتم وذهبتا يقال اسم الذي لف الحية صفوان بن معطف المرادي صاحب قصة الإفك والجنى عمرو بن خابر رحمه الله {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} إلى الحق والصواب وصلاح الدين والدنيا كما قال عليه السلام اللهم ألهمني رشدي أي الاهتداء إلى مصالح الدين والدنيا فيدخل فيه التوحيد والتنزيه وحقيقة الرشد هو الوصول إلى الله تعالى قال بعضهم الرشد كالقفل خلاف الغي يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد كالذهب يقال في الأمور الأخروية فقط {يَهْدِى إِلَى} أي بذلك القرآن ومن ضرورة الإيمان به الإيمان بمن جاء به ولذا قال بعضهم :
داخل اندر دعوت أو جن وأنسى
تاقيامت امتش هر نوع وجنس
(10/145)
وست سلطان وطفيل أو همه
اوست شاهنشاه وخيل اوهمه
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
{وَلَن نُّشرِكَ} بعد اليوم البتة أي بعد علمنا الحق {بِرَبِّنَآ أَحَدًا} حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أي لا نجعل أحداً من الموودات شريكاً له اعتقادنا ولا نعبد غيره فإن تمام الإيمان إنما يكون بالبراءة من الشرك والكفر كما قال إبراهيم عليه السلام إني بريء مما تشركون فلكونه قرآناً معجزاً بديعاً موجب الإيمان به ولكونه يهدي إلى الرشد موجب قطع الشرك من أصله والدول في دين الله كله فمجموع قوله فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً مسبب عن مجموع قوله : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} ولذا عطف ولن
189
تشرك بالواو مع أن الظاهر الفاء وإنه تعالى جدر بنا} بالفتح وكذا ما بعده من الجمل المصدرة بأن في أحد عشر موضعاً عطف على أنه استمع فيكون من جملة الكلام الموحى به على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قل أوحي إلى كيت وكيت وهذه العبارات فندفع ما قيل من إنك لو عطفت وإنا ظننا وإنا سمعنا وإنه كان رجال وإنا لمسنا وشبه ذلك على أنه استمع لم يجز لأنه ليس مما أوحى إليه وإنما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم انتهى.
ومن قرأ بالكسر عطف على المحكي بعد القول وهو الأظهر لوضوح اندراج الكل تحت القول وقيل في الفتح والكسر غير ذلك والأقرب ما قلناه والمعنى وإن الشأن ارتفع عظمة ربنا كما تقول في الثناء وتعالى جدك أي ارتفع عظمتكم وفي إسناد التعالي إلى العظمة مبالغة لا تخفي من قولهم جد فلان في غني أي عظم تمكنه أو سلطانه لأن الملك والسلطنة غاية العظمة أو غناه على أنه مستعار من الجد الذي هو البخت والدولة والحظوظ الدنيوية سواء استعمل بمعنى الملك والسلطان أو بمعنى الغنى فإن الجد في اللغة كما يكون بمعنى العظمة وبمعنى أب الأب وأب الأم يكون بمعنى الحظ والبخت يقال رجل مجدوداي محظوظ شبه سلطان الله وغناء الذتيان الأزليان ببخت الملوك والأغنياء فأطلق اسم الجد عليه استعارة {مَا اتَّخَذَ صَـاحِبَةً وَلا وَلَدًا} بيان الحكم تعالى جده كأنه قيل ما الذي تعالى عنه فقيل ما اتخذ أي لم يختر لنفسه لكمال تعاليه زوجة ولا بنتا كما يقول الظالمون وذلك إنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان تنبهوا للخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بحلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه لعظمته ولسلطانه أو لغناه فإن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثير وإبقاء النسل بعد فوته وهذه من لوازم الإمكان والحدوث وأيضاً هو خارج عن دائرة التصور ولإدراك فكيف يكفيه أحد فيدخله تحت جنسح تى يتخذ صاحبة من صنف تحته أو ولداً من نوع يماثله وقد قالت النصارى أيضاً المسيح ابن الله واليهود عزير ابن الله وبعض مشركي العرب الملائكة بنات الله ويلزم من كون المسيح ابن الله على ما زعموا أن تكون مريم صاحبة له ولذا ذكرا لصاحبة يعني أن الولد يقتضي الأم التي هي صاحبة الأب الدالد واشار بالصاحبة إلى النفس وبالولد إلى القلب فيكون الروح كالزوج ولأب لهما وهو في الحقيقة مجرد عن كل علاقة وإنما تعلق بالبدن لتظهر قدرة الله وأيضاً ليستكمل ذاته من جهة الصفات
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
{وَأَنَّهُ} أي الشأن {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي جاهلنا وهو إبليس أو مردة الجن فقوله سفيهنا للجنس والظاهر أن يكون إبليس من الجن كما قال تعالى كان من الجن ففسق عن أمر ربه والسفه خفة الحلم أو نقيضه أو نقيضه أو الجهال كما في "القاموس" وقال الراغب : السفه خفة في البدن واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل وفي الأمور الدنيوية والأخروية والمراد به في الآية هو السفه في الدين الذي هو السفه الأخروي كذا في "المفردات".
{عَلَى اللَّهِ} متعلق بيقول أورد على لأن ما قالوه عليه تعالى لا له {شَطَطًا} هو مجاوزة الحد في الظلم وغيره وفي المفردات الإفراط في البعد أي قولاً ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو هو شطط في نفسه لفرط بعده عن الحق فوصف بالمصدر للمبالغة والمراد به نسبة الصاحبة والولد إليه تعالى وفي الآية إشارة إلى
190
(10/146)
أن العالم الغير العامل في حكم الجاهل فإن إبليس كان من أهل العلم فلما لم يعمل بمقتضى علمه جعل سفيهاً جاهلاً لا يجوز التقليد له فالاتباع للجاهل ومن في حكمه اتباع للشيطان والشيطان يدعو إلى النار لأنه خلق منها {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن} مخففة من الثقيلة أي إن الشان {لَّن تَقُولَ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيهم أي كنا نظن إن الشان والحديث لن يكذب عى الله أحد أبداً ولذلك اتبعنا قوله وصدقناه في أن الله صاحبة وولداً فلما سمعنا القرآن وتبين لنا الحق بسبه علمنا أنهم قد يكذبون عليه تعالى وكذباً مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول وأشار بالأنس إلى القوى الروحانية وبالجن إلى القوى الطبيعية وقال القاشاني : أنس الحواس الظاهرة وجن القوى الباطنة فتوهمنا أن البصر يدرك شكله ولونه والأذن تسمع صوته والوهم والخيال يتوهمه ويتخيله حقاً مطابقاً لما هو عليه قبل الاهتداه والتنور بنور الروح فعلمنا من طريق الوحي الوارد على القلب بواسطة روح القدس إن لسنا في شيء من إدراكه فليس له شكل ولا لون ولا صوت ولا هو داخل في الوهم والخيال وليس كلام الله من جنس الكلام المصنوع المتلقف بالفكر والتخيل والمستنتج من القياسات العقلية أو المقدمات الوهمية والتخييلية فليس الله من قبيل المخلوق جنساً أو نوعاً أو صنفاً أو شخصاً فكيف يكون له صاحبة وولد
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
{وَأَنَّهُ} أي وإن الشان {كَانَ} في الجاهلية {رِجَالٌ} كائنون {مِّنَ الانسِ} خبر كان قوله {يَعُوذُونَ} العوذ الالتجاء إلى الغير والتعلق به {بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} فيه دلالة إن للجن نساء كالأنس لأن لهم رجالاً ولذا قيل في حقهم إنهم يتوالدون لكنهم ليسوا بمنظرين كإبليس وذريته قال أهل التفسير : كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الأنس والجن وذلك قوله تعالى {فَزَادُوهُمْ} عطف على يعوذون والماضي للتحقق أي فزاد الرجال لعائذون الأنسيون الجن {رَهَقًا} مفعول ثان لزاد أي تكبراً وعتوا وسفهاً فإن الرهق محركة يجيب على معان منها السفه وركوب الشر والظلم قال في آكام المرجان وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم فإنه يسم عليهم بأسماء من يعظمونه فيحصل لهم بذلك من الرياسة والشرف على الأنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سؤلهم وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدراً فإذا خضعت الأنس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لهم أصاغرهم يقضون لهم حاجاتهم أو المعنى فزاد الجن العائذين غياً بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم وإذا استعاذوا بهم فأمنوا ظنوا إن ذلك من الجن فاذدادوا رغبة في طاعة الشياطين وقبول وساوسهم والفاء حينئذٍ لترتيب الأخبار وإسناد الزيادة إلى الإنس والجن باعتبار السببية.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص191 حتى ص200 رقم20
(وروى) عن كردم بن أبي السائب الأنصاري رضي الله عنه إنه قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر النبي عليه السلام ، بمكة فأداني المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملاً من الغنم فقال الراعي يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يقول يا سرحان أرسله فأتى
191
الحمل يشتد حتى دخل في الغنم ولم تصبه كدمة فأنزل الله على رسوله بمكة وإنه كان رجال الخ قال مقاتل كان أول من نعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم من حنيفة ثم فشا ذلك في العرب فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد انتهى.
أشار بذلك إلى ما رواه البيهقي في الشعب إن دانيال طرح في الجب وألقيت عليه السباع فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه فأتاه رسول فقال يا دانيال فقال من أنت قال أنا رسول ربك إليك أرسلني إليك بطعام فقال الحمد الذي لا ينسى من ذكره.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/147)
وروى) ابن أبي الدنيا اربخت نصر ضرى اسدين وألقاهما في جب وجاء بدنيان فألقاه عليهما فلم يضراه وذكر قصته فلما ابتلى دانيال بالسباع جعل الله الاستعاذة به في ذلك تمنع الشر الذي لا يستطاع كما في حاية الحيوان فعلم من ذلك إن الاستعاذة بغير الله مشروعة في الجملة لكن بشرط التوحيد واعتقاد التأثير من الله تعالى قال القاشاني في الآية أي تستند القوى الظاهرة إلى القوى الباطنة وتتقوى بها فزاوهم غشيان المحارم وإتيان المناهي بالدواعي الوهمية والنوارع الشهوية والغضبية والخواطر النفسانية {وَأَنَّهُمْ} أي الإنس {ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ} أيها الجن على أنه كلام مؤمني الجن للكفار حين رجعوا إلى قومهم منذرين فكذبوهم أو الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة على إنه كلام الله تعالى {أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} إن هي المخففة والجملة سادة مسد مفعولي ظنوا واعمل الأول على ما هو مذهب الكوفيين لأن ما في كما ظننتم مصدرية فكان الفعل بعدها في تأويل الصمدر والفعل أقوى من المصدر في العمل والظاهر إن المراد بعثة الرسالة أي لن يبعث الله أحداً بالرسالة بعد عيسى أو بعد موسى يقيم به الحجة على الخلق ثم إنه بعث إليهم محمداً عليه السلام خاتم النبيين فآمنوا به فافعلوا أنتم يا معشر الجن مثل ما فعل الأنس وقبل بعد القيامة أي لن يبعث الله أحداً بعد الموت للحساب والجزاء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أهل الغفلة من الإنس والجن فإنهم يظنون بالله ظن السوء ويقولون إن الله لاي بعث أحداً من نوم الغفلة بل يبقيه على حاله من الاستغراق في اللذات والانهماك في الشهوات ولا يدرون إن الله تعالى يبعث من في القبور مطلقاً ويحيى أجسادهم وقلوبهم وأرواحهم بالحياة الباقية لأن أهل النوم لانقطاع شعورهم لا يعرفون حال أهل اليقظة وفيه إثبات العجزتعالى والله على كل شيء قدير {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} أي طلبنا بلوغ السماء لاستماع ما يقول الملائكة من الحواث أو خبرها للإفشاء بين الكهنة واللمس مستعار من المس للطلب شبه الطلب بالمس واللمس باليد في كون كل واحد منهما وسيلة إلى تعرف حال الشيء فعبر عنه بالمس واللمس قال الراغب اللمس ادراك بظاهر البشرة كالمس ويعبر به عن الطلب قال في "كشف الأسرار" ومنه الحديث الذي ورد إن رجلاً ، قال لرسول الله عليه السلام إن امرأتي لا تدع عنها يد لامس أي لا نرديد طالب حاجة صفراً يشكوا تضييعها ماله {فَوَجَدْنَـاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا} أي حراساً وحفظه وهم الملائكة يمنعونهم عنها اسم جمع لحارس بمعنى حافظ كخدم لخادم مفرد اللفظ ولذلك قيل {شَدِيدًا} أي قوياً ولو كان جمعاً
192
لقيل شداداً وقوله ملئت حرساً حال من مفعول وجدناها إن كان وجدنا بمعنى أصبنا وصادفنا ومفعول ثان إن كان من أفعال القلوب أي فعلمناها مملوءة وحرساً تمييز {وَشُهُبًا} عطف على حرساً وحكمه في الإعراب حمه جمع شهاب وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب هكذا قالوا وقد مر تحقيقه {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} قبل هذا {مِنْهَا} أي من السماء {مَقَـاعِدَ لِلسَّمْعِ} خالية عن الحرس والشهب يحصل منها مقاصدنا من استماع الأخبار للإلقاء إلى الكهنة أو صلحة للترصد والاستماع وللسمع متعلق بتقعد أي على الوجه الأول أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد أي على الثاني أي مقاعد كائنة للسمع وفي كشف الأسرار أي مواضع لاستماع الأخبار من السماء وكان لكل حي من الجنب باب في السماء يستمعون فيه ومن أحاديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن الملائكة تنزل في العنان وهو بالفتح السحاب فتذكر الأمر الذي قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/148)
يقول الفقير : وجه التوفيق بين الاستراق من السماء ومن السحاب إن الملائكة مرة ينزلون في العنان فيتحدثون هناك وأخرى يتذاكرون في السماء ولا منع من عروج الشياطين إلى السماء في مدة قليلة للطافة أجسامهم وحيث كانت نارية أو هوائية أو دخانية لا يتأثرون من النار أو الهواء حين المرور بكرتهما ولو سلم فعروجهم من قبيل الاستدراج ولله في كل شيء حكمة وأسرار {فَمَنْ} شرطية {يَسْتَمِعِ الانَ} في مقعد من المقاعد ويطلب الاستماع والآن أي في هذا الزمان وبعد المبعث وفي اللباب ظرف حالي استعير للاستقبال {يَجِدْ لَهُ} جواب الشرط والضمير لمن أي يجد لنفسه {شِهَابًا رَّصَدًا} الرصد الاستعداد للتقرب أي شهاباً راصداً له ولأجله يصده عن الاستماع بالرجم أو ذوي شهاب راصدين له ليرجموه بما معهم من الشهب على إنه اسم مفرد في معنى الجمع كالحرس فيكون المراد بالشهاب الملائكة بتقدير المضاف ويجوز نصب رصداً على المفعول له وفي الآية إشارة إلى طلب القوي الطبيعية أن تدخل سماء القلب فوجدتها محفوفة بحراس الخواطر الملكية والرحمانية يحرسونها عن طرق الخواطر النفسانية والشيطانية بشهاب نار نور القلب المنور بنور الرب وكان الشهاب والرجم قبل البعثة النبوية لكن كثر بعدها وزاد زيادة بينة حتى تنبه لها الإنس والجن ومنع الاستراق أصلاً لئلا يلتبس على الناس أقوال الرسول المستندة إلى الوحي الإلهي بأقوال الكهنة المأخوذة من الشياطين مما استبرقوا من أقوال أهل السماء ويدل على ما ذكر قوله تعالى : [الجن : 8-27]{فَوَجَدْنَـاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} فإنه يدل على أن الحادث هو الكمال والكثرة أي زيدت حرساً وشهباً حتى امتلأت بهما وقوله تعالى : وإنا كنا نقعد منها مقاعد أي كنانجد فيهما بعض المقاعد حالية عن الحرس والشهب والآن قد ملئت المقاعد كلها فلما رأى الجن ذلك قالوا ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض وذلك قولهم وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض} بحراسة السماء منا {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} أي خيراً وإصلاحا أوفق لمصالحهم والاستفهام لإظهار العجز عن الإطلاع على الحكمة قال بعضهم : لعل التردد بينهما مخصص
193
بالاستفهام وأن يكون فعل فعل مضمر مفسر بما بعده بمعنى لا ندري أد شرام خير ورجحوه للموافقة بين المعطوفين في كونهما جملة فعلية والباء في الموضعين متعلقة بما قبلها والجملة الاستفهامية قائمة مقام المفعول ونسبة الخير إلى الله تعالى دون الشر من الآداب الشريفة القرآنية كما في قوله تعالى : [الجن : 11]{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ونظائره قال صاحب الانتصاب ومن عقائد الجن إن الهدى والضلال جميعاً من خلق الله تعالى فتأدبوا من نسبة الرشاد إليه وجعلوا الشر مضمر الفاعل فجمعوا بين حسن الاعتقاد والأدب وإنا منا الصالحون}
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/149)
أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم أو ما يكون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضية الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة والقصر ادعائي كأنهم لم يعتدوا بصلاح غير ذلك البعض فالصالحون مبتدأ ومنا خبره المقدم والجملة خبران ويجوز أن يكون الصالحون فاعل الجار والمجرور الجاري مجرى الظرف لاعتماده على المبتدأ {وَمِنَّا دُونَ ذَالِكَ} أي قوم دون ذلك في الصلاح فحذف الموصوف لأه يجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن حتى قالوا منا ظعن ومنا أقام يريدون منا فريق ظعن ومنا فريق ام ودون ظرف وهم المقتصدون في صلاح الحال على الوجه المذكور غير الكاملين فيه لا في الإيمان والتقوى كما توهم فإن هذا ببيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب به عنه قوله تعالى : {كُنَّا طَرَآاـاِقَ قِدَدًا} وإما حالهم بعد استماعه فسيحكى بقوله وإنا لما سمعنا اهدى إلى قوله وإنا منا لمسلمون أي كنا قبل هذا طرائق في اختلاف الأحوال فهو بيان للقسمة المذكورة وقدر المضاف لامتناع كون الذوات طرائق قالوا في الجن قدرية ومرجئة وخوارج وروافض وشيعية وسنية قال في "المفردات" جمع الطرق طرق وجمع الطرق طرائق والظاهر أن الطرائق جمع طريقة كقصائد جمع قصيدة ثم قال وقوله تعالى : كنا طرائق قددا إشارة إلى اختلافهم في درجاته كقوله هم درجات والطريق الذي يطرق بالأرجل أي يضرب ومنه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان في فعل محموداً كان أو مذموماً وقيل طريقة من النخل تشبيهاً بالطريق في الامتداد والقد قطع الشيء طولاً والقد المقدود ومنه قيل لقامة الإنسان قد كقولك تقطيعة والقدة كالقطعة يعني إنها من القد كالقطعة من القطع وصفت الرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق وفي "القاموس" القدة الفرقة من الناس هوى كل واحد على حدة ومنه كنا طرائق قددا أي فرقاً مختلفة أهواءها وقد تعددوا قال القاشاني : وإنا منا الصالحون كالقوى المدبرة لظنام المعاش وصلاح البدن ومنادون ذلك من المفسدت كالوهم والغضب والشهوة والمعاملة بمقتضى هوى النفس والمتوسطات كالقوى النباتية الطبيعية كنا ذوي مذاهب مختلفة لكل طريق ووجهة مما عينه الله ووكله به قال بعض المفسرين المراد بالصالحين السابقون بالخيرات وبما دون ذلك أي أدنى مكان منهم المقتصدون الذين خلطا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وإما الظالمون لأنفسهم فمندرج في قوله تعالى [الجن : 11-5]{كُنَّا طَرَآاـاِقَ قِدَدًا} فيكون تعميماً بعد تخصيص على الاستئناف ويحتمل أن يكون
194
دون بمعنى غير فيندرج القسمان الأخيران فيه وإنا ظننا}
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
أي علمنا الآن بالاستدلال والتفكر في آيات الله فالظن هنا بمعنى اليقين لأن الإيمان لا يحصل بالظن ولأن مقصودهم ترغيب أصحابهم وترهيبهم وذا بالعلم لا بالظن كما قال عليه السلام أنا النذير العريان {إِنْ} أي إن لشان {لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ} عن إمضاء ما أراد بنا كائنين {فِى الأرْضِ} أينما كنا من أقطارها فقوله في الأرض حال من فاعل نعجز والإعجاز عاجز كردن {وَلَن نُّعْجِزَه هَرَبًا} قوله هرباً حال من فاعل لن نعجز أي هاربين من الأرض إلى السماء وإلى الجار وإلى جبل قاف أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ولن نعجزه هرن طلبنا فالقرار من موضع إلى موضع وعدمه سين في أن شيئاً منهما لا يفيد فواتنا منه ولعل الفائدة في ذكر الأرض حينئذٍ الإشارة إلى أنها مع سعتها وانبساطها ليست منجى منه تعالى ولا مهرباً {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} أي القرآن الذي يهى للتي هي أقوم {بِه فَمَن} من غير تأخير وتردد {فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّهِ} وبما أنزله من الهدى {فَلا يَخَافُ} أي فهو لا يخاف فالكلام في تقدير مبتدأ وخبر ولذلك دخلت الفاء ولولا ذلك اليل لا يخف وفائدة رفع الفعل ووجوب إدخال الفاء إنه دال على تحقيق إن المؤمن تاج لا محالة وإنه المختص ب
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/150)
ذلك دون غيره {بَخْسًا} أي نقصاً في الجزاء {وَلا رَهَقًا} ولا ترهقه ذلة وتغشاه أو جزاء بخس ولا رهق أي ظلم إذ لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق أي ظلم أحداً فلا يخاف جزاءهما فويه دلالة على أن من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم ونمه قوله عليه السلام المؤمن من أمته الناس على أنفسهم وأموالهم قال الواسطي رحمه الله حقيقة الإيمان ما أوجب الأمان فمن بقي في مخاوف المرتابين لم يبلغ إلى حقيقة الإيمان {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} أي بعد استماع القرآن {وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَ} الجائرون عن طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة فالقاسط الجائر لأنه عادل عن الحق والمقسط العادل لأنه عادل إلى الحق يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل وقد غلب هذا الاسم أي القاسط على فرقة معاوية ومنه الحديث خطاباً لعلي رضي الله عنه (تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين) فالناكثون أصحاب عائشة رضي الله عنها فإنهم الذين نكثوا البيعة أي نقضوها واستنزلوا عائشة وساروا بها إلى البصرة على جمل اسمه عسكر ولذا سميت الوقعة يوم الجمل والقاسطون أصحاب معاوية لأنهم قسطوا أي جاروا حين حاربوا الا م الحق والوقعة تعرف بيوم صفين والمارقون الخوارج فإنهم الذين مرقوا أي خرجوا من دين الله واستحلوا القتال مع خليفة رسول الله عليه السلام وهم عبد الله بن وهب الراسي وحرقوص بن زهير ابجلي المعروف بذي الثدية وتعرف تلك الواقعة بيوم النهروان هي من أرض العراق على أربعة فراسخ من بغداد {فَمَنْ أَسْلَمَ} س هركه كردن نهاد امر خدايرا همنانه ما كرده ايم قال سعدى المفتي يجوز أن يكون من كلام الجن ويجوز أن يكون مخاطبة من الله لرسوله ما فيما بعده من الآيات فأولئك إشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى {تَحَرَّوْا} التحري في الأصل طلب الآحرى والأليق قولاً أو فعلاً أي طلبوا وقصدوا {رَشَدًا} يقال رشد كنصر وفروح رشداً ورشداً شاداً اهتدى كما في "القاموس"
195
أي اهتداء عظيماً إلى طريق الحق والصواب يبلغهم إلى دار الثواب فتحرى الرشد مجاز عن ذلك بعلاقة السببية وبالفارسية قصد كرده انذدراه راست وازان بمقصد خواهندرسيد.
ودل على أن للجن ثواباً على أعمالهم لأنه ذكر سبب الثواب وموجبه وقد سبق تحقيقه {وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ} الجائرون عن سنن الهدى {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} الحطب ما يعد للإيقاد أي حطباً توقد بهم كما توقد بكفرة الأنس.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
روى) إن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول في قال إنك قاسط عادل فقال الحاضرون ما أحسن ما قال حسبوا إنه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج يا جهلة جعلني جاهلاً كافراً وتلا قوله تعالى وإما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً وقوله تعالى : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وأسند بعضهم قول سعيد إلى امرأة كما قال في الصحاح ومنه قول تلك المرأة للحجاج إنك قاسط عادل فيحتمل التوارد وإن لو استقاموا} أن مخففة من الثقيلة والجملة معطوفة قطعاً على أنه استمتع والمعنى وأوحى إلى أن الشان لو استقام الجن أو الأنس أو كلاهما {عَلَى الطَّرِيقَةِ} التي هي ملة الإسلام {لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا} الاسقاء والسقي بمعنى وقال الرغب السقي والسقيا هو أن تعطيه ماء ليشرب والإسقاء أن تجعل له ذلك له حتى يتناوله كيف شاء كما يقال اسقيته نهراً فالإسقاء أبلغ وغدق من باب علم إذا غزر وصف الماء به للمبالغة في غزارته كرجل عدل وتخصيص الماء الكثير بالذكر لأنه أصل السعة وإن كان أصل المعاش هو أصل الماء لا كثرته ولعزة وجوده بين لعرب قال عمر رضي الله عنه إينما كان الماء كان العشب وأينما كان العشب كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة والمعنى لأعطيناهم مالاً كثيراً وعيشاً رغداً ووسعنا عليهم الرزق في الدنيا وبالفارسية هرآيينه بدهيم ايشان را آب بسيار بعد ازتثل سالي يعني روزي برايشان فراخ كردانيم.
وفيه دلالة على أن الجن يأكلون ويشربون وليكن فيه تفصيل وقد سبق وقال بعض أهل المعرفة المراد بالاستقامة على الطريقة هو القيام على سبيل السنة والميل إلى أهل الصلاح وبالإسقاء الإفاضة على قلوبهم ماء الوداد {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لتختبرهم في ذلك الإسقاء والتوسيع كيف يشكرونه كما قال تعالى : {وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ} أوفى ذلك الماء والمآل واحد.
(وقال الكاشفي) تبيارز ماييم ايشانرادر آن زندكانى كه بوظائف شكر كونه قيام نمايند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/151)
وفيه إشارة إلى أن المرزوق بالرزق الروحاني والغذاء المعنوي يجب عليه القيام بشكره أيضاً وذلك بوظائف الطاعات وصنوف العبادات وضروب الخدمات ومن يعرض عن ذكر ربه} عن عبادته أو عن موعظته أو وحيه {يَسْلُكْهُ} يدخله {عَذَابًا صَعَدًا} أي شاقاً صعباً يتصعد أي يعلوا لمعذب ويغلبه فلا يطيقه على إنه مصدر وصف به للمبالغة يقال سلكت الخيط في الأبرة إذا أدخلته فيها أي يسلكه في عذاب صعد كما قال ما سلككم في سقر أي أدلهم فيها فخذف الجار وأوصل الفعل ثم إن كان إعراضه بعدم التصديق عذابه بالتأبيد وإلا فبقدر جريمته إن لم يغفر له وروى إن صعداً جبل في النار إذا وضع عليه يديه أو رجليه ذابتاً وإذا رفعهما عادتا وقال بعضهم : صعدا جبل أملس في جهنم ويكلف الوليد ابن المغيرة صعوده أربعين
196
عاماً فيجذب من أعلاه بالسلاسل فإذا انتهى إلى أعلاه انحدر إلى أسفله ثم يكلف ثانياً هكذا يعذب أبداً {وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ} عطف على قوله إنه استمتع أي وأوحى إلى إن المساجد مختصة بالله تعالى وبعبادته خصوصاً المسجد الحرام ولذلك قبل بيت الله فالمراد بالمساجد المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ويدخل فيها البيوت التي يبينها أهل الملل للعبادة نحو الكنائس والبيع ومساجد المسلمين ثم هذا لا ينافي أن تضاف المساجد وتنسب إلى غيره تعالى بوجه آخر إما لبانيها كمسجد رسول الله أو لمكانها كمسجد بيت المقدس إلى غيره ذلك من الاعتبارات وأعظم المساجد حرمة المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم مسجد بيت القمدس ثم الجوامع ثم مساجد المحال ثم مساجد الشوارع ثم مساجد البيوت {فَلا تَدْعُوا} أي لا تعبدوا فيها الفاء للسببية {مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} أي لا تجعلوا أحداً غير الله شريكاًفي العبادة فإذا كان الإشراك مذموماً فكيف يكون حال تخصيص العبادة بالغير.
(قال الكاشفي) : س مخوانيد دران بخداي تعالى يكى رانانه يهود ونصارى در كنايس وصوامع خود عزير ومسيح رابالوهيت ياد ميكنند ونانكه مشركان در حوالى بيت الحرام ميكويند لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وكفته اندمراد ازيى مساجد تمام روى زمينست كه مسجد حضرت سيد المرسلين است لقوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً س در هي بقعه باياد خدا ياد ديكرى نيكو نباشد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
دلرا بجزا زياد خدا شاد مكن
بايادوى از كسى ديكر ياد مكن
قال بعض العارفين إنما تبرأ تعالى من الشريك لأنه عدم والله وجود فتبرأ من العدم الذي لا يلحقه إذ هو واجب الوجود لذاته والله تعالى مع الخلق ما الخلق مع الله لأنه تعالى يعلمهم وهم لا يعلمون فهو تعالى معهم أينما كانوا في طرفية أمكنتهم وأزمانهم وأحوالهم ما الخلق معه تعالى فإنهم لا يعرفونه حتى يكونوا معه ولو عرفوه م طريق الإيمن كانوا كالأعمى يعلم إنه جليس زيد ولكن لا يراه فهو كأنه يراه بخلاف أهل المشاهدة فإنه ذو بصر إلهي فمن دعاء الله مع الله ما هو كمن دعاء الخلق مع الله هذا معنى فلا تدعوا مع الله أحداً ثم إن السجود وإن كانلا يقع في الحس أبداً إلا لغير الله ءَ لجهة غير الله لأن الله ليس بجهة بل هو بكل شيء محيط فما وقع من عبد سجود إلا لغيرلكن منه ما كان لغير الله عن أمر الله كالسجود لآدم وهو مقبول ومنه ما كان عن غير أمره كالسجود للأصنام وهو مردود وإنما وضعت للساجد للتعظيم كما إنه عينت القبلة للأدب يروى عن كعب إنه قال إني لأجد في التوراة إن الله تعالى يقول إن بيوتي في الأرض المساجد وإن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور إن يكرم زائره ومن هنا قالوا إن من دخل المسجد ينوى زيارة الله تعالى قال بعض أهل المعرفة إن مساجد القلوب لزوا رتجلية فلا ينبغي أن يكون فيها ذكر غير الله وقال بعضهم إن مساجد القلوب الصافية عن القاذورت مختصة بالله تعالى وبالتجليات الذاتية والصفاتية
197
والاسمائية فلا تدعوا مع الله أحاً من الأسماء الجزئية أي طهروا مساجد قلوبكم لتجلي اسم الله الأعظم فيها لا غير وقال ابن عطاء مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تخضعها ولا تذللها لغير خالقه وهي الوجه واليدان والركبتان والرجلان والحمة في السجود على هذه الأعظم إن هذه الأعضاء التي عليها مدار الحركة هي المفاصل التي تنفتح وتنطبق في المشي والبطش وأكثر السعي ويحصل بها اجتراح السيئات وارتكاب الشهوات فشرع الله بها السجود للتكفير ومحو الذنب والتطهير {وَأَنَّهُ} من جملة الموحى به أي وأوحى إلى أن الشأن {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} إلى النبي عليه السلام ولذا جعلوا في أسمائه لأنه هو العبد الحقيقي في الحقيقة المضاف إلى اسم الله الأعظم فرقا وإن كان هو المظهر له جمعاً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/152)
ودر آثار آمده كهآن حضرت را عليه السلام هي نام ارين خوشتر نيامده ه شريطه عادت وعبوديت بروجهى كه آن حضرت قيام هيكس را قدرت براقامت بران نبوده لا جرم دروقت عروج آن حضرت برمنازل ملكي باين سام مذكور شدكه سبحان الذي أسرى بعبده وبهنكام نزول قرآن از مدارج فلكي اوا يهمين نام ميكندكه تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.
آن بنده شعار بندكى دوست
كزجمله بندكان كزين اوست
داند ببند كيش راهى
كاتراك نديده هي شاهى
وإيراده عليه السلام بلفظ العبد للإشعار بما هو المقتضي لقيامه وعبادته وهو العبودية أي كونه عبداً له وللتواضع لأنه واقع موقع كلامه عن نفسه إذا التقدير وأوحى إلى أني لما قمت وهذا على قراءة الفتح وإما على قراءة نافع وأبي بكر فيتعين كونه للإشعار بالمقتضى وفيه تعريض لقريش بإنهم سموا عبد ود وعبد يعوث وعبد مناف وعبد شمس ونحوها لا عبد الله وإن من سمى منهم بعبد الله فإنما هي من قبيل التسمية المجردة عن معانيها {يَدْعُوهُ} حال من فاعل قام أي يعبده وذلك قيامه لصلاة الفجر بنخلة كما سبق {كَادُوا} أي قرب الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} جمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب وهي ما تلبد بعضه على بعض أي تراكب وتلاصق ومنها لبدة الأسد وهي الشعر المتراكب بين كتفيه والمنى متراكمين يركب بعضهم بعضاً ويقع من ازدحامهم على النبي عليه السلام تعجباً مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قرآته واقتداء أصحابه به قياماً وقعدوا وسجوداً لأنهم رأوا ما لم يروا مثله قبله وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره وعلى قراءة الكسر إذا جعل مقول الجن فضمير كادوا لأصحابه عليه السلام الذين كانوا مقتدين به في الصلاة.
يقول الفقير : في هذا المقام إشكال على القراءتين جميعاً لأن المراد إن كان ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما على ما ذهب إليه المفسرون فلا معنى للازدحام إذ كان الجن بنخلة نفراً سبعة أو تسعة ولا معنى لازدحام النفر القليل مع سعة المكان وقرب القاري وإنما وقع الازدحام في الحجون بعد العود من نخلة على ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه ولا مخلص إلا بأن يقال لم يزالوا يدنون من جهة واحدة حتى كادوا يكونون عليه لبداً أو بأن يتجوز في النفر وحينئذٍ يبقى
198
تعيين العدد على ما فعله بعضهم بلا معنى وإن كان المراد ما ذهب إليه ابن مسعود رضي الله عنه ، ففيه إن ذلك كان بطريق المشاهدة على ما أسفلناه في الأحقاف ولا معنى لأخباره بطريق الوحي على ما مضى في أول السورة وأيضاً أنه لم يكن معه عليه السلام ، إذ ذاك الأنفر قليل من أصحابه بل لم يكن إلا زيد ابن حارثة رضي الله عنه على ما في إنسان العيون فلا معنى للازدحام والله أعلم بمراده {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُوا} أي أعبد {رَبِّى وَلا أُشْرِكُ بِهِ} أي بربي في العبادة {أَحَدًا} فليس ذلك ببدع فلا مستنكر يوجب التعجب أو الأطباق على عداوتي وهذا حالي فليكن حالكم أيضاً كذلك {قُلْ إِنِّى لا أَمْلِكُ} لا أستطيع {لَكُمْ} أيها المشركون {ضَرًّا وَلا رَشَدًا} كأنه أريد لا أملك ضراً ولا ولا غياً ولا رشداً أي ليس هذا بيدي بل بيد الله تعالى فإنه هو الضار النافع الهادي المضل فترك من كلا المثقابلين ما ذكر في الآخر فلآية من الاحتباك وهو الحذف من كل ما يدل مقابلة عليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/153)
وفي التأويلات النجمية : أي من حيث وجوده المضاف إليه كما قال إنك لا تهدي من أحببت وأما من حيث وجوده الحق المطلق فإنه يملك الضر والرشد كقوله : [الشورى : 52-96]{وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قال القاشاني : أي غياً وهدى إنما الغواية والهداية من الله إن سلطني عليكم تهتدوا بنوري وإلا بقيتم في الضلال ليس في قوتي إن أقسركم على الهداية قل إني لن يجيرتي} ينقذني ويخلصني {مِنَ اللَّهِ} من قهره وعذابه إن خالفت أمه وأشركت به {أَحَدٌ} إن استنقذته أو لن ينجيني منه إحدان أرادني بسوء قدره على من مرض أو موت أو غيرهما قال بعضهم هذه لفظة تدل على الإخلاص في التوحيد إذا التوحيد هو صرف النظر إلى الحق لا غير وهذا لا يصح إلا بالإقبال على الله والإعراض عما سواه والاعتماد عليه دون ما عداه {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا} يقال ألحد في دين الله والتحد فيه أي مال عنه وعدل ويقال للملجأ الملتحد لأن اللاجىء يميل إليه والمعنى ولن أجد عند الشدائد ملتجأ غيره تعالى وموئلاً ومعد فلا ملجأ ولا موئل ولا معدل إلا هو وهذا بيان لعجزه عليه السلام ، عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه عن شؤون غيره أي وإذ لا أملك لنفسي شيئاً فكيف أملك لكم شيئاً {إِلا بَلَـاغًا مِّنَ اللَّهِ} استثناء متصل منقوله لا أملك أي من مفعوله فإن التبليغ إرشاد ونفع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة عن نسه فلا يضر طول الفصل بينهما وفائدة الاستثناء المبالغة في توصيف نفسه بالتبليغ لدلالته على إنه لا يدع التبليغ الذي يستطيعه لتظاهرهم على عدوانه وقوله من الله صفة بلاغاً أي بلاغاً كائناً منه وليس متعلقاً بقوله بلا ً لأن صلة التبليغ في المشهور إنما هي كلمة عن دون من وبلاغاً واقع موقع التبليغ كما يقع السلام والكلام موقع التسليم والتكليم أو استثناء من قوله ملتحداً أي لن أجد من دونه تعالى منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به فهو حينئذٍ منقطع فإن البلوغ ليس ملتحداً من دون الله لأنه من الله وبإعانته وتوفيقه {وَرِسَـالَـاتِهِ} عطف على بلاغاً بإضمار المضاف وهو البلاغ أي لا أملك لكم إلا تبليغاً كائناً منه تعالى وتبليغ رسالاته التي أرسلني بها يعني الآن أبلغ عن الله وقول قال الله كذا ناسياً للماقلة إليه وإن
199
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان وقال سعدي المفتي لعل المراد من بلاغاً من الله ما هو ما يأخذه منه تعالى بلا واسطة ومن رسالاته ما هو با انتهى والمراد بالرسالة هو ما أرسل الرسول به من الأمور والأحكام والأحوال لا معنى المصدر والظاهر أن المراد إلا التبليغ والرسالة من الله تعالى وجمع الرسالة باعتبار تعدد ما أرسل هو به {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في الأمر بالتوحيد بأن لا يمتثل أمرهما به ودعوتهما إليه فيشرك به إذ الكلام فيه وهو يصلح أن يكون مخصصاً للعموم ف متمسك للمعتزلة في الآية على تخليد عصاة المؤمنين في النار {فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي في النار أو في جهم والجمع باعتبار المعنى {أَبَدًا} بلا نهاية فهو دفع لأن يراد بالخلود المكث الطويل {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} اية لمحذوف يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه السلام ، ولاستقلالهم لعددهم حتى قالوا هم بالإضافة إلينا كالحصاة من جبال كأنه قيل لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ عند حلوله بهم {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أي فسيعلمون الذي هو أضعف وأقل أهم أم المؤمنون فمن موصولة وأضعف خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء وأضعف خبره والجملة في موضع نصب سدت مسد مفعولي العلم وناصرا وعدداً منصوبان على التمييز وحمل بعضهم ما توعدون على ما رأوه يوم بدر وأيا ما كان ففيه دلالة على أن الكفار مخذولون في الدنيا والآخرة وإن كثروا عدداً وقووا حسداً لأن الكافرين لا مولى لهم وإن المؤمنين منصورون في الدارين وإن قلوا عدداف وضعفوا جسداً لأن الله مولاهم والواحد على الحق هو السود الأعظم فإن نصره ينزل من العرش (قال الحافظ) :
تيغى كه اسمانش ازفيض خود دهد آب
تنها جهان بكيردبى منت ساهى
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص200 حتى ص209 رقم21
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
(10/154)
{قُلْ إِنْ أَدْرِى} أي ما أدري لأن إن نافية {أَقَرِيبٌ} خبر مقدم لقوله {مَّا تُوعَدُونَ} ويجوز أن يكون ما توعدون فاعلاً لقريب ساداً مسد الخبر لوقوعه بعد ألف الاستفهام وما موصولة والعئاد محذوف أي أقريب الذي توعدونه نحو أقائم الزيدان {أَمْ يَجْعَلُ لَه رَبِّى أَمَدًا} أي غاية تطول مدتها وإلا مد وإن كان يطلق على القريب أيضاً إلا أن المقابلة تخصصه بالبعيد والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية والمعنى أن الموعود كائن لا محالة وإما وقته فما أدي متى يكون لأن الله لم يبينه لما أرى في إخفاء وقته من المصلحة وهو رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك متى يكون الموعود إنكاراً له واستهزاء فإن قيل أليس قال عليه السلام بعثت أنا والساعة كهتين فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد والجواب إن امراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل ممن انقضى فهذا القدر من القرب معلوم وأما قربه بمعنى كونه بحيث يتوقعفي كل ساعة فغير معلوم على أن كل آت قريب ولذا قال تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} وقال كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار وذلك بالموت}
200
للمتقدمين ووقع عين القيامة للمتأخرين كما أوعد نوح عليه السلام بالطوفان فلم يدركه بعضهم بل هلك قبله وغرق في طوفان الموت وبحر البلاء قال بعض أهل المعرفة قل إن أدري أقريب ما توعدون في القيامة الصغرى من الفناء الصوري والموت الطبيعي الاضطراري والدخول في نار الله الكبرى عند البعث لعدم الوقوف على قدر الله أو في الكبرى من الموت لإرادي والفناء الحقيقي لعدم الوقوف على قوة الاستعداد فيقع عاجلاً أم ضرب الله غاية وأجلاً عالم الغيب} وحده وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم لجميع ما غاب عن الحس على أن اللام للاستغراق والجملة استئناف مقرر لما قبله من عدم الدراية {فَلا يُظْهِرُ} آكاه نكند {عَلَى غَيْبِه أَحَدًا} الفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب على الإطلاق أي فلا يطلع على غيبه إطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاف تاماً موجباً لعين اليقين أحد من خلقه
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
{إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} الارتضاء سنديدن وأصله تناول مرضي الشيء إلا إلا رسولاً ارتضاه واختاره لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقاً ما إما لكونه من مبادي رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون وكيفيات أعمالهم وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها عن وظائف الرسالة وإما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها وقت قيام الساعة فلا يظهر عليه أحدا أبداً على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها ءَدور فلك الرسالة وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب اكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً ولا يدعى أحد لأحد من الأولياء ما في مرتبة الرسل من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح بل إطلاعهم بالأخبار الغبي والتلقف من الحق فيدخل في الرسول وارثه قال الجنيد قدس سره : قعد على غلام نصراني متنكراً ، وقال : أيها الشيخ ما معنى قوله عليه السلام اتقوا فراسة المؤمني ، فإنه ينظر بنور الله ، قال : فأطرقت رأسي ورفعت فقلت أسلم أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام فهذا إما بطريق افراسة أو بيرها من أنواع الكشوف وخرج من البين أهل الكهانة والتنجيم لأنهم ليسوا من أهل الارتضاء والاصطفاء كالأنبياء والأولياء فليس أخبارهم بطريق الإلهام والكشف بل بلإمارات والظنون ونحوها ولذا لا يقع أكثرها إلا كاذباً ومن قال أنا أخبر من أخبار الجن يكفر لأن الجن كالأنس لا تعلم غيباً وقد سبق إن الكهانة انقطعت اليوم فلا كهانة أبداً لأن الشياطين منعوا من السماء قال ابن الشيخ إنه تعالى لا يطلع على الغيب الذي يختص به علمه إلا المرتضى الذي يكون رسولاً وما لا يختص به يطلع عليه غير الرسول إما بتوسط الأنبياء أو بنصب الدلائل وترتيب القمدمات أو بأن يلهم الله بعض الأولياء وقوع بعض المغيبات في المستقبل بواسطة الملك فليس مراد الله بهذه الآية إن لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات إلا الرسل لظهور أنه تعالى قد يطلع على شيء
201
(10/155)
من الغيب غير الرسل كما اشتهر إن كهنة فرعون أخبروا بظهور موسى عليه السلام ، وبزوال ملك فرعون على يده وإن بعض الكهنة أخبروا بظهور نبينا محمد عليه السلام قبل زمان ظهوره ونحو ذلك من المغيبات وكانوا صادقين فيه وأرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير والمعبر قد بخر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ويكون صادقاً فه ثم الآية نظير قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلاـَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِه مَن يَشَآءُ} فإنه يسلك بدرستى كه درمى آرد خداي تعالى عين ميسازد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
وبالعربية يدخل ويثبت {مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ} أي قدام الرسول المرتضى {وَمِنْ خَلْفِه رَصَدًا} قال في "القاموس" الرصد محركة الراصدون أي الراقبون بالفارسية نكهبانان.
يقال للواحد والجماعة كما في "المفردات" وهو تقريب وتحقيق للإظهار المستفاد من الاستثناء وبيان لكيفيته أي فإنه تعالى يسلك من جميع جوانب الرسول عند إظهاره على غيبه حرساً من الملائكة يحرسونه من بعض الشياطين لما أظهره عليه من الغيوب المتعلقة برسالته يعني أن جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يسمع الجن الوحي فيلقونه إلى كهنتهم فتخبر به الكهنة قبل الرسول فيختلط على الناس أمر الرسالة قال القاشاني : إلا من ارتضى من رسول أي أعده في الفطرة الأولى وزكاء وصفاء من رسول القوة القدسية فإنه يسلك من بين يديه أي من جالبه الإلهي ومن خلفه أي ومن جهته البدنية رصداً حفظة إما من جهة الله التي إليها وجهه فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية وإما من جهة البدن فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات يحفظونه من تخبيط الجن وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات بمعارفها اليقينية ومعانيها القدسية والورادات المغيبية والكشوف الحقيقية {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَـالَـاتِ رَبِّهِمْ} متعلق بيشلك غاية له من حيث إنه مترتب على الإبلاغ المترتب عليه إذا لمراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجدو بالفعل وإن مخفة من الثقيلة واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف والجملة خبرها والإبلاغ الإيصال وبالفارسية رسانيدن.
ورسالات ربهم عبارة عن الغيب الذي أريد إظهار المرتضى عله والجمع باعتبار تعدد إفراده وضمير أبلغوا إما للرصد فالمعنى إنه تعالى يسلكهم من جميعجوانب المرتضى ليعلم أن الشأن قد أبلغوه رسالات ربهم سالمة عن الاختطاف والتخليط علماً مستتبعاً للجزاء وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً بالفعل كما في قوله تعالى حتى نعلم المجاهدين منكم والغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما لإشعار بترتيب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير من التفريط فيهما وإما لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما إن الإفراد في الضميرين السابقين باعتبار لفظها فالمعنى ليعلم إنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعد ما أبلغها الرصد إليهم كذلك {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي بما عند الرصد أو الرسل حال عن فاعل يسلك بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى أي وقد أحاط بما لديهم من الأحوال جميعاً {وَأَحْصَى} علم علماً بالغاً إلى حد الإحاطة تفصيلاً وبالفارسية وشمرده است {كُلَّ شَىْءٍ} مما كان
202
وما سيكون {عَدَدًا} أي فرداً فرداف فكيف لا يحيط بما لديهم قال القاسم هو أوجدها فأحصاها عددا وقال ابن عباس رضي الله عنهما أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
قال الكاشفي) : مراد كمال علم است وتعلق آن بجميع معلومات يعني معلومي مطلقاً از دائره علم أو خارج نيست.
هره دانستي است درد وجهان
نيست از علم شاملش نهان
(10/156)
قوله عدداً تمييز منقول من لمفعول به كقوله وفجرنا الأرض عيوناً والأصل أحصى عدد كل شيء وفائدته بيان إن علمه تعالى بالأشياء ليس على وجه كلي إجمالي بل على وجه جزئي تفصيلي فإن الإحصاء قد يراد به الإحاطة الإجمالية كما في قوله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} أي لا تقدروا على حصرها إجمالاً فضلاً عن التفصيل وذلك لأن أصل الإحصاء إن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد كالعشرة والمائة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقد فيبنى على ذلك حسابه وهذه الآية مما يستدل به على أن المعدوم ليس بشيء لأنه لو كان شيئاً لكانت الأشياء غير متناهية وكونه أحصى عددها يقتضي كونها متناهية لأن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي فيلزم الجمعبين كونها متناهية وغير متناهية وذلك محال فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض والتنافي كذا في حواشي ابن الشيخ رحمه الله.
جزء : 10 رقم الصفحة : 188
تفسير سورة المزمل
وآيها تسع عشرة أو عشرون آية
جزء : 10 رقم الصفحة : 202
يا أيها المزمل} أي المتزمل من تزل بثيابه إذا تلفف بها وتغطى فأدغم التاء في الزاي فقيل المزمل بتشديدين كان عليه السلام ، نائماً بالليل متزملاً في قطيفة أي دثار مخمل فأمر أن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة ويختار التهجد على الهجود وقال ابن عباس رضي الله عنهما أول ما جاءه جبريل خافه فظن أن به مسامن الجن فرجع من حبل حراء إلى بيت خديجة مرتعداً وقال زملوني فبينما هو كذلك إذا جاء جبريل وناداه وقال [المزمل : 2]يا اأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وعن عكرمة إن المعنى يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله والزمل الحمل أزدمله احتمله قال السهيلي رحمه الله ليس المزمل من أسمائه عليه السلام التي يعرف بها كما ذهب إليه بعض الناس وعده في أسمائه وإنما المزمل مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطابوكذا المدثر وف خطابه بهذا الاسم فائدتان إحداهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك الماتبة سموه اسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي عليه السلام لعلي رضي الله عنه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها أي أغضبها وأغضبته فأتاه وهو نائم قد لصق بجنبه التراب فقال له : قم يا أبا تراب إشعاراً بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة رضي
203
الله عنه قم يا نومان وكان نائماً ملاطفة وإشعاراً بترك العتب والتأديب فقول الله تعالى لمحمد عليه السلام يا أيها المزمل تأنيس وملاطفة ليستعشر إنه غير عاتب عليه والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل بذلك العمل واتصف بتلك الصفة انتهى وفي فتح الرحمن الخطاب الخاص بالنبي عليه السلام كأيها المزمل ونحوه عام للأمة إلا بدليل يخصه وهذا قول أحمد والحنفية والمالكية وقال أكثر الشافعية لا يعمهم إلا بدليل وخطابه عليه السلام لواحد من الأمة هل يعم غيره قال الشافعي والحنفية والأكثر لا يعم وقال أبو الخطاب من أئمة الحنابلة إن وقع جواباً عم وإلا فلا قم الليل}
جزء : 10 رقم الصفحة : 203(10/157)
بكسر الميم لالتقاء الساكنين أي لا تتزمل وترقد ودع هذه الحال لما هو أفضل منها وقم إلى الصلاة في الليل فانتصاب الليل على الظرفية وإن استغرق الحدث الواقع فيه فحذف في واو صل الفعل إليه فنصب لأن عمل الجر لا يكون في الفعل والنصب أقرب إليه من الرفع ومن ذلك قال بعضهم هو مفعول نظراً إلى الظاهر في الاستعمال ومن ذلك فمن شهد منك الشهر فليصمه وقوله لينذر يوم التلاق في أحد الوجهين كما سبق ومثله الإحياء في قوله من أحيى ليلة القدر ونحوه فإن الإحياء وإن كان واقعاً على الليل في الظاهر لكن المراد به إحياء الصلاة والذكر في الليل واستعمالها وحد الليل من روب الشمس إلى طلوع الفجر قال بعضا لعارفين الله اشتقاق إلى مناجاة حبيبه فناداه أن يقوم فيجوف الليل وقد قالوا إن القيام والمناجاة ليسا من الدنيا بل من الجنة لما يجده أهل الذوق من الحلاوة {إِلا قَلِيلا} استثناء من الليل {نِّصْفَهُ} بدل من الليل الباقي بعد الثنيا بدل الكل ولنصف أحد شقي الشيء أي قم نصفه والتعبير عن التصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجءز المقارن للقيام والإيذان بفضله وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثرة في كثرة الثواب يعني إنه يجوز أن يوصف النصف المستثنى بكونه قليلاً بالنسبة إلى النصف المشغول بالعبادة مع إنهما متساويان في المقدار من حيث إن النصف الفارغ لا يساويه بحسب الفضيلة والشرف فالاعتبار بالكيفية لا بالكمية وقال بعضهم إن القلة في النصف بالنسبة إلى الكل لا إلى العديل الآخر وإلا لزم أن يكون أحد الصفين المسايين أقل من الآخر وفيه إنه من عرائه عن الفائدة خلاف الظاهر كما في "الإرشاد" {أَوِ انقُصْ مِنْهُ} أي أنقص القيام من النصف المقارن له إلى الثلث {قَلِيلا} أي نقصان قليلاً أو مقداراً قليلاً بحيث لا ينحط إلى نصف الليل {أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} أي زد القيام على النصف المقارن له إلى الثلثين فالمعنى تخييره عليه السلام بين أن يقوم نصفه أو أقل منه أو أكثر أي قم إلى الصلاة في الزمان المحدود المسمى بالليل إلا في الجزء القليل منه وهو نصفه أو أنقص القيام من نصفه أو زد ليه قيل هذا التخيير على حسب طول الليالي وقصرها فالنصف إذا استوى ليل والنهار والنقص منه إذا أقصر الليل والزيادة عليه إذا طال الليل {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ} في أثناء ما ذكر من القيام أي أقرأه على تؤدة وتبيين حروف وبالفارسية وقر آرا كشده حروف خوان بحديكه بعضي آن برى بعضي باشد {تَرْتِيلا} بلياً بحيث يتمكن السامع
204
من عدها ولذا نهى ابن مسعود رضي الله عنه عن التعجل وقال ولا يكن هم أحدكم آخر السورة يعني لا يد للقارىء من الترتيل ليتمكن هو ومن حضره من التأمل في حقائق الآيات فعدن الوصول إى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يقع في الرجاء والخوف وليسلم نظم القرآن من الحلل والرتل اتساق الشيء وانتظامه على استقامة والترتيل هو يدا كردن سخن بي تكلف.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
قال في الكشاف : ترتيل القرآن قرآته على ترسل وتؤده بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو لمفلج المشبه بنور الأقحوان وأن لا يهزه هزا ولا يسرده سرداً كما قال عمر رضي الله عنه شر السير الحقيقة وشر القراءة الهذرمة حتى يجيء الملو في تتابعه كالثغر الألص والأمر بترتيل القرآن يشعر بأن الأمر بقيام الليل نزل بعد ما تعلم عليه السلام مقداراً منه وإن قل وقوله أنا سنلقي على الاستقبال بالنسبة إلى بقية القرآن ثم الظاهر إن الأمر به يعم الأمة لأنه أمر مهم للكل والأمر للوجوب كما دل عليه عليه التأكيد أو للندب وكانت قرآءته عليه السلام ، مدايمد ببشسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم إما الأولان فمدهما طبيعي قدر الألف وإما الأخير فمده عارضي بالسكون فيجوز فيه ثلاثة أوجه الطول وهو مقدار الفات ثلاث والتوسط قدر الفين والقصر قدر ألف وكان عليه السلام مجوداً للقرآن كما أنزل وتجويده تحسين ألفاظه بإخراج الحروف من مخارجها وإعطاء حقوقها من صفاتها كالجهر والهمس واللين ونحوها وذلك بغير تكلف وهو ارتكاب المشقة في قراءته بالزيادة على أداء مخرجة والمبالغة في بيان صفته فينبغي أن يتحفظ في الترتيل عن التمطيط وهو التجاوز عن الحد وفي الحدر عن الادماع والتخليط بأن تكون قراءته بحال كأنه يلف بعض الحروف والكلمات في بعض آخر لزيادة الشرعة وذلك إن القراءة بمنزلة البياض إن قل صار سمرة وإن كثر صار برصاً وما فوق الجعودة فهو القطط فما كان فوق القراءة فليس بقراءة فعلم من هذا إن التجويد على ثلاث مراتب ترتيل وحدر وتدوير.
(10/158)
أما الترتيل فهو تؤدة وتأن وتمهل قال في "القاموس" ورتل الكلام ترتيلاً أحسن تأليفه وترتل فيه ترسل انتهى.
وهو مختارورشو عاصم وحمزة ويؤيده قوله عليه السلام من قرأ القرآن أقل من ثلاث لم يفهمه وفي قوت القلوب أفضل القراءة الترتيل لأن فيه التدبر والتفكر وأفضل الترتيل والتدبر للقرآن ما كان في صلاة وعن ابن عباس رضي الله عنهما لأن أقرأ البقرة أرتلها وأتدبرها أجب إلى من أن أقرأ القرآن كله هذرمة أي سرعة وعن النبي عليه السلام إنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم قرأها عشرين مرة وكان له كل مرة فهم وفي كل كلمة علم وقد كان بعضهم يقول كل آية لا أفهما ولا يكون قلي فيها لم أعدلها ثواباً وكان بعض السلف إذا قرأ سورة لم يكن قلبه أعادها ثانية قال بعض العلماء لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر قال مالك بن دينار رحمه الله إذا قام العبد يتهجد من اليل ويرتل القرآن كما أمر قرب الجبار منه قال وكانوا يرون إن ما يجدونه في قلوبهم من الرقة ولحلاوة وتلك الفتوح والأنوار من قرب الرب من القلب وفي الحديث :
205
"يؤتى بقارىء القرآن يوم القيامة فيوقف في أول درج الجنة ويقل اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" ولكون المقصود من أنزل القرآن فهم الحقائق والعمل بالفحاوي شرع الإنصات لقراءة القرآن وجوباً في الصلاة وندباً في غيرها وللقارىء أجر وللمستمع أجران لأنه يسمع وينصت أو يسمع بإذنيه يقرأ بلسان واحد والمستمتع يؤدي القرض ولذا قالوا استماعه أثوب من تلاوته.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
وفي سلسلة الذهب للمولى الجامي) :
صرف او كن حواس جسماني
وقف أو كن قواي روحاني
دل بمعنى زبان بلفظ سار
شم برخط ونقط وعجم كذار
كوش از ومعدن جواهركن
هوش از ومخزن سر آئركن
در اد ايش مكن زبان كج مج
حرفهايش إذا كن از مخرج
دورباش ازتهتك وتعجيل
كام كيراز تأمل وترتيل
وأما الحدر فهو الإسراع في القراءة كما روى إنه ختم القررٌّ في ركعة واحدة أربعة من الأمة عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد ابن جبير وأبو حنيفة رضي الله عنهم وكان همسر بن المنهال يختم في الشهر تسعين ختمة وما لم يفهم رجع فقرأ مرة أخرى وفي "القاموس" وأبو الحسن علي بن عبد الله بن ساذان بن البتني كعربي مقرىء ختم في النهار أربع ختمات إلا ثمناً مع فهام التلاوة انتهى.
وأما ما روى في مناقب الشيخ موسى السدراني من أكابر أصحاب الشيخ أبي مدين رضي الله عنه من أن له ورداً في اليوم والليلة سبعين أف ختمة فمعناه أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة فيكون في كل اثنتي عشرة ساعة خمصة وثلاثون ألف ختمة لأنها إما أن تنبسط إلى ثلاث وأربعين سنة وتسعة أشهر وأما إلى أكثر وعلى التقدير الأول يكون اليوم والليلة منبسطاً إلى سبع وثمانين سنة وستة أشهر فيكون في كل يوم وليلة من أيام السنين المنبسطة أيامها ولياليها ختمتان ختمة في اليوم وختمة في الليلة كما هو العادة ويحتمل التوجيه بأقل من ذلك باعتبار سرعة القارىء وهذا أي الحذر مختار ابن كثير وأبي عمر ووقالون.
وأما التدوير فهو التوسط بين الترتيل والحدر وهو مختار ابن عامر والكسائي وهذا كله إنما يتصور في مراتب المدود وفي الحديث : "رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه" وهو متناول لمن يخل بمبانيه أو معانيه أو بالعمل بما فيه وذلك موقوف على بيان اللحن وهو إنه جلى وخفي فالجلي خطأ يعرض للفظ ويخل بالمعنى بأن بدل حرفاً مكان حرف بأن يقول مثلاً الطالحات بدل الصالحات وبالأعراب كرفع المجرور ونصبه سواء تغير المعنى به أم لا كما إذا قرأ الله بريىء من الشمركين ورسوله بجر رسوله والخفي خط يخل بالعرف والضابطة كترك الإخفاء والإدغام والإظهار والقلب وكترقيق المفخم وعكسه ومد المقصور وقصر الممدود وأمثال ذلك ولا شك إن هذا النوع مما ليس بفرض عين يترتب عليه القعبا الشديد وإنما فيه اليهديد وخوف العقاب قال بعضهم اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا مهرة القراء من تكرير الراآت وتطنين النونات وتغليظ اللامات وترقيق الراآت في غير
206
محلها لا يتصور أن يكون من فرض العين يترتب عليه العقاب على فاعلها لما فيه من حرج ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وفي بعض شروح الطريقة ومن الفتنة أن يقول لأهل القرى والبوادي والعجائز والعبيد والإماء لا تجوز الصلاة بدون التجويد وهم لا يقدرون على التجويد فيتركون الصلاة رأساً فالواجب أن يعلم مقدار ما يصح به انظم والمعنى ويتوغل في الإخلاص وحضور القلب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
لعنت است اين كه بهر لهجه وصوت
شود از تو حضور خاطر فوت
فكر حسن غنا برد هوشت
متكلم شود فراموشت
لعنت است اين كه سازدت ى سيم
روز وشب با مير وخواجه نديم
لعنت است اين كه همت توتمام
كنت مصروف لفظ وحرف وكلام
نقد عرمت زفكرت معوج
خرج شد در رعايت مخرج
صرف كردى همه حيات سره
در قراآت سبعه وعشره
همنين هره از كلام اخدا
جزخدا قبله دلست ترا
(10/159)
موجب لعن ومايه طرد ست
حبذا مقبلي كه زن فردست
معنى لعن يست مر دودى
بمقامات بعد خشنودى
هركه ماند ازخدا بيك سرمو
آمد اندر مقام بعد حرو
كره ملعون نشد زحق مطلق
هست ملعون بقدر بعد ازحق
روى أن عمران بن حصين ري الله عنه مر على وقاص يقرأ ثم يسأل فاسترجع ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن يسألون به الناس انتهى.
فيكون إعطاء شيء إياه من قبيل الإعانة على المعصية كالإعطاء لسائل المسجد وهو يتخطى رقاب الناس ولا يدع السواك في كل ما استيقظ من نوم الليل والنهار وفي الخبر طيبوا طرق القرآن من أفواكهك باستعمال السواك والصلاة بعد السواك تفضل على بغير سواك سبعين ضعفاً وفي قوت القلوب وفي الجهر بالقرآن سبع نيات منها الترتيل الذي أمر به ومنها تحسين الموت بالقرآن الذي ندب إليه في قوله عليه السلام ، زينوا القرآن بأصواتكم وفي قوله ليس منا نم لم يتغن بالقرآن أي يحسن صوته وهو أحب من أخذه بمعنى الغنية والاكتفاء ومنها أن يسمع أذنيه ويوقظ قلبه ليتدبر الكلام ويتفهم المعاني ولا يكون ذلك كله إلا في الجهر ومنها أن يطرد النوم عنه برفع صوته ومنها أن يرجو يجهده يقظة نائم فيذكر الله فيكون هو سبب إحيائه ومها أن يره بطال غافل فينشط للقيام ويشتاق إلى الخدمة فيكون هو معاوناً له على البر والتقوى ومنها أن يكثر يجهره تلاوته ويدوم قيامه على حسب عادته للجهر ففي ذلك كثرة عمله فإذا كان القارىء على هذه النيات فجهره أفضل لأن فيه أعمالاً وإنما يفضل العمل بكثرة النيات وكان أصحاب رسول الله عليه السلام إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن وفي "شرح الترغيب" اختلف في القراءة بالألحان فكرهها مالك والجهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع
207
والتفهم وإباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف للأحاديث لأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية وفي أبكار الأفكار إنما استحب تحسين الصوت بالقراءة وتزيينه ما لم يخرج عن حدة القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفاه فهو حرام وقال بعض أهل المعرفة قوله رتل أي أتل وجاءت التلاوة بمعنى الإبلاغ في مواضع من القرآن فالمعنى بلغ أحكام القرآن لأهل النفوس المتمردة المنحرفة عن الأقبل على الآخرة وهم العوام وهذا من قبيل الظهر كما قال عليه السلام ما من آية إلا ولما ظهر وبط وحد ومطلع وفصل معانيه لأصحاب القلوب المقبلة على المولى كما قال تعالى : كتاب فصلت آياته وهم الخواص وهذا من قبيل البطن وفهم حقائقه لسدنة الأسرار المستهلكين في عين المشاهدة المستغرقين في بحر المعاينة وهم أخص الخواص وهذا من قبيل الحد وأوجد أسراره لأرباب الأرواح الطاهرة الفانين عن ناسوتيتهم الباقين بلاهوتيته
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
{إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ} أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى {قَوْلا ثَقِيلا} وهو القرآن العظيم المنطوى على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين وأيضاً إن القرآن قديم غير مخلوق والحادث يذوب تحت سطوة القديم إلا من كان مؤيداً كالنبي عليه السلام والثقل حقيقة في الأجسام ثم يقال في المعاني وقال بعضهم ثقيلاً تلقية كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف يأتيك الوحي قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد على فيفصم عني أي يقلع وبنحى وقد وعيت ما قال وأحياناً يتمثل إلى الملك رجلاً فيكلمني فأعى ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقدر أيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقاً أي يترشح.
(قال الكاشفي) : در حين نزول وحي برآن حضرت برين وجه كه مذكور شداكر برشتر سوارى بودي دست واي شترخم كشتى واكرتكيه برران يكى ازياران داشتى خوف شكستن آن بودي ودرين محل روى كلبركش برافروخته (مصراع) بسان كل كه بصحن من برافروزد.
وفي التأويلات النجمية : ثقل المحمول بحسب لطف الحامل ولا شك أن نبينا عليه السلام كان ألطف الأنبياء خلقاً وأعدلهم مزاجاً وطبعاً وأكملهم روحانية ورحمانية وأفضلهم نشأة وفطرة وأشملهم استعداداً وقابلية فلذلك خص القرآن بالثقل من بين سائر الكتب السماوية المشتملة على الأوامر والنواهي والأحكام والشرائع للطف فطرته وشمول رحمته والجملة اعتراض بين الأمر وهو قم اليل وبين تعليله وسر إن ناشئة الليل.
.
الخ لتسهل ما كلفه عليه السلام من القيام يعني إن في توصيف ما سيلقى عليه بالثقل إيماء إلى أن ثقل هذا التكليف بالنسبة إليه كالعدم فإذا كان ما سيكلف أصعب وأشق فقد سهل هذا التكليف وفي الكشاف بالنسبة إليه كالعدم فإذا كان ما سيكلف أصعب وأشق فقد سهل هذا التكليف وفي الكشاف أراده بهذا الاعتراض ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الصعبة التي ورد بها القرآن لأن الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن ياه من مضدة لطبعه ومجاهدة لنفسه فمن استأنس بهذا التكليف لا يثقل ليه أمثاله.
(10/160)
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
يقول الفقير : سورة المزمل مما نزل في أوائل النبوة فكان قوله إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً يشير إلى مدة الوحي الباقية لأن حروفه مع اعتبار النون المدغم فيها ونوني التنوين اثنان وعشرون فالسين دل على الاستقبال ومجموع الحروف
208
على المدة الباقية وجعل القرآن حملاً ثقيلاً لأن عليه السلام بعث لتتميم مكارم الأخلاق ولا شك أن ما كان أجمع كان أثقل والله تعالى أعلم بمراده وأيضاً أن كون القول ثقيلاً إنما هو بالنسبة إلى النفس الثقيلة الكثيفة لتراكم حجبها وبعدها عن درك الحق وإما بالنسبة إلى النفس الخفيفة اللطفية فخفيف ولطيف ولذا كان تعب التكاليف مرفوعاً عن الكمل فهم يجدون العبادات كالعادات في رتفاع الكلفة وفي الذوق والحلاوة {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ} أي النفس التي تنشأ في الليل من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه إذا نهض فالموصوف محذوف والإضافة للملابسة بمعنى النفس الناشئة في الليل {هِىَ} خاصة {أَشَدُّ وَطْـاًا} أي كلفة وثقلاً مصدر قولك وطئى الشيء أي داسه برجله أو جعل عليه ثقهل فإن النفس القائمة بالليل إلى العبادة أشد وطئاً من التي تقوم بالنهار فلا بد من قيام الليل فإن أفضل العبادات أشقها فالوطىء مصر من المبني للمفعلو لأن الواطىء الذي يلقى ثقله على العابد هو العبادة في الليل فيكون العابد بالليل أشد موطو أله من العابد بالنهار ووطئاً نصب على التمييز ويجوز أن يكون معنى أشد ووطئاً أشد ثبت قدم واستقرارها فيكون المقصود بيان وجه اختيار الليل وتخصيصه بالأمر بالقيام فيه من حيث إنه تعالى جعل الليل لبساً يستر الناس ويمنعهم عن الاضطراب والانقلاب في اكتساب امعاش وجعل النهار معاشاً يباشرون فيه أمور معاشهم فلا تثبب فيه أقدامهم للعبادة {وَأَقْوَمُ قِيلا} اسم من القول بمعناه بقلب الواو ياء أي أزيد من جهة السداد والاستقامة في المقال ومن جهة الثبات والاستقرار على الصواب يعني خواندن قرآن درو بصوا بتراست كه دل فارغ باشد وأصوات ساكن وزبان بادل موافقت نمايد بزبان مى خواند وبدل تفكر ميكند.
اموش شد عالم بشب تاجست باشى در طلب
زيراكه بنك عربده تشويش خلوتخانه بود
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص209 حتى ص221 رقم22
ويحتمل أن تكون ناشئة الليل بمعنى قيام الليل عى أن الناشئة مصدر من نشأ كالعافية بمعنى العفو وهذا وافق لسان الحبشة حيث يقولون نشأ إذا قام أو يكون بمعنى العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث فيكون الوطىء مصدراً من المبنى للفاعل فإن كل واحد من قيام الليل ومن العبادة التي تحدث فيه ثقيلان على العابد من قيام النهار والعبادة فيه فمعنى أشد وطئاً أقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار فيكون أفضل يعني آن سخت تراست ازجهت رنج وكلفت ه ترك خواب وراحت برنفس بغايت شاق است.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
ويحتمل أن يكون المراد بناشئة الليل ساعاته فإنها تدث واحدة بعد واحدة أي ساعات الليل الناشئة أي الحادثة شيئاً بعد شيء فتكون الناشئة صفة ساعات الليل فتكون أشد وطئاً أي بملاحظة القيام فيها من ساعات النهار لكن ابن عباس رضي الله عنها بما كان بعد النوم فلو لم يتقدمها نوم لم تكن ناشئة وفي قوت القلوب أن يصلي بين العشاءين ما تيسر إلى يغيب الشفق الثاني وهو البياض الذي يكون بعد ذهاب الحمرة ويل غسق الليل وظلمته لأنه
209
آخر ما يبقى من شعاع الشمس في القطر الغربي إذا قطعت الأرض العليا ودارت من وراء جبل قاف مصعدة تطلب المشرق فهذا الوقت هو المستحب لصلاة العشاء الآخرة وهو آخر اورد الأول من أوراد الليل والصلاة فيه ناشئة الليل أي ساعته لأنها أول نشوء ساعاته وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وطاء بلكسر والمد من المواطأة بمعنى الموافقة فإن فسرت الناشئة بالنفس الناشئة كان المعنى إنها أشد من جهة موافقة القلب الكائن لها لسانها وإن فسرت بالقيام أو العبادة أو الساعات كان المعنى إنها أشد من جهة موافقة قلب القائم لسانه فيها أو من جهة كونها موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص وعن الحسن رحمه الله أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق {إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} أي تقلباً وتصرفاً في مهما تك كتردد السابح في الماء واشتغالاً بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليك بها في الليل وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي قال الراغب : السبح المر السريع في الماء أو في الهواء استعير لمر النجوم في الفلك كقوله تعالى وكل في فلك يسبحون ولجري الفرسك قوله تعالى فالسابحات سبحاً ولسرعة الذهاب في العمل كقوله تعالى إن لك في النهار سبحاً طويلاً وفي تاج المصادر السبح تصرف كردن در معيشت.
(10/161)
وفي بعض التفاسير قيل السباحة لما فيها من التقلب باليد والرجل في الماء وقيل معنى الآية إن فإنك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه حتى لا ينقص شيء من حظك من المناجاة لربك ويناسبه قوله عليه السلام من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ومن أقوال المشايخ إن المريد الصادق إذا فاته ورد من أوراده يليق به أن يقضيه ولو بعد شهر حتى لا تتعود النفس بالكسل فالورد من الشؤون الواردة عن الرسول عليه السلام وأخيار أمته ومن لا ورد له أي وارد خاص بالخواص وفي قوت القلوب من فاته ورد من الأوردا استحب له فعل مثله متى ذكره لا على وجه القضاء لأنه لا تقضي إلا الفرائض ولكن على سبيل التدارك ورياضة النفس بذلك ليأخذ بالعزائم كيلا يعتاد الرخص {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} ودم على ذكره تعالى ليلاً ونهاراً على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم خصوصاً بعد صلاة الغداة وقبل غروب الشمس فإنهما من ساعات الفتح والفيض وذكر الله على الدوام من وظائف المقربين سواء كان قلباً أو لساناً أو أركاناً وسواء كان قياماً أو قعودا أو على النوب وبالفارسية ويا دكن روردكار خودرا وبأسماء حسنى اورا بخوان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
قال عليه السلام من أحصاها أي حصلها دخل الجنة فالمراد من ذكر اسمه فذكره تعالى بواسطة ذكر اسمه ولذا قال تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فالذكر والنسيان في الحقيقة كلاهما من صفات القلب وعند تجلى المذكور يفنى الذكر والذاكر كما قال شيخي وسندى روح الله روحه في شرح تفسير الفاتحة للقنوى قدس سره من اشتغل من الأسماء المجازية بما يسر الله الاشتغال به وداوم عليه فلا ريب إنه يحصل بينه وبين سر هذا الاسم المشتغل به وروحه بعناية الله وفضله مناسبة ما بقدر الاشتغال ومتى قويت تلك المناسبة
210
بينهما وكملت بحسب قوة الاشتغال وكماله يحصل بينه وبينه هذا الاسم الحقيقي بجود الحق سبحانه وعطائه يحصل بينه وبين مسماه الحق تعالى مناسبة بمقدار المناسبة الثانية من جهة القوة والكمال لأن العبد بسبب هذه المناسبة يغلب قسه على دنسه ويصير مناسباً لعالم القدس بقدر ارتفاع حكم الدنس فحيئذٍ تجلى الحق سبحانه له من مرتبة ذلك الاسم بحسيها وبقدر استعداده ويفيض عليه ما شاء من العلوم والمعارف والأسرار الإلهية والكونية إما من الوجد العام وطريق سلسلة ترتيب المراتب والحضرات وغيرها من الوسائط والأسباب والأدوات والمواد المعنوية والصورية وإما من الوجه الخاص بدون الوسائل والأغبار أو منهما معاً جميعاً إذ وجه إما هذا أو ذاك لا غيرهما غير نسبة الجمع بينهما وقال بعضهم في الآية إذا أردت قراءة القرآن أو الصلاة فقل بسم الله الرحمن الرحيم وقال القاشاني واذكر اسم ربك الذي هو أنت أي اعرف نفسك واذكرها ولا تنسها فينساك الله واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها.
(وتبتل إليه تبتيلاً) : التبتل الانقطاع وتبتيل دل ازدنيا بريدن.
والمعنى وانقطع إلى ربك انقطاعاً تاماً بالعبادة وإخلاص والية والتوجه الكلي كما قال تعالى : قل الله ثم ذرهم وبالفارسية يعني نفس خودرا از انديشه ما سوى الله مجرد ساز واز همكى روى بردار.
دل در وبند واز غيرش بكسل
هره جز اوست برون كن از دل
وليس هذا منافياً لقوله عليه السلام لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام فإن التبتل هنا هو الانقطاع عن النكاح ومنه قيل لمريم العذراء رضي الله عنها البتول أي المنقطعة عن الرجال والانقطاع عن النكاح ومنه قيل لمريم العذراء رضي الله عنها البتول أي المنقطعة عن الرجال والانقطاع عن النكح والرغبة عنه لقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى ومنكم وقوله عليه السلام : تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة وإما إطلاق البتول على فاطمة الزهراء رضي الله عنها فلكونها شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل في الانقطاع عما سوى الله لا عن النكاح وقيل تبتلا مكان تتتلا لأن معنى تبتل بتل نفسه فجييء به على معناه مراعاة الحق الفوصال لأن حظ القرآن من حسن النظم والرصف فوق كل حظ وقال بعضهم : لما لم يكن الانقطاع الكلى إلى بتجريد النبي عليه السلام نفسه عن العوائق الصادة عن مراقبة الله وقطع العلائق عما سواه قيل تبتلا مكان تبتلا فيكون انظم من قبيل الاختياك كما في قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتاً على وجه وهو أن التقدير أنبتكم منها إنباتاً فنبتم نباتاً وكذا التقدير ههنا أي تبتل إليه تبتلا يبتلك عما سواه تبتيلا والأنسب يبتلك ربك تبيتلا فإن التبتيل فعل الله فلا يحصل للعبد إلا بمعاونته.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
(10/162)
وفي التأويلات النجمية : واذكر اسم ربك بفناء صفاتك وأفعالك وبتل إليه تبتيلاً بفناء ذاتك وبقاء ذاته ثم إن التبتل يكون من الدنيا إن ظاهراً فقط فهو مذموم كبعض الحفاة العراة الذين أظهروا الفقر في ظواهرهم وأبطنوا الحرص في ضمائرهم وإما باطناً فقط وهو ممدوح كالأغنياء من الأنبياء والأولياء عليهم السلام فلنهم انقطعوا عن الدنيا باطناً إذ ليس فيهم حب الدنيا أصلاً وإنما لم ينقطعوا ظاهراً لأن
211
إرادتهم تابعة لإرادة الله والله تعالى أراد ملكهم ودولتهم كسليمان ويوسف وداود وأيوب والاسكندر وغيرهم عليهم السلا وإما ظاهراً وباطناً كأكثر الأنبياء والأولياء وقد يكون التبتل من الخلق إما ظاهراً فقط كتبتل بعض المتبعدة في قلل الجبال وأجواف المغارات لجذب القلوب وجلب الهدايا وإما باطناً لا ظاهراً كأهل الإرشاد وهم عامة الأنبياء وبعض الأولياء إذ لا بد في إرشاد الخلق من مخالطتهم وإما ظاهراً وباطناً كبعض الأولياء الذين اختار والعزلة وسكنوا في المواضع الخالية عن الناس قال بعضهم السلوك إلى الله تعالى يكون بالتبتل ومعناه الإقبال على الله بملازمة الذكر والإعراض عن غيره بمخالفة الهوى وهذا هو السفر بالحركة المعنوية من جانب المسافر إلى جانب المسافر إليه وإن كان الله أقرب إلى العبد من حبل الوريد فإن مثال الطالب والمطلوب مثال صورة حاضرة مع مراءة لكن لا تتجلى فيها لصدأ في وجهها فمتى صقلتها تجلت فيها الصورة لا بارتحال الصورة إليها ولا بحركتها إلى جانب الصورة ولكن بزوال الحجاب فالحجاب في عين العبد وإلا فالله متجل بنوره غير خفي على أهل البصيرة وإن كان فرق بين تجل وتجل بحسب المحل ولذا قال عليه السلام ، إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة فتجلى العامة كتجلي صورة واحدة في مرائي كثيرة في حالة واحدة وتجلى الخاصة كتجلي صورة واحدة في مراءة واحدة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام لي مع الله وقت إذ لا يخفى إن التجلي في ذلك الوقت مخصوص به عليه السلام لا يزاحمه غيره فيه.
يقول الفقير : إن في هذا المقام إشكالا وهو إنه عليه ال سلام إذا كان مستغرق الأوقات في الذكر دائم الانقطاع إلى الله على ما أفاده الآيتان فكيف يتأتى له السبح في النهار على ما أفصح عنه قوله تعالى : إن لك في النهار سبحاً طويلاً ولعل جوابه من وجوه الأول إن الأمر بالذكر الدائم والانقطاع الكلي من باب الترقي من الرخصة إلى العزيمة كما يقتضيه شأن إلا كامل والثاني إن السبح في النهار ليس من قبيل الواجب فله إن يختار التوكل على التقلب ويكون مستوعب الأوقات بالذكر والثالث أن الشغل الظاهر لا يقطع الكمل عن مراقبته تعالى كما قال تعالى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وقال تعالى : الذين هم على صلاتهم دائمون والرابع إن ذلك بحسب اختلاف الأحوال وإلا شخاص فمن مشتغل ومن ذاكر والله أعلم بالمرام رب المشرق والمغرب} مرفوع على المدح أي هور بهما وخالقهما ومالكهما وما بينهما من كل شيء قال في "كشف الأسرار" يريد به جنس المشارق والمغارب في شتاء والصيف {لا إله إِلا هُوَ} استئناف لبان ربوبيه بنفي الألوهية عما سواه يعني هي معبودي نيست سزاورا عبادت مكر أو {فَاتَّخِذْهُ} لمصالح دينك ودنياك والفاء لترتيب الأمر وموجهب على اختصاص إلا لوهية والربوبية به تعالى {وَكِيلا} موكولاً ومفوضاً إليه لإصلاحها وإتمامها واسترح أنت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
وفي التأويلات النجمية : رب مشرق الذات المطلقة عن حجب تعينات الأسماء والصفات ورب مغرب الصفات والأسماء لاستتاره باستتار حجب الصفات وهي حجب الذات وهو المتعين في جميع الموجودات فلا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً أي جرد نفسك عنك وعن
212
وجودك المجازي واتخذ وجوه الحقيقي مقام وجودك المجازي وامش جانبك هذا مثل ما قال المريد لشيخه أريد أن أحج على التجريد فقال له شيخه جرد نفسك ثم سر حيث شئت قال الامام القشيري رحمه الله إن الله هو المتولى لأحوال عباده يصرفهم على ما يشاء ويختار وإذا تولى أمر عبد بجميل العناية كفاه كل شغل وأناه عن كل غير فلا يستكثر العبد حوائه لعلمه إن مولاه كافيه ولهذا قيل من علامات التوحيد كثرة العيال على بساط التوكل.
(10/163)
(حكى) عن ممشاد الدينوري رحمه الله إنه قال كان علي دين فاهتممت به في بعض الليالي وضاق صدري فرأيت كأن قائلاً يقول لي أخذت هذا المقدار عليك الأخذ وعلينا العطاء ثم انتبهت ففتح لي ما قضيت به الدين ثم لم أحاسب بعد ذلك قصاباً ولا بقالاً ثم قال القشيري : اعلم أن من جعل المخلوق وكيلاً له فإنه يسأله الأجر وقد يوه في ماله وقد يخطىء في تصرفه أو يخفى عنه الأصوب والأرشد لصاحبه ومن رضي بالله وكيلاً أعطاه الأرض وحقق آماله واثني عليه ولطف به في دقائق أحواله بما لا يهتدي إليه أماله بتفاصيل سؤاله ومن جعل الله وكيلاً لزمه أيضاً إن يكون وكيلاًعلى نفسه في استحقاق حقوقه وفرائضه وكل ما يلزمه فيخاصم نفسه في ذلك ليلاً ونهاراً لا يفتر لحظة ولا يقصر طرفة قال الزورقي رحمه الله خاصية الاسم الوكيل نفي الحوائج والمصائب فمن خاف ريحاً أو صاعقة أو نحوهما فليكثر منه فإنه يصرف عنه السوء ويفتح له أبواب الخير والرزق {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يعني قريشاً مما لا خير فيه من الخرافات والهذيانات في حق الله من الشريك والصاحبة والولد وف حقك من الساحر والشاعر والكاهن والمجنون وفي حق القرآن من إنه أساطير الأولين ونحو ذلك {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} تأكيد للأمر بالصبراي واتركهم تركاً حسناً بأن تجانبهم بقلبك وهواك وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما أعرب عنه ما بعد الآية قال الراغب الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره أما بالبدن أو باللسان أو بالقلب وقوله تعالى : {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} يحتمل للثلاثة ويدعو إلى تحريها ما أمكن مع تحري المجاملة قال الحكماء تسلح على الأعداء بحسن المداراة حتى تبصر فرصة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
آسايش دوكيتي تفسير اين دو حرفست
با دوستان تلطف بادشمنان مدارا
وذرني والمكذبين} أي دعني وإياهم وكل أمرهم إلى فإني أكفيكهم وقد سبق في ن والقلم وقال بعضهم يجوز نصب المكذبين على المعية أي دعني معهم وهو الظاهر ويجوز على العطف أي دعني على أمري مما تقتضيه الحكمة ودع المكذبين بك وبالقرآن وهو أوفق للصناعة لأن النصب إنما يكون نصاً في الدلالة على المصاحبة إذا كان الفعل لازما وهنا الفعل متعد {أُوالِى النَّعْمَةِ} أرباب التنعم وبالفارسية خدا وندان نازوتن آساني.
صفة للمكذبين وهم صناديد قريش وكانوا أهل ترفه وتنعم لا سيما بني المغيرة والنعمة بفتح النون لتنعم وبكسرها الأنعام وما أنعم به عليك وبالضم السرور والتنعم استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات وفي تاج المصادر التنعم
213
بناز زيستن.
وفيه إشارة إلى أن متعلق الذم ليس نفس النعمة والرزق بل التنعم بهما كان قال عليه السلام ، لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن والياً إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين وفيه تسلية للفقراء فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام {وَمَهِّلْهُمْ} التمهيل زمان دادن.
والمهل التؤدة والسكون يقال مهل في فعله وعمل في مهلة {قَلِيلا} أي زماناً قليلاً وأجلهم أجلاً يسيراً ولا تعجل فإن الله سيعذبهم في الآخرة إذ عمر الدنيا قليل وكل آت قريب ويدل على هذا المعنى ما بعد الآية من بيان عذاب الآخرة وقال الطبري كان بين نزول هذه الآية ووقعة بدر زمان يسير ولذا قيل إنها مدنية {الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} في الآخرة وفيما هيأناه للعصاة من آلات العذاب وأسبابه وهو أولى من قول بعضهم في علمنا وتقديرنا لأن المقام مقام تهديد العصاة فوجود آلات العذاب بالفعل اشد تأثيراً على أن تلك الآلات صور الأعمال القبيحة ولا شك إن معاصري النبي عليه السلام من الكفار قد قدموا تلك الآلات بما فعلوا من السيئات {أَنكَالا} قيوداً ثقالاً يقيد بها أرجل المجرمين إهانة لهم وتعذيباً لا خوفاف من فرارهم جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل والجملة تعليل للأمر من حيث إن تعداد ما عنده من أسباب التعذيب الشديد في حكم بيان اقتداره على الانتقام منهم فهم يتنعمون في الدنيا ولا يبالون وعند الله العزيز المنتقم في الآخرة أمور مضادة لتنعمهم {وَجَحِيمًا} وبالفارسية وآتشى عظيم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
(10/164)
وهي كل نار عظيمة في مهواة وفي الكشاف هي النار الشديدة الحر والاتقاد {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} هو ما ينشب في الحلق ويعلق من عظم وغيره فلا ينساغ أي طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق لا هو نازل ولا هو خارج كالضريع والزقوم وهما في الدنيا من النباتات والأشجار سمان قاتلان للحيوان الذي يأكلهما مستكرهان عند الناس فما ظنك بضريح جهنم وزقومها وهو في مقابلة الهنيء ولمريء لأهل الجنة وإنما ابتلوا بهما لأنهم أكلوا نعمة الله وكفروا بها {وَعَذَابًا أَلِيمًا} ونوعاً آخر من العذاب مؤلماً لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه كما يدل عليه التنكير كل ذلك معدلهم ومرصد فالمراد بالعذاب سائر أنواع العذاب جاء في التفسير نه لما نزلت هذه الآية خر النبي عليه السلام مغشياً عليه وعن الحسن البصري قدس سره إنه أمسى صائماً فأتى طعام فعرضت له هذه ، الآية فقال أرفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال ارفعه وكذلك الثالثة فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فجاؤوا فلم يزالوا حتى شرب شربة من سويق.
اعلم أن أصناف العذاب الروحاني في الآخرة ثلاثة حرقة فرقة المشتهيات وخزي خجلة الفاضحات وحسرة فوت المحبوبات ثم ينتهي الأمر إلى مقاساة النار الجسمانية الحسية والخزى الذل والحقارة والخجلة التحير من الحياء والفاضح الكاشف عيب المجرم {يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ} ظرف للاستقرار الذي تعلق به لدينا والرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة أي تضطرب وتتزلزل بهيبة الله وجلاله ليكون علامة لمجيء القيامة وأمارة لجرين حكم الله في مؤاخذة العاصين أفرد الجبال بالذكر مع كونها من الأرض
214
لكونها أجساماً عظاماً أوتاداًا لها فإذا تزلزلت الأوتاد لم يبق للأرض قرار وأيضاً إن زلزلة العلويات أظهر من زلزلة السلفيات ومن زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفاً من الوقوع {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} من شدة الرجفة مع صلابتها وارتفاعها {كَثِيبًا} في "القاموس" الكثيب التل من الرمل انتهى من كثب الثنى إذا جمعه كأنه فعقيل بمعنى مفعول في أصله ثم صار اسماً بالغلبة للرمل المجتمع {مَّهِيلا} أي كانت مثل رمل مجتمع هيل هيلا أي نثر واسيل بحيث لو حرك من أسفله أهال من أعلاه وسال لتفرق أجزائه كالعهن المنقوش ومثل وهذا الرمل يمر تحت الرجل ولا يتماسك فكونه متفرق الأزاء منثوراً سائلاً لا ينافي كونه رملاً مجتمعاً وبالفارسية كوههاى سخت ون ريك روان شد از هيبت آن روز.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
فقوله مهيلا اسم مفعول من هال يهيل وأصله مهيول كمبيع من باع لا فعيل من مهل يمهل وخص الجبال بالتشبيه بالكثيب الهيل لأن ذلك خاصة لها فإن الأرض تكون مقررة في مكانها بعد الرجفة دل عليه قوله تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} والحاصل إن الأرض والجبال يدق بعضها ببعض كما قال تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فترجع الجبال كثيباً مهيلاً ثم ينسفها الريح فتصير هباء منبثاً وتبقى الأرض مكانه ثم تبدل كما مر.
(10/165)
وفي التأويلات النجمية : يوم ترجف أرض البشرية وجبال الأنانية وكانت جبال أننية كل واحد رملاً منثوراً متفتتاً شبه التعينات الاعتبارية الموهومة بالرمل لسرعة زوالها وانتثارها إنا أرسلنا إليكم} يا أهل نمكة شروع في التخويف بأهوال الدنيا بعد تخويفهم بأهوال الآخرة {رَسُولا} هو محمد عليه السلام وكونه مرسلاً إليهم لا ينافي إرساله إلى من عداهم فإن مكة أم القرى فمن أرسل إلى أهل مكة فقد أرسل إلى أهل الدنيا جميعاً ولذا نص الله تعالى عليه بقوله وما أرسلناك إلاك افة للناس ليندفع أوهام أهل الوهم {شَـاهِدًا عَلَيْكُمْ} يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر والعصيان وكذا يشهد على يركم كما قال تعالى : {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـاؤُلاءِ شَهِيدًا} كما ارسلنا على فرعون رسولا هو موسى عليه السلام لأن هارون عليه السلام ردء له وتابع وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه وتخصيص فرعون لأنه من رؤساء أولى النعمة المترفهين المتكبرين فبينه وبين قريش جهة جامعة ومشابهة حال ومناسبة سريرة {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي فعصى فرعون المعلوم حاله كبراً وتنعماً الرسول لذي أرسلناه إليه ومحل الكاف النصب على إنها صفة لمصدر محذوف أي إنا أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما يعرب عنه قوله تعالى : [المزمل : 15]{شَـاهِدًا عَلَيْكُمْ} إرسالاً كائناً كما أرسنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما يعرب عنه قوله تعالى : شاهداً عليكم إرسالاً كائناً كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصا بأن جحد رسالته ولم يؤمن به وفي إعادة فرعون والرسول مضهدين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفي ترك ذكر ملأ فرعون إشارة إلى أن كل واحد منهم كأنه فرعون في نفسه لتمرد فأخذناه} بسبب عصيانه {أَخْذًا وَبِيلا} ثقيلاً لا يطاق يعني بآتش غرق كرديم وازراه آب بآتش برديم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
والوبيل الثقيل الغليظ ومنه الوابل للمطر العظيم والكلام خارج عن التشبيه
215
جيء به للتنبيه على إنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} قال ابن الشيخ متب على الإرسال فالعصيان وكان الظاهر أن يقدم على قوله كما أرسلنا إلا أنه أخر زيادة في التهويل إذ علم من قوله فأذناه إنهم مأخوذون مثله وأشد فإذا قيل بعده فكيف تتقون كان ذلك زيادة كأنه قيل هبوا إنكم لا تؤخذون في الدنيا ذة فرعون وأمثاله فكيف تتقون أي تقون أنفسكم فاتقى ههنا مأخوذ بمعنى وقى المتعدى إلى مفعولين دل عليه قول الامام البيهي رحمه الله في تاج المصادر الاتقاء حذر كردن وخود رانكاه داشتن انتهى.
وافعل يجيء بمعنى فعل نص عليه الزمخشري في المفصل وإن كانت الأمثلة لا تساعده فإنه ليس وقى واتى مثل جذب واجتذب وخطف واختطف فتأمل {إِن كَفَرْتُمْ} أي بقيتم على الكفر {يَوْمًا} أي عذاب يوم فهو مفعول به لتتقون ويجوز أن يكون ظرفاً أي فكيف لكم بالتقوى والتوحيد في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا أي لا سبيل إليه لفوت وقته فاتقى على حاله وكذا إذا انتصب بكفرتم على تأويل جحدتم أي فكيف تتقون الله وتخشون عقابه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ} من شدة هوله وفظاعة ما فيه من الدواهي وهو صفة ليوما نسب الجعل إلى اليوم للمبالغة في شدته والأنفس اليوم لا تأثير له لبتة والولدان بالفارسية نوزادكان ازمادر.
جمع وليد يقال لمن قرب عهده بالولادة وإن كان في الأصل يصح إطلاقه على من قرب عهده بها ومن بعد {شِيبًا} شيوخاً يعني ير كندوموى سر ايان سفيد سازد.
جميع اشيب والشيب بياض الشعر وأصله أن يكون بضم الشين كحمر في جمع أحمر لأن الضم قتضي الواو فكسرت لأجل صيانة الياء فرقاً بين مثل سود وبين مثل بيض وجعلهم شيوخاً فيه وجوه.
(10/166)
الأول : إنه محمول على الحقيقة كما ذهب إليه بعض أهل التفسير ويؤيده ما قال في "الكشاف" وقد مر بي في بعض الكتب إن رجلاً أمسى فاحم العشر كحلك الغراب أي سواده وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة بياضاً وهو بفتح الثاء المثلثة وبالغين المعجة نبت أبيض قال أريت القيامة والجنة والنار ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار فمن هول ذلك أصبحت كما ترون وقال أحمد الدورقي مات رجل من جيراننا شاباً فرأيته في اللل وقد شاب فقلت وما قصتك قال دفن بشر في مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة كما في فصل الخطاب وبشر المريسي ومريس قرية بمصر أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام وقال بخلق القرآن وأضل خلقاً كثيراً ببغداد فإن قلت إيصال الألم والضرر إلى الصبيان يوم القيامة غير جائز بل هم لكونهم غير مكلفين معصومون محفوظون عن كل خطر قلت قد يكون في القيامة من هيبة المقام ما يجثوبه الأنبياء عليهم السلام على الركب فما ظنك بغيرهم من الأولياء والشيوخ والشبان والصبين وفي الآية مبالغة وهي إنه إذا كان ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً وهم أبعد الناس من الشيخوخة لقرب عهد ولادتهم فغيرهم أولى بذلك وكذا في القصة السابقة فإن من شاب بمجرد الرؤي فكيف حاله في اليقظة وهو معاين من الأهوال ما يذوب تحته الجبال الرواسي.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
والثاني : إنه محمول
216
على التمثيل بأن شبه اليوم في شدة هوله بالزمان الذي يشيب الشبان لكثرة همومه وأهواله وأصله إن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب لأن كثرة الهموم توجب انعصار الروح إلى داخل القلب وذلك الانعصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وضعفها وانطفاِا يوجب بقاء الأجزاء الغدائية غير تامة النضج وذلك يوجب بياض العشر ومسارعة الشيب بتقدير العزيز الحكيم كما يوجب تغير القلب تغير البشرة فتحصل الصفرة من لوجل والحمرة من الخجل والسواد من بعض الآلام وما على البدن من الشعر تابع للبدن فتغيره يوجب تغيره فثبت إن كثرة الهموم توجب مسارعة الشيب كما قيل :
دهتنا أمور تشيب الوليد
ويخذل فيها الصديق الصديق
فلما كان حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوه كناية عن الشدة فجعل اليوم المذكور لولدان شيباً
عبارة عن كونه يوماً شديداً غاية الشدة وفي الحديث "يقول الله" : أي في يوم القيامة "يا آدم" خص آدم عليه السلام بهذا الخطاب لأنه أصل الجميع "فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول اخرج بعث النار" أي ميز ألها المبعوث إليها "قال وما بعث النار" أي عدده "قال الله تعالى من كل ألف تسعمائة تسعة وتسعون قال" أي النبي عليه السلام "فذلك" التقاول "حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها" قال ابن الملك اعلم أن الشيب والوضع ليسا على ظاهر هما إذ ليس في ذلك اليوم حبل ولا صغير بل هما كنايتان عن شدة أهوال يوم اليامة معناه لو تصورت الحوامل والصغار هنالك لوضعن أحمالهن ولشاب الصغار انتهى.
وفي بيانه نظر ستأتي الإشارة إليه في الوجه الثالث "وترى الناس سكارى" أي من الخوف "وما هم بسكارى" أي من الخمر "ولكن عذاب الله شديد".
والثالث : إنه محمول على الفرض والتقدير بأن يكون معناه إن ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة والدهشة وهذا الوجه غير موجه وإن ذهب إليه بعض من يعد من أجلة أهل التفسير إذ هو يشعر بأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان حقيقة وقد ثبت إنه يبعث يومئذٍ ولدان كثيرة ماتوا في الصغر وكذا من المقرران الحبلى تبعث حبلى ففي ذلك اليوم حبل وضغير نعم إذا دخلوا الجنة صاروا باء ثلاث وثلاثين.
والرابع : إنه يجوز ذلك وصفاً لليوم بالطول يعني على الكناية بأنه في طوله بحيث يبلغ الأطفال فيه أوان الشيخوخة والشيب وهو لا ينقضي بعد بل يمتد إلى حيث يكون مقداره خمسين ألف سنة فهو كناية عن اية الطول لا إنه تقدير حقيقي يعني أن هذا على عادة العرب في التعبير عن الطول على سبيل التمثيل كما يعبرون عن التأييد وعدم الانقطاع بقولهم ما ناحت حمامة وما لاح كوكب وما تعاقبت الأيام والشهور وفي الآية إشارة إلى النفس والهوى وعد نفوسهم من الله في يوم قيامة الفناء الذي يجعل ولدان أعمالهم السيئة القبيحة الخبيثة الخسيسة شيباً منهدمة متفانية {السَّمَآءَ} مبتدأ خبره قوله {مُنفَطِرُا بِهِ} أي منشق بسبب ذلك اليوم لأن الله تعالى مسبب الأسباب فيجوز أن يجعل شدة ذلك اليوم سبباً للانفطار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
ذكر الله من هول ذلك اليوم أمرين الأول قوله تعالى : [المزمل : 17 ، 18]{يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}
217
(10/167)
والثاني : قوله السماء منفطر به لأن السماء على عظمتها وقوتها إذا انشقت بسبب ذلك اليوم فما ظنك بغرها من الخلاق فالباء للسببية ، وهو الظاهر وتذكير الخبر لإجرائه على موصوف مذكر أي شي منفطر عبر عنها بذلك للتنبيه على إنه تبدلت حقيقتها وزال عنه اسمها ورسمها ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء وفي القاموس السماء معروف ويذكر ويجوز أن يكون الباء بمعنى في واليه ، ذهب المكي في قوت القلوب حيث قال حروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض وهذا مثال قوله تعالى : السماء منفطر به أي فيه يعني في ذلك اليوم وقيل الباء للآلة والاستعانة مثلها في فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني إن السماء ينفطر بشدة ذلك ليوم وهو له كما ينفطر الشيء بما يفطر به قال بعضهم اتخاذ الآلة والاستعانة لا يليق بناب الله تعالى ولا يناسب ذات السماء أيضاً كان وعده مفعولاً} الضميروإن لم يجر له ذكر للعلم به والمصدر مضاف إلى فاعله أي كان وعده تعالى أي يكون يوم القيامة على ما وصف من الشدائد كائناً متحققاً لأنه يخلف الميعاد فلا يجوز لعاقل أن يرتاب فيه أو الضمير لليوم ولمصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل وهو الله مقدر قال في "الصحاح" الوعد يستعمل في الخير والشر فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير الوعد والعدة وفي الشر الإيعاد والوعيد {إِنَّ هَـاذِهِ} إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة وهي من قوله إن لدينا إنكالاً إلى هنا {تَذْكِرَةٌ} موعظة لمن يريد الخير لنفسه والاستعداد لربه وبالفارسية ندى وعبرتيست.
قيل القرآن موعظة للمتقين وطريق للسالكين ونجاة للهالكين وبيان للمستبصرين وشفاء للمتحيرين وأمان للخائفين وأنس للمريدين ونور لقلوب العارفين وهدى لمن أراد الطريق إلى رب العالمين {فَمَن شَآءَ} من الملكفين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
يعني س هركه خواهد ازمكلفان {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} بالتقرب إليه بالإيمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته ومقام قربه {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ} أي أقل منهما فإطلاق الأدنى على الأقل مجاز مرسل من قبيل إطلاق الملزوم على اللازم ما إن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز والحدود وإذا بعدت كثر ذلك روى إنه تعالى افترض قيام اللل في أول هذه السورة فقام النبي عليه السلام وأصحابه حولاً مع مشقة عظيمة من حيث إنه يعسر عليهم تمييز القدر الواجب حتى قام أكثر الصحابة الليل كله خوفاً من الخطأ في إصابة المقدار المفروض وصاروا بحيث انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم وأمسك الله خاتمة السورة من قوله إن ربك الخل اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر السورة التخفيف فنسخ تقدير القيام بالمقادير المذكورة مع بقاء فرضية أصل التهجد حسبما تيسر ثم نسخ نفس الوجود أيضاً بالصلوات الخمس لما روى إن الزيادة على الصلوات الخمس زيادة {وَنِصْفَه وَثُلُثَهُ} بالنصب عطفاً على أدنى والثلث أحد أجزاء الثلثة والجمع أثلاث أي ك تقوم أقل من ثلثي الليل وتقوم من نصفه وثلثه {وَطَآاـاِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} مروفع معطوف على الضمير في تقوم وجاز ذلك للفصل بينهما أي ويقوم معك طائفة من أصحابك ومن تبينية فلا دلالة فيه على أن قيام الليل لم يكن فرضاً على الجميع وحاصل المعنى يتابعك طائفة في قيام الليل وهم أصحابك وفيه وعدلهم بالإحسان
218
إليهم كما تقول لأحد إذا أردت لوعد له أعلم ما فعلت لي وفي قوت القلوب قد قرن الله تعالى قوام الليل برسوله المصطفى عليه السلام ، وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى انسلاخ رسول القلب عن ليل طبيعته في أكثر الأوقات بالتوجه إلى الله والإعراض عن النفس إلا في أوقات قلائل وذلك لحكمة مقتضية للحجاب فإن الحجاب رحمة كما قيل لولا الحجاب ما عرف الآله وطائفة من الذين مع رسول القلب من القوى الروحانية والأعضاء والجوارح {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ} وحده لا يقدر على تقديرهما ومعرفة مقادير ساعاتهما وأوقاتهما أحد أصلاً فإن تقديم الاسم الجليل مبتدأ وبناء يقدر عليه موجب للاختصاص قطعاً والتقدير بالفارسية اندازه كردن يعني وخداي تعالى اندازه ميكند شب وروز را وميداند مقادير ساعات آن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
(10/168)
قال الراغب : التقدير تبيين كمية الشيء وقوله تعالى : [الأحزاب : 37-52]{وَاللَّهُ} الخ إشارة إلى ما أجرى من تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل على إدخال هذا في هذا أوان ليس أحد يمكنه معرفة ساعاتهما وتوفية حق العبادة منهما في وقت معلوم والحاصل إن العالم بمقادير ساعات الليل والنهار على حقائقها هو الله وأتنم تعلمون ذلك بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ فربما يقع منكم الخطأ في إصابتها فتقومون أقل من المقادير المذكورة ولذا قال علم} الله {إِنْ} أي إن الشأن {لَّن تُحْصُوهُ} لن تقدروا على تقدير الأوقات على حقائقها ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبداً فالضمير عائد إلى المصدر المفهوم من يقدر قال في تاج المصادر الإحصاء دانستن وشمردن بر سبيل استقصا وتوانستن.
قال الراغب : الإحصاء التحصيل بالعدد وروى استقيموا ولن تحصوا أي لن تحصلوا ذلك لأن الحق واحد والباطل كثير بل الحق بالإضافة إلى الباطل كالنقطة بالإضافة إلى سائر أجزاء الدائرة وكالمرمى من الهدف وإصابة ذلك شديدة واحتج بعضهم بهذه الآية على وقوع تكليف ما لا يطاق فإنه تعالى قال لن تحصوه أي لن تطيقوه ثم إنه كلفهم بتقدير الساعات والقيام فيها حيث قال : {قُمِ الَّيْلَ} الخ ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا إنهم لا يقدرون عليه أصلاً كما يقال لا أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
وفي التأويلات النجمية : يعني السلوك من ليل الطبيعة إلى نهار الحقيقة بتقدير الله لا بتقدير السالك علم أن لن تقدروا على مدة ذلك السلوك بالوصول إلى الله إذا لوصول مترتب على فضل الله ورحمته لا على سلوككم وسيركم فكم من سالك انقطع في الطريق ورجع القهقري ولم يصل كما قيل ليس كل من سلك وصل ولا كل من وصل اتصل ولا كل من اتصل اتفصل فتاب عليكم} بلترخيص على ترك القيام المقدر ورفع التبعة عن التائب ثم استعمل لفظ المشبه به في المشبه ثم اشتق منه فتاب أي فرخص والتبعة ما يترتب على الشيء من المضرة {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل غير مقدرة بكونها في ثلث الليل أو نحوه ولو قدر حلب شاة فهذا كون أربع ركعات وقد يكون ركعتين عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها على طريق إطلاق اسم الجزء على الكل مجازاً مرسلاً فتبين أن التهجد كان واجباً على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ بهذه
219
(10/169)
الآية ثم نسخ نفس الوجوب المفهوم منها بالصلوات الخمس على ما سبق وفيه تفضيل صلاة الليل على سائر التطوعات فإن التطوع بما كان فرضاً في وقت ثم نسخ أفضل من التطوع بما لم يكن فرضاً أصلاً كما قالوا صوم يوم عاشوراء أفضل لكونه فرض قبل فرضية رمضان وفي الحديث ليصل أحدكم من الليل ما تيسر فإذا غلب عليه النوم فليرقد وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يكره النوم قاعداً وعنه عليه السلام عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم وهذا الحديث يدل على أن قيام الليل لم يكن فرضاً على المتقدمين من الأنبياء وأممهم بل كان من شعار صلاحهم وعن عليه السلام إن الله ليبغض كل جعظرى جواظ سخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة والجعظري الفظ الغليظ والجواظك شداد الضخم المختار والكثير الكلام ولجموع الممنوع والمتكبر الجافي والسخاب من السخب وهو محركة شدة الصوت سخب كفرح فهو سخاب وأقل الاستحباب من قيام الليل سدسه سواء كان متوالياً أو قام جزأ ثم نام نومة أخرى ثم قام قياماً ثانياً لأنه عليه السلام لم يقم ليلة قط حتى أصبح بل كان ينام فيها ولم ينم ليلة قط بل كان يقوم فيها وبأي ورد أحيى الليل فقد دخل في أهل الليل وله معهم نصيب ومن أحيى أكثر ليلة أو نصفها كتب له إحياء ليلة جميعها ويتصدق عليه بما بقي منها كذا في قوت القلوب وقيل المراد بالآية قراءة القرآن بعينها فتكون على حقيقتها فالمعنى إن شق عليكم القيم فقد رخص في تركه فاقرأوا ما تيسر من القرآن من غير توقيت لصلاة فإنه لا يشق وتنالون بقراءته خارج الصلاة ثواب القيام فالأمر للندب وفي الحديث : "من قرأ في ليلة مائة آية لم يحاجه القرآن قال الطيبي : في قوله لم يحاجه القرآن إن قراءته لازمة لكل إنسان واجبة عليه فإذا لم يقرأ يخاصمه الله ويغلبه بالحجة فإسناد المحاجة إلى القرآن مجاز ويفهم م كلامه إن قراءته مقدار مائة آية في كل ليلة واجبة بها يخلص من المحاجة وعنه عليه السلام من قرأ بالآيتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه والمراد آمن الرسول الخ يعني اغتناه عن قيام الليل أو حفظتاه من كل شر وسوء وعنه عليه السلام أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن قالوا وكيف يقرأ ثلث القرآن قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القررٌّ ومن ذلك قالوا إن قراءة الإخلاص ثلاث مرات تقوم مقام ختمة وأطول الآي أفضلها لكثرة الحروف وإن اقتصر عى قصار الآي عند فتوره أدرك الفضل إن حصل العدد كذا في "قوت القلوب".
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
وفي التأويلات النجمية : في إشارة الآية يعني أجمعوا واحفظوا في قلوبكم الصافية عن كدورات النفس والهوى ما يظهر عليها لاستعداداتكم من الحقائق والدقائق والعوارف والمعارف ولا تفشوها إلى غير أهلها فينكروا عليكم فيرمكم بالكف والزندقة والإلحاد والاتحاد فإن حقائقه ودقائقه من المكنونان الإلهية {عِلْمٌا إِنَّ} أي إن شأن {سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى} استئناف مبين لحكمة أخرى داعية إلى الترخيص والتخفيف مرضاً جمع مريض والمرض الحروج عن الاعتدال الخاض بالإنسان وفيه إشارة إلى مرضى القلوب بحجب الأنانية والاشتغال
220
بحب الدنيا وشهواتها فإنه لا يظهر عليها من أسرار القرآن وحقائقه شيء.
نانه شيخ سنائي كويد
عجب نبو دكرز قرآن نصيبت نيست جز حرفى
كه از خورشيد جز كرمى نيابد شم نابينا
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص221 حتى ص229 رقم23
عروس حضرت قرآن نقاب آنكه براندازد
كه دار املك ايما نرا مجرد يابداز غوغا
(10/170)
{وَءَاخَرُونَ} عطف على مرضى {يَضْرِبُونَ فِى الأرْضِ} صفة آرون أي يسافرون فيها للتجارة من ضرب في الأرض سافر فيها ابتغاء الرزق قال لراغب الضرب في الأرض الذهاب فيها وهو بالأرجل {يَبْتَغُونَ} الابتغاء جستن {مِن فَضْلِ اللَّهِ} وهو الربح وفيه تصريح بما علم لتزاماً وبيان أن ما حصلوه من الرزق من فضل الله ومحل يبتغون حال من ضمير يضربون وقد عم ابتغاء الفضل تحصل العلم فإنه من أفضل المكاسب وفيه إن معلم الخير وهو رسول الله عليه السلام كان حاضراً عندهم وقت نزول الآية فأين يذهبون إلا أن يجعل آخر السورة مدنياً فقد كانوا يهاجرون من مكة إلى المدينة لطلب العلم وأيضاً هذا بالنسبة إلى خصوص الخطاب وإما بالنسبة إلى أهل القرن الثاني فبقاء الحكم يوقعهم في الحرج وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه إنه قال حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة وأفضل من شهود ألف جنزة ومن عيادة ألف مريض قيل ومن قراءة القرآن قال وهل تنفع قراءة القرآن بلا عمل {إِنَّ رَبَّكَ} الأعداء {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} عطف على مرضى أيضاً ويقاتلون صفته وسبيل الله ما يوصل إلى الأجر عند الله كالجهاد وفيه تنبيه على إنه سيؤذن لهم في القتال مع الأعداء سوى الله في هذه الآية بين درجة المجاهدين في سبيل الله ومكتسبين للمال الحلال للنفقة على نفسه وعياله والإحسن إلى ذوي الحاجات حيث جمع نبيهما قول على أن التجارة بمنزلة الجهاد وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيما رجل جلب شيئاً من مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباًفباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضد الدواعي إلى الترخيص فاقرأوا ما تيسر من القرآن من غير تحمل المشاق فإن قيل كيف ثقل قيام الليل على الأصحاب رضي الله عنهم وقد خف على كثير من التابعين حتى كانوا يقومون إلى طلوع الفجر منهم الامام أبو حنيفة وسعيد بن المسيب وفضيل بن عياش وأبو سليمان اداراني ومالك بن دينار وعلي بن بكار وغيرهم حتى قال علي بن بكار الشامي منذ أربعين سنة لم يحزني شيء إلا طلوع الفجر قلت الثقلة لم تكن في قيامه بل في محافظة القدر الفروض كما سبق على إنه لا بعد في يثقل عليهم قبل التعذر بذلك ثم كان من ر بعضهم إنه ختم القرآن في ركعة واحدة كعثمان وتميم الداري رضي الله عنهما {وَإِذْ أَخَذْنَا} المفروضة {وَإِذْ أَخَذْنَا} الواجبة وقيل هي زكاة الفطر إذا لم يكن بمكة زكاة غيرها وإنما وجبت بعدها ومن فسرها بالزكاة المفروضة جعل آخر السورة مدنياً وذلك أن تجعلها من باب ما تأخر حكمه
221
عن نزوله ففيه دلالة على أنه سينجز وعده لرسوله ويقيم دينه ويظهره حتى تفرض الزكاة وتؤدي {وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقرض دهيد خدايرا قرض نيكو.
والقرض ضرب من القطع وسمى ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضاً لأنه مقروض مقطوع من ماله أريد به الانفاقات في سبيل الخيرات غير المفروض فإنها كالفرض الذي لا خلف في أدائه وفيه حث على التطوع كما قال عليه السلام : "إن في المال حقاً سوى الزكاة على أحسن وجه" وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعاً للفقراء بحسن النية وصفاء الباء إلى أخوج الصلحاء وجه هذا التفسير هو أن قوله وآتوا الزكاة أمر بمرجد إعطائها على أي وجه كان وقوله وأقرضوا الله قرضاً حسناً ليس كذلك بل هو أمر بالإعطاء المقيدبكونه حسناً وتسمية الإنفاق لوجه الله أقراضاً استعارة تشبيهاً له بالإقراض من يحث إنما أنفقه يعود عليه مع زيادة وقال بعضهم هو قول سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله والله أكبر والنفقة في سبيل الله كما قال عمر رضي الله عنه أو النفقة على الأهل وفي الحديث ما أطعم المسلم نفسه وأهل بيته فهو له صدقة أي يؤجر عليه بحسن نيته ثم ههنا أمر غامض وهو أنه روى الامام الغزالي رحمه الله عن القاضي الباقلاني إن ادعاء البراءة من الغرض بالكلية كفر لأن التنزه خاصة إلهية لا يتصور الإشراك فيها فلعل ما يقال إن العبد ليبلغ إلى درجة بعمل ما يعمل لا لغرض بل لرضى الله أو لامتثال أمره فقط إنما هو من الغفلة عن غرض خفي هل هو غرض جلي لكنه مراد على.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
(10/171)
يقول الفقير : هذا وارد على أهل الإرادة وإما أهل الفناء عن الإرادة وهم أل النهاية الأكملون فلا غرض لهم أصلاً ورهم عجيب لا يعرفه إلا أمثالهم أو من عرفه الله بشأنهم {وَمَآ} شرطية {تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} أي خير كان مما ذكر وما لم يذكر {تَجِدُوهُ} جواب الشرط ولذا جزم {عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وفي كشف الأسرار تجدوا ثوابه خيراً لكم من متاع الدنيا وأعظم أجراً لأن الله يعطي المؤمن أجره بغير حساب قوله خيراً ثاني مفعولي تجدوا وهو تأكيد للمفعول الأول لتجدوه وفصل بينه وبين المفعول الثاني وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل في حكم المعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف وقوله وأعظم عطف على خيراً وأجراً تمييز عن سنبة الفاعل والأجر ما يعود من ثواب العمل دنيوياً كان أو أخروياً وقال بعضهم المشهور إن وجد إذا كان بمعنى صادف يتعدى إلى مفعول واحد وهو ههنا بمعناه لا بمعنى علم فلا بعد إن يكون خيراً حالاً من الضمير وفي الحديث اعلموا إن كل امرىء على ما قدم قادم وعلى ما خلف نادم وعنه عليه اسلام إن العبد إذا مات قال الإنسان ما خلف وقالت الملائكة ما قدم ومر عمر رضي الله عنه ببقيع الغرقداى مقبرة المذدينة لأنها كانت منبت الغرقد وهو بالغين المعجمة شجر فقال السلام عليكم أهل القبور بار ما عندنا إن نساءكم قد تزوجن ودوركم قد سكنت وأموالكم قد قسمت فأجابه هاتف يا ابن الخطاب أخبار ما عندنا إن ما قدمناه وجدناه وما أنفقناه فقد ربحناه وما خلفنا فقد خسرنا
222
قدم لنفسك قبل موتك صالحاً
واعمل فليس إلى الخلود سبيل
(وروى) عن عمر رضي الله عنه إنه اتخذ حيسا يعني تمرا بلبن فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه فقال بعضهم ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه قال وما تقدموا الخ.
تونيكى كن بآب اندازاى شاه
اكر ما هي نداند داند الله
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي سلوا الله المغفرة لذنوبكم في جميع أوقاتكم وكافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلوه عن تفريط وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح واستحب الاستغفار على الأسماء من القرآن مثل أن يقول استغفر الله إنه كان تواباً استغفر الله إن الله غفور رحيم استغفر الله إنه كان غفاراً رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين واغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الغافرين {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يغفر ما دون أن يشرك به {رَّحِيمٌ} يبدل السيئات حسنات وفي عين المعاني غفور يستر على أهل الجهل والتقصير رحيم يخفف عن أهل الجهل والتوفير ومن عرف إنه الغفور الذي لا يعاظمه ذنب يعفره أكثر من الاستغفار وه وطلب المغفرة ثم إن كان مع الانكسار فهو صحيح وإن كان مع التوبة فهو كامل وإن كان عرياً عنهما فهو باطل ومن كتب سيد الاستغفار وجرعه لمن صعب عليه الموت انطلق لسانه وسهل عليه الموت وقد جرب مراراً وسيد الاستغفار قوله اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 203
تفسير سورة المدثر
مكية وآيها ست وثلاثون
جزء : 10 رقم الصفحة : 222
يا اأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بتشديدين أصله المتدثر وهو لابس الدثار وهو ما يلبس فوق الشعاب الذي يلي الجسد ومنه قولع عليه السلام الأنصار شعار والناس دثار وفيه إشارة إلى أن الولاية كالشعار من حيث تعلقها بالباطن والنبوة كالدثار من حيث تعلقها بالظاهر ولذلك خوطب عليه السلام في مقام الإنذار بالمدثر.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
روى) : عن جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام إنه قال كنتب عى جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني وعن يساري ولم أر شيئاً فنظرت فوقى فإذا به قاعد عى عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت ورجعت إلى خديجة رضي الله عنها فقلت دثروني دثروني وصبوا على ماء بارداً فنزل جبريل وقال يا اأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يعني إنه إنما تدثر بناءً على اقشعرار جلده وارتعاد فرائصه رعبا من الملك النازل من يحث إنه رأى ما لم يره قبل
223(10/172)
ولم يستأنس به بعد فظن به مسامن الجن فخاف على نفسه لذلك وذكر حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقيب الوحي وذلك إن الملك إذا ورد على النبي عليه السلام بعلم أو حكم يلقى ذلك الروح الإنسان وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه وتنقل الروطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق فإذا سرى عنه ذلك سكن المزاج وانقشعت تلك الحرارة ونفتحت تلك المسام وقبل الجسم الهواء من خارج فيتخلل اجسم فيبرد المزاج فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن انتهى.
وقرر بعضهم هذا المقام على غير ما ذكرك ما قال في كشف الأسرار وتفسير الكاشفي جابر بن عبد الله رضي الله عنه نقل مكيند از رسول الله درزمان فترت وحي برهى ميرفتم ناكاه از آسمان آوازي شنيدم شم بالاكردم ديدم همان ملك كه درغار حرا بمن آمده بود بركرسى نسته ميان زمين وآسمان ازسطوت وهيأت وعظمت وهيكل أو خوفي برمن طاري شدبخانه بازكشتم وكفتم مرا بوشانيد جامها برمن وشيدند ومن در انديشه آن حال بودم كه حضرت عزت جل شائه وحي فرستادكه يا أيها المدثر.
وقال السهيل رحمه الله كان عليه السلام متدثراً بثيابه حين فزع من هول الوحي أول نزوله قال دثروني دثروني فقال له ربه يا أيها المدثر ولم يقل يا محمد ولا يا فلان ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في المزمل وفائدة أخرى مشاكلة الآية بما بعدها ووجه المشاكلة بين أول الكلام وبين قوله قم فأنذر خفي إلا بعد التأمل والمرعفة بقوله عليه السلام : إني أنا النذير العريان ومعنى النذير العريان الجاد المشمر وكان النذير من العرب إذا اجتهد جرد ثوبه وأشار به مع الصياح تأكيداً في الإنذار والتحذير وقد قيل أيضاً إن أصل قولهم النذير العريان إن رجلاً من خثعم وهو كجعفر جبل وأهل خثعميون وابن إنما رابو قبيلة من معد كما في القاموس أخذه العدو فقطعوا يده وجردوا ثيابه فأفلت إلى قومه نذيراً لهم وهو عريان فقيل لكل مجتهد في الإنذار والتويف النذير العريان فء5ا ثبت هذا فقد تشاكل الكلام بعضه ببعض فأمر المتدثر بالثياب مضاف إلى معنى النذير العريان ومقابل ومرتبط به لفظاً ومعنى قم} أي من مضجعك يعني خوابكاه {فَأَنذِرْ} الناس جميعاً من عذاب الله إن لم يؤمنوا لأنه عليه السلام مرسل إلى الناس كافة فلم تكن ملة من الملل إلا وقد بلغتها دعوته وقرعها انداره وافرد الإنذار بالذكر مع إنه أرسل بشيراً أيضاً لأن التخلية بالمعجمة قبل التحلية بالمهملة وكان الناس عاصين مستحقين للتخويف فكان أول الأمر هو الإنذار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
يقول الفقير أمده الله القدير بالفيض الكثير خوطبت بقوله {قُمْ فَأَنذِرْ} وأنا متوجه مراقب عند الرأس الشريف في الحرم النبوي فحصل لي اضطراب عظيم وحيرة كبرى من سطوة الخطاب الإلهي وغلبني الارتعاد وظننت إني مأمور بالإنذار الظاهري في ذلك القمام لما أن أكثر الناس كانوا يسيئون الأدب في ذلك الحرم حتى إن بكيت مرة بكاء شديداً من غلبة الغيرة فقبل لي أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصرهم ثم إني عرفت بإلهام من الله تعالى إني رسول نفسي لا غير مأمور بتزكيتها وإصلاح قواها ومن الله الإعانة على ذلك
224
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وخصص ربك بالتكبير وهو صوفه تعالى بالكبرياء اعتقاداً وقولاً وعظمة عما يقول فيه عبدة الأثوان وسائر الظالمين ويروى إنه لما نزل قال رسول الله عليه السلام الله أكبر فكبرت خديجة أيضاً وفرحت وأيقنت إنه الوحي لأن الشيطن لاي أمر بالتكبير ونحوه ودخل فيه تبكير الصلاة وإن لم يكن في أوائل لنبوة صلاة وذلك لأن الصلاة عبارة عن أوضاع وهيئات كلها تعطي التقييد والله منزه عن جميع التعينات فلزم التكبير فيها لأن وجه الله يحاذى وجه العبد حينئذٍ على ما ورد في الخبر الصيح والفاء لمعنى الشرط كأنه قيل ما كان أي أي شيء حدث فلا تدع تكبيره ووصفه بالكبرياء أو للدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يبكر رب وينزهه عن الشكر فإن أول ما يجب معرفة الصانع ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه فالفاء على هذا تعقيبيه لا جزائية.
(10/173)
واعلم أن كبرياءه تعالى ذاتي له قائمبنفسه لا بغيره من المكبرين فهو أكبر من أن يكبره غيره بالتكبير الحادث ولذا قال عليه السلام ليلة المعراج لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فهو المبكر والمثنى لذاته بذاته بتكبير وثناء قديم من الأزل إلى الأبد {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} جميع ثوب من اللباس أي فطهرها مما ليس بطاهر بحفظها وصيانتها عن النجاسات وغسلها بالماء الطاهر بعد تلطخها فإنه قبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبيثاً سواء كان في حال الصلاة أو في غيرها وبتقصيرها أيضاً فإن طولها يؤدي إلى جر الذيول على القاذورات فيكون التطهير كناية عن التقصير لأنه من لوزمه ومعنى التقصير أن تكون إلى إنصاف الساقين أولى الكعب فإنه عليه السلام جعل اية طول لإزار إلى إلى الكعب وتوعد على ما تحته بالنار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
وحضرت مرتضى رضي الله عنه كفت كوتاه كن جامه را.
فإنه أتقى وأنقى وأبقى وهو أول ما أمر به عليه السلام من رفض العادت المذمومة فإن المشركين ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات وفه انتقال من تطهير الباطن إلى تطهير الظاهر لأن الغالب إن من نقى باطنه أبي إلا اجتناب الخبث وإيثار الطارة في كل شيء فإن الدين بنى على النظافة ولا يدخل الجنة إلا نظيف والله يحب الناسك النظيف وفي الحديث غسل الإناء وطهارة الفناء يورثن الغنى وفي المرفوع نظفوا أفواهكم فإنها طرق القرآن قال الراغب الطهارة ضربان طهارة جسم وطهارة نفس وقد حمل عليهما عامة الآيات وقوله : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قيل : معناه نفسك نهما عن المعايب انتهى.
أو طهرقلبك كما في القاموس أو أخلاقك فحسن قاله الحسن وفي الخبر حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مدخل الأبرار أو عملك فأصلح كما في الكواشي ومنه الحديث يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيهما أي علميه الخبيث والطيب كما في عين المعاني وإنه ليبعث في ثيابه أي أعماله كما في القامو أو أهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب والعرب تسمى الأهل ثوباً ولباساً قال تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن.
(كما في كشف الأسرار) : وقال ابن عباس لا تلبسها على معصية ولا على غدار البسها وأنت بر طاهرك ما في فتح الرحمن قال الشاعر :
وإني بحمد الله لا ثوب فاخر
لبست ولا من غدرة
225
أتقنع
وذلك إن الغادر والفاجر يسمى دنس الثيات كما أن أهل الصدق والوفاء يسمى طاهر الثياب.
ودر نفحات ازشيخ أبو الحسن شاذلي قدس سره نقل ميكندكه حضرت رسالت را درخواب ديدم ومرا كفت أي على طهر ثيابك من الدنس تحفظ بمدد الله في كل نفس يعني اكيزه كردان جامهاى خود را از رك تابهره مندكردى بمد وتأييد خداي تعالى درهره نفسي كفتم يا رسول الله ثياب من كدامست فرمودكه برتو حق تعالى نج خلعت وشانيد خلعت محبت وخلعت معرفت ووخلعت توحيدو خلعت ايمن وخلعت اسلام هركه خدا يرا دوست دارد بروى آسان شود هريز وهركه خدا يرابشنا سد در نظروى خردنمايد هريز وهركه خدا يرا به يكانكى بداند بوي شريك نيارد هي يزرا وهركه خداي تعالى را ايمان إرد ايمن كرد داز هريز وهركه باسلام متصف بودخدا يراعاصى نشود واكر عاصي شود اعتذار كندو ون اعتذار كند قبول افتد بفضل الله تعالى س شيخ فرمود ازاينجا داسنتم قول خدا يرا وثيابك فطهر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
درتو وشيد لطف يزداني
خلعتي از صفات روحاني
دراش ازلوث خشم وشهوت دور
تابا كيزكى شوى مشهور
(10/174)
والرجز فاهجر} قرأ عاصم في رواية حفص الرجز بالضم والباقون بكسر الراء ومعناهم واحد وهو الأوثان وقد سبق معنى الهجر في المزمل أي ارفض عبادة الأوثان ولا تقربها كما قال إبراهيم عليه السلام واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ويقال الرجز العذاب أي واهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدي إليه من الماآثم سمى ما يؤدي إلى العذاب رجزاً على تسمية المسبب باسم سببه والمراد الدوام على الهجر لأنه كان بريئاً من عبادة الأوثان ونحوها {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} برفع تستكثر لأنه مستقبل في معنى الحال أي ولا تعط مستكثراً أي رائياً لما تعطيه كثيراً أو طالباً للكثير على إنه نهى عن الاستغرار وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر مما أعطاه وهو جائز ومنه الحديث المستغزر يثاب من هبته أي يعوض منها والغزارة بالغين المعجمة وتقديم ازاي الكثرة فهو إما للتحريم وهو خاص برسول الله صلى الله عليه وسلّم لعلو منصبه في الأخلاق الحسنة ومن ذلك حلت الزكاة لفقرا أمته ولم تحل له ولأهله لشرفه أو للتنزيه للكل أي له ولأمته وقال بعضهم هو من لمنة لأن من يمن بما يعطي يستكثره ويعتد به والمنة تهدم الصنيعة خصوصاً إذا من بعمله على الله بأن يعده كثيراً فإن العمل من الله منة عليه كما قال تعالى : [المدثر : 7]{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} ومن شكر طول عمره بالعبادة لم يقض شكر نعمة الإيجاد فضلاً عما لا يحصى من أنواع الجود ولربك فاصبر} أي فاصبر لحكم ربك ولا تتألم من أذية المشركين فإن المأمور بالتبليغ لا يخلو عن أذى الناس ولكن بالصبر يستحيل المر حلواً وبالتمر يحصل الذوق.
تحمل و زهرت نما يدنخست
ولي شهد كردد ودر طبع رست
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
وقال بعض أهل المعرفة أي جرد صبرك عن ملاحظة الغير في جميع المراتب في الصبر عن المعصية والصبر على الله والصبر في لبلاء كما قال تعالى : [المدثر : 8]{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} .
وقال القاشاني : يا أيها المدثر
226
أي المتلبس بدثار البدن المنجب بصورته قم عما ركنت إليه وتلبست به من أشغال الطبيعة وانتبه من رقدة الغفلة فأنذر نفسك وقواك وجميع من عداك عذاب يوم عظيم وإن كنت تكبر شيئاً وتعظم قدره فخصص ربك بالتعظيم والتكبير لا يعظم في عينك غيره وليصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه وظاهرك فطهره أولاً قبل تطهير باطنك عن مدانس الأخلاق وقبائح الأفعال ومذام العادات ورجز الهيولي المؤدي إلى العذاب ، فاهجر أي جرد باطنك عن اللواحق المادية والهيئات الجسمانية الفاسقة والغواشي الظلمانية والهيولانية ولا تعط المال عند تجردك عنه مستغزراً طالباً للأعواض والثواب الكثير به فإن ذلك احتجاب بالنعمة عن المنعم وقصور همة بل خالصاً لوجه الله أفعل ما تفعل صابراً على الفضيلة له لا لشيء آخر غيره فإذا نقر في الناقور} الناقور بمعنى ما ينقر فيه والمراد الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل مرة للإصعاق وأخرى للإحياء فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت يعني جعل الشءي بحيث يظهر منه الصوت بنوع قرع وامراد هنا النفخ إذ هو نوع ضرب للهواء الخارج من الحلقوم أي فإذا نفخ في الصور والفاء للسببية أي سبية ما بعدها لما قبلها دون العكس فهي بمعنى اللام السببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة إذا هم وتلقى عاقبة صبرك عليه والعامل في إذا ما دل عليه قوله تعالى {فَذَالِكَ يَوْمَـاـاِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَـافِرِينَ} فإن معناه عسر الأمر على الكافرين من جهة العذاب وسوء الحساب وذلك إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ ويومئذٍ بدل منه مبني على الفتح لإضافة إلى غير متمكن وهو إذ والتقدير إذ نقر فيه والخبر يوم عسير وعلى متعلقة بعسير دل عليه قوله تعالى : [المدثر : 10]{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَـافِرِينَ عَسِيرًا} كأنه قيل فيوم النقر يوم عسير عليهم غير يسير} خبر بعد خبر وتأكيد لعسره عليهم لقطع احتمال يسره بوجه دون وجه مشعر تيسره على المؤمنين ثم المراد به يوم النفخة الثانية التي يحيى الناس عندها إذ هي التي يخص عسرها بالكافرين جميعاً وإما النفخة الأولى فهي مختصة بمن كان حياً عند وقوعها وقد جاء في الأخبار إن في الصور ثقبً بعدد الأرواح كلها وإنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسدح ياً بإذن الله تعالى وفي الحديث كيف أنعم وصاحب القرن قد لتقم قرنه ينظر متى يؤمر أن ينفخ فيه فقيل له كيف نصنع قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال القاشاني ينقر في البدن المبعوث فينقش فيه الهيئات السيئة المردية الموجبة للعذاب أو الحسنة المنجية الموجبة للثواب ولا يخفى عسر ذلك اليوم على المحجوبين على أحد وإن خفي يسرة على غيرهم إلا على المحققين من أهل الكشف والعيان
(10/175)
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} حال إما من الياء أي ذرني وحدي معه فإني أكفيكه في لانتقام منه أو من التاء أي خلقته وحدي لم يشكرني في خلقه أحداً أؤمن العائد المحذوف أي ومن خلقته وحيداً فريداً لا مال له ولا ولد نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه بالوحيد زعماً منهم إنه لا نظير
227
له في وجاهته ولا في ماله كان يفتخر بنفسه ويقول أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير لا لأبي المغيرة نظير أيضاً فسماه الله بالوحيد تهكماً به واستهزاء بلقبه كقوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وصرفاً له عن الغرض الذي يؤمونه من مدحه إلى هة ذمه بكونه وحيداً من المال والولد أو وحيداً من أبيه ونسبه لأنه كان زنيماً وهو من ألحق بالقوم ولسي منهم ما مر أو وحيداً في الشرارة والخباثة والدناءة وجعلت له مالاً ممدودا} أي مبسوط أكثيراً وهو ما كان له بين مكة ولطائف من صنوف الأوال وقال النوري كان له ألف ألف دينار {وَبَنِينَ} ودادم اورا سران {شُهُودًا} جمع شاهد مثل قاعد وقعود وشهده كسمعه حضره أي حضوراً معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفار قونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضوراً معه في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم وكان له عشرة بنين أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام وعمارة قاله المفسرون وأطبق المحدثون على أن الوليد بن الوليد أسلم وعمارة قتل كافراً أما يوم بدرأ وفي الحبشة على يد النجاشي قال السهيلي رحمه الله هم هشام بن الوليد والوليد بن الوليد وخالد بن لوليد الذي يقالله سيف الله وإما غير هؤلاء ممن مات منهم على دين الجاهلية فلم نسمه {وَمَهَّدتُّ لَه تَمْهِيدًا} وبسطت له الرياسة واجاه العريض فأتممت عليه النعمة فإن اجتماع المال والجاه هو الكمال عند أه الدنيا ولذا كان يلقب ريحانة قريش واليرحانة نبت طيب الرائحة والولد والرزق.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى الوليد بن مغيرة النفس الوحيدة في الشر والظلم والجور والجهل وكثرة أموال أعماله السيئة الذميمة وثروة أجاس أخلاقه الذميمة وإلى بني أتباعه الخبيثة الخسيسة وبسطة وسلطنته ورياسته ووجاهته عند أرباب النفوس المتمردة عن أوامر الحق ونواهيه المعربدة مع الحق وأهاليه وهم القوى الطبيعية الظلمانية يعني دعني وإياه فإني أسلط عليه أبا بكر الخفي وعمر الروح وعثمان السر وعلى القلب حتى أنهم بأنوار روحانيتهم يطمسون ظلمات نفسانيته ويغيرون على أعماله ويقتلون بني أتباعه وشيعته ويطوون بساط سلطنته ويسدون باب بسطته {ثُمَّ يَطْمَعُ} يرجو {أَنْ أَزِيدَ} على ما أوتيه من المال والولد وثم استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه لا مزيد على ما أوتيه سعة وكثرة يعني إنه أوتى غاية ما أوتى عادة لأمثاله أولاته مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم {كَلا} ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرائه الخائب فيكون متصلاً بما قبله {إِنَّه كَانَ لايَـاتِنَا عَنِيدًا} يقال عند خالف الحق ورده عارفاً بهفهو عنيد وعاند يعني منكر وستيزه كننده.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
والمعاندة المفارقة والمجانبة والمعارضة بالخلاف كالعناد والعنيد هنا بمعنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير بمعنى المجالس والمؤاكل والمعاشر وهو تعليل لما قبلها على وجه الاستئناف التحقيقي فإن معاندة آيات المنعم وهي الآيات القرآنية مع وضوحها وكفران له مع سبوغها مما يوجب حرمانه بالكلية وإنما أوتى ما أوتى استدراجاً وتقديم لآياتنا على متعلقه وهو عنيداً يدل على التخصيص فتخصيص العناد بها مع كونه
228
تاركاً للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران قيل ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك وهو فقير.
آكس كه نصيحت زعزيزان نكند كوش
بسيار بخايد سر انكشت ندامت
(10/176)
{سَأُرْهِقُه صَعُودًا} قال الراغب : رهقه الأمر غشيه بقهر يقال رهقته وأرهقته مثل رفته وأردفته وتبعته واتبعته ومنه أرهقت الصلاة أي أخرتها حتى غشى وقت الأخرى والصعود العقبة الشاقة ويستعار لكل مشاق وهو مفعول ثان لأرحق وفي بعض التفاسير صعوداً إما فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث مثل عقبة كؤود فيكون من قبيل تسمية المحل باسم الحال أو بمعنى مفعول من صعده وهو الظاهر فيكون تذكيره إما باعتبار كون موصوفه طريقاً أو باتباع مثل كؤود والمعنى سأكلفه كرهاً بدل ما يطمعه من الزيادة ارتقاء عقبه شاقة المصعد على حذف المضاف بحيث تغشاه شدة ومشقة من جميع الجوانب على أن يكون الإرهاق تكليف الشيء العظيم المشقة بحيث تغشى المكلف شدته ومشقته من جميع الجوانب وقال الغزالي رحمه الله حالة تصعد فيها نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت انتهى.
وهو مثال لما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يطاق ويجوز أن يحمل على حقيقته كما قال عليه السلام الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى كذا أبداً.
يعني بر بالاي آن نتوان رفت اورادر زنجير هاي آتشين كشيده ازيش مى كشند واز عقب كرزهاي آتشين كشيده از س مى كشند واز عقب كرزهاي آتشين ميزنند تابر آنجا ميروددر هفتا دسال وبازكشتن وزير افتادن أو همنين است.
قوله سبعين خريفاً أي سبعين عاماً لأن الخريف آخر السنة فيه تتم الثمار وتدرك فصار بذلك كأنه العام كله وهذا كما تسمى العلة الصورية علة تامة لذلك قال في "القاموس" الخريف كأمير ثلاثة أشهربين القيظ والشتاء تخترف فيا الثمار أي تجتنى وعنه عليه السلام يكلف أن يصعد عقبه في لنار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت {إِنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَ} تعليل للوعيد واستحقاقه له من التفكير بمعنى التفكر والتأمل كما قال في تاج المصادر التفكير انديشه كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
والتقدير اندازه وتهيئه كردن.
أي فكر ماذا يقول ي حق القرآن وشأنه من جهة الطعن وقدر في نفسه ما يقوله وهياء {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تعجيب من تقديره وإصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش قاتلهم الله أو ثناء عليه بطريق الاستهزاء به على معنى إن هذا لذي ذكره وهو كون القرآن سحراً في غاية الركاكة والسقوط أو حكاية لما ذكروه من قولهم قتل كيف قدر تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعاظمهم لقوله ومعنى قولهم قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ماأشعره الأشعار بأنه قد بلغ من الشجاعة والشعر مبلغاً حقيقاً بأن يدعو عليه حاسده بذلك وقد سبق في قاتلهم الله في المنافقين مزيد البيان.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص229 حتى ص240 رقم24
(روى) : إن الوليد مر بالنبي عليه السلام وهو يقر أحم السجدة وفي بعض التفاسير فواتح سورة حم المؤمن فقال لبني مخزوم والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة أي حسناً وبهجة وقبولاً وإن أعلاه لمثمر وإن
229
اسفله لمغدق أي كثير الماء شبه القرآن بالشجرة الغضة الطرية التي استحكم أصلها بكثرة الماء وأثمرت فروعها في السماء وأثبت له أعلى وأسفل ولأعلاه الأثمار ولأسفله الأغداق على طريق الخييل.
(قال الكاشفي) : مراورا حلاوتي وعذوبتي هست كه هي سخن رانباشد وبروى طر أوتى وتازكي هست كه هي حديثي رانبود أعلاي آن نهال مثمر سعادات كليه وأسفل اين شجره طيبه عروق فضائل وحكم عليه است.
ثم قال الوليد وإنه يعلو ولا يعلى فقالت قريش صبأ والله الوليد أي مال عن دينه وخرج إلى ين غيره والله لتصبأن قريش كلهم أي بمتابته لكونه رئيس القوم فقال ابن أخيه أبو جهل أنا أكفيكموه فقعد عنده حزيناً وكلمه ما أحماه أي أغضبه.
يعني كفت كه قريش ميكويند توسخنان محمداً عليه السلام سند ميدهى وآنرا بزرك ميدارى وثنا ميكويى تا از فضله طعام ايشان بهره بردارى اكرنين است تاهمه قريش فراهم شوند وترا كفايتي حاصل كنندتا ازطعام ايشان بي نياز شوى وليد اين سخن از أبو جهل بشنيد درخشم شد كفت الم تعلم قريش أني من أكثرهم ما لا وولد واين أصحاب محمد خود هركز ازطعام سير نشوند واز فقر وفاقه نياسا ينده صورت بنددكه ايشانرا فضله طعام بودتابديكرى دهند س هردوبر خاستتد وبرا انجمن قريش شادند وليد كفت شماكه قريش ايدبدانيدكه حال وكار اين محمد در عرب منتشر كشت وموسم حج نزديكست كه عرب مى آيند وازحال وى رسند جواب ايشان ه خواهيداد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/177)
تزعمون إنه مجنون فهل رأيتموه يخنق لأن العرب كانت تعتقد أن الشيطان ويخنق المجنون ويتخبطه وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن وتزعمون إنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط وتزعمون إنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذاب فقالوا في كل ذلك اللهم لا ثم قالوا فما هو وما تقول في حقه ففكر فقال ما هو الاسا حر أمار أيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولد ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن أهل بابل فارتج النادي فرحاً وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه راضين به {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكرير للتعجب للمبالغة في التشنيع وثم للدلالة على أن النكرة الثانية في التعجيب أبلغ من الأولى أي للتراخي بحسب الرتبة وإن اللائق في شأنه ليس إلا هذا القول دعاء عليه وفيما بعد على أصلها من الترخي الزماني {ثُمَّ نَظَرَ} أي في القرآن مرة بعد مرة وتأمل فيه {ثُمَّ عَبَسَ} فقلت وجه يعني روى فاهم كشيد وترش كرفت.
لا لم يجد فيه مطعناً ولم يدر ماذا يقول {وَبَسَرَ} اتباع لعبس قال سعدي المفتي لكن عطف الاتباع على المتبوع غير معروف والظاهر أن كلا منهما له معنى مغاير لمعنى الآخر فعبس بمعنى قطب وجهه وبسر بمعنى قبض مابين عينيه من السوء وأسود وجهه منه ذكره الحلبي والعدة عليه وقال الراغب البسر الاستعجال بالشءي قبل أوانه نحو ابسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها وقوله ثم عبس وبسر اي أظهر العبوس قبل أوانه نحو أبسر ارجل حاجته طلبها في غير أوانها وقوله ثم عبس وبسر أي أظهر العبوس قبل أوانه وفي غير وقته انتهى.
{ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الحق {وَاسْتَكْبَرَ} عن أتباعه {فَقَالَ} عقيب توليه عن الحق {أَنْ} نافية بمعنى ما لذا أورد إلا بعدها {هَـاذَآ} الذي يقوله محمد عليه السلام ، أي القرآن
230
{إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يروى ويتعلم من الغير وليس هو من سحره بنفسه يقال أثرت الحديث آثهر أثراً إذا حدثت به عن قوم في آثارهم أي عد ما ماتوا هذا هو الأصل ثم كان بمعنى الرواية عمن كان وحديث مأثور أي منقول ينقله خلف عن سلف وأدعية مأثورة أي مروية عن الأكابر وفي تعلم لسحر لحكمة رخصة واعتقاد حقيته والعمل به كفر كما قيل : (عرفت الشر لا للشر لكني لتوقيه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه) وقد سبق معناه وما يتعلق به في مواضعه {إِنْ هَـاذَآ} ما هذا {إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} تأكيد لما قبله ولذا أخرى عن العاطف قاله تمرداً وعناداً لا على سبيل الاعتقاد لما روى قبل إنه أقر بأن القرآن ليس من كلام الأنس والجن وأراد بالبشر يساراً وجبراً وأبا فكيهة أما الأولان فكانا عبدين من بلاد فارس وكانا بمكة وكان النبي عليه السلام يجلس عندهما وأما أبو فكيهة فكان غلاماً رومياً يتردد إلى مكة من طرف مسيلمة الكذاب في اليمامة {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي أدخله جهنم لما قال في الصحاح سقر اسم من أسماء النار وقال ابن عباس رضي الله عنهما اسم للطبقة السادسة من جهنم يقال سقرته الشمس إذا آذته وآلمته وسميت سقر لا يلامها قوله سأصليه سقر بدل من سأرهقه صعود أبدل الاشتمال سواء جعل مثلاً لما يلقى من الشدائد أو اسم جبل من نار لأن سقر تشتمل على كل منهما {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا سَقَرُ} ما الأولى مبتدأ وإدراك خبره وما الثانية خبر لقوله سقر لأنها المفيدة لما قصد إفدته من التهويل والتفظيع دون العكس كما سبق في الحاقة والمعنى أي شيء أعلمك ما سقر في وصفها يعني إنه خارج عن دائرة إدراك العقول ففيه تعظيم لشأنه {لا تُبْقِى وَلا تَذَرُ} بيان لوصفها وحالها وانجاز للوعد الضمني الذي يلوح به وما أدراك ما سقرأى لا تبقى شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته بالإحراق وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد خلقاً جديداً وتهلكه أهلاكاً ثانياً وهكذا كما قال تعالى : {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} أو لا تبقى على شيء أي لا تترحم عليه ولا تدعه من الهلاك بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة لأنها خلقت من غضب الجبار قال في تهذيب المصادر الإبقاء باقي كردن ونيز شفقت بردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/178)
وقيل : لا تبقى حياً ولا نذر ميتاً كقوله تعالى : ثم لا يموت فيها ولا يحيى لواحة للبشر} يقال لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته ولاحه السفر أو العطش أي غيره وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة فإذا أحرق أسود والبشر جمع بشرة وهي ظاهر جلد أي إنسان أي مغيرة لأعلى الجلد وظواهره مسودة لها قيل تلفح الجلد لفسحة فتدعه أشد سوداً من الليل فإن قلت لا يمكن وصفها بتسويد البشرة مع قوله لا تبقى ولا تذر قلت لسي في الآية دلالة على إنها تفنى بالكلية مع إنه يجوز أن يكون الإفناء بعد التسويد ويل لائحة للناس على أن لواحة اسم فاعل من لاح يلوح أي ظهر وأن البشر بمعنى الناس قيل إنها تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام فهو كقوله تعالى : [المدثر : 30]{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} فيصل إلى الكافر سمومها وحرورها كما يصل إلى المؤمن ريح الجنة ونسيمها من مسيرة خمسمائة عام عليها} أي على سقر {تِسْعَةَ عَشَرَ} أي مكاً يتولون أمرها ويتسلطون على أهلها وهم مالك وثمانية عشر معه أعينهم كالبرق
231
الخاطف وأنيابهم كالصياصي وإشعارهم تمس أقدامهم بخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سينة نزعت منهم الرأفة والرحمة يأخذ أحدهم سبعين ألفاً في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم قيل هذه التسعة عشر عد الرؤساء والنقباء وآما جملة أشخاصهم فكما قال تعالى وما يلعم جنود ربك إلا هو فيجو أن يكون لكل واحد منهم أعوان لا تعد ولا تحصى ذكر أرباب المعاني والمعرفة في تقدير هذا العدد وتخصيصه وجوهاً (منها أن سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية فالقوى الحيوانية هي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والشهوة والغضب ومجموعها اثنتا عشرة وإما القوى الطبيعية فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة فالمجموع تسع عشر قال ابن الشيخ والمراد بالقوى الحيونية القوى التي تختص بالحيوان من بين المواليد الثلاثة الحيوان والنبات ولمعدن وهي قسمان مدركة وفاعلة فالماركة أي ما لها مدخل في الإدراك بالمشاهدة والحفظ عشر وهي الحواس لخمس الظاهرة والخمس الباطنة والفاعلة أي ما لها مدخل في الفعل إما باعثة أو محركة وهما اثنتان الشهوة والغصب والقوى الطبيعية هي القوى التي لا تختص بالحيوان بل توجد في النبات أيضاً وهي سبع ثلاث منها مخدومة وهي الغاذية والنامية والمولدة وأربع منها خوادم وهي الجاذبة والهاضمة والماسكة والدافعة فلما كان منشأ الآفات هو هذه القوى لتسع عشرة كان عدد الزبانية هكذا قال سعدي امفتي وأنت خبير بأن إثبت هذه القوى بناؤه على الأصول الفلسفية ونقى الفاعل المختار فيصان تفسير كلام الله عن أمثاله أي وإن ذكرها الامام في التفسير الكبير وتبعه من بعده وقال أيضاً والحق أن يحال علمه إلى الله تعالى فالعقول البشرية قاصرة عن إدراك أمثاله انتهى ويرده ما قال الامام السهيلي في الأمالي أن النكتة التي من أجلها كانوا تسعة عشر عدداً ولم يكونوا أكثر وأقل فلعمري إن في الكتاب والسنة لدليلاً عليها وإشارة إليها ولكنها كالسر المكنون والناس أسرع شيء إلى إنكار ما لم يألفوه وتزييف ما لم يعرفوه ولا يؤمن في شنرها وذكرها سوء التأويل لقصور أكثر الإفهام عن الوعي والتحصيل مع قلة الإنصاف في هذا الجبل انتهى.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
ومنها أن أبواب جهنم سبعة سنة) منها للكفار وواحد للفساق ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة ترك الاتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأباب الستة ثلاثة فالمجموع ثمانية عشر وإما باب الفساق فليس هناك إلا ترك العمل فالمجموع تسعة عشر.
(ومنها إن الساعات أربع وعشرون خمس) منها مشغولة بالصلوات الخمس فيبقى منها تسع عشرة مشغولة بغير العبادة مصروفة إلى ما يؤاخذ به بأنواع العذاب يعني إنه لم يخلق في مقابلة الخمس التي جعلت مواقيت الصلاة زبانية تكريماً لها فلا يلزم الاختصاص بالمصلين من عصاة المؤمنين كما في حواشي سعدى المفتي فلا جرم صار عد الزبانية تسعة عشر ومنها إنه تعالى حفظ جهم بما حفظ به الأرض من الجبال وهي مائة وتسعون أصلها تسعة.
(ومنها إن المدبرت للعالم النجوم السيارة وهي سبعة والبروج الاثنا عشر الموكلة بتدبير العالم السفلى المؤثرة فيه تقمعهم بسياط التأثير وترديهم في مهاويها) ومنها ما قال السجاوندي في عين
232
المعاني قد تكلموا في حكمة العدد على أنه لا تطلب للأعداد العلل فإن التسعة أكثر الآحاد والعشرة أقل العشرات فقد جمع بين أكثر القليل وأقل الكثير يعني إن التسعة شعر عدد جامع بينهما فلهذا كانت الزبانية على هذا العدد.
(10/179)
(ومنها ما قال في كشف الأرار أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم) تسعة عشر حرفاً وعدد الزبانية تسعة عشر ملكاً فيدفع المؤمن بكل حرف منها واحداف منهم وقد سبقت رحمته غضبه ومنها ما لاح لهذا الفقير قبل الإطلاع على ما في كشف الأسرار وهو أن عدد حروف البسملة عشر (كما قال المولى الجامي) :
نوزده حر فست كه هده هزار
عالم ازو يافته فيض عميم
ولما كانت البسملة آية الرحمة والكفار والفساق لم يقبله هذه الآية حيث سلكوا سبيل الكفر والمعاصي خلق الله في مقابلة كل حرف منها ملكاً من الغب الجلال وجعله آية الغضب كما جعل خازن الجنة آية الرحمة دل على ما قلنا قوله عليه السلام يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً وهو أكبر الحيات بالفارسية ادر.
في فمه أنياب مثل اسنة الرماح وهو طويل كالنخلة السحوق أحمر العينين مثل الدم واسع الفم والجوف يبتلع الإنسان والحيوان وسره إه كفر بالله وبأسمائه الحسنى التي هي تسعة وتسعون فاستحق أن يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا بعددها في قبره اذي هو حفرة من حفر الينران فلا يلزم أن يسلط عليه ذلك العدد في النار فالتسع عدد القهر والحصر والانقراض لأنه ينقرض عن أهل النار امداد الرحمة الرحيمية.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
ومنها ما في التأويلات النجمية : من أن اختلال النفوس البشرية بحسب العمل والعلم والدخول في جهنم البعد والطرد واللعن والحجاب والاحتجاب) مترتب على موجباتها وهي تسعة غير الحواس الخمس الطاهرة والخمس الباطنة وهي الأعضا والجوراح السبع التي ورد بها الحديث بقوله عليه السلام أمرت أن أسجد عى سبعة أعضاء وآراب والطبيعة البرية المشتملة على الكل المؤثرة في الكل بحسب الظاهر والباطن ويجوز أن تكون القوة الغضبية والشهوية بدل الطبيعة فصرا الكل تسعة عشر {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ} أي المدبرين لأمرها القائمين بتعذيب أهلها فأصحاب النار هنا غير أصحاب النار في قوله تعالى : {لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} وفي كشف الأسرار وما جعلنا خزنة أصحاب النار فخذف المضاف انتهى.
وفيه بعد لأنهم خزنة النار لا خزنة أصحابها إلا ملائكة} ليخالفوا جنس المعذبين من الثقلين فلا يرقوا لهم ولا يميلوا إليهم فإن المجانسة مظنة الرأفة فلذا بعث الرسول من جنسنا ليرحم بنا ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله وبالغضب له تعالى وأشدهم بأساً وعن النبي عليه السلام لقوة أحدهم مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار ويرمى بالجبل عليهم ويروى إنه لما نزل قوله تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش أيعجز كل عشرة مكم أن يبطشوا برجل منهم فقال أبو الأسود ابن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش والقوة حتى كان من قوته إنه إذا قام على أديم واجتمع جماعة على إزالة رجلية عنه لم يقدروا عليه فكانوا يشدون الأديم حتى يتقطع قطعاً ورجلاه على حالهما أنا أكفيكم سبعة عشر منهم فاكفوني أنتم
233
اثنين فنزلت أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون فمن ذا الذي يغب الملائكة والواحد منهم يأخذ أرواح جميع الخلق وللواحد منهم من القوة ما يقلب الأرض فيجعل عاليها سافلها.
وتمام آدميان طاقت دياريك فرشته تدارند تا بمقاومت كجا بسر آيند وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} أي وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي تسبب لافتتانهم ووقوعهم في الكفر وهو التسعة عشر فعبر بالأثر عن المؤثر أي بالفتنة عن العدد المخصوص تنبيهاً على التلازم بينهما وحمل الكلام على هذا لأن جعل من دواخل المبتدأ والخبر فوجب حمل مفعوله الثاني على الأول ولا يصح حمل افتتان الكفار على عدد الزبانية إلا بالتوجيه المذكور فإن عدتهم سبب للفتنة لا فتنة نفسها ثم ليس المراد مجرد جعل عددهم ذلك العدد المعين في نفس الأمر بل جعله في القرآن أيضاً كذلك وهو الحكم بأن عليها تسعة عشر إذ بذلك يتحقق افتتانهم باستقلالهم له واستبعادهم لتولى هذا العدد القليل أمر الجم الغفير واستهزائهم به حسبما ذكر وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب وازدياد المؤمنين إيماناً {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} متعلق بالجعل على المعنى المذكور والسين للطلب أي ليكتسبوا اليقين بنبوته عليه السلام وصدق القرآن لما شاهدوا ما فيه موافقاً لما في كتابهم وفي عين المعاني سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن خزنة النار وعددهم فأجاب عليه السلام بأنهم تسعة عشر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/180)
يعني دوباربا صابع يدين اشارت فرمود ودر كرت دوم ابهام يمنى را امساك فرمود {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَـانًا} أي بزداد إيمانهم كيفية بما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم إنه كذلك أو كمية بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما انزل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان فإن نفي ضد الشيء بعد إثبات وقوعه أبلغ في الإثبات ونفي لما قد يعترى المستيقني والمؤمن من شبهة ما فيحصل له يقين جازم بحيث لا شك بعده وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمن وكم بينهما والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك أو نفاق فإن كلا منهما من الأمراض الباطنة فيكون أحباراً بما سيكون في المدية بعد الهجرة إذا النفاق إنما حدث بالمدينة وكان أهل مكة إما مؤمناً حقاً وإما مكذباً وإما شاكاً {وَالْكَـافِرُونَ} المصرون على التكذيب فإن قلت كيف يجوز أن يكون قولهم هذا مقصود الله تعالى قلت اللام ليست على حقيقتها بل للعاقبة فلا أشكال {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا} تمييز لهذا أو حال منه بمعنى ممثلاً به كقوله هذه ناقة الله لكم آية أي أي شيء أراد بهذا العد المستغرب استعراب المثل فإطلاق المثل على هذا العدد على سبيل الاستعارة حيث شبهوه بالمثل المضروب وهو القول السائر في الغرابة حيث لم يكن عقداً تاماً كعشرين أو ثلاثين والاستفهام لإنكار أنه من عند
234
الله بناء على أنه لو كان من عنده لما جاء ناقصاً وأفراد قولهم هذا بالتعليل مع كونه من باب فتنتهم للاشعار باستقلاله في الشناعة {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ} ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الضلال أي يضل الله من يشاء إضلاله كأبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم وعددهم إضلالاً كائناً مثل ما ذكر من الإضلال لا إضلالاً أنى منه لصرف اختياره إلى جنب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق وأصله أن الله لا يضل إلا بحسب الضلالة الأزلية لأن الضلال وصرف الاختيار إلى جانبه كل منهما من مقتضى عينه الثابتة
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
{وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} هدايته كأصحاب محمد عليه السلام هدايته كائنة مثل ما ذكر من الهداية لا هداية أدنى منها لصرف اختياره عند مشاهدة تلك الآيات إلى جانب الهدى وحقيقته إن الله لا يهي إلا بموجب الهداية الأزلية إذ الاهتداء وصرف الاختيار إلى جانبه كل منهما من أحواله الأزلية فلا يجوز خلافه في عالم العين في الأبد {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} أي جموع خلقه التي من جملتها الملائكة المذكورون والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر وكلم جتمع وكل صنف من الخلق على حدة وفي الحديث إن الله جنوداً منها العسل {إِلا هُوَ} لفرط كثرتها وفي حديث موسى عليه السلام إنه سأل ربه عن عدد أهل السماء فقال تعالى اثنا عشر سبطاً عدد كل سبط عدد لتراب وفي "الأسرار المحمدية" ، ليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله والدليل على ذلك أمر النبي عليه السلام بالتستر في الخلوة وإن لا يجامع الرجل امرأته عريانين وفيه إشارة إلى أن الله في اختيار عدد الزبانية حكمة وإلا فجنوده خارجة عن دائرة العد والضبط قال القاشاني : وما يعلم عدد الجنود وكميتها وكيفيتها وحقيقتها إلا هو لإحاطة علمه بالماهيات وأحوالها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/181)
وفي التأويلات النجمية : إلا هويتة الجامعة لجميع جنود التعينات الغير المتناهية بحسب الأسماء الجزئية والجزئيات الأسماء قال بعض العارفين خلقت الملائكة على مراتب فأرواح ليس لهم عقل إلا تعظيم جناب الله وليس لهم وجه مصروف إلى العالم ولا إلى نفوسهم قد هيمهم جلال الله واختطفهم عنهم فهم فيه حيارى سكارى وأرواح مدبرة أجساماً طبيعية أرضية وهي أرواح إلا ناسي وأرواح الحيوانات من جمس عنصري طبيعي وهذه الأرواح المدبرة لهذه الأجسام مقصورة عليها مسخر بعضها لبعض كما قال تعالى : {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} وأرواح آخر مسخرات لمصالحنا وهم على طبقات كثيرة فمنهم الموكل بالوحي ومنهم لموكل بالإلقاء ومنهم الموكل بالأرزاق ومنهم الموكل بقبض الأرواح ومنهم الموكل بإحياء الموتى ومنهم الموكل بالاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم ومنهم الموكل بالغراسات في الجنة جزاء لأعمال العباد ومنهم غير ذلك وإما مراتبهم وتفاوتهم ففيهم الأكبر والكبير فجبريل أكبر من عزرائيل وميكائيل أكبر من جبريل وإسرافيل أكبر من ميكائيل وقال بعضهم : هذه الجنود ليست معدة للمحاربة بل هي لترتيب المملكة الظاهرة للعالم الأعلى والأسفل ، لأنه إذا كان ما في السموات وما في الأرض جنوده فلمن يقاتلون فما بقي إلا أن المراد بهم جنود التسخير إذ العالم كله مسخر بعضه لبعض وجمع الملائكة
235
مسخرون لنا بأسرهم تحتى أيدي الأثني عشر ملكاً الذين ولاهم الله على عالم الخلق ومقرهم في الفلك الأقصى كل وال في برج كأبراج سور المدينة الس على تخت وقد رفع الله الحجاب بين هؤلاء الولاة وبين اللوح المحفوظ فرأوا فيه مسطراً أسماءهم ومراتبهم وما شاء الله أن يجريه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة فارتقم ذلك كله في نفوسهم وعلوه علماً محفوظاً لا يتبدل ولا يتغير كما علمنا نحن أسماءهم وأحوالهم من مقابلة قلوبنا للوح المحفوظ ثم إن الله جعل لكل واحد من هؤلاء الولاة حاجبين ينفذ إن أوامرهم إلى نوابهم وجعل بين كل حاجبين سفيراً يمشي بينهما بما يلقى إليه كل واحد منهما وعين الله لهؤلاء الذين جعلهم حجاباً لهؤلاء الولاة في الفلك الثاني منازل يسكنونها وأنزلهم إليها وهي الثماني والعشرون منزلة التي تسمى المنازل لتي ذكرها الله بقوله والقمر قدرناه منازل يعني في سيرة ينزل كل يوم منزلة منها إلى أن ينتهي إلى آخرها ثم يدور دورة أخرى ليعلموا بسيرة وسير الشمس والخنس عدد السنين والحساب وكل شيء فصله الحق لنا تفصيلاً فأسكن في هذه المنازل هذه الملائكة وهم حجاب أولئك الولاة الذين في الفلك ثم إن الله أمر هؤلاء أن يجعلوا لهم نواباً ونقباء في السموات السبع في كل سماء نقيباًك ما لحجاب لهم لينظروا في مصالح العالم العنصري بما يلقيه إليهم هؤلاء الولاة ويأمرونهم به وهو قوله تعالى وأوحى في كل سماء أمرها فجعل الله أجسام هذه الكواكب النقباء أجساماً نيرة مستديرة ونفخ فيها أرواحهم وأنزلها في السموات السبع في كل سماء واحد منهم وقال لهم قد جعلتكم تستخرجون ما عند هؤلاء لأثنى عشر والياً بواسطة الحجاب الثمانية والعشرين كما يأخذ أولئك الولاة عن اللوح المحفوظ ثم جعل الله لكل نقيب من هؤلاء السبعة النقباء فلكاً يسبح فيه هو له كالجواد للراكب وهكذا الحجاب لهم أفلاك يسجون فيها إذ كان لهم التصرف في حوادث العالم والاستشراف عليه ولهم سدنة وأعولمن يزيدون على الألف إعطاهم الله مراكب سماها أفلاكاً فهم أيضاً يسجون فيها وهي تدور بهم على المملكة في كل يوم مرة فلا يفوتهم شي من المملكة أصلاً من ملك السموات والأرض فتدور الولاة وهؤلاء الحجاب والنقباء والسدنة كلهم في خدمة هؤلاء الولاة والكل مسخرون في حقنا إذ كنا نحن المقصود الأعظم من العالم كله قال تعالى : وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه وسبب دوران الأفلاك علينا كل يوم دورة إنما هو لينظر هؤلاء الولاة فيم تدعو حاجة الخلق إليه من الأمور فيسدوا خللهم وينفذوا أحكام الله فيهم من كونه مريداً في خلقه لا من كونه آمراً إليه فينفذون الأقدار فيهم في أزمان مختلفة وكما جعل الله زمم هذه الأمور بأيدي هؤلاء الجماعة من الملائكة واقعد منهم من اقعد في برجه ومسكنه الذي فيه تخت ملكه وانزل من أنزل من الحجاب والنقباء إلى منازلهم في سمواتهم كذلك جعل في كل سماء ملاكئة مسخرة وجعلهم على طبقت فمنهم ل العروج بالليل والنهار من الحق إليا ومنا إلى الحق في كل صباح ومساء ولا يقولون الأخير في حقنا ومنهم المستغفرون لمن في الأرض ومنهم المستغفرون للمؤمنين لغلبة الغيرة الإهية عليهم كما غلبت الرحمة على
236
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/182)
المستغفرين لمن في الأرض ومنهم الموكلون بإيصال الشرائع ومنهم الموكلون بالممات ومنهم الموكلون بالإلهام وهم الموصولون العلوم إلى القلوب ومنهم الموكلون بالأرحام بتصوير ما يكونفي الأرحام ومنهم الموكلون بنفخ الأرواح ومنهم الملائكة التسعة عشر الموكلون بالفشاعة لمن دخل النار ومنهم الموكلون بالأرزا ومنهم الموكلون بالأمطار ومنهم الصافات والزاجرات والتاليات والمقسمات والمرسلات والناشرات والنازعات والناشطات والسابقات والساحات والملقيات والمدبرات ولذلك قالوا وما منا إلا له مقام معلوم فما من حادث بحدثه الله في العالم إلا وقد وكل الله بإجرائه الملائكة ولكن بأمر هؤلاء الولاة من الملائكة فلا يزالون تحت سلطانهم إذ هم خصائص الله ثم إن العامة ما تشهد من هؤلاء الملائكة إلا منازلهم التي هي أجرام الكواكب ولا تشهد أعيان الحجاب ولا النقباء وأما أهل الكشف فيشهدونهم في منازلهم عياناً.
ثم اعلم أن الله قد جعل في هذا العالم العنصري خلقاً من جنسهم ولاة عليهم نظير العالم العلوي فمنهم الرسل والخلفاء والسلاطين والملوك وولاة أمور جميع العالم من القضاة وأضرابهم ثم جعل بين أرواح هؤلاء الولاة الذين هم في الأرض والولاة الذين هم في السموات مناسبات ودقائق تمتد إليهم بلعدل مطهرة من الشوائب مقدسمة عن العيوب فيقبل هؤلاء الولاة الأرضيون منهم بحسب استعداتدهم فمن كان استعداده حسناً قوياً قبل ذلك الأمر على صورته طاهراً مطهراً فكان والي عدل وإمام فضل ومن كان استعداده رديئاً قبل ذلك الأمر الطاهر ورده إلى شكله من الرداءة والقبح والجور فكان وإلى جور ونائب ظلم وبخل فلا يلومن إلا نفسه فهذه أمهات مراتب حكام العالم أصحاب المراتب على سبيل الإجمال وإما لرعية فلا يحصى عددهم إلا الله ولله تعالى في الأرض ملائكة لا يصعدون إلى السماء أبداً وملائكة في السماء لا ينزلون إلى الأرض أبداً كل قد علم صلاته وتسبيحه بإلهام من الله تعالى كذا في كتاب الجواهر للامام الشعراني رحمه الله وما هي} أي سقر وذكر صفتها {إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} إلا تذكرة وعظة وإنذار لهم بسوء عاقبة الكفر والضلال وتخصيص الأنس مع أنها تذكرة للجن أيضاً لأنهم هم الأصل في القصد بالتذكرة أو وما عدة الخزنة إلا تذكرة لهم ليتذكروا ويعلموا أن الله قادر على أن يعذب الكثير الغير المحصور من كفار الثقلين وعصاتهم بهذا العدد بل هو لا يحتاج في ذلك إلى أعوان وأنصار أصلاً فإنه لو قلب شعرة واحدة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عرق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة وإنما عين العدد وخلق الجنود لحكمة لا لاحتياج ويجوز أن يعود الضمير إلى الآيات الناطقة بأحوال سقر فإنها تذكرة لاشتمالها على الإنذار {كَلا} ردع لمن أنكر سقر أي رتدع عن أنكارها فإنها حق أو إنكار ونفي لأن تكون لهم تذكرة فإن كونها ذكرى للبشرى لا ينفي بعضهم لا يتذكرون بل يعرضون عنها بسوء اختيارهم ألا يرى إلى قوله تعالى : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} مقسم به مجرور بواو القسم يعني وسوكند بماه كه معرفت أوقات وآجال بوى باز بسته است.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
وفي "فتح الرحمن" تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرته في حركاته
237
المختلفة التيهي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يختل وقال أبو الليث وخالق القمر يعني الهلال بعد ثالثه {وَالَّيْلِ} معطوف على القمر وكذا الصبح يعني وبحرمه شب {إِذْ} بسكون الذال وهو ظرف لما مضى من الزمان {أَدْبَرَ} على وزن أفعل أي انصرف وذهب فإن الأدبار نقيض الإقبال {وَالصُّبْحِ} قال في "القاموس" الصبح الفجر أو أول النهار والجمع أصباح وفي "المفردات" الصبح والصباح أول النهار وهو وقت ما احمر الأفق بحاجب الشمس {إِذَآ} ظرف لما يتسقبل من الزمان واتفقوا على إذا ههنا نظراً إلى تأخره عن الليل من وجه {أَسْفَرَ} أي ضاء وانكشف فإن الأسفار بالفارسية روشن شدن.
(10/183)
قال الراغبي : اللسفر كشف الغطاء ويختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه والأسفار يختص باللون نحو والصبح إذا أسفر أي أشرق لونه ووجهه وأسفروا بالفجر تؤجروا من قولهم اسفرت أي دخلت فيه نحو أصبحت وفي قوت القلوب الفجر الثاني هو انشقاق شفق الشمس وهو بريق بياضها الذي تحت الحمرة وهو الشفق الثاني على ضد غروبها لأن شفقها الأول من الشعءا هو الحمرة بعد الغروب وبعد الحمرة البياض وهو الشفق الثني من أول الليل وهو آخر سلطان شعاع الشمس وبعد اليبضا سواد الليل وغسقه ثم ينقلب ذلك على الضد فيكون بده طلوعها الشفق الأول وهو البياض وبعده الحمرة وهو شفقها الثاني وهو أول سلطانها من آخر الليل وبعده طلوع قرص الشمس فالفجر هو انفجار شعاع الشمس من الفلك الأسفل إذا ظهرت على وجه أرض الدنيا يستر عينها الجبال والبحار والأقاليم المشرفة العالية ويظهر شعاعها منتشراً إلى وسط الدنيا عرضاً مستطيراً انتهى.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
قال الكاشفي) : اقسم بالقمر أي بالقلب المستعد الصافي القابل للإنذار المتعظ به المنتفع بتذكره تعظيماً وبليل ظلمه النفس إذ أد بري أي ذهب بانقشاع ظلمتها عن القلب بإشراق نورا لروح عليه وتلالي طوالعه وبصبح طلوع ذلك إذا أسفر فزالت الظلمة بكليتها وتنور القلب انتهى.
فظهر من هذا حسن موقع ذكر القمر والليل والصبح في مقام ذكر سقر ودواهيها لأن سقر إشارة إلى الطبيعة وجهنم النفس {إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ} جواب للقسم والكبر جمع الكبرى جعت الف التأنيث كتائه وألحقت بها فكما جمعت فعلة على فعل كركبة وركب جمعت فعلى عليها وإلا ففعلى لا تجمع على فعل بل على فعالى كحبلى وحبالى والمعنى إن سقر لإحدى البلايا أو لإحدى الدواهي الكبر الكثيرة وهي أي سقر واحدة في العظم لا نظيرة لها كقولك إنه أحد الرجال هذا إذا كان منكر السقر وإن كان منكراً لعدة الخزنة فالمعنى إنها من إحدى الحجج أكبر نذيراً من قدرة الله على قهر العصاة من لدن آدم عليه السلام ، إلى قيام الساعة من الجن والأنس حيث استعمل على تعذيبهم هذا العدد القليل وإن كان منكر الآيات فالمعنى إنها لإحدى الآيات الكبرى {نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ} نمييز من نسبة إحدى الكبر إلى اسم أن لأن معناه إنها من معظمات الدواهي التي خلقها الله للتعذيب فيصح أن ينتصب منه التمييز كما تقول هي إحدى النساء عفافاً والنذير مصدر كالنكير والمعنى لإحدى الكبر إنذاراً أي من جهة الإنذار أول مما دلت
238
عليه الجملة أي معنى قوله إنها لإحدى الكبر أي كبرت مندرة وحذ التاء مع أن فعيلارً بمعنى فاعل يفرق فيه بين المذكر والمؤنث لكون ضمير إنها في تأويل العذاب أو لكون النذير بمعنى ذات إنذار على معنى النسب كقولهم امرأة ظاهر أي ذات طهارة {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} بدل من للبشر بإعادة الجار وإن يتقدم مفعول شاء ومنكم حال من أي نذيراً لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير والجنة والطاعة فيهديه الله أو لم يشأ ذلك ويتأخر بالمعصية فيضله وفيه إشارة إلى أن لكسب العبد دخلاً في حصول المرحومية والمحرومية.
وفي التأويلات النجمية : اقسم بنور قمر الشريعة الزهراء وبظلمة ليل الطيعة الظلماء وبصبح الحقيقة البيضاء حين غلبت على غلس الطبيعة أن الجبود مظاهر إحدى هذه المراتب الكلية الكبرى أما أهل الشريعة وأما أهل الحقيقة وأما أهل الطبيعة وقوله نذيراً للبشر أي جعلنا الحصر في المراتب الثلاث الكلية ليتنبه الإنسان ويحترز أن يكون من أهل الإنذار لمن شاء منكم أن يتقدم إلى مقام الشريعة أو يتأخر إلى مقام الطبعة ولما كان مقام الحقيقة أعلى المرتب ولم يصل إليه إلا النذر من الكمل أعرض عن ذكره انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/184)
ويجوز أن يكون أهل الحقيقة داخلاً في أن يتقدم لأنه وأهل الشريعة كل منهما عن المتقدمين وإن كان بينهما فرق في التقدم وتفاوت في السير والمسارعة والحاصل إلا أهل أن ستعداد تقدموا باكتساب الفضائل والخيرات والكمالات إلى مقام القلب والروح والسر وإما غيرهم فتأخروا بالميل إلى البدن وشهواته ولذاته فوقعوا في ورطة الطبيعة {كُلُّ نَفْس} من نفوس الأنس والجن المكلفين {بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} مرهونة عند الله بكسبها محبوسة ثابتة وفي بعض التفاسير بسبب ما كسبت من الأعمال السيئة من رهن الشيء أي دام وثبت وأرهنته أي تركته مقيماً عنده وثابتاً والرهن ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك والمرتهن هو الذي يأخذ المرهون ونفس المكلف محبوسة ثابتة عند الله بما أوجبه عليه من التكاليف التي هي حق خالص له تعالى فإن أداها المكلف كما وجبت عليه فك رقبته وخلص نفسه وإلا بقيت نفسه مرهونة محبوسة عنده وقال بعضهم الرهينة اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم على أن تكون التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وفي فتح الرحمن للمبالغة أو على تأنيث اللفظ لأعلى معنى الإنسان ونحوه وليس أي الرهينة صفة وإلا لقيل رهين لأن فعيلاً بمعنى مفعول لا تدخله التاء ل يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن يحمل على ما هو بمعنى الفاعل فإنه يؤتى في مؤنثه بالتاء كما في عكسه في قوله تعالى : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} قال الراغب : قيل في قوله كل نفس بما كسبت رهينة إنه فعيل بمعنى فاعل أي ثابتة مقيمة وقيل بمعنى مفعول أي كل نفس مقامة في جزاء ما قدم من عملها ولما كان الرهن يتصور من حبسه استعير ذلك للمحتسب أي شيء كان إلا أصحاب اليمين} استثناء متصل من كل نفس لكثرتها في المعنى وأصحاب اليمين أهل الأعمال الصالحة من المؤمنين أي فإنهم فاكون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين.
قال القاشاني كل نفس بمكسوبها رهن عند الله لإفكاك لها لاستيلاء هيئات أعالها وآثار أفعالها عليها ولزومها إياها وعدم انفكاكها
239
عنه الأصحاب اليمين من السعداء الذين تجردوا عن اليهئات الجسدانية وخلصوا إلى مقام الفطرة ففكوا رقابهم من الرهن {فِى جَنَّـاتٍ} كأنه قيل ما بال أصحاب اليمين فقيل لهم في جنات لا يكتنه كنهها ولا يوصف وصفها كما دل عليه التنكير والمراد أن كلا منهم ينال جنة منها {يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} تفاعل هنا بمعنى فعل أي يسألون المجرمين عن أحوالهم وقد حذف المسؤول لكونه عين المسؤول عنه ولدلالة ما بعده عليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص240 حتى ص250 رقم25
(10/185)
(يروى) : إن الله يطلع أهل الجنة وهم في الجنة حتى يرون أهل النار وهم في النار فيسألونهم {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} مقدر بقول هو حال مقدرة من فاعل يتساءلون أي قائلين أي شيء أدخلكم فيها وكان سبباً لدخولكم من سلكت الخيط في الأبرة سلكاً أي أدخلته فيها فهو من اسلك بمعنى الإدخال لا من السلوك بمعنى الذهاب فإن قلت : لم يسألونهم وهم عالمون بذلك قلت توبيخاً لهم وتحسيراً ولتكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين قرأ أبو عمر وسلكم بإدغام الكاف في الكاف والباقون بالإظهار {قَالُوا} أي المجرمون مجيبين للسائلين {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} لصلوات الواجبة فعدم إقرارنا بفرضية الصلاة وعدم أدائها سلكنا فيها أله نكن حذف النون للتخليف مع كثرة الاستعمال {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} على معنى استمرار نفي الإطعام لا على نفي استمرار الإطعام والمراد أيضاً الإطعام الواجب وإلا فما ليس بواجب من الصلاة والإطعام لا يجوز التعذيب على تركه وكانوا يقولون أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فكان لا يرحمون المساكين بالإطعام ولا يحضون عليه أيضاً كما سبق ففيه ذم للبخل ودلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة قال في التوضيح الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات إجماعاً أما العبادات فهم مخاطبون بها في حق المؤاخذة في الآخرة اتفاقاً أيضاً لقوله تعالى [المدثر : 27-45]{مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} الآيات أما في حق وجوب الأداء فمختلف فيه قال العراقيون من مشايخنا نعم وقال مشايخ ديارنا لا وفي بعض التفاسير وللحنفي أن يقول هذا إنما هو تأسف منهم على تفريطيهم في كسب الخير وحرمانهم مما ناله المصلون والمزكون من المؤمنين ولا يلزم من ذلك أن يكونوا مأمورين بالعمل قبل الإيمان وكنا نخوض مع الخائضين} أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والمراد بالباطل ذم النبي عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم وغيبتهم وقولهم بأنه شعر أو ساحر أو كاهن وغير ذلك والخوض في الأصل بمعنى الشروع مطلقاً في أي شيء كان ثم غلب في العرف بممنى الشروع في الباطل والقبيح وما لا ينبغي وفي الحديث أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في معصية الله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وإنهم ملابسوه وقد مضت بقية الوداهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل إذ هو تكذيب القيامة وإنكارها كفر والأمور الثلاثة المتقدمة فسق لتفخيمها والترقي من القبيح إلى القبيح كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم الدين وبيان كون تكذيبهم به مقارناً لسائر جناياتهم المعدودة مستمراً إلى آخر عمرهم حسبما ينطق به قولهم {حَتَّى أَتَـاـانَا الْيَقِينُ} أي الموت ومقدماته فإنه أمر متيقن لا شك في إتيانه وبالفارسية
240
بعد بما مرك ومقدمات أو برهمان حال مرديم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/186)
فإن قلت : أيريدون إن كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه قلت يحتمل الأمرين جميعاً كافي الكشاف وفيه إشارة إلى أن بقاءهم في سقر الظبيعة إنما كان بسبب هذه الرذائل والذمائم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ} من الأنبياء والملائكة وغيرهم أي لو قدر اجتماعهم على شفاعتهم على سبيل فرض المحال لا تنفعهم تلك الشفاعة فليس المراد أهم يشفعون لهم ولا تنفعهم شفاعتهم إذا الشافعة يوم القيامة موقوفة على الأذن وقابلية المحل فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت والكافر ليس بقابل لها فلا إذن في الشفاعة له فلا شفاعة ولا نفع في الحقيقة وفيه دليل على صحة الشفاعة ونفعنا يومئذٍ لعصاة المؤمنين وإلا لما كان لتخصيصهم بعدم منفعة الشفاعة وجه قال ابن مسعود رضي الله عنه تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا قوله قالوا لم نك من المصلين إلى قوله بيوم الدين وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن محمداً عليه السلام يشفع ثلاث مرات ثم تشفع الملائكة ثم الأنبياء ثم الآباء ثم الأبناء ثم يقول الله بقيت رحمتي ولاي دع في النار إلا من حرمت عليه الجنة ويقول الرجل من أهل النار لواحد من أهل الجنة يات فلان أما تعرفني أنا الذي سقيتك شربة ويقول آخر أنا الذي وهبت لك وضوأ ويقول آخر أطعمتك لقمة وآخر كسوتك خرقة وعلى هذا فيشفع له فيدخله الجنة أما قبل دخول النار أو بعدهم فما لهم عن التذكرة معرضين} الفاء لترتيب أنكال إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبت الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومعرضين حال من الضمير في الجار الوقع خبراً لما الاستفهامسية وعن متعلقة به أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه وتأكد الدواعي للإيمان به وفي "كشف الأسرار" س ه رشسيدست ايشانراكه ازنين ندى روكردانيده انده يقال لإعراض يكون بالجحود وبترك الاتباع له {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل وحمر جمع حمار وهو معروف ويكون وحشياً وهو المراد هنا ومستنفرة من نفرت الدواب بمعنى هربت لا من نفر الحاج والمعنى مشبهين بحمر نافة يعني خران رميدكان.
فاستنفر بمعنى نفر كما إن استعجب بمعنى عجب وقال الزمخشري كأنهم حمر تطلب النفار من نفوسها بسبب إنهم جمعوا هم نفوسهم للنفار وحملوه عليها فأبقى السين على بابها من الطلب قال الراغب : مستنفرة قد قرىء بفتح الفاء وكسرها فإذا كسر الفاء فمعناه نافرة وإذا فتح فمعناه منفرة {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة} أي من أسد لأن الوحشية إذا عاينت الأسد تهرب أشد الهرب ، ومثل القسورة الحيدرة لفظاً ، ومعنى وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة ، لأنه يغلب السبع ويقهرها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
قال ابن عباس رضي الله عنهما : القسورة هو الأسد بلسان الحبشة ، وقيل : هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها.
(وقال الكاشفي) : كريخنذ از شيريا از صياد ياريسمان دام يا مردم تيرانداز يا آوازهاى مختلف.
شبهوا في أعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ ، وشرادهم
241
عنه ، بحمر جدت في نفارها مما أفزعها.
يعني : نانه خرابيا باني ازياهامى كريزد ايشان از استماع قرآن مى كريزند زيراكه كوش سخن شنوودل ند ذر ندارند كما أشار إليه في المثنوى :
ازكجا اين قوم ويغام ازكجا
ازجادى جان كجا باشد رجا
فهمهاى كج مج كوته نظر
صد خيال بد در آرد در نكر
راز جزبار ازدان انباز نيست
راز اندركوش منكر راز نيست
وفيه من ذمهم وتهجين حالهم ما لا يخفى يعني إن في تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ولا ترى مثل نفار حمر الوحش وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء ومن أراد إهانة غليظة لأحد والتشنيع عليه باشنع شيء شبهه بالحمار.
(روى) أن واحداً من العلماء كان يعظ الناس في مسجد جامع وحوله جماعة كثيرة فرأى ذلك رجل من البله وكان قد فقد حماره فناى لواعظ وقال إني فقدت حماراً فاسأل هذه الجماعة لعل واحداً منهم رآه فقال له الواعظ اقعد مكانك حتى أدلك عليه فقعد الرجل فإذا واحد من أهل الملجس قام وأخذ في أن يذهب فقال الواعظ للرجل خذ هذا فإنه حمارك والمظاهر أنه قال ذلك القول أخذ من هذا الكلام فإنه فر من تذكرة الملك العلامة {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىاٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكلفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها عنادا ومكابرة بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ وذلك إنهم أي أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية وأصحابهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء أو يصبح عند رأس كل رجل منا أوراق منشورة يعني مهر بركرفته.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
(10/187)
عنوانها من رب العالمين إلى فلان ابن فلا تؤمر فيها باتباعك أي بأن يقال اتبع محمداً فإنه رسول من قبلي إليك كما قالوا ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرأه وامرىء قال في "القاموس" المرء مثلثة الميم الإنسان أو الرجل ولا يجمع من لفظه ومع ألف الوصل ثلاث لغات فتح الراء دائماً وإعرابها دائماً وأن مع صلته مفعول يريد وصحفاً مفعول ثان ليؤتى والأول ضمير كل ومنتشرة صفة صحف جمع صحيفة بمعنى الكتاب قال في تاج المصادر وصحف منتشرة شدد للكثرة {كَلا} ردع عن اقتراحهم الآيات وإرادتهم ما أرادوه فإنهم إنما اقترحوها تعنتاً وعناداً لأهدى ورشاداً {بَل لا يَخَافُونَ الاخِرَةَ} لاستهلاكهم في محبة الدنيا فلعدم خوفهم منها أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف {كَلا} ردع عن إعراضهم عن التذكرة {إِنَّهُ} الضمير في إنه وفى ذكره للتذكرة لأنها بمعنى الذكر أو القرآن كالموعظة بمعنى الوعظ والصيحة بمعنى الصوت {تَذْكِرَةٌ} أي تذكرة فالتنوين للتعظيم أي تذكرة بليغة كافية وفي برهان القرآن أي تذكير للحق وعدل إليها للفاصلة {فَمَن} س هركه {شَآءَ} أن يذكره ويتعظ به قبل الحلول في القبر {ذَكَرَهُ} أي جعله نصب عينه وحاز بسببه سعادة الدارين فإنه ممكن من ذلك {وَمَا يَذْكُرُونَ} بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فمن شاء ذكره إذ لا تأثير لمشيئته العبد وإرادته في أفعاله وضمير الجمع إما أن يعود إلى الكفرة لأن
242
الكلام بهم أو إلى من نظر إلى عموم المعنى لشموله لكل من المكلفين {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} استثناء مفرغ من أعمل العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون لعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلا بأن يشاء الله أو حال أن يشاء الله ذكرهم وهذا تصريح بأن أفعال العبد بمشيئة الله لا بإرادة نفسه قال في عين المعاني فمن شاء الخ تخييير بإعطاء المكنة لتحقيق العبودية وقوله إلا أن يشاء الله تخيير إمضاء القدرة لتحقيق الألوهية {هُوَ} أي الله تعالى {أَهْلُ التَّقْوَى} أي حقيق بأن يتقى عقابه ويؤمن به ويطاع فلتقوى مصدر من المبنى للمفعول {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطعه قال بعضهم التقوى هو التبري من كل شيء سوى الله فمن لزم الآداب في التقوى فهو أهل المغفرة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 223
تفسير سورة القيامة
تسع وثلاثون أو أربعون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 242
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} لا صلة لتوكيد القسم وما كان لتوكيد مدخوله لا يدل على النفي وإن كان في الأصل للنفي قال الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة
وكاد ضمير القلب لا يتقطع
أي يتقطع والمعنى بالفارسية هراينه سوكند ميخورم بروز رستاخيز أو للنفي لكن لا لنفي نفس الأقسام بل لنفي ما ينبىء هل عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه كأن معنى لا أقسم بكذا لا أعظمه بأقسامي به حق إعظامه فإنه حقيق بأكثر من ذلك وأكثر أو لنفي كلام معهود قبل القسم روده كأنهم أنكروا البعث فقيل لا أي ليس الأمر كذلك ثم قيل اقسم بيوم القيامة كقولك لا والله إن البعث حق وأياماً كان ففي الأقسام على تحقق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا مزيد عليه وإما ما قيل من أن المعنى نفي الأقسام لوضوح الأمر فبأياه تعيين المقسم به وتفخيم شأن القسم به قال المغيرة بن شعبة رحمه الله يقولون القيامة وإنما قيامة أحدهم موله وشهد علقمة جنازة فلما دفن قال أما هذا فقد قامت قيامته ونظمه بعضهم :
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
خرجت من الدنيا وقامت قيامتي
غداة أقل الحاملون جنازتي
{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال في عين المعاني القسم بالشيء تنبيه على تعظيمه أو ما فيه من لطف الصنع وعظم النعمة وتكرير ذكر القسم تنبيه على أن كلا من المقسم به مقصود مستقل بالقسم لما إن له نوع فضل يقتضي ذلك واللوم عذل الإنسان بنسبة ما فيه لوم والمراد بالنفس اللوامة هي النفس الواقعة بين الأمارة والمطمئنة فلها وجهان.
وجه يلي النفس الأمارة وهو وجه الإسلام فإذا نظرت إلى الأمارة بهذ الوجه تلومها على ترك المتابعة والأقدام على المخالفة وتلوم أيضاً نفسها على ما فات عنها في الأيام الماضية من الأعمال والطاعات والمراتعة في المراتع الحيوانية الظلمانية.
ووجه يلي النفس المطمئنة وهو وجه
243(10/188)
الإيمان فإذا نظرت بهذا الوجه إلى المطمئنة وتنورت بنوارنيتها والصبغت بصبغتها تلوم أيضاً نفسها على التقصيرت الواقعة منها والمحذورات الكائنة عليها فهي لا تزال لائمة لها قئمة على سوق لومها إلى أن تتحقق بمقام الاطمئنان ولذلك ستحقت أن أقسم الله بها على قيام البعث والنشر والحشر قال القاشاني جمع بين القيامة والنفس اللوامة في القسم بهما تعظيماً لشأنهما وتناسباً بينهما إذ النفس اللومة هي المصدقة بها المقرة بوقوعها المهيئة لأسبابها لأنها تلوم نفسها أبداً في التقصير والتقاعد عن الخيرات وإن أحسنت لحرصها على الزيادة في الخير وأعمال البرتيقنا بالزاء فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت من بادرة غفلة ونسياناً اتهى.
هذا ودع عنك القيل والقال وجواب القسم محذوف دل عليه قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} وهو ليبعثن والمراد بالإنسان الجنس والإسناد إلى الكل بحسب البعض كثير والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وإن محففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف والعظام جمع عظم وهو قصب الحيوان الذي عليه اللحم بالفارسية استخوان.
ويجيء جمع عظيم أيضاً ككرام وكريم وكبار وكبير ومنه الموالي العظام والمعنى أيحسب إلا نسوان الذي ينكر البعث إن الشأن والحديث لن نجمع عظامه البالية فإن ذلك حسبان باطل فإنا نجمعها بعد تشتتها ورجوعها رميماً ورقاتاً مختلطاً بالتراب وبعد ما نسفتها الرياح وطيرتها في أقطار الأرض وألقتها في البحار لمجازاته بما عمل في الدنيا وقيل إن عدى بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريف وهما اللذان كان عليه السلام يقول فيهما اللهم اكفني جاري اسوء قال الرسول الله يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره فأخبره فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يعني أكذب حسي أو أيجمع الله هذه العظام فيكون الكلام خارجاً على قول المنكر كقوله من يحيي العظام وهي رميم وقيل ذكر العظام وارد نفسه كلها لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها ودل هذا الإنكار على إنه ناشىء من الشبهة وذلك بالنسبة إلى البعض والله قار على الإحياء لا شبهة في بالنسبة إلى القال المتفكر المستدل إيجاب لما ذكر بعد النفي وهو الجمع أي نجمعها وبالفارسية آرى جمع كنيم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
حال كوننا {قَـادِرِينَ} فهو حال مؤكدة من الضمير المستكن في تجمع المقدر بعد بلى {عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} أي نجمع سلامياته ونضم بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها ولطافتها فكيف بكبار العظام وهو جمع سلامي كحبارى وهي العظام الصغار ي اليد والرجل وفي الحديث كلا سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس أي على صاحبه صدقة من أي أنواع الصدقة من قول وفعل ومال وفي "القاموس" البنان الأصابع أو أطرافها قال الراغب البنان الأصابع قيل سميت بذلك لأن بها إصلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن بي بها ما يريد أي يقيم يقال ابن بالمكان يبن لذلك خص في قوله تعالى : [القيامة : 14-4]{بَلَى قَـادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} وقوله : واضربوا منهم كل بنان خصه لأجل إنها يقاتل بها ويدافع أو المعنى على نسوى أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلفه فالبنان مفرد اللفظ مجموع المعنى كالتمر وفيه جهتان الصغر وكونه طرفاً فإلى أي جهة
244
نظر ثبت المطلوب بالأولوية ولذا خص بالذكر ثم في العظام إشارة إلى كبار أعماله الحسنة والسيئة وفي البنان إلى صغار أفعاله الحسنة والسيئة فإن الله تعالى يجمع كلا منها ويجازي عليها بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} الفجر شق الشيء شقاً واسعاً والفجور شق ستر الديانة وقال بعضهم : الفجور الميل فالكاذب والمكذب والفاسق فاجر أي مائل عن الحق ومنه قول الأعرابي في حق عمر رضي الله عنه.
(10/189)
اغفر له اللهم إن كان فجر أي كذب ، واللام للتأكيد مثل قوله وانصح لكم في أنصحكم وإن يفجر مفعول يريد وقد يقال مفعوله محذوف يدل عليه قوله ليفجر أمامه والتقدير يريد شهواته ومعاصيه وقال سعدي المفتي الظاهر أن يريد ههنا منزلة نمزلة اللازم ومصدره مقدر بلام الاستغراق بمعونة المقام يعني مقام تقبيح حال الإنسان أي يوقع جميع إرادته ليفجر وجعل أبو حيان بل لمجرد الإضراب عن الكلام الأول وهو نجمعها قادرين من غير إبطال المضمون والأخذ في بيان ما عليه الإنسان من إنهماكه في الفجرو من غير عطف وقال غيره عطف على أيحسب إما على إنه استفهام مثله اضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا أو على إنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام مثله اضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا أو على إنه إجياب انتقل إليه من الاستفهام وهذا أبلغ وأولى والمعنى بل يريد الإنسان ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله نم الزمان لايرعوى عنه فالإمام ههنا مستعار للزمان من المكان وقال الراغب يريد الحياة ليتعاطى الفجور فيها وقيل معناه : يذنب ويقول غداً أتوب ثم لا يفعل فيكون ذلك فجور البذله عهداً لا يفي به.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
وقال الكاشفي) : بلكه خواهد آدمي آنكه دروغ كويد بآنه اورا دريش است ازبعث وحساب.
وفيه إشارة إلى أن الإنسان المحجوب يريد ليفجر أمامه بحسب الاعتقاد والنية قبل الإتيان بالفعل وذلك بالعزم المؤاخذ به على ما عرف في محله {يَسْـاَلُ} سؤال استبعاد واستهزاء {أَيَّانَ} أصله أي آن وهو خبر مقدم لقوله {يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} أي متى يكون والجملة استئناف تعليلي كأنه قيل ما يفعل حين يريد أن يفجر ويميل عن الحق فقيل يستهزىء ويقول أيان يوم القيامة أو حال من الإنسان في قوله بل يريد ازٌّسان أي ليس إنكاره للبعث لاشتباه الأمر وعدم قيام الدليل على صحة ابعث بل يريد أن يستمر على فجوره في حال كونه سائلاً متى تكون القيامة فدل هذا الإنكار على أن الإنسان يميل بطبعه إلى الشهوات والفكرة في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره وأبى عن الإقرار به فقوله : أيحسب الإنسان.
.
.
الخ.
دل على الشبهة والجهل وقوله : {بَلْ يُرِيدُ} .
.
الخ على الشهوة والتجاهل فالآيتان بحسب الشخصين وفيه إشارة إلى أن المحجوب يسأل أيان يوم القيامة لاحتجابه بنفسه الظلمانية لايشاهد القيامة فيكل ساعة ولحظة بل في كل لمحة وطرفة لتعاقب التجليين الأفنائي والإبقائي كما قال تعالى : بل هم في لبس من خلق جديد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
فإذا برق البصر} أي : تحير واضطرب وجال فزعاً من أهوال يوم القيامة من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش ثم استعمل في كل حيرة وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق وهو واحد بروق السحاب ولمعانه {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي ذهب
245
ضوؤه فإن خسف يستعمل لازماً ومتعدياً يقال : خسف القمر وخسفه الله أو ذهب نفسه من خسف المكان أي : ذهب في الأرض ولكن هذا المعنى لا يناسب ما بعد الآية قال بعضهم : أصل الخسف النقصان ويكون في الوصف وفي الذات وفيه رد لمن عبد القمر فإن القمر لو كان إلهاً كما أن عمه بدافع عن نفسه الخسوف ولما ذهب ضوؤه قال في فتح الرحمن الخسوف والكسوف معناهما واحد وهو ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه وصلاة الكسوف سنة مؤكدة فإذا كسفت الشمس أو القمر فزعوا للصلاة وهي لكسوف الشمس ركعتان كهيئة النافلة ويصلي بهم أمام الجمعة ويطيل القراءة ولا يجهر ولا يخطب وخسوف القمر ليس له اجتماع ويصلي الناس إن منازلهم ركعتين كسائر النوافل {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} في ذهاب الضوء كما روى عن النبي عليه السلام ، أو جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو في الإلقاء في النار ليكون حسرة على من يعبدهما وجاز تكرار القمر لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول ، وقال القاشاني : فإذا برق البصر أي تحير وهش شاخصاً من فزع الموت وخسف قمر القلب لذهاب نور العقل عنه وجمع شمس الروح وقمرا لقلب بأن جعلا شيئاً واحداً طالعاً من مغرب البدن لا يعبر لهما رتبتان كما كان حال الحياة بل انحدار روحاً واحداً انتهى.
{يَقُولُ الانسَـانُ} المنكر للقيامة وهو عامل في إذا {يَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم إذ تقع هذه الأمور قول الآيس من حيث إنه لا يرى شيئاً من علامات ممكنة للفرار كما يقول من أيس من وجدان زيد اين زيد حيث لم يجد علامة أصابته {أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي الفرار وقال سعدي المفتي ولعله لا منع من الإبقاء على حقيقته والقول بصدور هذا الكلام باء على توهمه لتحيره {كَلا} ردع عن طلب المفر وتمنيه قال سعدي المفتي : هذا لا يناسب أن يقوله قول الآيس إذ لا طلب حينئذٍ ثم قوله كلا من قول الله تعالى وجوز أن يكون من قول الإنسان لنفسه وهو بعيد {لا وَزَرَ} لا ملجأ يعني بناه كاه نباشد كافر انرا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
(10/190)
مستعار من الجبل فإن الوزر محركة الجبل المنيع ثم يقال لكل ما التجأت إليه وتحصنت به وزر تشبيهاً له وخبر لا محذوف أي لا ملجأ ثمة أو في الوجود ومن بلاغات الزمخشري اتل على كل من وزر كلالاً وزر أي أتل عليه هذه الآية ومعنى وزر الأول بالفارسية كناه كردن.
فإن العزر بالكسر الإثم وقال بعضهم :
لعمرك ما في الفتى من وزر
من الموت يدركه ولكبر
أي لا ملجأ للفار من الموت والكبر إذ كل منهما من الأمر الإلهي والأمر المحكم القضاء المبرم يدرك الإنسان لا محالة {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَـاـاِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي إليه تعالى وحده استقرار العباد أي لا يتوجهون إلا إلى حيث أمرهم الله نم مقام حسابه أو إلى حكمه استقرار أمرهم فإن الملك يومئذٍ ا فهو كقوله إن إلى ربك ارجعى وإن إلى ربك المنتهى وإليه ترجعون أي إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه أو إلى مشيئته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار فيكون المستقر اسم مكان وهو مرفوع بالابتداء وإلى ربك خبره ويومئذٍ معمول إلى ربك ولا يجوز أن يكون معمول المستقر لأنه إن كان مصدراً بمعنى الاستقرار فلا يتقدم معموله عليه وإن كان اسم مكان فلا عمل له البتة وكذا الكلام في قوله إلى ربك يومئذٍ المساق ونحوه {يُنَبَّؤُا الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذ} أي يخبر كل امرىء برا كان أو فاجراً عند وزن الأعمال وحال
246
العرض والمحاسبة والمخبر هو الله أو الملك بأمره أو كتابه ينشره {بِمَا قَدَّمَ} أي عمل من عمل خيراً كان أو شراً فيثاب بالأول ويعاقب بالثاني {وَأَخَّرَ} أي لم يعمل خيراً كان أو شراً فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر من حسنة أو سيئة فعمل بها بعده أو بما قدم من مال تصدق به في حياته وبما أخر فخلفه أو وقفه أو أوصى به أو بأول عمله وآخره.
(شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري قدس سره) : فرموده كه كناه ازيش فرستي بجرأت ومال ازس بكذارى بحسرت كناه رابتوبه نيست كن تانماند ومال را بصدقه يش فرست تابماند.
كرفرستى زيش به باشد
كه بحرست زس نكاه كنى
وفي الحديث : "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة {بَلِ الانسَـانُ عَلَى نَفْسِه بَصِيرَةٌ} الإنسان مبتدأ وبصيرة خبره وعلى نفسه متعلق ببصيرة بتقدير على أعمال نفسه والموصوف محذوف أي بل هو حجة بصيرة وبينة واضحة على أعمال نفسه شاهدة جوارحه وأعضاؤه بما صدر عنه من الأفعال السيئة كما يعرب عنه كلمة على وما سيأتي من الجملة الحالية ووصفت بالبصارة مجاراً في الإسناد كما وصفت الآيات بالأبصار في قوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـاتُنَا مُبْصِرَةً} أو عين بصيرة أو ذو بصيرة أو التاء للمبالغة كما في علامة ونسابة ومعنى بل الترقي أي ينبأ الإنسان بأعماله بل هو لا يحتاج إلى أن يخبره غيره فإنه يومئذٍ عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه لأن جوارحه تنطق بذلك ، قال القاشاني : بل الإنسان حجة بينة يشهد بعلمه لبقاء هيئة أعماله المكتوبة عليه في نفسه ورسوخها في ذته وصيرورة صفاته صور أعضائه فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
باش نا ز صدمه صور سرافيلى شود
صورت خوبت نهان وسيرت زشت آشكار
ولو ألقى معاذيره} حال من المستكن في بصيرة أو من مرفوع ينبأ أي هو بصيرة على نفسه تشهد عليه جوارحه وتقبل شهادتها ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها بأن يقول مثلاً لم أفعل أو فعلت لأجل كذا أو لم أعمل أو وجد مانع أو كنت فقيراً ذا عيال أو خفت فلاناً أو طمعت في عطائه إلى غير ذلك من المعاذير الغير النافعة.
ه ندين عذر انكيزى وندين حيله هاسازى
جوميانى كه ميدانم وميدانم كه ميداني
أو ينبأ بأعماله ولو اعتذر بكل عذر في الذب عنها فإن الذب والدفع لا رواج له يومئذٍ لأنه يوم ظهور الحق بحقيقته والمعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير اسم جمع للمنكر وقيل : جمع معذار وهو الستر بلغة أهل اليمن أي ولو أرخى فتوره ، يعني : إن احتجابه واستتاره عن المخلوقات في حال مباشرة المعصية في الدنيا لا يغني عنه شيئاً لأن عليه من نفسه بصيرة ومن الحفظة شهوداً وفي "الكشاف" لأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب {لا تُحَرِّكْ بِهِ} أي :
247(10/191)
بالقرآن {لِسَانَكَ} ما دام جبيل يقرأ ويلقى عليك {لِتَعْجَلَ بِهِ} أي بأخذه أي لتأخذه على عجلة مخافة يتفلت {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك بحكم الوعد بحيث لا يخفى عليك شيء من معانيه بتقدير المضاف أي إنبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن مصدر بمعنى القراءة كالغفران بمعنى المغفرة مضاف إلى مفعوله والقرآن ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل وليس يقال ذلك لكل جمع لا يقال قرأت القوم إذا جمعتهم {فَإِذَا قَرَأْنَـاهُ} أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل وإسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في إيجاب التأني {فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} أي فاشرع فيه بعد فراغ جبريل منه لا مهلة وقال ابن عباس رضي الله عنهما ، فإذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به وقال الواسطي رحمه الله جمعه في السر وقرآنه في العلانية {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه سمى ما يشرح المجمل والمبهم من الكلام بياناً لكشفه عن المعنى المقصود إظهاره وفي ثم دليل على إنه يجوز تأخر البيان عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة إلى العمل لأنه تكليف بما لا يطاق قال أهل التفسير كان عليه السلام إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يفلت منه فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه قلبه وسمعه حتى يقض إليه الوحي كما قال تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} من قبل أن يقضي إليك وحيه ثم يقضيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه وعن بعض العارفين إنه قال فيه إشارة إلى صحة الأخذ عن الله بواسطة كأنه تعالى يقول خذه عن جبريل كأنك ما علمته إلا منه ولا تسابق بما عندك منا من غير واسطة وأكابر المحققين يسمون هذه الجهة التي هي عدم الوسائط بالوجه الخاص والفلاسفة ينكرون هذا الوجه ويقولون لا ارتباط بين الحق والموودات إلا من جهة الأسباب والوسائط فليس عندهم أن يقول الإنسان أخبرني ربي أي بلا واسطة وهم مخطئون في هذا الحكم فإنه لما كان ارتباط كل ممكن بالحق من حيث الممكن من جهتين جهة الوحدة وجهة الكثرة وجب أن تكون جهة الوحدة بلا واسطة وهو الوجه الخاص وجهة الكثرة بواسطة وهو الوجه العام ولما كان نبينا عليه السلام ، أكمل الخلق في جهة الوحدة لكون أحكام كثرته وإمكانه مستهلكة بالكلية في وحدة الحق وأحكام وجوبه كان يأخذ عن الله بلا واسطة أي من الوجه الخاص وكان ينطبع في قلبه ما يريد الحق أن يخبره به فإذا جاءه الكلام من جهة الوسائط أي من الوجه العام بصور الألفاظ والعبارات التي استدعتها أحوال المخاطبين كان يبادر إليه بالنطق به لعلمه بمعناه بسبب تلقيه إياه من حيث اللاواسطة لينفس عن نفسه ما يجده من الكربة والشدة التي يلقاها مزاجه من التنزل الروحاني فإن الطبيعة تنزعج من ذلك للمباينة الثابتة بين المزاج وبين الروحاللكي فعرف الحق نبينا عليه السلام إن القرآن وإن أخذته عنا من حيث معناه بلا واسطة فإن إنزالنا إياه مرة أخرى من جهة الوسائط يتضمن فوائد زائدة منا مراعاة إفهام المخاطبين به لأن الخلق المخاطبين بالقرآن حكم ارتباطهم بالحق إنما هو من جهة سلسلة الترتيب
248
والوسائط كما هو الظاهر بالنسبة إلى أكثرهم فلا يفهمون عن الله إلا من تلك الجهة ومنها معرفتك اكتساء تلك المعاني العبارة الكاملة وتستجلى في مظاهرها من الحروف والكلمات فتجمع بين كمالاته الباطنة واظاهرة فيتجلى بها روحانيتك وجسمانيتك ثم يتعدى الأمر منك إلى أمتك فيأخذ كل منهم حصته منه علماً وعملاً ففي قوله تعالى : لا تحرك به لسانك.
.
الخ.
تعليم وتأديب إما التعليم فما أشير إليه من أن باب جهة الوحدة مسدود على أكثر الناس فلا يفهمون عن الله إلى من الجهة النماسبة لحالهم وهي جهة الوسائط والكثرة الإمكانية وإما التأديب فإنه لما كان الآتي بالوحي من الله جبريل فمتى بودر بذكر ما أتى به كان كالتعجيل له وإظهار الاستغناء عنه هذا خلل في الأدب بلا شك سيما مع المعلم المرشد ومن هذا التقرير عرف أن قوله تعالى : لا تحرك به.
.
الخ واقع في البين بطريق الاستطارد فإنه لما كان من شأنه عليه اسلام ، الاستعجال عند نول كل وحي على ما سبق من الوجه ولم ينه عنه إلى أن أوحى إليه هذه السورة من أولها إلى قوله : ولو ألقى معاذيره وعجل في ذلك سئر المرات نهى عنه بقوله لا تحرك الخ ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدىء به من خطاب الناس ونظيره ما لو ألقى المدرس على الطالب مسألة وتشاغل الطالب بشيء لا يليق بمجلس الدرس فقال ألق إلى بالك وتفهم ما أقول ثم كمل المسألة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
(10/192)
يقول الفقير : أيده الله القدير لاح لي في سر المناسبة وجه لطيف أيضاً وهو أن الله تعالى بين قبل قوله لا تحرك به.
.
الخ.
جمع العظام ومتفرقات العناصر التي هي أركان ظاهر الوجود ثم انتقل إلى جمع القرآن وأجزائه التي هي أساس باطن الوجود فقال بعد قوله أيحسب الإنسان إن لن نجمع عظامه إن علينا جمعه فاجتمع الجمع بالجمع والحمد تعالى وقد تحير طائفة من قدماء الروافض خذلهم الله تعالى حيث لم يجدوا المناسبة فزعموا إن هذا القرآن غير وبدل وزيد فيه ونقص.
وفي التأويلات النجمية : اعلم أن كل ما استعد لإطلاق الشيئية عليه فله ملك وملكوت لقوله تعالى : بيده ملكوت كل شيء ، والقرآن أشرف الأشياء وأكملها فله أيضاً ملك وملكوت فأما ملكه فهو الأحكام والشرائع الظاهرة التي تتعلق بمصالح الأمة من العبادات المالية والبدنية والجنايات والوصايات وأمثالها وإما ملكوته فهو الأسرار الإلهية والحقائق اللاهوتية اتي تتعلق ببواطن خواص الأمة وأخص الخواص بل بخلاصة أخص الخواص من المكاشفات والمشاهدات السرية والمعاينات الروحية ولكل واحد من الملك والملكوت مدركات يدرك بها لا غير لأن الوجدانيات والذوقيات لا تسعها ألسنة العبارات لأنها منقطع الإشارات فقوله لا تحرك.
.
الخ يشير إلى عدم تعبيره بلسان الظاهر عن أسرار الباطن والحقائق الآبية عن تصرف العبارات فيها بالتعبير عنها وإن مظهره الجامع جامع بين ملك القرآن وملكوته وهو عليه السلام ، يتبع بظاهره ملكه وبباطنه ملكوته نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المتبعين للقرآن في كل زمان كلا} عود إلى تكملة ما ابتدىء به الكلام يعني نه نانست أي آدميان كه مان برده آيد درامر عقبى {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أي الدنيا يعني دنياي شتاب كننده را {وَتَذَرُونَ الاخِرَةَ}
249
فلا تعملون لها بل تنكرونها.
وفي التأويلات النجمية : تحبون نعمة شهوة الدنيا وتذرون نعمة خمول الآخرة والخطاب للأمة وجوه يومئذٍ ناضرة} النضرة طراوة البشرة وجمالها وذلك من أثر التنعم والناضر الغض الناعم من كل شيء أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة يشاهد عليها نضرة النعيم ورونقه كما قال تعالى في آية أخرى تعرف فيه وجوههم نضرة النعيم على أن وجوه مبتدأ وناضرة خبره ويومئذٍ منصوب باضرة وصحة وقوع النكرة مبتد لأن المقام مقام تفصيل {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قوله ناظرة خبر ثان للمبتدأ وإلى ربها متعلق بها والنظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشي ورؤيته والمراد بنظر الوجوه نظر العيون التي فيها بطريق ذكر المحل وإرادة الحال وهذا عند أهل القال وإما عند أهل الحال ف ينحصر النظر في البصر والإجاء القيد والله منزه عن ذلك بل ينقلب الباطن ظاهراً والظاهر بصراً بجميع الأجزاء فيشاهد الحق به كما يشاهد بالبصيرة في الدنيا والآخرة عالم اللطافة ولذا لا حكم للقالب والجسد الظاهر هنا وإنما الحكم للقلب والروح الظاهر صور الأعضاء بهما فاعرف جداً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
بزركى را رسيد ندكه :
راه ازدكام جانب است كفت ازجانب تونيست
ون ازتو دركذشتى از همه جانبها راهست
ون بصديقان باكردند وزان ره ساختند
جزيدل رفتن دران ره يك قدم را بارنيست
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص250 حتى ص258 رقم26
والمعنى : أن الوجوه تراه تعالى عياناً مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى ، بلا كيف ولا على جهة وحق لها إن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.
مثل مؤمن مثل بازاست بازرا ون بكيرند وخواهندكه شايسته دست شاه كردد مدتي شم أو بدون وزند بندى برايش نهند در خانه تاريك باز دارند از جفتش جدا كنند يك ندى بكر سنكيش مبتلى كنندنا ضعيف ونحيف كردد ووطن خويش فراموش كند وطبع كذا شتكى دست بدارد آنكه بعاقبت شمش بكشايند شمعي يشر وى بيفروزند طبلى از بهروي بزنند طعمه كوشت يش وى نهند وست شاه مقروي شازند باخود كويد دركل عالم كرا بود اين كرامت كه مراست شمع يش ديده من آواز طبل نواى من كوشت مرغ طعمه من دست شاه جاي من بر مثال اين حال ون خوانندكه بنده مؤمن راحله خلت وشانند وشراب محبت نوشانند باوى همين معاملت كنند مدتي در هار ديوار لحد باز درند كيرايى از دست وروايى زد قدم بستانند بينانيى از ديده بردارند روز كارى برين صفت بكذارند آنكه ناكاه طبل قيامت بزنند بنده از خاك لحد ر برآرد شم بكشايد نور بهشت بيند دنيا فراموش كند شراب وصل نوش كند بر مائده خلد بنشنيد نانه آن باز شم بازكند خودرا بردست شاه بيند بنده مؤمن شم بازكند خودرا تقدع صدق بيند سلام ملك شنود ديدار ملك بيتد ميان طوبى وزلفى وحسنى شادان ونازان در جلال
250
وجمال حق نكران اينست كه رب العالمين كفت.
(10/193)
وليس هذا في جميع الأحوال حتى يافيه نظرها إلى غيره من الأشياء الكثيرة والأولى إن التقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة لأن التقييد ببعض الأحوال تقييد بلا دليل ومناف المقام المدح المقتضى لعموم الأحوال وغير مناسب لقوله وجوه يومئذٍ ناضرة لعمومه في الأحوال ولو سلم فاختصاص ادعائي فإن النظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظراً بل هو بمنزلة العدم ما في قوله : زيد الجواد هكذا قالوا ولكن من أهل الجنة من فاز بالتجلي الذاتي الأبدي الذي لا حجاب بعده ولا مستقر للكمل دونه وهو الذي إشار إليه عليه السلام بقوله صنف من أهل الجنة لا يستتر الرب عنهم ولا يحتجب وكان بذكره أيضاً في دعائه ويقوله وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم أبداً دئماً سرمداً دون ضراء مضرة ولا فتنة مضلة فالراء المضرة حصول الحجاب بعد التجلي والتجلي بصفة تستلزم سدل الحجب والفتنة المضلة كل شبهة توجب خللاً أو نقصاً في العلم والشهود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
آورده اند اورا دهريك ازاواد اين كلما تست اللهم إني أسألك النظرة إلى وجهك الكريم هركس ببهشت آرزويى دارد وعاشق جز آروزى ديدن ديدارندارد ير طريقت كفت بهره عارف دربهشت سه يزاست سماع وشراب وديدار سماع راكفت.
(فهم في روضة يحبرون) شراب راكفت (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) ديدار كفت (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) سماع بهره كوش شراب بره لب ديدار بهره ديده سماع واجدانرا شراب عاشقا نرا ديدار محبا نرا سماع طرب افزايد شراب زبان كشايد ديدار صفت ربايد سماع مطلبو را نقد كند شراب را زجلوه كند ديدارعارف را فرد كند سماع را هفت اندام رهى كوش ون ساقي اوست شراب همه نوش ديداررا زير هرموى ديده روشن.
ثم إن جميع أهل السنة حملوا هذه الآية على إنها متضمنة رؤية المؤمنينتعالى بلا تكييف ولا تحديد ولا يصح تأويل من قال لا ضرر ربها ونحوه وجعله الزمخشري كناية عن معنى التوقع والرجاء على معنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه وجوابه إنه لا يعدل إلى الكناية بلا ضرورة داعية إليها وهي ههنا مفقودة فالأحاديث الصحيحة تدل عى تعين جانب الحقيقة وأما قوله عليه السلام : جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم الإراء الكبرياء على وجهه حيث إن المعتزلة قالوا إن الرداء حجاب بين المرتدي والنظارين فلا تمكن الرؤية فجوابه إنهم حجبوا عن أن المرتدي لا يحجب عن الحجاب إذ المراد بالوجه الذات وبرداء الكبرياء هو العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامعة للحقائق الإمكانية والإلهية يعني رداء كبرياء نفس مظهرست ومشاهده ذات بدون مظهري محالست.
والرداء هو الكبرياء وإضفته للبيان والكبرياء رداؤه الذي يلبسه عقول العلماء بالله للتفهيم فلا رداء هناك حقيقة فالرتبة الحجابية باقية أبداً وهي رتبة المظهر لأنها كالمرآة وأما قوله عليه السلام : "حين سئل هل رأيت ربك ليلة المعراج" فقال نور أني أراه فمعناه إن النور المجرد لا تمكن رؤيته يعني إنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب
251
والإضافات فأما في المظاهر ومن وراء حجابية المراتب فالإدراك ممكن ومن المعتزلة من فسر النظر بالانتظار وجعل قوله إلى أسماء مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى الرب جمعه آلاء فيكون مفعولاً مقدماً لقوله ناظرة بمعنى منتظرة والتقدير وجوه يومئذ منتظرة نعمة ربها ورد بأن الانتظار لا يسند إلى الوجه سواء أريد به المعنى الحقيقي أو أريد به اعين بطريق ذكر المحل وإرادة الحال وتفسير الوجه بالذات وجملة الشخص خلاف الظاهر وبأن الانتظار لا يعدى بإلى أن جعل حرفاً وأخذه بمعنى النعمة في هذا المقام يخالف المعقول لأن الانتظار يعد من الآلام ونعيم الجنة حاضر لأهلها ويخالف المنقول أيضاً وهو أنه عليه السلام قال : أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسريره مسيرة ألف سنة يعني تاهزال ساله راه آنرا بيندوا كرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية يعني بمقدار ازان ثم قرأ عليه السلام وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة فقد فسر النظر بنظر العين والرؤية فظهر أن المخالف اتبع رأيه وهواه.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
(10/194)
وروى) إنه عليه السلام نظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته وهو بفتح التاء وتشديد الميم من الضم ، أصله لا تتضامون ، أي لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا يقول أرنيه بل كل ينفرد برؤيه وروى بتخفيف الميم من الضيم وهو الظلم فتكون التاء حينئذٍ مضمومة يعني لا ينالكم ظلم بأن يرى بعضكم دون بعض بل تستوون كلكم في رؤيته تعالى وهذا حديث مشهور تلقه الأمة بالقبول ومعنى التشبيه فيه تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي فثبت أن المؤمنين يرونه بغير كيف ولا كم وضرب من مثال فينسون النعيم إذ رأوه فيا خسران أهل الاعتزال وسئل مالك بن أنس رضي الله عنهما عن قوله تعالى : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقيل له إن قوماً يقولون إلى ثوابه فقال مالك كذبوا فأين هم عن قوله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ثم قال الناس ينظرون إلى الله بأعينهم ولو لم ير المؤنمون ربهم يوم القيامة لم يعذب الله الكفار بالحجاب وقال صاحب العقد الفريد ومن اعتقد غير هذا فهو مبتدع زنديق وقد يشهد للمطلوب ويرد دعوى أهل البدعة أن الرؤية هي اللذة الكبرى فكيف يكون المؤمنون محرومين منها والدار دار اللذة فينبغي للمؤمن أن تكون همته من نعم الجنة نعمة اللقاء فإن غيرها نعم بهيمية مشتركة قال بعض العارفين : دلت الآية على أن القوم ينظرون إلى الله تعاى في حال السحو والبسط لأن النضرة من أمارات البسط فلا يتداخلهم حياء ولا دهشة وإلا لتنغص عيشهم بل لوعاً ينوه بوصف الجلال الصرف لهلكوا في أول سطوة من سطواته فهم يرونه في حال الإنس بنوره بل به يرونه وهنالك وجود العارف كله عين يرى حبيبه بجميع وجوده وتلك العيون مستفادة من تجلى الحق فقوم لهم بالنظر من نفسه إلى نفسه ويظهر سر الوحدة بين العاشق والمعشوق والرؤية تقتضي بقاء الرائي وهو من مقتضيات عالم الصفات واستهلاك العبد في وجود الحق أتم كما هو مقتضى بقاء الرائي وهو من مقتضيات عالم الصفات واستهلاك العبد في وجود الحق أتم كما هو مقتضى عالم الذات قال النصر أبادي قدس سره من الناس ناس طلبوا الرؤية واشتاقوا إليه تعالى ومنهم العارفون الذين اكتفوا برؤية الله لهم فقالوا رؤيتنا ونظرنا فيه علل ورؤيه ونظره بلا علة فهو أتم بركة واشتمل نفعاً وقال بعضهم : القرب المذكور في قوله تعالى : ونحن
252
أقرب إليه من حبل الوليد هو الذي منع الخلق عن الإدراك للحق كما إن الهواء لما كان مباشر الحاسة البصر لم يدركه البصر وكذلك الما إذ غاص الغائص فيه وفتح عينيه يمنعه قربه من حاسة بصره أن يراه والحق أقرب إلى الإنسان من نفسه فكان لاي رى لقربه كما إنه تعالى لا يرى لبعده وعلو ذاته اين التراب من رب الأرباب ولكن إذا أراد العبد أن يراه تنزل من علوه ورفع عبده إلى رؤيته فآه به ولذلك قال عليه السلام : إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر وهما في شأنهما متوسطان في القرب والبعد فاية القرب حجاب كما أن غاية البعد حجاب والكل يراه في الدنيا لا يعرف إنه هو وفرق بين العارفو غيره ألا ترى إنه ذا كان في قلبك لقاء شخص وأنت لا تعرفه بعينه فلقيك وسلم عليك وأنت لم تعرفه فقد رأيته وما رأيته كالسلطان إذا دار في بلده متنكراً فإنه يراه كثير من الناس ولا يعرفه ثم إن منهم من يقول لم يتيسر لي رؤية السلطان إلى الآن وأنا أريد أن أنظر إليه مع إنه نظر إليه مراراً فهو في حال بصره أعمى فما أشد حجابه ثم إنه لو اتفق له النظر إليه فربما لا يتعمق ففرق بين ناظر وناظر بحسب حدة بصره وضعفه ولذا قالوا إنما تفاوتت الأفراد في حضرة لشهود مع كونهم على بساط الحق الذي لا نقص فيه لأنهم إنما يشهدون في حقائقهم ولو شهدوا عين الذات لتساووا في الفضيلة وقال بعض العارفين اللخق أقرب جار للحق تعالى وذلك من أعظم البشرى فإن للجار حقاً مشروعاً معروفاً يعرفه العلماء بالله فينبغي لكل مسلم أن يحضر هذا الجوار الإلهي عند الموت حين يطلب من الحق ما يستحقه الجار على جاره من حيث ما شرع قال تعالى لنبيه عليه السلام قل رب حكم بالحق أي الحق الذي شرعته لنا تعاملنا به حتى لا ننكر شيئا منه مما يقتضيه لكرم الإلهي فهو دعاء افتقار وخضوع وذل.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
(10/195)
حكى) إن الحجاج أراد قتل شخص فقال له لي إليك حاجة قال ما هي قال أريد أن أمشي معك ثلاث خطوات ففعل الحجاج فقال الشخص حق هذه الصبحة أن تعفو عني فعفا عنه ووجوه يومئذٍ} يتعلق بقوله {بَاسِرَةٌ} أي شديدة العبوس مظلمة ليس عليها أثر السرور أصلاً وهي وجوه الكفرة والمنافقين ، وقال الراغب : البسر الاستعجال بالشيء قبل أوانه فإن قيل فقوله : [القيامة : 22-25]{وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذا بَاسِرَةٌ} ليس يفعلون ذلك قبل الموت وقد قلت إن ذلك يقال فيما كان قبل وقته قيل إن ذلك إشارة إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد يجري مجرى التكلف ومجر ما يفعل قبل ومنه ويدل على ذلك قوله تعالى تظن} توقع أربابها بحسب الامارات والجملة خبر بعد خبرور جح أبو حيان والطيبي تفسير الظن بمعنى اليقين ولا ينافيه أن المصدرية كما توهم فإنها إنما لا تقع بعد فعل التحقق الصرف فأما بعد فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتجيء المصدرية والمشددة والمخففة نص عليه الرضى {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} داهية عظيمة تقصم فقار الظهر ومنه سمى الفقير فإن الفقر كسر فقار ظهره فجعله فقيراً أي مفقوراً وهو كناية عن غاية الشدة وعدم القدرة على التحمل فهي توقع ذلك كما تتوقع الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير بناء على أن قضية المقابلة بين الآيتين تقتضي ذلك قال بعضهم : أصح آنست كه آن بلا حجابست ازرؤيت رب الأرباب.
(مصراع) كه از
253
فراق بتردر جهان بلايى نيست.
وفي التأويلات النجمية : [القيامة : 22-15]{وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} لا إلى غيره بسبب الإعراض عن الدنيا في هذا اليوم والإقبال على الله ووجوه يومئذٍ باسرة.
تظن أن يفعل بها فاقرة بسبب الإقبال على الدنيا في هذا اليوم والإدبار عن الله جزاء وفاقاً وقال بعضهم : وجوه يومئذٍ ناضرة للتنور بنور القدس والاتصال بعالم النور والسرور والنعيم الدائم ووجوه يومئذٍ باسرة كالحه لجهامة هيئاتها وظلمة ما بها من الجحيم والنيران وسماجة ما تراه هنالك من الأهوال وسوء الجيران كلا} ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة أي ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي ينقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ} الضمير للنفس وإن لم يجر لها ذكر لأن الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها وتقول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء ءَ إذا بلغت النفس الناطقة وهي الروح الإنساني أالي الصر وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال فإذا بلغت إليها يكون وقت الغرغرة وبالفارسية ون برسد روح باستخوا نهاي سينه وكردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
وفي "كشف الأسرار" وقت كه جان بنبر كردن رسد.
جمع ترقوة بفتح التءا والواو وسكون الراء وضم القاف قال في "القاموس" الترقوة ولا تضم تاؤه العظم بين ثغرة النحر والعاتق انتهى.
والعاتق موضع الرداء من المنكب قال بعضهم : لكل أحد ترقوتان ولكن جمع التراقي باعتبار الأفراد وبلوغ النفس التراقي كناية عن عدم الإشفاء يعني بكناره اورسيدن ونزديك شدن.
والعامل في إذا بلغت معنى قوله إلى ربك يومئذٍ المساق أي إذا بلغت النفس الحلقوم رفعت وسيقت إلى الله أي إلى موضع أمر الله أن ترفع إليه {وَقِيلَ مَنْا رَاقٍ} معطوف على بلغت وقف حفص على من وقفة يسيرة من غير تنفس قال بعضهم لعل وجهه استثقال الراء المشددة التي بعدها قاف غليظ تلفظ في الإدغام واستكراه القطع التام بين المبتدأ والخبر والاستفهام والمستفهم عنه في النفس والفرار من الإظهار دون سكتة لأنه يعد من اللحن عند اتصال النون الساكنة بالراء بين أهل القراءة وقال من حضر صاحبها من يرقيه يعني افسون ميكنند.
وينجبه مما هو فيه من الرقية وهو التعويذ بما به يحصل الشفاء كما يقال بسم الله أرقيك وفعله من باب ضرب والاستفهام على هذا يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأن الذين حول ذلك الإنسان طلبوا له طبيباً يعالجه وراقياً يرقيه ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار كما يقال عند اليأس من الذي يقدر أن يرقى هذا الإنسان المشرف على الموت وهو الظاهر كما قال الراغب من راق أي من يرقية تنبيهاً على أنه لا راقي يرقيه فيحييه وذلك إشارة إلى نحو ما قال :
وإذا المنية أنشبت أظفارها
الفي كل تميمة لا تنفع
التميمة خرزات كان العرب يعلقونها على أولادهم خوفاً من العين وهو باطل لقوله عليه السلام : من علق تميمة فقد أشرك وإياها أراد صاحب البيت المذكور وقيل : و من كلام ملائكة الموت يقولون أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب من
254
(10/196)
الرقي وفعله من باب علم وقوله ملائكة الرحمة لا يمانعه قوله فلا صدق ولا صلى الآيات لأن الضمير فيه لجنس الإنسان فلا يتعين كون المحتضر من أهل النار قال الكلبي يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو قوله من راق وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر فيقول ملك الموت من يرقى بروح هذا الكافر {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} وأيقن المحتضر حين عاين ملائكة الموت ما نزل به هو الفراق من الدنيا المحبوبة ونعيمها التي ضيع العمر النفيس في كسب متاعها الخسيس وعبر عما حصل له من المعرفة حيئنذٍ بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل ظنه الغالب على رجاء الحياة قال الامام هذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت المعدن وإن الله تعالى سمى الموت فراقاً والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية فإن الفراق والوصال صفة وهي تستدعى وجود الموصوف قال المزني دخلت على الشافعي في مرة موته فقلت كيف أصبحت قال أصبحت من الدنيا رحلاً وللإخوان مفارقاً ولسوء عمى ملاقياً ولكأس المنية شارباً وعلى الله وارداً فلا أدرى أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ثم أنشأ يقول :
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك اعظما
وقال بعضهم :
فراق ليس يشبهه فراق
قد انقطع الرجاء عن التلاق
وفي الحديث : "إن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض" يقول السلام عليك أفارقك وتفارقني إلى يوم القيامة.
(قال الشيخ سعدى) :
كوس رحلت بكوفت دست أجل
أي در شعم ودع سر بكنيد
أي كف ودست وساعد وبازو
همه توديع يكدكر بكنيد
بر من افتاده مرك دشمن كام
آخر أي دوستان كذر بكنيد
روز كارم بشد بناداني
من نكردم از شما حذر بكنيد
قال يحيى بن معاذ رحمه الله إذا دخل الميت القبر قام على شفير قبره أربعة أملاك واحد عند رأسه والثاني عند رجليه والثالث عن يمينه والرابع عن يساره فيقول الذي عند رأسه يا ابن آدم أرفضت الآجال أي تفرقت وأنصيت الآمال أي هزلت ويقول الذي عن يمينه ذهبت الأموال وبقيت الأعمال ويقول الذي عن يساره ذهبت الأشغال وبقي الوبال ويقول الذي عند رجليه طوبى لك إن كان كسبك من الحلال وكنت مشتغلاً بخدمة ذي الجلال {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الالتفف برهم ييدن أي والتفت ساقه بساقه والتوت عليها عند قلق الموت فالساق العضو المخصوص والتفافهما اجتماعهما والتواء
255
أحداهما بالأخرى أو التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة وجه المجاز الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقيه فقيل للأمر الشديد ساق من حيث إن ظهورها لازم لظهور ذلك الأمور قد سبق في قوله تعالى : يوم يكشف عن ساق وعن سعيد بن امسيب هما سقاه حين تلفان في أكفائه {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَـاـاِذٍ الْمَسَاقُ} أي إلى الله وإلى حكمه يساق الإنسان لا إلى غيره أي يساق إلى حيث لا حكم هناك إلا الله.
(وقال الكاشفي) : بسوى جزاى رورد كارتو آروز باز كشت باشد همه كس را.
فالمساق مصدر ميمي بمعنى السوق بالفارسية راندن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
(10/197)
والألف واللام عوض عن المضاف إليه أي سوق الإنسان {فَلا صَدَّقَ} الإنسان ما يجب تصديقه من الرسول والقرآن الذي نزل عليه أي لم يصدق فلا ههنا بمعنى لم وإنما دخلت على الماضي لقوة التكرار يعني حسن دخول لا على الماضي تكراره كما تقول لا قام ولا قعد وقلما تقول العرب لا وحدها حتى تتبعها أخرى تقول لا زيد في الدار ولا عمرو أو فلا صدق ماله بمعنى لا زكاة فحينئذٍ يطلب وجه لترجيح الزكاة على الصلاة مع أن دأب القرآن تقديم الصلاة ولعل وجهه ما كان كفار مكة عليه من منع المساكين وعدم الحض على طعامهم في وقت الضرورة القوية وأيضاً على تأخير ولا صلى مراعاة الفواصل كما لا يخفى {وَلا صَلَّى} ما فرض عليه وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة يعني إن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقها بترك الإيمان وإن لم يجب أداؤها عليه في الدنيا {وَلَـاكِن كَذَّبَ} ما ذكر من الرسول والقرآن والاستدراك لدفع احتمال الشك فإن نفى التصديق لا يستلزم إثبات التكذب لكون الشك بين التصديق والتكذيب فإذا لا تكرار في الآية {وَتَوَلَّى} واعرض عن الطاعةولرسوله {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} أهل بيته أو إلى أصحابه {يَتَمَطَّى} يتبختر ويختال في مشيه افتخاراً بذلك وبالفارسية س باز كشت بسوى كسان خودمى خرايمد ازروى افتخاركه من نين ونين كارى كرده أم يعني تكذيب وتولى.
من المط وهو المد فإن المتبختر يمد خطاه يعني أن التمدد في المشي من لوازم التبختر فجعل كناية عنه فيكون أصله يتمطط بمعنى يتمدد أبدلت الطاء الأخيرة ياء كراهة اجتماع الأمثال كما في تقي البازي أو من المطا مقصوراً وهو الظهر فإنه يلويه ويحركه في تبختره فألفه مبدلة من واو ويتمطى جمة حالية من فاعل ذهب وفي الحديث إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس واروم كأن بأسهم بينهم والمطيطاء كحميراء التبختر ومد اليدين في المشي والبأص شدة الحرب {أَوْلَى لَكَ} وأي برتواى إنسان مكذب {فَأَوْلَى} س وأي برتو {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تكرير للتأكيد فهو مستعمل في موضع ويل لك مشتق من الولي وهو القرب ولمراد دعاء عليه بأن يليه مكروه وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في ردف لكم نقل الثلاثي إلى أفعل فعدى إلى مفعولين وفي "القاموس" أولى لك تهديد ووعيد أي قاربه ما يهلكه أو أولى لك الهلاك فيكون اسماً بمعنى أحرى أي الهلاك أولى وأحرى لك من كل شي فيكون خبر مبتدأ محذوف.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
وقال الكاشفي) : أولى لك
256
سزاوارست ترامركى سخت فأولى س سزاوارست ترا عذاب أليم در قبر ثم أولى لك س نيك سزا وارست تراهول قيامت فأولى س بغايت سزاست ترا خلود در دوزخ.
(10/198)
وروى إنه لما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وهزه مرة أو مرتين ولكزه في صدره وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فقال أبو جهل أتوعدني يا محمد ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعز أهل هذا الوادي فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع وقتله أسوء قتلة اقعصه بنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود رضي الله عنه واقعصه قتله مكانه وأجهز على الجريح أثبت قتل وأسره وتمم عليه وكان رسول الله عليه السلام يقول إن لكل أمة فرعوناً وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي يحيى حال كونه مهملاً فلا يكلف ولا يجزي وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث سدى المهمل يقال أسدبت أبلى أسداء أي ملتها وتقول أسديت حاجتي وسديتها إذا متها ولم تقضها وتكرير الإنكار لحسبانها يتضمن تكرير إنكاره للحشرو يتضمن الاستدلال على صحة البعث أيضاً وتقريره إن إعطاء القدرة ولآلة والفعل بدون التكليف والأمر بالمحاسن والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضياً بقبائح الأعمال وذلك لا يليق بحكمته إذا لا بد من التكليف في الدنيا والتكليف لا يليق بالكريم الرحيم إلا لأن يميز الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المفسدين في الأرض ولا يجعل المتقين كالفجار ويجازي كل نفس بما تسعى والمجازاة قد لا تكون في الدنيا فلا بد من البعث والقيامة وإنما لم تكن الدنيا دار المجازاة لضيقها وقد قال بعض الكبار من طلب تعجيل نتائج أعماله وأحواله في هذه الدار فقد أساء الأدب وعامل الموطن بما لا تقتضيه حقيقته {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى} الخ ستئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة استدل على تحققها ببدء الخلق وقال ابن الشيخ هو استدلال على صحة البعث بدليل ثان والاستفهام بمعنى التوبيخ والنطفة بالضم الماء الصافي قل أو كثر والمني ماء الرجل والمرأة أي ما خلق منه حيوان فالحبل لا يكون إلا من الماءين ويمني بالياء صفة منى وبالتاء صفة نطفة بمعنى يصب ويراق في الرحم ولذا سميت من كالى وهي قرية بمكة لما يمنى فيها من دماء القرابين والمعنى ألم يكن الإنسان ماء قليلاً كائناً منماء معروف بخسة القدر واستقذار الطبع ولذا نكرهما يمنى ويصب في الرحم نبه سبحانه بهذا على خسة قدر الإنسان أولاً وكمال أقدرته ثانياً حيث صير مثل هذا الشي الدني بشراً سوياً وقال بعضهم فائدة قوله يمنى للإشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل إنه مخلوق من لنمي الذي يرجي على مخرج النجاسة فكيف يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله فيما أمر به ونهى إلا أنه تعالى عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم عليهما السلام كانا يأكلان الطعام والمراد منه قضاء الحاجة كناية
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أي ثم كان لمني بعد أربعين يوماً قطعة دم جامد غليظ أحمر بقدرة الله تعالى بعد ما كان ماء أبيض كقوله تعالى : [المؤمنون : 14-38]{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} وهو عطف على قوله : ألم يك لأن إنكار عدم الكون يفيد ثبوت المكون فالتقديرك ان الإنسان نطفة ثم كان علقة فخلق} أي فقدر بأن
257
جعلها مضغة مخلقة بعد أربعين أخرى أي قطعة لحم قابل لتفريق الأعضاء وتمييز بعضها من بعض وجعل المضغة عظاماً تتميز بها الأعضاء بأن صلبها فكسا العظام لحماً يحسن به خلقه وتصويره ويسعد لإفاضة القوى ونفخ الروح {فَسَوَّى} فعدله وكمن نشأته.
(قال الكاشفي) : س رلست كردصورت واندام اورا وووح دردميد.
وفي المفرات جعل خلقه على ما اقتضته الحكمة الإلهية أي جعله معادلاً لما تقتضيه الحكمة وقال بعضهم : معنى التسوية والتعديل جعل كل عضو من أعضائه الزوج معادلاً لزوجه {فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان باعتبار الجنس أو من المني وجعل بمعنى خلق ولذا اكتفى بمفعول واحد وهو قوله {الزَّوْجَيْنِ} أي الصنفين {الذَّكَرَ وَالانثَى} بدل من الزوجين ويجوز أن يكونا منصوبين بإضمار أعني ولا يخفى إن الفاء تفيد التعقيب فلا بد من مغايرة بين المتعاقبين فلعل قوله فخلق فسوى محمول على مقدار مقدر من الخلق يصلح به للتفرقة بين الزوجين وقوله فجعل منه الزوجين على التفرقة الواقعة {أَلَيْسَ ذَالِكَ} العظيم الشان الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع {بِقَـادِرٍ عَلَى أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى} وهو أهون من البدء في قياس العقل لوجود المادة وهو عجب الذنب والعناصر الأصلية.
(10/199)
(روى) أن النبي عليه السلام كان إذا قرأها قال سبحانك اللهم بلى تنزيهاً له تعالى عن عدم القدرة على الإحياء وإثبتاً لوقوعها عليه وفي رواية بلى والله بلى والله وقال ابن عباس رضي الله عنهما من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إما ما كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فإذا انتهى إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم يلي إماماً كان أو غيره وفي الحديث : "من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس بالله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى فليقل سبحانك بلى ومن قرأ والمرسلات عرفاً فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمناً بالله".
وفي الآية إشارة إلى أن الله يحيى موتى أهل الدنيا بالإعراض عنها والإقابل على الآخرة والمولى أيضاً يحيى موتى النفوس بسطوع أنوار القلوب عليها وأيضاً يحيى موتى القلوب تحت ظلمة لنفوس الكافرة الظلمة بنور الروح والسر والخفى ومن أسند العجز إلى الله فقد كفر بالله نسألتعالى العصمة وحسن الخاتمة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 243
تفسير سورة الإنسان
إحدى وثلاثون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 257
{هَلْ أَتَى} استفهام تقرير وتقريب فإن هل بمعنى قد والأصل أهل أتى أي قد أتى وبالفارسية آيا آمد يعني بدرستى كه آمد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
تركوا الألف قبل هل لأنها لا تقع إلا في الاستفهام وإنما لزوم أداة الاستفهام ملفوظة أو مقدرة إذا كان بمعنى قد ليستفاد التقرير من همزة الاستفهام والتقريب من قد فإنها موضوعة لتقريب الماضي إلى الحال والدليل على أن الاستفهام غير مراد
258
إن الاستفهام على الله محال فلا بد من حمله على الخبر تقول هل وعظتك ومقصودك أن تحمله على الإقرار بأنك قد وعظته وقد يجيء بمعنى الجحد تقول وهل يقدر أحد على مثل هذا فتحمله على أن يقول لا يقدر أحد غيرك {عَلَى الانسَانِ} قبل زمان قريب والمراد جنس الإنسان لقوله من نطفة لأن آدم لم يخلق منها ثم المراد بالجنس بنوا آدم أو ما يعمه وبنيه على التغليب أو نسبه حال البعض إلى الكل للملابسة على المجاز {حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} الحين زمان مطلق ووقت مبهم يلح لجميع الأزمان طال أو قصر وفي المفردات الحين وقت بلوغ الشي وحصوله وهو مبهم ويتخصص بالمضاف إليه نحو ولات حين مناص ومن قال حين على أوجه للأجل والمنية وللساعة وللزمان المطلق إنما فسر ذلك بحسب ما وجده قد علق به والدهر الزمان الطويل والمعنى طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد وهي مدة لبثه في بطن أمه تسعة أشهر أن صار شيئاً مذكوراً على ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما {لَمْ يَكُنِ} فيه فالجملة صفة أخرى لحين بحذف الضمير {شَيْاًا مَّذْكُورًا} بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً نطفة في الأصلاب فما بين كونه نطفة وكونه شيئاً مذكوراً بالإنسانية مقدار محدود من الزمان وتقدم عالم الأرواح لا يوجب كونه شئاً مذكوراً عند الخلق ما لم يتعلق بالبدن ولم يخرج إلى عالم الأجسام.
(روى) أن الصديق أو عمر رضي الله عهما كما في عين المعاني لما سمع رجلاً يقرأ هذه الآية بكى وقال ليتها تمت فلا شيء أراد ليت تلك تمت وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف ومعنى الاستفهام التقريري في الآية أن يحمل من ينكر البعث على الإقرار بأنه نعم أتى عليه في زمان قريب من زمان الحال حين من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً فيقال له من أحدثه بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته وقال القاشاني أي كان شيئاً في علم الله بل في نفس الأمر لقدم روحه ولكنه لم يذكر فيما بين الناس لكونه في عالم الغيب وعدم شعو من في عالم الشهادة به.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258(10/200)
وفي التأويلات النجمية : أعلم أن للإنسان صورة علمية غيبية وصورة عينية شهادية وهو من حيث كلتا الصورتين مذكور عند الله أزلاً وأبداً لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لعلمه الأزلي الأبدي بالأشياء قبل إيجاد الأشياء وقبل وجوده خلق الخلق وهم معدومون في كتم العدم وعلمه بنفسه يستلزم علمه بأعيان الأشياء لأن الأشياء مظاهر أسمائه وصفاته وهي عين ذاته فافهم أي ما أتى على الإنسن حين من الأحيان وهو كان منسياً فيه بالنسبة إلى الحق وكيف وهو مخلوق على صورته وصورته حاضرة له مشهودة عنده وهل للاستفهام الإنكاري بخلاف المحجوبين عن علم المعرفة والحكمة الإلهية وقال جعفر الصادق رضي الله عنه هل أتى عليك يا إنسان وقت لم يكن الله ذاكراً لك فيه {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ} أي خلقناه يعني جسمه والإظهار لزيادة التقرير {مِن نُّطْفَةٍ} حتى كان علقة في أربعين يوماً ومضغة في ثمانين ومنفوخاً فيه الروح في مائة وعشرين يوماً كما كان أبوهو آدم خلق من طين فألقى بين مكة والطائف فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سة أخرى ثم من صلصال فأقام أربيعن سنة أخرى فتم خلقه في مائة وعشرين سنة فنفخ فيه الروح على ما جاء في رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما فما كان
259
سنين في آدم كان أياماً في أولاده وحمل بعضهم الإنسان الأول على آدم والثاني على أولاده على أن يكون الحين هو الزمن الطيول الممتد الذي لا يعرف مقاره والأول وهو حمله في كلا الموضعين على الجنس أظهر لأن المقصود تذكير الإنسان كيفية الخلق بعد أن لم يكن ليتذكر أول أمره من عدم كونه شيئاً مذكوراً أو آخر أمره من كونه شيئاً مذكوراً مخلوقاً من ماء حقير فلا يستبعد البعث كما سبق {أَمْشَاجٍ} أخلاط بالفارسية آميختها.
جمع مشج كسبب أو كتف على لغتيه أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته وصف النطفة بالجمع مع أفرادها لما إن المراد بها مجموع الماءين يختطان في الرحم ولكل منهما أوصاف مختلفة من اللون والرقة والغلظ وخواص متباينية فإن ماء الرجل أبيض غليظ فيه قوة العقد وماء المرأة أصفر رقيق فيه قوة الانعقاد فيخلق منهما الولد فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة على ما روى في المرفوع وفي الخبر ما من مولدو إلا وقد ذر على نطفته من تربة حفرته كل واحد منهما مشيج بالآخر وقال الحسن رحمه الله ، نطفة مشيجة بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت ارتفع الحيض وإليه ذهب صاحب "القاموس" حيث قال ونطفة أمشاج مختلطة بماء المرأة ودمها انتهى فيكون النطفتان ودمها جمعاً وقال الراغب : هو عبارة عما جعل الله بالنطفة من القوى المختلفة المشار إليها بقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة الآية انتهى.
فيكون معنى أمشاج ألوان وأطوار على ما قال قتادة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : أي من نطفة قوة القابلية الممتشجة المختلطة بنطفة قوة الفاعلية أي خلقناه من نطفة الفيض الأقدس المتعلق بالفاعل ونطفة الفيض المقدس المتعلق بالقابل فالفيض الأقدس الذاتي بمنزلة ماء الرجل والفيض المقدس إلا سمائي بمنزلة بمنزلة ماء المرأة {نَّبْتَلِيهِ} حال مقدرة من فاعل خلقنا أي مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما سيأتي ليتعلق علمنا بأحواله تفصيلاً في العين بعد تعلقه بها إجمالاً في العلم وليظهر أحوال بعضهم لبعض من القبول والرد والسعادة والشقاوة {فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية فهو كالمسبب عن الابتلاء أي عن إرادته فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء كأنه قيل إنا خلقناه مريدين تكليفه فأعطيناه ما يصح معه التكليف والابتلاء وهو السمع والبصر وسائر آلات التفهيم والتمييز وطوى ذكر العقل لأن المراد ذكر ما هو من أسبابه والآلة التي بها يستكمل فطريقه الأول لأكثر الخلق من السعداء السمع ثم البصر ثم تفهم العقل وفي اختيار صيغة المبالغة إشارة إلى كمال إحسنه إليه وتمام إنعامه وبصيراً مفعول ثان بعد ثان لجعلناه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : فجعلناه سميعاً جميع المسموعات بصيراً جميع المبصرات كما قال كنت سمعه وبصره فبي يسمع وبي يبصر فلا يفوته شيء من المسموعات ولا من المبصرات فافهم جداً يا مسكين وقال أبو عثمان المغربي قدس سره ابتلى الله الخلق بتسعة أمشاج ثلاث فتانات هي سمعه وبصره ولسانه وثلاث كافرات هي نفسه وهواه وعدوه الشيطان وثلاث مؤمنات هي عقله وروحه وقلبه فإذا أيد الله العبد بالمعونة قهر العقل على
260
(10/201)
القلب فملكه واستأسر النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلاً فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا قال الله تعالى قاتلوهم حتى لا تكون فتنة {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} مرتب على ما قبله من إعطاء الحواس فإنه استئناف تعليلي لجعله سميعاً بصيراً يعني إن إعطاء الحواس الظاهرة والباطنة والتحلى بها متقدم على الهداية والمعنى أريناه وعرفناه طريق الخير والشر والنجاة والهلاك بإنزال الآيات ونصب الدلائل كما قال وهديناه النجدين أي بيا له طريق الخير والشر فإن النجد الطريق الواضح المرتفع فالمراد بالهداية مجرد الدلالة لا الدلالة الموصلة إلى البغية كما في بعض التفاسير {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} حالان من مفعول هديناه قال في الإرشاد أي مكناه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البغية في حالتيه جميعاً فأما التفصيل ذي الحال فإنه مجمل من حيث الدلالة على الأحوال لا يعلم إن المراد هدايته في حال كفره أو في حال إيمانه وبالتفصيل تبين إنها تعلقت به في كل واحدة من لحالين فالشاكر الموحد والكفور الجاحد لأن الشكر الإقرار بالنمعم ورأس الكفر إن جحوده ويقال شاكر النعمة وكفورها.
قال الراغب : الكفور يقال في كافر النعمة وكافر الدين جميعاً ويجوز أن يكون إما للتقسيم بأن يعتبر ذو الحال من حيث إنه مطلق وهو اللفظ الدال على الماهية من حيث هي ويجعل كل واحد من مدخولي إما قيداً له فيحصل بالتقيد بكل منهما قسم منه أي مقسوماً إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ في وبعضهم كفور بالإعراض عنه وإيراد لكفور لمراعاة الفواصل أي رؤوس الآي والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذة عليه الكفر المفرط والشكور قليل منهم ولذا لم يقل إما شكوراً وإما كفوراً وإما شاكراً وإما كافراً والحاصل إن الشاكر والكفور كنايتان عن المثاب والمعاقب ولما لم يكن مجرد الكفران مستلزماً للمواخذة لم يصح أن يجعل كناية عنها بخلاف مجرد الشكر فإنه ملزوم الإثابة بمقتضى وعد الكريم فأدير أمر الإثابة على مطلق الشكر لا على المبالغة فيه كما أدير المؤاخذة على المبالغة في لكفران لا على أصله وكل ذلك بمقتضى سعة رحمة الله وسبقها على غضبه وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة في إما وهي قراءة حسنة والمعنى إما كون شاكراً فبتوفيقنا وإما كونه كفوراً فبسوء اختياره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : إنا خيرناه في الاهتداء إلى سبيل التنكر المتعلق باليد اليمنى الجمالية أو إلى سبيل الكفر المتعلق باليد اليسرى الجلالية فاختار بعضهم سبيل الشكر من مقتضى حقائقهم واستعداداتهم الأزلية واختار بعضهم سبيل الكفر من مقتضى حقائقهم وقابلياتهم الأزلية أيضاً كما قال هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وهؤلاء أهل النار ولا أبالي أي المدح والذم يتعلق بهم لأبي ولما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد فقال {إِنَّآ أَعْتَدْنَا} هيأنا في الآخرة فإن الاعتاد إعداد الشي حتى يكون عتيداً حاضرا متى احتيج إليه {لِلْكَـافِرِينَ} من أفراد الإنسان الذي هيناه السبيل {سَلَـاسِلا} بها يقادون إلى جهنم وفي "كشف الأسرار" اعتدنا للكافرين في جهنم سلاسل كل سلسلة سبعون ذراعاً وهو بغير تنوين في قراءة حفص وإما الوقف فبالألف تارة وبدونها أخرى وتسلسل الشيء اضطراب كأنه تصور
261
منه تسلسل وتردد فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه ومنه السلسلة وفي "القاموس" السلسلة أي بالفتح إيصال الشيء بالشيء وبالكسر دائرة من حديد ونحوه {وَأَغْلَـالا} بها يقيدون إهانة وتعذيباً لا خوفاً من الفرار جمع غل بالضم وهو ما تطوق به الرقبة للتعذي وقدسبق في الحاقة مفصلاً {وَسَعِيرًا} ناراً بها يحرقون يعني وآتشى أفروخته كه دران يوسته بسوزند.
وإنمايجرون إلى جهنم بالسلاسل لعدم انقيادهم للحق ويحقرون أن يقيدوا بالأغلال لعدم تواضعهمويحرقون بالنار لعدم احتراقهم بنار الخوف من الله تعالى وفيه إشارة إلى أن الله تعالى أعد للمحجوبين عن الحق المشغولين بالخلق سلاسل التعلقات الظاهرة بحب الدنيا وطلبها وإغلال العوائق الباطنة بالرغبة إليها وفيا ونار جهنم البعد والطرد واللعن وتقديم وعيد الكافرين مع تأرهم في مقام الإجمال للجمع بينهما في الذكر ولأن الإنذار أهم وأنفع وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن في وصفهم تفصيلاً ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم {إِنَّ الابْرَارَ} شروع في بيان حسن حال الشاركين أثر بيان سوء حال الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية والأبرار جمع بر كرب وأرباب أو جمع بار كشاهد وإشهاد وهو من يبر خالقه أي يطيعه يقال بررته أبره كعلمته وضربته وعن الحسن رحمه الله البر من لا يؤذي الذر ولا يضمر الشر كما قيل :
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
ولا تؤذ نمو إن أردت كمالكا
فإن لها نفسها تطيب كمالكا
(10/202)
وفي "المفردات البر" خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع يفعل الخير وبر العبد ربه توسع في طاعته ويشمل الاعتقاد والأعمال الفرائض والنوافل وقال سهل رحمه الله : الأبرار الذين فيهم خلق من أخلاق العشرة الذين وعدلهم النبي عليه السلام بالجنة قال عليه السلام : إنثلاثمائة وستين خلقاً من لقبه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة قال أبو بكر رضي الله عنه ، هل في منها يا رسول الله قال كلها فيك يا أبا بكر وأحبها إلى الله السخام {يَشْرَبُونَ} في الجنة والشرب تناول كل مائع ماء كان أو غاره قال يشربون ابتاء كالمطيعين أو انتهاء كالمعذبين من المؤمنين بحكم العدل {مِن كَأْسٍ} هي الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتطلق على نفس المر أيضاً على طريق ذكر المحل وإرادة الحال وهو المراد هنا عند الاوكثر حتى روى عن الضحاك إنه قال كل كاس في القرآن فإنما عنى به الخمر فمن على الأول ابتدائية وعلى الثاني تبعيضية أو بيانية {كَانَ} بتكوين الله {مِزَاجُهَا} أي ما تمزج تلك الكأس به يقال مزج الشراب خلطه ومزاج البدن ويمازجه من الصفراء والسوداء والبلغم والدم والكيفيات المناسبة لكل منها {كَافُورًا} أي ماء كافور وهو اسم عين في الجنة في المقام المحمدي وكذا سائر العيون ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده دون طعمه وإلا فنفس الكافور لا يشرب ونظيره حتى إذا جعله ناراً أي كنار والكافور طيب معروف يطيب به الأكفان والأموات لحسن رائحته واشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته وفي "القاموس"
262
الكافور طيب معروف يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين يظل خلقاً كثيراً وتالفه النمورة وخشبه أبيض هش ويوجد في أجوافه الكافور وهو أنواع ولونها أحمر وإنما تبيض بالتصعد وعين في الجنة انتهى.
والجملة صفة كأس {عَيْنًا} بدل من كافوراً يعني : كافور شمه ايست.
والعين الجارية ويقال لمنبع الماء تشبيهاً بها في الهيئة وفي سيلان الماء فيها {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} صفة عين وعباد الله هنا الأبرار من المؤمنين لأن إضافة التكريم إلى اسمه الأعظم مختصة بالمؤمن في الغالب كالإضافة إلى كناية التكلم كقول يا عبادي لرعايتهم حق الربوبية فمن لم يراعه فكأنه ليس بعبد له أي يشربون با الخمر لكونها ممزوجة بها كما تقول شربت الماء بالعسل فيكون كناية عن قوتها في لذتها وعلى هذا فيه إشارة إلى أن المقربين الأقوياء يشربون شراب الكافور صرفاً غير ممزوج والظاهر يشرب منها فالباء بمعنى من فان حروف العوامل ينوب بعضها مناب بعض ونظيره قوله تعالى : [الأعراف : 57-6]{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ} أي أزال من السحاب الماء صرح به الشيخ المكي رحمه الله في قوت القلوب يفجرونها تفجيراً} التفجير والتفجرة آب راندن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي "المفردات" الفجر شق الشيء شقاً واسعاً كفجر الإنسان السكر يقال فجرته فنفجر وفجرته فتفجر والمعنى يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم كما يفيده باء التفعيل إذ التشديد للكثرة إجراء سهلاً لا تمنع عليهم بل تجري جرياً بقوة واندفاع لأن الأنهار منقادة لأهل الجنة كالأشجار وغيرها فتفجيراً مصدر مؤكد للفعل المتضمن معنى السهولة والجملة صفة أخرى لعينا.
وفي التأويلات النجمية : يشير بالأبرار إلى عباد الله المخلصين المخصوصين بفيض الاسم الأعظم الشامل للأسماء للذين سقاهم ربهم المتجلى لهم باسمه الباسط بكأس المحبة طهور شراب العشق الممزوج بكافور برد اليقين المفجر الجاري في أنهار أرواحهم وأسرارهم وقلوبهم من فرط الرحمة وشمول النعمة.
وقال القاشاني : إن الأبرار السعداء الذين برزوا عن حجاب الآثار والأفعال واحتجبوا بحجب الصفات غير واقفين معها بل متوجهين إلى عين الذات مع البقاء في عالم الصفات وهم المتوسطون في السلوك يشربون من كأس محبة حسن الصفات لا صرفاً بل كان في شرابهم مزج من لذة محبة الذات وهي العين الكافورية المفيدة للذة يرد اليقين وبياض النورية وتفريح القلب المخترق بحرارة الشوق وتقويته فإن للكافور خاصية التبريد والتفريح والبياض والكافور عين يشرب بها صرفة عباد الله الذين هم خاصته من أهل الوحدة الذتية المخصوص محبتهم يعين الذات دون العسفات لا يفرقون بين القهر واللطف والرفق والعنف والنعمة والبلاء والشدة والرخاء بل تستقر محبتهم مع الأضداد وتستمر لذتهم في النعماء والضراء والرحمة والزحمة كما قال أحدهم :
هواي له فرض تعطف أم جفا
ومشربه عذب تكدر أم صفا
وكلت إلى المحبوب أمري كله
فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا
وأما الأبرار فلما كانوا يحبون المنعم واللطيف والرحيم لم تبق محبتهم عند تجلى القهار
263
والمبتلى والمنتقم بحالها ولا لذتهم بل يكرهون ذلك يفجرونها تفجير لأنهم مابعها لا اثنينية ثمة ولا غيرية وإلا لم يكن كافور الظلمة حجاب الأنانية واثنينيته وسواده انتهى.
(10/203)
قال بعضهم : اختلفت أحوالهم في الدنيا فاختلفت مشاربهم في الآخرة فكل يسفي ما يليق بحاله كعيون الحياء وعيون الصبر وعيون الوفاء وغير ذلك ثم إن الكأس إما نفسانية شيطانية وهي ما تكون لأهل الفسق في الدنيا وهي حرام وفي الحديث : "إذا تناول العبد كأس الخمر ناشده الإيمان بالله لا تدخلها على فاني لا استقر أنا وهي في وعا واحد فإن أبى وشربها نفر الإيمان نفرة لا يعود إليه أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه ، ونقص من عقله شيء لا يعود إليه أبداً" وإما جسمانية رحمانية وهي ما تكون للمؤمنين في دار الآخرة عطاء ومنحة من الله الوهاب وإما روحانية ربانية وهي ما تكون لأهل المحبة والشوق في الدارين وهي ألذ الأقداح قال مولانا جلال الدين قدس سره :
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
ألا يا ساقيا إني نظمئان ومشتاق
ادر كأساً ولا تنكر فإن القوم قد ذاقوا
خذ الدنيا وما فيها فإن العشق يكفين
لنا في العشق جنات وبلدان وأسواق
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} استئناف كأنه قيل ماذا يفلعون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية فقيل يوفون بما أوجبوه على أنفسهم فكيف بما أوجبه الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها فهو مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات والإيفاء بالشيء هو الإتيان به تاماً وافياً والنذر إيجاب الفعل المباح على نفسه تعظيماً بأن يقولعلى كذا من الصدقة وغيرها وإن شفى مريضي أورد ائبي فعلى كذا واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كما إذا قال إن دخل فلان الدار فعلى كذا ففي الناس من جعله كاليمين ومنهم من جعله من باب النذور قيل النذر كالوعد إلا أنه إذا كان من العباد فهو قذر وإذا كان من الله فهو وعد والنذر قربة مشروعة ولا يصح إلا ي الطاعة وفي الحديث "من نذر أن يطيع الله فليطعمه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" قال هارون بن معروف جاءني فتى فقال إن أبي حلف علي بالطلاق أن أشرب دواء مع مسكر فذهبت به إلى أبي عبد الله فلم يرخص له وقال : قال عليه السلام : "كل مسكر حرام وإذا جمع الأطباء على أن شفاء المريض في الخمر لا يشربها إذا كان له دواء آخر وإذا لم يكن يشربها ويتداوى بها" في قول ثم إن الاهتمام بما أوجب الله على عبده ينبغي أن يكون أكمل مما أوجه العبد على نفسه ومن الناس من هو على عكس ذلك فإنه يتهاون بما أوجبه الله عليه فإن يؤدي الصلاة الواجبة مثلاً وإذا نذر شيئاً في بعض المضايقات يسارع إلى الوفاء وليس إلا من الجهل.
وقال القاشاني : أي الأبرار يوفون بلعهد الذي كان بينهم وبينصبيحة يوم الأزل بأنهم إذا وجدوا التمكن بالآلات والأسباب أبرزوا ما في مكامن استعداداتهم وغيوب فطرتهم من الحقائق والمعارف والعلوم والفضائل وأخرجوها إلى الفعل بالتزكية والتصفية {وَيَخَافُونَ يَوْمًا} أي يوم القيامة {كَانَ شَرُّهُ} أي هو له وشدته وعذابه {مُسْتَطِيرًا} فاشياً منتشراً في الأقطار غاية الانتشار بالغاً أقصى المبالغ.
يعني يهمه كس
264
بهمه جا رسيده.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
(10/204)
من الاستطار الحريق أي النار وكذا الفجر قال في "القاموس" المستطير الساطع المنتشر واستطار الفجر انتشر وهو أبلغ من طار بمنزلة استنفر من نفر وأطلق الشر على أهوال القيامة وشدائدها المنتشرة غاية الانتشار حتى ملأت السموات والأرض مع إنها عين حكمة وصواب لكونها مضرة بالنسبة إلى من تنزل عليه ولا يلزم من ذلك إن لا يكون خيره مستطيراً أيضاً فإن ليوم القيامة أموراً سارة كما إن له أموراً ضارة وقال سهل رحمه الله البلايا والشدائد عامة في الآخرة للعامة والملامة خاصة للخالصة ثم إن يوفون الخ بيان لأعمالهم وإتيانهم لجميع الواجبات وقوله ويخافون.
.
الخ.
بيان لنياتهم حيث اعتقدوا يوم البعث والجزاء فخافوا منه فإن الطاعات إنما تتم بالنيات وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله بالأبرار قال بعض العارفين يشير إلى أرباب السلوك في طريق الحق وطلب حيث أوجبوا على أنفسهم أنواع الرياضات وأصناف المجاهدات وتركوا الرقاد وأهلكوا بالجوع الأجساد وأحرقوا بالعطش الأكباد وسدوا الأذان من استماع كلام الأغيار وأعموا أبصارهم عن رؤية غير المحبوب الحقيقي وختموا على القلوب عن محبة غير المطلوب الأزلي خوفوا أنفسهم من يوم تجلى صفة القهر والسخط باستيلاء الهيئات المظلمة على القلب وهو نهاية مبالغ الشر فاجتهدوا حتى خلصهم الله مما خافوا وأدخلهم في حرمه الآمن {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي كائنين على حب الطعام ولحاجة إليه ونحوه لن تالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون أو على حب الإطعام فيطعمون بطيب النفس فالضمير إلى مصدر الفعل كما في قوله تعالى : {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أو كائنين على حب الله أو إطعاماً كائناً على حبه تعالى وهو الأنسب لما سيأتي من قوله لوجه الله فالمصدر مضاف إلى المفعول والفاعل متروك أي على حبهمويجوز أن يضاف إلى الفاعل والمفعول متروك أي على حب الله الإطعام والطعام خلاف الشراب وقد يطلق على الشراب أيضاً لأن طعم الشءي ذوقه مأكولاً أو مشروباً والظاهر الخصوص وإن جاز العموم.
واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين الطاعة لأمر الله وإليه الإشارة بقوله يوفون بالنذر والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله ويطعمون الطعام فإن الطعام وهو جعل الغير ط ما كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه إلا أن الإحسان بالطام لما كان أشرف أنواع الإحسان عبر عن جنس الإحسان باسم هذا النوع كما في حواشي ابن الشيخ وقال بعض أهل المرعفة أي يتجردون عن المنافع المالية ويزكون أنفسهم عن الرذائل خصوصاً عن الشح لكون محبة المال أكثف الحجب فيتصفون بفضيلة الإيثار وسد خلة الغير في حال إحتياجهم أو يزكون أنفسهم عن رذيلة الجهل فيطعمون الطعام الروحاني من الحكم والشرائع على حب الله من ذكر من قوله مسكيناً} فقيراً لا شيء له عاجزاً عن الكسب وبالفارسية درويش بي مايه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وقال القاشاني المسكين الدائم السكون إلى تراب البدن {وَيَتِيمًا} طفلاً لا أب له {وَأَسِيرًا} الأسر الشد بالقد سمى الأسير بذلك ثم قيل لكل
265
مأخوذ مقيد وإن لم يكن مشدوداً بذلك والمعنى وأسيراً مأخوذاً لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلة أي أسير كان فإنه عليه السلام ، كان يونى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه لأنه يجب الطعام الأسير الكافر والإحسان إليه في داراً للإسلام بما دون الواجبات عند عامة العلماء إلى أن يرى الامام رأيه فيه من قتل أو من أو فداء أو استرقاق فإن القتل في حال لا ينافي وجوب الإطعام في حال أخرى ولا يجب إذ عوقب بوجه إن يعاقب بوجه آخر ولذا لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به غير القتل أو المعنى أسيراً مؤمناً فيدخل فيه المملوك عبداً أو أمة وكذا المسبحون.
يعني مسبون از أهل فقركه در حقي از حقوق مسلمين حبس كرده باشند.
وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الغريم أسيراً فقال غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك أي بلإمهال والوضع عنه بعضاً أو كلا وهو كل الإحسان وفي الحديث : "من أنظر معسراً أو وضع له أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ضل إلا ظله" أي حماه من حرارة القيامة وقيل الزوجة من لإسراء في يد الأزواج لما قال عليه السلام : "اتقوا الله في النساء فإنن عواني عندكم والعاني الأسير" وفي "القاموس" العواني النساء لأنهن يظلمن فلا ينتصرن.
وقال القاشاني : الأسير المحبوس في أسر الطبيعة وقيود صفات النفس.
وفي التأويلات النجمية : ويطمعون طعام المعراف والحكم الإلهية المحبوبة لهم مسكين السر لقرب انقياده تحت حكم الروح وذلته تحت عزته ويتيم القلب لبعد عهده ومكانه من أبيه الروح وأسير الأعضاء والجوارح المقيدين بقيود أحكام الشريعة وحبال آثار الطريقة انتهى.
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} جزاين نيست كه ميخو رانيم شمارا أي طعامها براي رضاي خدا.
(10/205)
على إردة قول هو في موقع الحال من فاعل يطعمون أي قائلين ذلك بلسان الحال أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر.
هره دهى مى ده ومنت منه
وآنه بمنت دهى آن خود مده
منت ومزدى كه در احسان بود
وقت جزا موجب نقصان بود
وعن الصديقة رضي الله عنها إنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله والوجه الجارحة عر به عن الذات لكونه أشرف الأعضاء وقال بعضهم الوجه مجاز عن الرضى لأن الرضى معلوم في الوجه وكذا السخط {لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً} على ذلك بالماء والنفس والفرق بين الجاء والأجر أن الأجر ما يعود من ثواب العمى دنيوياً كان أو أخروياً ويقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد ولا يقال إلا في النافع وإما الجزاء فيقال فيما كان عن عقد وغير عقد ويقال في النافع والضار والمجازاة المكافأة وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها {وَلا شُكُورًا} أي شكراً باللسان ومدحاً ودعاء وهو مصدر على وكن الدخول والجملة تقرير وتأكيد لما قبلها.
قال القاشاني : لا نريد مكم مكافأة وثناء لعدم الاحتجاب بالأعراض والأعواض.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية لا نريد منم جزاء بالذكر الجميل في الدنيا ولا شكوراً عن عذاب الآخرة إذ كل عمل يعمله العامل لثواب الآخرة لا يكون لوجه الله بل يكن لحظ نفسه كما قال تعالى :
266
{فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا} وقال عليه السلام : حكاية عنالله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك في معي غيري تركته وشركه والحاصل إن معاملة العبد المخلص إنما هي مع الله فلا حق له على الغير فكيف يريد ذلك وفيه نصح لمن أراد النصيحة فإن الإطعام ونحوه حرام بملاحظة الغير وحظ النفس فيجب أن يكون خالصاً لوجه الله من غير شوب بالرياء وبحظ المنعم.
زعمر واى سر شم اجرت مدار
و درخانه زيد باشى بكار
إنا نخاف من ربن يوماً} أي عذاب يوم وهو مفعلو خاف فمن ربنا حال متقدمة منه ولو أخر لكان فة له أو مفعوله قوله ربنا بواسطة الحرف على ما هو الأصل في تعديه لأنه يقال خاف منه فيكون يوماً بدلاً م محله بدون تقدير بناء على التعدية بنفسه أو بتقدير نخاف آخر {عَبُوسًا} من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه والمعنى تعبس فيه الوجوه.
يعني روزى كه رويها دروترش كردد ازشدت أهوال.
كما روى أن الكافر يعبس يومئذٍ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران والعبوس قطوب الوجه من ضيق الصدر أو معنى عبوساً يشبه الأسد العبوس في الشدة والضراوة أي السطوة والأقدام على إيصال الضرر بالعنف والحدة لكل من رآه فهو من المبالغة في لتشبيه فإن العبوس الأسد كالعباس {قَمْطَرِيرًا} شديد العبوس فلذلك نفعل بكم ما نفعل رجاء أن يقينا ربنا بذلك شره لا لإرادة مكافأتكم فقوله : {إِنَّا نَخَافُ} .
.
الخ.
من إنما نطعمكم الخ في معرض التعليل لإطعامهم يقال وجه قمطرير أي منقبض من شدة العبوس وفي الكشاف القمطرير العبوس الذي يجمع بين عينيه.
وازامام حسن بصري رحمه الله رسيدندكه قمطرير يست فرمودكه سبحان الله ما أشد اسمه وهو أشد من اسمه يعني ه سخت است اسم روزقيامت وأوسخت تراست از اسم خود فوقاهم الله شر ذلك اليوم} بسبب خوفهم وتحفظهم منه.
يعني نكاه داشت خداي تعالى ايشانرا از بدى ورنج وهول وعذاب آن روز.
فشر مفعول ثان لوقى المتعدى إلى اثنين وفي الحديث الصحيح قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم أذ وانصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عيه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع م افيه ثم قال : لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له أي بسبب خشيته وقوله لئن قدر الله بتخفيف الدال من القدرة أي لئن تعلقت قدرته يوم البعث بعذاب جسمه ظن المسكين إنه بالفناء على الوجه المذكور يلتحق بالمحال وقدرة الله لا تتعلق بالمحال فلا يلزم منه الكفر فجمع رماده من البر والبحر محمول على جمع أجزائه الأصلية يوم القيامة ويجوز أن يحمل على حال البرزخ فإن السؤال فيه للروح والجسد جميعاً على ما هو المذهب الحق {وَلَقَّـاـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه يعني تازكي وخوبرويى وسروراً في القلبو يعني شادي وفرح دردل فهما مفعولان ثانيان وفي تاج المصادر التلقية يزى يش كسى وا آوردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي "المفردات" لقيته كذا إذا استقبلته به قال تعالى : {وَلَقَّـاـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاـاهُم} أعطى كل واحد
267
(10/206)
منهم بطريق الأجر والعوض {بِمَا صَبَرُوا} ما مصدرية أي بسب صبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال وفي الحديث : "الصبر أربعة الصبر على الصدمة الأولى وعلى أداء الفرائض وعلى اجتناب المحارم وعلى المصائب {جَنَّةُ} مفعول ثان لجزاهم أي بستاناً يأكلون منه ما شاؤوا {وَحَرِيرًا} يلبسونه ويتزينون به وبالفارسية وجامه إبريسم بهشت بوشند.
فالمراد بالجنة ليس دار السعادة المشتملة على جميع العطايا والكرامات وإلا لما احتيج إلى ذكر الحرير بعد ذكر الجنة بل البستان كما ذكرنا فذكرها لا يغني عن ذكر الملبس ثم إن البستان في مقابلة الإطعام والصبر على الجوع والحرير في مقابلة الصبر على العرى لأن إيثار الأموال يؤدي إلى الجوع والعرى وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن احسن والحسين رضي الله عنهما مرضاً فعادهما النبي عليه السلام في ناس معه فقالوا لعلي رضي الله عنه لو نذرت على ولديك نذراً يعني اكر نذر كنى براميد عافيت وشفاي فرزندان مكر صواب باشد.
فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما رضي الله عنهما أن برئاً مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام تقربا إلى الله وطلبا لمرضاته وشكراً له فشفيا فصاموا وما معهم شيء يفطرون عليه فاستقرض على من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير وهو جمع صاع وهو أربعة أمداد كل مد رطل وثلث قال الداودي معياره الذي لا يختلف أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي عليه السلام فطحنت فاطمة رضي الله عنها ، صاعاً يعني فاطمه زهراً ازان جويك صاع بآسيا دست آرد كرد.
وخبزت خمسة أقراص على عددهم جمع قرص بمعنى الخبزة فوصعوا بين أيديهم وقت الإفطار ليفطروا به فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل
268
بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطمكم الله من موائد الجنة فآثروه يعني حضرت علي رضي الله عنه ، نصيب خود بدان مسكين دادر سائر أهل بيت موافقت كردند يعني سخن درويش بسمع على رسيد روى فرا فاطمة كرد وكفت.
فاطم ذات المجد واليقين
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين
يشكو إلينا جائعاً حزين
فاطمة رضي الله عنها اورا جواب داد وكفت.
أمرك يا ابن عم سمع طاعة
ما بيّ من لؤم ولا ضراعه
أرجو إذا أشبعت ذا مجاعه
ألحق بالأخيار والجماعة
وأدخل الخلد ولي شفاعه
آنكه طعام يش نهاده بودند جمله بدرويش دادند وبركر سنكى صبر كردند.
وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً.
فاطمة رضي الله عنها ، صاعي ديكر وآرد كرد وأذان نان.
فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين استشهدوا لدي يوم العقبة أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.
حضرت علي رضي الله عنه ون سخن آن يتيم شنيد روى فرا فاطمة كرد وكفت.
إني لأعطيه ولا أبالي
وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهموا أشبالي
أصغرهم يقتل في القتال
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص269 حتى ص280 رقم28
فا ثروه يعني همنان طعام كه دريش بود جمله بيتيم دادند وخود كر سنه خفتند ديكر روز آن صاع كه مانده بود فاطمة رضي الله عنها آنرا آرد كرد وتان خت.
فلما أمسوا ووضعوا الطعام بينأيديهم وقف عليهم أسير فقال : السلام عليكم أهل بيت النبوة أسير من الأساري أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.
آن طعام باسير دادند وبجز آب نشيدند وسه روز بران بكذشت.
(10/207)
فلما أصبحوا في اليوم الرابع أخذ علي بيد الحسن والحسين رضي الله عنهم فأقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلّم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال عليه السلام ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأ فاطمة في محرابها قد التصق ظرها ببطها وغرات عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال خذ يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة ولا يلزم من هذا أن يكون المراد من الأبرار أهل البيت فقط لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل فيه غيرهم بحسب الاشتراك في العمل وقد ضعفت القصة بتضعيف الراوي إلا أنها مشهورة بين العلماء مسفورة في الكتب قال الحكيم الترمذي رحمه الله ، هذا حديث مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاعل ورواه ابن الجوزي في الموضوعات وقال لا شك في وضعه ثم صحة الرواية تقتضي كون الآية مدنية لأن إنكاح رسول الله فاطمة عليا كان بعد وقعة أحد وقد قال الجمهور إن السورة مكية هكذا قالوا سامحهم الله تعالى قال المولى الفناري في تفسير الفاتحة نقلاً عن جمع من العلماء الكبار إن هل أتى على الإنسان من السور النازلة في المدينة وكذا قال مجاهد وقتادة مدنية إلا آية واحدة وهي ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً فإنها مكية وكذا قال الحسن وعكرمة والماوردي مدنية إلا قوله فاصبر لحكم ربك إلى الآخر فإنه مكي ودل على ذلك إن الأسير إنما كان في المدينة بعد آية القتال والأمر بالجهاد فضمت الآيات المكية إلى الآيات المدنية فإن شئت قلت إنها أي السورة مكية وإن شئت قلت إنها مدنية على أن الآيات المدنية في هذه السورة أكثر كمية من الآيات المكية فالظاهر أن تسمى مدنية لا مكية ونحن لا نشك في صحة القصة والله أعلم {مُّتَّكِـاِينَ فِيهَا} أي في الجنة {عَلَى الارَآاـاِكِ} بر تختهاى آراسته.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
قوله متكئين حال من هم في جزاهم والعامل فيها جزى قيد المجازاة بتلك الحال لأنها أرفه الأحوال فكان غيرها لا يدخل في الجزاء والأرائك هي السرور في الحجال تكون في الجنة من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر جمع أريكة كسفينة ولا تكون أريكة حتى تكون في حجلة وهي بالتحريك واحدة حجال العروس وهي بيت مزين بالثياب والستور
269
والطاهر أن على الأرائك متعلق بمتكئين لأن الاتكاء يتعدى بعلي أي مستقرين متمكنين على الأرائك كقوله : متكئين على فرش ولا يبعد أن يتعلق بمقدر ويكون حالاً من ضمير متكئين أي متكئين فيها على الوسائد أو غيرها مستقرين على الأرائك فيكون الاتكاء بمعنى الاعتماد {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} أي حرارة ولا برودة كما يرون في الدنيا لأن الحرارة غالبة على أرض العرب والبرودة على أرض على أرض العجم والروم وهو حال ثانية من الضمير أي يمر عليهم هواء معتدل لا حار ولا بارد مؤذد يعني إن قوله لا يرون الخ كناية عن هذا المعنى والزمهرير شدة البرد وازمهر اليوم اشتد برده وفي الحديث : "هواء الجنة سجسج لا حرفيه ولا قراي معتدل لا حر فيه ولا برد فإن القر بالضم البرد وفي الخبر عن النبي عليه السلام إنه قال اشتكت النار إلى ربها فقالت : أكل بعضي بعضاً فنفسني فإذن لها في كل عام بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم وأشد ما تجدون من الحر من حرها وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه ال فبينما أهل الجنة في الجنة أذرأوا ضوأ كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان له فيقول أهل الجنة يا رضوان قال : ربنا عز وجل لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً فيقول لهم رضوان ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي رضي الله عنهما ضحكاً ضحكاً أشرقت الجنان من نور ضحكهما وفيهما أنزل الله تعالى هلى أتى على الإنسان حين من الدهر إلى قوله وكان سعيكم مشكوراً.
قال القاشاني : لا يرون في جنة الذات شمس حرارة الشوق إليها مع الحرمان ولا زمهرير برودة الوقوف مع الأكوان فإن الوقوف مع الكون برد قاسر وثقل عاصر.
(10/208)
وفي التأويلات النجمية : لا يرون في جنة الوصال حر شمس المشاهدة المفني للمشاهد بحيث لا يجد لذة الشهود لأن سطوة المشاهدة تفنى المشاهد بالكلية فلا يجد لذة الشهود من المحبوب المعبود وإلى هذا المعنى أشار النبي عليه السلام في دعائه اللهم أرزقنا لذ هدتك لا زمهرير برد الحجاب والاستتار {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـالُهَا} عطف على ما قبلها حال مثلها والظلال جمع ظل بالكسر نقيض الضح وظلالها فعل دنية من الدنو بمعنى القرب إما بحسب الجانب أو بحسب السمك والضمير إلى الجنة أو أشجارها ومعناه إن ظلال الأشجار في الجنة قربت من الأبرار من جوانبهم حتى صارت الأشجار بمنزلة المظلة عليهم وإن كان لا شمس فيها مؤذية لتظلهم منها ففيه بيان لزيادة نعيمهم وكمال راحتهم فإن الظل في الدنيا للراحة {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} أي سخرت ثمارها لمتناوليها وسهل أخذها للقائم والقاعد والمضطجع تمام التسخير والتسهيل من الذل بالكسر وهو ضد الصعوبة والجملة حال من دانية أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على دانية أي دانية عليهم ظلالها ومذللة قطوفها وهو جمع قطف بكسر القاف بمعنى العنقود وقطفت العنب قطعته وسمى العنقود قطعاً لأنه يقطف ويقطع وقت الإدراك {وَيُطَافُ} يدر من طاف بمعنى دار والطواف والإطافة كلاهما لازم بالفارسية كرد يزى بكشتن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وإنما جاء بالتعدية هنا من الباء في بآنية {عَلَيْهِمْ}
270
أي عى الأبرار إذا أرادوا الشرب والطائف الدائر هو الخدم كما يجيء {بِـاَانِيَةٍ} أوعية جمع إناء نحو كساء وأكسية والأواني جمع الجمع كما في "المفردات" وأصل آنية أءنية بهمزتين مثل أفعلة.
قال في بعض التفاسير الباء فيها إن كانت للتعدية فهي قائمة مقام الفاعل لأنها مفعول له معنى وإلا فالظاهر أن يكون القائم مقامه عليهم {مِن فِضَّةٍ} نسب لآنية {وَأَكْوَابٍ} جمع كوب وهو الكوز العظيم المدور الرأس لا أذن له ولا عروة فيسهل الشرب منه من كلم وضع ولا يحتاج عند التناول إلى إدارته وهو مستعمل الآن في بلاد العرب لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم وقدم عليه وصف الأاني التي يشرب بها وذكره بلفظ المجهول لأن المقصود ما يطاف به لا الطائفون ثم ذكر الطائفين بقوله ويطوف الخ {كَانَتْ قَوَارِيرَا} جمع قارورة بالفارسية آبكينه.
وفي "القاموس" القارورة ما قر فيه الشراب ونحوه {قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ} أي تكونت وحدثت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها يرى ما في داخلها من خارجها فكان تامة وقوراير الأول حال من فاعل كانت على المبالغة في التشبه يعني ان القوراير إنما تتكون من الزجاج لا من الفضة فليس المعنى إنها قوراير زجاجية متخذة من الفضة بل الحكم عليها بأنها قوراير وإنها من فضة من باب التشبيه البليغ لأنها في نفسها ليست زجاجاً ولا فضة لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه قال ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فثبت أن آنية الجنة مباينة في الحقيقة لقارورة الدنيا وفضتها ولأن قارورة الدنيا سريعة الانكسار والهلاك وما في الجنة لا ي قبل ذلك وفضة الدنيا كثيفة الجوهر لا لطافة فيها وما في الجنة ليس كذلك وإن شارك كل واحد منهما الآخر في بعض الأوصاف فشبهت بالفضة في بياضها ونقائها وبقائها وبالقارورة في شفافيتها وصفائها فهي حقيقة مغايرة لهما جامعة لأوصافهما وذلك كاف في صحة إطلاق اسم القارورة والفضة عليها وعن ابن عباس رضي الله عنهم إن أرض الجنة من فضة وأوافي كل أرض تتخذ من تربه تلك الأرض ويستفاد من هذا الكلام وجه آخر لكون تلك الأكواب من فضة ومن قوارير وهو أن أصل القوراير في الدنيا الرمل وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة فكما إن الله قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة صافية بالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة الرمل فكما إن لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين كذا في "حواشي ابن الشخ قال بعضهم لعل الوجه في اختيار كون كانت تامة مع إمكان جعلها ناقصة وقوارير الأول خبراً بتكوين الله فيكون فيه تفخيم للآنية بكونها أثر قدرة الله تعالى وقوارير الثاني بدل من الأول على سبيل الإيضاح والتبيين أي قوارير مخلوقة من فضة والملة صفة لأكواب وقرىء بتنوين قوارير الثاني أيضاً وقرئاً بغير تنوين وقرىء الثاني بالرفع على هي قوارير قال ابن الجزري وكلهم وقفوا عليه بالألف إلا حمزة وورشا وإنما صرفه من صرفه لأنه وقع في مصحف
271
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
(10/209)
الامام بالألف وإنما كتب في المصحف بالألف لأنه رأس آية فشابه القوا في والفواصل التي تزاد فيها الألف للوقف {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} صفة لقوارير ومعنى تقدير الشاربين المطاف عليهم لها أنهم قدروها في أنفسهم وأرادوا أن تكون على مقادير وأشكال معينة موافقة لشهواتهم فجاءت حسبما قدروها فإن منتهى ما يريده الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء فقد ذكره الله بقوله كانت قوراير وأيضاً النقاء فقد ذكره الله بقوله من فضة وأيضاً الشكل والمقادر فقد ذكره الله بقوله كانت قوارير وأيضاً النقاء فقد ذكره الله بقوله من فضة وأيضاً الشكل والمقدار فقد ذكره الله بقوله قدروها تقديراً أو قدروها بأعمالهم الحسنة فجاءت على حسبها وقبل الضمير للطائفين بها المدلول عليهم بقوله ويطاف عليهم أي قدروا شرابها على إضمار المضاف على قدر استروائهم وريهم من غير زيادة ولا نقصان وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته فإن طرفي الاعتدال مذمومان كما قال مجاهد لا فيض فيها ولا غيض أي لا كثرة ولا قلة وقال الضحاك على قدر أكف الخدم {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا} أي في الجنة بسقي الله أو بسقي الطائفين بأمر الله وفيه زيادة تعظيم لهم ليست في قوله يشربون من كأس بصيغة المعلوم {كَأْسًا} خمراً {كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به خلط {زَنجَبِيلا} الزنجبيل عرق يسرى في الأرض ونباته كالقصب والبردى وعلم منه إن ما كان مزاجها زنجبيلاً غير ما كان مزاجها كافوراً والمعنى زنجبيلاً أي ماء يشبه الزنجبيل في الطعم وكان الشراب الممزج به أطيب ما يستطيب العرب وألذ ما تستلذ به لأنه يحذو اللسان ويهضم اطعام كما في عين المعاني ولما كان في تسمية تلك العين بالزنجبيل توهم إن ليس فيها سلاسة الانحدار في الحق وسهولة مشغهاكما هو مقتضى اللذع والإحراق أزال ذلك الوهم بقوله {عَيْنًا} بدل من زنجبيلا {فِيهَا تُسَمَّى} عند الملائكة من خازن الجنة وأتباعه {سَلْسَبِيلا} لسلاسة انحدارها ف الحلق وسهولة مساغها فكان العين سميت بصفاتها قال بعضهم : يطلق عليها ذلك وتوصف به لا أنه علم لها يعني سلسبيل صفة لا اسم وإلا لامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث ولم يقرأ به واحد من العشرة ويقال إنما صرف مع إنه اسم عين وهي مأنث معنوي لرعاية رأس الآية قال في الكواشي : لفظ مفرد بوزن فعلليل كدردبس يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفئه ولذلك حكم بزيادة الباء أي بعدم التفاوت في المعنى بوجودها وعدمها وإلا فالباء ليست من حروف الزيادة وقيل زيدت الباء على السلسال حتى صارت كلمة خماسية للدلالة على اية السلاسة والحلاوة وقال ابن المبارك من طريق الإشارة معنى السلسبيل سل من الله إليه سبيلاً قال ابن الشيخ جعل الله مزاج شراب الأبرار أولاً كافوراً وثانياً زنجبيلاً لأن المقصود الأهم حال الدخول البرودة لهجوم العطش عليهم من حر العرصت وعبور الصراط وبعد استيفاء حظوظهم من أنواع نعيمها ومطعوماتها تميل طباعهم إلى الأشربة التي تهيج الاشتهاء وتعيين على تهيئة ما تناولوه من المطعومات ويلتذ الطبع بشربها فلعل الوجه في تأخير ذكر ما يمزج به الزنجبيل عما يمزج به الكافور ذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : يشير بالزنجبيل إلى شراب الوحدة الممزوجة بزنجبيل الكثرة المعقولة من مفهوم التوحيد وبالسلسبيل إلى شراب الوحدة الصافية عن الامتزاج
272
بزنجيل الكثرة وسميت سلسبيلا لسلاسة انحدارها وذلك لبساطتها وصرافتها وقال القاشاني كان مزاجها زنجبيل لذة الاشتياق فإنهم لا شوق لهم ليكون شرابهم الزنجبيل الصرف الذي هو غاية حرارة الطلب لوصولهم ولكن لهم الاشتياق للسير في الصفت وامتناع حصولهم على جميعها فلا تصفو محبتهم من لذة حرارة الطلب كما صفت لذة محبة المستغرقين في عين جمع الذات فكان شرابهم اعين الكافورية الصرفة والزنجبيل عين في الجنة لكون حرارة الشوق عين المحبة لناشئة من منبع الوحدة مع الهجران تسمى سلسبيلا لسلاستها في الحلق وذوقها قال العشاق المهجورين الطالبين السالكنين سبيل الوصال في ذوق وسكر من حرارة عشقهم لا بفاس ب ذوق {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي يدور على الأبرار {وِلْدَانٌ} فإنهم أخف في الخدمة جمع وليد وهو من قرب عهده بالولادة {مُّخَلَّدُونَ} أي دائمون عى ما هم عليه من الطراوة والبهاء لا يتغيرون أبداً وبالفارسية وبخدمت مي كردد برايشان غلاماني جون كودكان نوزاد جاويد مانده درحال طفوليت أو مقربون يعني سران كوشاواره دار.
(10/210)
والخلد لقرط وفي التاج له من الخلد وهو الروح كأنهم روحانيون لا جسم لهم {إِذَا رَأَيْتَهُمْ} يا من شأنه الرؤية {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا} جمعه اللألى وتلألأ الشيء لمع لمعان اللؤلؤ {مَّنثُورًا} متفرقاً لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وتفرقهم في مجلس الخدمة عند اشتغالهم بأنواع لخدمة وطوافهم على المخدومين مسارعين في الخدمة ولو اصطفوا على وتيرة واحدة لشبهوا اللؤلؤ المفهوم واللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر من المنظوم لوقوع شعاع بعضه عى بعض بغاية بياضه وبريقه فيكون مخالفاً للمجتمع فيه والظاهر على ما ذهب إليه البعض منثوراً أي متفرقاً في الجنة فهو أحسن من القيد بمجلس الخدمة وشبهت الحور العين باللؤلؤ المكنون أي المخزون لأنهن لا ينتشرن انتشار الولدان بل هن حور مقصورات في الخيام قال في عين المعاني وفيه إشارة إلى أن الاستمتاع بظواهرهم يكون بخلاف الحور المشبهة بالبيض لأنه يجمع بياض للون إلى لذة العلم انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
ومنه يعلم أن لا لواطة في الجنة وأن قول من جوزها مردود باطل على ما حققناه مراراً قال بعضهم : منثوراً من سلكه على البساط وعن المأمون إه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج بالذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقالدرابي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول :
كان صغرى وكبرى من فقاقعها
حصباء در على أرض من الذهب
وقال بعضهم : منثوراً من صدفه يعني إنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه وهو غير مثقوب لأنه أحسن وأكثر ماء وبالفارسية مرواريد افشانده شده از صدف يعني تروتازه كه هنوز دست كس بدان نرسيده ودر رونق وآب داد شان قصورى يدا نشده.
قال في كشف الأسرار : ولدان مخلدون أي غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين انتهى.
فسمى الغلمان ولدانا لأنهم على وصرتهم على أر في إطلاقهم عليهم خطاباً بما يتعارفه الناس فلا يلزم ولادتهم في الجنة
273
وقال في عين المعاني : "قيل إنهم ولدان الكفار يدخلون الجنة خدماً لأهلها بدليل إنهم سموا ولدانا ولا ولادة في الجنة انتهى.
وفي اللباب اختلفوا في الولدان فقيل أنشأهم الله لأهل الجنة من غير ولادة لأن الجنة لا ولادة فيها وهم الذين قالفيهم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون أي مخزون مصون لم تمسه الأيدي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على علم ما عليه صاحبه وروى أن الحسن رحمه الله ، لما تلا هذه الآية قال قالوا يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ لمكنون فكيف المخدوم فقال فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وروى عن علي رضي الله عنه والحسن البصري رضي الله عنه إن الولدان هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً ولا حسنة لهم ولا سيئة لهم وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة وعن الحسن رحمه الله ، لم تكن لهم حسنات يجازون بها ولا سيئات يعاقبون عليها فوضعوا هذا الموضع انتهى.
كلام اللباب فالله تعالى قادر على أن يجعل أموات الكفار الذين لا يليقون بالخدمة في الدنيا لغاية صغرهم في مرتبة القابلية لها في الآخرة بكمال قدرته وتمام رحمته قال النووي الصحيح الذي ذهب إليه المحققون إنهم من أهل الجنة وقال الطيبي في شرح المشكاة الحق التوقف أي لا الحكم بأنهم من أهل الجنة كما ذهب إليه البعض ولا بأنهم تبع لآبائهم في النار كما ذهب إليه البعض الآخر فالمذاهب إذا فيهم ثلاثة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : ويطوف عليهم ولدان مخلدون أي تجليات ذاتية مقرضون بقرطة الأسماء والصفات إذا رأيتهم حسبنهم لؤلؤ منثوراً من تشعشع أنوار الذات وتلألؤ أنوار العسفات والأسماء {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} وون بنكرى ونظر كنى دربهشت.
قال في الإرشاد : ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوي بل معناه أي مآل المعن أن بصرك أينما وقع في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيمًا} كثيراً لا يوصف وهو ما يتنعم به {وَمُلْكًا كَبِيرًا} أي واسعاً وهينئاً كما في الحديث أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه والآية من باب الترقي والتعميم يعني أن هناك أموراً آخراً على وأعظم من القدر المذكور.
در فصول آمده كه نعيم راحت أشباح است وملك كبير لذات أوراح نعيم ملاحظه دارست وملك كبير مشاهده ديدار وداربي دبدار بهي كرنيابد الجبار ثم الدار زاهد إن فردوس ميحويند وما ديدار دوست.
وفي التأويلات النجمية : يعني إذا تحققت بمقام التوحيد وحال الوحدة وصلت إلى نعيم الشهود والملك المشهود والكبير في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله انتهى.
(10/211)
فيكون المراد بالملك الكبير في النديا هو الشهود الحاصل لأهل الجنة المعنوية والملك بالضم بالفارسية ادشهى ولا سلطنة فوق سلطنة المعرفة والرؤية قال في بعض التفاسير الملك بالضم هو التصرف في المأمورين بالأمر والنهي ومنه الملك وإما الملك بالكسر فهو التصرف في الأعيان المملوكة بحسب المشيئة ومنه المالك والأول جامع للثاني لأن كل ملك مالك ولا عكس {عَـالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} عاليهم ظرف على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر والجملة حال من ضمير عليهم أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمعطوف عليهم ثياب.
.
الخ.
أي فوقهم
274
وعلى ظهورهم ثياب سندس وهو الديباج الرقيق الفاخر الحسن وإضافة الثياب إلى السندس كإضافة الخاتم إلى الفضة وبالفارسية بربهشتيان يعني لباس زبرين ايشان جامهاى ديابى نازك.
ولميرض الزجاج بكون عاليهم نصباً على الظرف بمعنى فوقهم لأنه لم يعرف في الظروف وخضر جمع أخضر صفة ثياب كقوله ويلبسون ثياباً خضراً فالضمير للأبرار المطوف عليهم لأن المقام مقام تعداد نعيمهم وكرامتهم فالمناسب أن تكون الثياب الموصوفة لهم لا للولدان الطائفين وعن الامام أن المراد فوق خيامهم المضروبة عليهم والمعنى إن حجالهم من الحرير والديباج وهذا من علامات الملك {وَإِسْتَبْرَقٍ} بالرفع عطفاً على ثياب بحذف المضاف أي ثياب استبرق وهو معرب استبره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
بمعنى الغليظ سبق بيانه في سورة الرحمن وهو بقطع الهمزة لكونه اسماً للديباج الغليظ الذي له بريق {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} عطف على ويطوف عليهم وهو ماض لفظاً ومستقبل معنى وأساور مفعول ثان لحلوا بمعنى ويحلون والتجليد التزيين بالحلى وبالفارسية بأحلى زيور كردن.
وفيه تعظيم لهم بالنسبة إلى أن يقال وتحلوا وأساور جمع أسورة في جمع سوار وسوار المرأة أصله دستواره وكان الملوك في الزمان الأول ينحلون بها ويسوران من يكرمونه ولا ينافي هذه الآية ما في الكهف والحج من قوله من أساور من ذهب لإمكان الجمع بين السوار الذهب والسورا الفضة في أيديهم كما تجمع نساء الدنيا بين أنواع الحلى وما أحسن المعصم إذ يكون فيه سوار إن من جنسين وزيادة كالذهب والفضة واللؤلؤ وأيضاً لإمكان المعاقبة في الأوقات تارة يلبسون الذهب وأخرى يلبسون الفضة وأيضاً لإمكان التبعيض بأن يكون البعض ذهباً والبعض فضة فإن حلى أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم فللمقربين الذهب وللأبرار الفضة وأيضاً يعي كل أحد ما يرغب فيه ويميل طبعه إليه فإن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه صفرة الذهب {وَسَقَـاـاهُمْ} بياشاماند ايشانرا {رَبُّهُمْ شَرَابًا} هو ما يشرب {طَهُورًا} هذا الشراب الطهور نوع آخر يفوق النوعين السالفين كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين وصفه بالهطورية لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية كالغش والغل والحسد وينزع ما كان في أجوافهم من قذر وأذى وبه تحصل الصفوة المهيئة لانعكاس نور الجمال الإلهي في قلوبهم وهي الغاية القاصية من منازل الصديقين فلذا ختم بها مقالة ثواب الأبرار فالطهور بمعنى المطهر صيغة اسم الفاعل وقيل مبالغة الطاهر من حيث إنه ليس ينجس كخمر الدنيا وما مسته الأيدي القذرة والأقدم الدنسة ولا يؤول إلى أن يكون نجساً بل يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك.
(قال الكاشفي) : يبايد دانست كه جوى كوثر دريهشت خاصه حضرت رسالت است وذكر آن درسوره كوثر خواهد آمد وهار جوى ديكر ازان مقتيانست آب وشير وخمر وعسل وشمه از صفات اودر سوره محمد مرقوم رقم بيان شد ودو شمه ازان ل خشيت است فيهما عينان تجريان ودو شمه ازان أهل يمين است فيهما عينان نضاختان واين هار شمه درسورة الرحمن آمد ديكر شمه رحيق ازان ابرارست وجشمه تسنيم ازان مقربان واين هردود رسوره مطففين مذكورند
275
ودوشمه ازان أهل بيت است كافور وزنجبيل كه آنرا سلسبيل خوانند وشراب طهور نيز از ايشانست ومحققان آنرا شراب شهود كوبندكه مرآت دل نوشنده را بلوامع أنوار قدم روشن ساخته ذير اي نقوش عكوس ازل وابد كرداند ووقت وحال اورا نان صافي سازدكه مطلقاً شوائب غيريه در مشارع وحدت نماند ورنك دوكانكى مدل كر دانيده جام مدامرا يك رنك سازد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
همه جامست ونيست كويى مى
يا مدامست ونيست كويى جام
عارفي كفته اكر فردا بزم نشينان دار بقارا براي آنكه سرور شراب طهور خواهند شانيد امروز باده نوشان خمخانه افضال را بنقدازان نصيبي تام داره اند.
ازسقاهم ربهم بين جمله ابرارمست
در جمال لا يزالي هفت ونج وارمست
أي جوانمرد شراب آن شرابست كه دست غيب دهدد رجام دل ريزد وعارف اورانوش كند قومي را شراب مست كرد وقومي راديدار.
وأسكر القوم دور كأس
وكان سكرى من المدير
(10/212)
بزركى را بخواب نمودندكه معروف كرى رحمه الله كرد عرش طراف مي كردورب العزة فرشتكا نرامى كفت اورا شناسيد كفتندنه كفت معروف كرخى است بمهر ما مست شده تاديده اوبرمانيايد هشيار نكرددهراكرا امروز شراب محبت نيست فردا اورا شراب طهور نيست.
قال بعضهم صليت خلف سهل بن عبد الله العتمة فيقرأ قوله تعالى : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فجعل يحرك فمه كأنه يمص فلما فرغ من صلاته قيل له أتقرأ أم تشرب قال : والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذتي عند شربه ما قرأته.
وفي التأويلات النجمية : قوله عاليهم الخ يشير إلى اتصاف أهل لجنة بملابس الصفات الإلهية والأخلاق الربانية من خضر أي من لصفات الذاتية واستبرق أي من الصفات الإسمائية وإلى تحليهم بحلى أساور الأسماء الذاتية والصفاتية الزاهرة لباهرة وساقهم ربهم بكأس الربوبية والتربية شراب المحبا الذتية الطاهرة عن شوب كدورة رقبة الأغيار إن هذا} على إضمار القول أي يقال لهم إن هذا الذي ترونه من فنون الكرامات ويجوز أن يكور خطاباً من الله في الدنيا للأبرار أي إن هذا الذي ذكر من أنواع العطايا {كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} عوضاً بمقابلة أعمالكم الحسنة فإن قيل كيف يكون جزاء لأعمالهم وهي مخلوقةعند أهل السنة وأجيب بأنها لهم كسباً عندهم ولله خلفاً {وَكَانَ سَعْيُكُم} وهست شتافتن شمادركار خيرد ردنيا {مَّشْكُورًا} مرضياً مقبولاً مقابلاً بالثوب لخلوص نيتكم فيزداد بذلك فرحمه وسرورهم كما إن المعاقب يزداد غمه إذا قيل له هذا جزاء عملك الرديء فلشكر مجاز عن هذا المعنى تشبيهاً له بالشكر من حيث إنا مقابل للعمل كما إن الشكر مقابل للنعم قال بعضهم : أدنى الدرجات أن يكون العبد راضياً عن ربه وإليه
276
الإشارة بقوله كان لكم جزاء وأعلاها كونه مرضياً له وإليه الإشارة بقوله كان سعيكم مشكوراً ولما كان كونه مرضياً أعلى الدرجات ختم به ذكر مراتب الأبرار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : إن هذا كان لكم جزاء لاقتضاء استعدادتكم الفطرية وكان سعيكم مشكوراً غير مضيع بسبب الرياء والسمعة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلا} أي مفرقاً منجماً لحكم بالغة مقتضية له لا غير كما يعرف عنه تكرير الضمير مع أن فكأنه تعالى يقول إن هؤلاء الكفار يقولون إن ذلك كهانة وسحر فإنا الملك الحق أقول على سبيل التأكيد إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي فلا تكترث بطعنهم فإنك أتت النبي الصادق المصدق {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} بتأخير نصرك على الكافرين فإن له عاقبة حميدة ولا تستعجل في أمر المقابلة والانتقام فإن الأمور مرهونة بأوقاتها وكل آت قريب {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} أي من الكفار {ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا} أو لأحد الشيئين والتسوية بينهما فإذا قلت في الإثبات جالس الحسن أو ابن سيرين كان المعنى جالس أحدهما فكذا إذ قلت في النهي لا تكلم زيداً أو عمراً كان التقدير لا تكلم أحدهما والأحد عام لكل واحد منهما فهو في المعنى لأتكلم واحدا منهما فمآل المعنى في الآية ولا تطع كل واحد من مرتكب الإثك الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي إليه فاو للإباحة أي للدلالة على أنهما بيان في استحقاق العصيان أي عصان المخاطب للداعي إليهما والاستقلال به والتقسم إلى الآثم والكفور مع إن الداعين بجمعهم الكفر باعتبار ما يدعونه إليه من الإثم والكفر لا باعتبار انقسامهم في أنفسهم إلى الآثم والكفور لأنهم كانوا كفرة والكفر أخبث أنواع الإثم فلا معنى للقسمة بحسب نفس كفرهم وآثمهم وذلك إن ترتب النهي على الوصفين مشعر بعليتهما له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الاسم والكفر لا فيما ليس بإثم ولا كفر فالمراد بالإثم ا عدا الكفر إذ العام إذا قوبل بالخاص يراد به ما عدا ذلك الخاص وخص الكفر بالذكر تنبيهاً على غاية خبثه من بين أنواع الإثم فكل كفور آثم وليس كل آثم كفوراً ولا بعد أن يراد بالآثم من هو تابع وبالكفور من هو متبوع.
(وقال الكاشفي) : آثماً كناهكارى راكه تراباً ثم خواند ون عتبة بن ربيعة كه كفت ازدعوت خود باز ايست تادختر خودار بتودهم أو كفورا وناساسي ركه ترا بكفر دعوت كندون وليد بن مغيره كه كفت بدين أباء رجوع كن تاترا توانكر سازم.
(10/213)
وفي نهيه عليه السلام عن الإطاعة فيما يدعونه إليه مع إنه ما كان يطيع أحداً منهم ولا يتصور في حقه ذلك إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد من حيث إن طبيعتهم التي جبلوا عليها ركب فيها الشهوة الداعية إلى السهو والغفلة وإن أحداً لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم فظهر إنه لا بد لكل مسلم أن يرغب إلى الله ويتضرع إليه أن يحفظه من الفتن والآفات في جميع أموره وقال القاشاني : ولا تطع منهم آثماً أي محتجباً بالصفات والأحوال أو بذاته عن الذات أو بصفات نفسه وهيئاتها عن الصفات أو كفوراً محتجباً بالأفعال والآثار واقفاً معها أو بأفعاله ومكسوباته عن الأفعال فتحجب بموافقتهم انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
عصمنا الله وإياكم من موفقة الأعداء مطلقاً {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً} أول النهار {وَأَصِيلا}
277
أي عشياً وهو آخر النهار أي وداوم على ذكره في جميع الأوقات فاريد بقوله بكرة وأصيلاً الدوام لأنه عليه السلام ، كان آتياً ينفس الذكر المأمور به وانتصابهما على الظرفية أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن لأصل كما يطلق على ما بعد العصر إلى المغرب فكذا يطلق على ما بعد الزوال فيتناول وقتي الظهر والعصر وقال سعدي المفتي التأويل بالدوام إنما يحتاج إليه لو ثبتت فرضة الصلوات الخمس قبل نزولها والظاهر إنه كذلك فإنها فرضت ليلة المعراج.
يقول الفقير : وفيه إن الصلوات الخمس وإن فرضت ليلة المعراج إلا إن المعراج كان قبل الهجرة بسنة والتأريخ في نزول الآية مجهول أهي نازلة قبل المعراج أم بعده فإن كان الثاني ثبت مطلوبه وإلا فلا.
قال القاشاني : واذكر ذلك الذي هو الاسم الأعظم من أسمائه بالقيام بحقوقه وإظهار كمالاته في المبدأ والمنتهي بالصفات الفطرية من وقت طلوع النور الإلهي بإيجادها في الأزل وإيداع كمالاته فيها وغروبه بتعينها واحتجابه بها وإظهارها مع كمالاتها {وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} وفي بعض اليل فصل له ولعله صلاة المغرب والعشاء.
س معنى نين باشدكه بربنج نماز مداومت نماي.
وتقديم الظرف للاهتمام لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص وأفضل الأعمال أشقها وأخلصها من الرياء فاستحقت الاهتمام بشأنها وقدم وقتها لذلك ثم الفاء لإفادة معنى الشرط كأنه قال مهما يكن من شيء فاسجد له ففيها وكادة أخرى لأمرها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي التأويلات النجمية : واعبد ربك المطلق حق العبودية بالفناء فيه من ليل طبيعتك وغلس بشريتك إذ السجود صورة الفناء الذاتي والركوع صورة الفناء الصفاتي والقيام صورة الفناء الأفعالي فافهم بعض أسرار الصلاة {وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} أي صل صلاة التهجد لأنه كان واجباً عليه في طائفة طويلة من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه فقوله ليلاً طويلاً نصب على الظرفية فإن قلت انتصاب ليلاً على الظرفية وطويلاً نعت له ومعناه سبحه في الليل الطويل فمن أين يفهم ما ذكرت من المعنى قلت ظاهر أن توصيف الليل بالول ليس للاحتراز عن القصير فإن الأمر بالتهجد يتناوله أيضاً فهو لتطويل زمان التسبيح وفي التعبير في التهجد بالتسبيح وتأخير ظرفه دلالة على إنه ليس في مرتبة ما قبله {إِنَّ هَـاؤُلاءِ} أي كفار مكة عاد إلى شرح أحوال الكفار بعد شرح صدره عليه السلام بما ذكر من قوله إنا نحن الخ {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} دوست ميدارند سراي شتا بنده را يعني نيارا وينهمكون في لذاتها الفانية فهو الحامل لهم على الكفر والأعراض عن الاتباع لا اشتباه الخف عليهم {وَيَذَرُونَ} يتركون {وَرَآءَهُم} أي أمامهم لا يستعدون فهو حال من يوماً أو ينبذون وراء ظهورهم فهو ظرف ليذرون فوراء يستعمل في كل من أمام وخلف والظاهر في وجه الاستعمالين إن وراء اسم للجهة المتوارية أي المستترة المختفية عنك واستتار جهة الخلف عنك ظاهر وما في جهة الامام قد يكون متوارياً عنك غير مشاهد ومعاين لك فيشبه جهة الخلف في ذلك فيستعار له اسم الوراء {يَوْمًا ثَقِيلا} لا يعبأون به ويوماً مفعول بذرون وثقيلاً صفته ووصفه بالثقل مع إنه من صفات الأعيان الجسمية لا الامتدادات الوهمية لتشبيه شدته
278
وهو له بثقل الحمل الثقيل ففيه استعارة تخييلية وفي الآية وعيد لأهل الدنيا ونعيمها خصوصاً لأهل الظلم والرشوة {نَحْنُ} لا غيرنا {خَلَقْنَـاهُم} من نطفة {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصابليتمكنوا بذلك من القيام والقعود والأخذ والدفع والحركة وحق الخالق المنعم أن يشكر ولا يكفر ففيه ترغيب والأسر الربط ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقد وقدر المضاف وهو المفاصل.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وفي كشف الأسرار) وآفرينش سان سخت بستيم تا آفرينش واندامان برجاي بود.
(10/214)
فمعناه شددنا خلقهم وقال الراغب : إشرة إلى الحكمة في تركيب الإنسان المأمور بتدبرها وتأملها في قوله وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقيل وشددنا مخرج البول والغائط إذا خرج الأذى انقبض أو معناه إنه لا يسترخي قب الإرادة {وَإِذَا شِئْنَا} تبديلهم {بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ} أي بدلناهم بأمثالهم بعد إهلاكهم والتبديل يتعدى إلى مفعولين غالباً كقوله تعالى : يبدل الله سيئاتهم حسنات يعني يذهب بها ويأتي بدلها بحسنات {تَبْدِيلا} بديعاً لا ريب فيه وهو البعث كما ينبىء عنه كلمة إذا فالمثلثة في النشأة الأخرى ءٌّما هي في شدة الأسر وباعتبار الأجزاء الأصلية ولا ينافيها الغيرية بحسب العوارض كاللطافة والكثافة وبالفارسية وون خواستيم بدل كنيم ايشانرا بامثال ايشان در خلقت يعني ايشانرا بميرانيم ودر نشأت ثانيه بمانند همين صورت وهيأت مز آريم.
والمعنى وإذا شئنا بدلنا غيرهم ممن يطيع كقوله تعالى : [محمد : 38]{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ففيه ترهيب فالمثلثة باعتبار الصورة ولا ينافيها الغيرية باعتبار العمل والطاعة وإذا للدلالة على تحقق القدرة وقوة الداعية وإلا فالمناسب كلمة أن إذ لا تحقق لهذا التبديل.
قال القاشاني : نحن خلقناهم بتعيين استعداداتهم قويناهم باميثاق الأزلي والاتصال الحقيقي وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً بأن نسلب أفعالهم بأفعالنا ونمحو صفاتهم بصفاتنا ونفني ذواتهم بذاتنا فيكونوا أبدالاً إن هذه تذكرة} إشارة إلى السورة أو لآيات القريبة أي عظة مذكرة لما لا بد منه في تحصيل السعادة الأبدية جعلت عين التذكرة مبالغة وفي عين المعاني تذكرة أي أذكار بما غفلت عنه عقولهم.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
وقال الكاشفي) : يا معالمه أهل بيت در بذل وإيثار عبر تيست مؤمناً نراتا بمثل آن عمل كنند واز مثل اين جزاها بهره يابند {فَمَنْ} س هركه {شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلاً أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إله بالعمل بما في تضاعيفها وقال ابن الشيخ فمن شاء النجاة من ثقل ذلك اليوم وشدته اختار سبيلاً مقربً إلى مرضاة ربه وهو الطاعة {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} تحقيق للحق وببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية وإن مع الفعل في حكم المصدر الصريح في قيامه مقام الظرف والمعنى وما تشاؤون اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى تحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئته العبد إلا في الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله تعالى غاية ما في الباب إن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية للعبد بل هي متوقفة على أن يشاء الله إياها وذلك لا ينافي كون الفعل الذي تعلقت به مشيئة العبد
279
اختيارياً له واقعاً بمشيئته وإن لم تكن مشيئته مستقلة فيه وهو وهو الجبر المتوسط الذي يقول به أهل السنة ويقولون الأمر بين الأمرين أي بين القدر والجبر قال في عين المعاني ، قوله تعالى : [المزمل : 19-11]{فَمَن شَآءَ} .
.
الخ حجة تكليف العبودية وقوله تعالى : وما تشاؤون.
.
الخ إظهار قهر الألوهية إن الله كان عليماً حكيماً} بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة والمعنى إنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيفعل ما يستأهله كل أحد فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته.
قال القاشاني : وما تشاؤون إلا بمشيئتي بأن أريد فتريدون فتكون إرادتكم مسبوقة بإراداتي بل عين إرادتي الظاهرة في مظاهرهم إن الله كان عليماً بما أودع فيم من العلوم حكيماً بكيفيته إيداعها وإبرازها فيهم بإظهار كمالهم {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} بيان لأحكام مشيئته امرتبة على علمه وحكمته أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي يصرف مشئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة {وَالظَّالِمِينَ} وهم الذين ضربوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا} أي متناهياً في الإيلام قال الزجاج نصب الظالمين لأن ما قبله منصوب أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ويكون أعدلهم تفسيراً لهذا المضمر وفي الآية إشارة إلى إدخال الله بعض عباده في رحمة معرفته وإما بعض عباده وهم الظالمون الواضعون الضلالة في مقام الهداية والجهالة في مقام المعرفة فإن الله أعدلهم عذاب الحجاب المؤلم للروح والجسم وأيضاً عذاباً بالوقوف على الرب لوقوفهم مع الغير ثم على النار لوقوفهم مع الآثار وختم الله السورة بالعذاب المعد يوم البعث والحشر ففيه حسن الخاتمة لموافقته الفاتحة على ما لا يخفى على أهل النفر والفهم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 258
تفسير سورة المرسلات
خمسون آية مكية استثنى منها وإذا قيل لهم اركعوا الآية
جزء : 10 رقم الصفحة : 279(10/215)
{وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا * فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا * وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} ،
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
الواو للقسم والمرسلات بمعنى الطوائ المرسلات جمع مرسلة بمعنى طائفة مرسلة باعتبار إن ملائكة كل يوم أو كل عام أو ك حادثة طائفة وعرفاً بمعنى متتابعة من عرف الفرس وهو الشعرات المتتابعة فوق عنقه فهو من باب الشتبيه البليغ بأن شبهت الملائكة المرسلون في تتابعهم بشعر عرف الفرس وانتصابه على الحالية إن جاريات بعضها أثر بعض كعرف الفرس أو العرف بمعنى المعروف والإحسان نقيض النكر بمعنى النمكر أي الشيء القبيح فإنهم إن أرسلوا لرحمة فظاهر وإن أرسلوا لعذاب الكفار فذلك معروف للأنبياء والمؤمنين يعني إن عذاب الأعداء إحسان للأولياء فانتصابه على العلية وعصفت الريح اشتدت وعصفا مصدر مؤكد وكذا نشراً وفرقاً والفاء للدلة على اتصال سرعة جريهن في نزولهن
280
وهبوطهن بالإرسال من غير مهلة وهي لعطف الصفة على الصفة إذا لموصوف متحد والنشر بمعنى البسط والعدول إلى الواو في الناشرات لأنها غير المرسلات فالقسم الأول وصفهم الله بوصفين يتعقب أحدهما على الآخر والقسم الثاني وصفهمبثلاثة أصواف كذلك والفرق الفصل والإلقاء هنا بمعنى الإيصال والإنزال لا الطرح وذكرا بمعنى الوحي مفعول الملقيات وترتيب الإلقاء على ما قبله بالفاء ينبغي أن يكون لتأويله بإرادة النشر والفرق وسيأتي تمامه اقسم الله بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره بنحو التدبير وإيصال الأرزاق بالتصرف في الإطار والرياح وكتابة مال العباد بالليل والنهار وقبض الأرواح فعصفهن في مضيهن يعني سخت رفتند.
عصف الرياح مسارعة في الامتثال بالأمر وبطوائف أخرى نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي أو نشرت الشرائع في الأقطار أي فرقن واشعن أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل أي أحيين بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكراً إلى الأنبياء {عُذْرًا} لأهل الحق أي معذرة لهم في الدنيا والآخرة لاتباعهم الحق {أَوْ نُذْرًا} لأهل الباطل لعدم أتبعهم الحق وعذراً مصدر من عذر إذ محا الإساءة ونذراً اسم مصدر من أنذر إذا خوف لا مصدر لأنه لم يسمع فعل مصدراً من أفعل وانتصابهما على البدلية من ذكراً قال ابن الشيخ : إن كان الذكر المبدل منه بمعنى جميع الوحي يكون عذراً أو نذراً بدل البعض من الكل فإن ما يتعلق بمغفرة المطيعين وتخويف المعاندين بعض من جملة الوحي وإن أريد بالذكر المبدل منه ما يتعلق بسعادة المؤمن وشقاوة الكافر خاصة كيون بدل الكل من الكل فإن إلقاء ما يتعلق بسعادة المؤمن متحد بالذات مع القاء عذره نحو إساءته وكذا إلقاء ما يتعلق بشقاوة الكافر متحد مع إلقاء إنذاره عى كفره انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
أو انتصابهما على العلية لصفات المذكورة أو للأخيرة وحدها وهو الأولى بمعنى فاللاتي ألقين ذكراً لمحو ذنوب المعتذرين إلى الله بالتوبة والاستغفار ولتخويف المبطلين المصرين وفي كشف الأسرار لأجل الأعذار من الله إلى خلقه لئلا يكون لأحد حجة فيقول لما يأتني رسول ولأجل إنذارهم من عذاب الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما فيقوله عذراً أو نذراً قال : يقول الله يا ابن آدم إنما أمرضكم لا ذكركم وامحص به ذنوبكم واكفر به خطاياكم وربكم اعلم إن ذلك المرض يشتد عليكم وأنا في ذلك معتذر إليكم قال بعضهم : المعنى ورب المرسلات.
.
الخ.
وفي "الإرشاد" لعل تقديم نشر الشرائع ونشر النفوس والفرق على الإلقاء أي مع إن الظاهر إن الفرق بين الحق الباطل يكون مع النشر لا بعده وإن إلقاء الذكر إلى الأنبياء متقدم على نشر الشرائع في الأرض وإحياء النفوس الموتى والفرق بين الحق والباطل ف يظهر التعقيب بينهما للإيذان بكونها غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء بها أو للإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالأقسام بهن ولو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم إن مجموع الإلقاء والنشر والفرق هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق هذا وقد قيل في هذا المقام غير ذلك لكن الحمل على الملائكة
281
أوجه وأسد لما ذكرنا في المدثر أن المحققين على إنه من الملائكة المرسلات والناشرات والملقيات وغير ذلك.
(10/216)
(قال في كشف الأسرار) : در روز كار خفت عمر رضي الله عنه مردى نيامداز أهل عرقا نام أو صبيع وازعمر ذاريات ومرسلات رسيد صبيغ عادت داشت كه يوسته ازين معضلات آيات رسيدى يعني تاكه مردم در وفرومانند عمر اورا دره زد وكفت لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك يعني اكر من تراسر سترده يا فتم من ترا كردن زدم عمر رضي الله عنه اين سخن را ازبهر آن كفت كه از رسول خدا عليه السلام ، شنيده بود در صفت خوارج كه سيماهم التحليق كفت در امت من قومي خوارج يدا آيند نشان ايشان آنست كه ميان سر سترده دارند س عمر نامه نبشت باموسى الأشعري وكان أميراً على العراق كه يكسال اين صبيغ را مهجور داريد بوي منشينيد وسخن مكوييد س از يكسال صبيغ توبه كرد وعذر خواست وعمر رضي الله عنه توبه وعذروى قبول كرد شافعي رحمه الله كفت حكمي في أهل الكلام كحكم عمر في صبيغ قال في "القاموس" صبيغ كأمير بن عسيل كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات ففاه عمر إلى البصرة انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} جواب للقسم أي إن الذي توعدونه من مجيء القيامة كأه لا محالة فإنما هذه ليست هي الحصرية بل ما فيها موصولة وإن كتبت متصلة في خط المصحف والموعود هو مجيء القيامة لأن المذكور عقيب هذه الآية علامات يوم القيامة وقال الكلبي : المراد إن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع نظراً إلى عموم لفظ الموصول.
وفي التأويلات النجمية : إنام توعدون من يوم قيامة الفناء الكلي في الله لواقع حاصل بالنسبة إلى أهل المعرفة والشهود وأرباب الذوق والوجود وإما بالنسبة إلى أهل الحجاب والاحتجاب فسيقع إن كانوا مستعدين لرفع الحجاب وكشف النقاب وإلى ها الوقوع المحقق أشار بقوله كل شيء هالك إلا وجهه أي في الحال وبقول كل من عليها فان أي فإن في عين البقاء إذا لمقيد مستهلك في إطلاق المطلق استهلاك نور الكواكب في نور الشمس واستهلاك اعتبارات النصفية والثلثية والربعية في الاثنين والثلاثة والأربعة ثم أخبر عن ظهور آثار يوم القايمة وحصول دلائلها لأهل الشقاوة بقوله {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} محيت ومحقت ذوتها فإن الطمس محو الأثر الدال على الشيء وهو الموافق لقوله وإذا الكواكب انتثرت أو ذهب بنورها والأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار والنجوم مرتفعة بفعل يفسره ما بعده أو بالابتداء وطمست خبره والأول أولى لأن إذا فيها معنى الشرط والشرط بالفعل أولى ومحل الجملة على الأعرابيين الجر بإذا وجواب إذا محذوف والتقدير فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون أو بعشم أو جوزيتم على أعمالكم وحذف لدلالة قوله إنما توعدون لواقع عليه وفيه إشارة إلى محق نجوم الحواس العشر الظاهرة والباطنة عن إدراك الحقائق عند طلوع الشمس الحقيقة {وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} صدعت من خوف الرحمن وشققت ووقعت فيها الفروج التي نفاها بقوله ومالها من فروج وفتحت فكانت أبواباً بالفرج الشق وكل مشقوق فرج وبالفارسة وآنكاه كه آسمان شكافته
282
كردد.
وفيه إشارة إلى صدع سماء الأرواح وشقا عند سطوات التجليات الجلالية {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} جعلت كالحب اذي ينسف بالمنسف وهو ما ينفض به الحب ويذري ونحوه وبست الجبال بساً فالنسف والبس بالفارسية راكنده كردن وداميدن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
(10/217)
وفيه إشارة إلى تلاشي جبال الخيالات والأوهام الفاسدة الكاسدة عند بوادي المشاهدات وهو أدى المعاينات {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي عين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وذلك عند مجيئه حضوره إذ لا يتعين لهم قبل حصوله فإن علم ذلك إلى الله تعالى يعني إن تبيين وقت حضورهم لهم من جملة علامات القيامة من حيث إن ذلك التعيين ولتبيين لم يكن حاصلاً في الدنيا لعدم حصول الوقت فيال لهم عند حصوله احضروا للشهادة فقد جاء وقتها أو المعنى وإذا الرسل بلغوا الميقات الذي كانوا ينتظرونه وهو يوم القيامة فإن التوقي كما يجيء بمعنى تحديد الشيء وتعيين وقته فكذا يجيء بمعنى جعل الشيء منتهياً إلى وقته المحدود وعلى المعنى الأول لا يقع على الذوات يدون إضمار فإن الموقت هو الأحداث لا الجثث فلا يقل زيد موقت إلا أن يراد موقت حضوره وكذا توقيت الرسل إنما هو بالنسبة إلى حضورهم لا بالنسبة إلى ذواتهم لأن الذوات قارة لا يعتبر فها تعيين بخلاف الزمانيات المتجددة هكذا قالوا : وقال سعدي المفتي : وفي وقوعه على المعنى الثاني على الجثث بدون إضمار بحث ظاهر وإن ذهب إليه صاحب الكشف ونحوه وقرأ أبو عمرو وقتت على الأصل لأن من الوقت والباقون أبدلوا الواو همزة لأن الضمة من جنس الواو فالجمع بينهما يجري مجرى الجمع بين المثلين فيكون ثقيلاً ولهذا السبب تستثقل الكسرة على الياء ولم تبدل في نحو ولا تنسوا الفضل بينكم لأن ضمة الواو ليست بلازمة فيه وفي "كشف الأسرار" الألف والواو لغتان والعرب تبدل الألف من الواو تقول وسادة وإسادة وكتاب مؤرخ ومؤرخ وقوس موتر ومؤتر وفي الآية إشارة إلى رسل القلب والسر وتعيين وقت شهادتهم على أمة الأعضاء والجوارح {لايِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} مقدر بقول هو جواب لإذا في قوله وإذا الرسل اقتت أي يقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل أي بجمعهم وإحضارهم كما قال تعالى : [المائدة : 109-13]{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} والمراد تعظيم ذلك اليوم والتعجيب من هو له.
قال القاشاني : وإذا الرسل أي ملائكة الثواب والعقاب عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لها إما لإيصال البشري والروح والراحة وإما لإيصل لعذاب والكرب والذلة ليوم عظيم أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب في وقت الأعمال ورسل البشر وهم الأنبياء عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لهم فيه الفرق بين المطيع والعاصي والسعيد والشقي فإن الرسل يعرفون كلا بسيماهم ليوم الفصل} بيان ليوم التأجيل وهو اليوم الذي يفصل في بين الخلائق ويقضي بالحقوق ويحكم بين المحسن والمسيء ويميز بين أرباب شهود الوحدة الذاتية وبين أصحاب شهود لكثرة الإسمائية والصفاتية وقال بعضهم : يفصلفيه بين البحيب وحبيبه إلا من كان معاملتهفي الله وبين الرسل وأمه وأبيه وأخيه إلا أن يكونوا متفقين على الحق والعدل {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} ما مبتدأ إدراك خبره
283
أي أي شيء جعلك درياً وعالماً ما هو وما كنهه إذا لم تر مثله وكذا لم ير أحد قبلك شدته حتى تسمع منه.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
قال الكاشفي) : وه يزداناكرد تراكه يست روز فصل ه كنه اورانتوان دانست.
(10/218)
فوضع موضع الضمير ليوم الفصل لزيادة تفظيع وتهويل على أن ما خبر ويوم الفصل مبتدأ لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمراً بديعاً هائلاً لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ما لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه {قِيلَ} وأي {يَوْمَـاـاِذٍ} أي ف ذلك اليوم الهائل {لِّلْمُكَذِّبِينَ} بيوم يفصل فيه الرحمن بين الخلائق أي الويل والهلاك ثابت فيه لهم والويل في الأصل مصدر منصوب ساد مسد فعل لا من لظفه فأصله أهلكة الله إهلاكاً أو هلك هو هلا كاعدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه لمدعو عليه ويومئذٍ ظرفه أو صفته ووضع الويل موضع الإهلاك أو الهلاك فجاز وقوعه مبتدأ مع كونه نكرة فإنه لما كان مصدراً ساداً مسد فعله المتخصص بصدوره عن فاعل معين كانت النكرة المذكورة متخصصة بذلك الفاعل فساغ الابتداء بها لذلك كما قالوا في سلام عليك وقال بعضهم الويل واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره أي ذاتب وقال الجنيد قدس سره الويل يومئذٍ لمن كان يدعى في الدنيا الدعاوي الباطلة {أَلَمْ نُهْلِكِ الاوَّلِينَ} كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن هلكوا قبل بعثة سيد المرسلين عليه السلام وذلك لتكذيبهم بيوم الفصل وهو استئناف إنكار لعدم الإهلاك إثباتاً وتقريراً له لأن نفي النفي يثبت الإثبات ويحقق الإهلاك فكأنه قيل لم يكن عدم الإهلاك بل قد أهلكناهم {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ} وهم الذين كانوا بد بعثته عليه اسلام وهو بالرفع على ثم نحن نتبعهم الآخرين من نظرائهم السالكين لمسلكهم في الكفر والتكذيب أي نجعلهم تابعين للأولين في الإهلام فليس الكلام معطوفاً على ما قبله لأن العطف يوجب أن يكون المعنى أهلكنا الأولين ثم اتبعناهم الآخرين في الإهلاك وليس كذلك لأن إهلاك إلا آخرين لم يقع بعد فلذلك رفع نتبع على أن يكون مقطوعاً عما قبله ويستأنف به الكلام على وجه الأخبار عما سيقع في المستقبل بإضمار المبتدأ وفيه وعيد لكفار مكة {كَذَالِكَ} أي فعلاً مثل ذلك الفعل الذي أخبر به فمحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
بكل من أجرم أي سنتنا جارية على ذلك وفيه تحذير من عاقبة الجرمو سوء أثره {وَيْلٌ} مكروهي بزرك {يَوْمَـاـاِذٍ} يوم إذا هلكناهم {لِّلْمُكَذِّبِينَ} بآيت الله وأنبيائه وليس فيه تكرير لما إن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا وفي برهان القرآن كررها في هذه السورة عشر مرات لأن كل واحدة منها ذكرت عقيب آية غير الأولى فلا يكون تكراراً مستهجناً ولو لم يكرر كان متوعداً على بعض دون بعض وقيل إن من عادة العرب التكرار والأطناب كما إن عادتهم الاقتصار والإيجاز ولأن بسط الكلام في الترغيب والترهيب دعى إلى إدراك البغية من الإيجاز وقد يجد كل أحد في نفسه من تأثير التكرار ما لإخفاء به {أَلَمْ نَخْلُقكُّم} أي ألم نحدثكم واتفق القراء على إدغام القاف في الكاف في هذا الحرف وذكر النقاش إنه في قراءة ابن كثير
284
ونافع برواية قالون وعاصم في رواية حفص بالإظهار قاله في الإيضاح {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} بهوان الحدوث والإمكان والابتذال من نطفة قذرة مهينة يعني خوار وبي مقدار.
والميم أصلية ومهانته قلته وخسته وكل شيء ابتذلته فلم تصنه فقد امتهنته أي خلقناكم منه ولذا عطف عليه قوله {فَجَعَلْنَـاهُ} أي الماء وبالفارسية س نكاه داشتيم آن آب را {فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} وهو الرحم بكسر الحاء المهملة أي وعاء الولد في بطن الأم يعني در قرار كاه استواركه رحم است.
(10/219)
فالقرار موضع الاستقرار والمكين الحصين أي جعلنا ذلك الماء في مقر حصين يتمكن فيه الماء محفوظاً سالماً من التعرض له فمكين من المكانة بمعنى التمكن لا منها بمعنى المنزلة والمرتبة من الكون يقال رجل مكين في مكة أي متمكن فيها ومكين عند الأمير أي ذو منزلة ومرتبة عنده فيكون فعيلاً لا مفيلاً {إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي مقدار معلوم من الوقت الذي قدره الله للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر وهو في موضع الحال من الضمير المنصوب في فجعلناه أي مؤخراً إلى مقدار معلوم من الزمان {فَقَدَرْنَا} أي فقدرناه والمراد تقدير خلقه وجوارحه وأعضائه وألوانه ومدة حمله وحياته ويدل على كون قدر المخفف لغة بمعنى قدر المشدد قراءة نافع والكسائي بالتشديد {فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ} أي نحن بمعنى المقدرون وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود رضي الله عنه ويجوز أن يكون فقدرنا من القدرة بمعنى فقدرنا على ذلك أي على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا من مثل تلك المادة الحقيرة على إن المراد بالقدرة ما يقارن وجود المقدور بالفعل ويعضده قوله فنعم القادرون حيث خلقناه بقدرتنا وجعلنا على أحسن الصور والهيئات {وَيْلٌ} بزركتربلاي {يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة قال أبو الليث : أي الشدة من العذاب لمن يرى اللخق الأول فأنكر الخلق الثاني {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفَاتًا} عرفهم أو لا نعمه إلا نفسية لأنها كالأصل ثم اتبعها النعم الآفاقية والكفت بأهم آوردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
والكفات اسم ما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام لما يضم والجماع لم يجمع نحو التقوى جماع كل خير والخمر جماع كل إثم وكفاتاً مفعول ثن لنجعل لأنه بمعنى ألم نصيرها كفتاً تكفت وتضم {أَحْيَآءً} كثيرة على ظهرها فهو منصبو بفعل مضمر يدل عليه كفاتاً وهو تكفت وإلا فالأسماء الجامدة وكذا أسماء الزمان والمكان وآصالة وإن كانت مشتقة لا تعمل وفي اسم المصدر خلاف وإما المصدر وجمع اسم الفاعل فهما من الأسماء العاملة فمن جعل الكفات مصدراً أو جمع اسم الفاعل وهو كافت كصيام جمع صائم جعله عاملاً ومن جعله اسماً لمن يكفت أو جمعاً للكفت بمعنى الوعاء منعه من العمل غير الزمخشري فإنه جعل كفاتاً وهو اسم عاملاً وقد طعن فيه {وَأَمْوَاتًا} غير محصورة في بطنها ولذا كانوا يسمون الأرض إما تشبيهاً لها بالأم في ضمها للناس إلى نفسها إحياء وأمواتاً كالأم التي تضم أولادها إليها وتضبطهم ولما كانوا ينضمون إليها جعلت كأنه تضمهم وأيضاً كما إن الأرض كفات الإحياء بمعنى إنهم يسكنون فيها كذلك إنها كفات لهم بمعنى إنها تكفت ما ينفصل من الإحياء من الأمور المستقذرة وتنكيرهما في معنى التعريف الاستغراقي لا لإفراد والنوعية ويجوز أن يقال الأرض
285
وإن كانت كفاتاً لجميع إحياء الإنس وأمواتهم لكن الإحياء والأموات غير منحصرة فيها لأن بعضا لحيوان يكفته الهواء والبعض الآخر يكفته الماء فلا تكون كفاتاً للجميع بل للبعض فيصح التنكير ونقل عن القفال إنه قال دلت الآية على وجوب قطع يد النباش من حيث إنه تعالى جعل الأرض كفات الميت فتكون حرزاً والسارق من الحرز يجب عليه القطع {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابت يعلى وبيافريديم درزمين كوههاي استوار واي برجا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
(10/220)
فمفعول جعلنا مقدر ورواسي صفة له من رسا الشيء يرسواي ثبت والجبال ثوابت على ظهر الأرض لا نزول {شَـامِخَـاتٍ} صفة بعد صفة والشامخ العالي المرتفع أي طوالاً شواهق يعني بلد وسر فراز ومنه شمخ بأنفه عبارة عن الكبر وفي "عين المعاني" رواسي أي ثوابت الأصول رواسخ العروق شامخات أي مرتفعات الفروع ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد كأشهر معلومات ونحوه والتنكير للتفخيم أو للإشعار بأن ما يرى على ظهر الأرض من الجبال بعض منها وإن في عداد الجبال ما لم يعرف ولم ير فإن السماء فيها جبال أيضاً بدلالة قوله تعالى : ن جبال فيها من برد {وَأَسْقَيْنَـاكُم} وبياشامانيديم شمارا {مَّآءً فُرَاتًا} أي عذباً جداً بأن خلقنا فيها أنهاراً ومنابع أي جعلناه سقياً لكم ومكناكم من شربه وكذا من سقيه دوابكم ومزارعكم وسمى نهر الكوفة فراتًا للذته وقال أبو الليث ماء عذباً من السماء ومن الأرض يقال الفرات للواحد والجمع وتاؤه أصل والتنكير للتخفيم أو لإفادة التبعيض لأن في السماء ماء فراتاً أيضاف بل هي معدنه ومصبه {وَيْلٌ} واد في جهم {يَوْمَـاـاِذٍ} دران روز خطرناك {لِّلْمُكَذِّبِينَ} بأمثال هذه النعم العظيمة {انطَلِقُوا} أي يقال يومئذٍ للمكذبين بطريق التوبيخ والتقريع انطلقوا واذهبوا والقائلون خزنة النار وزبانية جهنم {إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} في الدنيا من العذاب وبه متعلق بتكذبون قدم لرعاية نظم الآية {انطَلِقُوا} خصوصاً {إِلَى ظِلٍّ} أي ى ظل دخن نار جهنم كقوله تعالى : [الواقعة : 43-30]{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} أي دخان غليظ أسود ذي ثلاث شعب} جمع شعبة يعني خداوندسه شاخ يتشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب فقوله ذي ثلاث شعب كناية عن كون ذلك الدخان عظيماً بناء على أن التشعب من لوازمه وقيل يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كسرادق وهو ما يمد فوق صحن البيت ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش قال القاضي أخذا من التفسير الكبير خصوصية الثلاث إما لأن حجاب النفس عنأنور القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالة في الدماغ المشوشة للنفس عن إدراك الحقائق والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب الدافعة للنفس عن القيام على حق الاعتدال والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره المانعة للنفس عن الاتصاف بالأوصاف الإلهية ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره فجميع ما يصدر عن الإنسان من العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة لا ينشأ إلا من هذه القوى الثلاث الواهمة والغضبية والشهوية فهذه الثلاث لما كانت منبع جميع الآفات الصادرة عن
286
الإنسان تشعبت شعب العذات على حسبها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
ذس هركه خواهدكه فردا ازين دخان كه ظل من يحموم اشارت بدانست ايمن كرد امروز بنور عقل متمسك شده ازتيركى صفت شيطاني وسبعي وبهيمي ببايد كذشت.
زتاريكى خشم وشهوت حذركن
كه ازدود آن شم دل تيره فردد
غضب ون در آمد رود عقل بيرون
هوى ون شود يره جان خيره كردد
ويحتمل أن تكون الخصوصية لتضيعهم القوى الثلاث اتي هي السمع والبصر والفؤاد كما قال تعالى وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون فشكرها ودعابتها مبدأ السعادات وعدم محافظتها وإتلافها منشأ الشقاوات.
(10/221)
يقول الفقير : عند وجه آخر وهو أن الإيمان عبارة عن الصديق والإقرار والعمل فجعلت كل شعبة من الثلاث بمقابلة واحدة من هذه الأركان دل على هذه قوله تعالى انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون فأورد التكذيب الذي هو صفة القلب فإن القلب لكونه مدارة الأعضاء والقوى إذا فسد فسد اللسان وسائر الأركان فالتكذيب ظلمة باطنة للقلب ضو عفت بظلمة ترك الإقرار والعمل فلما تضاعفت اظلمات الباطنة في الدنيا تضاعفت الظلمات الظاهرة في الآخرة لأن لكل عمل وصفة صورة شخصية جسدانية يوم القيامة {لا ظَلِيلٍ} أخذ من الظل للتأكيد كنوم نائم أي لا يظل من الحر وتوصيف الظل بأنه لا يظل من حر ذلك اليوم وهو حر النار للدلالة على أن تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظل استهزاء بهم فإن شأن الظل أن يدفع عمن يستظل به مقاساة شدة الحر وإنه ينفعه ببرده ونسيمه والذي أمروا بالإنطلاق إليه يضاعف عليهم ما هم فيه من الحر والعذاب فضلاً عن أن يستريحوا ببرده أورد لما أوهمه لفظ الظل من الاسترواح كما مر في الواقعة {وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} إي غير مغن لهم من حر اللهب كما يغنى ظل الدنيا من الحر فقوله لا ظليل في موضع الجر على إنه صفة لظل ولظف غير مانع للصفتية أي ظل غير ظليل وغير مغن ومفعول يغني محذوف هو شيئاً ومن لبيانه ويغني من أغنى عني وجهه أي أبعده لأن الغنى عن الشيء يباعده كما إن المحتاج إليه يقربه فصح أن يعبر بإغناء شيء عن شي عن إبعاده عنه فكان المعنى إن هذا الظل لا يظلكم من حر الشمس ولا يدفع عنكم لهب النار واللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت منأحمر وأصفر وأخضر.
وفي التأويلات النجمية : ظل الروح وظل القلب ظل ظليل ممدود نفعه وأثره وروحه لا ظل النفس والهوى.
وقال بعضهم : ظل شجرة النف الخبيثة المنقطعة عن نور الوحدة بظلمة ذتها ليس بظليل كظل شجرة طوبى فلا يفيد الروح والراحة بخلاف صل شجرة النفس الطيبة المنورة بنور الوحدة الغير المنشعبة إلى الشعب المختلفة المتضادة كالشيطانية والسبعية والبهيمية {إِنَّهَا} أي اتلشعب لأنها هي المذكورة لا النار {تَرْمِى بِشَرَرٍ} مى افكنددر آنروز شرار هاراكه هر شراره {كَالْقَصْرِ} ما نندكوشكى عظيم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
أي كل شررة كقصر من القصور في عظمها كما دل عى هذا التفسير قوله كأنه جمالة صفر فالشرر جمع شررة وهي ما تطاير من النار
287
في الجهات متفرقاً كالنجوم كما قال في "القاموس" الشرار والشرر ككتاب وجبل ما يتطاير من النار واحدتهما بهاء انتهى.
وكالقصر في موضع الصفة للشرر والقصر مفرد وهو البناء العالي ووصفه به الجمع باعتبار كل واحد من آحاده والقصر أيضاً الحطب الجزل ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة 5رع وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء فكنا نسميها الصقر أي لكونها مقصورة مقطوعة من الممدودة الطويلة تأمل في أن ناراً دخانها وشررها هكذا فما بالك بحال أهلها {كَأَنَّهُ} أي الشرر وفي فتح الرحمن كأنه أي النار ثم رد الضمير إلى لفظ النار دون معناها فقال كأنه {كَأَنَّه جِمَـالَتٌ} جمع جمل كحجارة في جمع حجر والتاء لتأنيث الجمع أو اسم جمع كالحجارة والجمل ذكر الإبل والناقة انثاه وإذا لم يكن في جماعة الإبل أنثى يقال جمالة بالكسر والصفر جمع أصفر والصفرة لون من الألوان الت بين السواد والبياض وهي أن البياض أقرب ولذلك قد يبعر بها عن السواد والمعنى كأن كل شررة جمل أصفر أو كجمل أسود لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة كما قيل لبعض الظباء آدم لأن بياضها تعلوه كدرة ولأن صفر الإبل يشوب رؤوس إشعارها سواد وفي الحديث : "شرار جهم أسود كالقير" فالأول : وهو التشبيه بالقصر تشبيه في العظم ، والثاني : وهو التشبيه بالجمل في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط والحركة وفي "المفردات".
قوله تعالى : {كَأَنَّه جِمَـالَتٌ صُفْرٌ} قيل : جمع أصفر وقيل : بل أراد به الصفر المخرج من المعادن ومنه قيل للنحاس صفر.
وفي التأويلات النجمية : كل صفة من الأوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية بحسب الغلظة والشدة كالقصور امرتفعة والبروج المشيدة أو كأنه جمالة صفر عظيمة لهيكل طويلة الأشر من شدة قوة النار في ذلك الشرر وهي القوة الغضبية ويل} مشقت بسيار {يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بأهوال يوم القيامة وأحوال العصاة فيه.
(10/222)
(وقال الكاشفي) : مرد روع زنانراست كه مشتق دوزخ وشرارهاى آنراباور ندارند {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} إشارة إلى وقت دخولهم النار ويوم مرفوع على إنه خبر هذا أي هذا يوم لا ينطقون فيه بشءي لما إن السؤال والجواب والحساب قد انقضت قبل ذلك وأيضاً يوم القيامة يوم طيول له مواطن ومواقيت ينطقون في وقت دون وقت فعبر عن كل وقت بيوم أولاً ينطقون بشيء ينفعهم فإن ذلك كلا نطق.
قال القاشاني : لا ينطقون لفقدان آلات النطق وعدم الأذن فيه بالختم على الأفواه ، وقال بعضهم : لا ينطقون من شدة تحيرهم وقوة دهشتهم وقال أبو عثمان رحمه الله ، أسكتهم هيبة الربوبية وحياء الذنوب كما قال الشيخ سعدى رحمه الله :
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
سر ار جيب غفلت بر آور كنون
كه فردا نماند بخجلت نكن
{وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ} ودستورى ندهد مرايشارنرا در اعتذار {فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على يؤذن منتظم في سلك النفي أي لا يكن لهم إذن واعتذار متعقب له من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الأذن كما لو نصب والنصب يوهم إن لهم عذراً وقد منعوا من ذكره
288
وهو خلاف الواقع إذ لم كان لهم عذر لم يمنعوا وأي عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه {وَيْلٌ} كرب واندوه {يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بهذه الأخبار بما جاء من الحق الواقع البتة {هَـاذَا} اليوم الذي شاهدتم أهوالهم وأحواله {يَوْمُ الْفَصْلِ} بين الحق والباطل وقال البقلي : هذا يوم مفارقة النفس والشيطان عن جوار قلب العارف وانفصال كل شيء عن كل محب غير محبوبه حيث استغرق في جوده وشهوده ووجوده {جَمَعْنَـاكُمْ} يا أمة محمد {وَالاوَّلِينَ} من الأمم وهذا تقرير وبيان للفصل إذ الفصل بين المحق ولمبطل ولرسل لا يتحقق إلا بجمع الكل فلا بد من إحضارهم لا سيم عند من لا يجوز القضاء على الغائب {فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} حيلة تدفعون بها عنكم العذاب والظاهر أن هذا الخطاب من الله للكفار {فَكِيدُونِ} أصل فكيدوني حذف ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة والنون للوقاية وهو أمر من كاد يكيد كيدا وهو المكر والاحتيال والخديعة والمعنى واحتالوا لأنفسكم وتخلصوا من عذابي إن قدرتم فإن جميع من كنتم تقلدونهم وتقدرون بهم حاضرون يعني حيله باخدا يش نرود وبمكر ودستان عذاب ازخود دفع نتوانيد كرد.
بمكر وحيله عذاب خداي رد نشود
نياز بايد واخلاص وناله سحري
توان خريد بيك آه ملك هردوجهان
ازان معامله غافل مشوكه حيف خوري
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص289 حتى ص297 رقم30
وهذا أمر إهانة وخطاب تعجيز تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وتخجيل لهم بأنهم كانوا في الدنيا يدفعون الحقوق عن أنفسهم ويطلون حقوق الناس بضروب الحيل والمكايد والتلبيسات فخاطبهم الله حين علموا إن الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة بقوله فإن كان لكم كيد فكيدون لما ذكر من التقريع والتخجيل ولإظهار عجزهم عن الكيد فإن مثل هذا الكلام لا يتكلم به إلا من تيقن بعجز مخاطبه عما هو بصدده وفي بعض التفاسير أي فإن وجد كيد نافع لكم على أن لكم متعلق بكان أو نافعاً لكم على إنه حال من كيد {وَيْلٌ} غم وغصة {يَوْمَـاـاِذٍ} دران روز هولناك {لِّلْمُكَذِّبِينَ} حيث ظهر أن لا حيلة لهم في الخلاص من العذاب {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} من الكفر والتكذيب لأنهم في مقابلة المكذبين ففيه رد على المعتزلة {فِى ظِلَـالٍ} جمع ظل كشعاب وشعب أو ظلة كقباب وقبة أي في ظلال ظليلة على الحقيقة كما يدل عليه الإطلاق يعني لا كظل المكذبين وبالفارسية درسايهاي درختان بهشت باشند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
قال بعضهم : الظاهر إنه أخبار عن كونهم تحت أشجار مثمرة لهم في جنانهم.
يقول الفقير : إلا ظهران كونم في ظلال كناية عن راحتهم العظمى لأن الظل للراحة وكذا قوله تعالى : [النساء : 57-41]{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا} ونحوه وإنما ذكر الله الظل تشويقاً للقلوب لأن من البلاد ما هي حارة قليلة المياه والأشجار والظلال وعيون} عذبة دافعة عنهم العطش وبالفارسية وركنار شمهاى آب {وَفَوَاكِهَ} أي ألوان الفاكهة يعني ودرميان ميوها {مِمَّا يَشْتَهُونَ}
289
ويتمنون يعني از آنه آرزو كنند.
(10/223)
فيتناولونها لا عن جوع وامتلاء بل عن شهوة وتلذذ والحاصل إنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم خلاف ما عليه مخالفوهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياـاَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} مقدر بقول هو حال من ضمير المتقين في الخبر أي مقولاً لهم كلوا من نعم الجنة وثمراتها واشربوا من مائها وشرابها أكلاً وشرباً هنيئاً شائغاً رافهاً بلا داء ولا تخمة بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة خصوصاً الصيام كما مضى في الحاقة وهذا أمر إكرام إظهاراً للرضى عنهم والمحبة لهم تمسك القائلون بالإيجاب العمل للثواب بالباء السببية والجواب إن السببية إنما هي بفضل الله ووعده الذي لا يخلف لا بالذات بحيث يمتنع عدمه أو يوجب النقص أو الظلم {إِنَّا كَذَالِكَ} الجزاء العظيم {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} أي في عقائدهم وأعمالهم لا جزاء أدنى منه {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} حيث نال أعداؤهم هذا الثواب الجزيل وهم بقوا في العذاب المخلد الوبيل.
(وقال الكاشفي) : جهل وقبح وذم مراهل تكذيب راست كه بنعيم بهشت نمى كروند.
وفي التأويلات النجمية : إن المتقين بالله عما سواه أي المتقين بنور الوحدة عنظلمة الكثرة وبنور المعرفة عن ظلمية النكرة في ظلال الأوصاف الإلهية والأخلاق الربانية وعيون من مياه العلوم والحكم وفواكه مما يشتهون من التجليات الروحانية والتنزلات النورانية كلوا من أطعمة المواهب الهنية واشربوا من أشربة المشارب التوحيدية هنيئاً بما كنتم تعملون من الأعال الصالحة الأفعال الحسنة إنا كذلك نجزى المحسنين المشاهدين لجمالنا المطلق ويل يومئذٍ للمكذبين بإحسان الجزاء وجزاء الإحسان {كُلُوا} أي مكذبان از نعيم فانىء دنيا {وَتَمَتَّعُوا} تمتعاً {قَلِيلا} أو زماناً قليلاً يعني عيشوا مدة قليلة إلى منتهى آجالكم لأن زمان الدنيا قليل كمتاعها وبالفارسية وبرخوردار شويد زماني اندك {إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} كافرون مستحقون للعذاب وبالفارسية بدرستى كه شما مشركانيد وعاقبت شمارا عذاب دائمست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
قوله كلوا الخ مقدر بقول هو حال من المكذبين قال في "الكواشي" لا أحب الوقف على المكذبين إن نصبت كلوا حالاً منه والمعنى الويل ثابت لهم مقولاً لهم ذلك نذكيراً لهم بحالهم في الدنيا بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد فلا يرد كيف يقال لم ذلك ولا تمتع لهم فيها يعني إن هذا القول لهم في الآخرة لا يكون لطلب الأكل والتمتع منهم بنعيم النيا حيقة لعدم إمكانه بل إنما يقال لهم للتذكير المذكور فيكون الأمر أمر توبيخ وتحسير وتحزين وعلل ذلك بإجرامهم دلالة على إن كل مجرم مآله هذا أي ليس له إلا الأكل والتمتع أياماً قلائل ثم البقاء في الهلاك الأيدي {وَيْلٌ} وأي {يَوْمَـاـاِذٍ} دران روز جزا {لِّلْمُكَذِّبِينَ} حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالمتمتع القليل.
وفي التأويلات النجمية : إنكم مجرمون أي كاسبون الهيئات الردية والملكات الغير المرضية ويل يومئذٍ للمكذين بأن الأوصاف الحميدة أفضل من الأخلاق الذميمة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي للمكذبين {ارْكَعُوا} أي أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا له بقبول وحيه اتباع دينه وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة لأن الركوع والانحناء لأحد تواضع له وتعظيم والسجود أعظم منه في التواضع والتعظيم ومن ذلك قالوا
290
إن السجود لغير الله كفر إن كان للعبادة وخطر عظيم إن كان للتعظيم وفي حواشي ابن الشيخ لركوع في اللغة حقيقة في مطلق الانحناء الحسي وركوع الصلاة من جملة إفراده وتفيره بالإطاعة والخضوع مجاز لغوي تشبيهاً له بالانحناء الحسي {لا يَرْكَعُونَ} لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار وقيل : إذا أمروا بالصلاة أو بالركوع لا يفعلون إذ روى إنه نزل حين أمر رسول الله عليه السلام ، ثقيفاً بالصلاة فقالوا إنا لا خر ولا نجبي أي لا تقوم قيام الراكع فإنها سبة علينا أي إن هيئة لتجبية هيئة تظهر وترفع فيها السبة وهي الاست أي الدبر وهو عار وعيب علينا فقال عليه السلام لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود وفي بعض التفاسير كانوا في الجاهلية يسجدون للأصنام ولا يركعون لها فصار الركوع من أعلام صلاة المسلمينتعالى وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة في الآخرة كما سبق مراراً.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
قال الكاشفي) : مراد آنست كه مسلمان نشوند ه ركن أعظم إسلام بعد از شهادتين نمازاست.
وفيه ذم عظيم لتارك الصلاة حيث لا يجيب داعي الله أي المؤذن فإنه يدعو في الأوقات الخمسة المؤمنين إلى بيت الله وإقامة الصلاة وقس عليه سائر الداعين.
(10/224)
وفي التأويلات النجمية : وإذا قيل لهم اركعوا أي افنوا عن اللذات الحيوانية وأبقوا باللذات الروحانية إذ هي مناجاة الروح والسر مع الله ولا ألذ منها {وَيْلٌ يَوْمَااِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} نفرين آن روز بردروغ زنا نراست كه ركوع وسجود را تكذيب كنند وبشرف إسلام نمى رسند {فَبِأَىِّ حَدِيث} أي خبر يخبر بالحق وينطق بما كان وما يكون على الصدق {بَعْدَهُ} أي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين على نمطبديع معجز مؤسس على حجج قاطعة وبراهين ساطعة {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به أي القرآن الجامع لجميع الأحاديث فقوله فبأي الخ جواب شرط محذوف وكلمة بعد بمنزلة ثم في إفادة التراخي الرتبي أي فإذا لم يؤمنوا به وهو موصوف بما ذكر فبأي كتاب يؤمنون ختم السورة بالتعجيب من الكفار لأن استفهام للتعجيب وبين إنهم في أقصى درجات التمرد والعناد حيث لم ينقادوا لمثل هذا البرهان الباهر والدليل القاطع على حقية الدين القويم من حيث كونه في أرفع درجات الفصاحة والبلاغة وفي أقصى طبقات الإعجاز.
در خبر آمده كه بعد ازخواندن اين آيت بايد كفت آمنا به ستدل بعض المعتزلة على أن القرآن ليس بقديم بقوله تعالى : حديث إذ الحديث ضد القديم لأن الحدوث والدم لا يجتمعان في شيء واحد ورد بأن الحديث هنا بمعنى الخبر لا بمعنى الحادث ولو سلم فالعبارة لا تدل على أن القرآن محدث لاحتمال أن يكون المراد فبأي حديث بعد القديم يؤمنون ولو سلم فإنما يدل على حوث الألفاظ الدالة على لمعاني ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في دم المعنى القائم بذته تعالى روى أن المرسلات نزلت في غار قرب مسجد الخيف بمني يسمى غار والمرسلات.
يقول الفقير قد زرته وقرأت فيه السورة المذكورة وفي الصخرة العالية من الغار داخله أثر رأس النبي عليه السلام يتبرك به الآن والحمدعلى إفضاله وكثرة نواله وزيارة حرمه وحرم مصطفاه مظهر نرر جماله وكماله.
291
جزء : 10 رقم الصفحة : 280
تفسير سورة النبأ
أربعون أو إحدى وأربعون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 291(10/225)
{عَمَّ} أصله عن ما أدغمت النون في الميم لاشتراكهما في الغنة فصار عما ثم حذفت الألف كما في لم وبم وفيم وإلى م وعلى م فإنها في الأصل لما وبما وفيما وإلى ما وعلى ما إما فرقا بين الاستفهامية وغيرها أو قصداً لخفة لكثرة استعمالها وقد جاءت في العشر غير محذوفة كما ذكره أبو البقاء وما فيها من الإبهام للإيذان بفخامة شأن المسؤول عنه وهو له وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة كأنه خفي جنسه فيسأل عنه فالاستفهام ليس على حقيقته بل لمجرد التفخيم فإن المسؤول عنه ليس بمجهول بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا يخفى عليه خافية والمعنى عن أي شيء عظيم
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
{يَتَسَآءَلُونَ} أي أهل مكة وكانوا يتساءلون عن البعث والحشر الجسماني ويتحدثون فيما بينهم ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه فإن ما وإن وضعت لطلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها كما في قولك ما الملك وما الروح لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال عالم أو طبيب {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} النبأ الخبر الذي له شأن وخطر وهو جوابو بيان لشأن المسؤول عنه كأنه قبل عن أي شيء يتساءلون هل أخبكرم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم الخارج عن دائرة علوم الخلق يتساءلون على منهاج قوله تعالى : [غافر : 16]{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} والفائدة في أن يذكر السؤال ثم أن يذكر الجواب معه إن هذا الأسلوب أقرب إلى التفهيم والإيضاح فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال فإن الجار فيه مقدم على متعلقه وقيل عن النبأ العظيم استفهام آخر بمعنى أعن النبأ العظيم أم عن غيره إلا أنه حذف منه حرف الاستفهام للدلالة المذكور عليه ونظيره قوله تعالى : أفأن مت فهم الخالدون أي أفهم الخالدون الذي هم فيه مختلفون} وصف للنبأ بعد وصفه بالعظيم تأكيد الخطرة أثر تأكيد وإشعاراً بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بمختلفون قدم عليه اهتماماً به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيي وما يهلكنا إلا الدهر وما نحن بمبعوثين ومن مقر يزعم أن آلهته تشفع له كما قالوا هؤلاء شفعاؤنا عنذد الله ونم شاك يقول ما ندري ما الساعة أن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين وفيه إشارة إلى القيامة الكبرى وهي البقاء بعد الفناء أو بعث القلب
292
بعد موت النفس فالروح وقواه تقربها والنفس وصفاتها تنكرها لأنها جاهلة فضلاً عن كونها ذائقة ومن لميذق لم يعرف (قال الكمال الخجندي) :
زاهد نعجب كركند از عشق نورهيز
كين لذت ابن باده ه اندكه نخوردست
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
(10/226)
فطوبى للذائقين ويا حسرة للمحرومين {كَلا سَيَعْلَمُونَ} ردع كما يستفاد من كلا ووعيد كما يستفاد من سيعلمون إن ما يتساءلون عنه حق لا دافع له واقع لا ريب فيه مقطوع لا شك فيه {ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} إن ما يتساءلون عنه حق لا دافع له وقاع لا ريب فيه مقطوع لا شك فيه {ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشيد وثم لللالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد يعني إن ثم موضوعة للتراخي الزماني وقد تستعمل مجازاً في التراخي الرتبي أي لتباعد مابين المعطوفين في الشدة والفظاعة وذلك لتشبيه التباعد الرتبي بالتراخي الزماني في الاشتمال على مطلق التباعد بين الأمرين والمعنى المجازي هو المراد هنا لأن المقام مقام التشديد والتهديد وذلك إنما يكون آكد بالحمل عليه وبعضهم حملها على معناها الحقيقي فقال سيعلمون حقيته عند النزع ثم في يوم القيامة ولا شك إن القيامة متراخية بحسب الزمان عن وقت النزع أو سيعلمون حقبة البعث حين أن يبعثوا من قبورهم ثم حقية الجزاء بحسب العمل هذا وقد حمل اختلافهم فيه على مخالفتهم للنبي عليه السلام بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد لا على المخالفة بعضهم لبعض من الجانبين لأن الكل وإن استحق الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته له عليه السلام فكلا ردع لهم عن التساؤل والاختلاف بالمعنيين المذكورين وسيعلمون وعيد لهم بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد وليس مفعوله ما ينبىء عنه المقام من وقوع ما يتساءلون عنه ووقوع ما ختلفون فيه بل هو عبارة عما لا يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائها بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والاختلاف ولمعنى ليرتدهوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَـادًا} الخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ والمتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته أثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع والوعيد ومن هنا اتضح إن المتساءل عنه هو البعث لا القرآن أو نبوة النبي عليه السلام ، كما قيل والهمزة للتقرير والمهاد البساط والفراش وفي بعض الآيات جعل لكم الأرض فراشاً قال ابن الشيخ المهاد مصدر ما هدت بمعنى مهدت كسافرت بمعنى سفرت أطلق على الأرض الممهودة أي ألم نجعل الأرض بساطاً ممهوداً تتقلبون عليها ما يتقلب الرجل على بساطه وبالفارسية آيا نساخته ايم زمين را فراشي كسترده تاقراركاه شمابود وجاي تقلب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
ومهادا مفعول ثان لجعل إن كان الجعل بمعنى التصيير وحال مقدرة إن كان بمعنى اللخق وجوز أن يكن جمع مهد كعاب كعب وجمعه لاختلاف أماكن الأرض من القرى والبلاد وغيرها أو للتصرف فيها بأن جعل بعضها مزارع وبعضها مساكن إلى غير ذلك وقرىء مهداً على تشبيهها بمهد الصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه تسمية للمهود بالمصدر
293
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} المراد بجعلها أوتاداً لها إرساؤها بها لتسكن ولا تميد بأهلها إذك انت تميد على الماء كما يسرى البيت بالأوتاد فهو من باب التشبيه البليغ جمع وتد وهو ما يوتد ويحكم به المتزلزل المتحرك من اللوح وغيره بالفارسية ميخ.
فإن قيل أليست إرادة الله وقدرته كافيتين في التثبيت أجيب بأنه نعم إلا أنه مسبب الأسباب وذلك م كمال القدرة قال بعضهم الأوتاد على الحقيقة سادات الأولياء وخواص الأصفياء فإنهم جبال ثاتبة وبهم تثبت أرض الوجودو سئل أبو سعيد الخراز قدس سره عن الأوتاد والأبدال أبهم أفضل فقال الأوتاد قيل كيف فقال لأن الأبدال يتقلبون من حال إلى حال ويبدل بهم من مقام إلى مقام والأوتاد بلغ بهم النهاية وثبت أركانهم فهو الذين بهم قوام الخلق قال ابن عطاء الأوتاد هم أهل الاستقامة والصدق لا تغيرهم الأحوال وهم في مقام التمكين انتهى.
والأوتاد أربعة واحد يحفظ الشرق يقال له عبد الحي وواحد يحفظ الغرب يقال له عبد العيم وواحد يحفظ الشمال يقال له عبد المريد وواحد يحفظ الجنوب يقال له عبد القادر والإبدال سبعة يحفظون أقاليم الكرة علواً وسفلاً.
وجه تسميه آنست كه ون يكى ازايشان مرديكي ازهل تن يعني نجبا بدل اوشد وتتميمي هل تن بيكى از سيصد تن است يعني نقبا وتكميل سيصدتن بيكي از صلحاء وإبدال مقيم نشوند نيكجا مكر خسته باشند ومعالجه كنند وبخورند وبوشند ونكاح كنند يش ازانكه ابدال شوند وقطب الأبدال نظير كوكب سهيل كما إن قطب الإرشاد نظير الجدي وقطب إبدال درزمان نبي عليه السلام عصام الدين قزني بودعم أويس وون أو متوفى شد ابن عطا أحمد بود ازدهى كه ميان مكه ويمن است وبلال الحبشي رضي الله عنه درزمان نبي عليه السلام زبدلاي سبعه بودى.
(10/227)
وكان الشافعي رضي الله عنه من الأتاد الأربعة {وَخَلَقْنَـاكُمْ} عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكه فإنه في قوة إنا جعلنا أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا {أَزْوَاجًا} أي حال كونكم أصنافاً ذكراً وأنثى ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر وينتظم أمر المعاشرة والمعاش ويتسنى التناسل والزوج يقال لكل واحد من القرينين المزدوجين حيواناً أو غيره كالخف والنعل ولا يقال للاثنين زوج بل زوجان ولذا كان الصواب أن يقال قرضته بالمقراضين وقصصته بالمقصين لأنهما اثنان لا بالمقراض وبالمقص كذا قال الحريري : في درة الغواص وقال صاحب القاموس يقال للاثنين هما زوجان وهما زوج انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
ولعله من قبيل الاكتفاء بأحد الشقين عن الآخر وزوجة للمرأة لغة رديئة لقوله تعالى : [الإسراء : 12]{وَيَـاـاَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ويقال لكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضاداً زوج ولذا قال بعضهم : في الآية وخلقناكم حالك ونكم معروضين لأوصاف متقابلة كل واحد منها مزدوج بما يقابله كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل والقوة والضعف والذكورة والأنوثة والطول والقصر إلى غير ذلك وبه يصح الابتلاء فإن الفاضل يشتغل بالشكر والمفضول بالصبر ويعرف قدر النعمة عند الترقي من الصبر إلى الشكر وكل ذلك دليل على كمال القدرة ونهاية الحكمة وجعلنا} صيرنا {نَوْمَكُمْ} وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه ولذا قل في أهل الرياضة لقلة
294
الرطوبة {سُبَاتًا} موتاً أي كالموت والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة ومنه سمى يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك وأيضاً هو يوم ينقطع فيه بنو إسرائيل عن العمل والنوم أحد التوفيين كما قال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها أي ويتوفى التي لم تمت في منامها وذلك لما بينهما من المشاركة التامة في انقطاع أحكام الحياة فالتنوين للنوعية أي وجعلنا نومكم نوعاً من لموت وهو الموت الذي ينقطع ولا يدوم إذ لا ينقطع ضوء الروح إلا عن ظاهر البدن وبهذا الاعتبار قيل له أخو الموت والنوم بمقدار الحاجة نعمة جليلة قويل سبتا أي قطعاً عن الاحساس والحركة لا راحة القوى الحيوانية وإزاحة كلالها والأول هو اللائق بالمقام كما ستعرفه {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ} الذي يقع فيه النوم {لِبَاسًا} يقال لبس الثوب استتر به وجعل اللباس لكل ما يغطي الإنسان عن قبيح فجعل الزوج لزوجها لباساً من حيث إنها تمنعه وتصده عن ععطاي قبيح كذا ابعل وأيضاً من حيث الاشتمال قال تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} وجعل التقوى لباساً على طريق التمثيل والتشبيه وكذا جعل الخوف والجوع لباساً على التمثيل والتشبيه تصويراً له وذلك بحسب ما يقولون تدرع فلان الفقر ولبس لجوع والمعنى لباساً يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل صاحب فتوحات آورده شب لباس أصحاب لل است كه ايشانرا از نظر اغيار بوشاند تادر خلوت خود لذتت مكالمه يا محاضره يا مشاهده هريك فراخور استعداد خود برخوردارى يا بند حضرت شيخ الإسلام قدس سره فرمودكه كه شب رده روندكان راهست روز بازار بيدار إن سحركاه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
الليل للعاشقين ستر
يا ليت أوقاته تدوم
ون دردل شب خيال أويار منست
من بنده شب كه روز بازار منست
فهو تعالى جعل الليل محلاً للنوم الذي جعل موتاً كما جعل النهار محلاً لليقظة المعبر عنا بالحياة في قوله تعالى : وجعلنا النهار معاشا} أي وقت عيش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت كما في قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} وجعل النهار نشوراً ولم يقل وجعل يقظتكم حياة لتتم المطابقة بينه وبين قوله : وجعلنا نوكم سباتاً بل عبر عن اليقظة النهار لكونه مستلزماً لها غالباً ولمراعاة مطابقة وجعلنا الليل ومنه يعلم قوله : وجلنا الليل لسي مستطرداً في البيت لذكر النوم في القرينة الأول فمعاش مصدر من عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة وعلى هذا لا بد من تقدير المضاف ولذا قدروا لفظ الوقت ويحتمل أن يكون اسم زمان على صيغة مفعل فلا حاجة حينئذٍ إلى تقدير المضاف وتفسيره بوقت معاش إبراز لمعنى صيغة اسم الزمان وتفصيل لمفهومها.
وفي التأويلات النجمية : ألم نجعل أرض البشرية مهد استراحتكم وانتشاركم في أنواع المنافع البشرية وجبال نفوسكم القاسية قوائم أرض البشرية وخلقناكم أزواجاً زوج الروح وزوج النفس أو ذكر القلب وأنثى النفس
295
(10/228)
وجعلنا نومكم غفلتكم راحة واستراحة باستيفاء اللذات واستقصاء الشهوات وجعلنا ليل طبعتكم سترا لنهار روحانيتكم وجعلنا نهار روحانتيكم معاشاً تعيشون فيه بالطاعات والعبادات وهذه صورة البعث ونينا فوقكم} وبنا كرده ايم برسر شمارا {سَبْعًا شِدَادًا} جمع شديد أي سبع سموات قوية الخلق محكمة البناء لا يأثر فيها مر الدور ووكر العصور وقال أبو الليث : غلاظاً غلظ كل سما مسيرة خمسمائة عام والتعبيري عن خلقها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على اللخق وفيه إشارة إلى طبقات القلب السبع الأولى طبقة الصدور وهي معدن جوهر الإسلام والثانية طبقة القلب وهي محل جوهر الإيمان والثالثة الشغاف وهي معند العشق والمحبة والشفقة والرابعة الفؤاد وهو معدن المكاشفة والمشاهدة والرؤية والخامسة حبة القلب وهي مخصوصة بمحبة الله تعالى لا تعلق بها مبحة الكونين وعشق العالمين والسادسة السويداء وهي معدن العلم اللدني وبيت الحكمة والسابعة ببيت المعزة وهي قلب ولا كملين وفي هذا البيت أسرار إلهية الدني وبيت الحكمة والسابعة بيت العزة وهي قلب ولا كملين وفي هذا البيت أسرار إلهية لا تخرج من الباطن إلى الظاهر أصلاً ولا يظهر منها أثر قطعاً {وَجَعَلْنَا} أنشأنا وأبدعنا {سِرَاجًا} هو الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السموات بالبناء قال الراغب : السراج الزاهر بفتيلة ودهن ويعبر به عن كل شيء مضيء ويقال للسراج مصباح {وَهَّاجًا} وقاداً متلألئاً من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغاً في الحرارة من الوهج وهو الحر وهو ما قال بعض المفسرين : سراجاً وهاجاً أي مضيئاً جامعاً بين النور والحرارة يعني راغى افروخته وتابان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
يقال : إن الشمس والقمر خلقا في بدء رهما من نور العرش ويرجعان في القيامة إلى نور العرش وذلك فيما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه قال ألا أحدثكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في الشمس والقمر وبدء خلقهما مصير أمرهما قال قلنا بلى يرحمك الله فقال إن رسول عليه السلام سئل عن ذلك فقال إن الله تعالى لما أبرز خلقه أحكاماً ولم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسين من نور عرشه فأما ما كان في سابق علمه أن يدعها شمساً فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وما كان في سابق علمه إن يطمسها ويحولها قمراً فإنه خلقها دون الشمس في لعظم ولكن إنما يرى صغرهما لشدة ارتفعهما في السماء وبعدهما من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما كان خلقهما في بدء أمرهما لم يعرف الليل من النهار ولا لنهار من الليل ولا يدري الأجير متى يعمل ومتى يأخذ ره ولا يدري الصائم متى يصوم ومتى يفطر ولا دري المرى متى تعتد ولا يدري المسلمون متى وقت صلاته ومتى وقت حجهم فكان الرب تعالى انظر لعباده وارحم بهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر فطمس منه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِا فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه فهو أثر المحو قال فإذا قامت القيامة وقضى الله بين الناس وميز بين أهل الجنة ولنار ولم يدخلوهما بعد يدعو الرب تعالى بالشمس والقمر ويجاء بهما أسودين مكورين قد وقفاً في زلازل وبلابل ترعد فرائضهما من هول ذلك اليوم ومخافة الرحمن فإذا كانا
296
حيال العرش خر الله ساجدين فيقولان الهنا قد علمت طاعتنا لك ودأبنا في عبادتك وسرعنا للمضي في رك أيام الدنيا فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا فقد علمت أنا لم ندعهم إلى عبادتنا ولم نذهل عن عبادتك فيقول الرب صدقتما إني قد قضيت على نفسي أن أبدىء وأيعد وإني معيدكما إلى ما أبدأتكما منه فارجعا إلى ما خلقتكما منه فيقولان ربنا مم خلقتنا فيقول خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه قال فتلمع من كل وحدم نهما برقة تكاد تخطف الأبصار نوراً فيختلطان بنور لعرش فذلك قوله تعالى يبدىء ويعيد كذا في كشف الأسرار وقال الشيخ رضي الله عنه في الفتح المكي وأما الكواكب كلها فهي في جهم مظلمة الأجرام عظيمة الخلق وكذلك الشمس والقمر والطلوع والغروب لهما في جهم دائماً انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
يقول الفقير لعل التوفيق بين هذا وبين الخبر السابق إن كلا من الشمس والقمر حامل لشيئين النورية والحرارة فما كان فيهما من قبيل النور فيتصل بالعرش من غير جرم لأن الجرم لا يخلو من الغلظة والظلمة والكثافة وما كان من قبيل النار والحرارة فيتصل بالنار مع جرمهما فكل منهما يرجع إلى أصله فإن قلت كان الظاهر إن يتصل نورهما بنور النبي عليه السلام لأنهما مخلوقان من نوره قلت : إن العرش والكرسي خلقا من نوره وخلق القمران من نور العرش فهما في الحقيقة مخلوقان من نور النبي عليه السلام ومتصل نورهما بنوره والكل نوره والحمد تعالى.
(10/229)
شمسه مسند وهفت اختران
ختم رسل خواجه يغمبران
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص297 حتى ص308 رقم31
وأنزلنا} النون للعظمة وللإشارة إلى جمعية الذات والأسماء والصفات {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} هي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ولم تعصرها بعد فالإنزال من المستعد لا من الواقع وإلا يلزم تحصيل الحاصل وهمزة اعصر للحينونة والمعصرات اسم فاعل يقال أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد وأعصرت الجارية أي حان لها أن تعصر الطبيعة رحمها فتحيض وفي المفردات المعصر المرأة التي حاضت ودخلت في عصر شبابها انتهى.
ولو لم تكن للحينونة لكان ينبغي أن يقرأ المعصرت بفتح الصاد على إنه اسم مفعول لأن الرياح تعصرها ويجوز أن يكون المراد من المعصرات الرياح التي حان لها أن تعصر فتمطر فهي أيضاً اسم فاعل والهمزة للحينونة كذلك فإن قيل لم لم تجعل الهمزة للتعدية قلنا لأن الرياح عاصرة لا معصرة {مَآءً ثَجَّاجًا} أ منصباً بكثرة والمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به يقال ثج الماء أي سال بكثرة وانصب وثجه غيره أي أساله وصيه فهو لازم ومتعد ومن الثاني قوله عليه اسلام أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى وفسره الزجاج بالصباب كأه يثج نفسه مبالغة فيكون متعدياً ولا منافاة بن هذا وبين قوله تعالى : [لقمان : 10-15]{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَ} فإن ابتداء المطر إن كان من السماء يكون الإنزال منها إلى سحاب ومنه إلى الأرض وإلا فإنزاله منها باعتبار تكونه بأسباب سماوية من جملتها حرارة الشمس فإنها تثير وتصعد الأجزاء المائية من أعماق الأرض الرطبة أو من البحار والأنهار إلى جو الهواء فتنعقد سحاباً فتمطر فالإنزال من المعصرات حقيته
297
ومن السماء مجاز باعتبار السببية والله مسب الأسباب لنخرج به} أي بذلك الماء أي بسبب وصوله إلى الأرض واختلاطه بها وبما فيها وهذه اللام لام المصلحة لا لأم الغرض كما تقول المعتزلة
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
{حَبًّا} كثيراً يقتات به أي يكون قوتاً للإنسان وهو ما يقوم به بدنه كالحنطة والشعير ونحوهما وفي عين المعاني الحب اسم جنس يعني به الجمع قال الراغب الحب والحبة.
يعني : بالفتح يقال في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات والحب والحبة يعني بلكسر يقال في بزور الرياحين وحبة القلب تشبيهاً بالحبة في الهيئة {وَنَبَاتًا} كثيراً يعتلف به أي يكون علفاً للحيوان كالتبن والحشيش كما قال تعالى : [طه : 54-16]{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ} وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصلته وشرفه لأن غالبه غذاء الناس ويقال لنخرج به لؤلؤاً وعشباً قال عكرمة ما أنزل الله قطرة إلا أنبت بها عشبة في الأرض أو لؤلؤة في البحر انتهى.
وهو مخالف للمشهور من أن اللؤلؤ لا يتكون من كل مطر بل من المطر النازل في نيسان إلا أن يعمم اللؤلؤ إلى الدر وغيره وجنات} ليتفكه بها الإنسان والجنة في الأصل هي السترة من مصدر جنه إذا ستره تطلقه على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه وعلى الأرض ذات الشجر قال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم والمراد هنا هو الأشجار لا الأرض {أَلْفَافًا} أي ملتفة تداخل بعضها في بعض وهذا من محسنات الجنان كما ترى في بساتين الدنيا وبالفارسية درهم بييده يعني بسيار ونيكديكر نزديك.
قالوا لا واحد له كالأوزاع والأخياف الأوزاع بمعنى الجماعات المتفرقة كالأخياف فإنه أيضاً بمعنى الجماعات المتفرقة المختلطة ومنه الأخياف للأخوة من آباء شتى وأمهم واحدة أو الواحد لف ككن وأكنان أو لفيف كشريف وأشراف وهو جمع لف جمع لفاء كخضر وخضراء فيكون ألفاًا جمع الجمع أو جمع ملتفة بحذف الزوائد قال ابن الشيخ قدم ذا الحب لأنه هو الأصل في الغذاء وثنى بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه وأخرت الجنات لانعدام الحاجة الضرورية إلى الفواكه.
واعلم أن فيما ذكر من أفعاله تعالى دلالة على صحة البعث وحقيته من وجوه ثلاثة الأول باعتبار قدرته تعالى فإن من قدر على إنشاء هذه الأفعال البديعة من غير مثال يحتذيه وقانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى والثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائق مستتبع لغايات جليلة ونمافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل إن يفنيها بالكلية ولا يجعل لها عاقبة باقية والثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهدونها كل يوم وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة يعاينونه كل حين كأنه قيل ألم تفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية الدالة يفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به فمالكم تخوضون فيه إنكاراً وتتساءلون عنه استهزاء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
(10/230)
وفي التأويلات النجمية وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً أي من سموات الأرواح بتحريك نفخات الألطاف مياه العلوم الذاتية والحكم الربانية صباً صباً لتخرج به حباً ونباتاً أي أنزلنا من سحائب سموات أرواحكم على أرض قلوبكم ماء العلوم والحكم لنخرج به حب المحبة الذاتية ونبات الشوق ولاشتيقا والود والانزعاج والعشق وأمثالها وجنات
298
ألفافاً جنة المحبة وجنة المودة وجنة العشق ملتف بعضها ببعض {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} أي فصل الله بين الخلائق وبين السعداء والأشقياء باعتبار تفاوت الهيئات والصور والأخلاق والأعمال وتناسبها {كَانَ} في علمه وتقديره الأزلي وإلا فثبوت المقاتية ليوم الفصل غير مقيد بالزمان الماضي لأنه أمر مقرر قبل حدوث الزمان أيضاً {مِيقَـاتًا} وميعاد البعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر فالميقات وهو الوقت الموقت أي المعين أخص من مطلق الوقت فهو هنا زمان مقيد بكونه وقت ظهور ما وعد الله من البعث والجزاء {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ} بدل من يوم الفصل أو عطف بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخة وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره والنفخ نفخ الريح في الشيء ومنه نفخ الروح في النشأة الأولى كما فقال ونفخت فيه من روحي ويقال انتفخ بطنه ومنه استعير انتفخ النهار إذا ارتفع ورجل منفوخ أي سمين والصور القرن النوراني والنافخ فيه إسرافيل عليه السلام ، والمعنى يوم ينفخ في الصور نفخة ثانية للبعث حتى تتصل الأرواح بالأجساد وترجع بها إلى الحياة {فَتَأْتُونَ} خطاب عام والفاء فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان كما في قوله تعالى : [البقرة : 60-18]{فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلاً أفواجاً} جمع فوج وهو جماعة من الناس في "المفردات" الجماعة المارة المسرعة أي حال كونكم أمما كل أمة مع أمامها كما في قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ} أو زمراً وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف أعمالهم وتباينها عن معاذ رضي الله عنه أنه سأل عنها رسول الله فقال عليه السلام : يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه وقال تحشر عشرة أصناف من أمتي بضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها يعني نكونسارن كه ايشانرا بروى بدوزخ ميكشند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
وبعضهم عمى وبعضهم صم بكم وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القبح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبعضهم صلبون على جوذع من نار يعني بردارهاي آتشين آويخته.
وبعضهم أشدتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جباباً سابة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وهو بالضم جمع قات بالتشديد بمعنى النمّام يعني سخن ين.
(حكى) إن رجلاً بع عبداً وقال للمشتري ما فيه عيب إلا النمية فقال رضيت فاشتراه فمكث الغلام أياماً ثم قال لزوجة مولاه إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن تتسرى عليك فخذي الموسى وأحلقي من قفاه حين ينام شعرات حتى أسحر عليه فيحبك ثم قال للزوج إن امرأتك أخذت خليلاً وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف فتناوم فجاءت المرأة بالموسى فظن إنها تقتله فقام فقتلها فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت أي الحرام لأنه يسحت الدي والمروءة أي يستأصل وأما المنكسون
299
على وجوههم فأكلة الربا والتنكيس تعكيس هيئة القيام على الرجل بأن يجعل الرجل أعلى والرأس أسفل وبالفارسية نكو نسار كردن.
وأما العمى فالذين يجورون في الحكم وأما إليكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون جيرانهم وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بين الناس إلى السلطان يعني غمازان وسعايت كتند كان بسلاطين وملوك.
(10/231)
وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات والذت ويمنعون حق الله في أمولهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخبلاء جمع جبة وهو ثوب معروف وفي لحديث نشر على ترتيب اللف وبيان المناسبة بين معاصيهم وبين الصور التي يحشرون عليها يطلب من علم التعبير ثم إنه فصل هيئت أهل المعاصي مع الأسباب المؤدية إليها لأنه أم إذ التخلية قبل التحلية واكتفى بالإشارة الإجمالية إلى هيئت الصالحين بقوله من أمتي يمن التبعيضية والحاصل إنه كما إن الأشقياء يحشرون على صور أعمالهم القبيحة كذلك السعداء يحشرون على صور أعمالهم الحسنة حتى يكون وجوه بعضهم كالقمر ليلة البدر أو كالشمس على ما جاء في صحيح الروايات وقال بعضهم المراد أمة الدعوة فتعم أصناف الكفرة والمؤمنين لا أمة الإجابة وإلا فالخوف على المؤمنين أيضاً في نهاية المرتبة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
يقول الفقير : الظاهر الثاني وهو إن المراد من الأمة الأشقياء من أهل الإجابة دل عليه إرساله عليه السلام عينيه حين البين وكذا بيان أصناف الأعمال من غير إدخال الكفر فيها إذ صور الكفرة أقبح مما ذكر في الحديث على ما ذكر في الأخبار الصحيحة ثم الحديث ذكره الثعلبي ونحوه في التفاسير وقبله أهل الطرفين ولا عبرة بما ذهب إليه ابن جحر من أنه ظهر وضع فإنه من الجهل بحقيقة الأمر إذ يوم القيامة يوم ظهور الصفات كما دل عليه قوله تعالى : يوم تبلى السر آثر ولا شك أن لكل صفة صورة مناسبة لها حسنة أو قبيحة ولم تنكره أحد من العقلاء على أنا وإن سلمنا أن لفظ الحديث موضوع فمعناه صحيح مؤيد بالأخبار الصحيحة فيا أيها المؤمن لا تكن قاسي القلب كالحجر وكن ممن يتفجر من قلبه أنهار الفيوض وينابيع الحكم واتهد أن لا تكون منم قيل فيه حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء فمن عباد الله المخلصين من يأخذ نم الله بلا واسطة الكتاب وإسناده فإنه مرتبة باقية إلى يوم القيامة قل من وضع قدمه عليها فلذا كثر الإنكار وأكب الناس على الرسوم والظواهر من غير إطلاع على الحقائق والبواطن نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل معرفته وفتحت السماء} عطف على ينفخ بمعنى تفتح وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أي شقت وصدعت من هبة الله بعد أن كانت لا فطور فيها وبالفارسية وشكفته شود آسمان دران روز {فَكَانَتْ} س باشد ازبسبارى شكاف {أَبْوَابًا} ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة نزولاً غير معتاد وهو المراد بقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي : أمره وبأسه في ظلل من الغمام والملائكة وقيل المراد من الفتح الكشف بإزالتها من مكانها كما قال تعالى : وإذا السماء كشطت ومن الأبواب الطرق والمسالك أي تكشط فتصير مكانها طرقاً
300
لا يسدها شيء وسيرت الجبال} المسير هو الله تعالى كما قال ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة أي وسيرت الجبال في الجو بتسيير الله وتسخيره على هيئاتها بعد قلعها عن مقرها وبالفارسية ورانده شود كوهها درهوا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
(10/232)
وذلك عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى : {فَكَانَتْ سَرَابًا} السراب ما تراه نصف النهار كأنه ماء.
قال الراغب : هو اللامع في المفازة كالماء وذلك لا نسرا به فى مرأى العين أي ذهابه وجرينه وكأن السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حيقة أي فصارت بتسييرها مثل اسراب أي شيئاً كلا شيء لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها كقوله تعالى : [الواقعة : 5]{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنابَثًّا} أي غباراً منتشراً وهي وإن اندكت وانصدت عند النفخة الأولى لكن تسييرها كالسحاب وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية قيل : أول أحوال الجبال الاندكاك والانكسار كما قال تعالى : وحملت الأرض والجبال فد كتادكة واحدة وحالتها الثنية أن تصير كالعهن المنفوش وحالتها الثالثة أن تصير كالهباء وذلك بأن تنقطع وتتبدد بعد أن كان كالعهن كما قال فكانت هباء منبثاً وحالتها الرابعة أن تنسف وتقلع من أصولها لأنها مع الأحوال المتقدمة غارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله : فقل ينسفها ربي نسفاً وحالتها الخامسة إن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها في الهواء كأنها غبار وهو المراد بقوله تعالى : وترى الجبال تحسها جامدة وهي تمر مر السحاب أي تراها في رأي العين ساكنة في أماكنها والحال إنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيراً حثيثاً وذلك إن الإجرام إذا تحركت نحواً من الأنحاء لا تكاد تتبين حركتها وإن كانت في غاية السرعة لا سيما من بعيد والحالة السادسة أن تصير سراباً يقول الفقير فيه إشارة إلى إزالة أنانية النفوس وتعيناتها فإنها عند القيامة البكرى التي هي عبارة عن الفناء في الله تصير سراباً حتى إذا جثها لم تجدها شيئاً ولكن العوام المحجوبون إذا رأوا أهل الفناء يأكلون مما يأكلون منه ويشربون مما يشربون منه يظنون إن نفوسهم باقية لبقاء نفوسهم لكنهم يظنون بهم الظن السوء إذ بنهم وبينهم بون بعيد قطعاً وفاروق عظيم جداً لأنهم أزالت رياح العناية والتوفيق جبال نفوسهم عن مقار أرض البشرية وجعلها الله متلاشية وفتحت سماء أرواحهم فكانت أباباً كباب السر والخفي والأخفى فدخلوا من هذه الأبواب إلى مقام أو أدنى فكانوا مع الحق حيثك ان الحق معهم ثم نزلوا من هذه الأبواب العالية الحقيقية الناظرة إلى عالم الولاية فدخلوا في أبواب العقل والقلب والمتخيلة والمفكرة والحافظة والذاكرة فكانوا في مقام قاب قوسين مع الخلق حيث كان الخلق معهم فلم يحتجبوا بالخلق عن الحق الذي وهو جانب الولاية ولا بالحق عن الخلق الذي هو جانب النبوة فكانوا في الظاهر مصداق قوله تعالى يوحي إلى فأين المحوبون عن مقامهم وإني لهم إدراك شأنه وحقيقة أمرهم إن جهنم كان مرصادا} أي إنها كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه ويرقب خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها فالمرصاد اسم للمكان الذي ير صدفيه كالنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه أي بسلك.
قال الراغب : المرصاد موضع الرصد
301
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
كالمرصد لكن يقال للمكان الذي اختص بالترصد والترقب وقوله إن جهم كانت مرصاداً تنبيه على إن عليها مجاز الناس انتهى.
كأن عمم المرصاد حيث إن الصراط محبس للأعداء وممر للأوليا والأول أولى لأن الترصد في مثل ذلك المكان الهائل إنما هو للتعذيب وهو للكفار والأشقياء {لِلطَّـاغِينَ} ممتعلق بمضمر هو أما نعت لمرصادا أي كائناً للطاغين وقوله تعالى {مَـاَابًا} بدل منه أي مرجعاً يرجعون إليه لا محالة وإما حال من مآبا قدمت عليه لكونه نكرة ولو تُرت لكانت صفة له قالوا الطاغي من طغى في دينه بالكفر وفي دنياه بالظلم وهو في اللغة من جاوز الحد في العصيان والمراد هنا المشركون لما دل عليه ما بعده من الآيات وعد أنهم لا يتناهى لكون اعتقادهم باطلاً وكذا إذا لم يعتقدوا شيئاً أصلاً وإن كان الاعتقاد صحيحاً كالمؤمن العاصي فعذابه متناه {لَّـابِثِينَ فِيهَآ} حال مقدرة من المستكن في للطاغين أي مقدرين اللبث فيها واللبث أن يستقر في المكان ولا يكاد ينفك عنه يقال ليث بالمكان أقام به ملازماً له {أَحْقَابًا} ظرف للثهم وهو مع حقب وهو ثمانون سنة أو أكثروا لدهر والسنة أو السنون كما في "القاموس" وأصل الحقب من الترادف والتتابع يقال أحقب إذا أردف ومنه الحقيبة وهي الرفادة في مؤخر القتب وكل ما شد في مؤخر رحل أو قتب فقد حتقب والمحقب المردف وفي تاج المصادر الأحقاب در حقيبه نهادن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
(10/233)
ومنه الحديث فأحقبها على ناقة أي أردفا على حقيبة الرحل والأرداف أزى فراشدن وازى كس در نشتن ودر نشاندن فمعنى أحقاباً دهورا متتابعة كلما مضى حقب تبعة حقب آخر إلى غير نهاية فإن الحقب لا يكاد يستعمل إلا لإيراد تتابع الأزمنة وتواليها كا قال أبو الليث إنما ذكر أحقاباً لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم فذكر وتكلم بما يذهب إليه أوهامهم ويعرفونها وهو كناية عن التأييد أي يمكثون فيها أبدا انتهى.
دل عليه أن عمر رضي الله عنه سأل رجلاف من هجر عن الأحقاب فقال : ثمانون سنة كل يوم منها ألف سنة انتهى.
فإنهم إنما يريدون بمثله التأييد وكذا ما قال مجاهد : إن الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً كل حقب سبعون خريفاً كل خريف سبعمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم ألف سنة من أيام الدنيا كما روى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وكذا لو أريد بالحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها ألف سنة كما روى عن الحبس البصري رحمه الله وقال الراغب : والصحيح أن الحقبة مدة من الزمان مهمة أي لا ثمانون عاماً وكذا قال في "القاموس" الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها انتهى.
والحاصل إن الأحقاب يدل على التاهي فهو وإن كان جمع قلة لكنه بنمزلة جمع كثرة وهو الحقوب أو بمنزلة الأحقاب المعرف بلام الاستغراق ولو كان فيه ما يدل على خروجهم منها فدلالته من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار كقوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} لأن المنطوق راجح على المفهوم فلا يعارضه وقال أبو حيان المدة منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذاباً انتهى.
وسيأتي وجوه آخر لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقا} جملة مبتدأة ومعنى لا يذوقون لا يحسون وإلا فأصل الذوق وجود الطعم و(قال الكاشفي) : يعني نمى نمايند إلا أن يكون ذلك باعتبار الشراب والذوق في التعارف وإن كان للقليل فهو صالح للكثير
302
لوجود الذوق في الكثير أيضاً والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار وإلا فهم يذوقون في جهنم بد الزمهرير أي برداً ينتفعون به ويميلون إليه فتنكيره للنوعية قال قتادة كنى بالبرد عن الروح لما بالعرب من الحر حتى قالوا برد الله عيشك أي طيبه اعتباراً بما يجد الإنسن من اللذة في الحر من البرد وقال الراغب أصل البرد خلاف الحرارة وبرد كذا إذا ثبت ثبوت البرد واختصاص الثبوت بالبرد كاختصاص الجركة بالحر وبرد الإنسان مات وبده قتله ومنه السيوف لبوارد وذلك لما يعرض للميت من عدم الحرارة بفقدان الروح أو لما عرض له من السكون وقولهم للنوم برد إما لما يعرض له من البرد في ظهر جلده لأن النم يبرد صاحبه ألا ترى إن العطشان إذا نام سكن عطشه أو لما يعرض له من السكون وقد علم أن النوم من جنس لموت وقوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} أي نوماً حتى يستريحوا وبالفارسية تا آسايش يابدن وبرودت كسب كنند انتهى.
بزيدة والمراد بالشراب ما يسكن عطشهم وإلا بمعنى لكن والحميم الماء الحار الذي انتهى حره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
وآن آبيست كه ون نزديك روى آرند كوشت روى دران ريزد وون بخورد امعا واحشا اره اره شود.
(10/234)
والغساق ما يغسق أي يسيل من جلود أهل النار ويقطر من صديدهم وقيحهم أخبر الله تعالى عن الطاغين بأنهم لا يذوقون في جهنم شيئاً ما من برد وروح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً وغساقاً فالاستثناء منقطع وقال الزجاج لا يذقون فيها برد رح ولا برد ظل ولا برد نوم فجعل البرد برد كل شيء له راحة فيكون قوله ولا شراباً بمعنى ولا ماء بارداً تخصيصاً بعد التعميم لكماله في الترويح فيكون مجموع البلاد والشراب بمعنى المروح فيكون قوله إلا حميماً وغساقاً مستثنى منقطعاً من البرد والشراب وإن فسر الغساق بالزمهرير فاستثناؤه من البرد فقط دون الشراب لأن الزمهرير ليس بما يشرب كما إن استثناء حميماً من الشراب والتأخير لتوافق رؤوس الآي ويؤيد الأول قوله عليه السلام لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لا نتن أهل الدنيا وإن فسر ما يسيل من صديدهم فالاستثناء من الشراب وعن ابن مسعود رضي الله عنه الساق لون من ألوان العذاب وهو البلاد الشديد حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة لما رأوا أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوماً واحداً وقال شهرين حوشب الغساق واد في النار فيه ثلاثمائة وثلاثون شعباً في كل شعب ثلاثمائة وثلاثون بيتاً في كل بيت أربع زوايا في كل زاوية شجاع كأعظم ما خلق الله من الخلق في رأس كل شجاع سم والشجاع الحية هذا وقد جوز بعضهم أن يكون لا يذوقون حالاً من المنوى في لابثين لا كلاماً مستأنفاً أي لا بنين فيها أحقاباً غير ذائقين فيها شيئاً سواهما ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس رُر من العذاب فكيون حالاً متداخلة ويكون قوله أحقاباً ظرف لابثين المقيد بمضمون لا يذوقون وانتهاءه ذا المقيد لا يستلزم انتهاء مطلق اللبث فهو توقيت للعذاب لا للمكث في النار عن ابن مسعود رضي الله عنه لو علم أهل النار إنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ولو علم أهل الجنة إنهم يلبثون في الجنة عدد حضى الدنيا لحزنوا وأيضاً يجوز أن يكون أحقاباً ظرفاً منصوباً بلا يذوقون على قول من يرى تقديم معمول ما بعد لا عليها لا ظرفاً
303
(10/235)
لقوله لابثين فحينئذٍ لا يكون فيه دلالة على تناهي الليث والخروج حيث لم يكون أحقاباً ظرف اللبث وأيضاً يجوز أن يكون أحقاباً ليس بظرف أصلاً بل هو حال من الضمير المستكن في لابثين بمعنى حقيين أي نكدين محرومين من الخير والبركة في السكون والحركة على أن يكون جمع حقب بفتح الحاء وكسر القاف من حقب الرجل إذا حرم الرزق وحقب العام إذا قل خيره ومطره وقوله لا يذوقون فيها برداً تفسير لكيدهم ولا يتوهم حينئذٍ تناهى مدة لبثهم فيها حتى يحتاج إلى التوجيه هذا ما قالوه في هذا المقام وروى عن عبد الله بن عمر وابن العاص رضي الله عنه إنه قال سيأتي على جهنم يوم تصفق أبوابها أي يضرب بعضها بعضاً وقد أسندت هذه الرواية إلى ابن مسعودرضي الله عنه كما في العرائس ويروى عنه إنه قال ليأتين على جهم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً وفي العرائس أيضاً وقال الشعبي جهنم أسرع الدارين عمر أنا وأسرعهما خراباً وفي الحديث الصحيح ينبت الجرجير في قعر جهم أي لانطفاء النار وارتفاع العذاب بمقتى قوله سبقت رحمتي على غضبي كما في شرح الفصوص لداود القيصري والجرجير بالكسر بقلة معروفة كما في القاموس وقال المولى الجامي رحمه الله في شرح الفصوص أيضاً أعلم أن لأهل النار الخالدين فيها كما يظهر في كلام الشيخ رضي الله عنه وتابعيه حالات ثلاثاً الأولى إنهم إذا دخلوها تسلط لعذاب على ظواهرهم وبواطنهم وملكهم الجزع والاضطراب فطلبوا أن يخف عنهم العذاب أو أن يقضي عليهم أو أن يرجعوا إلى الدنيا فلم يجابوا إلى طلباتهم والثانية إنهم إذا لم يجابوا إلى طلباتهم وطنوا أنفسهم على العذاب فعند ذلك رفع الله العذاب عن بواطنه وخبت نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة والثالثة أنهم بعد مضي الأحقاب ألفوا العذاب وتعودوا به ولم يتعذبوا بشدته بعدطول مدته ولم يتألموا به وإن عظم إلى أن آل أمرهم إلى أن يتلذذوا به ويستعذبوه حتى لو هب عليهم نسيم من الجنة استكرهوه وتعذبوا به كالجعل وتأذيه برئحة الورد عافانا الله وجميع المسلمين من ذلك والجعل بضم اليم وفتح اليعن دويبة تكون بالروث والجمع جعلان بالكسر وقال المولى رمضان والمولى صالح الدين في شرح العقائد قا بعض الإسلاميين كل ما أخبر الله في القرآن من خلود أهل الدارين حق لكن إذا ذبح كبش الموت بين الجنة والنار ونودي أهلهما بالخلود فيهما أيس أهل النار من الخلاص فاعتادوا بالعذاب فلم يتألموا به حتى آل أمرهم إلى أن يتلذذوا به والوهب عليهم نسيم الجنة استكرهوا وتعذبوا به كالجعل يستطيب الروث ويتألم من الورد فيصدق حينئذٍ قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعاً على عمومه لارتفاع العذاب عنهم ويصدق أيضاً قوله تعالى : لا يخفف عنهم العذاب لأن المراد العذاب المقدر لهم وقال بعض إلا كامل فكما إذا استقرا هل دار الجمال فيها يظهر عليهم أثر الجمال ويتذوقون به دائماً أبداً ويختفى جلال الجمال وأثره بحيث
304
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
(10/236)
يحسونه ولا يرونه ولا يتألمون به قطعاً سرمداً فكذلك إذا استقر أهل دار الجلال فيها بعد مرور الأحقاب يظهر على بواطنهم أثر جمال الجلال ويتذوقون به أبداً ويختفى عنهم أثر نار الجلال بحيث لا يحسونه ولا يرونه ولا يتألمون به سرمداف لكن ليس ذلك إلا بعد انقطاع حراق النار بواطنهم وظواهرهم بمرور الأحقاب وكل منهم تحرقه النار ألف سنة من سني الآخرة لشرك يوم واحد من أيام الدنيا والظاهر لعيهم بعد مرور الأحقاب هو الحال الذي يدوم عليهم أبداً وهو الحال الذي كانوا عليه في الأزل وما بينهما ابتلاآت رحمانية والابتلاء حادث قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون عصمنا الله وإياكم من دار البوار انتهى.
فهذه كلمات القوم في هذه الآية ولا حرج في نقلها ونحن لا نشك في خلود الكفار وعذابهم أبداً فإن كان لهم العذاب عذاباًبعد مرور الأحقاب فقد بدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون كما أن المعتزلي يقطع في الدنيا بوجوب العذاب لغير التائب ثم قد يبدو له في الآخرة ما لم يكن يحتسبه من العفو وسئل الشيخ الامام مفتي الامام عز الدين ابن عبد السلام بعد موته في منام رآه السائل ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يهدي من قراءة القرآن للموتى فقال هيهات وجدت الأمر خلاف ما كنت أظن قالوا خلود أهل النار من الكفار لا معارض له فبقي على عمومه وخلود أهل الكبائر له معارض فيحمل على المكث اطويل فأهل الظاهر والباطن متفقون على خلود الكفار سواء كانوا فيحمل على المكث الطويل فأهل الظاهر والباطن متفقون على خلود الكفار سواء كانوا فرعون وهامان ونمرودا ويغرهم وإنما اختلفوا في ارتفاع العذاب عن ظواهرهم بعد مرور الأحقاب وكل تأول بمبلغ علمه والنص أحق أن يتبع قال حجة الإسلام الكفرة ثلاث فرق منهم من بلغه اسم نبينا عليه السلام وصفته ودعوته كالمجاورين في دار الإسلام فهم الخالدون لا عذر لهم ومنهم من بلغه الاسم دون الصفة وسمع إن كذاباً مسلماً اسمه محمد ادعى النبوة ومنهم من لم يبلغه اسمه ولا رسمه وكل من هاتين الفرقتين معذور في الكفر ونقل مثله عن الأشعري كذا في شرح العقائد لمصلح الدين وقال المولى داود القيصري في شرح الفصوص الويعد هو العذاب الذي يتلعق بالاسم المتنقم وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير لأن أهل النار إما مشرك أو كافر أو منافق أو عاص من المؤمنين وهو ينقسم إلى الموحد العارف الغير العامل والمحجوب وعد تسلط سلطان المنتقم عليهم يتعذبون بنيران الجحيم وأنواع العذاب غيرم خلدة على أهله لانقطاعه بشفاعة الشافعين وآخر من يشفع وهو أرحم الراحمين جزاء وفاقاً} أي جوروا بذلك جزاء وفاقاً لأعمالهم وأخلاقهم كأنه نفس الوفاق مبالغة أو ذا وفاق لها على حذف المضاف أو وافقها وفاقاً فيكون وفاقاً مصدراً مؤكداً لفعله كجزاء والجملة صفة لجزاء وجه الموافقة بينهما إنهم أتوا بمعصية عظيمة وهي الكفر فعوقبوا عقاباً عظيما وهو التعذيب بالنار فكما إنه لا ذنب أعظم من الشرك فكذا الأجزاء أقوى من التعذيب بالنار وجزاء سيئة سيئة مثلها فتوافقا وقيل كان وافقاً حيث لم يزد على قدر الاستحقاق ولم ينقص عنه قال سعدي المفتي : اعلم أن الكفار لما كان من نيتهم الاستمرار على الكفر كما سيشير إليه قوله تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
{إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} إذ معناه إنهم كانوا مستمرين على الكفر كما سيشير إليه قوله تعالى : إنهم كانوا لا يرجون حساباً إذ معناه إنهم كانوا مستمرين على الكفر كما سيشير إليه قوله تعالى : إنهم كان لا يرجون حساباً إذ معناه إنهم كانوا مستمرين على الكفر مع عدم توقع الحساب فوافقه عدم تناهي العذاب والليث فيها أحقاباً بعد أحقاب ولما كانوا مبدلين التصديق الذي
305
(10/237)
يروح النفس ويثلج به الصدر بالتكذيب الذي هو ضده جوزوا بالحميم والغساق بدل ما يجعل للمؤمنين مما يروحهم من برد الجنة وشرابها وللمناسبة بين الماء والعلم يعبر الماء في الرؤيا بالعلم وقال بعض أهل الحقئاق إن جهم الطبيعة الحيوانية يرصد فيها القوى البشرية وهي خزنة جهم طبيعية أرباب النفوس الأمارة والهوى المتبع للظالمين على نفوسهم بالاهوية والبدع والإباحة والزندقة والاتحاد والحلول والفضول مآبا لابثين فيها أحقاباً إلى وقت الانسلاخ عن حكم البشرية والتلبس بملابس الشريعة وخلع الطريقة والحقيقة لا يذوقون فيها رد اليقين برفع الحجاب عن وجه بشريتهم ولا شراب المحبة لانهماكهم في محبة الدنيا بسبب جهنم الطبيعة إلا حميماً وغساقاً يسيل من صديد طبيعتهم وقال القاشاني : إلا حميماً من أثر الجهل المركب وغساقاً من ظلمة هيئات محبة الجوهر الفاسقة والميل إليها جزاء موافقاً لما ارتكبوه من الأعمال وقدموه من العقائد والأخلاق وذلك العذاب لفساد العمل والعلم فلم يعلموا صالحاً رجاء الجزاء ولميعلموا علماً صالحاً فيصدقوا بالآيات إنهم كانوا لا يرجون حسابا} تعليل لاستحقاقهم الجزاء الذكور وبيان لفساد قوتهم العلمية أي كانوا ينكرون الآخرة ولا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم فلذا كانوا يقدمون على جميع المنكرات ولا يرغبون في شيء من الطاعات وفسر الرجاء بالخوف لأن الحساب من أصعب الأمور على الإنسان والشيء الصعب لا يقال فيه إنه يرجى بل يقال إنه يخاف ويخشى {وَكَذَّبُوا} بيان لفساد قوتهم النظرية {بآياتنا} الناطقة بذلك وفي بعض التفاسير بآياتنا القولية والفعلية الظاهرة على ألسنة الرسل وأيديهم {كِذَّابًا} أي تكذيباً مفرطاً ولذلك كانوا مصرين على الكفر وفنون المعاصي فعقوبوا بأهول العقاب جزاء وفاقاً وفعال من باب فعل شائع فيما بين الفصحاء مطرد مثل كلم كلاماً قال صاحب الكشاف وسمعني بعضهم أفسر آية فقال لقد فسرتها فسارا ما سمع بمثله قال بعضهم وأبدل من أحد حرفي تضعيف بعض الأسماء ياء لئلا يلتبس بهذا المصدر المشدد مثل الدينار فإن أصله الدنار ومثل السينات في قول عمر بن عبد العزيز لكاتبه في بسم الله طول الباء وأظهر السينات ودور الميم فإن أصله السنات جمع السن لا جمع السين لأنه ليس في البسملة إلا سين واحدة ويجوز أن يقال عبر عن السن بالسين مبالغة كأنه قيل اجعل سنه كسينه في الإظهار كما ذهب إليه الشريف
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
{وَكُلَّ شَىْءٍ} أي وأحصينا كل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم فانتصابه بمضمر يفسره قوله {أَحْصَيْنَـاهُ} أي حفظناه وضبطناه وذلك أي انتصابه بالإضمار على شريطة التفسير هو الراجح لتقدم جملة فعله ولا يضره كون هذه الجملة معترضة كما سيجيء أو لأن المقصود المهم هنا الأخبار عن الإحصاء لا الأخبار عن كل شيء {كِتَـابًا} مصدر مؤكد لأحصيناه من غير لفظه لما إن الإحصاء والكتابة من واد واحد أي يتشار كان في معنى الضبط كفأنه قال ولك شيء أحصيناه إحصاء مساويا في القوة والثبات بالعلم المقيد بالكتابة أو كتبناه كتاباً وأثبتناه إثباتاً ويجوز أن يكون من الاحتباك حذف فعل الثاني بقرينة الأول ومصدر الأول بقرينة الثاني أي
306
(10/238)
أحصيناه إحصاء وكتبناه كتاباً أو هو أي كتاباً حال بمعنى مكتوباً في الوح وفي صحف الحفظة والجملة اعتراض لتوكيد كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للمجازاة.
قال القاشاني : وكل شيء من صور أعمالهم وهيئات عقائدهم ضبطناه ضبطاً بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم وصحائف النفوس السماوية {فَذُوقُوا} س بشيد عذاب دوزخ {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} فوق عذابكم والفاء في فذوقو جزائية دلة على أن الأمر باذوق مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بلآيات ومعلل به فيكون وكل شيء الخل جملة معترضة بين السبب ومسببه تؤكد كل واحد من الطرفين لأنه كما يل على كون معاصيهم مضبوطة مكتوبة يدل على أن ما يتفرع عليها من العذاب كائن لا محالة مقدر على حسب استحقاقهم به وفي الالتفات المنبيء عن التشديد في التهديد وإيراد لن المفيدة لكون ترك الزيادة من قبيل ما لاي دخل تحت الصحة من الدلالة على تبالغ الغضب ما لا يخفى وقد روى عن النبي عليه السلام إن هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار أي لأن فيها الآياس من الخروج فكلما استغانوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه فتكون كل مرتبة منه متناهية في الشدة وإن كانت مراتبه ير متناهية بحسب العدد والمدة وهذا لا يخالف قوله تعالى : [آل عمران : 77-31]{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} لأن المراد بالمنفي التكلم باللطف والإكرام لا بالقهر والجلال فإن قيل هذه الزيادة إنك انت غير مستحقة كانت ظلماً وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه فالجواب إنها مستحقة ودوامها زيادة لثقل العذاب وأيضاً ترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الأبراء والإسقاط حتى يكون إيقاعه بعده رجوعاً في الإحسان وأيضاً كانوا يزيدون كفرهم وتكذيبهم وأذيتهم للرسول عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم فيزد الله عذابهم لزيادة الاستحقاق ف ظلم فإن قيل قوله فذوقوا الخ تكرار لأنه ذكر سابقاً إنهم لا يذوقون الخ قلنا إنه تكرار لزيادة المبالغة في تقرير الدعوى وهو كون العقاب جزاء وفاقاً إن للمتقين مفازاً} شروع في بين محاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكفرة على ما هو العادة القرآنية ووجه تقديمبيان حالهم غنى عن البيان أي إن للذين يتقون الكفرو سائر القبائح من أعمال الكفرة فوزاً وظفراً بمباغيهم دل على هذا المعنى تفسيره با بعده بقوله حدائق.
.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
الخ أو موضع فوز فالمفاز على الأول مصدر ميمي وعلى الثاني اسم كان فإن قيل الخلاص من الهلاك أهم من الظفر باللذات فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم قلنا لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز بالنعيم لكونه حاصلاً لأصحاب الأعراف مع إنهم غير فائزين بالنعيم بخلاف الفوز بالنعيم فإنه يستلزم الخلاص من هلاك فكان ذكره أولى {حَدَآاـاِقَ وَأَعْنَـابًا} أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة وكروماً وهو تخصيص بعد التعميم لفضلها قوله حدائق بدل من مفازا بدل الاشتمال إن كان مصدراً ميمياً لأن الفوز يدل عليه دلالة التزامية أو البعض إن جعل مكاناً جمع حديقة وهي الروضة ذات الأشجار ويقال الحديقة كل بستان عليه حائط أي جدار وفيه من النخل والثمار وفي المفردات الحديقة قطعة من الأرض ذات
307
ماء سميت تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها والأعناب جمع عنب بالفارسية أنكور.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص308 حتى ص319 رقم32
قال بعضهم : ذكر نفسها ولم يذكر شجرها وهو الكرم لأن زيادة الشرف يها لا في شجرها {وَكَوَاعِبَ} جمع كاعب ، يقال : كعبت المرأة كعوباً ظهر ثديها وارتفع ارتفاع الكعب ، أي : نساء عذارى فلكت ثديهن ، أي : استدارت وصارت كالكعب في النتوء.
يقال : فلك ثدي الجارية تفليكاً أي استدار كفلكة المغزل ويقال لهن النواهد جمع ناهد وناهدة وهي المرأة كعب ثديها وبدا للارتفاع {أَتْرَابًا} لدات أي مستويات في السن ولدة الرجل تربه وقرينه في السن والميلاد والهاء عوض عن الواو الذاهبة من أوله لأنه من الولادة قال الراغب أي لدات ينشأن معاً تشبيهاً في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر ولوقوعهن على الأرض معاً.
در تفسير زاهدى آورده كه شنرده ساله باشند ومردان سي وسه ساله ور اكثر تفاسير هست كه اهل بهشت اززننان ومردن سي وسه ساله خواهند بود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
(10/239)
والظاهر ما في تفسي الزاهدي وهو كونهن بنات ست عشرة لكونها نصف سن الرجال وأيضاً دل عليه الوصف بالكعوب وهو ارتفاع ثديهن والمراد إنن بالغات تمام كمال النساء في الحسن واللطافة والصلاح للمصاحبة والمعاشرة بحيث لا يكون في سن الصغر حتى تضعف الشهوة لهن ولا في سن الكبر حتى تنكسر الشهوة عنهن بل رواء الشباب أي ماؤه جار فيهن لم يشبن ولميتغير عن حد الحسن حسنهن وإنما ذكرن لأن بهن نظام الدنيا ولطافة الآخرة من جهة التنعم الجسماني {وَكَأْسًا دِهَاقًا} أي مملوءة بالخرم فدهاقاً بمعنى مهقة وصفت به الكأس للمبالغة في امتلائها يقال ادهق الحوض ودهقه ملأه {لا يَسْمَعُونَ} أي المتقون {فِيهَآ} أي في الحدائق {لَغْوًا وَلا كِذاَّبًا} أي لا ينطقون بلغو وهو ما يلغى ويطرح لعدم الفائدة فيه ولا يكذب بعضهم بعضاً حتى يسمعوا شيئاً من ذلك بخلاف حال أهل الدنيا في مجالسهم لا سيما عند شربهم.
قال بعض أهل المعرفة : لا يسمعون فيها كلاماً إلا من الحق فإن من تحقق بالحق لا يسمعه الحق إلا منه ولا يشهده سواه في الدنيا والآخرة {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ} مصدر مؤكد منصوب بمعنى إن للمتقين مفازاً فإنه في قوة أن يقال جازي المتقين بمفاز جزاء عظيماً كائنا من ربك على أن التنوين للتعظيم {عَطَآءً} أي تفضلاً وإحساناً منه تعالى إذ لا يجب عليه شيء وذلك إن الله تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء وهو يغر ظاهر لأن كونه جزءا يستدعى ثبوت الاستحقاق وكونه عطاء يستدعى عدم الاستحقاق فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين لكن ذلك الاستحقاق إنما يثبت بحك الوعد لا من حيث إن الطاعة توجب الثواب على الله فذلك الثواب بالنظر إلى وعده تعالى إياه بمقابلة الطاعة يكون جزاء وبالنظر إلى إنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون تفضلاً وعطاء وهذا بمقابلة قوله جزاء وفاقاً لأن جزاء المؤمنين من قبيل افضل لتضاعفه وجزاء الكافرين من قبيل العدل وهو بدل من جزاء بدل الكل من الكل لأن العطاء والجزاء متحدان ذاتا وإن تغايرا في المفهوم وفي جعله بدلاً من جزاء نكتة لطيفة وهي إن بيان كونه عطاء تفضلاً منه هو المقصود وبيان كونه جزاء وسيلة إليه فإن حق البل أن يكون مقصوداً بالنسبة وذكر المبدل
308
منه وسيلة إليه {حِسَابًا} صفة لعطاء بمعنى كافياً على إنه مصدر أقيم مقام الوصف أي محسباً وقيل على حسب أعمالهم بأن يجازي كل عمل بما وعدله من الإضعاف من عشرة وسبعمائة وغير حساب فما وعده الله من المضاعفة داخل في الحسب أي المقدار لأن الحسب بفتح السي وسكونها بمعنى القدر والتقدر على هذا عطاء بحساب فحذف الجار ونصب الام قال بعض أهل المعرفة : إذا كان الجزاء من الله لا يكون له نهاية لأنه لاي كون على حد الأعواض بل يكون فوق الحد لأنه ممن لا حد له ولا نهاية فعطاؤه لأحد له ولا نهاية وقال بعضهم : العطاء من الله موضع الفضل لا موضع الجزاء فالجزاء على الأعمال والفضل موهبة من الله يختص به الخواص من أهل وداده.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
وف التأويلات النجمية : إن للمتقين الذين يتقون عن نفوسهم المظلمة المدلهمة بالله وصفاته وأسمائه مفازاً أي فوز ذات الله وصفاته حدائق روضات القلوب المنزهة الأرضية وأعناباً أشجار المعاني والحقائق الثمرة عنب خمر المحبة الذاتية الخامرة عين العقل عن شهود الغير والغيرية وكواعب أتراباً أبكاراً اللطائف والمعارف وكأساً دهاقا مملوءة من شراب المحبة وخمر المعرفة لا يسمعون فيها لغواً من الهواجس النفسانية ولا كذاباً من الوساوس الشيطانية جزاء من ربك عطاء حساباً أي فضلاً تاماً كافياً من غير عمل.
وقال القاشاني : إن للمتقين المقابلين للطاغين المتعدين في أفعالهم حد العدالة مما عينه الشرع والعقل وهم المتزلون عن الرذائل وهيئات السوء من الأفعال مفازاً فوزاً ونجاة من النار التي هي مآب الطاغين حدائق من جنان الأخلاق وأعناباً من ثمرات الأفعال وهيئاتها وكواعب من صور آثار الأسماء في جنة الأفعال أتراباً متساوية في الترتيب وكأساً من لذة محبة الآثار مترعة ممزوجة بالزنجبيل والكافور لأن أهل جنة الآثار والأفعال لا مطمح لم إلى ما وراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطي عطاء حساباً كافياً يكفيهم بحسب هممهم ومطامح أبصارهم لأنهم لقصور استعداداتم لا يشتاقون إلى ما وراء ذلك فلا شيء ألذ لهم بحسب أذواقهم مما هم فيه {رَّبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من ربك والمراد رب كل شي وخالقه ومالكه {الرَّحْمَـانُ} مفض الخير والجود على كل موجود بحسب حكمته وبقدر استعداد المرحوم وهو بالجر صفة للرب وقيل صفة للأول وأياماً كان ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور قال القاشاني : أي ربهم المعطي إياهم ذلك العطاء هو الرحمن لأن عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة فمشربهم من اسم الرحمن دون غيره.
(10/240)
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
وفي التأويلات النجمية : رب سموات الأرواح وأرض النفوس وما بينهما من السر والقلب وأقواهما الروحانية هو الرحمن أي الموصوف بجميع الأسماء والصفات الجمالية والجلالية لوقوعه بين الله الجامع وبين الرحيم فله وجه إلى الألوهية المشتملة على القهر وله أيضاً وجه إلى الرحيم الجمالي المحض {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة من غاية العظمة والكبرياء واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن كيون لأحد قدرة عليه وضمير لا يملكون لأهل السموات والأرض ومن في منه صلة للتأكيد على طريقة قولهم بعت منك
309
أي بعتك يعني : إنه صلة خطاباً قدم عليه فاقنلب بياناً والمعنى لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبيء عنه لفظ الملك إذ المملوك لا يستحق على مالكه شيئاً خطاباً ما في شيء ما لتفرده بالعظمة والكبرياء وتوحده في ملكه بالأمر والنهي والخطاب والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه تعالى بشيء من نقص العذاب وزيادة الثواب من غير إذنه على أبلغ وجه وأكده كأنه قيل لا يملكون أن يخاطبوه بما سبق من الثواب والعقاب وبه يحصل الارتباط بين هذه الآية وبين ما قبلها من وعيد الكفار ووعد المؤمنين ويظهر منه إن نفي أن يملكوا خطابه لا ينافي الشفاعة بإذنه قال القاشاني : لأنهم أي أنه الأفعال لم يصلوا إلى مقام الصفات فلاحظ لهم من المكالمة {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والملائكة صَفًّا} آخر الملائكة هنا تعميماً بعد التخصيص وآخر الروح في القدر تخصيصاً بعد التعميم فالظاهر أن الروح من جنس الملائكة لكنه أعظم منهم خلقاً ورتبة وشرفاً إذ هو بمقابلة الروح الإنساني كما أن الملائكة بمقابلة القوى الروحانية ولا شك أن الروح أعظم من قواه التابعة له كالسلطان مع أمرائه وجنده ورعاياه وتفسير الروح بجبريل ضعيف وإن كان هو مشتهراً بكونه روح القدس والروح الأمين إذ كونه روحاً ليس بالنسبة إلى ذاته وإلا فالملائكة كلهم روحانيون وإن كانوا أجساماً لطيفة غير الأرواح المهمية وإنما هو بالنسبة إلى كونه نافخ الروح وحامل الوحي الذي هو كالروح في الإحياء وقد اتفقوا على أن إسرافيل أعظم من جبريل ومن غيره فلو كان أحد يقوم صفاً واحداً لكان هو إسرافيل دون جبرائيل والله أعلم.
بمراده من الروح وإن اختلفت الروايات فيه هذا ما لاح لي في هذا المقام بعون الملك العلام وصفاً حال أي مصطفين لكثرتهم وقيامهم بما أمر الله في أمر العباد وقيل هما صفان الروح صف والملائكة صف وقيل صفوف وهو الأوقف لقوله تعالى : [النبأ : 38]{وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ويوم ظرف لقوله تعالى لا يتكلمون}
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
وقوله تعالى {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا} بدل من ضمير لا يتكلمون العائد إلى أهل السموات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وهو أرجح لكون الكلام غير موجب والمستثنى منه مذكور في مثله يختار البدل على الاستثناء وذكر قيامهم واصطفافهم لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء بوبيته وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة إلى مقطعها والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى : [النبأ : 38]{لا يَتَكَلَّمُونَ} .
.
الخ.
ومؤكد له على معنى أن أهل السموات والأرض إذا لم يقدروا يومئذٍ على أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله له منهم في التكلم وقال ذلك المأذون له قولاً صواباً أي حقاً صادقاً أو واقعاً في محله من يغر خطأ في قوله فكيف يملكون خطاب رب لعزة مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراماً وقيل إلا من أذن.
.
.
الخ منصوب على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص صواباً أي حقاً هو التوحيد وكلمة الشهادة دون غيره من أهل الشرك فإنهم لم يقولوا في الدنيا صواباً بل تفوهوا بكلمة الكفر والشرك وإظهار الرحمن في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لأن أحداً يستحقه عليه تعالى وفي عرائس البقلى من كان كلامه في الدنيا من حيث الأحوال
310
(10/241)
والأحوال من حث الوجد والوجد من حيث الكشف والكشف من حيث المشاهدة والمشاهدة من حيث المعاينة فهو مأذون في الدنيا والآخرة يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة ينقذ الله به الخلائق من ورطة الهلاك قال ابن عطاء الخالص ما كان والصواب ما كان على وجه السنة وقال بعضهم : إنما تظهر الهيبة على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم وأما الخواص وأصحاب الحضور فهم أبدا بمشهد العز بنعت الهيبة وفيه إشارة إلا أن الأسرار والقلوب وقواهم الكائنين بين سموات لأراح وبين أرض النفوس لا يملكون أن يخاطبوا الحق في شفاعة النفس الأمارة والهوى المتبع بسب لحمة النسب الواقع بينهم إذ الكل أولاد الروح والقالب كما لم يملك نوح عليه السلام أن يخاطب الحق في حق ابنه كنعان بمعنى إنه لم يقدر على إنجائه إذ جاء الخطاب بقوله فلا تسألن ما ليس لك به علم ذلك} إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده أي ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الروح والملائكة مصطفين غير قادرين هم ولا غير هم على التكلم من الهيبة والجلال {الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي الثابت المتحق لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه وذلك لأنه متحقق علماً فلا بد أن يكون متحققاً وقوعاً كالصباح بعد مضي الليل وفيه إشارة إلى أنه واقع ثابت في جميع الأوقات والأحايين ولكن لا يبصرون به لاشتغالهم بالنفس الملهية وهواها الشاغل {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه مَـاَابًا} الفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف لوقوعها شرطاً وكون مفعولها مضمون الجزاء وانتفاء الغرابة في تعلقه بها حسب القاعدة المستمرة وإلى ربه متعلق بما أقدم عليه اهتماماً به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق اليوم المذكور لا محالة فمن شاه أن يتخذ مرجعاً إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة مآباً أي سبيلاً وتعلق الجارية لما فيه من معنى الاقتضاء والإيصال.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
وفي التأويلات النجمية : مآبا أي مرجعاً ورجوعاً من الدنيا إلى الآخرة ومن الآخرة إلى رب الدنيا والآخرة لأنهما حرامان على أهل الله {إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ} أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث وبما بعده من الدواعي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن والخطاب لمشركي العرب وكفار قريش لأنهم كانوا ينكرون البعث وفي بعض التفاسير الظاهر عموم الخطاب كعموم من لأن في إنذا كل طائفة فائدة لهم {عَذَابًا قَرِيبًا} هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه حتماً ولأنه قريب بالنسبة إليه تعالى وممكن وإن رأوه بعيداً وغير ممكن فيرونه قريباً لقوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا} وقال بعض أهل المعرفة العذاب القريب هو عذاب الالتفات إلى النفس والدنيا والهوى.
وقال الشاقاني : هو عذاب الهيئات الفاسقة من الأعمال الفاسدة دون ما هو أبعد منه من عذاب القهر والسخط وهو ما قدمت أيديهم يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} تثنية أصلها يدان سقطت نونها بالإضافة ويوم بدل من عذاباً أو ظرف لمضمر هو صفة له أي عذاباً كائناً يوم المرء أي يشاهد ما قدمه من خير أو شر يعني : بازيابدكردار هاي
311
خودرا ازخير وشر.
(10/242)
على إن ما موصولة منصوبة بينظر لأنه يتعدى بنفسه وبإلى والعائد محذوف أي قدمته أو ينظر أي شيء قدمت يداه على إنها استفهامية منصوبة بقدمت متعلقة بينظر فالمرء عام للمؤمن والكافر لأن كل أحد يرى عمله في ذلك اليوم مثبتاً في صحيفه خيراً كان أو شراً فيرجو المؤمن ثوابعلى صالح عمله ويخاف العقاب على سيئه وأما الكاف فكما قال الله تعالى {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يا لَيْتَنِى} أي يا قوم فالمندي محذوف ويجوز أن يكون بالمحض التحسر ولمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه وبالفارسية أي كاشكي من {كُنتُ تُرَابَا} في الدنيا فلم اخلق ولم أكلف وهو في محل الرفع على إنه خبر ليت أو ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث كقوله : يا ليتني لم أوت كتابيه إلى أن قال يا ليتها كانت القاضية وقيل يحشر الله الحيوان فيقتص للجماء من القرناء نطحتها أي قصاص المقابلة لا قصاص التكليف ثم يرده تراباً فيود الكافر حاله كما قال عليه السلام لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وهذا صريح في حشر البهائم وإعادتها لقصاص المقابلة لا للجزاء ثواباً وعقاباً وقيل الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال خلقتني من نار وخلقته من طين يعني إبليس آدم را عيب مي كردكه ازخاك آفريده شده وخود رامي ستودكه من از آتش مخلوقم ون دران روز كرامت آدم وثواب فرزندان مؤمن أو مشاهده نمايد وعذاب وشذدت خودرا بينذ آروز بردكه كاشكى من ازخاك بودمي ونسبت بآدم داشتمي أي درويش اين دبدبه وطنطنه كه خاكيا نراست هي طبقة از طبقات مخلوقاً ترا نيست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
خاك راخوار وتيره ديد إبليس
كرد انكارش آن حسود خسيس
ماند غافل زنور باطن او
نشدا كه زسر كامل أو
بهر كنجى كه هست دردل خاك
اين صدا داده اند در أفلاك
كه بجز خاك نيست مظهر كل
خاك شو خاك تابرويد كل
وأما مؤمنوا الجن فلهم ثواب وعقاب فلا يعودونه تراباً وهو الأصح فيكون مؤمنوهم مع مؤمني الأنس في الجنة أو في الأعراف ونعيمهم ما يناسب مقامهم ويكون كفار هم مع كفار الأنس في النار وعذابهم بما يلائم شانهم وقيل هو تراب سجدة المؤمن تنطفىء به عنه النار وتراب قدمه عند قيامه في الصلاة فيتمنى الكافر أن يكون تراب قدمه.
وفي التأويلات النجمية : يوم ينظر المرء ما قدمت يد قلبه ويد نفسه من الإحسان والإساءة ويقول كافر النفس الساتر للحق يا ليتني كنت تراب أقدام الروح والسر والقلب متذللة بين يديهم مؤتمرة لأوامرهم ونواهيهم (وفي كشف الأسرار) از عظمت آن روز است كه بيست وهار ساعت شبانروز دنيارا بر مثال بيست وهار خزانه حشر كنند ودر عرصات قيامت حاضر كرداننديكان يكان خزانه ميكشيند وبربنده عرض ميد هند از ان خزانه بكشايند بربها وجمال ونور وضيا وآن آن ساعتست كه بنده ورخيرات وحسنات وطاعات بود بنده ون
312
حسن ونور بهاي آن بيند ندان شادي وطرب واهتزاز بر وغالب شودكه اكر نرا بر جمله دوزخيان قسمت كننداز دهشت آن شادي الم ودرد آتش فراموش كنند خزانه ديكر بكشايند تاريك ومظلم رنتن ووحشت وآن آن ساعتست كه بنده در معصيت بوده وحق ازره ظلمت ووحشت آن كردار درآيد ندان فزع وهول ورنج وغم ورا فرو كيردكه اكر بركل اهل بهشت قسمت كتند نعيم بهشت بر ايشان منغص شود خزانة ديكر بكشايند حالي كه درونه طاعت بودكه سبب شادي است نه معصيت كه موجب اندوهست وآن ساعتي است كه بنده در وخفته باشد يا غافل يا بمباحات دنيا مشغول بوده بنده بران حسرت خورد وعين عظيم بروراه يابد همنين خزائن يك يك ميكشايند وبر وعرضه ميكنند از ان ساعت كه در طاعت كرده شاد ميكردد وازان ساعت كه درو معصيت كرده رنجور ميشود وبر ساعتي كه مهمل كذاشته حسرت وغبن ميخورد وون كار مؤمن مقصر دران روز اين باشد س قياس كن كه حال كافر كونه باشد در حسرت وندامت وآه وزاري.
(10/243)
روى أبي بن كعب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قرأ عم يتساءلون سقاء الله برد الشراب يوم القيامة وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال النبي عليه السلام : "تعلموا أسوة عم يتساءلون عن النبأ العظيم ، وتعلموا ق والقرآن المجيد والنجم إذا هوى والسماء ذات البروج ، والسماء والطارق ، فإنكم لو تعلمون ما فيهن لعطلتم ما أنتم عليه وتعلمتموهن وتقربوا إلى الله بهن إن الله يغفر بهن كل ذنب إلا الشرك بالله" ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : قلت يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب ، قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ، الكل في "كشف الأسرار" وفيه إشارة إلى أن من تعلم هذه السور ينبغي له أن يتعلم معانيها أيضاً إذ لا يحصل المقصود إلا به وتصريح بأن هم الآخرة ومطالعة الوعيد واستحضاره يشيب الإنسان ولذا ذم الحبر السمين والقاري السمين از لم يكن سمنياً إلا بالذهول عما قرأه ولو استحضره وهم به لشاب من همه وذاب من غمه لأن الشحم مع الهم لا ينعقد.
قال الشافعي رحمه الله : ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن فقيل له ولم قال لأنه لا يخلو العاقل من إحدى حالتين إما أن يهم لآخرته ومعاده أو لدنياه ومعاشه والشحم مع الهم لا ينعقد فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم بعقد الشحم.
313
جزء : 10 رقم الصفحة : 292
تفسير سورة النازعات
خمس أو ست وأربعون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 313
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الواو للقسم والقسم يدل على عظم شأن المقسم به ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيهاً على ذلك العظم والنازعات جمع نازعة بمعنى طائفة من الملائكة نازعة فأنثت صفة الملائكة باعتبار كونهم طائفة ثم جمعت تلك الصفة فقيل نازعات بمعنى طوائف من الملائكة نازعات وقس عليه الناشطات نحوه وإلا فكان الظاهر أن يقال والنازعين والناشطين والنزع جذب الشيء من مقره بشدة والغرق مصدر بحذف الزوائد بمعنى الإغراق وهو بالفارسية غرقه كردن وكمان بزور كشيدن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
والغرق الرسوب في الماء وفي البلاء فهو مفعول مطلق للنازعات لأنه نوع من النزع فيكون شرطه موجوداً وهو اتفاق المصدر مع عامله والإغراق في النزع التوغل فيه والبلوغ إلى أقصى درجانه يقال أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النصل أقسم الله بطوائف الملائكة اتي تنزع أرواح الكفار من أجسادهم إغراقاً في النزع يعني جان كافران بستختى نزع ميكنند.
وأيضاً يتزعونها منهم معكوساً من الأنامل والأظفار ومن تحت كل شعرة كما تنزع الأشجار المتفرقة العروق في أطراف الأرض وكما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول وكما يسلخ جلد الحيوان وهو حي وكما يضرب الإنسان ألف ضربة بالسيف بل أشد والملائكة وهم ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب يطعنونهم بحربة مسمومة بسم جهنم والميت يظن أن بطنه قد ملىء شوكاً وكأن نفسه تخرج من ثقب أبرة وكأن السماء انطبقت على الأرض وهو بينهما فإذا نزعت نفس الكافر وهي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر النحلة وعلى صورة عمله تأخذها الزبانية ويعذبونها في القبر وفي سجين وهو العذاب الروحاني ثم إذا قامت القيامة انضم الجسماني إلى الروحاني فقوله : [النازعات : 1 ، 2]{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار بشهادة مدلول اللفظ {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} قسم آخر معنى بطريق العطف والنشط جذب الشيء من مقره برفق ولين ونصب نشطاً على المصدرية اقسم الله بطوائف الملائكة التي تنشط أرواح المؤمنين أي تخرجها من أبدانهم برفق ولين كما تنشط الدار من البئر يقال نشط الدلو من البئر ذا أخرجها وكما تنشط الشعرة من السمن وكما تنسل القطرة من السقاء وهم ملك الموت وأعوانه من ملائكة الرحمة ونفس المؤمن وإن كانت تجذب منأطراف البنان ورؤوس الأصابع أيضاً لكن لا يحس بالألم كما يحس به الكافر وأيضاً نفس المؤمن ليس لها شدة تعلق بالبدل كنفس الكافر لكونها منجذبة إلى عالم القدس وإنما يشتد الأمر على أهل التعلق دون أهل التجرد خصوصاً إذا كان ممن مات بالاختيار قبل الموت وأيضاً حين يجذبونها يدعونها أحياناً حتى تستريح وليس كذلك أرواح الكفار في قبضها لكن ربما يتعرض الشيطان للمؤمن الضعيف اليقين والقاصر في العمل إذا بلغ الروح التراقي فيأتيه في صورة أبيه وأمه وأخيه أو صديقه فيأمره باليهودية
314
أو النصرانية أو نحو ذلك نسأل الله السلامة.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 314(10/244)
حكى) إن إبليس عليه اللعنة تمثل للنبي عليه السلام يوماً وبيده قارورة ماء فقال أبيعه بإيمان الناس حالة النزع فبكى النبي عليه السلام حتى بكت أهل بيته فأوحى الله تعالى إليه إني أحفظ عبادي في تلك الحالة من كيده والميت يرى الملائكة حينئذٍ على صورة أعماله حسنة أو قبيحة فإذا أخذوا نفس المؤمن يلفونها في حرير الجنة وهي على قدر النحلة وعلى صورة عمله ما فقد شيء من عقله وعلمه المكتسب في الدنيا دل عليه قوله تعالى : حكاية عن حبيب النجار الشهيد في أنطاكية قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فيعرجون بها إلى الهواء ويهيئون له أسباب التنعيم في قبره وفي عليين وهو النعيم الروحاني ثم إذا قام الناس من قبورهم ازداد النعيم بانضمام الجسماني إلى الروحاني فقوله : والناشطات نشطاً إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين بشهادة اللفظ ومدلوله أيضاً فإن قيل قد ثبت إن النبي عليه السلام أخذ روحه الطيب ببعض شدة حتى قال واكرباه وقال لا إله إلا الله إن للموت سكرات اللهم أعني على سكرات الموت أي غمزاته وكان يدخل يده الشريفة في قدح فيه ماء ثم يسح وجهه المنور بالماء ولما رأته فاطمة رضي الله عنها يغشاه الكرب قالت واكرب ابتاه فقال لها عليه السلام ليس على أبيك كرب بعد اليوم فإذا كان أمر النبي عليه السلام حين انتقاله هكذا فما وجه ما ذكر من الرفق واللين أجيب بأن مزاجه الشريف كان اعدل الأمزجة فأحس بالألم أكثر من غيره إذا لخفيف على الأخف ثقيل وأيضاً يحتمل أن يبتليه الله بذلك ليدعو الله في أن يجعل الموت لأمته سهلاً يسيراً وأيضاً قد روى إنه طلب من الله أن يحمل عليه بعض صعوبة الموت تخفيفاً عن أمته فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم وأيضاً فيه تسلية أمته إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك الكرب عند الموت وأيضاً لكي يحصل لمن شاهد من أهله ومن غيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم عليه من المشقة كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد وأيضاً راحة الكمل في الشدة لأنها من باب الترقي في العلوم والدرجات وأقل الأمر للناقصين كفارة الذنوب فأهل الحقيقة لا شدة عليهم في الحقيقة لاستغراقهم في بحر الشهود وإنما الشدة لظواهرهم والحاصل كما إن النار لا ترفع عن الدنيا والدنيا قائم فكذا الشدة لا ترفع عن الظواهر في هذا الموطن {وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا} قسم آخر معنى أيضاً بطريق العطف والسبح المر السريع في الماء أو في الهواء وسبحاً نصب على المصدرية اقسم الله بطوائف الملائكة التي تسبح في مضيها أي تسرع فينزلون من السماء إلى الأرض مسرعين مشبين في سرعة نزولهم بمن يسبح في الماء وهذا من قبيل التعميم بعد التخصيص لأن نزول الأولين إنما هو لقبض الأرواح مطلقاً ونزول هؤلاء لعامة الأمور والأحوال
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا} عطف على السابحات بالفاء للدلالة على ترتب السبق على السبح بغير مهلة فالموصوف واحد ونصب سبقاً على المصدرية أي التي تسبق سبقاً إلى ما أمروا به ووكلوا عليه أي يصلون بسرعة والسبق كناية عن الإسراع فيما أمروا به لأن السبق وهو التقدم في السير من لوازم الإسراع فالسبق هنا لا يستلزم وجود المسبوق إذ لا مسبوق
315
(10/245)
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} عطف على السابقات بالفاء للدلالة على ترتب التدبير على السبق بغير تراخ والتدبير التفكر في دبر الأمور وأمراً مفعول للمدبرات قال الراغب : يعني المئلاكة الموكلين بتدبير الأمور انتهى.
أي التي تدبر أمراً من الأمور الدنيوية والأخروية للعباد كما رسم لهم من غير تفريط وتقصير والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثن لدلالة ما بعد عليه من ذكر القيامة وجه البعث إن الموت يستدعيه للأجر والجزاء لئلا يستمر الظلم والجور في الوجود وما ربك بظلام للعبيد فكان الله تعالى يقول إن الملائكة ينزلون لقبض الأرواح عند منتهى الآجال ثم ينجر الأمر إلى البعث لما ذكر فكان من شأن من يقر بالموت أن يقر بالبعث فلذا جمع بين القسم بالنازعات وين البعث الذي هو الجواب وفي عنوان هذه السورة وجوه كثيرة صفحنا عن ذكرها واخترنا سوق الكشاف فإنه هو الذي يقتضيه جزالة التنزيل.
وقال القاشاني اقسم بالنفوس المشتقاة التي غلب عليها النزوع إلى جناب الق غريقة في بحار الشوق والمحبة والتي تنشط م مقر النفس وأسر الطبيعة أي تخرج من قيود صفاتها وعلائق البدن من قولهم نور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد أو من قولهم نشط من عقاله والتي تسبح في بحار الصفات فتسبق إلى عين الذات ومقام الفناء في الوحدة فتدبر بالرجوع إلى الكثرة أمر الدعوة إلى الحق والهداية وأمر النظام في مقام التفصيل بعد الجمع انتهى.
ثم إن النفوس الشريفة لا يبعد أن يظهر منها آثار في هذا العالم سواء كانت مفارقة عن الأبدان أولاً فتكون مدبرات ألا ترى إن الإنسان قد يرى في المنام أن بعض الأموات برشده إلى مطلوبه ويرى أستاذه فيسأله عن مسألة فيحلها له سئل زرارة بعد أن توفي رضي الله عنه في المنام أي الأعمال أفضل عندكم فقال الرضى وقصر الأمل وعن بعضهم رأيت ورقاء بن بشر رحمه الله ، في المنام فقلت ما فعل الله بك قال نجوت بعد كل جهد قلت فأي الأعمال وجدتموها أفضل قال البكاء من خشية الله وقال بعضهم هلكت جارية في الطاعون فرآها أبوها في المنام فقال لها يا بنية أخبريني عن الآخرة قالت يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون والله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة عملي أحب إلى من الدنيا وما فيها ونظائره كثيرة لا تحصى وقد يدخل بعض الأحياء من جدار ونحوه على بعض من له حاجة فيقضيها وذلك على خرق العادة فإذا كان التدبير بيد الروح وهو في ها الموطن فكذا إذا انتقل منه إلى البرزخ بل هو بعد مفارقته البدن أشد تأثيراً وتدبيراً لأن الجسد حجاب في الجملة ألا ترى إن الشمس أشد إحراقاً إذا لم يحجبها غمام أو نحوه
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} منصوب بالجواب المضمر وهو لتبعثن والمراد بالراجفة الواقعة التي ترجف عندها الإجرام الساكنة كالأرض والجبال أي تتحرك حركة شديدة وتتزلزل زلزلة عظيمة من هول ذلك اليوم وهي النفخة الأولى أسند إليها الرجف مجازاً على طريق إسناد الفعل إلى سببه فإن حدوث تلك النخفة سبب لاضطراب الأجرام الساكنة من الرجفان وهي شدة الاضطراب ومنه الرجفة للزلزلة لما فيه من شدة الاضطراب وكثرة الانقلاب وفيه إشعار بأن تغير السفلى مقدم على تغير العلوي وإن لم يكن مقطوعاً {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أي الواقعة التي تردف الأولى أي تجيء
316
(10/246)
بعدها وهي لنفخة الثانية لأنها تجيء بعد الأولى يقال ردفه كسمعه ونصره تبعه كأردفه وأردفته معه اركبته معه كما في "القاموس" وهي حال مقدرة من الراجفة مصححة لوقوع اليوم ظرفاً للبعث أي لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها لا قبل ذلك فإنه عبارة عن الزمان الممتد الذي تقع فيه النفختان وبينهما أربعون سنة كما قال في "الكشاف" لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع وهو وقت النفخة الأخرى انتهى.
قال في "الإرشاد" واعتبار امتداد مع إن البعث لا يكون إلا عند النفخة الثانية لتهويل اليوم ببيان كونه موقعاً فلداهيتين عظيمتين لا يبقى عند وقوع الأولى حي الأمات ولا عند وقوع الثانية ميت إلا بعث وقام {قُلُوبٌ} مبتدأ وتنكيره يقوم مقام الوصف المخصص سواء حمل على التنويع وإن لم يذكر النوع المقابل فإن المعنى منسحب عليه أو على التكثير كما في شر أهر ذا ناب فإن التفخيم كما يكون بالكيفية يكون بالكمية أيضاً كأنه قيل قلوب كثيرة أو عاصية كما قال في التأويلات النجمية : قلوب النفس المتمردة الشاردة النافرة عن الحق {يَوْمَـاـاِذٍ} يوم إذ تقع النفختان وهو متعلق بقوله {وَاجِفَةٌ} أي شديدة الاضطراب من سوء أعمالهم وقبح أفعالهم فإن الوجيف عبارة عن شدة اضطراب القلب وقلقه من الخوف والوجل وعلم منه إن الواجفة ليست جميع القلوب بل قلوب الكفار فإن أهل الإيمان لا يخافون {أَبْصَـارُهَا} أي أبصار أصحابها كما دل عليه قوله يقولون وإلا فالقلوب لا أبصار لها وإنما أضاف الأبصار إلى القلوب لأنها محل الخوف وهو من صفاتها
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{خَـاشِعَةٌ} ذليلة من الخوف بسبب الأعراض عن الله والإقبال على ما سواه يترقبون أي شيء ينزل عليهم من الأمور العظام وأسند الخشوع إليها مجازاً لأن أثره يظهر فيها {يَقُولُونَ} استئناف بياني أي هم يقولون الآن يعني إن منكري البعث ومكذبي الآيات الناطقة به إذا قيل لهم إنكم تبعثون يقولون منكرين له متعجبين منه أياماً {لَمَرْدُودُونَ} معادون بعد موتنا {فِى الْحَافِرَةِ} أي في الحالة الأولى يعنون الحياة من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشبه وتسميتها حافرة مع إنها محفورة وإنما الحافر هو الماشي في تلك الطريقة كقوله تعالى : [الحاقة : 21-12]{عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي منسوبة إلى الحفر والرضى أو على تشبيه القابل بالفاعل أي في تعلق الحفر بكل منهما فأطلق اسم الثاني على الأول للمشابهة كما يقال صام نهاره تشبيهاً لزمان الفعل بفاعله وقال مجاهد والخليل بان أحمد الحافرة هي الأرض التي يحفر فيها القبور ولذا قال في التأويلات النجمية أي حافرة أجسادنا وقبور صدورنا أئذا} العامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون أي أئذا {كُنَّا} يا ون كرديم ما {عِظَـامًا نَّخِرَةً} بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة فهو تأكيد لإنكار الرد ونفيه بنسبته إلى حالة منافية له ظنوا إن من فساد البدن وتفرق أجزائه يلزم فساد ما هو الإنسان حقيقة وليس كذلك ولو سلم إن الإنسان هو هذا الهيكل المخصوص فلا نسلم امتاع إعادة المعدوم فإن الله قادر على كل الممكنات فيقدر على جمع الأجزاء العنصرية وإعادة الحياة إليها لأنها متميزة في علمه وإن كانت غير متميزة في علم الخلق كالماء مع اللبن فإنهما وإن امتزاجاً
317
لكن أحدهما متميز عن الآخر في علم الله وإن كان عقل الإنسان قاصراً عن إدراكه والنخر البلى يقال نخر العظم والخشب بكسر العين إذا بلى واسترخى وصار بحيث لو مس لتفتت ونخرة أبلغ من ناخرة لكونها من صيغ المبالغة أو صفة مشبهة دالة على الثبوت ولذا اختارها الأكثر والناخرة أشبه برؤوس الآي ولذا اختارها البعضو قيل النخرة غير الناخرة إذا النخرة بمعنى البالية وإما الناخرة فهي العظام الفارغة المجوفة التي يحصل فيها صوت من هبوب الريح من نخير النائم والمجنون لا من النخر بمعنى البلى قال الراغب : النخير صوت من الأنف وسمى خرق الأنف الذي يخرج منه النخير منخران فالمنخران ثقبتنا الأنف
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
(10/247)
{قَالُوا} اختيار الماضي هنا للإيذان بأن صدور هذا الكفر منهم ليس بطريق الاستمرار مثل كفرهم السابق المعبر عنه بالمضارع أي قالوا بطريق الاستهزاء بالحشر {تِلْكَ} الردة والرجعة في الحافرة وفيه إشعار بغاية بعدها من الوقوع في اعتقادهم {إِذًا} آنكاء ونران تقدير {كَرَّةٌ} الكر الرجوع والكرة المرة من الرجوع والجمع كرات {خَاسِرَةٌ} أي ذات خسران على إرادة النسبة من اسم الفاعل أو خاسرة أصحابها على الإسناد المجازي أي على طريق إسناد الفعل إلى ما يقارنه في الوجود كقولك تجارة رابحة والربح فعل أصحاب التجارة وهي عقد المبادلة والريح والتجارة متقارنان في الوجود وإلا فهم الخاسرون والكرة مخسور فيها أي إن صحت تلك الكرة فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها وهذا المعنى أفاده كلمة إذا فإنها حرف جواب وجزء عند الجمهور وإنما حمل قولهم هذا على الاستهزاء لأنهم أبرزوا ماقطعوا بانتفائه واستحالته في صورة المشكوك المحتمل الوقوع {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} جواب من الله عن كلامهم بالإنكار وتعليل لمقدر أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فإنها سهلة هينة في قدرته فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة لا تكرر يسمعونها وهم في بطون الأرض وهي النفخة الثانية كنفخ واحد في صور الناس لإقامة القافلة عبر عن الكرة بالزجرة تنبيهاً على كمال اتصالها بها كأنها عينها يقال زجر البعير إذا صاح عليه {فَإِذَا هُم} س آنكاه ايشان وسائر خلايق {بِالسَّاهِرَةِ} أي فاجأوا الحصول بها وهو بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة وإذا المفاجأة تفيد حدوث ما أنكروه بسرعة على فجأة والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة يعني إن بياض الأرض عبارة عن خلوها عن الماء والكلأ شبه جريان السراب فيها بجريان الماء عليها فقيل لها ساهرة وقيل لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة يقال سه كفرح لم ينم ليلاً أو هي جهنم لأن أهلها لا ينامون فيها أو كأنه مقلوب الصاد سينا من صهرته الشمس أحرقته وقال الراغب : حقيقتها الأرض التي يكثر الوطىء بها كأنها سهرت من ذلك وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن الساهرة أرض من فضة لم يعض الله عليها قط خلقها حينئذٍ وقال الثوري الساهرة أرض الشام وقال وهب بن منبه جبل بيت المقدس وكفته اند سهره نام زمين است نزديك بيت المقدس در حوالى جبل اريحاكه محشر آنجا خواهد
318
بود خداي آنراكشاده كرداند ندانكه خواهد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص319 حتى ص330 رقم33
وفي الحديث بيت المقدس أرض المحشر والمنشر وقال المولى الفتارى في تفسير الفاتحة إن الناس إذا قاموا من قبورهم وأراد الله أن يبدل الأرض غير الأرضت مد الأرض بإذن الله ويكون المحشر فيكون الخلق عليه عندما يبدل الله الأرض كيف يشاء إما بالصورة وإما بأرض أخرى ما هم لعيها تسمى بالساهرة يمدها سبحانه مد الأديم ويزيد في سعتها أضعاف ما كانت من أحد وعشرين جزأ إلى تسعة وتسعين جزءاً حتى لا نرى عوجاً وإلا أمتاً.
وقال في التأويلات النجمية : فإذا هم بالساهرة أي يظهر أرض الحياة كما كانوا قبله ببطن أرض الممات {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى} كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه بأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم يعني فرعون ومعنى هل أتاك أن اعتبر هذا أو ما أتاه من حديثه ترغيب له في استماع حديثه وحمل له على طلب الأخبار كأنه قيل هل أتاك حديث موسى قبل هذا أم أنا أخبرك به كما قال الحسن رحمه الله أعلام من الله لرسوله حديث موسى كقول الرجل لصاحبه هل بلغك ما لقى أهل البلد وهو يعلم إنه لم يبلغه وإنما قال ليخبره به انتهى.
وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص استفهام تقرير له أي حمل له على الإقرار بأمر يعرفه قبل ذلك أي أليس قد أتاك حديثه وبالفارسية آي نين نيست كه آمد بتو خبر موسى كليم عليه السلام ، تاستلى دهى دل خودرا بر تكذيب قوم وخبز فرستادى ازو عده مؤمنان ووعيد كافران.
يعني قد جاءك وبلغك حديثه عن قريب كأنه لم يعلم بحديث موسى وإنه لم يأته بعد وإلا لما كان يتحزن على إصرار الكفار على إنكار البعث وعلى استهزائهم به بل يتسلى بذلك فهل بمعنى قد المقربة للحكم إلى الحال وهمزة الاستفهام قبلها محذوفة وهي للتقرير وزيد ليس لأنه أظهر دلالة على ذلك لا لأنه مقدر في النظم {إِذْ نَادَاـاهُ رَبُّهُ} ظرف للحديث والمناداة والنداء بالفارسية خواندن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
(10/248)
وفي "القاموس" النداء الصوت أي هل أتاك حديثه الواقع حين ناداه ربه إذ المراد خبره الحادث فلا بد له من زمان يحدث فيه لا ظرف للإتيان لاختلاف وقني الإتيان والنداء لأن الإتيان لم يقع في وقت النداء أو مفعول لا ذكر المقدور عليه وضع السجاوندي علامة الوقف اللازم على موسى وقال لأنه لو وصل صار إذ ظرفاً لإتيان الحديث وهو محال لعله لم يلتفت إلى عمل حديث لكونه هنا اسماً بمعنى الخبر مع وجود فعل قوي في العمل قبله وبالجملة لا يخلو عن إيهام فالوجه الوقف كذا في بعض التفاسير {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المبارك المطهر بتطهير الله عما لا يليق حين مكالمته مع كليمه أو سمى مقدساً لوقوعه في حدود الأرض المقدسة المطهرة عن الشرك ونحوه وأصل الوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء ومنه سمى المنفرج بين الجبلين وادياً والجمع أودية ويستعار للطريقة كالمذهب والأسلوب فيقال فلان في واد غير واد بك {طُوًى} بضم الطاء والتنوين تأويلاً له بالمكان أو بغير تنوين تأويلاً له بالبقعة قال الفراء الصرف أحب إلى إذ لم أجد في المعدول نظيراً أي لم أجد اسماً من الوادي عدل عن جهته غير طوى وهو اسم للوادي الذي بين المدينة ومصر فيكون عطف بيان له.
قال القاشاني : الوادي المقدس
319
هو عالم الروح المجرد لتقدسه عن التعلق بالمواد واسمه طوى لانطواء الموجودات كلها من الأجسام والنفوس تحته وفي طيه وقهره وهو عالم الصفات ومقام المكالمة من تجلياتها فلذلك ناداه بهذا الوادي ونهاية هذا العالم هو الأفق الأعلى الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنده جبريل على صورته {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} على إرادة القول أي فقال له اذهب إلى فرعون {إِنَّه طَغَى} تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به والطغيان مجاوزة الحاي طغى على الخالق بأن كفر به وطغى على الخلق بأ تكبر عليه واستعبدهم فكما إن كمال العبودية لا يكون إلا بالصدق مع الحق وحسن الخلق مع الخلق فكذا كمال الغطاين يكون بسوء المعاملة معهما.
وقال القاشاني : أي ظهر بأنانيته وذلك إن فرعون كان ذا نفس قوية حكيماً عالماً سلك وادي الأفعال وقطع بوادي الصفات واحتجب بأنانيته وانتحل صفات الربوبية ونسبها إلى نفسه وذلك تفرعنه وجبروته وطغيانه فكان ممن قال فيه عليه السلام ، شر الناس من قامت القيامة عليه فهو حي لقيامة بنفسه وهواها في مقام توحيد الصفات وذلك من أقوى الحجب
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{فَقُلْ} بعد ما أتيته {هَل لَّكَ} رغبة وتوجه {إِلَى أَن تَزَكَّى} بحذف إحدى التاءين من تتزكى أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان ووسخ الكدورات البشرية والقاذورات الطبيعية فقوله لك خبر مبتدأ محذوف وإلى أن متعلق بذلك المبتدأ المضمر وقد يقال قوله هل لك مجاز عن أجذبك وادعوك والقرينة هي القريبة وهي المجاورة {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} وأرشدك إلى معرفته فتعرفه أشار إلى أن في النظم مضافاً مضمراً وتقديم التزكية لتقدم التخلية على التحلية إذا لخشية لا تكون إلا بعد معرفته ، قال تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَـاؤُا} أي : العلماء بالله قيل : إنه تعالى قال في آخره ولن يفعل فقال موسى فكيف أمضي إليه وقد علمت إنه لن يفعل فأوحى إليه إن أمض لما تؤمر فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يدركوه وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر لأن من خشى الله أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر كما قال عليه السلام : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل يقال أدلج القوم إذا ساروا من أول الليل وإن ساروا من آخر الليل فقد أدلجوا بالتسديد ثم إنه تعالى أمر موسى عليه السلام ، بأن يخاطبه بالاستفهام الذي معناه العرض ليستدعيه بالتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من عتوه وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى : فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى إما كونه ليناً فلانة في صورة العرض لا في صورة الأمر صريحاً وليس فيه أيضاً ذكر نحو الشرك والجهل والكفر إن من متعلقات التزكي وإما اشتماله على بعض التفصيل فظاهر فأراه} س بنمود اورا موسى {الايَةَ الْكُبْرَى} الفاء فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى فإنه جرى بينه وبين فرعون ما جرى من المحاورات إلى أن قال كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين أي فذهب إليه موسى بأمر الله فدعاه إلى التوحيد والطاعة وطلب هو منه المعجزة الدالة على صدقه في دعوته والإراءة إما من التبصيرا والتعريف فإن اللعين
320
حين أبصرها عرفها وادعاء سحريتها إنما كان إراءة منه وإظهاراً للتجلد ونسبتها إليه بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله ولقد أريناه آياتنا بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى قلب العصاحية والصغرى غيره من معجزاته الباقية وذلك إن القلب المذكور كان المقدم على الكل في الإراءة فينبغي أن يكون هو المراد على ما تقتضيه الفاء التعقيبية
(10/249)
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{فَكَذَّبَ} فرعون بموسى وسمى معجزته سحراً عقيب رأية الآية من غير رؤية وتأمل وطلب شاهد من عقل وناصح من فكر وقلب لغاية استكباره وتمرده {وَعَصَى} الله بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجود الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً فدل العطف على أن الذي ترتب على إراءة الآية الكبرى هو التكذيب الذي يكون عصياناًوهو التكذيب باللسان مع حصول الجزم بأن من كذبه ممن يجب تصديقه فأما تكذيب باللسان مع حصول الجزم بأن من كذبه ممن يجب تصديقه فأما تكذيب من لا يجب تصديقه فلا يكون عصياناً ويجوز أن يراد وعصى موسى فيما أمر به إلا أن الأل أدخل في ذمه وتقبيح حاله وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته تعالى وترك دعوى الربوبية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط قال بعض أهل المعرفة آاه آية صرفاً ولو أراه أنوار الصفات في الآيات لم يكفر ولم يدع الربوبية إذ هناك موضع المحبة والعشق والإذعان لأن رؤية الصفات تقتضي التواضع ورؤية الذات تقتضي العربدة فكان هو محجوباً برؤية الآيات عن رؤية الصفات فلما لم يكن معه حظ شهود نور الصفة لم ينل عند رؤيتها حظ المحبة فلم يأت منه الانقياد والاذغان لذلك قال تعالى : {فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ} أي تولى عن الطاعة وكلمه ثم على هذا معناها التراخي الزماني إذا السعي في إبطال أمره يقتضي مهلة أو انصرف عن المجلس.
قال الراغب : أدبر أي اعرض وولى دبره {يَسْعَى} يجتهد في معارضة الآية تمرداً وعناداً لا اعتقاداً بأنها يمكن معارضتها فهو تعلل بالباطل دفعاً للمجلس وهو حال من فاعل أدبر بمعنى مسرعاً مجتهداً وفي "الكشاف" لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته قال الحسن رحمه الله كان رجلاً طياشاً {فَحَشَرَ} أي فجمع السحرة لقوله تعالى : [النازعات : 23]{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ} وقوله تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده أي : ما يكاد به من السحرة وآلاتهم ، ويجوز أن يراد جميع الناس فنادى} بنفسه في المقام الذي اجتمعوا فيه ، معه أو بواسطة المنادي {فَقَالَ} لقيامة مقام الحكومة والسلطنة {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} لا رب فوقي أي لى من كل من يلي أمركم على أن تكون صيغة التفضيل بالنسبة إلى من كان تحت ولايته من الملوك والأمراء.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
وقال الكاشفي) : يعني أصنام كه بر صورت منند همه ايشان خدايا نند ومن اهمه برترم.
ولما اعدى العلوية قيل لموسى عليه السلام في مقابلة هذا الكلام إنك أنت الأعلى لأن الغلبة على سحره غلبة عليه والحاصل إنه لم يرد بهذا القول إنه خالق السموات والأرض والجبال والنبات والحيوان فإن العلمب فساد ذلك ضروري ومن شك فيه كان مجنوناً ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسول إليه بل الرجل كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والنشر
321
وكان يقول ليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهى أو يبعث إليكم رسولاً بل المربى لكم والمحسن إليكم أنا لا غيري قال بعضهم : كان ينبغي له عند ظهور ذله وعجزه بانقلاب العصا حية إن لا يقول ذلك القول فكأنه صار في ذلك الوقت كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول (إمام قشيري رحمه الله) : در لطائف آورده كه إبليس اين سخن شنيده كفت مراطاقت اين سخن نيست من دعوى خيرين كفتم برادم اين همه بلا بمن رسيد اوكه نين لاف ميزند تاكار أو بكجا رسد.
قال بعض العارفين : لم يدع أحد من الخلائق من الكمال ما ادعاه ادعاه الإنسان فإنه ادعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وإبليس تبرأ منها وقال إني أخاف الله فلم يدع مرتبة ليست له قط أي إنه على جناح واحد وهو الجلال فقط وكذا الملك فإنه على الجمال المحض بخلاف الإنسان فإنه مخلوق باليدين.
شيخ ركن الدين علاء الدولة سمناني قدس سره فرموده كه وقتى مرا حال كرم بود بزيارت حسين منصور حلاج رفتم ون مراقبه كردم روح اورا در مقام عالي يا فتم ازعليين مناجات كردم كه خدايا ابن ه حالتست كه فعرون أنا ربكم ومنصور ، أنا الحق كفت هردويك دعوى كردند روح حسين در عليين است وجان فرعون درسجين بسر من ندا رسيدكه فرعون بخود بيني در افتاده همه خودرا ديد وماراكم كرد وحسين ما راديد وخود راكم كرد س درميان فرق بسباراست (وفي المثنوى) :
كفت فرعوني أنا الحق كشت ست
كفت منصوري أنا الحق وبرست
إن أنارا لعنت الله در عقب
واين أنارا رحمت الله أي محب
زانكه أو سنك سيه بود اين عقيق
آن عدوى نور بود واين عشيق
اين أنا هو بود در سراي فضول
نه زراي اتحاد واز حلول
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
(10/250)
قال في أسئلة الحكم فإن قلت ما الحكمة في إن إبليس قد لعن ولم يدع الربوبية وفرعون وأمثاله قد اعدوا الربوبية ولم يلعنوا تعييناً وتخصيصاً كما لعن إبليس قيل : لأن نية إبليس شر من نية هؤلاء وقيل لأنه أول من سن الخلاف والشقاق قولاً وفعلاً ونية والخلق بعده ادعوا الربوبية وسنوا البغي والخلاف بوسوسته وإبليس واجه بمخالفته حضرة الرب تعالى وهم واجهوا الأنبياء والوسائط وتضرعوا تارة اعترفوا بالذنوب عند المخلوق أخرى وإبليس لم يعترف ولم يتضرع وهو لأل من سن الكفر فوزر الكفار بعده راجع إليه إلى يوم القيامة ومظهر الضلالة والغواية ذاته بغير واسطة {فَأَخَذَهُ اللَّهُ} بسبب ما ذكر {نَكَالَ الاخِرَةِ وَالاولَى} النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب أي الذي ينكل من رأه أو سمعه ويمعنه من تعاطي ما يفضي إليه ومحله النصب على إنه مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قال : نكل الله به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في الآخرة والإغراق في الدنيا وأخذ مستعمل في معنى مجازي يعم الأخذ في الدنيا والآخرة وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الاستعمال في الأخذ الدنيوي حقيقة وفي الأخروي مجاز لتحقق وقوعه وإضافة النكال إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ
322
فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة.
وفي التأويلات القاشانية : نازع الحق بشدة ظهور أنانيته في رداء الكبرياء فقهر وقذف في النار ملعوناً ما قال تعالى : العظمة أزاري والتكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ويروى قصمته وذلك القهر هو معنى قوله فأخذه الله.
.
الخ وقال البقلي : لما لم يكن صادقاً في دعواه ، افتضح في الدنيا والآخرة وهكذا كل ما يدعى ما ليس له من المقامات قال بشر انطق الله لسانه بالعريض من الدعاوي وإخلاء عن حقائقها وقال السري : العبد إذا تزيى بزي السيد صار نكالاً ألا ترى كيف ذكر الله في قصة فرعون لما ادعى الربوبية فأخذه الله.
.
الخ كذبه كل شيء حتى نفسه وفي الوسيط عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال موسى : يا رب أمهلت فرعون أربعمائة سنة ويقول : أنا ربكم الأعلى ويكذب بآياتك ويجهد برسلك فأوحى الله إليه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأردت إن أكافئه أي مكافأة دنيوية وكذا حسنات كل كافر وإما المؤمن فأكثر ثوابه في الآخرة ودلت الآية على أن فرعون مات كافراً وفي "الفتوحات المكية" فرعون ونمرود مؤبدان في النار انتهى.
وغير هذا من أقوال الشيخ رحمه الله ، محمول على المباحثة فصن لسانك عن الإطالة فإنها من أشد ضلالة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
يقول الفقير : صدر من فرعون كلمتان الأولى قوله أنا ربكم الأعلى والثانية قوله ما عملت لكم من إله غيري وبينهما على ما قيل أربعون سنة فالظاهر أن الربوبية محمولة على الألوهية فتفسير قوله أنا ربكم إلا على بقولهم أعلى من كل من يلي أمركم ليس فيه كثير جدوى إذ لا يقتضي ادعاء الرياسة دعوى الألوهية كسائر الدهرية والمعطلة فإنهم لم يتعرضوا للألوهية وإن كانوا رؤساء تأمل هذا المقام {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به {لَعِبْرَةً} اعتباراً عظيماً وعظة {لِّمَن يَخْشَى} أي لمن من شأنه أن يخشى وهو من شأنه المعرفة يعني إن العارف بالله وبشؤونه يخشى منه فلا يتمرد على الله ولا على أنبيائه خوفاً من نزول العذاب والعاقل من وعظ بغيره.
و بركشته بختى در افتديه بند
ازونيك بختان بكيرند ند
تويش ازعقوبت در عفو كوب
كه سودى تدارد فغان زير وب
بر آراز كريبان عفلت سرت
كه فردا نماند خجل در برت
يعني درسينه ات {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ} خطاب لأهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعدما بين كمال سهولته بالنسبة لقدرة الله تعالى بقوله تعالى : [النازعات : 27]{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} فالشدة هنا بمعنى الصعوبة لا بمعنى الصلابة لأنها لا تلائم المقام أي أخلقكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم وزعمكم وإلا فكلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد أم السماء} أم خلق السماء بلا مادة على عظمها وقوة تأليفها وانطوائها على البدائع اتي تحار العقول في ملاحظة أدناها وهو استفهام تقرير ليقروا بأن خلق السماء
323
(10/251)
أصعب فيلزمهم بأن يقول لهم أيها السفهاء من قدر على الأصعب الأعسر كيف لا يقدر على أعادتكم وحشركم وهي أسهل وأيسر فخلقكم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدور الله فكيف تنكرون ذلك قوله أأنتم مبتدأ وأشد خبره وخلقاً تمييز والسماء عطف على أنتم وحذف خبره لدلالة خبر أنتم عليه أي أم السماء أشد خلقاً {بَنَـاـاهَا} الله تعالى وهو استئناف وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله أم السماء فيتم الكلام حينئذٍ عند قوله السما ويبتدأ من قوله بناها وأم متصلة واستعمل البناء في موضع السقف فإن السماء سقف مرفوع والبناء إنما يستعمل في أسافل البناء لا في الأعالي للإشارة إلى أنه وإن كان سقفاً لكنه في البعد عن الاختلال والانحلال كالبناء فإن البناء أبعد عن تطرق الاختلال إليه بالنسبة إلى السقف
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاـاهَا} بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام فإن امتداد الشيء إن أخذ من أسفله إلى أعلاه سمى سمكاً وإذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمى عمقاً وقال بعضهم : السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها فيكون المراد ثخنها وغلظها وهو أيضاً تلك المسيرة {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} الغطش الظلمة.
قال الراغب : وأصله من الأغطش وهو الذي في عينه شبه عمش يقال أغطشه الله إذا جعله مظلماً وأغطش الليل إذا صار مظلماً فهو متعد ولازم والأول هو المراد هنا أي جعله مظلماً ذهب النور فإن قيل الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسبب غروب الشمس فقوله واغطش ليلها يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلماً وهو يعيد والجواب معناه إن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير الله وتقديره فلا إشكال {وَأَخْرَجَ ضُحَـاـاهَا} أي أبرز نهارها عبر عنه بالضحى وهو ضوء الشمس ووقت الضحى وهو الوقت الذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها لأنه أشرف أوقاتها وأطيبها على تسمية المحل باسم أشرف ما حل فيه فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان وهو السر في تُير ذكره عن ذكر الليل وفي التعبير عن إحداثه بالإخراج فإن إضافة النور بعد الظلمة أتم في الأنعام وأكمل في الإحسان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لدوران حدوثها على حركتها والإضافة يكفيها أدنى ملابسة المضاف إليه ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطة الشمس أي أبرز ضوء شمسها بتقدير المضاف والتعبير عنه بالضحى لأنه وقت قيام سلطانها وكمال إشراقها.
إمام زاهد فرموده كه روز وشب دنيا بآسمان يدا كردد بسب آفرينش شرًتاب وماه دور.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
قال بعض العارفين الليل ذكر والنهار أنثى فلما تغشاها الليل حملت فولدت فظهرت الكائنات عن غشيان الزمان فالمولدات أولاد الزمان واستخراج النهار من الليل كاستخراج حواء من آدم.
قال تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ، وقال يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل كعيسى في مريم وحواء في آدم فإذا خاطب أبناء النهار قال يولج الليل وإذا خاطب أبناء الليل.
قال : يولج النهار ، وقال بعض أهل الحقائق إن توارد الليل والنهار إشارة إلى توارد السيئة والحسنة فكما الدنيا لا تبقى على ليل وحده ولا على نهار وحده بل
324
(10/252)
هما يتعاقبان فيها فكذا المؤمن لا يخلو من نور الإيمان والعمل الصالح ومن ظلمة العمل الفاسد والفكر الكاسد ، ولذا قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "يا علي إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة فإذا كان يوم القيامة يلقى الله الليل في جهنم والنهار في الجنة فلا يكون في الجنة ليل كما لا يكون في النار نهار" ، يعني : إن النهارا في الجنة هو نور إيمان المؤمن ونور عمله الصالح بحسب مرتبته والليل في النار هو ظلمة كفر الكافر وظلمة عمله السيء فكما إن الكفر لا يكون إيماناً فكذا الليل لا يكون نهار والنار لا تكون نوراً فيبقى كل من أهل النور والنار على صفته الغالبة عليه وإما القلب وحاله بحسب التجلي فهو على عكس حال القالب فإن نهاره المعنوي لا يتعاقب عليه ليل وإن كان يطرأ عليه استتار في بعض الأوقات {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} أي : قبل ذلك كقوله تعالى : [الأنبياء : 105-2]{مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ} أي : قبل القرآن بسطها ومهدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها.
وقال بعضهم : بعد على معناه الأصلي من التأخر فإن الله خلق الأرض قبل خلق السماء من غير يدحوها ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ثم دحا الأرض بعد ذلك وقال في الإرشاد انتصاب الأرض بمضمر يسره دحاها وذلك إشارة إلى ما ذكر من بناء السموات ورفع سمكها وتسويتها وغيرها لا إلى أنفسها وبعدية الدخول عنها ، محمولة على البعدية في الذكر ، كما هو المعهود في السنة العرب والعجم لا في الوجود فإن اتفاق الأكثر على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها وتقديم الأرض لا يفيد القصر وتعيين البعدية في الوجود لما عرفت من أن انتصابه بمضمر مقدم قد حذف على شريطة التفسير لا بما ذكر بعده ليفيد ذلك وفائدة تأخيره في الذكر إما التنبيه على إنه قاصر في الدلالة على القدرة القاهرة بالنسبة إلى أحوال السماء وإما الإشعار بأنه أدخل في الإلزام لما إن المنافع المنوطة بما في الأرض أكثر وتعلق مصالح الناس بذلك أظهر وإحاطتهم بتفاصل أحواله أكمل وقد مر ما يتعلق بهذا المقام في سورة حم السجدة اخرج منها ماءها} بأن فجر منها عيوناً وأجرى أنهاراً
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{وَمَرْعَـاـاهَا} أي رعيها بالكسر بمعنى الكلأ وهو في الأصل موضع الرعي بالفتح نسب الماء والمرعي إلى الأرض من حيث إنهما منها يظهران وتجريد الجملة عن العاطف لأنها بيان وتفسير لدحاها أو تكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لابد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً {وَالْجِبَالَ} منصوب بمضمر يفسر قوله {أَرْسَـاـاهَا} أي : أثبتها وأثبت بها الأرض إن تميد بها وهذا تحقيق للحق وتنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل بالتعبير عنها بالرواسي ليس من مقتضيات ذواتها بل هو بإرسائه تعالى ولولاه لما ثبتت في نفسها فضلاً عن إثباتها للأرض {مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ} مفعول له بمعنى تمتيعاً والأنعام جمع نعم بفتحتين وهي المال الراعية بمعنى المواشي وفي "الصحاح" وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل والمراد هنا ما يكون عاماً للإبل والبقر والغنم من الضأن والمعز أي : فعل ذلك تمتيعاً ومنفعة لكم ولأنعامكم ، لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد ، وإخراج الماء والمرعي واصلة إليهم وإلى إنعامهم ، فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكله الإنسان
325
(10/253)
وغيره بناء على استعارة الرعي لتناول المأكول على الإطلاق كاستعارة المر من للأنف ولهذا قيل : دل الله تعالى بذكر الماء والمرعي على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح فإنه من الماء قال العتبي : هذا أي قوله أخرج منها ماءها ومرعاها من جوامع الكلم حيث ذكر شيئين دالين على جميع ما أخرج من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والملح والنار لأن النار من الشجر الأخضر والملح من الماء ونكتة الاستعارة توبيخ المخاطبين المنكرين للبعث وإلحاقهم بالبهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة {فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى} قال في الصحاح : كل شيء كثر حتى علا وغلب فقد طم من باب رد والكبرى تأنيث الأكبر من كبر بالضم بمعنى عظم لا من كبر بالكسر بمعنى اسن وهذا شروع في بيان أحوال معادهم أثر بيان أحوال معاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها عما قليل كما ينبىء عنه لفظ المتاع والمعنى : فإذا جاء وقت طلوع وقوع الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات والدواهي أي تعلوها وتغلبها فوصفها بالكبرى يكون للتأكيد ولو فسر بما تعلو على الخلائق وتغلبهم كان مخصصاً والمراد القيامة أو النفخة الثانية فإنه بشاهد يوم القيامة من الآيات الهائلة الخارجة عن العادة ما ينسى معه كل هائل وعند النفخة الثانية تحشر الخلائق إلى موقف القيامة خصت النازعات بالطامة وعبس بالصاخة لأن الطم إن كان بمعنى النفخة الأولى للإهلاك فهو قبل الصح ، أي : الصوت الشديد الذي يحيى له الناس حين يصيخون له كما ينتبه النائم بالصوت الشديد فهو بمعنى النفخة الثانية فجعل السابق للسورة السابقة واللائق اللاحقة وإن كان بمعنى النفخة الثانية فحسن الموقع في كلا الموضعين لأن العلم ورد بعد قوله تتبعها الرادفة والصخ بعد ما بين عدم إصاخة النبي عليه السلام لابن أم مكتوم
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ مَا سَعَى} منصوب بأعني تذكيراً للطامة الكبرى وما موصولة وسعي بمعنى علم أي يتذكر فيه كل أحد كائناً من كان ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدوناً في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة وطول الأمد كقوله تعالى : {أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} عطفت على جاءت أي أظهرت إظهاراً بينا لا يخفى على أحد بعد أن كانوا يسمعون بها والمراد مطلق النار المعبر عنها بجهنم لا الدركة المخصوصة من الدركات السبع {لِمَن يَرَى} كائناً من كان على ما يفيده من فإنه من ألفاظ اعموم يروى إنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر مؤمن وكافر ، وقوله تعالى : [الشعراء : 91-37]{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} للغاوين لا ينافي أن يراها المؤمنون أيضاً حين يمرون عليها مجاوزين الصراط ، وقيل للكافر لأن المؤمن يقول أين النار ، التي توعدنا بها فيقال : مررتموها وهي خامدة فا من طغى} الخ جواب فإذا جاءت على طريقة قوله : [النازعات : 38]{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} .
.
الخ.
يقال : إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك ويقال : إذا كانت الدعوة فأما من كان جاهلاً فهناك مقامه وإما من كان عالماً فههنا مقامه أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان كالنضر وأبيه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان 111111111111
326
وآثر} اختار {وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ} الفانية التي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة {فَإِنَّ الْجَحِيمَ} التي ذكر شأنها {هِىَ} لا غيرها وهو ضمير فصل أو مبتدأ {الْمَأْوَى} أي مأواه فلا يخرج من النار كما يخرج المؤمن العاصي فالكلام في حق الكافر لكن فيه موعظة وعبرة موقظة واللام سادة مسد الإضافة للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي كما في قولك غض الطرف فإنه لا يغض الرجل طرف غيره وذلك لأن الخبر إذا كان جملة لا بد فيها من ضمير يربطها بالمبتدأ فسدت اللام مسد العائد لعدم الالتباس فلا احتياج في مثل هذا المقام إلى الرابطة
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
(10/254)
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وذلك لعلمه بالمبدأ والمعاد فإن الخوف من القيام بين يديه للحساب لا بد أن يكون مسبوقاً بالعلم به تعالى وفي بعض التفاسير المقام إما مصدر ميمي بمعنى القيام أو اسم مكان بمعنى موضع القيام أي المكان الذي عينه الله لأن يقوم العباد فيه للحساب والجزاء وقيل : المقام مقحم للتأكيد جعل الخوف مقابلاً للطغيان مع أن الظاهر مقابلته للانقياد والإطاعة بناء على أن الخوف أول أسباب الإطاعة ثم الرجاء ثم المحبة فالأول للعوام والثاني للخواص والثالث لأخص الخواص {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} عن الميل إليه بحكم الجيلة البشرية ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علماً منه بو خامة عاقبتها والهوى ميلان النفس إلى ما تشتهيه وتستلذه من غير داعية الشرع وفي الحديث أخوف ما أتخوف على أمتي الهوى وطول الأمل إما الهوى فيصد عن الحق وإما طول الأمل فينسى الآخرة قال بعض الكبار : الهوى عبارة عن الشهوات السبع المذكورة في قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالانْعَـامِ وَالْحَرْثِ} ، وقد أدرجها الله في أمرين : كما قال : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ثم أدرجها في أمر واحد وهو الهوى في الآية ، فالهوى جامع لأنواع الشهوات فمن تخلص من الهوى فقد تخلص من جميع القيود والبرازخ.
قال سهل رحمه الله : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين ليس كلهم وإنما يسلم من الهوى من ألزم نفسه الأدب وقال بعضهم : حقيقة الإنسان هي نفسه لا شيء زائد عليها ، وقال تعالى : ونهى النفس عن الهوى فمن اناهي لها تأمل انتهى.
يقول الفقير : إن الإنسان برزخ بين القحيقة الإلهية والحقيقة الكونية وكذا بين الحقيقة الملكية والحقيقة الحيوانية فهو من حيث الحقيقة الأولى ينهى النفس من حيث الحقيقة الثانية كما إن النبي عليه السلام ، يخاطب نفسه بقوله عليه السلام : السلام عليك أيها النبي من جانب ملكيته إلى جانب بشريته أو من مقام جمعه إلى مقام فرقه فإن الجنة هي المأوى} له لا غيرها فنهى النفس عن الهوى معناه نهيها عن جميع الهوى عن أن اللام للاستغراق وإلا فلا معنى للحصر لأن المؤمن الفاسق قد يدخل النار أو لا ثم يدخل الجنة فلا يصح في حقه الحصر اللهم إلا أن يقال معنى الحصر أن الجنة هي المقام الذي لا يخرج عنه من دخل فيه وفي بعض التفاسير :
327
المراد بالجنة مطلق دار الثواب فلا يخالف قوله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} فإن له جنتين بفضل الله في دار الثواب جنة النغيم بالنعم الجسمانية وجنة التلذذ باللذات الروحانية.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
ودر فصول آورده كه اين آيت درشان كسى است كه قصد معصيتي كند وبران قادر باشد خلاف نفس نموده از خداي بترسد واز عمل آن دست باز دارد.
كر نفسي نفس بفرمان تست
شبهه مياوركه بهشت آن تست
نفس كشد هر نفسي سوى ست
هركه خلافش نفسي زدبرست
قال محمد بن الحسن رحمه الله : كنت نائماً ذت ليلة إذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت : انظروا من ذلك فقال رسول الخليفة هارون يدعوك فخفت على روحي وقمت ومضيت إليه فلما دخلت عليه قال دعوتك في مسألة إن أم محمد يعني زبيده قلت لها إني أمام العدل وإمام العدل في الجنة فقالت إنك ظالم عاص قد شهدت لنفسك بالجنة فكذبت بذلك على الله وحرمت عليك فقلت له يا أمير المؤمنين إذا وقعت في معصية فهل تخاف الله في تلك الحال أو بعدها فقال أي والله أخاف خوفاً شديداً فقلت له أنا أشهد إن لك جنتين لا جنة واحدة قال الله تعالى ولمن حاف مقام ربه جنات فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي.
عبد الملك بن مروان خليفه روز كار بود وأبو حازم أمام وزاهد وقت بوادزوى رسيدكه يا أبا حام فردا حال وكار ماون خواهد بود كفت اكر قرآن مي خواني قرآن ترا جواب ميدهد كفت كا ميكويد كفت فأما من طغى إلى قوله فإن الجنة هي المأوى بدانكه دردنيا هر نفسي را آتش شهوتست ودر عقبي آتش عقوبت هركه امروز بآتش شهوت سوخته كردد فردا بآتش عقوبت رسد وهركه أمر وزبآب رياضت ومجاهده آتش شهوت بنشاند وهمنين در دنيا دردل هر مؤمن بهشتي است كه آثرا بهشت عرفان كويند ودر عقبي بهشتي است كه آنرا رضوان كويند هركه أمروز دردنيا بهشت عرفان بطاعت آراسته دار فردا به بهشت رضوان برسد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
(10/255)
وقال القاشاني : فأما من طغى أي تعدى طور الفطرة الإنسانية وتجاوز حد العدالة والشريعة إلى الرتبة البهيمية أو السبعية وأفرط في تعديه وآثر الحياة الحسية على الحقيقية بمحبة اللذات السفلية فإن الجحيم مرجعه ومأوه وإما من خاف مقم ربه بالترقي إلى مقام القلب ومشاهدة قيوميته تعالى نفسه ونهى النفس خوف عقابه وقهره عن هواها فإن الجنة مآواه على حسب درجاته وقال بعضهم أشار بالآية إلى حال المبتدىء فإنه وقت قصده إلى الله لا ويجز له الرخصة والرفاهية خوفاً من الحجاب فإذا بلغ إلى مقام التصفية والمعرفة لم يحتج إلى نهي النفس عن الهوى فإن نفسه وجسمه وشيطانه صارت روحانية والمشتهي هناك مشتهي واحد هو مشتهي الروح فالمبتدىء نمع النفس في الاشتهاء فلذا صار من أهل النهي والمنتهي مع الرب في ذلك ومن كان مع الرب فقد تحولت شهوته لذة حقيقية مقبولة يسألونك} مي رسند ترا أي يا محمد {عَنِ السَّاعَةِ} أي القيامة {أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا} إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله ويثبتها ويكونها فأيان ظرف بمعنى متى وأصله أي آن ووقت والمرسي مصدر بمعنى الإرساء وهو الإثبات وهو مبتدأ
328
وإيان خبره بتقدير المضاف إذ لا يخبر بالزمان عن الحدث والتقدير متى وقت إرسائها كان المشركون يسمعون أخبار القيامة ولو صافها الهائلة مثل إنها طامة كبرى وصاخة وقارعة فيقولون على سبيل الاستهزاء أيان مرساها {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاـاهَآ} رد وإنكار لسؤال المشركين عنها وأصل فيم فيما كما إن أصل عم عما وقد سبق والذكرى بمعنى الذكر كالبشرى بمعنى البشارة أي في أي شيء أنت من أنت ذكر لهم وقتعها وتعلمهم به حتى يسألونك بيانها كقوله تعالى : [الأعراف : 187-44]{يَسْـاَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} ، أي : ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء لأن ذلك فرع علمك به وأنى لك ذلك وهو مما استأثر بعلمه علام الغيوب فقوله من ذكراها فيه مضاف وصلته محذوفة وهي لهم والاستفهام للإنكار وأنت مبتدأ وفيم خبره قدم عليه ومن ذكراها فيه مضاف وصلته محذوفة وهي لهم والاستفهام للإنكار وأنت مبتدأ وفيم خبره قدم عليه ومن كذراها متعلق بما تعلق به الخبر إلى ربك منتهاها} أي انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء ما كائناً من كان فلأي شيء يسألونك عنها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
عائشة رضي الله عنها فرموده كه حضرت رسول عليه السلام ميخواست كه وقت آن ازخدا بسد حق تعالى فرمود توازد انستن قيامت بره يزى يعني علم آن حق تونيست زنهار تانر سي به رورود كارتست منتهاي علم قيامت يعني كسر راخبر ندهد ه اطلاع بران خاصه حضرت رورد كارست.
قال القاشاني : أي في أي شيء أنت من علمها وذكرها وإنما إلى ربك نتهي علمها فإن من عرف القيامة هو الذي أنمحى علمه أو لا بعلمه تعالى ثم فنيت ذاته في ذاته فكيف يعلمها ولا علم له ولا ذات فأين أنت وغيرك من علمها بل لا يعلمها إلا الله وحده {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} أي وظيفتك الامتثال بما أمرت به مني بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال لا تعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما ليس من وظائفك بيانه أي ما أنت إلا منذر لا يعلم فهو من قصر الموصوف على الصفة أو ما أنت منذر إلا من يخشاها فهو من قصر الصفة على الموصوف وتخصيص من يخشى مع إنه مبعوث إلى من يخشى ومن لا يخشى لأنهم هم المنتفعون به أي لا يؤثر الإنذار إلا فيهم كقوله فذكر بالقرآن من يخاف وعيد والجمهور على إن قوله منذر من يخشاها من إضافة الصفة إلى معمولها للتخفيف على الأصل لأن الأصل في الأسماء الإضافة والعمل فيها إنما هو بالشبه ومن قرأها بالتنوين اعتبر أن الأصل فيها الأعمال والإضافة فيها إنما هي للتخفيف {كَأَنَّهُمْ} أي المنكرين وبالفارسية كوييا كفار مكة {يَوْمَ يَرَوْنَهَا} روزي كه بنند قيامت راكه از آمدن آن همي برسند {لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا} الضحى اسم لما بين إشراق الشمس إلى استواء النهار ثم هي عشى إلى الغداة كما في "كشف الأسرار" والجملة حال من الموصول ، فإنه على تقدير الإضافة وعدمها ، مفعول لمنذر كأنه قيل : تنذرهم مشبهين يوم يرونها أي : في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة أي عشية يوم واحد أوضحاه أي آخر يوم أو أوله لا يوماً كاملاً على أن التنوين عوض عن المضاف إليه فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته والضحى والعشية لما كانا من يوم واحد تحققت بينهما ملابسة مصححة لإضافة أحدهما إلى الآخر فلذلك أضيف الضحى إلى العشيرة فإن قيل : لم لم يقل إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة قلنا لو قيل لم يلبثوا
329
(10/256)
إلا عشية أو ضحى احتمل أن يكون العشية من يوم والضحى من يوم آخر فيتوهم استمرار اللبث من ذلك الزمان من اليوم الأول إلى الزمان الآخر من اليوم الآخر وإما إذا قيل إلا عشية أو ضحاها لميحتمل ذلك البتة قال في "الإرشاد" واعتبار كون الليث في الدنيا أو في القبور لا يقتضيه المقام وإنما الذي يقتضيه اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقاً للإنذار ورداً لاستبطائهم وفي الآية إشارة إلى ساعة الفناء في الله فإنها أمر وجداني لا يعرفها إلا من وقع فيها وهم باقون بنفوسهم الغليظة الشديدة فكيف يفهمونها بذكرها بلسان العبارة كما قيل : من لم يذق لم يعرف كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها لاتصال آخر الفاء بأول البقاء كما قال العارف الطيار العطار قدس سره :
كر بقا خواهى فناي خود كزين
أو لين يزى كه مي زايد بقاست
وفي الحديث من قرأ سورة النازعات كان ممن حسبه الله في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة وهو عبارة عن استقصار مدة الليث فيما يلقي من البشرى والكرامة في البرزخ والموقف كذا في حواشي ابن الشيخ رحمه الله.
جزء : 10 رقم الصفحة : 314
تفسير سورة عبس
أربعون أو إحدى وأربعون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 329
{عَبَسَ} من الباب الثاني والعبس والعبوس ترش روى شدن يعني ترش كرد روى خودرا محمد عليه السلام {وَتَوَلَّى} اعرض يعني روى بكردانيد {أَن جَآءَهُ الاعْمَى} الضمير لمحمد عليه السلام وهو علة لتولي على رأي المبصريين لقربه منه أي تولى لأن جاءه الأعمى والعمى افتقاد البصر ويقال : في افتقاد البصيرة أيضاً ولام الأعمى للعهد فيراد أعمى معروف وهو ابن أم مكتوم المؤذن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في الأذان ولذلك قال عليه السلام ، إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم وكان من المهاجرين الأولين استخلفه عليه السلام ، على المدينة مرتين حين خرج غازياً وقيل ثلاث مرات مات بالمدينة وقيل شهيداً بالقادسية وهي قرية فوق الكوفة قال أنس رضي الله عنه رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء ويقال ليوم فتح عمر رضي الله عنه يوم القادسية فإنه ظفر على العجم هناك وأخذ منهم غنائم كثيرة واختلفوا في اسم ابن أم مكتوم فقيل هو عبد الله بن شريج بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر ابن لؤي وقيل هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم من بني عامر بن هلال وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها وأم مكتوم اسم أم أبيه كما في "الكشاف" وقال السعدي هو وهم فقد نص ابن عبد البر وغيره إنها أمه واسمها عاتكة بنت عامر بن مخزوم.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
روى) أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذلك في مكة وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل
330
بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم لأن عادة الناس إنه إذا مال أكابرهم إلى أمر إليه غيرهم كما قيل الناس على دين ملوكهم فقال له يا رسول الله علمني مما علمك الله انتفع به وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله عليه السلام ، بالقوم إذا السمع لا يكفي في العلم بالتشاغل بل لا بد من الأبصار على إنه يجوز إنهم كانوا يخفضون أصواتهم عند المكالمة أو جاء الأعمى في منقطع من الكلام فكره رسول الله قطعه لكلامه واشتغاله به عنهم وعبس وأعرض عنه فرجع ابن أم مكتوم محزوناً خائفاً أن يكون عبوسه وأعراضه عنه إنما هو لشيء أنكره الله منه فنزلت.
أمام زاهد فرموده كه سيد عالم صلى الله عليه وسلّم از عقب أو رفت واورا بازكر دانيده ورداي مبارك خود بكسترانيد وبران نشانيد.(10/257)
فكان رسول الله يكرمه ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي أي لامني مع بقاء المحبة ويقول له هل لك من حاجة ويقال إن رسول الله عليه السلام ، لم يغتم في عمره كغمه حين أنزلت عليه سورة عبس لأن فيها عتباً شديداً على مثله لأنه الحبيب الرشيد ومع ذلك فلم يجعل ذلك الخطاب بينه وبينه فيكون أيسر للعتاب بل كشف بذلك للمؤمنين ونبه على فعله عباده المتقين ولذلك روى أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه فلا يقرأ فيهم إلا سورة عبس فأرسل إليه فضرب عنقه لما استدل بذلك على كفره ووضع مرتبته عنده وعند قومه قال ابن زيد لو جاز له أن يكتم شيئاً من الوحي لكان هذا وكذا نحو قوله لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ونحو قوله أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وكان ما فعله عليه السلام ، من باب ترك الأولى فلا يعد ذنباً لأن اجتهاده عليه السلام ، كان في طلب الأولى والتعرض لعنون عماه مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه وهو ينافي تعظيمه المفهوم من العتاب على العبوس في وجهه إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام ، للقوم والإيذان باستحقاقه الرفق والرأفة لا الغلظة وإما لزيادة الإنكار فإن أصل الإناكر حصل من دلالة المقام كأنه قيل تولى لكونه أعمى وهو لا يليق بخلقه العظيم كما إن الالتفات في قوله تعالى
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
{وَمَا يُدْرِيكَ} لذلك فإن المشافهة أدخل في تشديد العتبا كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ أي وأي شيء يجعلك دارياً وعالماً بحاله ويطعلك على باطن أمره حتى تعرض عنه أي لا يدريك شيء فتم الكلام عنده فيوقف عليه وليس ما بعده مفعوله بل هو ابتداء كلام وقال الامام السهيلي رحمه الله ، انظر كيف نزلت الآية بلفظ الأخبار عن الغائب فقال : [عبس : 1-3]{عَبَسَ وَتَوَلَّى} ولم يقل عبست وتوليت وهذا شبيه حال الغائب المعرض ثم أقبل عليه بمواجهة الخطابفقال وما يدريك علماً منه تعالى إنه لم يقصد بالإعراض عنه إلا الرغبة في الخير ودخول ذلك المشرك في الإسلام وهو الوليد أو أمية وكان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير فكلم نبيه عليه السلام حين ابتدار الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب له ثم واجهه بالخطاب تأنيساً له عليه السلام ، بعد الإيحاش فإنه قيل إن ابن أم
331
مكتوم كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمور الدين وأما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم فكلامه في البين سبب لقطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل وذلك محرم وإلا هم مقدم على المهم فثبت بهذا إن فعل ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية وما فعله النبي عليه السلام كان واجباً فكيف عاتبه الله على ذلك قيل إن الأمر وإن كان كما ذكر إلا أن ظاهر ما فعله الرسول عليه السلام يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء وهو لا يليق بمنصب النبوة لأنه ترك الأفضل كما أشير إليه سابقاً فلذا عاتبه الله تعالى لعله} أي الأعمى {يَزَّكَّى} بتشديدين أصله يتزكى أي يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الأوزار بالكلية وكلمة لعل مع تحقق التزكي وارد على سنن الكبرياء فإن لعل في كلام العظماء يراد به القطع والتحقيق أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه عليه السلام ، للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجوا التزكي مما لا يجوز فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكي كما في قولك لعلك ستندم على ما فعلت {أَوْ يَذَّكَّرُ} بتشديدين أيضاً أصله يتذكر والتذكر هو الاتعاظ يعني باخود ند كيرد {فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} أي فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام وفي "الكشاف" المعنى إنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزكى أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك انتهى.
إشار إلى أن قوله يزكي من باب التخلية عن الآثام وقوله أو يذكر من باب التحلية ببعض الطاعات ولذا دخلت كلمة الترديد فقوله أو يذكر عطف على بزكي داخل معه في حكم الترجي وقوله فتنفعه الذكرى بالنصب على جواب لعل تشبيهاً له بليت وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً وإشعار بأن اللائق بالعلم أن يقصد بتعليمه تزكية متعلمة ولا ينظر إلى شبحه وصورته كما ينظر العوام وبالمتعلم أن يريد بتعلمه تزكية نفسه عن أرجاس الضلال وتطهير قلبه من أدناس الجهالة لا أحكام الدنيا الدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
(10/258)
{أَمَّا} للتفضيل {مَنِ اسْتَغْنَى} عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن {فَأَنتَ لَه تَصَدَّى} بحذف إحدى التاءين تخفيفاً أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه دون الأعمى وفيه مزيد تنفير له عليه السلام ، عن مصاحبتهم فإن الإقبال على المدبر ليس من شيم الكرام والتصدي للشيء التعرض والتقيد به والاهتمام بشأنه وضده التشاغل عنه وفي "المفردات" التصدي التعرض للشيء على حرص كتعرض الصديان للماء أي العطشان وعن بعضهم أصل تصدي تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وجاء قبالتك فأدل أحد الأمثال حرف علة {وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى} أي وليس عليك بأس ووزر ووبال في أن لا يتزكى ذلك المستغني بالإسلام حتى تهتم بأمره وتعرض عمن أسلم أن عليك إلا البلاغ وكيف تحرض على الإسلام من ليس له قابلية وقد خلق على حب الدنيا والعمى عن الآخرة وفيه استهانة لمن أعرض عنه فما نافية وكلمة في المقدرة متعلقة باسم ما وهو محذوف والجملة حال من ضمير تصدي مقررة لجهة الإنكار
332
{وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى} أي حال كونه مسرعاً طالباً لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير {وَهُوَ} والحال إنه {يَخْشَى} الله تعالى أو يخشى الكفار وإذا هم أتيانك قال سعدي المفتي : الظاهر أن النظم من الاحتباك ، ذكر الغنى أولاً للدلالة على الفقر ثانياً والمجيء والخشية ثانياً للدلالة على ضدهما أولاً {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} بحذف إحدى التاءين تخفيفاً أي تتلهى وتتشاغل من لهى عن الشيء بكسر الهاء يلهى لهيا اعرض عنه لا من لهوت بالشيء بالفتح ألهو لهواً إذا لعبت به لأن الفعل مسند إلى ضمير النبي ولا يليق بشأنه الرفيع أن ينسب إليه التفعل من اللهو بخلاف الاشتغال عن الشيء لمصلحة وفي بضع التفاسير ولو أخذ من اللهو وجعل التشاغل بأهل التغافل من جنس اللهو واللعب لكونه عبثاً لا يترتب عليه نفع لم يخل عن وجه انتهى وفيه إنه يلزم منه أن يكون الاشتغال بالدعوة عبثاً ولا يقول به المؤمن وذلك لأنه لا يجوز للنبي عليه السلام التشاغل بأهل التغافل إلا بطريق التبليغ والإرشاد فكيف لا يترتب عليه نفع وفي تقديم ضميره عليه السلام ، وهو أنت على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه السلام ، أي مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للمستغنى ويتلهى عن الفقير الطالب للخير وفي تقديم له وعنه للتعريض باهتمامه عليه السلام ، بمضمونهما تنبيه حيث أفادت القصة أن العبرة بالأرواح والأحوال لا بالأشباح والأموال والعزيز من أعزه الله بالإيمان والطاعة وإن كان بين الناس ذليلاً والذليل من أذله الله بالكفر والمعصية وإن كان بين الناس عزيزاً روى إنه عليه السلام ما بعس بعد ذلك في وجه ففير قط ولا تصدى لغني وكان الفقراء في مجلسه عليه السلام ، أمراء يعني كان يحترمهم كل الاحترام وفيه تأديب للصغير بالكبير فحملة الشرع والعلم والحكام مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري عن الخير بمثل ما خوطب به النبي عليه السلام ، في هذه السورة قال بعضهم : بين الله درجة الفقر وتعظيم أهله وخسة الدنيا وتحقير أهلها فصح الاشتغال بصحبة الفقراء لأن فيم نعت الصدق والتجرد فالصحبة معهم مفيدة بخلاف الاشتغال بصحبة الأغنياء إذ ليس فيهم ذلك فالصحبة معهم ضائعة وفي الحديث : "من تحامل على فقير لغني فقد هدم ثلث دينه" يقال : تحاملت على الشيء إذا تكلفت الشيء على مشقة وتحامل فلان على فلان إذا لم يعدل وقال بعض الأكابر إنما كان صلى الله عليه وسلّم يتواضع لأكابر قريش لأن الأعزاء من الخلائق مظهر لعزة الإلهية فكان تقديمهم على الفقراء من أهل الصفة ليوفي صفة الكبرياء حقها إذا لم يشهد لها مشاركاً ولكن فوق هذا المقام ما هو أعلى منه وهو ما أمره الله به آخراً بعدما صدر سورة عبس في قوله واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى الآية فأمره بأن لا يشهده في شيء دون شيء للإطلاق الذي هو الحق عليه كما قال جعت فلم تطعمني وظمئت فلم تسقني الحديث كم افي الجواهر للشعراني
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
{كَلا} انزجر من التصدي للمستغني والإعراض عن إرشاد المسترشد قال الحسن : لما تلا جبرائيل هذه الآيات على النبي عليه السلام عاد وجهه كأنما استف فيه الرماد أي تغير كأنما ذر عليه الرماد ينتظر ما يحكم الله عليه فلما
333
قال كلا سرى عنه والتسرية ندوه رابردن.
(10/259)
أي لا تفعل مثل ذلك فإنه غير لائق بك {إِنَّهَا} أي القرآن والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله {تَذْكِرَةٌ} أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها {فَمَن} س هركه {شَآءَ ذَكَرَهُ} أي القرآن أي حفظه ولم ينسه أو اتعظ به ومن رغب عنه كما فعله المستغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره {فِى صُحُفٍ} جمع صحفة وكل مكتوب عند العرب صحيفة وهو متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة وما بينهما اعتراض بين الصفة والموصوف جيء به للترغيب فيها والحث على حفظها أي كائنة في صحف منتسخة من اللوح أو خبر ثان لأن فالجملة معترضة بين الخبرين والسجاوندي على إنه خبر محذوف أي وهي في صحف حتى وضع علامة الوقف اللازم على ذكره هرباً من إيهام تعلقة به وهو غير جائز لأن ذكر من شاء لا يكون في صحف عند الله لكونها صحف القرآن المكرم {مَّرْفُوعَةٍ} أي في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار والذكر فإنها في المشهور موضوعة في بيت العزة في السماء الدنيا {مُّطَهَّرَة} منزهة عن مساس أيدي الشياطين {بِأَيْدِى سَفَرَةٍ} كتبة من الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح على إنه جمع سافر من السفر وهو الكتب إذ في الكتابة معنى السفراي لكشف والتوضيح والكاتب سافر لأنه يبين الشيء ويوضحه وسمى السفر بفتحتين سفراً لأنه يسفر ويكسف عن أخلاق المرء قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة والباء متعلقة بمطهرة فقال القفال في وجه لما لم يسمها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسها وقال القرطبي إن المراد في قوله تعالى : [الواقعة : 79-16]{لا يَمَسُّه إِلا الْمُطَهَّرُونَ} هؤلاء السفرة الكرام البررة والظاهر أن تكون في محل الجر على إنها صفة لصحف أي في صحف كائنة بأيدي سفرة أو مكتوبة بأيدي سفرة ومن هذا وقف بعضهم على مطهرة وقفاً لازما هرباً من توهم تعلق الباء به كرام} عند الله بالقرب والشرف فهو من الكرامة جمع كريم أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم فهو من الكرم ضد اللؤم وقال ابن عطاء رحمه الله يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة يشير إلى أنهم هم الملائكة الموصوفون بقوله كراماً كاتبين وفيه تأمل {بَرَرَةٍ} اتقياء لتقدسها عن المواد ونزاهة جواهرها عن التعلقات أو مطيعين الله من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه أو صادقن من بر في يمينه جمع بار مثل فجرة جمع فاجر {قُتِلَ الانسَـانُ} دعاء عليه بأشنع الدعوات فإن القتل غاية شدائد الدنيا وأفظعها ومن فسر القتل باللعن أراد به الإهلاك الروحاني فإنه أشد العقوبات وهو بالفارسية لعنت كرده باد انسان يعني كافر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
وفي "عين المعاني" عذب {مَآ أَكْفَرَهُ} ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وبالفارسية ه كافر ترين خلقست.
تعجب من إفراطه في الكفران أي على صورته فإن حقيقة التعجب إنما تتصور من الجاهل بسبب ما خفى من سبب الشيء والذي أحاطه علمه بجميع المعلومات لا يتصور منه ذلك فهو في الحقيقة تعجيب من الله لخلقه وبيان لاستحقاقه للدعاء عليه أي أعجبوا من كفره بالله
334
ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه وادعوا عليه بالقتل واللعن ونحو ذلك لاستحقاقه لذلك ، قال بعضهم : لعن الله الكافر وعظم كفره حيث لم يعرف صانعه ولم يعرف نفسه التي لو عرفها عرف صانعها.
وقال ابن الشيخ : هذا الدعاء وارد على أسلوب كلام العرب فهو ليس من قبيل دعاء من يعجز عن انتقام من يسوءه وكذا هذا التعجب ليس على حقيقته لأنه تعالى منزه عن العجز والجهل بل المقصود بإيراد ما هو في صورة الدعاء الدلالة على سخطه العظيم والتنبيه على إنه استحق أهول العقوبات وأشنعها وبإيراد صيغة التعجب الذم البليغ له من حيث ارتكابه أقبح القبائح ولا شك أن السخط يجوز من الله وكذا الذم ويجوز أن يكون ما أكفره استفهاماً بمعنى التقريع والتوبيخ أي أي شيء حمله على الكفر والمراد من الإنسان إما من استغنى عن القرآن المذكور نعوته وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار جمع أفراده {مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء حقير مهين خلقه يعني نمى انديشدكه خداي تعالى ازه جيز بيافريد اورا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
(10/260)
ثم بينه بقوله {مِن نُّطْفَةٍ} قذرة {خَلَقَهُ} فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير كيف يليق به التكبر والتجبر والكفران بحق النمعم الذي كسا ذلك الحقير بمثل هذه الصورة البهية وقف السجاوندي على قوله من نطفة حتى وضع عليه علامة الوقف المطلق بتقدير خلقه آخر بدلالة ما قبله وجعل قوله خلقه فقدره جملة أخرى استئنافية لبيان كيفية الخلق وإتمامه من إنعامه ومن جعله متعلقاً بما بعده على ما هو الظاهر لم يقف عليه {فَقَدَّرَهُ} فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال أي أحدثه بمقدار معلوم من الأعضاء والأشكال والكمية والكيفية فجعله مستعداً لأن ينتهي فيها إلى القدر اللائق بمصلحته فلا يلزم عطف الشيء على نفسه وذلك إن خلق الشيء أيضاً تقديره وإحداثه بمقدار معلوم من الكمية والكيفية وبالفارسية س انداره أو بديد كرد ازا عضا وأشكال وهيئات در بطن ما دره أو فقدره أطوار إلى أن تم خلقه فالتقدير المتفرع على الخلق مأخوذ من القدر بمعنى الطور أي أوجده على التقدير الأولى ثم جعله ذا أطوار من عقة ومضغة إلى آخر أطواره ذكراً أو أنثى شقياً أو سعيداً.
قال بعضهم : وعلى الوجهين فالفاء للتفصيل فإن التقدير يتضمنه عى المعنيين {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} منصوب بمضمر يفسره الظاهر أي سهل مخرجه من البطن بأن فتح فم الرحم وكان غير مفتوح قبل الولادة وألهمه أن ينتكس بأن ينقلب ويصير رجله من فوق ورأسه من تحت وللاو ذلك لا يمكثها أن تلد أو يسر له سبيل الخير والشر في الدين ومكنه من السلوك فيهما وذلك بالأقدار والتعريف له بما هو نافع وضار والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب ونو ذلك وتعريف السبيل باللام دون الإضافة بأن يقال سبيله للإشعار بعمومه لأنه عام للأنس والجن على المعنى الثني وللحيوانات أيضاً على المعنى الأول قال ابن عطاء رحمه الله يسر على من قدر له التوفيق طلب رشده واتباع نجاته وقال أبو بكر بن طاهر رحمه الله يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه {ثُمَّ أَمَاتَهُ} أي قبض روحه عند تمام أجله المقدر المسمى {فَأَقْبَرَهُ} أي جعله في قبر يواري فيه تكرمة له ولم يدعه مطروحاً على وجه الأرض جزراً أي قطعاً
335
للسباع والطير كسائر الحيوان ، قال في "كشف الأسرار" : لم يجعله مما يطرح للسباع أو يلقى للنواويس والقبر مما أكرم به المسلمون انتهى.
يقال قبر الميت إذا دفنه بيده والقابر هو الدافن والقبر هو مقر الميت وأقبره إذ أمر بدفنه أو مكن منه فالمقبر هو الله لأنه الآمر بالدفن في القبور قال في المفرات أقبرته جعلت له مكاناً يقبر فيه نحو أسقيته جعلت له ماء يستقى منه وقيل معناه ألهم كيف يدفن انتهى.
(وفي المثنوى) :
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
كندن كورى كه كمتر يشه بود
كي زمكر وحيله والديشه بود
جمله حرفتها يقين ازوحى بود
اول أوليك عقل آنرا فزود
وعد الأماتة من النعم بالنسبة إلى المؤمن فإن بالموت يتخلص من سجن الدنيا وأيضاً إن شأن الموت أن يكون تحفة ووصلة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم وإنما كان مفتاح كلا بلاء ومحنة في حق الكافر من سوء اعتقاده وسيئات أعماله وفي بعض التفاسير ذكر الأماتة إما لأنها مقدمة الأقبار وإما للتخويف والتذكير بأن الحياة الدنيوية فانية آخرها الموت وعن الشافعي رحمه الله :
فلا تمشين في منكب الأرض فاخراً
فعما قليل يحتويك ترابها
(10/261)
وأما الحث على الاستعداد وأما رعاية المقابلة بينه وبين أنشره تنبيهاً على كمال قدره وتمام حكمته {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أي إذا شاء إنشره وإحياءه وبعثه شره وإحياه وبعثه وفي تعليق الإنشاء بمشيئته له إيذان بأن وقته غير متعين في نفسه بل هو تابع لها بخلاف وقت الموت فإنا نجزم بأن أحداً من أبناء الزمان لا يتجاوز مائة وخمسين سنة مثلاً وليس لأحد مثل هذا الجزم في النشور هكذا قالوا وفيه إن الموت أيضاً له سن معلوم وأجل محدود فكيف يتعين في نفسه ويجزم بوقوعه في سن كذا بحيث لا يكون موكولاً إلى مجرد مشيئته تعالى ولعل تقييد الإنشار بالمشيئة لا ينافي تقييد الموت بها أيضاً إذ لا يجري عليه تعالى زمان وإنه من مقدمات القيامة ولذا قال عليه السلام : من مات فقد قامت قيامته أي لاتصال زمان الموت بزمان القيامة فهو قيامة صغرى مجهولة كالقيامة الكبرى وفيه إشارة إلى أن الميت إن كان من أهل السعادة فإنشاره من قبور أهل السعادة وإن كان مدفوناً في قبور أهل الشقاوة وإن كان من أهل الشقاوة فإنشاره من قبور أهل الشقاوة وإن كان مدفوناً في قبور أهل السعادة ولذا قال صاحب المشارق في خطبة كتابه ثم إذا شاء منها شره أي من مكة فإن من دفن بمكة ولم يكن لأثقابها تنقله الملائكة إلى موضع آخر وفي الحديث : "من مات من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله إليهم حتى يحشر معهم" ، وفي حديث آخر : "من مات وهو يعمل عمل قوم لوط سار به قبره حتى يصير معهم ويحشر يوم القيامة معهم" كما في الدرر المنتثرة للامام السيوي رحمه الله ، وحكى إن شخصاً كان يقال له ابن هيلان من المبالغين في التشيع بحيث يفضي إلى ما يستقبح في حق الصحابة مع الإسراف على نفسه بينما هو يهدم حائطاً إذ سقط فهلك فدفن بالبقيع فلم يوجد ثاني يوم الدفن في القبر الذي دفن به ولا التراب الذي ردم به القبر بحيث
336
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
يستدل بذلك لنبشه وإنما وجدوا للبن على حاله حسبما شاهده الجم الغفير حتى كان ممن وقف عليه القاضي جمال الدين وصار الناس يجيئون لرؤيه أرسالاً إلى اشتهر أمره وعد ذلك من الآيات التي يعتبر بها من شرح الله صدره نسأل الله السلامة وحكى أيضاً أن محمد بن إبراهيم المؤذن حكى عنه إنه حمل ميتاً في أيام الحاج ولم يوجد من يساعده عليه غير شخص قال فحملناه ووضعناه في اللحد ثم ذهب الرجل وجئت أنا بالببن لأجل اللحد فلم أجد الميت في اللحد فذهبت وتركت القبر على حاله ونقل إن بعض الصلحاء ممن لم يمت بالمدينة رؤى في النوم وهو يقول للرائي سلم على أولادي وقل لهم إني قد حملت ودفنت بالبقيع عند قبر العباس فإذا أرادوا زيارتي فليقفوا هناك ويسلموا ويدعوا كذا في "المقاصد الحسنة للسخاوي" وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان ما كان له أن يكفر لأن الله خلقه من نطفة الوجود المطلق وهيأه لمظهرية ذاته وصفاته وأسمائه ثم سهل عليه سبيل الظهور بمضاهر الأسماء الجمالية والجلالية ثم أماته عن أنانيته فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء ثم إذا شاء أنشره بصورة البقاء بعد الفناء فعلى العبد أن يعرف قدر النعمة ولا يظهر بالعجب والغرور بأن يدعى لنفسه ما كانمن الكمالات كالعلم والقدرة والإرادة ونحوها {كَلا} ردع للإنسان عما هو عليه وجعله السجاوندي بمعنى حقاً ولذا لم يقف لعيه بل على أمره فإنه إذا كان بمعنى حقاً يكون تابعاً لما بعده {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} قال في بعض التفاسير ما في لما صلة دخلت للتأكيد كقوله فبما رحمة من الله فلما بمعنى لم وليس فيه معنى التوقع وفي ما أمره موصولة وعائده يجوز أن يكون محذوفاً والتقدير ما أمره به فحذف الجار أو لا فبقي ما أمره هو ثم حذف الهاء العائد ثانياً ويجوز أن يكون باقياً على أن المحذوف من الهاءين هو العائد إلى الإنسان والباقي هو العائد إلى الموصول فعرف وقس عليه أمثاله أي لم يقض الإنسان ما أمره الله به من الإيمان والطاعة ولم يؤد ولم يعرف ولم يعمل به وعدم القضاء محمول على عموم النفي إما على أن المحكوم عليه هو المستغني أو هو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل فلا شياع في اللوم بحكم المجانسة وإما على إن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب لكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يتخلف عنه أحداً أصلاً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
وكفته اند مراد همه آدميانند از آدم تاباين غايت وهركز هي آدمى از عهده حقوق اداي اوامر إلهي كما ينبغي بيرون نيايد ونتوان آمد.
بنده همان به كه زتقصير خويش
عذر بدر كاه خداي آورد
ورنه سزاوار خداوند يش
كس نتواندكه بجاي آورد
(10/262)
وفي التأويلات النجمية : كلا لما يقض ما أمره من الإتيان بمواجب حقوقنا من الظهور بحقائق أسمائنا والقيام بفضائل صفاتنا {فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِهِ} شروع في تعداد النعم المتعلقة
337
ببقائه بعد تفصيل النعم المتعلقة بحدوثه أي فلينظر الإنسان إلى طعامه الذي عليه يدور أمر معاشه كيف دبرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فلينظر الإنسان إلى طعامه ليعلم خسة قدره وفناء عمره وفي الحديث : "إن مطعم ابن آدم جعله الله مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه فنظر إلى ماذا يصير" يقال قزح القدر جعل التابل فيها وهو كصاحب وهاجر إبزار الطعام وملحها جعل الملح فيها {أَنَّا صَبَبْنَا} أنزلنا إنزالاً وافياً من السحاب أي الغيث وهو المطر المحتاج إليه بدل اشتمال من طعامه لأن الماء سبب لحدوث الطعام فالثاني مشتمل على الأول إذ لا يلزم فيه أن يكون المبدل منه مشتملاً على البدل فحينئذٍ العائد محذوف والتقدير صببا له {صَبًّا} عجيباً {ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ} بلنبات ولما كان الشق بعد الصب أورد كلمة ثم الشق بالفارسية شكافتن {شَقًّا} بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات صغراً وكبراً وشكلاً وهيئة {فَأَنابَتْنَا فِيهَا} أي في الأرض المشقوقة بالنبات والفاء للتعقيب {حَبًّا} فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب والحب كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما وهو جنس الحبة كالتمر والتمرة فيشمل القليل والكثير قدمه لأنه الأصل في الغذاء {وَعِنَبًا} عطف على حبا وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ماقيد به المعطوف عليه فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض وكذا في أمثاله ، كذا قال في "الإرشاد" ولعل شق الأرض فيه باعتبار أصله أول خروجه منها فإن المراد هنا شجرة العنب وإنما ذكره والزيتون باسم اثمرة لشهرتهما بها ووقوع كل منهما بعد ما يؤكل نفسه فاعرف وأفرد العنب بالذكر من بين الثمار لأنه فاكهة من وجه يتلذذ به وطعام من وجه يتغذى به وهو من أصلح الأغذية {وَقَضْبًا} أي رطبة وهي نبات يقال له الفصفصة وبالفارسية اسست ومعربه الاسفست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
سميت بمصدر قضبه أي قطعه مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره إذا تقضب مرة بعد أخرى في السنة نفس القطع وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه الرطب التي تقضب من النخل ورجحه بعضهم لمناسبته بالعنب وقال بعضهم : هو مثل النعناه والطرحون والكراث وغيرها التي قطع ساقها من أصلها يعني للأكل وبعضهم هو القت الرطب أفرده بالذكر تنبيهاً على اختلاف النباتات وإن منها ما إذا قطع عاد ونمها ما لا يعود والقت حب الغاسولو هو الاشنان وقيل : هو حب يابس أسود يدفن فيلينقشره ويطحن ويخبز يقتاته إعراب طي وبعضهم هو كل ما يؤكل رطباً كالبطيخ والخيار والباذنجان والدباء {وَزَيْتُونًا} هو ما يعصر منه الزيت والمراد شجرته وتعمر ثلاثة آلاف سنة خصه بالذكر لكثرة فوائده خصوصاً لأهالي بلاد العرب فإنهم ينتفعون به أكلاً وإدهاناً واستضاءة وتطهراً فإنه يجعل في الصابون وكان عليه السلام يتطيب به في الأوقات {وَنَخْلا} هو شجر التمر جمع خلة والرطب والتمر من أنفع الغذاء وفي العجوة خاصية دفع السم والسحر وشجرته من فضلة طينة آدم عليه السلام ، كما سبق مفصلاً {وَحَدَآاـاِقَ غُلْبًا} جمع حديقة وهي الروضة ذات الشجر أو البستان من النخل والشجر أو كل ما أحاط به البناء والقطعة من النخل كما في "القاموس" وهي هنا من قبيل التعميم
338
بعد التخصيص والغلب جمع أغلب كحمر جمع أحمر أو حمراء مستعار من وصف الرقاب يقال الرجل أغلب وأسد أغلب أي غليظ العنق فالمعنى وحدائق عظاماً وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها أو لأنها ذات أشجار غلاظ فعلى الأول الاستعارة معنوية وعلى الثاني مجاز مرسل فإن أريد من غلظ اعنق والرقبة مطلق الغلظ بطريق إطلاق المقيد وإرادة المطلق كإطلاق المرسن على الأنف وأجرى على الحدائق وصفاً لها بحال متعلقها وهو الأشجار سمى استعارة بناء على اللغة وفي "كشف الأسرار" الغلب من الشجر التي لا تمثر كالشمار والأرز والعرعر والدرداء {وَفَـاكِهَةً} كثيرة غير ما ذكر والعنب والرمان والرطب من الفواكه عند الإمامين لا عند الأعظم وإن العطف يقتضي المغايرة والظاهر إن مراد الأعظم إن نحو العنب والرطب لكونه مما يؤكل غذاء يحقق القصور في معنى التفكه به أي التنعم بعد الطعام وقبله فلا يتناوله اسم الفاكهة على الإطلاق حتى لو حلف لا يأكل فاكهة لا يحنث بأكله لكونه غذاء من وجه وإن كان فاكهة من وجه آخر وعطف الفاكهة عليه لا ينافي كونه فكهة من وجه لأن المراد بالفاكهة المعطوفة ما هو فاكهة من كل وجه ولا يخفى إن الفاكهة من كل وجه مغايرة لما هو فاكهة من وجه دون وجه فيصح عطفها عليه أو عطفه عليها كما في مواضع من القرآن
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
(10/263)
{وَأَبًّا} أي مرعى من أنه آذا أمه أي قصده لأنه يؤم ويقصد جزه للدواب أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيء للرعى وأب إلى وطنه إذا نزع إليه نزوعاً تهيأ لقصده وكذا أب لسيفه إذ تهيأ لسله وأبان ذلك فعلان منه وهو الزمان المتهييء لفعله ومجيئه أو الأب الفاكهة اليابسة تؤب للشاء أي تعد وتهيأ وهو الملائم لما قبله وفي الحديث "خلقتم من سبع ورزقتم من سبع فاسجد والله على سبع" أراد بقوله خلقتم من سبع يعني من نطقة ثم من علقة الخ وهي التارات السبع وبقوله رزقتم من سبع قوله حباً وعنباً إلى أبا لعل الحدائق خارجة عن الحساب لأنها منابت تلك المرزوقات وبقوله فاسجدوا على سبع الأعضاء السبعة وهي الوجه واليدان والركبتان والرجلان {مَّتَـاعًا لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ} مفعول به أي فعل ذلك تمتيعاً لكم والمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم وللالتفات لتكميل الامتنان وفي الآية إشارة إلى حب المحبة الذاتية وخمير المحبة الصافية المتخذة من عنب الصفات وخمر المحبة الأفعالية المتخذة من رطب وزيتون المعرفة ونخل التوحيد العالي من أن يصل إليه كل مدع كذاب وفاكهة الوجدانيات والذوقيات وحدائق الشوق والاشتياق والود والتجريد ونحوها وأب مراعي الشهوات الحيوانية فبعض هذه النعم الشريفة مخصوص بالخواض كالأرواح والأسرار والقلوب وبعضها بالعوام كالنفوس البشرية والقوى الطبيعية العنصرية {فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ} شروع في بيان أحوال معادهم أثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فناء النعم عن قريب كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها وقرب اضمحلالها وجواب إذا محذوف يدل عليه يوم يفر الخ أي اشتغل كل أحد بنفسه والصاخة هي الداهية العظيمة التي يصخ لها الخلائق أي يصيخون لها
339
من صخ لحديثه إذا أصاخ واستمتع وصفت بها النفخة الثانية لأن الناس يصخون لها في قبورهم فاسند الاستماع إلى المسموع مجازاً وقيل هي الصيحة التي تصم الآذان لشدة وقعها وقيل هي مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه فتكون الصاخة حقيقة في النفخة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ} روزي كه بكريزد مرد {مِنْ أَخِيهِ} ازبرادر خودبار وجود موانست ومهرباني {وَأُمِّهِ} واز مادر خود باكثرت حقوق كه او راست
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
{وَأَبِيهِ} واز در خود باجود شفقت وعاطفت كهل از وديده {وَصَـاحِبَتِهِ} واز زن خودبا آنكه مونس روزكار او بوده {وَبَنِيهِ} وازفر زندان خود باخيال استظهار بديشان أي يعرض الإنسان عنهم ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشغاله بحال نفسه ولعلمه إنهم لا يغنون عنه شيئاً فقوله يوم منصوب بأعنى تفسيراً للصاخة تأخير إلا حب للمبالغة لأن الأبوين أقرب من الأخ وتعلق القلب بالصاحبة والأولاد أشد من تعلقه بالأبوين وهذه الآية تشمل النساء كما تشمل الرجال ولكنها خرجت مخرج كلام العرب حيث تدرج النساء في الرجال في الكلام كثيراً قال عبد الله بن طاهر الأبهري قدس سره يفر منهم إذا ظهر له عجزهم ولة حيلهم إلى من يملك كشف تلك الكروب واهموم عنه ولو ظهرله ذلك في الدنيا لما اعتمد على سوى ربه الذي لا يعجزه شيء وتمكن من فسحة التوكل واستراح في ظل التفويض وفي الآية إشارة إلى فرار مرء القلب عن أخيه السر وأمه لنفس وأبيه الروح وصاحبته القوى البشرية وبنيه الأعمال والأحوال وإن في ذلك اليوم لا يتخلص أد بعلمله بل بفضله وطوله كما قال عليه السلام ، لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بغفرانه {لِكُلِّ امْرِىاٍ مِّنْهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} استئناف وارد لبيان سبب الفرار والشأن لا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به قال ابن الشيخ أي الهم الذي حصل له قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع فصار بذلك شبيهاً بالغنى في إنه ملك شيئاً كثيراً ودرباب مشغولى قيامت فرد الدين عطار راقدس سره حكايتي منظوم است.
كشتى آورد در دريا شكست
تخته زان جمله بر بالا نشست
كربه وموسشى دران تخته بماند
كارشان بايكدكر بنه بماند
نه ذكر به موش را روى كريز
نه بموش آن كربه رانكال تيز
هردوشان ازهول درياي عجب
در تحير بازماند خشك لب
درقامت نيز اين غوغا بود
يعني آنجاني توونى ما بود
وفي الخبر إن عائشة رضي الله عنهما ، قالت يا رسول الله كيف يحشر الناس قال حفاة عراة قالت وكيف تحشر النساء قال حفاة عراة قالت عائشة واسوأتاه النساء مع الرجال حفاة عراة فقرأ رسول الله عليه السلام هذه الآية لكل امرىء الخ.
وأما الفرار حذراً من مطالبتهم بالتبعات بأن يقول الإنسان واسيتني بمالك والأبوان قصرت في برنا والصاحبة
340
(10/264)
أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون ما علمتنا وما أرشدتنا أو بغضاً لهم كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما إن يفر قابيل منأخيه هابيل ويفر النبي من أمه وإبراهيم من أبيه ونوح من ابنه ولوط من امرأته فليس من قبيل الفرار المذكور وكذا ما يروى إن الرجل بفر من أصحابه وأقربائه لئلا يروه على ما هو عليه من سوء الحال قال بعض المشايخ من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربه وقال يحيى بن معاذ إذا شغلتك نفسك في دنياك وعقباك عن ربك إما في الدنيا ففي طلب مرادها وأتباع شهواتها وإما في الآخرة فكما أخبر الله عنه بقوله : {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم} الخ فمتى تفرغ إلى معرفة ربك وطاعته وقال بعضهم : العارف مع الخلق ولكنه يفارقهم بقلبه كما قيل :
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي
وابحت جسمي من أراد جلوسي
وجوه يومئذٍ مسفرة} بيان لمآل أمر المذكورين وأنقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ أو إن كانت نكرة لكونها في حيز التنوين ومسفرة خبره ويومئذٍ أي يوم إذ يفر لمرء متعلق به أي مضيئة متهللة بنورية ذواتهم وصفاتها من أسفر الصبح إذا أضاء فهو من لوازم الأفعال قال في المفردات : الأسفار يختص باللون ومسفرة أي مشرق لونها وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن ذلك من قيام الليل وفي الحديث "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" وعن الضحاك من آثار الوضوء وقيلم ن طول ما أغبرت في سبيل الله {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} بما تشاهد من النعيم المقيم والهبجة الدائمة.
(قال الكاشفي) : ضاحكة خندان مستبشرة شادمنان وفرحناك بسبب نجات ازنيران ووصول بورضه جنان.
وفي بعض التفاسير ضاحكة مسرورة فرحة لما علم من الفوز والسعادة أو لفراغه من الحساب بالوجه اليسير مستبشرة أي ذات بشارة بالخير كأنه بيان لقوه ضاحكة انتهى.
وفي عين المعاني ضاحكة من مسرة العين مستبشرة من مسرة القلب وقيل : من الكفار شماتة وبأنفسهم فرحاً وقال ابن طاهر رحمه الله كشف عنها سترو الغفلة فضحكت بالدنو من احق واستبشرت بمشاهدته وقال ابن عطاء رحمه الله أسفرت تلك الوجوه بنظرها إلى مولاها وأضحكها رضي الله عنها ، وقال سهل رحمه الله نمورة بنور التوحيدو اتباع السنة.
وفي التأويلات النجمية : وجوه أرباب الأرواح ولأسرار والقلوب العارفين بالمعارف الإلهية والحقائق اللاهوتية مضيئة بأنوار العلوم والحكم ضاحكة مستبشرة بنعم المكاشفات ومنح المشاهدات.
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
يقول الفقير : وجوه يومئذٍ مسفرة لابيضاضها في الدنيا بالتزكية والتصفية وزوال كدورتها ضاحكة لأنها بكت في الله أيام دنياها حتى صارت عيماء عن رؤية ما سوى الله تعالى مطلقاً كما وقع لشعيب ويعقوب عليهما السلام مستبشرة لأمنها بدل خوفها في الدنيا ولذا قال لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة بأن تقول لهم الملائكة لا تخافوا وأبشروا بالجنة والرؤية والضحك انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس
341
ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان ضواحك ويستعمل في السرور المجرد كما في الآية.
قال الراغب : واستبشر أي وجد ما يبشره من الفرح وبشرته أخبرته بسار بسط بشرة وجهه وذلك إن لنفس إذا سرت انتشرت الدم انتشار الماء في الشجرة {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار وكدورة وفي الخبر يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم وقيل هي غبرة الفراق والذل {تَرْهَقُهَا} أي تعلوها وتغشاها {قَتَرَةٌ} أي سواد وظلمة كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما إذا أغر وجه الزنجى.
قال الراغب : القتر هو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما وقترة نحو غبرة وذلك شبه دخان يغشى الوجه من الكذب قال السري قدس سره ظاهر عليها حزن البعاد لأنها صارت محجوبة من الباب مطرودة وقال سهل قدس سره غلب عليها أعراض الله عنها وقته إياها فهي تزداد في كل وقت ظلمة وقترة {أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي أولئك الموصوفون بسواد الوجه وغبرته هم الجامعون بين الكفر والفجور فلذا جمع الله إلى سواد وجوههم الغبرة وفي الحديث : "إن البهائم إذا صارت تراباً يوم اقيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار" وفي عين المعاني أولئك هم الكفرة في حقوق الله الفجرة في حقوق العباد انتهى.
وفيه إشارة إلى أن الفجور الغير المقارن بالكفر ليس في درجة المقارن في المذمومية والسببية للحقارة والخذلان إذ أصل الفجور الكذب والميل عن الحق ويستعمل في الذنب الكبير وكثيراً ما يقع ذلك من المؤمن العاصي لكن ينبغي أن يخاف منه ويحذر عنه لأن كبائر الذنب تجر إلى الكفر كما إن صغائره تجر إلى الكبائر.
(10/265)
يكى از جمله بزركان دين كفته كه اين زر وسيم وأنواع أموال نه عين دنيا ست كه اين ظروف وأوعيه دنياست همنين حركات وسكنات وطاعات بنده نه عين دين است كه آن ظروف وأوعيه دين است دين جمله سوز ودرداست ودنيا همه حسرتوباد سرد است قارون آن همه زر وسيم وأنواع أموال كه داشت مكروه نبود بازاز وون حققو حق تعالى طلب كردند امتناع نمود وحقوق حق نكزارد وكشش أو بجانب زر وسيم وأموال دنيا مكروه بود أي بساكساكه دانكى درخواب نديد وفردا فرعون أهل دنيا خواهد بودكه دل أو آلوده حرص دنياست وأي بساكساكه أموال دنيا در ملك أو نهادند وفردا دل خويش باز ساردكه داغي ازين دنيا بروى ظاهر نبودسر انجام مرد ديندار دنيا كذار اينست كه در آخر سوره كفت وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة وعاقبت كار دنيا كار دين كذار اينست كه كفت وجوه يومئذٍ عليها غبرة الخ وقال بعضهم وجوه أصحاب النفوس المتمردة وأرباب الهوى عليها غبرة الأنانية وبار الأنية يغطيها سواد الاثنينية وظلمة الثنوية هم الذين ستروا وجود الحق بغبرة وجودهم وشقوا وقطعوا نفوسهم المظلمة عن متابعة الأرواح المنورة عصمنا الله وإياكم من ذلك.
342
جزء : 10 رقم الصفحة : 330
تفسير سورة التكوير
تسع أو ثمان وعشرون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 342
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ارتفاع الشمس على إنه فاعل لفعل مضمر يفسره المذكور لأفاعله لأن الفاعل لا يتقدم وعند البعض على الابتداء لأن التقدير خلاف الأصل والأول أولى لأن إذا فيها معنى الشرط والشرط مختص بالفعل وعلى الوجهين الجملة في محل الجر بإضافة إذا إليها ومعنى كورت لفت من كورت العمامة إذا لففتها بضم بعض أجزائها لبعض على جهة الاستدارة على أن المراد بذلك إما رفعها وإزالتها عن مقرها فإن الثوب إذا أريد رفعه عن مكانه وستره بجعله في صندوق أو غيره يلف لفاً ويطوي نحو قوله تعالى : {يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ} فكان بين السماء والرفع علاقة اللزوم فتكويرها كناية عن رفعها قال سعدي المفتي ولام نع من إرادة المعنى الحقيقي أيضاً وكون الشمس كرة مصمتة على تسليم صحته لا يمنع من تلك الإرادة لجواز أن يحدث الله فيها قابلية التكوير بأن يصيرها منبسطة ثم يكورها إن الله على كل شيء قدير انتهى.
وأما لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطار بأن يكون إسناد كورت إلى ضمير الشمس مجازياً أو بتقدير المضاف على إنه عبارة عن إزالتها والذهبا بها بحكم استلزام زوال اللازم لزوال الملزوم فاللف على هذا مجاز عن الإعدام إذ لا مساغ لإرادة المعنى الحقيقي لأن الضوء لكونه من الإعراض لا يتصور فيه اللف ، وقال بعضهم : إن الله قادر على أن يطمس نورها مع بقائها فقول الكشاف لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطاً غير ملفوف فيه نظر انتهى.
وجوابه ما أشير إليه من حكم الاستلزام وقيل معنى كورت ألقيت من فلكها على وجه الأرض كما وصفت النجوم بالانكدار من طعنه فكوره إذا ألقه على الأرض وفي الحديث : إن الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة أي مرميان فيها ولما ذكر هذا الحديث عند الحسن البصري رحمه الله ، قال : وما ذنبهما وقال الامام سؤال الحسن ساقط لأن الشمس والقمر جمادان فالقاؤهما في النار لا يكون سبباً لمضرتهما ولعل ذلك يكون سبباً لازدياد الحر في جهم وكذا قال الطيبي تكويرهما فيها ليعذب بهما أهل النار لا سيما عباد الأنوار لا ليعذبهما في النار فإنها بمعزل عن التكليف بل سبيلهما في النار سبيل النار نفسها وسبيل الملائكة الموكلين بها انتهى.
وكذا قال في تفسير الفاتحة للفناري إن السماء إذا طويت واحدة بعد واحدة يرمي بكواكبها في النار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 343
يقول الفقير : قول الحسن أدق فإن النور لا يلحق بالنار إلا أن يكون فيه مرتبة النارية أيضاً فالشمس يلحق نورها بنور العرش ونارها بنار جهنم وقد سبق في سورة النبأ فارجع فإن قيل كيف يمكن تكويرهما في النار وقد ثبت بالهندسة إن قرص الشمس في العظم يساوي كرة الأرض مائة وستين مرة وربع الأرض وثمنها أجيب بأن الله تعالى قادر على أن يدخلها في قشرة جوزة على ذلك العظم.
يقول الفقير : قد ثبت الله إن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة فتكون أضعاف
343(10/266)
ما كانت عليه على إن وسعة الدارين تابعة لكثرة أهلهما ووسعتهم لأنه ثبت إن ضرس الكافر مثل جبل أحد وجسمه مسيرة ثلاثة أيام فإذا كان جسد كل كافر على هذا الغلظ واعظم فاعتبر منه وسعة هنم فقرص الشمس في النار كجوزة في وسط بيت واسع ولا يعرف حد الدارين إلا الله تعالى وإذا النجوم} جمع نجم وهو الكوكب الطالع وبه شبه طلوع النبات والرأي فبقيل نجم النبت والرأي نجماً ونجوماً فالنجم اسم مرة ومصدر أخرى {انكَدَرَتْ} أي تناثرت وتساقطت بالسرعة كما قال وإذا الكواكب انتثرت والأصل في الانكدار الانصباب فإن السماء تمطر يومئذٍ نجومها فلا يبقى في السماء نجم إلا وقع على وجه الأرض وذلك إن النجوم على ما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيديهم لأنه مات من يمسكها وفيه إشارة إلى طي ضوء شمس الروح الذي هو الحياة وقبضه عن البدن وإزالته وتناثر نجوم الحواص العشر الظاهرة والباطنة وأيضاً إلى تكوير الوجود الإضافي المنعكس من الوجود المطلق الحقيقي عند ظهور الحقيقة وإلى اضمحلال نجوم الهويات وهياكل الماهيات بحيث لا يبقى لها أثر لأنها نسب عدمية واعتبارات محضة {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} رفعت عنه وجه الأرض وأبعدت عن أماكنها بالرجفة الحاصلة لا في الجو كالسحاب فإن ذلك بعد النفخة الثانية والسير المضي في الأرض والتسيير ضربان باختيار وإرادة من السائر نحو هو الذي يسيركم وبقهر وتسخير كتسيير الجبال وفيه إشارة إلى جبال الأعضاء والجوارح الراسيات سيرت عن أرض تعيناتها وأيضاً إلى جبال الأنواع والأجناس الواقعة في عالم التعينات {وَإِذَا الْعِشَارُ} جمع عشراء كنفاس ونفساء وليس فعلاء يجمع على فعال غير عشراء ونفساء كما في "القاموس" والعشراء هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر وهو اسمها إلى أن تضعلتمام السنة وهي أنفس أموال العرب ونمعظم أسباب معاشهم
جزء : 10 رقم الصفحة : 343
{عُطِّلَتْ} العطل فقد إن الزينة والشغل ويقال لمن يجعل العالم بزعمه فارغاً عن صانع اتقنه وزينه ورتبه معطل وعطل الدار عن ساكنيها والإبل عن راعيها والمعنى وإذا العشار تركت مسيبة مهملة غير منظور إليها مع كونها محبوبة مرغوبة عند أهلها لاشتغال أهلها بأنفسهم وذلك عند مجيء مقدمات قيام الساعة فإن الناس حينئذٍ يتركون الأموال والأملاك ويشتغلون بأنفسهم كما قال تعالى : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} وقال الامام أبو الليث غيره هذا على وجه المثل لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء يعني إن هول القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراءلعطلها واشتغلبنفسه لعلهم جعلوا يوم القيامة ما بعد النفخة الثانية أو مبادي الساعة من القيامة لكن يمكن وجود العشراء في المبادي فلا يكون تمثلاً وفيه إشارة إلى النفوس الحاملات أحمال الأعمال والأحوال وأيضاً إلى تعطيل عشار الأرجل المنتفع بها في السير عن الاستعمال في المشي وترك الانتفاع بها وإذا الوحوش} قال في "القاموس" الوحش حيوان البر كالوحيش والجمع وحوش ووحشان والواحد وحشي قال ابن الشيخ
344
هو اسم لما لا يتسأنس بالإنسان من حيوان البر والمكان الذي لا أنس فيه وحش وخلاف الوحشي الأهلي {حُشِرَتْ} أي جمعت من كل جانب واختلط بعضها ببعض وبالناس مع نفرة بعضها عن البعض وعن الناس أيضاً وتفرقها في الصحراى والقفار وذلك الجمع من هول ذلك اليوم وقيل بعثت للقصاص إظهاراً للعدل قال قتادة يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص فإذا قضى بينها ردت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته أو صورته كالطاووس والبلبل ونحوهما فإذا بعثت الحيوانات للقصاص تحقيقاً لمقتضى العدل فكيف يجوز مع هذا إن لا يحشر المكلفون نم الأنس والجن وفيه إشارة إلى القوى البشرية الطبيعية النافرة عن جناب الحق وباب القدس بأن أهلكت وأفنيت وجمعت إلى ما منه بدت {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي أحميت أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً مختلطاً عذبها بملحها وبالعكس فتعم الأرض كلها من سجر التنور إذا ملأه بالخطب ليحميه وجه الإحماء إن جهنم في قعور البحار إلا أنها الآن مطبقة لا يصل أثر حرارتها إلى ما فوقها من البحار ليتيسر انتفاع أهل الأرض بها فإذا انتهت مدة الدنيا يرفع الحجاب فيصل تأثير تلك النيران إلى البحار فتسخن فتصير حميماً لأهل النار أو تبعت عليها ريح الدبور تنفخها وتضربها فتصير نارا على ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في وجه الإحماء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 343
(10/267)
در فتوحات مذكور است كه هركاه كه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما دريارا بديدي كفتي يا بحر متى تعود ناراً ووجه الامتلاء إن الجبار تندك وتفرق أجزاؤهما وتصير كالتراب الهائل الغير المتماسك فلا جرم تنصب أجزاؤها في أسافلها فتمتلىء المواضع الغائرة من الأرض فيصير وجه الأرض مستوياً مع البحار فتصير البحار بحراً واحداً مسجوراً أي ممتلئاً وقال بعضهم : ملئت بآسال عذبها على مالحها ثم أسيلت حتى بلغت الثور فابتلعها فلما بلغت إلى جوفه نفدت وعن الحسن رحمه الله يذهب ماؤها حتى لا يبقى فيها قطرة.
قال الراغب : وإنكا يكون كذلك لتسجير النار فيها أي إضرامها والتشديد في مثل هذه الأفعال قد يكون لتكثير الفعل وتكريره والتخفيف يحتمل القليل والكثير وخصت هذه السورة بسجرت موافقة لقوله سعرت لأن معنى سجرت عند أكثر المفسرين أوقدت فصارت ناراً فيقع التوعد بتسعير النار وتسجير البحار وخصت سورة الانفطار بفجرت موافقة لقوله وإذا الكواكب انتثرت لأن في كل من تساقط الكواكب وسيلان المياه على وجه الأرض وبعثرة القبور أي قلب ترابها مزايلة الشيء عن مكانه فلا في كل واحد قرينه وفيه إشارة إلى بحار المعرفة الذاتية ولحكم الصفاتية والعلوم الإسمائية فإنها إذا اتحدت بالتجلي الوحداني تصير بحراً واحداً وهو بجر الذات المشتمل على جميع المراتب وإلى البحار الحاصلة من اعتبارات الوجود وشؤونه الكلية ظاهراً أو باطناً غيباً وشهدة دنيا وآخرة فإنها قد جمعت واتحدت فصار بحر الوجود بحراً واحداً زخاراً لا ساحل له ولا قعر وإلى بحار العناصر بأنه فجر بعضها إلى بعض واتصل كل جزء بأصله فصارت بحراً واحداً {وَإِذَا النُّفُوسُ} الظاهرنفوس الإنسان ويحتمل أن تعم الجن أيضاً كما في بعض التفاسير {زُوِّجَتْ} التزويج جعل أحد زوجاً لآخر
345
وهو يقتضي المقارنة أي قرنت بأجسادها بأن ردت إليها أو قرنت كل نفس بشكلها وبمن كان في طبقتها في الخير واشر فيضم الصالح إلى لصالح والفاجر إلى الفاجر أو قرنت بكتابها أو بعملها فالنفوس المتمردة زوجت بأعمالها السيئة والمطمئنة بأعمالها الحسنة أو نفوس المؤمنين بالحور ونفوس الكفرة بالشياطين وفيه إشارة إلى أن الأرواح الفائضة على هياكل الأشباح من عالم الأمر قرنت ببواعتها وموجباتها التي هي الأسماء والصفات الإلهية وأسبابها اللاهوتية {وَإِذَا الْمَوْءُادَةُ}
جزء : 10 رقم الصفحة : 343
(10/268)
أي المدفونة حية يقال وأدبنته ئدها وإذا وهي موءودة إذا دفنها في القبر وهي حية وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو الاسترقاق أو لحوق العار بهم من أجلهن وكانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهن قال في "الكشاف" كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى كانت سداسة أي بلغت ست سنين فيقول لامها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهبل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإن ولد ابنا حبسته {سُـاـاِلَتْ} أي سألها الله بنفسه إظهاراً للعدالة أو بأمره للملك {بِأَىِّ ذَنابٍ} من الذنوب الموجبة للقتل عقلاً ونقلاً {قُتِلَتْ} قلها أبوها حية فعلاً أو رضى وتوحية السؤال إليها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته كما في قوله تعالى : [الشعراء : 154]{ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ} ولذا لم يسأل الوائد عن موجب قتله لها وجه التبكيت إن المجني عليه إذا سئل بمحضر من الجانب ونسب إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثاً للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه فيعثر على براءة ساحة صاحبه وعلى إنه هو المستحق لكل نكال فيفحم وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض وهو أبلغ فلذلك اختير على التصريح وإنا قيل قتلت على الغيبة لما إن الكلام أخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب وعلى قراءة سألت أي الله أو قتلها لا حكاية لكلامها حين سئلت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه سئل عن أطفال المشركين فقال لا يعذبون واحتج بهذه الآية فإنه ثبت بها إن التعذيب لاي ستحق إلا بالذنب وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، إن الوائدة والموءودة في النار أي إذا كانت الموءودة بالغة وفيه إشارة إلى أن الأعمال المشوبة بالرياء المخلوطة بالسمعة والهوى سئلت بأي سب أبطلت نوريتها وروحانيتها وأيضاً سئلت موءودة النفس الناطقة التي أثقلتها وآئدة النفس الحيوانية في قبر البدن وأهلكتها بأي ذنب قتلت أي طلب إظهار الذنب الذي به استولت النفس الحيوانية على الناطقة من الغضب أو الشهوة أو غيرهما فمنعتها عن خواصها وأفعالها وأهلكتها فأظهر فكنى عن طلب إظهاره بالسؤال ولهذا قال عليه السلام الوائدة والموءودة في النار لأن النفس الناطقة في النار مقارنة للنفس الحيوانية كذا قال القاشاني :
22222222222222
346
وإذا الصحف نشرت} أي صحف الأعمال فإنها تطوي عند الموت وتنشر عند الحساب أي تفتح فيعطاها الإنسان منشورة بأيمانهم وشمائلهم فيقف على ما فيها وتحصى عليه جميع أعماله فيقول مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وفي الحديث "يحشر الناس عراة حفاة" فقالت أم سلمة رضي الله عنها فكيف بالنساء فقال : "شغل النساء يا أم" سلمة قالت وما شغلهم قال : "نشر الصحف فيها مثاقيل الذرة ومثاقيل الخردل" وقيل : نشرت أي فرقت بين أصحابها وعن مرثد بن وادعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال وفيه إشارة إلى صحائف القوي والنفوس التي فيها هيئات الأعمال تطوي عند الموت وتكوير شمس الروح وتنشر عند البعث والعود إلى البدن {وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ} قلعت وأزيلت بحيث ظهر ما وراءها وهو الجنة والعرش كما يكبشط الإهاب عن الذيحة والغطاء عن الشيء المستور به.
قال الراغب : هو من كشط الناقة أي تنحية الجلد عنها منه استعير انكشط روعه أي زال وفيه إشارة إلى كشط سماء الأرواح عن أرض الأشباح وإلى طي ظهور الأسماء والصفات إلى البطون والخفاء {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي أوقدت للكافرين إيقاداً شديداً لتحرقهم إحراقاً أبدياً سعرها غضب الله وخطايا بني آدم فأسعار النار زيادة التهابها لا حدوثها ابتداء وبه يندفع احتجاج من قال النار غير مخلوقة الآن لأنها تدل على أن تسعرها معلق بيوم القيام وذلك لأن فيه الزيادة والاشتداد وفيه إشارة إلى جحيم الخسران والخذلان فإنها أوقدت بالحطاب الأعمال السيئة وأحجار الأحوال القبيحة خصوصاً نار لغضب والشهوة التي كانوا عليها في هذه النشأة {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} الأزلاف التقريب بالفارسية تزديك كردن.
(10/269)
أي قربت من المتقين ليدخلوها كقوله تعالى : [التكوير : 14]{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} وعن الحسن رحمه الله إنهم يقربون منها لا إنها تزول عن موضعها فالمراد من التقريب التعكيس للمبالغة كما في قوله تعالى : ويوميعرض الذين كفروا على النار حيث تعرض النار عليهم تحقيراً وتحسيراً فقلب مبالغة ويحتمل أن يكون المراد التقريب المعنوي وهو جعل أهلها مستحقين لدخولها مكرمين فيها وفيه إشارة إلى تقريب نعيم آثار الرضى واللطف من المتقين وكذا جنة الوصول والوصال لمحبي الجمال والكمال كما قيل هذه اثنتا عشر خصلة ست منها في الدنيا أي فيما بين النفختين وهن من أول السورة إلى قوله وإذا البحار سجرت على أن المراد بحشر الوحوش جمعها من كل ناحية لا بعثها للقصاص وسعت في الآخرة أي بعد النفخة الثانية وقال أبي بن كعب رضي الله عنه ، ست آيات قبل القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبيناهم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينماهم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت وفزعت الجن إلى الإنس والأنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحوش وماج بعضهم في بعض فحينئذٍ تقول الجن للأنس نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إلى البحر فإذا هو نار
347
تتأجج أي نتهلب قال فبينماهم كذلك إذ صدعت الأرض دعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا فبيناهم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم كذا في المعالم علمت نفس ما أحضرت} أي علمت كل نفس من النفوس ما أحضرته على حذف الراجع إلى الموصول فنفس في معنى العموم كما صرح به في قوله تعالى يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضراً وقوله هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وقولهم إن النكرة في سياق الإثات لا تعم بل هي للإفراد النوعية غير مطرد ويجوز أن يكون التنوين للإفراد الشخصية إشعاراً بأنه إذا علمت حينئذٍ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي التي علمت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك إن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوقوع بل تريد إن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمراً يرجى فيه الندم أو قلما يقع فيه فكيف به إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والشر وبحضورها إما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وإما حضور أنفسها لأن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة وإسناد حضورها إلى النفس مع إنها تحضر بأمر الله لما إنه عملتها في الدنيا كأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها حينئذٍ إنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تشاهدها عليه في الدنيا لأن الطامات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وقد ورد حفت الجنة بالمكاره وإن كانت سيئة تشاهدها على ما هي عليه ههنا لأنها كانت مزينة لها موافقة لهواها كما ورد وحفت النار بالشهوات وقال بعضهم : العلم بالأعمال كناية عن المجاراة عليها من حيث إن العلم لازم للمجازاة وقوله علمت الخ جواب إذ على أن المراد بها زمان واحد متسع محيط بما ذكر من أول السورة إلا هنا من الاثني عشر شيئاً مبدأ النفخة الأولى ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى إنها تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية نم تلك الودهي بل عند نشر الصحف إلا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها نم روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال وعن عمر وابن عباس رضي الله عنهم إنهما قرأ السورة فلما بلغا إلى قوله علمت نفس ما أحضرت قالا لهذه أجريت القصة وعن ابن مسعود رضي الله عنه إن قارئاً قرآها عنده فلما بلغ علمت نفس ما أحضرت قال وانقطاع ظهراه أي قاله خوفاً من القيامة ومجازاة الأعمال.
در آنروز هر نفسي بيندكه باهر خيري كرامتي وعطاييست وباهر شرى ملامتي وجزايي برنيكى حسرت خوردكه را زياده نكردم وبريدى اندوه كشدكه را مباشر شدم وآن حسرت واندوه هي فائده نداود.
توامروز فرصت غنيمت شمار
كه فردا ندامت نيايد بكار
بكوش أي تواناكه فرمان برى
كه در ناتواني بسى غم خورى
348
(10/270)
وفي الحديث العبد المؤمن بين مخافتين عمر قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزود العبد لنفسه من نفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الممات فوالله ما بعد الموت من مستعتب ما بعد الدنيا إلا الجنة والنار وقال الواسطي قدس سره في الآية علمت كل نفس وأيقنت إن ما علمت واجتهدت لا صلح لذلك المشهد وإن من أكرم بخلع الفضل نجا ومن قرن بجزاء ماله هلك وخاب وفي برهان القرآن هنا علمت نفس ما أحضرت وفي الانفطار وما قدمت وأخرت لأن ما في هذه السورة متصل بقوله وإذا القبور بعثرت والقبور كانت في الدنيا فتتذكر ما قدمت في الدنيا وما أخرت للعقبى فكل خاتمة لائقة بمكانها وهذه السورة من أولها إلى آخرها شرط وجزاء وقسم وجواب {فَلا أُقْسِمُ} لا صلة أورد لكلا سابق أي ليس الأمر كما تزعمون أيها الكفرة من أن القرآن سحر أو شعر أو أساطير ثم ابتدأ فقال اقسم {بِالْخُنَّسِ} جمع خانس وهو المتأخر م خنس الرجل عن القوم خنوساً منباب دخل إذا تأخر وأصل الخنوس الرجوع إلى خلف والخناس الشيطن لأنه يضع خروطومه على قلب العبد فإذا كذر الله خنس وإذا غفل عاد إلى الوسوسة والمعنى اقسم بالكواكب الرواجع وهي ما عدا النيرين من الدراري اخمسة وهي المريخ بالكسر ويسمى بهرام أيضاً وزخل ويسمى كيوان أيضاً وعطارد ويسمى الكاتب أيضاً والزهرة وتسمى أناهيذ أيضاً والمشتري ويسمى روايس وبرجيس أيضاً وما من نجم يقطع المجرة غير الخمسة فلذا أخضها ونظمها بعضهم والنيرين فقال :
فت كوكب كه هست كبتي را
كاه ازيايشان مدار وكاه خلل
قمرست وعطارد وزهره
شمس ومريخ ومشتري وزحل
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص349 حتى ص360 رقم36
وهي الكواكب السبعة السيارة كل منها يجري في فلك فالقمر في الأول وما يليه ، في الثاني وهكذا على الترتيب {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} الجواري جمع جارية بمعنى سائر والكنس جمع كانس وهو الداخل في الكناس المستتر به وصفت الخنس بهما لأنها تجري في أفلاكها أو بأنفسها على ما عليه أهل الظواهر مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفي تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بيتاً ترى النجم في آخر البرج اذكر راجعاً إلى أوله فرجوعه من آخر البرج إلى أوله هو الخنوس وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وأما القمر إن فلا يكنسان بهذا المعنى ، قال في عين المعاني : لخنوسها في مجراها واستتارها في كناسها أي موضع استتارها فيه كما تكنس الظباء انتهى.
من كنس الوحش منباب جلس إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر وقيل جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
وفي التأويلات النجمة يشير إلى الحواس الخمس الباطنة السيارة مع شمس الروح وقمر القلب لرواجع إلى بروجها بالاختفاء بحسب شعاع شمس الروح وقمر القلب لغبة أشعتهما عليهن والدراري الخمسة الزهرة وعطارد والمشتري
349
وبهرام وزحل ومظاهر الحواس الخمس والشمس مظهر الروح والقمر مظهر القلب {وَالَّيْلِ} عطف على الخنس {إِذَا عَسْعَسَ} أي أدبر ظلامه لأن بال الصبح يكون بإدبار الليل كما قال في الوسيط لما كان طلوع الصبح متصلاً بإدبار اليل كان المناسب أن يفسر عسعس بأدبر ليكون التعاقب في الذكر على حسب التعاقب في الوجود انتهى.
أو أقبل فإنه من الأضداد كذلك سعسع وذلك في مبدأ الليل وهذا المعنى أنسب لمراعاة المقابلة مع قرينه {وَالصُّبْحِ} عطف عليه أيضاً {إِذَا تَنَفَّسَ} آنكاه دم زند يعني طلوع كند وتنفس أو مبدأ طلوعتس.
والعامل في إذا معنى القسم وإذا وما بعدها في موضع الحال اقسم الله بالليل مدبراً وبالصبع مضيئاً يقال تنفس الصبح إذا تبلج أي أضاء وأشرق جعل تنفس الصبح عبارة عن طلوعه وانبساطه تحت ضوئه بحيث زال معه عسعسة الليل وهي الغبرة الحاصلة في آخره والنفس في الأصل ريح مخصوص يروح القلبو يفرج عنه بهبوبه عليه وفي الحديث : "لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" أي مما يفرج الكرب شبه ما يقبل بإقبال الصبح من الروح والنسيم بذلك الربح المخصوص المسمى بالنفس فأطلق اسم النفس عليه استعارة فجعل الصبح متنفساً بذلك ثم كنى بتنفسه بذلك عن إقبال المصبح وطلوعه وإضاءة غبرته لأن المتنفس بالمعنى المذكور لازم له فهو كتابة متفرعة على الاستعارة.
قال القاشاني : والليل أي ليل ظلمة الجسد الميت إذا أدبر بابتداء ذهاب ظلمته بنور الحياة عند تعلق الروح به وطلوع نور شمسه عليه والصبح أي أثر نور طلوع تلك الشمس إذا انتشر في البدن بإفادة الحياة.
(10/271)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى ليل الطبيعة المتشعشة عن ظلام غيب البشرية باتباع أحكام الشريعة ومخالفات رار الطبيعة وإى صبح نهار الروحانية إذا كشف وأظهر آدابالطريقة ورسوم الحقيقة وهو أعظم الأقسام وأفضل الإيمان {إِنَّهُ} الضمير للقرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به أي القرآن الكريم الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وهو جواب القسم وجه القسم بهذه الأشياء إن فيها ظهور كمال الحكمة وجلال القدرة.
يقول الفقير : سر الأقسام بها إن القرآن نور من الله فلا يرد إلا عى القلب النوراني الذي هو بمنزلة الشمس على القوى الروحانية التي هي بمنزلة سائر السيارات المضيئة وهذه الأنوار لا تظهر في الوجود الإنساني إلا بزوال آثار الطبيعة والنفس وظهور آثار القلب والروح فإذا أشرقت أنوار الروح وقواه في ليل الوجود أضاء جميع ما في الوجود وزال الظلام {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو جبريل عليه السلام ، قاله من جهة الله قال السهيلي ولا يجوز إنه أراد به إنه قول النبي عليه السلام ، وإن كان النبي عليه السلام رسولاً كريماً لأن الآية نزلت في معرض الرد والتكذيب لمقالة لكفار الذين قالوا إن محمداً عليه السلام ، بقوله وهو قوله فقال الله تعالى إنه لقول رسول كريم فأضافه إلى جبريل الذي هو أمين وحيه وهو في الحقيقة قول الله لكنه أضيف إلى جبريل لأنه جاء به من عند الله فإسناده إليه باعتبار السببية الظاهرة في الإنزال والإيصال ويدل
350
على أن المراد بالرسول هو جبريل ما بعده من ذكر قوته ونحوها وصفه برسلو لأنه رسول عن الله إلى الأنبياء وبكريم أي على ربه عزيز عظيم عنده وكذا عند الناس لأنه يجيء بأفضل العطايا وهو المعرفة والهداية ويتعطف على المؤمنين ويقهر الأعداء {ذِى قُوَّةٍ} شديدة كقوله تعالى : [النجم : 5-20]{شَدِيدُ الْقُوَى} أذي قدرة على ما يكلف به لا عجز له ولا ضعف روى إنه عليه السلام ، قال لجبريل ذكر الله قوتك فأخبرني بشي من آثارها قال رفعت قريت قوم لوط الأربع من الماء الأسود بقوادم جناحي حتى سمع أهل السماء نباح الكلب وأصوت الديكة ثم قلبتها ومن قوته إنه صباح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وإنه يهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف وإنه رأى أن شيطاناً يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد إن يتعرض للنبي فدفعه دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند وكذا راه يكلم عيسى عليه السلام ، على بعض الأرض المقدسة فنفخه نفخة واحدة ألقاه إلى أقصى جبل الهند وقيل المراد القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف وفيه إشارة إلى صفة الروح فإنه ذو سلطنة على جميع الحقائق الكائنة في المملكة الإنسانية عند ذي العرش} أي الله تعالى وفي اراد ذي العرش أخبار بغاية كبريائه في القلوب وعند ظرف لما بعده في قوله {مَكِينٍ} ذي مكانة رفيعة عند عندية رام وتشريف لا عندية مكان فإنه تعالى متعال عن أمثالها ونحوه إنا عند المنكسرة قلوبهم فإن المراد به القرب والإكرام ومن مكانته عند الله ومرتبته إنه تعالى جعله تالي نفسه في قوله فإن الله هو مولاه وجبريل فله عظم منزلة عندية فأين منزلة من يلازم السلطان عند سرير الملك من مرتبة من يلازمه عند الوضوء ونحوه {مُّطَاعٍ} فيما بين الملائكة المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه لعلمهم بمنزلته عند الله قال في "فتح الرحمن" ومن طاعتهم إنهم فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وطاعة جبريل فريضة على أهل السموات كما أن طاعة محمد عليه السلام فريضة على أهل الأرض وفيه إشارة إلى أن الروح مطاع فيما ين القوى بالنسبة إلى السر والقلب {ثَمَّ أَمِينٍ} على الوحي قد عصمه الله من الخيانة والزلل وثم بفتح الثاه ظرف مكان لما قبله أي مطاع هناك أي في السموات وقيل لما بعده أي مؤتمن عند الله على وحيه ورسالاته إلى الأنبياء فيكون إشارة إلى عند الله وقرىء ثم بضم الثاء تعظيماً لوصف الأمانة وتفصيلاً لها على سائر الأوصاف فيكون للتراخي الرتبي على طريق الترقي من صفاته الفاضلة إلى ما هو أفضل وأعظم وهو الأمانة.
(قال الكاشفي) : واكر رسول كريم محمد باشد عليه السلام س أو صاحب قوت طاعت ونزديك خداي خداوند قدر ومكانتست ومطاع.
يعني مستجاب الدعوة ولذا قال له عمه أبو طالب ما أطوعك ربك يا محمد فقال له وأنت يا عم لو أطعته أطاعك وأمين يعني برا أسرار غيب.
وفيه إشارة إلى أن الروح أمين في إفاضة الفيض الروحي على كل أحد بحسب استعداده الفطري {وَمَا صَاحِبُكُم} يا أهل مكة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلّم عطف على جواب القسم ولذا قال في "فتح الرحمن" وهذا أيضاً جواب القسم {بِمَجْنُونٍ}
351
(10/272)
كما تقولون والتعرض لعنوان المصاحبة للتلويح بإحاطتهم بتفاصيل أحواله عليه السلام ، خبراً وعلمهم بنزاهته عما نسبوه إليه بالكلية فإنه كان بين أظهرهم في مدد متطاولة وقد جربوا عقله فوجدوه أكمل الخلائق فيه ولقبوه بالأمين الصادق وقد استدل به على فضل جبرائيل على رسول الله حيث وصف جبريل بست خصال كل واحدة منها تدل على كمال الشرف ونباهة الشأن واقتصر في ذكر رسول الله على نفي الجنون عنه وبين الذكرين تفاوت عظيم وهذا الاستدلال ضعيف إذا لمقصود رد قول الكفرة في حقه عليه السلام ، "يا أيها الذين نزلع ليه الذكر إنك لمجنون" لاتعداد فضائلهما والموزنة بينهما على أن توصيف جبريل بهذه الصفات بياناً لشرف سيد المرسلين بالنسبة إليه من حيث إن جبريل مع هذه الصفات هو الذي يؤيده ويبلغ الرسالة إليه فأي رتبة أعلى من مرتبته بعدما ثبت أن السفير بينه وبين ي العرش مثل هذا الملك المقرب وقال سعدي : المفتي الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة على ما يل عليه الفاء السببية في قوله فلا أقسم ولا شك إن ذلك يقتضي وصف الآتي به لذلكبولغ فيه دون وصف من أنزل عليه فلذلك اقتصر فيه على نفي ما بهتوه وفيه إشارة إلى أن الروح ليس بمجنون أي بمستور عن حقائق القرآن ودقائقه وأحكامه وشرائعه ووعده ووعيده بل هو مكشوف له بجميع أسراره {وَلَقَدْ رَءَاهُ} وبالله لقد رأى رسول الله جبريل وفي "عين المعاني" أبصره لا جنياً {بِالافُقِ الْمُبِينِ} أفق السماء ناحيتها والمبين من أبان اللازم بمعنى الظاهر بالفارسية روشن.
أي بمطلع الشمس الأعلى من ناحية المشرق فالمراد بالأفق هنا حيث تطلع الشمس استدلالاً بوصفه بالمبين فإن نفس الأفق لا مدخل له في تبين الأشياء وظهورها وإنما يكون له مدخل في ذلك من حيث كونه مطلعاً لكوكب نير يبين الأشياء والكوكب المبين هو الشمس وإسادا لإبانة إلى مطلعها مجاز باعتبار سببيته لها في الجملة فإن اليبان في الحقيقة لضياء الطالع منه ثم خص من بين المطالع ما هو أعلى المطالع وأرفعنها وهو المطلع الذي إذا طلعت الشمس منه تكون في غاية الارتفاع والنهار في غاية الطول والامتداد وذلك عند ما تكون الشمس عند رأس السطان قبيل تحولها إلى برج الأسد وتوجه النهار إلى الانتقاص وإنما فعل ذلك حملاً للمبين على الكمال فإنه كلما كان الكوكب أرفع وأعلى وكلما كان النهار أطول كان البيان والإظهار أتم وأكمل روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل جبريل إن يتراآى له في صورته التي خلقه الله عليها فقال ما أقدر على ذلك وما ذاك إلي فإذن له فأتاه عليها وذلك في جبل حراء في أوائل البعثة فرآه رسول الله قد ملأ الآفاق بكلكله رجلاه في الأرض ورأسه في السماء جناح له بالمشرق وجناح له بالمغرب وله ستمائة جناح من الزبرجد الأخضر فغشى عليه فتحول جبريل في صورة بني آدم وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه فقيل لرسول الله ما رأيناك منذ بعثت أحستن منك اليوم فقال عليه السلام ، جاءني جبريل في صورته فعلق بي هذا من حسنه قالوا ما رآه أحد من الأنبياء غيره عليه اسلام ، في صورته التي جبل عليها فهو من خصائصه عليه السلام.
واعلم أن وقوع الغشيان إنما هو من
352
كمال العلم والاطلاع ألا ترى إلى قوله تعالى : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فإن توليه وامتلاءه من الرع ليس عن رؤية أجسامهم فقط لأنهم أناس مثله وإنما هو لما أطله الله عليه حين رويتهم من العلم كما غشى على جبريل ليلة الإسراء حين رأى الرفرف وم يغش على رسول الله ، وقال عليه السلام : فعلمت فضل جبريل في العلم فكأنه عليه السلام أشار إلى فضل نفسه أيضاً لما غشى عله برؤية جبريل عى صورته الأصلية وإنما لم يغش عليه حين رأى الرفرف كما غشى على جبريل لأنه إذ ذاك في نهاية التمكين وفرق بين البداية والنهاية والله أعلم.
قال القاشاني : ولقد رآه بالأفق المبين أي نهاية طور القلب الذي يلي الروح وهو مكان القاء النافث القدسي على أن المراد بالرسول روح القدس النافث في روع الإنسان.
وقال في التأويلات النجمية : أي رأى جبريل الروح حضرة ربه عند أفق البقاء بعد الفناء وما هو} أي رسول الله {عَلَى الْغَيْبِ} أي على ما يخبره من الوحي إلي وغيره من الغيوب {بِضَنِينٍ} أي ببخيل أي لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير مبلغه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً أي أجرة أو يسأل تعليمه فلا يعلمه وفيه إشارة إلى أن إمساك العلم عن أهله بخل منضن بالشيء ضن بالفتح ضناً بالكسر وضنانة بالفتح أي بخل فهو ضنين به أي بخيل ويضن بالكسر لغة والفتح أفصح ذكره البيهقي في تهذيب المصادر في باب ضرب حيث قال الضن : والضنانة بخيلى كردن.
(10/273)
والغابر يضن والفتح أفصح فيكون من باب علم كما صرح به بعضهم بقوله هو من ضننت بالشيء بكسر النون وهو قراءة نافع وعاصم وحمزة وابن عامر قال في النشر كذلك هو في جميع المصاحف أي المصاحف التي يتداولها الناس وإلا فهو في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بالظاء وقرىء بظنين على إنه فعيل بمعنى المفعول أي بمتهم أي هو ثقة في جميع ما يخبره لا يتوهم فيه إنه ينطق عن الهوى من الظنة وهي التهمة واتهمت فلاناً بكذا توهمت فيه ذلك اختار أبو عبيدة هذه القراءة لأن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفى التهمة أولى من نفى البخل ولأن البخل يتعدى بالباء لا بعلي.
وفي "الكشاف" هو في مصحف عبد الله بالظاء وفي مصحف أبي بالضاد وكان رسول الله عليه السلام يقرأ بهما ولا بد للقارىء من معرفة مخرجي الضاد والظاء فإن مخرج الضاد من أصله حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ومخرج الظاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا فإن قيل فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان الآخر قلنا قال في "المحيط البرهاني" إذا أتى بالظاء مكان الضاد أو على العكس فالقياس أن تفسد صلاته وهو قول عامة المشايخ وقال مشايخنا بدم الفساد للضرورة في حق العامة خصوصاً العجم فإن أكثرهم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقا غير صواب وفي "الخلاصة" لو قرأ بالظاء مكان الضاد أو بالضاد مكان الظاء تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد وإما عند عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة لا تفسد صلاته {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ} أي قول بعض المسترقة للسمع دل عليه توصيفه بالجريم لأنه بمعنى المرمى بالشهب وهو نفي لقولهم
353
إنه كهانة وسحر كما قال وما تنزلت به الشياطين وفيه إشارة إلى إنه ليس محمد القلب عند الأخبار عن المواهب الغيبية ولإلهامات السرية بمتهم بالكذب والافتراء وما هو بقول بعض القوى البشرية {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور إه وحي مبين وليس مما يقولون في شيء كما تقول لمن ترك الجادة بعد ظهورها هذا الطريق الواضح فأين تذهب شبهت حالهم بحال من يترك الجادة وهو معظم الطريق ويتعسف إلى غير المسلك فإنه يقال له أين تذهب استضلالاً له وإنكاراً على تعسفه فقيل لمن يقول في حق القرآن ما لا ينبغي من وضوح كونه وحياً حقاً أي طريق تسكلون آمن من هذه الطريقة التي ظهرت حقيتها ووضحت استقامتها وأين ظرف مكان مبهم منصوب بتذهبون قال أبو البقاء التقدير إلى أين فحذف حرف الجر ويجزو أن لا يصار إلى الحذف بل إلى طريق التضمين فكأنه قيل أين تؤمون وقال الجنيد قدس سره أين تذهبون عنا وإن من شيء إلا عندنا.
وفي التأويلات النجمية : فأين تذهبون من طريق الحق إلى طريق الباطل وتركون الاقتداء بالروح وتختارون اتباع النفوس {إِنْ هُوَ} إن نافية والضمير إلى القرآن أي ما هو {إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} موعظة وتذكير لهم والمراد الإنس والجن بدلالة العقل فإنهم المحتاون إلى الوعظ والتذكير {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ} أيها المكلفون بالإيمان والطاعة وهو بدل من العالمين بإعادة الجار بدل البعض من الكل ولا تخالف بين الأصل المتبوع والفرع التابع لأن الأول باعتبار الذات والثاني باعتبار التبع {أَن يَسْتَقِيمَ} مفعول شاء أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين مع إنه ذكر شامل لجميع المكلفين لأنهم هم المنتفعون بالتذكير دون غيرهم فكأنه مختص بهم ولم يوغظ به غيرهم {وَمَا تَشَآءُونَ} أي الاستقامة مشيئة مستتبعة لها في وقت من الأوقات يا من يشاؤها وذلك إن الخطاب في قوله لمن شاء منكم يدل على إن منهم من يشاء الاستقامة ومن لا يشاؤها فالخطاب هنا لمن يشاؤها منهم يروى أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم قال الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم وهو رأس القدرية فنزل قوله تعالى : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} من إقامة المصدر موقع الزمان أي إلا وقت أن يشاء الله تلك المشيئة المستتبعة للاستقامة فإن مشيئتكم لا تستبعها بدون مشيئة الله لها لأن الشميئة الاختيارية مشيئة حادثة فلا بدلها من محدث فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها فظهر إن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فأفعال اعباد ثبوتاً ونفياً موقوفة الحصول على مشيئة الله كما عليه أهل السنة {رَبُّ الْعَـالَمِينَ} مالك الخلق ومربيهم أجمعين بالأرزاق الجسمانية والروحانية وفي الحديث القدسي يا ابن آدم تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد قال وهب بن منبه قرأت في كتب كثيرة مما أنزل الله على الأنبياء إنه من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر قال أبو بكر الواسطي قدس سره أعجزك في جميع
354
(10/274)
صفاتك فلا تشاء إلا في مشئته ولا عمل إلا بقوته ولا تطيع إلا بفضله ولا تعصى إلا بخذلانه فماذا يبقى لك وبماذا تفتخر من أعمالك وليس منها شيء إليك إلا بتوفيقه وبالفارسية حق تعالى ترا درهمه وصفها عاجز ساخته است نخواهى مكر بمشيت أو ونكنى مكر بقوت أو وفرما نبرى مكر بفضل أو وعاصي نشوى مكر بخذلان أو س توه داري وبكدام فعل مى نازي وحا آكه ترا هي نيست.
زسرتا اهمه در يم ي
ه اه سرهمه هييم درهي
وفي الحديث من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقتد فإن فيها يبان أهواله الهائلة على التفصيل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 343
تفسير سورة الانفطار
تسع عشرة آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 354
{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلا} أو لهيبة الربو في فتح الرحمن تشققها على غير نظام مقصود إنما هو انشقاق لنزول بنيتها وإعرابه كإعراب إذا الشمس كورت.
وفي التأويلات النجمية : يعني سماء الأرواح والقلوب والأسرار اتفعت تعيناتها وزالت تشخصاتها.
وقال القاشاني : أي إذا انفطرت سماء الروح الحيواني بانفراجها عن الروح الإنساني وزوالها بالموت وإذا الكواكب انتثرت} أي تساقطت من مواضعها سوداء متفرقة كما تتساقط اللآلىء إذا انقطع السلك وهذان من أشراط الساعة متعلقان بالعلويات فإن السماء ف يهذا العالم كالسقف والأرض كالبناء من أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولاً بتخريب السقف وذلك هو وله إذا السماء انفطرت ثم يلزم من تخريب السماء نتثار الكواكب وفيه إشارة إلى انتثار كواكب الحواس العشر الظاهرة والباطنة وذهابها بالموت الطبيعي فإنه إذا انقطع ضوء الروح عن ظاهر البدن وباطنه تعطل الحواس مطلقاً وكذا بالموت الإرادي {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فتح بعضها إلى بعض بزوال المانع وحصول تزلزل الأرض وتصدعها واستوائها وصارت البحار وهي سبعة بحر الروم وبحر الصقالبة وبحر جرجان وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الصين وبحر الهند بحراً واحداً فيصب ذلك البحر في جوف الحوت الذي عليه الأرضون السبع كما في "كشف الأسرار" وروى إن الأرض تنشف من الماء بعدا متلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عند الحسن البصري ودخل في البحار البحر المحيط لأنه أصل الكل إذ منه يتفرع الباقي وكذا الأنهار العذبة فإنها بحار أيضاً التوسعها وفيه إشارة إلى بحار الأرواح والأسرار والقلوب حيث فجرت بعضها في بعض بالتجلي الإحدى وصارت بحراً واحداً وإلى بحار الأجسام العنصرية حيث فجرت بعضها في بعض بزال البرازخ الحاجزة عن ذاب كل إلى أصله وهي الأرواح الحيوانية المانعة عن خراب البدن ورجوع
355
أجزائه إلى أصلها {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} قلب ترابها وأخرج موتاً ولا يخالف ما سيجيء في العاديات فإن البعثرة تجيء بمعنى الاستخراج أيضاً أي كالقلب وفي تاج المصادر البعثرة شورانيدن وآشكارا كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
ولذا قال بعضهم بالفارسية وآنكاه كه كورها زيروزبر كرده شود يعني خاكهارا بشورانند تامدفونات وى ازاموات وكنجها ظاهر كردد ومردكان زنده شوند.(10/275)
ونظيره بحثر لفظاً ومعنى يقال بعثرت المتاع وبحثرته أي جعلت أسفله أعلاه وجعل أسفل القبور أعلاها إنما هو بإخراج موتاها وقيل لسورة براءة المبعثرة لأنها بعثرت أسرار المنافقين وهما أي بعثر وبحثر مركبان من البعث والبحث مع راء ضمت إليهما.
وقال الراغب : من رأى تركيب الرباعي والخماس نحو هلل وبسمل إذا قال لا إله إلا الله وبسم الله يقول أن بعثرم ركب من بعث وأثير أي قلب ترابها وأثير ما فيها وهذا لا يبعد في هذا الحرف فإن البعثرة تتضمن معنى بعث وأثير وهذان من أشراط الساعة متعلقان بالسفليات فإنه تعالى بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض بنفوذ بعض البحار في بعض ثم يخرب نفس الأرض التي هي كالبناء بأن يقلبها ظهر ابطن وبطناً لظهر وفيه إشارة إلى راب قبور التعينات وصيرورة المتعين مطلقاً عن التعينات لأن التعينات قبو الحقائق المطلقة وإلى قبور الأبدان فإنها تخرج ما فيها من الأرواح والقوى بالموت {عَلِمَتْ نَفْسٌ} أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما سبق في السورة السابقة وفي "فتح الرحمن" نفس هنا اسم الجنس وأفرادها ليبين لذهن السامع حقارتها وقلتها وضعفها عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى {مَّا قَدَّمَتْ} في حياتها من علم خير أو شر فإن ما من ألفاظ العموم {وَأَخَّرَتْ} من سنة حسنة أو سيئة يعلم با بعده قال عليه السلام : أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجر من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى الضلالة فاتبع فله مثل أوزار من اتبعه إلا أنه لا ينقص من أوزارهم شيء أو م دم من معصية وما أخر من طاعة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
وفي التأويلات النجمية : علمت نفس ما قدمت أخرجت من القوة إلى الفعل بطريق الأعمال الحسنة أو السيئة وما أخرت أبقت في لقوة بحسب النية قوله علمت الخ جواب إذاأمي إذا وقعت هذه الأشياء وخربت الدنيا علمت كل نفس الخ لكن لا على إنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت في السورة السابقة من أن المراد بها زمان واحد مبدأه النفخة الأولى ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة حسب تعدد كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حزيها من الدواهي فالمراد العلم التفصيلي الذي يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة وأما العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان البعث والحشر لأن المطيع يرى آثار السعادة العاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر قال ابن الشيخ في حواشيه العلم بجميع ذلك كناية عن المجازاة عليه والمقصود من الكلام الزجر عن المعصية والترغيب في الطاعة يا اأَيُّهَا الانسَـانُ} يعم جميع العصاة ولا خصوص له بالكفار لوقوعه بين المجمل ومفصله أي بي علمت نفس الخ وبين إن الأبرار الخ وأما قوله بل تكذبون بالدين فمن قبيل بنوا فلان قتلوا
356
(10/276)
زيداً إذا كان القاتل واحداً منهم قال الامام السهيلي رحمه الله قوله : يا أيها الإنسان يريد أمية بن خلف ولكن اللفظ عام يصلح له ولغيره وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة أو الأسود بن كلدة المحي قصد النبي عليه السلام في بطحاء مكة فلم يتمكن منه فلم يعاقبه الله على ذلك وفي زهرة الرياض ضرب على يافوخ رسول الله عليه السلام ، فأخذه رسول الله وضربه على الأرض فقال له يا محمد الأمان الأمان مني الجفاءو منك الكرم فإني لا أوذيك أبداً فتركه رسول الله عليه السلام {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ما استفهامية في موضع الابتاء وغرك خبره والاستفهام بمعنى الاستهجان والتوبيخ والمعنى أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه وأمنك من عقابه وقد علمت ما بين يديك من الدواهي وما سيكون حينئذٍ من مشاهدة أمالك كلها يقال غره بفلان إذا جرأه عليه وأمنه المحذور من جهته مع إنه غير مأمون والتعرض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدار الاغترار حسبما يغويه الشيطان ويقول له أفعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة فإن قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان كأنه قيل ما حملك على عصيان ربك الموصوف بالصفات الزاجرة عن الداعية ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قرأها غره جهله وقال الحسن البصري رحمه الله غره والله شيطنه فظهر أن كرم الكريم لا يقتضي الاغترار به بل هو يقتضي الخوف والحذر من مخالفته وعصيانه من حيث إن إهمال الظالم ينافي كونه كريما بالنسبة إلى المظلوم وكذا التسوية بين الموالي والمعادي فإذا كان محض الكرم لاي قتضي الاغترار به فكيف إذا انضم إليه صفة القهر ولله الأسماء المتقابلة ولذا قال نبيء عبادي إني أنا الغفور الرحيم وإن عذابي هو العذاب الأليم.
قال القاشاني : كان كونه كريما يسوغ الغررو ويسهله لكن له من النعم الكثيرة والمنن العظيمة والقدرة الكاملة ما يمنع من ذلك أكثر من تجويز اكرم إياه وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله ، إن أقامك الله يوم القيامة وقال مالك ما غرك بربك الكريم ماذا تقول قال أقول غرتني ستورك المرخاة ونظمه ابن السماك فقال :
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
يا كاسب الذنب أما تستحي
والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله
وستره طول مساويكا
قال صابح الكشاف قول الفضيل على سبيل الاعتراف بالخطا في الاغترار بالستر وليس بعتذار كما يظنه الطماع ويظن به قصاص الحشوية ويرونه من أئمتهم إنما قال بربك الكريم دون صفاته من الجبار والقهار والمنتقم وغير ذلك ليلقن عبده الجواب حتى يقول غرني كرم الكريم.
يقول الفقير : الحق إن هذا الباب مما يقبل الاختلاف بالنسبة إلى أحوال الناس فلي من يفهم الإشارة كمن لا يفهما وكم من فرق بين ذنب وذنب وظن وظن ولذا قال أهل الإشارة إيراد الاسم الكريم من بين الأسماء كأنه من جهة التلقين.
357
خود تو دادي مده لا تقسطوا
من را ترسم زعصيان عتو
ون توهر شكسته راسازي درست
س خطاها بر آميد عفوتست
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله غرني برك سالفا وآنفا.
يقول مولاي أما تستحي
مما أرى من سوء أفعالك
فقلت يا مولاي رفقا فقد
أفسدني كثرة أفضالك
وعن علي رضي الله عنه إنه صوت بغلام له مراراً فلم يجبه وهو بالباب فقال لم لم تجبني فقال لثقتي بحلمك وأمتي من عقوبتك فأعتقه إحساناً لقوله وقال بعض أهل الإشارة عجبت من هذا الخطاب الذي فيه تهديد المخالف ومواساة الموافق كيف يخاطب المخالف بخطاب فيه مواساة الموافقففيه من الرموز ما يعرفه إلا أهل الإشارة.
قال بعضهم : رأيت في سوق البصرة جنازة يحملها أربعو ليس معهم مشيع فقلت : لا إله إلا الله سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها إحداني لأشيعها فتبعتها وصليت عليها ولما دفنوه سألتهم عنه قالوا : ما نعرفه وأيما اكترتنا تلك المرأة وأشاروا إلى امرأة واقفة قريباً من القبر ثم انصرفوا فرفعت المرأة يدها إلى السماء تدعو ثم ضحكت واصنرفت فتعلقت بها وقلت لا بد أن تخبريني بقضيتك فقالت إن هذا الميت ابني ومن يترك شيئاً من المعاصي إلا فعله فمرض ثلاثة أيام فقال لي : يا أمي إذا مت لم تخبري الجيرن بموتي فإنهم فرحون بموتي ولا يحضرون جنازتي ولكن اكتبي على خاتمي لا إله إلا الله محمد رسول الله وضعيه في أصبعي وضعي رجلك على خدي إذا مت وقولي هذا جزاء من عصى الله فإذا دفتني فارفعي يديك إلى الله وقولي الهم إني رضيت عنه فارض عنه فلما مات فعلت جميع ما أوصاني به فلما رفعت يدي إلى السماء ودعوت سمعت صوته بلسان فصيح انصرفي يا أمي فقد قدمت على رب كريم رحيم فرضي عني فلذلك ضحكت سروراً بحاله أولاده الامام القشيري في شرح الأسماء.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
(10/277)
وفي الحديث الصحيح) : إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وسرته فيقول أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه إنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفر لك اليوم {الَّذِى خَلَقَكَ} صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم لأن الخلق إعطاء لوجود وهو خير من العدم منبهة على أن من قدر على الخلق وما يليه بدأ قدر عليه إعادة أي خلقك بعد أن لم تكن شيئاً {فَسَوَّاـاكَ} أي جعل أعضاءك سوية سليمة معدة لمنفعها أي بحيث يترتب على كل عضو منها منفعته التي خلق ذلك العضو لأجلها كالبطش لليد والمشي للرجل والتكلم للسان والأبصار للبصر والسمع للأذن إلى غير ذلك {فَعَدَلَكَ} عدل بعض تلك الأعضاء ببعض بحيث أعتدلت ولم تتفاوت مثل أن تكون إحدى اليدين أو الرجلين أو الأذنين أقول من الآخرى أو تكون إحدى العينين أوسع من الأخرى أو بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود أو بعض الشعر فأحما وبعضه أشقر قال علماء التشريح إنه تعالى ركب جانبي هذه الجنة على التساوي
358
حتى إنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في إشكالها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيا والخارجة منها فكل ما في أحد الجانبين مساوٍ لما في الجانب الآخر ويقال عدله عن الطرق أي صرفه فيكون المعنى فصرفك عن الخلقة المكروهة التي هي لسائر الحيوانات وخلقك خقة حسنة مفارقة لسائر الخلق كما قال تعالى : {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقرىء فعدلك بالتشديد أي صيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فهو بالمعنى الأول من المخفف وقال الجنيد قدس سره تسوية الخلقة بلمعرفة وتعديلها بالإيمان وقال ذو النون قدس سره أوجدك فسخر لك المكونات أجمع ولم يسخرك لشيء منها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
وفي التأويلات النجمية : يا أيها الإنسان المخلوق على صورته كأنك غرك كال المظهرية وتمام المضاهاة خلقك في أحسن صورة فسواك في أحسن تقويم فجعل بنيتك الصورية وبنيتك المعنوية سليمة مسواة ومعتدلة ومستعدة لقبول جميع الكمالات الإلهية والكيانية كما قال عليه السلام أوتيت جوامع الكلم أي الكلم الإلهية والكلم الكيانية في أي صورة ما شاء ركبك} الجار متعلق بركبك وما مزيدة لتعميم النكرة وشاء صفة لصورة والعائد محذوف وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك والمعنى ركبك في أي صورة شاءها واقتضتها مشيئته وحكمته من الصور العجيبة الحسنة أو من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة والشبه بعض الأوقات وخلاف الشبه كما في الحديث إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينهما وبين آدم وصورها في أي شبيه شاء وقال الواسطي رحمه الله صور المطيعين والعاصين فمن صوره على صورة الولاية ليس كمن صوره على صورة العداوة أي صور بعضهم على الصورة الجمالية اللطفية وبعضهم على الصورة الجلالية القهرية قال حضرة شيخي وسندي قدس سره في كتاب اللائحات البرقيات له لاح بيالي إن تلك الصورة التركيبية تتناول الصورة العلمية والصورة الروحية والصورة المثالية والصورة الجسمية وغير ذلك من الصور المركبة في الأطوار لكن المقصود بالذات إنما هو هذه الأربع والتركيب في الصورة العلمية والروحية عقلي ومعنوي وفي الصورة المثالية والجسمية حسي وروحي والمراد من التركيب في الصورة العلمية ظهور الذات وفي الصورة الروحية ظهور الصفات وفي الصورة المثالية ظهور الأفعال وفي الصورة لجسمية ظهور الآثار وهذه الظهورات من تلك التركيبات بمنزلة النتائج من القياسات وبمنزلة المجوع من الاجتماعات وإجراؤها إنما هي أحكام الوجوب وأحكام الإمكان والمراد من أحكام الوجوب هو الأسماء الإلهية الفاعلة المؤثرة والمراد من أحكام الإمكان هو الحقائق الكونية القابلة المتأثرة والتركيب من هذه أجزاء في أي صورة كان إنما هو لظهور محل يكون مظهر الظهور آثارها وخواصها مجتمعة وعند هذا الظهور الاجتماعيفي ذلك المحل الجامع كالنشأة الإنسانية المخاطبة ههنا إن كانت الغلبة لأجزاء أحكام الوجوب تكون تلك النشأة علوية مائلة إلى جانب العلو والحق هي تكون باقية على فطرة الأصلية الإلهية قابلة مستعدة للفيض والتجلي والوصول إلى عالم القدس وإن كانت الأجزاء أحكام الإمكان تكون تلك النشأة سفلية مائلة إلى جانب السفل والخلق
359
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
(10/278)
وخارجة عن الفطرة الأصلية الأزلية غير قابلة ومستعدة للفيض والتجلي والوصول إلى عام القدس بل تبقى في عالم الدنس مدنسة بدنس الجهالة والغفلة والنسيان لا خبر لها عن نفسها وربها وتكون أعمى وأصم وأبكم لا تعرف يمينها من شمالها ولا ترى شمالها من يمينها أولئك كالأنعام بل هم أضل انتهى.
كلامه روح الله روحه {كَلا} كلمة ردع فالوقف عنها أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجباً للشكر والطاعة وقيل توكيد لتحقيق ما بعده بمعنى حقاً فالوقف على ركبك كما رجحه السجاوندي حيث وضع علامة الوقف المطلق على ركبك {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} قال في "الإرشاد" عطف على جملة ينساق إليها الكلام كأن قيل بعد الردع بطريق الاتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترئون على أعظم من ذلك حيث تكذبون بدين الإسلام اللذين هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالاً ولا جواباً ولا عقاباً {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ} حالب من فاعل تكذبون وجمع الحافظين باعتبار كثرة المخاطبين أو باعتبار إن لكل واحد منهم جمعاً من الملائكة كما قال اثنان بالنهار أي تكذبون بالجزاء والحال إن عليكم أيها المكلفون من قبلنا الملائكة حافظين لأعمالهم وبالفارسية نكهبانان {كِرَامًا} جمع كريم أي لدينا يجبرهم في طاعتنا أو بأداء الأمانة إذا لكريم لا يكون حواناً وفي "فتح الرحمن" وصفهم بالكرم الذي هو نفي المذام وقيل كرام يسارعون إلى كتب الحسنات ويتوقفون في كتب السيئات رجاء أن يستغفر ويتوب فيكتبون الذني والتوبة منه معاً وفي زهرة الرياض سماهم كراماً لأنهم إذا كتبوا حسنة يصعدون إلى السماء ويعرضونها على الله ويشهدون ويقولون إن عبدك فلاناً عمل حسنة وإما في السيئة فيسكتون ويقولون إلهي أنت ستار العيوب وهم يقرؤون كل يوم كتابك ويمدحوننا فإنا لا نهتك أستارهم وإما معنى التعطف كما في سورة عبس فلا يلائم هذا المقام كما في بعض التفاسير {كَـاتِبِينَ} للأعمال {يَعْلَمُونَ} لحضورهم وعدم افتراقهم عنكم {مَا تَفْعَلُونَ} من الأفعال قليلاً وكثيراً ويضبطون نفيراً وقطميرا لتجاوزا بذلك.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص360 حتى ص369 رقم37
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
وفي الحديث) : أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى الحالتين الجنابة والغائط.
قال في "عين المعاني" قوله يعلمون يدل على أن السهو والخطأ وما لا تبعة فيه لا يكتب وكذا ما استغفر منه حيث لم يقل يكتبون انتهى.
وقوله ما تفعلون وإن كان عاماً لأفعال القلوب والجورح لكنه عام مخصوص بأفعال الجوارح لأن ما كان من المغيبات لا يعلمه إلا الله وفي "كشف الأسرار" علمهم على وجهين فما كان من ظاهر قول أو حركة جوارح علموه بطاهره وكتبوه على جهته وما كان من باطن ضمير يقال إنهم يجدون لصالحه رائحة طيبة والطالحة رائحة خبيثة فيكتبونه مجملاً عملاً صالحاً وآخر سيئاً انتهى.
وقد مر بيان هذا المقام في سورتي الزخرف وق فارجع وخص الفعل بالذكر لأنه أكثر من القول ولأن القول قد يراد به الفعل فاندرج فيه وعن الفضيل إنه كان إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها من آية على الغافلين ففيها إنذار وتهويل وتشديد للعصاة وتبشير
360
(10/279)
وطف للمطيعين وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وإنه عند الله من جلائل الأمور حيث يستعمل فيه هؤلاء الكرام فالتعظيم إنما هو في وصفهم بالكرم لا بالكتب والحفظ وطعن بعض المنكرين في حضور الكاتبين إما أولاً فبأنه لو كانت الحفظة وصحفهم وأقلامهم معنا ونن لا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وأشخاص لا نرا وذلك دخول في الجهالات وجوابه إن الملائكة من قبيل الأجسام اللطيفة فحضورهم لا يستلزم الرؤية ألا نرى إن الله أمد المؤمنين في در بالملائكة وكانوا لا يرونهم إلا من شاء الله رؤيته وكذا الجن من هذا القبيل ولذا قال تعالى ؛ [التوبة : 127-27]{يَرَاـاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فكما إن الهواء لا يرى للطافته فكذا غيره من أهل اللطافة وأما ثانياً بأن هذه الكتابة والضبط إن كان لا لفائدة فهو بعث والله تعالى متعال عن ذلك وإن كان لفائدة فلا بد أن تكون للعبد لأن الله متعال عن انفع والضرر وعن تطرق النسين وغاية ذلك أن يكون حجة على الناس وتشديداً عليهم بإقامتها لكن هذه ضعيف لأن من علم إن الله لا يجور ولا يظلم لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة ومن لم يعلم ذلك لانتفعه لاحتمال أن يحمل على الظلم وجوابه إن الله يجري أمروه على عباده على ما يتعارفونه فيا لدنيا بينهم ليكون أبلغ في تقرير المعنى عندهم من إخراج كتاب وإحضار شهود عدل في إلزام الحجة عند الحاكم لعبد إذا علم إن الله رقيب عليه والملائكة يحفظون أعماله ويكتبونها في الصحيفة وتعرض على رؤوس الإشهاد يوم القيامة كان ذلك أزجر له عن المعاصي وأمنع من السوء وإما ثالثاً فبأن أفعال القلوب غير مرئية فلا يكتبونها مع أنها محاسب بها لقوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبم به الله الآية وجوابه ما مر من أن الآية من العام المخصوص وقد قال الامام الغزالي رحمه الله كل ذكر يشعر به قلبك تسمعه الملائكة الحفظة فإن شعورهم يقارن شعورك حتى إذا غاب ذكرك عن شعورك بذهابك في المذكور بالكلية غاب عن شعور لحفظة أيضاً وما دام القلب يلتفت إلى الذكر فه معرض عن الله وفهم من هذا المقال إن قياس إطلاع الملائكة على الوقائع على إطلاع الناس غير مستقيم فإن شؤونهم علماً وعملاً غير شؤون الناس على أن من أصلح من الناس سريرته قد يكشف الضمائر ويطلع على الغيوب باطلاع الله تعالى فما ظنك بالملائكة الذين هم ألطف جسماً وأخف روحاً إن الأبرار} الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء الفرائض واجتناب المعاصي وبالفارسية وبدرستى كه نيكو كاران وفرمان برداران.
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
جمع بر بالفتح وهوبمعنى الصادق والمطيع والمحسن وأحسن الحسنات لا إله إلا الله ثم بر الوالدين وبر التلامذة للأساتذة وبر أهل الإرادة للشيوخ كما قال في فتح الرحمن هو الذي قد أطرد بره عموماً فبرر به في طاعته إياه وبر الناس في جلب ما استطاع من الخير لهم وغير ذلك.
(وفي الحديث) : بروا آباءهم كما بروا أبناءهم {لَفِى نَعِيمٍ} وهو نعيم الجنة وثوابها والتنوين للتخفيم {وَإِنَّ الْفُجَّارَ} وبدرستى كه دروغ كويان ومنكران حشر.
جمع فاجر والفجور شق ستر الديانة {لَفِى جَحِيمٍ} أي النار وعذابها والتنوين للتهويل والجملتان بيان لما يكتبون لأجله وهو أن الغاية إما النعيم وإما الجحيم وفيه إشارة إلى نعيم
361
الذكر والطاعة والمعرفة والشهود والحضور والوصال وإلى جحيم الغفلة والمعصية والجهل والاحتجاب والغيبوبة والفراق قال الخواص رحمه الله ، طاب النعيم إذا كان منه وطاب الجحيم إذا كان به وفي المثنوى :
هر كجا باشد شه مارا بساط
هست صحرا كربود سم الخياط
هر كجا كه يوسفي باشد وماه
جنت است أو أره باش قعراه
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
(10/280)
{يَصْلَوْنَهَا} أما صفة لجحيم أو استئناف مبني على سؤال نشأ عن تهويلها كأنه قيل ما حالهم فيها فقيل يقاسون حرها كما قال الخليل صلى الكافر النار قاسي حرها وباشره ببدنه ولم يصف النعيم بما يلائمه لأن ما سبق من الكلام كان في المكذبين الفجرة لأن المقام مقام التخويف وذكر تبشير الأبرار لأنه ينكشف به حال الفجار الأشرار لأن الأشياء تعرف بأضدادها {يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به {وَمَا هُمَ} ونيست فجار {عَنْهَا} أي عن الجحيم {بِغَآااِبِينَ} طرفة عين يعني دروجاويد باشند وبيرون نيايند كقوله تعالى : [المائدة : 37-17]{وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فالمراد دوام نفي الغيبة لا نفي دوام اغيبة وقيل وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي عليه السلام ، القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران وما أدراك} الخطاب لكل من يأتى منه الدراية وما مبتدأ وإدراك خبره {مَآ} خبر قوله {يَوْمَ الدِّينِ} وما لطلب الوصف وإنك ان وضعه لطلب الحقيقة وشرح الاسم والمعنى أي شيء جعلك داريا وعالماً ما يوم الدين أي أي شيء عجيب هو في الهول والفظاعة أي ما أدراك إلى هذا الآن أحد كنه أمره فإنه خارج عن دائره درية الخلق على أي صورة بصورونه فهو فوقها وأضعافها {ثُمَّ مَآ أَدْرَااكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تكرير بثم امفيدة للترقي في الرتبة للتأكيد وزيادة التخويف والمجوع تعجيب للمخاطبين وتفخيم لشأن اليوم وإظهار يوم الدين في موقع الإضمار تأكيد لهوله وفخامته {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْاًا} بيان إجمال لشأن يوم الدين أثر إبهامه وبيان خروجه عن دائرة علوم الخلق بطريق إجاز الوعد فإن نفي إدرائهم مشعر بالوعد لكريم بالإدراء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما كل ما في القرآن من قوله تعالى : [الانفطار : 17-19]{وَمَآ أَدْرَااكَ} فقد أدراه وكل ما فيه من قوله وما يدريك فقد طوى عنه ويوم مرفوع على إنه خبر مبتدأ محذوف حركته الفتح لإضافته إلى غير متمكن كأنه قيل هو يوم لا تملك فيه نفس من النفوس لنفس من النفوس شيئاً من الأشياء أو منصوب بإضمار أذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه عليه السلام إلى معرفته اذكر يوم لا تملك.
.
الخ فإنه يدريك ما هو ودخل في نفس كل نفس ملكية وبشرية وجنية وفي شيء كل ما كن من قبيل جلب المنفعة أو دفع المضرة والأمر} كله {يَوْمَااِذٍ} أي يوم إذ لا تملك نفس لنفس شيئاً وحده والأمر واحد إلا وأمر فإن الأمر والحكم والقضاء من شأن الملك المطاع والخلق كلهم مقهورون تحت سطوات الربوبية وحكها ويجوز أن يكون واحد الأمور فإن أمور أهل المحشر كلها بيده تعالى
362
لا تصرف فيها غيره أخبر تعالى بضعف الناس يومئذٍ وإنه لا ينفعهم الأموال والأولاد والأعوان والشفعاء كما في الدنيا بل ينفعهم الإيمان والبر والطاعة وإنه لا يقدر أحد أن يتكلم إلا بإذن الله وأمره إذا لأمر له في الدنيا والآخرة في الحقيقة وإن كان يظهر سلطانه في الآخرة بالنسبة إلى المحجوب لأن المحجوب يرى إن الله ملكه في الدنيا وجعل له شيئاً من لأمور والأومر فإذا كان يوم لقيامة يظهر له إن لأمر والملكتعالى لا يزاحمه فيه أحد ولا يشاركه ولو صورة وفيه تهديد لأرباب الدعاوي وأصحاب المخالفة وتنبيه على عظيم بطشه تعالى وسطوته.
وفي الحديث من قرأ إذا السماء انفطرت أعطاه الله من الأجر بعدد كل قبر حسنة وبعدد كل قطرة ماء حسنة وأصلح الله شأنه يوم القيامة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 355
تفسير سورة المطففين
ست وثلاثون آية مختلف في كونها مكية أو مدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 362
{وَيْلٌ} شدة الشر أو الهلاك أو العذاب الأليم ، وقال ابن كيسان : هو كلمة كل مكروب واقع في البلية فقولك ويل لك عبارة عن استحقاق المخاطب لنزول البلاء والمحنة عليه ، الموجب له أن يقول وأويلاه ونحوه وقيل : أصله وى لفلان أي الحزن فقرن بلام الإضافة تخفيفاً وبالفارسية وأي.
وهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء على ما سبق بيانه في المرسلات {لِّلْمُطَفِّفِينَ} الباخسين حقوق الناس في المكيال والميزان وبالفارسية مركاهند كانرا دركيل ووزن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363(10/281)
فإن التطفيف البخس في الكيل والوزن والنقص والخيانة فيهما بأن لا يعطي المشتري حقه تاماً كاملاً وذلك لأن ما يبخس شيء طفيف حقير على وجه الخفية مني جهة دباءة الكيال والوزان وخساستهما إذ الكثير يظهر فيمنع منه ولذا سمى مطففاً.
قال الراغب : يقال طفف الكيل قلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه وقال سعدي المفتي والظاهر إن بناء التفعيل للتكثير لأن البخس لما كان من عادتهم كانوا يكثرون التطفيف ويجوز أن يكن للتعدية انتهى.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة وكان أهلها من أبخس الناس كيلاً فنزلت فخرج فقرأها عليهم وقال خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشافيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النيات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر فعملوا بموجبها وأحسنوا الكيل فهم أو في الناس كيلاً إلى اليوم وعن علي رضي الله عنه ، إنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمره أولاً بالتسوية ليعتادها ويفصل الواجب من النفل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان وخص الأعاجم لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرقين
363
في الحرمين كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل لو أن ابنك كيال أو وزان.
فقال : أشهد أن في النار وعن الفضيل بخس لميزان سواد الوجه يوم القيامة وعن ملك بن دينار أنه دخل على جار له احتضر فقال يا مالك جبلان من نار بين يدي أكلف الصعود عليهما فسألت أهله فقالوا كان له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتى كسرتهما ثم سألت الرجل فقال : ما يزداد الأمر على إلا عظماً ودر فصول سبعين آورده هركه دركيل ووزن خيانت كند فردا اورا بقعر دوزخ در آورده ميان دوكوه ازآتش بنشانند وكويند كلهما وزنهما آبرا ميسنجد وميسوزد.
توكم دهى وبيش ستاني بكيل ووزن
روزى بودكه ازكم وبيشت خبر كنند
{الَّذِينَ} الخ صفة كاشفة للمطففين شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الذم والدعاء بالويل {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه والاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالميزان {يَسْتَوْفُونَ} الاستيفاء عبار عن الأخذ الوافي أي يأخذونه وافياً وافراً وتبديل كلمة من بعلى لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضربهم لكن لا على اعتبار الضرر في حيز الشرط الذي تتضمنه كلمة إذا لا خلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجوار فإن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافياً من غير نقظص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس الكيل وتحريك المكيال والاحتيال في ملئه فيسرقون من أفواه المكاييل وألسنة الموازين {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ} الكيل بيمودن به يمانه تا مقدار مكيل معلوم كردد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
والوزن والزنة سنجيدن تا مقدار موزون معلوم شود.
أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم المبيع ونحوه بالفارسية ، وون مى يمايند براي ناس ويامى سنجند حقوق ايشانرا.
فحذف الجار وأوصل الفعل كما قال في تاج المصادر وزنت فلا نادرهما ووزنت لفلان بمعنى والأصل اللام ثم حذفت فوصل الفعل ومنه الآية انتهى.
فلفظ هم منصوب المحل على المفعولية لا مرفوعة على التأكيد للواو لأن واو الجمع إذا اتصل به ضمير المفعول لا يكتب بعده الألف كما في نصروك ومنه الآية إذ لم يكتب الألف في المصحف وإذا وقع في الطرف بأن يكون الضمير مرفوعاً واقعاً للتأكيد فحينئذٍ يكتب بعده الألف لأن المؤكد ليس كالجزء مما قبله بخلاف المفعول وإما نحو شاربوا الماء فالأكثر على حذف الألف لقلة الاتصال واو الجمع بالاسم هذا فإن قلت خط المصحف خارج عن القياس قلت الأصل في أمثاله إثباته في المصحف فلا يعدل عنه {يُخْسِرُونَ} أي ينقصون حقوقهم مع إن وضع الكيل والوزن إنما هو للتسوية والتعديل يقال خسر الميزان وأخسره يعني كم كردومى كاست.
ولعل ذكر الكيل والوزن في صورة الإخسار والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء بأن لم يقل إذا كتالوا على الناس أو تزنوا لما أنهم لم يكونوا متمكنين
364
(10/282)
من الاحتيال عند الإتزان تمكينهم منه عند الكيل والوزن.
كما قال في الكشاف كأن المطففين كانو لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الوازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يزعزعون ويحتالون في الملىء وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً انتهى ويؤيده الاقتصار على التطفيف في الكيل في الحديث المذكور سابقاً وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملتهم في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطي قال أبو عثمان رحمه الله ، حقيقة هذه الآية عندي هو من يحسن العبادة على رؤية الناس ويسيء إذا خلا.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى المقصرين في الطاعة والعبادة الطالبين كمال الرأفة والرحمة الذين يستوفون من الله مكيال أرزاقهم بالتمام ويكيلونه مكيال الطاعة والعبادة بالنقص والخسران ذلك هو الخسران المبين.
وقال القاشاني : يشير إلى التطفيف في الميزان الحقيقي الذي هو العدل والموزونات به هي الأخلاق والأعمال والمطففون هم الذين إذا اعتبروا كمالات أنفسهم متفضلين على الناس يستوفون أي يكثرونها ويزيدون على حقوقهم في إظهار الفضائل العلمية والعملية أكثر مما لهم عجباً وتكبراً وإذا اعتبروا كمالاً الناس بالنسبة إلى كمالاتهم اخسروا واستحقروها ولم يراعوا العدالة في الحالين لرعونة انقسم ومحبة التفضل على الناس كقوله يحبون إن يحمدوا بما لم يفعلوا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
يقول الفقير : فيه إشارة إلى حال النفس القاصرة في التوحيد الحققي فإنها إذا أعطته الروح تخسره لنقصانها وقصورها فيه على إنه لا يدخل في الميزان إذ لا مقابل له فمن أدخله في الميزان فقد نقص شأنه وشأن نفسه أيضا وإما التوحيد الرسمي فهي تستوفيه من الروح لأنه حقها ولا نصيب سواء {أَلا يَظُنُّ} آيانمى ندارند {أولئك} المطففون الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهئال فقوله ألا ليست هي التي للتنبيه لأن ما بعد حرف التنبيه مثبت وهنا منفي لأن ألا التنبيهة إذا حذفت لا يختل المعنى نحو ألا إنهم لفي سكرتهم يعموهم وإذا حذفت ألا هذه اختل المعنى بل الهمزة الاستفهامية الإنكارية داخلة على لا النافية وجوز أن تكون للعرض والتحضيض على الظن {أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يقادر قدر عظمه وعظم ما فيه من الأهوال ومحاسبون فيه على مقدار الذرة والخردلة فإن من يظن ذلك وإن كان ظناً ضعيفاً في حد الشك والوهم لا يتجاسر على أمثال هاتيك القبائح فكيف بمن يتيقنه فذكر الظن للمبالغة في المنع عن التطفيف وإلا فالمؤمن لا يكفي له الظن في أمر البعث والمحاسبة بل لا بد من الاعتقاد الجازم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} منصوب بإضمار أعنى {لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} بتقدير المضاف أي لمجرد أمره وحكمه بذلك لا لشيء آخر أو لمحاسبة رب العالمين فيظهر هناك تطفيفهم ومجازاتهم أو يقومون من قبورهم لرد رب العالمين أرواحهم إلى أجسادهم روى إنهم يقومون بين يدي الله تعالى أربعين عاماً وفي رواية ثلاثة سنة من سني الدنيا وعرق أحدهم إلى أنصاف أذنيه لا يأتيهم خبر ولا يؤمر فيهم بأمر.
وآن مقام هيبت باشدكه كس رازهره سخن نباشد
ثم يخاطبون يفني از مقام هيت بمقام محاسبه آرند
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
وأما في حق المؤمن فيكون المكت كقدر إنصرافهم من صلاة مكتوبة وفي تخصيص رب العالمين
365
(10/283)
من بين سائر الصفات إشعار بالمالكية والتربية فلا يمتنع عليه الظالم القوي لكونه مملوكاً مسخراً في قبضة قدرته ولا يترك حتى المظلوم الضعيف لأن مقتضى التربية إن لا يضيع لأحد شيئاً من الحقوق وفي هذه التشديدات إشارة إلى أن التطفيف وإن كان يتعلق بشيء حقير لكنه ذنب كبير قبل كل من نقص حق الله من زكاة وصلاة وصوم فهو داخل تحتى هذا الوعيد وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، إنه قرأ هذه السورة فلما بلغ إلى قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين ، بكى يحييا أي يرفع الصوت وامتنع من قراءة ما بعد من غلبة البكاء وملاحظة الحساب والجزاء وقال أعرابي لعبد لملك بن مروان إنك قد سمعت ما قال تعالى في المطففين وأراد بذلك إن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في ذ القليل فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ووزن {كَلا} ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحاب فيحسن الوقف عليه وإن كان بمعنى حقالاً فلا لكونه حينئذٍ متصلاً بما بعده {إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} تعليل للردع والكتاب مصدر بمعنى المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس أو على حاله بمعنى الكتابة واللام للتأكيد وسجين علم الكتاب جامع هو ديوان الشر دون أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين منقول من وصف كحاتم وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف وأصله فعيل من السجن مبالغة الساجن أو لأنه مطروح كما قيل تحت الأرض السابعة في مكان مظلم وحش وهو مسكن إبليس وذريته إذلالالهم وتحقيراً لشأنهم وتشهده الشياطين المدحورون كما إن كتاب الأبرار يشهده المقربون فالسجين مبالغة المسجون والمعنى إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون فيه قبائح أعمال المذكورين.
وفي التأويلات النجمية : أي كتاب استعدادهم الفطري مكتوب في ديوان سجين طبيعتهم المجبولة على الفسق والفجور بقلم اليد اليسرى على ورق صفحة جبينهم كما قال عليه السلام : "السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه" {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا سِجِّينٌ} تهويل لأمره أي هو بحيث لا يبلغه دراية أحد {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} قال الراغب : الرقم الخط الغليظ وقيل : هو تعجم الكتاب وقوله كتاب مرقوم حمل على الوجهين انتهى.
أي هو مسطور بين الكتابة بحيث كل من نظر إليه يطلع على ما فيه بلا دفة نظر وإمعان توجه أو معلم يعلم من رآه إنه لا خير فيه لأهايه أي ذلك الكتاب مشتمل على علامة دالة على شقاوة صاحبه وكونه من أصحاب النار وكونه علامة الشر يستفاد من المقام لأنه مقام التهويل وقال القفال قوله كتاب مرقوم ليس تفسيراً لسجين بل هو خبر لأن والمعنى إن كتاب الفجار لفي سجين وإنه كتاب مرقوم وقوله وما أدراك ما سجين وقع معترضاً بين الخبرين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
وقال القاشاني : إن كتاب الفجار أي ما كتب من أعمال المرتكبين للرذائل الذين فجروا بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل لفي سجين في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة يزحفون على بطوهم كالسلاحف والحيات والعقارب آلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها وهو ديوان أعمال أهل
366
(10/284)
الشر ولذلك فسر بقوله كتاب مرقوم أي ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم {وَيْلٌ} عظيم {يَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم يقوم الناس لرب العالمين فهو متصل به وما بينهما اعتراض وقال بعضهم : أي يوم إذ أعطى ذلك الكتاب {لِّلْمُكَذِّبِينَ} وقال الكاشفي : ويل كلمه ايست جامع همه بديها يعني عذاب وعقاب وشدت ومحنت دران روزمر مكذبان راست {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} صفة ذامة للمكذبين كقولك فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث لأن تكذيبهم بيوم الدين علم من قوله ألا يظن أولئك.
.
الخ.
قال بعض أهل الإشارة المكذبون بالحق وآياته هم أرباب النفوس الذين أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الحق ودينه الذي هو دين الإسلام وكل يجازي بحسب دينه فمن لا دين له فجزاؤه سوء الجزاء والويل العظيم ومن له دين فجزاؤه حسن الجاء ورؤية الوجه الكريم فعليك بالتصديق {وَمَا يُكَذِّبُ بِه إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ} متجاوز عن حدود النظر والاعتبار قال في التقليد حتى استقصر قدرة الله على الإعادة مع مشاهدته للبدء كالوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث ونحوهما {أَثِيمٍ} كثير الإثم أي منهمك في الشهوات الناقصة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها فالاعتداء دل على إهمال القوة النظرية التي كما لها إن يعرف الإنسان وحدة الصانع واتصافه بصفات الكمال مثل العلم والإرادة والقدرة ونحوها والإثم دل عل إهمال القوة العملية التيك مالها أن يعرف الإنسان الخير لأجل العمل به {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا} الناطقة بذلك {قُلْ} من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه {أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أي هي حكايات الأولين وأخبارهم الباطلة قال في "فتح الرحمن" هي الحكايات التي سطرت قديماً وهي جمع أسطورة بالضم وإسطارة بالكسر وهي الحديث الذي لا نظام له
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
{كَلا} ردع للمعتدى عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه ويجوز أن يكون ردعاً عن مجموع التكذيب والقول {بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قرأ حفص عن عاصم بل بإظهار اللام مع سكتة عليها خفيفة بدون القطع ويبتدىء ران وقرأ الباقون بإدغام اللام في الراء ومنهم حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر عن عاصم يميلون فتحة الراء.
قال بعض المفسرين هرب حفص من اجتماع ثقلتي الراء المفخمة والإدغام انتهى.
ويرد عليه قل رب فإنه لا سكتة فيه بل هو بإدغام أحد المتقاربين في الآخر فالوجه إنه إنما سكت حفص على لام بل ران وكذا على نون من راق خوف اشتباهه بتثنية البر ومبالغة ما رق حيث يصير بران ومراق وما موصوله والعائد محذوف ومحلها الرفع على الفاعلية والمعنى ليس في آياتنا ما يصح إن يقال في شأنها مثل هذه المقالات الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما كانوا يكسبونه من الكفر والمعاصي حتى صارت كالصدأ في المرءآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق كما قال عليه السلام إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه ولذلك قالوا ما قالوا والرين صدأ يعلو الشيء الجلي والطبع والدنس وران ذنبه على قلبه رينا وريونا غلب وكل ما غلبك رانك وبك وعليك كما في "القاموس" وران فيه النوم رسخ فيه وفي "التعريفات" الران هو الحجاب الحاثل بين
367
القلب وعالم القدس باستيلاء الهيئات النفسانية ورسوخ الظلمانية الجسمانية فيه بحيث يتحجب عن أنوار الربوبية بالكلية والغين بالمعجمة دون الرين وهو الصدأ فإن الصدأ حجاب رقيق يزول بالتصفية ونور التجلي لبقاء الإيمان معه والرين هو الحجاب الكشيف الحائل بين القلب والإيمان ولهذا قالوا الغين هو الاحتجاب عن الشهود مع صحة الاعتقاد والطبع يطبع على القلب والإقفال أن يقفل عليه قيل الإقفال أشد من الطبع كما أن الطبع أشد من الرين.
(10/285)
قال القاشاني : في الآية أي صار صدأ عليها بالرسوخ فيه وكدر جوهرها وغيرها عن طباعها والرين حد من ترام الذنب ورسوخه تحقق عنده الحجاب والغلق باب المغفرة نعوذ بالله منه قال أبو سليمان الداراني قدس سره الران والققسوة هما زماماً الغفلة فمن تيقظ وتذكراً من من القسوة واليرن ودواؤهما ادمان الصيام فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام وقال بعض الكبار القلب مراءة مصقولة كلها وجه فلا تصدأ أبداً وإن أطلق عليها الصدأ في نحو حديث إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن فليس المراد بذلك الصدأ إنه طخاء طلع على وجه القلب ولكنه لما تعلق واشتغل بعلم الأسباب عن العلم بالمسبب كان تعلقه بغير الله صدأ على وجه القلب مانعاً من تجلى الحق إليه إذ لحضرة الآلهية متجلية على الدوام لا يتصور في حقها حجاب عنا فلما لم يقبلها هذا القلب من جهة الخطاب الشرعي المحمود وقبل غيرها عبر عن قبول الغير بالصدأ ولكن والقفل وغير ذلك وقد نبه الله على ذلك في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه فهي في أكنة مما يدعوها الرسول إليه خاصة لا إنها في كن مطبقاً فلما تعلقت بغير ما تدى إليه عميت عن إدراك ما دعيت إليه فلم تبصر شيئاً فالقلوب أبداً لم تزل مفطورة على الجلاء مقصولة صافية (قال المولى الجامي) :
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
مسكين فقيه ميكند انكار حسن دوست
با او بكوكه ديده جانرا جلى كند
{كَلا} ردع وزجر عن الكسب الرائن أي الموقع في الرين {إِنَّهُمْ} أي المكذبين {عَن رَّبِّهِمْ} وهو وقوله {يَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين متعلقان بقوله {لَّمَحْجُوبُونَ} فلا يرونه لأنهم بأكسابهم القبيحة صارت مراءة قلوبهم ذات صدأ وسرت ظلمة الصدأ منها إلى قوالبهم فلم يبق محل النور التجلي بخلاف المؤمنين فإنهم يرونه تعالى لأنهم بأكسابهم الحسنة صارت مرائي قلوبهم مصقولة صافية وسرى نور الصقالة والصفوة منها إلى قوالبهم فصاروا مستعدين لانعكاس نور التجلي في قلوبهم وقوالبهم وصاروا وجوهاً من جميع الجهات كوجود الوجه الباقي بل أبصاراً بالكلية سئل مالك بن أنس رحمه الله عن هذه الآية فقال لما حجب أعداؤه فلم يروه لأبدان يتجلى لأوليائه حتى يروه يعني احتج الامام مالك بهذه الآية على مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لم يبق للتخصيص فائدة وكذلك.
آنكاه دمريان دوست ودشمن فرق نماند كوبى ببهشت ميهمانيست.
بي ديدن ميزبان ه باشد
ون دشمن ودوست راه باشد
368
س فرق دران مياه ه باشد.
وعن الشافعي رحمه الله لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضى.
وقال الشيخ الإسلام عبد الله الأنصاري رحمه الله لمحجوبون عن رؤية الرضى فإن الشقي يراه غضبان حين يتجلى في المحشر قبل دخول الناس الجنة وقال حسين بن الفضل رحمه الله كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته فالموحد غير محجوب عن ربه وقال سهل رحمه الله حجبهم عن ربهم قسوة قلوبهم في العاجل وما سبق لهم من الشقاوة في الأزل فلم يصلحوا لبساط القرب والمشاهدة فابعدوا وحجبوا والحجاب هو الغاية في البعد والطرد وقال ابن عطاء رحمه الله الحجاب حجابان حجاب بعد وحجاب إبعاد فحجاب البعد لا تقريب فيه أبداً وحجاب الإبعاد يؤدي ثم يقرب كآدم عليه السلام ، وقال القاشاني : إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون لامتناع قبول قلوبهم للنور وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري كالماء الكبريتي مثلاً إذ لو روق أو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهره بخلاف الماء المسخن استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب وفي "المفردات الحجب" المنع عن الوصول والآية إشارة إلى منع السور عنهم بالإشارة إلى قوله فضرب بيهم بسور أي بحجاب يمنع من وصول لذة الجنة إلى أهل النار وأذية أهل النار إلى أهل الجنة وقال صاحب الكشاف : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستحقاق بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا إلا دنياء المهانون عندهم قال.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
إذا اعتروا باب ذي مهابة رجبوا.
(10/286)
والناس ما بين مرجوب ومحجوب انتهى.
أي ما بين معظم ومهان وإنما جعله تمثيلاً لا كناية إذ لا يمكن إرادة المعنى الحقيقي على زعمه من حيث إنه معتزلي قال بعض المفسرين : جعل الآية تمثيلاً عدول عن الظاهر وهو مكشوف فإن ظاهر قولهم هو محجوب عن الأمير يفيد أنه ممنوع عن رؤيته وهو أكبر سب الإهانة وما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه ، لمحجوبون عن رحمته وعن ابن كيسان عن كرامته فالمراد به بيان حاصل المعنى فإن المحجوب عن الرؤية ممنوع عن معظم الرحمة والكرامة فالآية من جملة أدلة الرؤية فالحمد تعالى على بذل نواله وعطائه وعلى شهود جماله ولقائه {ثُمَّ إِنَّهُمْ} مع كونهم محجوبين عن رؤية الله {لَصَالُوا الْجَحِيمِ} أي داخلوا النار ومباشروا حرها من غير حائل أصله صالون حذفت نونه بالإضافة وثم لتراخي الرتبة فإن صلى الجحيم أشد من الحجاب والإهانة والحرمان من الرحمة والكرامة فإن الحجاب وإن كان من قبيل العذاب الروحاني وهو أشد من العذاب الجسماني لكن مجرد النجاة من النار أهون من العذاب لأن في العذاب الحسي حصول العذابين كما لا يخفى {ثُمَّ يُقَالُ} لهم توبيخاً وتقريعاً من جهة الزبانية وإنما طوى ذكرهم لأن المقصود ذكر القول لا القائل مع أن فيه تعميماً لاحتال القائل وبه يشتد الخوف {هَـاذَا} العذاب وهو مبتدأ خبره قوله {الَّذِى كُنتُم} في الدنيا {بِهِ} متعلق بقوله {تُكَذِّبُونَ} فذوقوه وتقديمه لرعاية الفاصلة لا للحصر فإنهم كانوا يكذبون أحكاماً كثيرة {كَلا} ردع عما كانوا عليه بعد
369
ردع وزجر بعد زجر {إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ} أي الأعمال المكتوبة لهم على أن الكتاب مصدر مضاف إلى مقدر {لَفِى عِلِّيِّينَ} لفي ديوان جامع لجميع أعمال الأبرار فعليون علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع على فعيل من العلو للمبالغة فيه سمى بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له وتعظيماً وروى إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه فإذا انتهوا إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه وإنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين فقد غفرت له وإنها تصعد بعمل العبد فيزكونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على قلبه وإنه لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين وفيه إشارة إلى أن الحفظة لا يطلعون على الإخلاص والرياء إلا باطلاع الله تعالى
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
{وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا عِلِّيُّونَ} أي هو خارج عن دائرة دراية الخلق {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} أي هو مسطور بين الكتابة يقرأ بلا تكلف أو معلم بعلامة تدل على سعادة صاحبه وفوزه بنعيم دائم وملك لا بلى ولما كان عليون علماً منقولاً من الجمع حكم عليه بالمفرد وه كتاب مرقوم واعرب بإعراب الجمع حيث جرأ ولا بفي ورفع بالخبرية لما الاستفهامية لكونه في صورة الجمع وقيل اسم مفرد على لفظ الجمع كعشرين وأمثاله فليس له وحد {يَشْهَدُهُ} الملائكة {الْمُقَرَّبُونَ} عند الله قربة الكرامة أي يحضرونه ويحفظونه من الضياع وفي "فتح الرحمن" هم سبعة أملاك من مقربي السماء من كل سماء ملك مقرب فيحضره ويشيعه حتى يصعد به إلى ما يشاء الله ويكون هذا في كل يوم أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على رؤوس الإشهاد وبه تبين سر ترك الظاهر بأن يقال طوبى يومئذٍ للمصدقين بمقابلة يل يومئذٍ للمكذبين لأن الأخبار بحضور الملائكة تعظيماً وإجلالاً يفيد ذلك مع زيادة فختم كل واحد بما يصلح سواء مكانه.
وقال القاشاني : ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة في عليين وهو مقابل لسجين في علوه وارتفاع درجته وكنه ديون أعمال أهل الخير كما قال كتاب مرقوم أي محل شريف رقم بصور أعمالهم من جرم سماوي أو عنصر إنساني يحضر ذلك المحل أهل الله الخاصة من أهل التوحيد الذاتي {إِنَّ الابْرَارَ} أي السعداء الاتقياء عن درن صفات النفوس {لَفِى نَعِيمٍ} ثم وصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة أولها قوله {عَلَى الارَآاـاِكِ} أي على الأسرة في الحجال يعني برتختهاى آراسته.
ولا يكاد تطلق الأريكة على السرير عندهم إلا عند كونه في الحجلة وهو بالتحريك بيت العروس يزين بالثياب والأسرة والستور {يَنظُرُونَ} أي ما شاؤوا أمد أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنة وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة يعني مى نكرند بيز هاكه ازان شادمان وفرحناك ميكردند از صور حسنه ومنتزهات بهيه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
وكذا إلى أعدائهم يعذبون في النار وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك للطافتها وشفوفها أي رقتها فحذف المفعول للتعميم وقوله
370
(10/287)
على الأرائك ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر وأن يكون حالاً من المنوي في الخبر أوفى الفاعل في ينظرون والتقديم لرعاية فواصل الآي وإما ينظرون فيجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً إما من المنوى في البخر أوفى الظرف أي ناظرين.
قال ابن عطاء رحمه الله : على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف وعلى أرائك القرية ينظرون إلى الرؤوف وفيه إشارة إلى أن أرباب المقامات العالية ينظرون إلى جميع مراتب الوجود لا يحجبهم شيء عن المطالعة بخلاف الأغيار فإنهم محجوبون عن مطالعة أحوال أهل الملكوت ورمز إلى أن لكل من أهل الدرجات روضة مخصوصة من الأسماء والصفات فمنها ينظرون فمنهم عال وأعلى وليس الأشراف على الكل إلا لأشرف الأشراف وهو قطب الأقطاف {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} وهو ثاني الأوصاف أي بهجة التنعم وماءه ورونقه أي إذا رأيتهم عرفت إنهم ل النعمة بسبب ما يرى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك كالضحك والاستبشار كما يرى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه فمن هذا اختير تعرف على ترى مع أن المعرفة تتعلق بالخفيات غالباً والرؤية بالجليات غالباً والخطاب لكل أحد ممن له حظ من لخطاب للإيذان بأن مالهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص برؤية رآىء.
قال جعفر رضي الله عنه يعني لذة النظر تتلألأ مثل الشمس في وجوههم إذا رجعوا مالاً زيارة الله إلى أوطانهم.
وقال بعضهم : تعرف في وجوههم رضي محببهم عنهم {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} وهو ثالث الأوصاف وسقى يتعدى إلى مفعولين والأول هنا الواو القائ مقام الفاعل والثاني من رحيق لأن من تبعيضية كأنه قيل بعض رحيق أو مقدر معلوم أي شراباً كائناً من رحيق مبتدأ منه فمن ابتدائية والرحيق صافي الخمر وخالها والمعنى يسقون في الجنة من شراب خالص لا غش فيه ولا ما يكرهه الطبع ولا شيء يفسده وأيضاً صاف عن كصورة الخمار وتغيير النكهة وإيراث الصداع {مَّخْتُومٍ * خِتَـامُهُ} أي ما يختم ويطبع به {مِسْكٌ} وهو طيب معروف أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين قال في "كشف أسرار" ما ختم به مسك رطب ينطبع فيه الخاتم أمر الله بالختم عليه إكراماً لأصحابه فختم ومنع أن يمسه ماس أو تتناوله يداً لي أن يفك ختمه الأبرار والأظهر إنه تمثيل لكمال نفاسته إذا الشيء النفيس يختم لا سيما إذا كان ما يختم به المسك مكان الطين وقيل ختام الشيء خاتمته وآره فمعنى ختامه مسك إن الشارب إذا رفع فاء من آخر شربه وجد رائحة كرائحة المسك أو وجد رائحة المسك لكونه ممزوجاً به كالأشربة الممسكة في الدنيا فإنه يوجد فيها رائحة المسك عند خاتمة الشرب لا في أول زمان الملابسة بالشرب وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، إن الرحيق شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربهم ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيب ريحه {وَفِى ذَالِكَ} الرحيق خاصة دون غيره من النعيم المكدر السريع الفناء أو فيما ذكر من أحوالهم لا في أحوال غيرهم من أهل الشمال {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ} فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله يعني عمل بجاي
371
آرندكه سب استحقاق شرب آن كردند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
(10/288)
والأمر للتحضيض والترغيب ظاهراً وللوجوب باطناً بوجوب الإيمان والطاعة وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس أي المرغوب كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به وأصله من النفس لعزتها وقال البغوي : أصله من الشيء النفيس الذي يحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفه وينفس به على غيره أي يبخل وفي "المفردات" المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره قال ذو النون المصري رحمه الله ، علامة التنافس تعلق القلب به وطيران الضمير إليه والحركة عند ذكره والتباعد من الناس والأنس بالوحدة والبكاء على ما سلف وحلاوة سماع الذكر والتدبر في كلام الرحمن وتلقي النعم بالفرح والشكر والتعرض للمناجاة {وَمِزَاجُه مِن تَسْنِيمٍ} عطف على ختامه صفة أخرى لرحيق مثله وما ينهما اعتراض مقرر لنفاسته أي ما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم وهو علم العين بعينها تجري من جنة عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه أما لأنها أرفع شراب في الجنة قدراً فيكون من علو المكانة وأما لأنها تأتيهم من فوق فيكون من علو المكان روى إنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستقاء {عَيْنًا} نصب على المدح والاختصاص أي بتقدير أعني {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} من جناب الله قربا معنوياً روحانياً أي يشربون ماءها صرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة وهم أصحابا ليمين فالباءم زيدة أو بمعنى من وفيه إشارة إلى أن التسنيم في الجنة الروحانية هو معرفة الله ومحبته ولذة النظر إلى وجهه الكريم والرحيق هو الابتهاج تارة بالنظر إلى الله وأخرى بالنظر إلى مخلوقاته فالمقربون أفضل من الأبرار بمحبت غيرنيا ميخته اندشراب ايشان صرفست وآنهاكه محبت ايشان آميخته باشد شراب ايشان ممزوج باشد.
ما شراب عيش ميخواهيم بي دردىء غم
صاف نوشان ديكر ودردى فروشان ديكرند
وقال بعضهم :
تسبيح رهى وصف جمال توبست
وزهر دوجهان ورا وصال توبست
اندردل هركسى ذكر مقصوديست
مقصود دل رهى خيال توبست
ودر بحر الحقائق آورده كه رحيق اشارتست بشراب خالص ازكدورات خمار كونين وأواني مختومه ري قلوب أوليا وأصفياكه ختام أو مسك مبحت است لا يشرب من تلك الأوني إلا الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى الله (على نفسه فليبك من ضاع عمره.
وليس له منها نصيب ولا سهم) وتسنيم أعلاي مراتب محبت ذاتيه كه غير ممزوج باشد بصفات وأفعال ومقربان أهل فنا في الله وبقا بالله إنه كما قال العارف في خمر المحبة الصرفة الخالصة من المزج.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
عليك بها صرفا فإن شئت مزجها
فعدلت عن ظلم الحبيب هو الظلم
372
العدل بمعنى العدول والظلم بالفتح هو ماء الأسنان وبريقها وبالضم هو الجور أي فإن شئت مزجها فامزجها بزلال فم الحبيب وبريقه إن لم تقدر على شربها صرفاً ولا تعدل فإن العدول عن ظلم الحبيب ورشحة زلاله هو الظلم.
وتاكسي بر بساط قرب در مجلس أنس ورياض قدس ازدست ساقى رضا جرعه ازين شراب ناب نشد بويى ازسراين سخنان بمشام جان وى نرسد.
سر مايه ذوق دوجهان مستى عشقست
آنهاكه ازبن مي نشيد نده دانند
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} كانوا ذوي جرم وذنب ولا ذنب أكبر من الكفر وأذى المؤمنين لإيمانهم فالمراد بهم رؤساء قريش وأكابر المجرمين المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأمثالهم {كَانُوا} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} إيماناً صادقاً {يَضْحَكُونَ} أي يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وبلال وخباب وغيرهم وتقديم الجار والمجرور لمراعاة الفواصل {وَإِذَا مَرُّوا} أي فقراء المؤمنين {بِهِمْ} أي بالمشركين وهم في أنديتهم وهو الأظهر وإن جاز العكس أيضاً يقال مرمرا ومروراً جاز وذهب كاستمر ومره وبه جاز عليه كما في "القاموس" قال في تاج المصادر المر بكذشتن بكسى.
(10/289)
ويعدى بالباء وعلى {يَتَغَامَزُونَ} أي يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم ويعيبونهم ويقولون انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويتركون اللذات ويتحملون المشقات لما يرجونه في الآخرة من المثوبات وأمر البعث والجزاء لا يقين به وإنه بعيدك ل البعد والتغامز تفاعل من الغمز وهو الإشارة بالجفن والحاجب ويكون بمعنى العيب أيضاً وفي التاج التغامز يكديكررا بشم اشارت كردن {وَإِذَا انقَلَبُوا} من مجالسهم {إِلَى أَهْلِهِمُ} إلى أهل بيتهم وأصحابهم الجهلة الضالة النابعة لهم والانقلاب الانصراف والتحول والرجوع {انقَلَبُوا} حال كونهم {فَكِهِينَ} متلذذين بذكرهم بالسوء والسخرية منهم وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بمرأى من المارين ويكتفون حينذٍ بالتغامز {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي المجرمون المؤمنين أينما كانوا {قَالُوا} مشيرين إلى المؤمنين بالتحقير {إِنَّ هَاؤُلاءِ لَضَآلُّونَ} أي نسبوا المسلمين ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد وقالوا تركوا دين آبائهم القديم ودخلوا في الدين الحادث أو قالوا تركوا التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أولاً وهذا كما إن بعض غفلة العلماء ينسبون الفقراء السالكين إلى الضلال والجنون خصوصاً إذا كان أهل السلوك من أهل المدرسة فإنهم يضللونه أكثر من تضليل غيره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
منعم كنى زعشق وى اي زاهد زمان
معذور دارمت كه تواور انديده
{وَمَآ أُرْسِلُوا} أي المجرمون {عَلَيْهِمْ} أي على المسلمين {حَافِظِينَ} حال من واو قالوا أي قالوا ذلك والحال إنهم ما أرسلوا من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أمورهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وإنما أمروا بإصلاح أنفسهم وأي نفع لهم في تتبع
373
أحوال غيرهم وهذا تهكم بهم وأشعار بأن ما اجترؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى وقد جوز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين كأنهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام وإنما قيل نقلاً له بالمعنى {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي المعهودون من الفقراء {مِنَ الْكُفَّارِ} المعهودين وهو الأظهر وإن أمكن التعميم من الجانبين {يَضْحَكُونَ} حين يرونهم إذلاء مغلولين وغشيهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التعم لترفه قال في بعض التفاسير لعل الفاء جواب شرط مقدر كأنه قيل إذا عرفتم ما ذكر فاعلموا إن اليوم أي يوم القيامة فاللام للعهد والذين مبتدأ ومن الكفار متعلق بقوله يضحكون وحرام للوهم أن يتوهم كونه بياناً للموصول نظراً إلى ظاهر الاتصال من غير تفكر في المعنى ويضحكون خبر المبتدأ وهو ناصب اليوم لصحة المعنى {عَلَى الارَآااِكِ} برتختهاى آراسته بادرو ياقوت {يَنظُرُونَ} أي يضحكون منهم حال كونهم ناظرين إليهم وإلى ما فيهم من سوء الحال فهو حال من فاعل يضحكون {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} كلام مستأنف من قبل الله أو من قبل الملائكة والاستفهام للتقرير وثوب بمعنى يثوب عبر عنه بالماضي لتحققه والتثويب والإثابة المجازاة استعمل في المكافاة بالشر.
قال الراغب : الإثابة تستعمل في المحبوب نحو فأثابهم الله بما قالوا جنات وقد قيل ذلك في المكروه نحو فأثابكم غماً بغم على الاستعارة والتثويب في القرآن لم يجيء إلا في المكروه نحو هل ثوب الخ.
انتهى وفي تاج المصادر التثويب اداش دادن وفي تهذيب المصادر التثويب ثواب دادن وفي "القاموس" التثويب التعويض انتهى.
وهو الموافق لما في التاج والمراد بما كانوا يفعلون استهزآؤهم بالمؤمنين وضحكهم منهم وهو صريح في أن ضحك المؤمنين منهم في الآخرة إنما هو جزاء لضحك الكافرين منهم في الدنيا وفيه تسلية للمؤمنين بأنه سينقلب الحال ويكون الكفار مضحوكاً منهم وتعظيم لهم فإن إهانة الأعداء تعظيم للأولياء والله ينتقم لأوليائه من أعدائهم فإنه يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الجري لجروه ومن الله العصمة وعلم منه أن الضحك والاستهزاء والخرية والغمز من الكبائر فالحائض يها من المجرمين الملحقين بالمشركين نسأل الله السلامة.
374
جزء : 10 رقم الصفحة : 363
تفسير سورة الانشقاق
خمس وعشرون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 374(10/290)
{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} إعرابه كأعراب إذا السماء انفطرت أي انفتحت بغمام أبيض يخرج منها كقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام والباء للآلة كما في قولك انشقت الأرض بالنبات وفيذلك الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال أو فيه ملائكة العذاب وكان ذلك أشد وأفظع من حيث إنه جاءه العذاب من موضع الخير فيكون انشقاق السماء لنزول الملائكة بالأومر الإلهية وقيل للسقوط والانتقاض وقيل لهول القيامة وكيف لا تنشق وهي في قبضة قهره أقل من خردلة ولا منع من جميع هذه الأقوال فإنها تنشق لهبة الله فتنزل الملائكة ثم يؤول أمرها إلى الفساد والاختلال وعن علي رضي الله عنه تنشق من المجرة وهي بفتح الميم باب الماء أي البياض المستطيل في وسط السماء سميت بذلك لأنها كأثر المجر ويقال لها بالفارسية راه حاجيان وكهكشان.
تنشق السماء من ذلك الموضع كأنه مفصل ملتئم فتصدع منه {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} واستمتعت أي انقادت وأذغنت لتأثير قدرته تعالى حين تعلقت قدرته وإرادته بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع فهو استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل يعني إذا أطلق الأذن وهو الاستماع في حق من له حاسة السمع والاستماع بها يراد بها الإجابة والانقياد مجازاً وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول يكون استعارة تمثيلية فقوله أتينا طائعين يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً وقوله وأذنت لربها يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام من غير ممانعة أصلاً والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم وهذا الانقياد عند أرباب الحقئاق محمول على أن لها حياة وإدراكاً كسائر الحيوانات إذ ما من شيء إلا وله نصيب من تجلى الاسم احي وقد سبق مراراً {وَحُقَّتْ} من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد إذ هي مربوبة ومصنوعة له تعالى أي شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة القاهرة الربانية التي يتأتى بها كل مقدور ولا يتخلف عنها أمر من الأمور وبالفارسية وخود آنرا نين سزد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
فحق الجملة أن تكون اعتراضاً مقررة لما قبلها لا معطوفة عليه {وَإِذَا الارْضُ مُدَّتْ} أي بسطت بلإالة جبالها وآكامها عن مقارها وتسويتها بحيث صارت كالصحيفة الملساء أو زيدت سعة وبسطة من أحد وعشرين جزأ إلى تسعة وتسعين جزأ لوقوف الخلائق عليها للحساب والألم تسعهم من مده بمعنى أمده أي زاده وفي الحديث إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلام وضع قدميه يعني لكثرة الخلائق فيها قوله مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه يعني لكثرة الخلائق فيها قوله مد الأديم لأن الأديم إذا مد زال كل انثناء فيه واستوى وفي بعض الروايات مد الأديم العكاظي قال في "القاموس" هو كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقدم هلاك ذي القعدة وتستمر عشرين يوماً تجتمع قبائل العرب فيتعا كظون أي يتفاخرون ويتناشدون ومنه الأديم العكاظي
375
انتهى {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز إلى ظاهرها كقوله تعالى : [الزلزلة : 2-4]{وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا} وهو من الإسناد المجازي وإلا فالإلقاء والإخراج تعالى حقيقة فإن قلت إخراج الكنوز يكون وقت خروج الدجال لا يوم القيامة قلت يوم القيامة وقت متسع يجوز اعتباره من وقت خروجه ولو مجاز مجازاً لأنه الانه من أشراطه الكبرى فيكون إخراج الكنوز عند قرب الساعة وإخراج الموتى عند البعث وتخلت} وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء منه كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها كما يقال تكرم الكريم وترحم الرحيم إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة وتكلفا فوق ما في طبعهما {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} وانقادت له في الإلقاء والتخلي {وَحُقَّتْ} أي وهي حقيقة بذلك أي شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة الربانية ذكره مرتين لأن الأول متصل بالسماء والثاني بالأرض وإذا اتصل كل واحد بغير ما اتصل به الآخر لم يكن تكراراً وجواب إذا محذوف أي إذا وقعت هذه الأمور كان نم الأهوال ما تقصر عن بيانه العبارة وفي "تفسير الكاشفي" جواب إذا آنست كه به بيند إنسان ثواب وعقاب را.
وفيه إشارة إلى انشقاق سماء الروح الحيوانية بانفراجها عن الروح الإنساني وزوالها وبسط أرض البدن بنزع الروح عنها وإلقاء ما فيها من الروح والقوى وتخليها عن كل ما فيها من الآثار والإعراض بالحياة والمزاج والتركيب والشكل بتبعية خلوها عن الروح.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
(10/291)
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى انشقاق سماء الروح عن ظلمة غيم النفس الأمارة وانقيادها لفيض ربها بتهيئة الاستعداد بما يتصرف فيها من غير أباء وامتنع وإلى بسط أرض النفوس البشرية لأربابها وتخليها عن أحكام البشرية يا اأَيُّهَا الانسَـانُ} جنس الإنسان الشامل للمؤمن والكافر والعاصي فالخطاب عام لكل مكلف على سبيل البدل يقال هذا أبلغ من العموم لأنه يقوم مقام التنصيص في النداء على مخاطبة كل واحد بعينه كأنه قيل يا فلان ويا فلان إلى غير ذلك {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه بحيث يؤثر فيها والجهد بالفتح بمعنى المشقة والتعب ولكد السعي الشديد في العمل وطلب الكسب من كدح جلده إذا خدشه والمعنى إنك جاهد ومجد أي ساع باجتهاد ومشقة إلى لقاء ربك أي إلى وقت لقائه وهو الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء مبالغ في ذلك وفي الخبر إنهم قالوا يا رسول الله فيم نكدح وقد جفت الأقلام ومضت المقادير فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له {فَمُلَـاقِيهِ} فملاق له أي لجزاء عملك من خير وشر عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه ولا مفر لك منه ويقال إنك عامل لربك عملاً فملاق عملك يوم القيامة يعني إن جدك وسعيك إلى مباشرة الأعمال في الدنيا هو في الحقيقة سعى إلى لقاء جزائها في العقبى فملاق ذلك الجزاء لا محالة فعليك أن تباشر في الدنيا بما ينجيك في العقبى واحذر عما يهلكك فيها ويوقعك في الخجالة والافتضاح من سوء المعاملة وفي الحديث النادم ينتظرالرحمة والمعجب ينتظر المقت وكل عامل سيقدم إلى ما أسلف.
وقال القاشاني : إنك اع بالموت أي تسير مع أنفاسك سريعاً كما قيل أنفاسك خطاك فملاقيه ضرورة فالضمير للرب.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى الإنسان
376
المخلوق على صورة ربه وكدحه واجتهاده في التحقق بالأسماء الآلهية والصفات اللاهوتية فهو ملاقي ما يكدح ويجتهد حسب استعداده الفطري {فَأَمَّا مَنْ} وهو المؤمن السعيد ومن موصولة وهو تفصيل لما أجمل فيما قبله {أُوتِىَ} أي يؤتى ولماضي لتحققه {كِتَـابَهُ} المكتوب فيه إعماله التي كدح في كسبها {بِيَمِينِهِ} لكون كدحه بالسعي فيما يكتبه كاتب اليمين والحكمة في الكتاب إن المكلف إذا أعلم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الإشهاد كان ازجر عن المعاصي وإن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم احتشامه من خدمه المطلعين عليه {فَسَوْفَ} س زود بودكه {يُحَاسَبُ} يوم القيامة بعد مدة مقدرة على ما تقتضيه الحكمة {حِسَابًا يَسِيرًا} سهلاً لا مناقشة فيه ولا اعتراض بما يسوؤه ويشق عليه كما يناقش أصحابا لشمال والحساب بمعنى المحاسبة وهو بالفارسية باكسى شمار كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
والمراد عد أعمال العباد وإظهارها للمجازاة وعن الصديق رضي الله عنها هو أي الحساب اليسير أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه يعني أن يعرض عليه أعماله ويعرف إن الطاعة منها هذه والمعصية هذه ثم يثاب على الطاعة ويتجاوز عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولاي طالب بالعذر ولا بالحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذراً ولا حجة فيفتضح.
برادر زكار بدان شرم دار
كه در روى نيكان شوى شر مسار
بجاي كه دهشت خورد انييا
تو عذر كنه راه داري بيا
ولذا قال عليه السلام عرض الجيش أعني عرض الأعمال لأنها زيأهل الموقف والله الملك فيعرفون بسيماهم كما يعرف الإجناد هنا بزيهم قالوا إن عصاة المؤمنين داخلة في هذا القسم فقوله فسوف يحاسب حساباً يسيراً من وصف الكل بوصف البعض أي فالعصاة وإن لم يكن لهم حساب يسير بالنسبة إلى المطيعين لكن حسابهم كالعرض بالنسبة إلى مناقشة أصحاب الشمال فأصحاباليمين شاملة لهم وقد يقال كتاب عصاة المؤمنين يعطي عند خروجهم عن النار وقيل يجوز أن يعطوا من الشمال لا من وراء ظهورهم وفيه إن الإعطاء من الشمال ومن وراء الظهر أم واحد وقيل لم تتعرض الآية للعصاة الذين يدخلهم الله النار وهو الظاهر وقوله عليه السلام ، في بعض صلاته اللهم حاسبني حساباً يسيراً وإن دل على أن للأنبياء كتاباً لكن الظاهر إرشاد الأمة وتعليمهم وإلا فهم معصومون داخلون الجنة بلا حساب ولا كتاب {وَيَنقَلِبُ} أي يرجع وينصرف من مقام الحساب اليسير {إِلَى أَهْلِهِ} أي عيشيرة المؤمنين أو فريق المؤمنين هم رفقاؤه في طريق السعادة والكرامة {مَسْرُورًا} مبتهجاً بحاله وكونه من أهل النجاة قائلاً هاؤم اقرأوا كتابيه فهذا الانقلاب يكون في المحشر قبل دخول الجنة لا كما قال في "عين المعاني" من أنه يدل على أن أهله يدخلون الجنة قبله وفيه إشارة إلى كتاب الاستعداد الفطري المكتوب في ديوان الأزل بقلم كتبة الأسماء الجمالية فإن من أوتيه لا تناقشه الأسماء الجلالية وتنقلب إلى أهله مسروراً بفيض تجلي جماله
377
(10/292)
ولطفه {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ} تكرير كتابه بدون الاكتفاء بالاضمار لتغاير الكتابين وتخالفهما بالاشتمال والحكم في المآل أي يؤتى كتاب عمله
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
{وَرَآءَ ظَهْرِهِ} أي بشماله من وراء ظهره وجانبه ظرف لأوتى مستعمل في المكان.
وقال الكلبي : يغل يمينه ثم تلوي يده اليسرى من ورائه فيعطي كتابه بشماله وهي خلف ظهره فلا مخالفة بين هذا وبين ما في الحاقة حيث لم يذكر فيها الظهر بل اكتفى بالشمال قال الامام ويحتمل أن يكون بعضهم يعطي كتابه بشماله وبعضهم من وراء ظهره وفي تفسير الفاتحة للفناري رحمه الله ، وأما من أوتى كتابه بشماله وهو المنافق فإن الكافر لا كتاب له أي لأن كفره يكفيه في المؤاخذة فلا حاجة إلى الكتاب من حيث إنهم لسيوا بمكلفين بالفروع وإما من أوتى كتابه وراء ظهره فهم الذين أوتوا الكتاب فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فإذا كان يوم القيامة قيل له خذه من راء ظهرك أي من الموضع الذي نبذته فيه في حياتك الدنيا فهو كتابه المنزل عليه لا كتاب الأعمال فإنه حين نبذه وراء ظهره ظن أن لن يحور وقال أبو الليث في "البستان" : اختلف الناس في الكفار هل يكون عليهم حفظة أولاً قال بعضهم لاي كون عليهم حفظة لأن أمرهم ظاهر وعملهم واحد وقال الله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم ولا نأخذ بهذا القول بل يكون للكفار حفظة والآية نزلت بذكر الحفظة في شأن الكفار ألا ترى إلى قوله تعالى : [الانفطار : 9-11]{بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقال في آية أخرى وإما من أوتى كتابه بشماله وإما م أوتى كتابه وراء ظهره فأخبر أن الكفاريكون لهم كتاب وحفظة فإن قيل : فالذي يكتب عن يمينه إذا أي شيء يكتب ولم يكن لهم حسنة يقالله الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون شاهداً على ذلك وإن لم يكتب فسوف يدعو} س زود باشدكه بخواند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
أي بعد مدة منتهية عذاب شديد لا يطاق عليه {ثُبُورًا} أي يتمنى لنفسه الثبور وهو الهلاك ويدعوه يا ثبوراه تعال فهذا أوانك وأني له ذلك يعني لما كان إيتاء الكتاب من غير يمينه علامة كونه من أهل النار كان كلامه واثبوراه قال الفراء تقول العرب فلان يدعو لفه إذا قال والهفاءقيل الثبور مشتق من المثابرة على الشيء وهو الماظبة عليه وسمى هلاك الآخرة ثبوراً لأنه لازم لا يزول.
كما قال تعالى : {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} وادعوا ثبوراً كثيراً قال في كشف الأسرار يربو على سياه وقتى در بازار ميرفت سائلي ميكفت بحق روز بزرك كه مرايزى بدهيد يراز هوش برفت ون بهوش باز آمداورا كفتنداي شيخ ترا اين ساعت ه روى نمود كفت هيبت وعظمت آن روز بزرك آنكه كفت واحزناه على قلة الحزن واحسرتاه على قلة التحسر يعني وا اندوهاي آزبى آند وهي واحسرتا آزبى حسرتي ويصلي سعيرا} أي يدخلها ويقاسي حرها وعذابها من غير حائل وهذا يدل على أن دعاءهم بالثبور قبل الصلى وبه صرح الامام وأما قوله تعالى : [النساء : 25-14]{أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} فيدل على أنه بعده ولا منافاة في الجمع فإنهم يدعونه أولاً وآخراً بل دائماً على أن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب وفيه إشارة إلى صاحب كتاب الاستعداد الفطري المكتوب في ديوان الأزل بقلم كتبة الأسماء الجلالية فإنه يتمنى أن يكن في الدنيا فانياً في الحق وهالكاً عن أنيته ويصلي نار الرياضة
378
والمجاهدة وراء ظهره من الجزاء الوفاق لأنه خالف أمر ربه في قوله وليس البر بأن تأتو البيوت من ظهورها أي من غير مدخلها بمحافظة ظواهر الأعمال من غير رعاية حقوق بواطنها بتقوى الأحوال فسبب الوصول إلى حضرة الربوبية والدخل فيها هو التقوى وهو اسم جامع لكل بر من أعمال الظاهر وأحوال الباطن والقيام باتباع الموافقات واجتناب المخالفات.
وقال القاشاني : وأما من أوتى كتابه وراء ظهره أي جهته التي تلي الظلمة من الروح الحيواني والجسد فإن وجه الإنسان جهته التي إلى الحق وخلفه جهته التي إلى البدن الظلماني بأن رد إلى الظلمات في صور الحيوانات فسوف يدعو ثبوراً لكونه في ورطة هلاك الروح وعذاب الأبد ويصلي سعير نار الآثار في مهاوي الطبيعة إنه} أي لأن فالجملة استئناف لبيان علة ما قبلها {كَانَ} في الدنيا {فِى أَهْلِهِ} فيما بين أهله وعشيرته أو معهم على أنهم جميعاً كانوا مسرورين كما يقال جاءني فلان في جماعة أي معهم {مَسْرُورًا} مترفاً بطراً مستبشراً يعني شادان ونازان بمال فإني وجاه نا يدار ومحجوب از منعم بنعم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
(10/293)
كديدن الفجار الذين لاي خطر ببالهم أمور الآخرة ولا يتفكرون في العواقب كسنة الصلحاء والمتقين كما قال تعالى حكاية إن كنا في أهلنا مشفقين والحاصل إنه كان الكافر في الدنيا فارغاً عن هم الآخرة وكان له مزمار في قلبه فجوزي بالغم الباقي بخلاف المؤمن فإنه كان له نائحة في قلبه فجوزي بالسرور الدائم وفيه إشارة أيضاً إلى الروح العلوي الذ يؤتى كتابه بيمينه وإلى النفس السفلية التي تؤتي كتابها من وراء ظهرها وأهلها القوى الروحانية النورانية والقوى الجسمانية الظلمانية {إِنَّه ظَنَّ} تيقن كما في "تفسير الفاتحة" للفناري وقال في "فتح الرحمن" الظن هنا على بابه بمعنى الحسبان لا الظن الذي بمعنى اليقين وهو تعليل لسروره في الدنيا أي إن هذا الكافر ظن في الدنيا {إِنَّ} أي الأمر والشأن فهي مخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعول الظن أو أحدهما على الخلاف المعروف {لَّن يَحُورَ} لن يرجع إلى الله تكذيباً للمعاد والحور الرجوع والمحار المرجع والمصير وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أغرابية تقول لبنية لها حورى حورى أي ارجعي وحر إلى أهلك أي ارجع ومنه الحديث نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي الرجوع عن حالة جميلة والحواري القصار لرجعه الثواب إلى البياض {بَلَى} إيجاب لما بدع لن أي بلى ليحورن البتة وليس الأمر كما يظن {إِنَّ رَبَّهُ} الذي خلقه {كَانَ بِهِ} وبأعماله الموجبة للجزاء والجار متعلق بقوله {بَصِيرًا} بحيث لا تخفى منها خافية فلا بد من رجعه وحسابه وجزائه عليها حتماً إذ لا يجوز في حكمته أن يهمله فلا يعاقبه على سوء أعماله وهذا زجر لجميع المكلفين عن المعاصي كلها.
وقال الواسطي رحمه الله كان بصيراً به أدخلقه لماذا خلقه ولأي شيء لأجده وما قدر عليه من السعادة أو الشقاوة وما كتب له وعليه من له ورزقه {فَلا} كلمة لا صلة للتوكيد كما مر مراراً {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب وبغيبوبتها يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العشاء عند عامة العلماء أو لبياض الذي يليها ولا يدخل وقت العشاء إلا بزواله.
وجمعي برآنندكه آن بياض أصلاً غائب نمى شود بلكه
379
متردداست از أفقي بأفقي.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
وقد سبق تحقيق المقام في المزمل وهي إحدى روايتين عن أبي حنيفة رضي الله عنه ، ويروى إنه رجع عن هذا القول ومن ثمة كان يفتي بالأول الذي هو قول الإمامين وغيرهما سمى به يعني على كل من المعنيين لرقته لكن مناسبته لمعنى البياض أكثر وهو من الشفقة التي هي عبارة عن رقة القلب ولا شك أن الشمس أعني ضوءها يأخذ في الرقة والضعف عن غيبة الشمس إلى أن يستولى سواد الليل على الآفاق كلها وعن عكرمة ومجاهد الشفق هو النهار بناء على أن الشفق هو أثر الشمس وهو كوكب نهاري وأثره هو النهار فعلى هذا يقع القسم بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش والآخر سكن وبهما قوام أمور العالم وفي المفردات الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس.
قال القاشاني : فلا أقسم بالشفق أي النورية الباقية من الفطرة الإنسانية بعد غروبها واحتجابها في أفق البدن الممزوجة بظلمة النفس عظمها بالأقسام بها لإمكان كسب الكمال والترقي في الدرجات بها.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن الله تعالى أقسم الشفق لكونه مظهر الوحدة الحقيقية الذاتية والكثرة النسبية الإسمائية وذلك لأن الشفق حقيقة برزخية بين سواد ليل الوحدة وبياض نهار الكثرة والبرزخ بين الشيئين لا بد له من قوة كل واحد منهما فيكون جامعاً لحكم الوحدة والكثرة فحق له أن يقسم به وإنما جعل الليل مظهر الوجدة لاستهلاك الأشياء المحسوسة فيه استهلاك التعينات في حقيقة الوحدة ويدل عليه قوله وجعلنا الليل لباساً لاستتار الأشياء بظلمته وجعلنا النهار معاشاً مظهر الكثرة لظهور الأشياء فيه ولاشتمال المعاش على الأمور الكثيرة {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} قال الراغب : الوسق جمع المتفرق أي وأقسم بالليل وما جمعه وما ضمه وستره بظلمته فما موصولة يقال وسقه فاتسق واستوسق يعني إن كلا منهما مطاوع لوسق أي جمعه فاجتمع وما عبارة عما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب والحشرات والهوام والسباع وذلك إنه إذا أقبل الليل أقبل كل شيء إلى مأواه مما كان منتشراً بالنهار وقيل يجوز أن يكون المراد بما جمعه الليل العباد المتهجدين بالليل لأنه تعالى قد مدح المستغفرين بالأسحار فيجوز أن يقسم بهم.
قال القاشاني : أي ليل ظلمة البدن وما جمعه من القوى والآلات والاستعدادات التي يمكن بها اكتساب العلوم والفضائل والترقي في المقامات ونيل المواهب والكمالات.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص380 حتى ص390 رقم39
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
(10/294)
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى القسم بليل النفس المطمئنة المستترة بغلسية النفس الأمارة بعد الوصول إلى المقام المأمول وإنما صارت مطمئنة من الرجوع إلى حكم النفس الأمارة وبقي لها التلوين في التمكين من أوصاف الكمل من الذرية المحمديين ولهذا أمرت بالرجوع إلى ربها بقوله : [الانشقاق : 18]{يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} وليس المقصود الذاتي من الرجوع نفس الرجوع بل المقصود الكلي هو الاتصال بالمرجوع إليه قوله وما وسق أي وما جمع من القوى الروحانية المستخلصة من يد تصرف النفس الأمارة والقمر إذا اتسق} أي اجتمع وتم بدر الليلة أربع عشرة وفي "فتح الرحمن" امتلأ في الليالي البيض يقال أمور فلان متسقة أي مجتمعة على الصلاح كما يقال منتظمة قال في "القاموس" وسقه يسقه جمعه وحمله ومنه والليل وما وسق واتسق انتظم انتهى.
أقسم الله بهذه الأشياء لأن
380
في كل منها تحولاً من حال فناسبت المقسم عليها يعني إن الله تعالى أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على تغير أحوال الخلق فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها وهو ضوء النهار ولما بعدها وهو ظلمة الليل وكذا قوله والليل وما وسق فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم وكذا قوله والقمر وإذا اتسق فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصاً.
قال القاشاني : أي قمر القلب الصافي عن خسوف النفس إذا اجتمع وتم نوره وصار كاملاً.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى القسم بقمر قلب العارف المحقق عند استدارته ودريته {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا} مفعول تركبن {عَن طَبَقٍ} أي لتلاقن حالاً عبد حال يعني برسيد ومتلاشى شويد حالي را بعد از حالي كه كل واحدة منها مطايقة لأختها في الشدة والفظاعة يقال ما هذا بطبق هذا أي لا يطابقه.
قال الراغب : المطابقة من لأسماء المتضايفة وهو أن يجعل الشيء فوق آخر بقدره ومنه طابقت النعل بالنعل لم يستعمل الطباق في الشيء الذي يكون فوق الآخر تارة وفيما يوافق غيره أخرى وقيل الطبق جمع طبقة وهي المرتبة وهو الأوفق للركوب المنبىء عن الاعتلاء والمعنى لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة ودواهيها إلى حين المستقر في إحدى الدارين وقرىء لتركبن بالإفراد على خطاب الإنسان باعتبار اللفظ لا باعتبار شموله لإفراده كالقراءة الأولى ومحل عن طبق النصب على إنه صفة لطبقاً أي طبقاً مجاوز الطبق أو حال من الضمير في لتركبن طبقاً أي مجاوزين لطبق أو مجاوزاً على حسب القراءة فعن على معناه المشهور وهو المجاوزة وتفسيره بكلمة بعد بيان لحاصل المعنى.
وقال ابن الشيخ عن هنا بمعنى بعد لأن الإنسان إذا صار إلى شيء مجاوزاً عن شيء آخر فقد صار إلى الثاني بعد الأول فصح إنه يستعمل فيه بعد وعن معاً وأيضاً لفظ عن يفيد البعد والمجاوزة فكان مشابهاً للفظ بعد فصح استعمال أحدهما بمعنى الآخر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
وفي التأويلات النجمية : يخاطب القلب الإنساني المتوجه إلى الله بأنواع الرياضات وأصناف المجاهدات والتقلبات في الأحوال المطابقة كل واحدة منها الأخرى في الشدة والمشقة من الجوع والسهر والصمت والعزلة وأمثال ذلك {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي إذا كان حالهم يوم القيامة ما ذكر فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين أي أي شيء يمنعهم من الإيمان مع تعاضد موجباته وفيه إشارة إلى النفس والهوى والقوى البشرية الطبيعية وعدم إيمانهم بالقلب وامتثالهم ره باتباع أحكام الشريعة وآداب الطريقة وآثار الحقيقة {وَإِذَا قُرِىاَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ} جملة شرطية محلها النصب على الحالية نسقاً على ما قبلها أي أي مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة النبي عليه السلام أو وحد من أصحابه وأمته القرآن فإنهم من أهل اللسان فيجب عليهم أن يجزموا بأعجاز القرآن عند سماعه وبكونه كلاماً إلهياً ويعلموا بذلك صدق محمد في دعوى النبوة فيطيعوه في جميع الأوامر والنواهي ويجوز أن يراد به نفس السجود عند تلاوة آية السجدة على أن يكون المراد بالقرآن آية السجدة بخصوصها لا مطلق
381
القرآن كما روى إنه عليه السلام قرأ ذات يوم واسجد واقترب فسجد هو ومن معه المؤمنين وقريش تصفق فوق رلأسهم وتصفر استهزاء وبه احتج أبو حنيفة على وجوب السجدة فإن الذم على ترك الشيء يدل على وجوب ذلك وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، إن رسول الله عليه اسلام ، سجد فيها وكذا الخلفاء وهي الثالثة عشرة من أربع عشرة سجدة تجب عدنها السجدة عند أئمتنا على التالي والسامع سواء قصده أم لا وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، ليس في مفصل سجدة وكذا قال الحسن هي غير واجبة ثم إن الأئمة الثلاثة يسجدون عدن قوله لا يسجدون والامام مالك عند آخر السورة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
(10/295)
وفي التأويلات النجمية : وإذا قرىء على النفس والهوى والقوى البشرية الطبيعية المواعظ الإلهية القرآنية المنزلة على رسول القلب لا يخضعون ولا ينقادون لاستماعها وامتثال أوامرها وائتمار أحكامها {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها مع تحقق موجبات تصديقه ولذلك لا يخضعون عند تلاوته وهذا من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والأشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن وفي البروج في تكذيب لأنه راعي في السورتين فواصل الآي مع صحة الفظ وجودة المعنى وفي بعض التفاسير الظاهر إن المراد التكذيب بالقلب بمعنى عدم التصديق وهو إضراب ترق فإن عدم الإيمان يكون بالشك أيضاً والتكذيب من شدة الكفر وقوة الانكار الحاملة على الإضراب {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} بما يضمرونه في قلوبهم ويجمعونه في صدورهم من الفر والحسد والبغي والبغضاء فيجازيهم على ذلك في الدنيا والآخرة فما موصولة يقال أوعيت الشيء أي جعلته في وعاء أي ظرف ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ أو بما يجموعونه في صحفهم من أعمال السوء ويدخرونه لأنفسهم من أنواع العذاب علماً فعلياً تفصيلياً.
قال القاشاني : بما يوعونه في وعاء أنفسهم وبواطنهم من الاعتقادات الفاسدة والهيئات الفاسقة وقال نجمد الدين من إغراقهم في بحر الشهوات الدنيوية وإحراقهم بنيرن العذاب الأخروية {فَبَشِّرْهُم} أي الذين كفروا {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مؤلم غاية الإيلام لأن علمه تعالى بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم حتماً وهو استهزاء بهم وتهكم كما قال تعالى : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لأن البشارة هي الأخبار بالخبر السار وقد استعملت في الخبر المؤلم.
(قال الكاشفي) : يعني خبركن ايشانرا بعذاب دردناك وفيه رمز إلى تبشير المؤمنين بالثواب المريح راحة جسمانية وروحانية لأن التخصيص ليس بضائع ولذلك قال تعالى إلا الذين} استثناء منقطع من الضمير المنصوب في فبشرهم الراجع إلى الذين كفروا والمستثنى وهم المؤمنون خارج عنهم أي لكن الذين {ءَامَنُوا} إيماناً صادقاً وأيضاً الإيمان العلمي بتصفية قلوبهم عن كدر صفات النفس {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من الطاعات المأمور بها وأيضاً باكتساب الفضائل {لَهُمْ} في الآخرة {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} أي غير مقطوع بل متصل دائم من منه منا بمعنى قطعه قطعاً أو ممنون به عليهم فإن المنة تكدر النعمة من من عليه منة والأول هو الظاهر ولعل المراد من الثاني تحقيق الأجر وإن
382
المأجور استحق الأجر بعمله إطاعة لربه وإن كان ذلك الاستحقاق من فضل الله كما إن إعطاء القدرة على العمل والهداية إليه من فضله أيضاً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
حسن بصري قدس سره : كفت كساني را يافتم كه ايشان بدنيا جوانمرد وسخى بودند همه دنيا بدادندى ومنت ننهادند وبوقت خويش نان بخيل بودندكه ك نفس از روز كار خويش نه به دردادندى ونه بفرزند.
قال القاشاني : لهم أجر من ثواب الآثار والصفات فيج نة النفس والقلب غير مقطوع لبراءته من الكون والفساد وتجرده عن المواد.
وفي التأويلات النجمية : إلا الذين آمنوا من الروح والسر والقلب وقواهم الروحانية وعملوا الصالحات من الأعراض عن الدنيا والإقبال على الله لهم أجر غير ممنون بمنة نفسهم واجتهادهم واكتسابهم بل بفضل الله ورحمته.
قال بعض العلماء النكتة في ترتيب السور الثلاث إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين التعريف بمستقر تلك الكتب وفي هذه السورة أي الانشقاق إيتاؤها يوم القيامة عند العرض والله تعالى أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 375
تفسير سورة البروج
ثنتان وعشرون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 382
{وَالسَّمَآءِ} كل جرم علوي فهو سماء فدخل فيه العرش {ذَاتِ الْبُرُوجِ} جمع برج بمعنى القصر بالفارسية كوشك.(10/296)
والمراد البروج الاثنا عشر التي في الفلك الأعلى فالمراد بالسماء فلك الأفلاك قال سعدي المفتي لكن المعهود في لسان الشرع إطلاق العرش عليه دون السماء ويجوز أن يراد الفلك الأقرب إلينا فالآية كقوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} انتهى.
وجوابه ما أشرنا إليه في عنوان السماء ثم إنها شبهت بروج السماء بالقصور التي تنزل فيها الأكابر والأشراف لأنها منازل السيارات ومقر الثوابت قال الامام السهيلي رحمه الله أسماء البروج الحمل وبه يبدى لأن استدارة الأفلاك كان مبدأها من برج الحمل فيما ذكروا وفي شهر هذا البرج نيسان حيث تم العشرون منه كان مولد النبي عليه السلام ، وكان مولده عنده طلوع الغفر وهو بفتح الغين المعجمة وسكون الفاء منزل للقمر ثلاثة أنجم صغار والغفر يطلع في ظاهر الشهر أول الليل لأن وقته النطح وهو الشرطان بالمعجمة وبفتحتين وهما نجمان من لحم هما قرناه وإلى جنب الجنوبي منهما وفي القاموس وإلى جانب الشمالي منهماك وكب صغير ومنهم من يعده معهما فيقول هذا المنزل ثلاثة كواكب ويسميها الأشراط وإلى الحمل أيضاً يضاف البطين وهو كزبير منزل للقمر ثلاثة كواكب صغار كأنها أثافي وهو بطن الحمل وبعد الحمل الثور ثم الجوزاء ويقال لها النسر والجبار والتوأمان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
قال في القاموس التوأم منزل للجوزاء انتهى.
وهامة الجوزاء الهقعة وهي ثلاثة كواكب فوق منكبي الجوزاء كمالاً نافى إذا طلعت مع الفجر اشتد حر
383
الصيف ثم السرطان المهملة ثم الأسد ثم السنبلة ثم الميزان ثم العقرب وبين الزبانيين من العقرب وهما قرناها وكوكبان نيران في قرني العقرب كما في القاموس وبين وركى الأسد ورجليه وهما السماك ككتاب يطلع الغفر الذي به مولد الأنبياء عليهم السلام وفيه قالوا :
خير المنازل في الأبد
بين الزباني والأسد
لأنه يليه من الأسد ذنبه ولا ضرر فيه ومن العقرب زبانياها ولا ضرر فيهما وإنما تضر بذنبها إذا شالته أي رفعته وهو الشولة في لمنازل أي ما تشول العقرب من ذنبها وكوكبان نيران ينزلهما القمر يقال لهما حمة العقرب ثم القوس ثم الجدي ثم الدلو ثم رشاء الدلو وهو منزل للقمر وهو الحوت يحسب في البروج وفي المنازل وجعل الله الشهور على عدد هذه البروج فقال تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً.
قال في كشف الأسرار وأين برجها برهار فصل است يك فصل از ان وقت بهار است سه ماه وآفتاب ندرين سه ماه در حمل وثور وجوزا باشد وفصل دوم روزكار صيف است تابستان كرم سه ماه وآفتاب اندرن سه ماه در سرطان وأسد وسنبله باشد وفصل سوم روزكار خريف است سه ماه وآفتاب اندرين سه ماه در ميزان وعقرب وقوس باشد وفصل هارم روزكار زمستانست سه ماه وآفتاب اندرين سه ماه درجدى ودلو وحوت باشد وهر فصلى راطبعي ديكرست وكردش أو ديكر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
يقول الفقير أيده الله القدير الفصل البيعي عبارة عن ثلاثة أشهر يعبر عن أولها بأذار ، وعن الثاني بنيسان ، وعن الثالث بأيار ، فإذا مضت سبع عشرة ليلة من الشهر الأول استوى الليل والنهار بأن يكون كلم نهما ثنتي عشرة ساعة ثم يأخذ النهار من الليل كل يوم شعيرة حتى إذا مضت سبعة عشر يوماً من حزيران وهو أول فصل الصيف وبعده تموز ثم اغستوس يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات ويكون اليوم أطول الأيام كما أن الليلة تكون أقصر الليالي ثم يأخذ الليل من النهار على عكس ما سبق فينتقص من النهار كل يوم شعيرة حتى إذا مضت سبعة عشر يوماً من أيلول وهو أول فصل الخريف وبعده تشرين الأول الذي هو أوسط الخريف ثم تشرين الثاني الذي هو آخره استوى الليل والنهار أيضاً ثم يتزايد الليل كل يوم شعيرة حتى إذا كان سبعة عشر يوماً من كانون الأول وهو أول فصل الشتاء وبعده كانون الثاني ، ثم شباط ينتهي طول الليل بأن يكون خمس عشرة ساعة وقصر النهار بأن يكون تسع ساعات فهذا الحساب يعود ويدور أبداً إلى ساعة القيام فالله تعالى يولج الليل في النهار أي يدخله فيه بأن ينقص من ساعات الليل ويزيد في ساعات النهار وذلك إذا مضى من كانون الأول سبعة عشر يوماً إلى أن يمضي من حزيران هذا العدد وذلك ستة أشهر وهي كانون الأول وكانون الثاني وشباط وآذار ونيسان وأيار ويولج لنهار في الليل أي يدخله فيه بأن ينقص من ساعات النهار ويزيد في ساعات الليل وذلك ستة أشهر أيضاً وهي حزيران وتموز واغستوس وأيلول وتشرين الأول
384
(10/297)
وتشرين الثاني وهذا كله بتقدير العزيز العليم وأداراته الأجزام العلوية على نهج مستقيم ويقال المراد بالبروج هي النجوم التي هي منزل القمر وهي ثمانية وعشرون نجماً ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها ولا يتقصر عنها وذا صار القمر إلى آخر منازله دق واستقوس ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوماً وإن كان تسعة وعشرين فليلة وحدة وإطلاق الروج على هذه النجوم مبنى على تشبهها بالقصور من حيث إن القمر ينزل فيها ولظهورها أيضاً بالنسبة إلى بعض الناس كالعرب لأن البرج ينبىء عن الظهور مع الاشتمال على المحاسن يقال تبرجت المرأة أي تشبهت بالبرج في إظهار المحاسن وإما البروج الاثنا عشر فليس لها ظهور حيث لا تدرك حساً والبروج الاثنا عشر منقسمة إلى هذه المنازل الثمانية والعشرين والشمس تسير في تمام هذه البروج الاثني عشر في كل سنة والقمر في كل شهر وقد تعلقت بها منافع ومصالح للعباد فاقسم الله تعالى بها إظهاراً لقدرها وشرفها وفيه إشارة إلى الروح الإنساني ذات المقامات في الترقي والدرجات واليوم الموعود} أي يوم القيامة اقسم الله تعالى به تنبيهاً على قدره وعظمه أيضاً من حيث كونه يوم الفصل والجزاء ويوماً تفرد الله بالملك والحكم فيه وفيه إشارة إلى آخر درجات الروح من كشف التوحيد الذاتي وهي القيامة الكبرى
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أي ومن يشهد في ذلك اليوم من الأولين والآخرين والأنس والجن والملائكة والأنبياء وما يحضر فيه من العجائب فالشاهد بمعنى الحاضر من الشهود بمعنى الحضور لا بمعنى الشاهد الذي نثبت به الدعاوي والحقوق وتنكيرهما للإبهام في الوصف أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما ويقال المشهود يوم الجمعة والشاهد من يحضره من المسلمين للصلاة ولذكر الله ما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها خيراً إلا استجاب له ولا يستعيذه من سوء إلا إعاذة منه وفي الحديث اكثروا على من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ويقال المشهود يوم عرفة والشاهد من يحضره من الحاج وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج وعددهم هفتصد هزار كما في "كشف الأسرار" ويقال الشاهد كل يوم والمشهود أهله فيكون المشهود بمعنى المشهود عليه والشاهد من الشهادة كما قال الحسن البصري رحمه الله ، ما من يوم إلا وينادي ي يوم جديد وإني على ما يفعل في شهيد فاغتمني فلو غابت شمس لم تدكني إلى يوم القيامة.
دريغاكه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دمى ند نيز
كذشت آنه درنا صوابي كذشت
در اين نيزهم درنيابي كذشت
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
ويقال الشاهد هو الحق من حنث الجمعية والمشهود هو أيضاً من حيث التفرقة وإن شئت قلت من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل لا يراه بالحقيقة أحد إلا هو ويقال الشاهد نفس الروح والمشهود نفس الطبع وقال الحسين رحمه الله في هذه الآية علامة إنه ما انفصل الكون عن المكون ولا قارنه {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} جواب القسم بحذف اللام المؤكدة
385
(10/298)
على إنه خبر لادعاء بمعنى لقد قتل أي أهلك بغضب الله ولعنته والأظهر أن الجملة دعائية دالة على الجواب لا خبرية والقتل كناية عن اللعن من حيث إن القتل لكونه أغلظ العقوبات لا يقع إلا عن سخط عظيم يوجب الأبعاد عن الخير والرحمة الذي هو معنى اللعن فكان القتل من لوازم اللعن كأنه قيل اقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة ملعونون ما لعن أصحاب الأخدود وجه الأظهرية إن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا إن هؤلاء عند الله بمنزلة أولئك المعذبين ملعونون مثلهم إحقاء بأن يقال فيهم ما قد قل فهم فظهر من هذا التقرير إنه لسي دعاء على أصحاب الأخدود من قبل القمسم وهو الله تعالى لأه ليس بعاجز وقد سبق تحقيقه في سورة عبس ونحوها والأخدود الخد في الأرض وهو شق مستيل كالنهر غامض أي عميق القرار وأصل ذلك من خدي الإنسان وهما ما اكتفا الأنف على اليمين والشمال وفي "عين المعاني" ومنه الخد لمجاري الدموع عليه وأصحب الأخدود كانوا ثلاثة وهم انطيانوس الرومي بالشأم وبخت نصر بفارس ويوسف ذو نواس بنجران وهو بتقديم النون وتأخير الجيم موضع باليمن فتح سنة عشر سمى بنجران بن زيدان بن سبأ شق كل واحد منهم شقا عظيماً في الأرض كان طوله أربعين ذراعاً وعرضه اثني عشر ذراعاً وهو الأخدود وملأوه ناراً وألقوا فيه من لم يرتد عن دينه من المؤمنين قالوا والقرآن إنما نزل في الذين بنجران يعني أن أصحاب الأخدود هم ذو نواس الحميري اليهودي وجنوده وذلك إن عبداً صالحاً يقال له عبد الله بن الثامر وقع إلى نجران وكان علي دين عيسى عليه السلام فدعاهم فأجابوه فسارا إليهم ذو نواس بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فحفر الخنادق واضرم فيها النيران فجعل يلقى فيها كل من اتبع ابن الثامر حتى أحرق نحواً من اثني عشر ألفاً وعشرين ألفاً أو سبعين ألفاً وذو نواس اسمه زرعة بن حسان ملك حمير وما حولها وكان أيضاً يسمى يوسف وكانت له غدائر من شعر أي ذوائب تنوس أي تضطرب فسمى ذا نواس.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
روى) إنه انفلت من أهل نجران رجل اسمه دوس ذو ثعلبان ووجد انجيلا محترقاً بعضه فأتى به ملك الحبشة وكان نصرانياً فقال إن أهل دينك أوقدت لهم نار فأحرقوا بها وأحرقت كتبهم وهذا بعضها فأراه الذي جاء به ففزع لذلك فكتب إلى صاحب الروم يستمده بنجارين يعملون له السفن فبعث إليه صاحب الروح من عمل له السفن فركبوا فيها فخرجوا إلى ساحل اليمين فخرج إليهم أهل اليمن فلقوهم بتهامة واقتيلوا فلم ير ملك حمير له بهم طاقة وتخوف إن يأخذوه فضرب فرسه حتى وقع في الحرب فمات فيه أو ألقى نفسه في البحر فاستولى الحبشة على حمير وما حولها وتملكوا وبقي الملك لهم إلى وقت الإسلام.
وقال في "كشف الأسرار" أصحابا لأخدود ايشان بت رستان بوده انداز أصحاب ذو نواس يمني ودر زمان أو ساحري بو دكاهن ومشعبذكه مدارملك بدو بودى ون بسن شيخوخه رسيد بعرض ملك رسانيدكه من ير شده ام وضعف كلى بقو أي من راء يافته
386
ديده ازهر شعاع تيره شود
كوش وقت سماع خيره شود
نه زبانرا مجال كويايى
نه تن خسته را توانا ى
صلاح در آنست كه جوان عاقل تيزفهم بمن سارتا آنه دانسته أم بوي آموزم وبعد ازمن خلفي باشدكه أمور ملك بوي منتظم تواند بود.
كما جاء في حديث المشارق كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر بكسر الباء أي شاخ وطعن في السن قال للملك إني كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طرقه إذا سلك أي الغلام راهب فقعد إليه أي متوجهاً إلى الراهب وسمع كلامه فأعجبه أي أعجب كلام الرهب ذلك الغلام فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه أي ضرب الساحر الغلام لمكثه فشكا ذلك إلى الراهب فقال أي الراهب للغلام إذا خشيت الساحر فقد حبسني قد حبست الناس أي على أسد أوحية يقال لها بالفارسية ادر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
(10/299)
فقال أي الغلام اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجراً وقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال الراهب : أي بنى أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أدري وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل على وكان الغلام يبرىء الأكمه وهو الذي ولد أعمى والأبرصويداوي الناس بسائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمى فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما هنالك أجمع إن أنت شفيتني قال إني لا أشفى أحداً إنما يشفى الله فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال الملك من رد عليك بصرك قال ربي فقال أو لك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجييء بالغلام فقال له الملك أي بنى قد بلغ من سحرك ما تبرىء به الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل يعني تداوي مرضاً كذا وتداوي كذا فقال أي الغلام إني لا أشفى أحداً إنما يشفى الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب فيجيء بالراهب فقيل ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال أي الغلام اللهم اكفنيهم بما شئت يعني ادفع عني شرهم بأي سبب شئت رجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقاله الملك مافعل أصحابك ، قال : كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي سفينة صغيرة فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة أي مالت وانقلبت فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك ، قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد أي أرض بارزة وتصلبني على
387
جذع ثم خذ سهماً من كناتي وهي التي يجعل فيها السهام ثم ضع السهم في كبد القوس وهو مقبضها عند الرمي ثم قل بسم الله رب الغلام ففعل كما قال الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه وهو ما بين العين والأذن فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتى الملك فقيل له يعني أتى الملك آت فقال أرأيت ما كنت تحذرواقد نزل بك حذرك أي والله قد نزل بك ما كنت تحذر منه وتخاف قد آمن الناس فأمر بالأخدود أي بحفر شق مستطيل في واه السكك أي في أبواب الطرق فخدت ءَ شقت واضرم النيران أي أوقدها وأشعلها وقال من لم يرجع عن دينه فاقحموهفيها أي فاطرحوهفيها كرهاً ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي رضيع لها فتقاعست أي تأخرت أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أماه اصبري فإنك على الحق وفي أهلي أي منعوني وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة بعض الروايات كان للمرأة ثلاثة أولاد إحدهم رضيع فقال لها الملك ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في انار ثم قال لها ارجعي عن دينك فأبت فألقى ابنها الأوسط ثم قال : ارجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبي ليلقوه فيها فهمت بالرجوع فقال الصبي يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك وفي "كشف الأسرار" فإن بين يديك ناراً لا تطفأ فألقى الصبي في النار وأمه على أثره وكان هو ممن تكلم في المهد وهو رضيع وقد سبق عددهم في سورة يوسف وكانت هذه القصة قبل مولده عليه السلام بتسعين سنة وفيما ذكر من الحديث بات كرامات الأولياء وجواز الكذب عند خوف الهلاك سواء كان الهالك هو الكاذب أو غيره وروى إن خربة اختفرت في زمن عمر بن الخطاب فوجد الغلام الذي قتله الملك وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض التفاسير فوجدوا عبد الله بن الثامر واضعاً أصبعه على صدغه في رأسه إذا أميطت يده عنها سال دمه وإذا تركت على حالها انقطع وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله فكتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فكتب بأن يواروه ويعيدوا لتراب عليه وفي بعض التفاسير فكتب إليهم عمر رضي الله عنه إن ذلك الغلام صاحب الأخدود فاتركوه عل ىحاله حتى يبعثه الله يوم القيامة على حاله وعن علي رضي الله عنه إن بعض الملوك المجوس وقع على أخته وهو سكران فلما صحا ندم وطلب المخرج فأمرته أن يخطب الناس فيقول إن د أحل نكاح الأخوات ثم يخطبهم بعد ذلك ويقول إن الله حرمه فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له ابسط فيهم السوط فعل فلم يقبلوا فأمرته بالأخاديد وإيقاد النار وطرح من أبي فيها فهم الذين أرادهم تعالى بقوله قتل أصحاب الأخدود
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
(10/300)
{النَّارِ} بدل اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل على النار وهو بها يكون مهيباً مشتد الهول والتقدير النار فيه أو أقيم أل مقام الضمير على اختلاف مذهبي أهل البصرة والكوفة {ذَاتِ الْوَقُودِ} خداوند ش باهيمه يعني افروخته بهيزم.
وهو بفتح الواو ما يوقد به وفيه وصف لها بغاية العظم وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه من
388
الحطب وأبدان الناس ما يدل عليه التعريف الاستغراقي ولو لم يحمل على هذا المعنى لم يظهر فائدة التوصيف إذ من المعلوم إن النار لا تخلو من حطب {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} ظرف لقتل والضمير لأصحاب الأخدود وقعود جمع قاعد أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعين حولها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود ولفظ على مشعر بذلك تقول مررت عليه تريد مستعلياً بمكان يقرب منه وفي بعض التفاسير على سرر وكراسي قعود عند النار ولو قعدوا على نفس النار لاحترقوا فالقاتلون كانوا جالسين في مكان مشرف أو نحوه ويعرضون المؤمنين على النار فمن كان يترك دينه تركوه ومن كان يصر ألقوه في النار وأحرقوه وكان عليه السلام ، إذا ذكر أصحاب الأخدوده تعوذ بالله من جهد البلاء وهو الحالة التي يختار عليها الموت أو كثرة العيال والفقر كما في "القاموس" والجهد بالفتح المشقة وجهد عيشه كفرح نكد واشتد {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} جمع شاهد أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحداً لم يقصر فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب بالإحراق من غير ترحم وإشفاق أو أنهم شهود يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة يعني تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم وتنطق به الروايات المشهورة وقد ذهب بعضهم إلى أن الجبابرة لما ألقوا المؤمنين في النار وهم قعود حولها علقت بهم النار وفي رواية ارتفعت فوقهم أربعين ذراعاً فوقعت عليهم فأخرقتهم ونجى الله المؤمنين سالمين ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله وقبض الله أرواحهم قبل أن تمسهم النار كما فعل ذلك بآسية امرأة فرعون على ما سبق وعلى ذلك حملوا قوله تعالى : [البروج : 10-49]{وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا وفيه إشارة إلى النفوس المتمردة الشاردة النافرة عن جناب الحق المستحقة لأخاديد النيران والخذلان والخسران الموقدة بأحطاب أخلاقهم الرديئة المؤصدة بأحجار أوصافهم الخبيثة النفسية الهوائية إذ هم عليها قعود بارتكاب الشهوات وانكابهم على اللذات والنفس والهوى وقواهم الطبيعية يشهد بعضهم على بعض بما يفعلون بمؤمني الروح والسر والقلب من المخالفة والمجادلة والمخاصمة وما نقموا منهم} أي وما أنكروا من المؤمنين وما عابوا يقال نقم الأمر إذا عابه وكرهه وفي المفردات نقمت الشيء إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة {إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قال : بلفظ امضارع مع إن الإيمان وجد منهم في الماضي لإرادة الاستمرار والدوام عليه فإنهم ما عذبواهم لإيمانهم في الماضي بل لدوامهم عليه في الآتي ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قيل : إلا أن يستمروا على إيمانهم وإما قوله تعالى : حكاية وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا فلان مجرد إيمان السحرة بموسى عليه السلام ، كان منكراً وأجب الانتقام عندهم والاستثناء مفرغ مفصح عن براءتهم مما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله :
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم
ثلام بنسيان الأحبة والوطن
في إن ما أنكروه ليس منكراً في الواقع وغير حقيق بالإنكار كما إن ما جعله الشاعر عيباً
389
ليس عيباً ولا ينبغي أن يعد عيباً ولا يضر ذلك كون الاستثناء في قول الشاعر مبنياً على الإدعاء بخلاف ما في نظم القرآن فإنهم أنكروا الإيمان حقيقة ووصفه تعالى بكونه عزيزاً غالباً يخشى عقابه حميداً منعماً يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله {الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} للإشعار بمناط إيمانهم والملك بالفارسية ادشاهى.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص390 حتى ص402 رقم390
(10/301)
وأخر هذه الصفة لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة التي دل عليها العزيز وفي العلم الذي دل عليه الحميد لأن من لا يكون تام العلم لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة وفي "كشف الأسرار" وإنما وصف ذاته بهذه الصفات ليعلم إنه لم يمهل الكفار لأجل أنه غير قادر ولكنه أراد أن يبلغ بهؤلاء المؤمنين مبلغاً من الثواب لم يكونوا يبلغونه إلا بمثل ذلك الصبر وإن يعاقب أولئك الكافرين عقاباً لم يكونوا يستوجبونه إلا بمثل ذلك الفعل وكان قد جزى بذلك قضاؤه على الفريقين جميعاً في سابق تدبيره وعلمه وفيه تشنيع على الكفار بغاية جهلهم حيث عدواً ما هو منقبة هي سبب المدح منقصة هي سبب القدح {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} وخدا برهمه يزها از افعال وأقوال مؤمن وكافر كواهست وبآن دانا.
وهو وعد لهم ووعيد شديد لمعذبهم فإن علمه تعالى بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما حتماً قال الامام القشيري الشهيد العليم ومنه قوله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ} أي علم والشهيد الحاضر وحضوره بمعنى علمه ورءَته وقدرته والشهيد مبالغة من الشاهد وإذا علم العبد أن الله تعالى شهيد يعلم أفعاله ويرى أحواله سهل عليه ما يقاسيه لأجله.
(حكى) إن رجلاً كان يضرب بالسيات وهو يصبر ولا يصبح فقال له بعض الحاضرين أما يؤلمك الضرب فقال نعم قال فلم لا تصيح قال في الحاضرين لي محوب يرقبني فأخاف أن يذهب ماء وجهي عنده إن صحت فمن ادعى محبة الحق ولم يصبر على قرص نملة أو بعوضة أو أدنى أذية كيف يكون صادقاً في دعواه ولذا قالوا دلت القصة على أن المكره على الكفر بنوع من العذاب الأولى أن يصبر على ما خوف منه وإن كان إظهار الكفر كالرخصة في ذلك.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
حكى) إن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي عليه السلام ، فقال لأحدهما تشهد أني رسول الله فقال : نعم فتركه ، وقال للآخر مثله فقال لا بل أنت كذاب فقتله فقال النبي عليه السلام إما الذي تركه فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه وإما الذي صبر فأخذ بالفضل فهنيئاً له.
وفي التأويلات النجمية : والله على كل شيء من سموات الأرواح وأرض الأشباح والأجساد شهيداي حاضر لمظهرية الكل وظهوره فيها ذاتاً وصفات وأسماء لاستلزام الذات جميع التوابع الوجودية إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} الفتن الإحراق والفتنة بالفارسية آانون.
أي محنوهم في دينهم وآذوهم وعذبوهم بأي عذاب كان ليرجعوا عنه كأصحاب الأخدود ونحوهم كما روى أن قريشاً كانوا يعذبون بلالاً ونحوه فالموصول اللجنس وإنما لم يدفع البلاء قبل الابتلاء لأن أهل الولاء لا يخلو عن البلاء.
وهيهات هيهات الصفاء لعاشق
وجن عدن بالمكاره حفت
{ثُمَّ} أي بعد ما فعلوا ما فعلوا من الفتنة {لَمْ يَتُوبُوا} أي عن كفرهم وفتنتهم فإن ما ذكر
390
من الفتنة في الدين لا يتصور من دين الكافر قطعاً وفي إيراد ثم إشعار بكمال حلمه وكرمه حيث لا يعجل في القهر ويقبل التوبة وإن طالت مدة الحوبة قال الامام وذلك يدل على أن توبة القاتل عمداً مقبولة {فَلَهُمْ} في الآخرة بسبب كفرهم {عَذَابُ جَهَنَّمَ} يعذبون به أبداً {وَلَهُمْ} بسبب فتنتهم للمؤمنين {عَذَابُ الْحَرِيقِ} أو عذاب عظيم زائد في الإحراق على عذاب سائر ل جهمن فظهرت المغايرة بين المعطوفين وإن كان كل منهما حاصلاً في الآخرة ويحتمل أن يكون المراد بعذاب جهم بردها وزمهريرها وبعذاب الحريق حرها فيرددون بين برد وحر على أن يكون الحر لإحراقهم المؤمنين في الدنيا والبرد لغيره كما قالوا الجزاء من جنس العمل والحريق اسم بمعنى الاحتراق كالحرقة وقول الكاشفي : في تفسيره عذاب الحريق عذاب آتش سوزان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
(10/302)
يشير إلى أن الحريق بمعنى النار المحرقة كما قال في "المفردات" الحريق النار وكذا الحرق بالتحريك النار أو لهبها كما في "القاموس" وحرق الشيء إيقاع حرارة في الشيء من غير لهب كحرق الثوب بالدق والإحراق إيقاع نار ذات لهب ف يشيء ومنه استعير أحرقني بلومه إذا بالغ في أذيته بلوم يقول الفقير الظاهر أن لحريق هنا بمعنى المحرق كالأليم بمعنى المؤلم فيكون إضافة العذاب الحريق من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته ويستفاد زيادة الإحراق من المقابلة فإن العطف من باب الترقي بحسب العذاب المترتب على الترقي من حيث العمل {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} على الإطلاق من المفتونين وغيرهم {لَهُمْ} بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح الذي من جملته الصبر على أذى الكفار وإحراقهم وإيراد الفاء أولاف وتركها ثانياً يدل على جواز الأمرين {جَنَّـاتٌ} يجازون بها بمقابلة النار ونحوها {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} يجازون بذلك بمقابلة الاحتراق والحرارة ونحو ذلك قال في "الإرشاد" أن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة {ذَالِكَ} المذكور العظيم الشان وهو حصول الجنان {الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها فالحصر إضافي قال في برهان القرآن ذلك مبتدأ والفوز خبره والكبير صفته وليس له في القرآن نظير والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فإن أشير بذلك إلى الجنت نفسها فهو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وإلا فهو مصدر عى حاله قال الامام إنما قال ذلك الفوز ولم يقل تلك لدقيقة لطيفة وهي إن قوله ذلك إشارة إلى أخبار الله بحصور هذه الجنات ولو قال تلك لكانت الإشارة إلى نفس الجنات وأخبار الله عن ذلك يدل على كونه راضياً والفوز الكبير وهو رضي الله لا حصول الجنة يقول الفقير وعندي أن حصول الجنات هو الفوز الكبير وحصول رضي الله هو الفوز الأكبر كما قال تعالى : ورضوان من الله أكبر وإنما لم يقل تلك لأن نفس الجنات من حيث هي ليست بفوز وإنما الفوز حصولها ودخولها {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} استئناف خوطب به النبي عليه السلام إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة
391
إلى ضميره عليه السلام والبطش تناول الشيء بصولة والأخذ بعنف يقال يد باطشة وحيث وصف باشلدة فقد تضعف وتفاقم وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام وإن كان بعد إمهال فإنه عن حكمة لا عن عجز {إِنَّه هُوَ} وحده {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي يبدىء الخلق ويخرجهم من العدم إلى الوجود ثم يميتهم ويعيدهم إحياء للمجازاة على الخير والشر من غير دخل الأحد في شيء منهما ففه مزيد تقدير لشدة بطش أو هو يبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة يعني إشكاره كند بطش خودرا بركافران دردنيا وبازكرداندهم آنرا بديشان در آخرت واين نشانه عدلست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
(10/303)
أي يبدىء البطش أو العذاب في الآخرة ثم يعيده فيها كقوله تعالى : {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فيها فحما ثم يعيدهم خلقاً جديداً فهو المراد من الآية وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أسر إلى رسول الله حديثاً في النار فقال يا حذيفة إن في جهنم لسباعاً من نار وكلاباً من نار وسيوفاً من نار وكلاليب من نار وإنه يبعث ملائكة يعلقون ل النار بتلك الكلاليب بأحناكهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضواً عضواً ويلقونها إلى تلك السباع والكلاب كلما قطعوا عضواً عاد آخر مكانه غضاً طرياً أو يبدىء من التراب ويعيده فيه أو من النطفة ويعيده في الآخرة يقال بدأ الله الخلق وأبدأهم فهو بادئهم ومبدئهم بمعنى واحد والمبدىء المظهر ابتداء والمعيد المنشىء بعد ما عدم فالإعادة ابتداء ثان قال الامام الغزالي رحمه الله المبدىء المعيد معناه الموجد لكن الإيجاد إذا لم يكن مسبوقاً بمثله يسمى إبداء وإن كان مسبوقاً بمثله يسمى إعادة والله تعالى بدأ خلق الإنسان ثم هو الذي يعبدهم أي يحشرهم فالأشياء كلها منه بدت وإليه تعودو به بدت وبه تعود وفي المفردت والله هو المبدىء والمعيداي هو السبب في المبدأ والنهاية.
وقال بعضهم : الإبداء هو الإظهار على وجه التطوير المهيء للإعادة وهي الرجوع على مدرج تطوير الإبداء فهو سبحانه بدأ الخلق على حكم ما يعيدهم عليه فسمى بذلك المبدىء المعيد ونما قبل فيهما إنهما اسم واحد لأن معنى الأول يتم بالثاني وكذا كل اسم لا يتم معناه فيما يرجع إلى كمال أسماء الله إلا باسم يتم به معناه قال الامام القشيري رحمه الله إن الله تعالى يبدىء فضله وإحسانه لعبيده ثم يعيده ويكرره فإن الكريم من يرب صنائعه وخاصية الاسم المبدىء أن يقرأ على بطن الحامل سحراً تسعاً وعشرين مرة فإن ما فيه بطنها يثبت ولا يزلق وخاصية الاسم المعيد بذكر مراراً لتذكار المحفوظ إذا نسى لا سيما إذا أضيف له الاسم المبدىء وهو لغفور} لمن تاب عن الكفر وآمن كذا لمن تاب عن غيره من المعاصي ولمن لم يتب أيضاً إن شاء {الْوَدُودُ} المحب لمن أطاع أو تاب كما قال إن الله يحب التوابين واين نشانه فضل است بعدل بكذا رد ونابود سازد وبفضل بنوزد وبرافرازد.
فضل اود لنواز مخوا ران
عدل أو سينه سوز جباران
عمر بن الخطاب رضي الله عنه در تخانه مقبول وسيئات أو مغفور كه وهو الغفور الودود وعبد الله بن أبي در مسجد مخذول وحسنات أو مردودكه إن بطش ربك لشديد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
فالودود فعول
392
بمعنى الفاعل ههنا وهو الذي يقتضيه المقام وقال سهل رحمه الله ، الودود المحب إلى عباده بإسباغ النعم عليهم ودوام العافية فيكون بمعنى المفعول لأنه يحبه عباده الصالحون ومحبة العبد طاعته له وموافقته لأمره أو تعظيمه له وهيبته في قلبه وأجمع أهل الحقيقة إن كان محبة تكون عن ملاحظة عوض فهي معلولة بل المحبة الصحيحة هي المحبة الصافية عن كل طمع والأثر إن الله تعالى يقول إن أول إلا وداء إلى من بعدني لغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها قال بعض الكبار العشق التفاف الروحين والحب صفاء ذلك الالتفاف وخلوصه والود ثباته وتمكنه من القلب والهوى أول وقوع الحب في القلب.
(10/304)
وفي التأويلات النجمية : الودود لمن يتوجه إليه بالمحبة على سنة من تقرب إلى شبرا تقربت إليه زراعاً فمن تقرب إليه بلمحبة تقرب إليه بالود لأن الود بت في أرض القلب من المحبة لاشتقاقه من الوتد انتهى.
قال في "القاموس" الود الوتد وقال الامام الغزالي رحمه الله الودود هو الذي يحب الخير الجميع الخلق فيحسن إليهم ويثنى عليهم وهو قريب من معنى الرحيم لكن الرحمة إضافة إلى المرحوم والمرحوم هو المحتاج والمضطر وأفعال الرحيم تستدعى مرحوماً ضعيفاً وأفعال الودود لا تستدعى ذلك بل الأنعام على سبيل الابتداء من نتائج الود كما إن معنى رحمته تعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له وهو منزه عن رقة الرحمة فكذلك وده إرادته للكرامة والنعمة وهو منزه عن ميل المودة والودود من عباد الله من يريد لخلق الله كل ما يريده لنفسه وأعلى من ذلك من يؤثرهم على نفسه كمن قال منهم أريد أن أكون جسراً على النار يعبر على الخلق ولا يتأذون بها وكمال ذلك أن لاي منعه من الإيثار والإحسان الحقد والغضب وما يناله من الأذى كما قال عليه السلام حين كسرت رباعيته ودمى وجهه وضرب اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فلم يمنعه سوء صنيعهم عن إراد الخير لهم وكما أمر عليه السلام علياً رضي الله عنه حيث قال إن أردت أن تسبق المقربين فصل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك وخاصية الاسم الودود ثبوت الوداد لا سيما بين الزوجين فمن قرأه ألف مر على طعام وأكله مع زوجته غلبتها محبته ولم يمكنها سوى طاعته وقد روى إنه اسم الله الأعظم في دعاء التاجر الذي قال فيه يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدىء يا معيد أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء إلا إله إلا أنت يا مغي فثنى يا مغيث أثنى يا مغيث أغثنى الحديث قد ذكره غير واحد من الأئمة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
يقول الفقير : اذكر في السحر الأعلى يا ودود وذلك بلسان القلب فصدر مني بلا اختيار أن أقول يا رب اجعلني محيطاً فعرفت إن للاسم المذكور تأثيراً عظيماً في الإحاطة وذلك إن الودود بمعنى المحبوب ولا شك إن جميع الأسماء الهبة يود الاسم الأعظم ويميل إليه فالاسم الأعظم ودود بمعنى المفعول وغيره ودود بمعنى الفاعل فمن ذكره كان ودوداً بمعنى المودود فيحبه جميع المظاهر فيحصل له الإحاطة بأسرار جميع الأسماء ويصل إليه جميع التوجهات {ذُو الْعَرْشِ} خالقه وقيل المراد بالعرش الملك مجازاً أي ذو السلطنة القاهرة على المخلوقات السفلية والمخترعات العلوية وإن لم يكن على السرير ويقال ثل عرش فلان إذا ذهب سلطانه
393
{الْمَجِيدُ} هو الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل عطاؤه نواله فكان شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمى مجيداً وهو الماجد أيضاً ولكن أحدهما دل على المبالغة وكأنه يجمع من اسم الجليل واسم الوهاب والكريم قال في "القاموس" المجيد الفيع العال والكريم والشريف الفعال ومجده عظمه وأثنى عليه والعطاء كثره والتمجيد ذكر الصفات الحسنة وقرىء بالكسر صفة للعرش ومجد العرش علوه في الجهة وعظم مقداره وحسن صورته وتركيبه فإنه أحسن الأجسام تركيباً وصورة وفي الحديث : "ما الكرسي في جنب العرش إلا كحلقة ملقاة في الأرض فلاة" ف5ا كان الكرسي كذلك مع سعته فما ظنك بسائر الإجرام اعلوية والسفلية قال سهل رحمه الله أظهر الله العرش إظهاراً للقدرة لا مكاناً للذات ولا احتياجاً إليه قال بعضهم : ومن العجب إن الله لو ملأ العرش مع تلك السعة من حبوب الذرة وخلق طيراً أكل حبة واحدة منها في ألف سنة لنفدت الحبوب ولا تنقطع مدة الآخرة ومع هذا لا يخاف بنوا آدم من عذاب تلك المدة ويضيعون أعمارهم في شيء حقير سريع الزوال وفيه إشارة إلى قلب العارف المستوى للرحمن كما جاء في الحديث "قلب العارف عرش الله" ومجده هو أنه ما وسع ذلك الواسع المجيد غيره وخاصية هذا الاسم تحصيل الجلالة والمجد والطهارة ظاهراً وباطناً حتى في عالم الأبدان والصور فلقد قالوا إذا صام الأبرص أياماً وقرأه كل ليلة عند الافطار كثيراً فإنه يبرأ بإذن الله تعالى إما بلا سبب أو بسبب يفتح الله له به {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} بحيث لا يتخلف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال غيره فيكون دليلاً لأهل الحق على إنه لا يتخلف شيء عن إرادته وهو خبر مبتدأ محذوف وإنما قال فعال مبالغ فاعل لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة من الإحياء والإماتة والإعزاز والإذلال والإغناء والإقتار والشفاء والأمراض والتقريب والتبعيد والعمارة والتخريب والوصل والفرق والكشف والحجاب إلى غير ذلك من شؤونه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
(10/305)
وفي التأويلات النجمية فعال لما رد بالمؤمن والكافر وأرباب الأرواح والأسرار والقلوب وأصحابا لنفوس وأهل الهوى إن أراد أن يجعل آباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك وهو عادل في ذلك وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك وهو مفضل في ذلك يحجب من يريد بجلاله كالمنكرين ويتجلى لمن يريدبجماله كالمقربين ويعامل لمن يريد بإفاضة كماله كالعارفين قال القفال : يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه مانع ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم ناصر ويمهل بعض العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء فهو يفعل ما يريد.
(روى) إن أناساً دخلوا أعلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يعودونه فقالوا إلا نأتيك بطبيب قال قد رآني قالوا فما قال لك قال إني فعال لما أريد {هَلْ أَتَـاـاكَ} آيا آمد بتو.
أي قد أتاك لأن الاستفهام للتقرير {حَدِيثُ الْجُنُودِ} أي خبر الجموع الكافرة التي تجندت على الأنبياء في الماضي وخبرهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حصل بها من العذاب والنكال {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} بدل من الجنود يعني مع إنه غير مطابق ظاهراً للمبدل منه في الجمعية لأن المراد بفرعون هو وقومه وقد يجعل من حذف المضاف بمعنى جنود فرعون أي هل أتاك
394
حديثهم وعرفت ما فعلوا من التكذيب وما فعل بهم من التعذيب فذكر قومك بشؤون الله وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثلهم وقد كانوا ما سمعوا قصة فرعون وجنوده قوم موسى عليه السلام : ورأوا آثار هلاك ثمود قوم صالح عليه السلام ، لأنها كانت في ممرهم وفي بلادهم وأخر ثمود مع تقدمه على فرعون زماناً لرعاية الفواصل.
قال القاشاني : هل أتاك حديث المحجوبين إما بالأنانية كفرعون ومن يدين بدينه أو بالآثار والأغيار كثمود ومن يتصل بهم {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك {فِى تَكْذِيبٍ} إضراب عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان وتنكير تكذيب للتعظيم كأنه قيل ليسوا مثلهم في ذلك بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب فإنهم مستقرون في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك لكن لا إنهم يكذبون بوقوع الحادثة بل يكذبون كون ما نطق به قرآناً من عند الله مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة.
وفي التأويلات النجمية : في تكذيب لاشتمال خلقهم وجبلتهم على صفة الكذب والتكذيب وأمن جبل على صفة لا يقدر على مفارقتها إلا القليل من الكمل كما قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَه نُورًا} أي في الاستعداد فماله من نور.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
خوى بد در طبيعتي كه نشست
نرهد جز بوقت مرك ازدست
وفيه إشارة إلى تكذيب المكرين لأهل الحق ووقوفهم مع حالهم واحتجابهم عن حال من فوقهم والله من ورائهم} من خلفهم {مُّحِيطُ} بهم بالقدرة وهو تمثيل العدم نجاتهم من بأس الله بعدم فوت المحاط المحيط إذا سد عليه مسلكه بحيثلا يجد هرباً منه.
وفي التأويلات النجمية : محيط والمحيط لا يفوته المحاط ولا يفوت المحيط شيء لإحاطة الله سبحانه عند العارفين بالكافري بل الموجودات كلها عبارة عن تجليه بصور الموجودات فهو سبحانه بأحدية جميع أمائه سار في الموجودات كلها ذاتاً وحياة علماً وقدرة إلى غير ذلك من الصفت والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية ولا يعزب عنه ذرة في السموات والأرض وكل ما يعزب عنه يلتحق بالعدم وقالوا هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف ولا كإحاطة الكل بأجزائه ولا كإحاطة الكلي بجزئياته بلى كإحاطة الملزوم بلازمه فإن التعينات اللاقة لذاته المطلقة إنما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة وبشرط أو بغير شرط ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها والله أعلم بالحقائق {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} أي ليس الأمر كما قالوا بل هذا الذي كذبوا به قرآن شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى متضمن للمكارم الدنيوية والأخروية {فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ} أي من التحريف ووصول الشياطين إليه واللوح كل صحيفة عريضة خشباً أو عظماً كما في "القاموس" قال الراغب : اللوح واحد ألواح السفينة وما يكتب فيه من الخشب ونحوه والمراد به هنا ما قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين مرة يحيي ويميت ويعز
395
ويذل ويفعل ما يشاء وفي صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن به وصدق وعده واتبع رسله أخله الجنة.
(10/306)
وفي التأويلات النجمية : بل المتلو المقروء على الكفار والمنافقين قرآن عظيم مجيد شريف مثبوت في لوح القلب المحمدي وفي ألواح قلوب ورثته الألوياء العارفين المحبين العاشقين محفوظ من تحريف أيدي النفس الكافرة والهوى الماكر وسائر القوى البشرية السارية في أقطار الوجود الإنساني وقد قال تعالى : {وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ} أي في صدور الحفاظ وقلوب المؤمنين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
خوى بد در طبيعتي كه نشست
نرهد جز بوقت مرك ازدست
وفيه إشارة إلى تكذيب المكرين لأهل الحق ووقوفهم مع حالهم واحتجابهم عن حال من فوقهم والله من ورائهم} من خلفهم {مُّحِيطُ} بهم بالقدرة وهو تمثيل العدم نجاتهم من بأس الله بعدم فوت المحاط المحيط إذا سد عليه مسلكه بحيثلا يجد هرباً منه.
وفي التأويلات النجمية : محيط والمحيط لا يفوته المحاط ولا يفوت المحيط شيء لإحاطة الله سبحانه عند العارفين بالكافري بل الموجودات كلها عبارة عن تجليه بصور الموجودات فهو سبحانه بأحدية جميع أمائه سار في الموجودات كلها ذاتاً وحياة علماً وقدرة إلى غير ذلك من الصفت والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية ولا يعزب عنه ذرة في السموات والأرض وكل ما يعزب عنه يلتحق بالعدم وقالوا هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف ولا كإحاطة الكل بأجزائه ولا كإحاطة الكلي بجزئياته بلى كإحاطة الملزوم بلازمه فإن التعينات اللاقة لذاته المطلقة إنما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة وبشرط أو بغير شرط ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها والله أعلم بالحقائق {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} أي ليس الأمر كما قالوا بل هذا الذي كذبوا به قرآن شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى متضمن للمكارم الدنيوية والأخروية {فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ} أي من التحريف ووصول الشياطين إليه واللوح كل صحيفة عريضة خشباً أو عظماً كما في "القاموس" قال الراغب : اللوح واحد ألواح السفينة وما يكتب فيه من الخشب ونحوه والمراد به هنا ما قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين مرة يحيي ويميت ويعز
395
ويذل ويفعل ما يشاء وفي صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن به وصدق وعده واتبع رسله أخله الجنة.
وفي التأويلات النجمية : بل المتلو المقروء على الكفار والمنافقين قرآن عظيم مجيد شريف مثبوت في لوح القلب المحمدي وفي ألواح قلوب ورثته الألوياء العارفين المحبين العاشقين محفوظ من تحريف أيدي النفس الكافرة والهوى الماكر وسائر القوى البشرية السارية في أقطار الوجود الإنساني وقد قال تعالى : {وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ} أي في صدور الحفاظ وقلوب المؤمنين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 383
تفسير سورة الطارق
سبع عشرة أو ست عشرة آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 395
والسماء والطارق} الطارق في الأصل اسم فاعل من طرق طرقاً وطروقاً إذا جاء ليلاً.
قال الماوردي : وأصل الطرق الدق ومنه سميت المطرقة لأنه يطرق بها الحديد وسمى الطريق طريقاً لأنه يضرب بالرجل وسمى قاصد الليل طارقاً لاحتياجه إلى طرق الباب غالباً حيث إن الأبواب مغلقة في الليل ثم اتسع في كل ما ظهر الليل كائناً ما كان ثم تسع في التوسع حتى أطلق على الصور اخيالية البادية بالليل والمراد هنا الكوكب البادي بالليل.
قال الراغب : عبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل قالت هند بنت عتبة يوم أحد.
نحن بنات طارق.
نمشي على النمارق أي أبونا كالنجم شرفاً وعلواً وقال الشاعر :
يا راقد الليل مسروراً بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً
لا تفرحن بليل طاب أوله
فرب آخر ليل أجج النار
قال سهل رحمه الله وما طرق على قلب محمد من زوائد البيان والانعام.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى سماء القلب وطروق كواكب الواردات القلبية والإلهامات الغيبية العظيمة الشأن القوية البرهان ولفخامة أمره وشهامة قدره عقبه بقوله {وَمَآ أَدْرَااكَ مَا الطَّارِقُ} أي أي شيء لمك بالطالق فإنه لا يناله إدراك الخلق إلا بالتلقي من الخلاق العليم كأنه قيل ما هو فقيل هو {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} النجم الكوكب الطالع والثقب بالفارسية سوراخ كردن والثقوب والثقابة افروخته شدن آتش.
يقال ثقبة ثقباً جعل فيه منفذاً ومسلكاً ونفذ فيه وثقبت النار تثقب ثقوباً اتقدت واشتعلت وثقب النجم إضاء وشهاب ثاقب أي مضيء وعبر عن الطارق أولاً بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيماً لشأنه والمعنى النم المضيء في الغاية يعني ستاره رخشنده وفروزان ون شعله آتش.
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
لأنه يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه من الظلام أو الأفلاك وينفذ فيها والمراد الجنس وهو قول(10/307)
396
الحسن رحمه الله لأن لكل كوكب ضوأ ثاقباً لا محالة أي في نفسه وإن حصل التفاوت بالنسبة اقسم الله بالسماء وبكواكبها لدلالتهما على قدرته وحكمته أو المعهود بالثقب فهو من باب ركب السلطان وهو زحل الذي في السماء السابعة لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات أو كوكب الصبح الثريا لأن العرب تسميه النجم أو الشهاب نانه آورده اندكه شي حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم نشسته بود باعم خود أبو طالب ناكاه ستاره بدرخشيد وشعله آتش عظيم از وظاهر شد أبو طالب بترسيد وكفت اين ه يزست حضرت يغمبر عليه السلام ، فرمود كه اين ستاره ايست كه ديورا از آسمان مي راند ونشانه ايست از قدرتهاى الهي في الحال جبريل نازل شد بدين آيت كه والسماء والطارق.
وفيه إشارة إلى كوكب اسم الجمال الثاقب الطارق وكوكب اسم الجلال وقال القاشاني : أي الروح الإنساني والعقل الذي يظهر في ظلمة النفس وهو النجم الذي يثقب ظلمتها وينفذ فيها ويبصر بنوره ويهتدى به كما قال وبالنجم هم يهتدون {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} جواب للقسم وما بينهما اعتراض جيء به لتأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها وإن نافية ولما بمعنى إلا قال الزجاج استعملت لما في موضع إلا في موضعين أحدهما بعد إن النافية والآخر في باب القسم تقول سألتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت وعدى الحفظ بعلى لتضمنه معنى الهيمنة والمعنى ما كل نفس من النفوس الطيبة والخبيثة أنسية أو جنية إلا عليها حافظ مهيمن رقيب وهو الله تعالى كما قال الله تعالى وكان الله على كل شيء رقيباً.
آورده اندكه درمكه زنى بود فاجره وكفت من طارس يماني را بر كردانم اراه طاعت ودر معصيت كشم وطاوس مردى نيكو ورى بود وخوش خلق وخوش طبع إن زن برطاوس آمد وباوي سخن در كرفت بر سبيل مزاح طاوس بدانست كه مقصودوي يست كفت آرى صبركن تابفلان ايكاه آييم ون بدان جايكاه رسيدند طاوس كفت اكرترا مقصودي است اينجا تواند بود آن زن كفت سبحان الله اين ه جاي آن كارست انجمنكاه خلق ومجمع نظار كيان طوس كفت أليس الله يرانا في كل مكان أي زن از ديدار مردم شرم داري واز ديدار الله كه بما مي نكرد خود شرم ندارى يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله أين سخن درزن كرفت وتوبه كرد واز جمله اوليا كشت.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
وحكى) إن ابن عمر رضي الله عنهما مر بغلام يرعى غنماً فقال له بعنى شاة فقال إنها ليست لي فقال له ابن عمر قل أكلها الذئب فقال الغلام فأين الله فاشتراه ابن عمر واشترى الغنم وأعتقه ووهب له الغنم وبقى ابن عمر مدة طويلة يقول قال ذلك العبد فأين الله ، فصاحب المراقبة يدع من المعاصي حياء ومنه تعالى ، وهيبة له أكثر مما يدعه من يترك الماضي بخوف عقوبته وقيل المراد بالحافظ هو من يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب من خير وشر كما في قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ} .
وآنكه كه بر مصطفى عرضه ميكنند نانكه در خبرست كه رسول الله عليه اسلام ، فرمود تعرض على أعمالكم فماك ان من حسنة حمدت
397
الله عليه وما كان من سيئة استغفرت الله لكم.
(وروى) عن النبي وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختفته الشياطين وقرىء لما مخففة على أن مخففة وما مزيدة واللام فاصلة بين المخففة والنافية أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ رقيب وفي الآية تخويف للنفوس من لأمور الضارة وترغيب في الشؤون النافعة وفي بعض التفاسير يحتمل أن يكون المراد من النفس أعم من نفس النفس المكلف من الإنسان واجن ومن نفس المكلف لعموم الحفظ من بعض الوجوه ومن الكل فيشمل النفوس الحيوانية مطلقاً بل كل شيء سوى الله بناء على أن المراد من النفس الذات فإن نفس كل شيء ذاته وذاته نفسه ومن الحافظ هو الله لأن الحافظ لكل شيء عالم بأحواله موصل إليه منافعه ودافع عنه مضاره والحفيظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه عن سطوة الغضب وحلاوة لشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان فإنه على شفا جرف هار وقد اكتنفته هذه الملكات المفضية إلى البوار ومن خواص الاسم الحفيظ إن من علقه عليه لو نام بين السباع ما ضرته.
(10/308)
قال القاشاني : الحافظ هو الله إن أريد بالنفس الجملة وإن أريد بها النفس المصطلح عليها من القوة الحيوانية فحافظها الروح الإنساني فلينظر الإنسان} ليتفكر الإنسان المركب من الجهل والنسيان المنكر للنشور والحشر والميزان {مِمَّ} أي من أي شيء فأصله مما حذفت الألف تخفيفاً كما مر في عم {خُلِقَ} حتى يتضح إن من قدر على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو قادر على إعادته بل أقدر على قياس العقل فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويجد به ولا يملى حافظه ما يرد به {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} استئناف وقع جواباً عن استفهام مقدر كأنه قيل ممن خلق فقيل خلق من ماء ذي دفق وهو صب فيه دفع وسيلان بسرعة وبالفارسية ريزانيدن آب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
وبابه نصر وإنما أول بالنسبة لأن الصب لا يتصور من النطفة لظهور إنها مصبوبة لإصابة فتوصيفه بأنه دافق لمجرد نسبة مبدأ الاشتقاق إلى ذات الموصوف به مع قطع النظر عن صدوره منه.
وقال بعضهم : أي مدفوق ومصبوب في الرحم نحو سر كاتم أي مكتوم وعيشة راضية أي مرضية فهو فاعل بمعنى المفعول والمراد به الممتزج من الماءين في الرحم كما نبىء عنه ما بعده في الآية وللنظر إلى امتزاجهما عبر عنهما بصيغة الأفراد ووصف الماء الممتزج بالدافق من قبيل توصيف المجموع بوصف بعض أجزائه {يَخْرُجُ} ذلك الماء الدافق {مِنا بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآاـاِبِ} الصلب الشديد وباعتباره سمى الظهر صلباً أي من بين ظهر الرجل وترائب المرأة وهي ضلوع صدرها وعظام نحرها حيث تكون القلادة وكل عظم من ذلك تربية وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما بين الثديين وفي "القاموس" الترائب عظام الصدر أو ما ولى الترقوتين منه أو ما بين الثدين والترقوتين أو أربع إضلاع من يمنة الصدر وأربع من سيرته أو اليدان والرجلان والعينان أو موضع القلادة انتهى.
ومن ذلك يتحمل الوالد مصالح معيشة الولدو تشتد رقة الوالدة ومحبتها للولد
398
وإيراد بين إشارة إلى ما يقال إن النطفة تتكون من جميع أجزاء البدن ولذلك يشبه الولد والديه غالباً فيجتمع ماء الرجل في صلبه ثم يجري منه ويجتمع ماء المرأة في ترائبها ثم يجري منها وفي قوت القلوب أصل المنى هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب وهناك مسكنة فتضجه الحرارة فيستحيل أبيضا فإذا امتلأت منه خرزات الصلب وهو الفقار طلب الخروج من مسلكه وهو عرقان متصلان إلى الفرج منهما ينزل المني وفي أسئلة الحكم بين طريق البول وطريق المنى جلد رقيق يكاد لا يتشخص كيلاً يختلط المنى بماء البول فيفسد حرارة جوهره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
وفي التأويلات النجمية : خلق الإنسان من ماء رطوبة النفس الرحمني الذي إشار إليه عليه اسلام بقوله إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن دافق هذا الماء من فم فوارة المحبة المشار إليها بقوله تعالى : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق الخارج من بين الصلب أي رجل القوة الفاعلية الإلهية المسماة باليد اليمنى في قوله ثم مسح يده اليمنى على جانبا لظهر الأيمن فاستخرج منه ذرية بيضاء كالفضة اليبضاء والترائب وترائب امرأة القابلية المسماة باليد اليسرى في قوله ثم مسح يده اليسرى على جانب الظهر الأيسر فاستخرج منه ذراري حماء سوداء فهو الإنسان المخلوق على صورة ربه وخالقه من ماء الفيض والقبول المخمر بيدي الفاعلية والقابلية المشار إليها بقوله خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً {إِنَّهُ} الضمير للخالق فإن قوله خلق يدل عليه أي إن ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء مما ذكر {عَلَى رَجْعِهِ} أي إعادته بعد موته {لَقَادِرٌ} أي لبين القدرة بحيثلا يرى له عجز أصلاً وتقديم الجار والمجرور على عامله وهو لقادر للاهتمام به من حيث إن الكلام فيه بخصوصه فهو لا ينافي قادريته على غيره قال بعضهم : خلقه لإظهار قدرته ثم رزقه لإظهار الكرم ثم يميته لإظهار الجبروت ثم يحييه لإظهار الثواب والعقاب {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} ظرف لرجعه ولا يضر الفصل بالأجنبي للتوسع في الظروف والسرائر جمع سريرة بمعنى السر وهي التي تكتم وتخفى أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها وما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث وبالفارسية روزى كه آشكارا كرده شود نهانها يعني ظاهر كند مخفيات ضمائر وأعمال تاطيب آن از خبيث متميز كردد.
كر رده زروى كار ما بر دارند
آن كيست كه وسواي دو عالم نشود
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
(10/309)
والإبلاء هو الابتلاء والاختبار وإطلاق الإبلاء على الكشف والتمييز من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب لأن الاختبار يكون للتعريف والتمييز وابتلاء الله عباده بالأمر والنهي يكون لكشف ما علم منهم في الأزل وقال بعضهم : المراد بالسرائر الفرائض كالصوم والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة فإنها سر بين العبد وبين ربه ولو شاء العبد أن يقول فعلت ذلك ولم فعله أمكنه وإنما تظهر صحة تلك السرائر يوم القيامة قال ابن عمر رضي الله عنهما يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زينا في وجوه وشينا في وجوه يعني من أدى الامانات كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه اغبر {مَالَهُ} أي للإنسان وما نافية {مِن قُوَّةٍ}
399
في نفسه يمتنع بها من العذاب الذي حل به {وَلا نَاصِرٍ} من خارج ينتصر به إذ كل نفس يومئذٍ رهينة بما كسبت مشغولة بجزاء ما جرت عليه خيراً كان أو شراً فالمراد بالقوة المنفية هي القوة الثابتة له في نفسه لا القوة مطلقاً وإلا لم يبق للعطف فائدة لأن القوة المستفادة من الغير قوة أيضاً وقد نفيت أولاً والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف وفي التعريفات هي تمكن الحيوان من الأفعال الشاقة ونصر المظلوم أعانه ونصره منه نجاه وخلصه وفيه إشارة إلى القوة بحسب نية الباطن وعمل الظاهر بالنية الخالصة المجردة عن العمل قد تنصر الناوي أيضاً لكن إذا قارنت العمل كانت أقوى {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} ذات مؤنث ذو بمعنى الصاحب والرجع المطر سمى رجعاً لما إن العرب كانوا يزعمون إن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض أو أرادوا بذلك التفاؤل ليرجع ولذلك سموه أو باليؤوب فيكون الرجع مصدراً من اللازم بمعنى الرجوع لا من المتعدي قاله بعض العلماء أو لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً بعد إيجاده وإحداثه وقال الراغب سمى المطر رجعاً لرد الهواء ما تناوله من الماء وفي "كشف الأسرار" لأنه يرجع كل عام ويتكرر وقال عبد القاهر الجرجاني في كتاب إعجاز القرآن إنما قال للسماء ذات الرجع لأن شمسها وقمرها يغيب ويطلع وبعض نجومها يرجع {وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات إذا المحاكى للنشور هو تشقق الأرض وظهور النبات منها لإهار العيون فالمراد بالصدع نبات الأرض سمى به لأنه صادع للأرض والأرض تتصدع به والصدع في اللغة الشق وفي "المفردات" شق في الأجسام الصلبة كالزجاج والحديد ونحوهما وفي الآية إشارة إلى أن السماء ذات الرجع كالأب والأرض ذات الصدع كالأم وما ينبت من الأرض كالولد اقسم الله بالسماء أو لا مجردة عن التوصيف وثانياً مقيدة بكونها ذات الرجع وكذا بالأرض ذات الصدع إيماء إلى المنة عليهم بكثرة المنافع ودلالة على العلم التام والقدرة الكاملة فيهما وفيه إشارة إلى سماء الروح ذات الرجع في النشأة الثانية وأرض البدن ذات الصدع بالانشقاق عن الروح وقت زهوقه أو الشق بعد اتصاله
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
{إِنَّهُ} أي القرآن الذي من جملته ما تلى من الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده {لَقَوْلُ} لكلام إذ القول كثيراً ما يكون بمعنى المقول {فَصْلٌ} أي فاصل بين الحق والباطل مبالغ في ذلك كأنه نفس الفصل كما قيل له فرقان بمعنى الفارق {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} الهزل اللعب وفي "فتح الرحمن" ما استعمل في غير ما وضع له من غير مناسبة والجد ضده وهو أن يقصد به المتكلم حقيقة كلامه أي ليس في شيء من القرآن شائبة هزل بل كله جد محض لا هزل فيه فم حقه أن يهتدى به الغواة وتخضع له رقاب العتاة وبالفارسية ونيست أو بازى وباطل وفسوس وسخريه.
ويظهر من الآية إن من يؤم القرآن بهزل أو بتفكه بمزاح يكفر وفي هدية المهدين إذا أنكر رجل آية من القرآن أو سخر بها أو عابها فقد كفر ومن قرأ القرآن على ضرب الدف أو القصب فقد كفر ولو قال ألم تشرح لك را كريبان كرفته.
أو قال وست ازقل هو الله أحد بردى.
أو قال اين كوته
400
تراز انا أعطيناك.
أو قيل لم لم تقرأ القرآن فقال سير شدم از قرآن.
(10/310)
فهذا كله وأمثاله كف ينبغي للمؤمن يحترز منه ويجتنب عنه {أَنَّهُمْ} أي أهل مكة ومعاندى قريش {يَكِيدُونَ} في إبطال أمره وإطفاء نوره يعني مكر ميكنند درشان رسول وحق قرآن {كَيْدًا} حسبما في قدرتهم {وَأَكِيدُ كَيْدًا} أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث أستدرجهم من حيث لا يعلمون وكيد المحدث العاجز الضعيف لا يقاوم كيد القديم القادر لقوي فتسمية الاستدراج والانتقام في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالنار كيداً من باب المشاكلة لوقوعه في مقابلة كسبهم جزاء له وإلا فالكيد وهو المكر والاحتيال لا يجوز إسناده إليه تعالى مراداً به معناه الحقيقي وتسمية جزاء الشي باسم ذلك الشيء على سبيل المشاكلة شائع كثير {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي لا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك ولا تستعجل به يعني مهلت ه كافر انرا وتعجيل مكن در طلب هلاك ايشان {أَمْهِلْهُمْ} بل من مهل وهما أي التمهيل والإمهال لغتان كما قال تعالى : {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} .
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
روى) عن همام مولى عثمان رضي الله عنه إنه قال لما كتبوا المصحف شكوا في ثلاث آيات فكتبوا في كتف شاة وأرسلوني إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما فدخلت عليهما فناولتها أبيا فقرأها فإذا هي فيها لا تبديل للخلق فكتب لا تبديل لخلق الله وكان فيها لم تيسن فكتب لم يتسنه وكان فيها فأمهل الكافرين فمحا الألف وكتب فمهل الكافرين ونظر فيها زيد بن ثابت فانطلقت بها إليهم فاثبتوها في المصحف وفيه إشارة إلى أن الله تعالى حافظ للقرآن من التحريف والتبديل لأنه بته في صدور الحفاظ وإلى أن المشكلات يرجع فيها إلى أهل الحل رويداً} يقال أرود يرود إذا رفق وتأنى ومنه بنى رويد كما في "المفردات" وفي الإرشاد هو في الأصل تصغير رود بالضم وهو المهل أو أرواد مصدر أورد بالترخيم وهو إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالاً رويداً أي قريباً أو قليلاً يسيراً فإن كل آت قريب كما قالوا كره قيامت دير آيد ولى مي آيد.
وفيه تسلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بما فيه من الرمز إلى قرب وقت الانتقام من الأعداء وفي "كشف الأسرار" وما كان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر الأزمان يسير.
(حكى) إنه دخل ابن السماك عى هارون الرشيد فطلب هارون من العظة وقد جلس في حصير فقال يا أمير المؤمنين لتواضعك في شرفك أفضل من شرفك قال الرشيد ما سمعت شيئاً أحسن من هذا فقال بلى يا أمير المؤمنين من أعظى مالاً وجمالاً وسلطاناً وشرفاً فتواضع في شرفه وعف في جماله ووأسى من فضل ماله وعدل في سلطانه كتب في ديوان المخلصين فدعا الرشد بالقرطاس فكتبها ثم قال زدني فقال يا أمير المؤمنين لقد أمهل حتى كأنه أهمل ولقد ستر حتى كأنه غفر ثم قال يا أمير المؤمنين هب كأن الدنيا كلها في يديك والأخرى مثلها ضمت إليك هب كان الشرق والغرب يجبي إليك فإذا جاء ملك الموت فماذا في يديك قال زدني فقال لم يبق من لدن آدم إلى يومنا هذا أحد إلا وقد ذاق الموت قال زدني فقال إنهما موضعان أما جنة وأما نار قال حسبي ثم غشى عليه قال ابن السماك
401
دعوه حتى يموت فلما أفاق أمر له بجائزة فقيل له إنه قال كذا فسأله الرشيد عن ذلك فقال يا أمير المؤمنين أي شيء أحسن من أن يقال إن أمير المؤمنين مات من خشية الله فاستحسن كلامه واحترمه.
(قال الحافظ) : بمهلتي كه سهرت دهد زراه مرو.
تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كرد.
فطوبى لمن قصر أمله وطال عمره وحسن عمله والله سنأل أن لا يجعلنا من المغترين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 396
تفسير سورة الأعلى
تسع عشرة آية مكية عند الجمهور
جزء : 10 رقم الصفحة : 401(10/311)
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} التسبيح التنزيه واسم الله لا يصح أن يطلق عليه بالنظر إلى ذاته أو بعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس أو الثبوتية كالعليم أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق ولكنها توقيفية عند بعض العلماء وقد سبق والأعلى صفة للرب ويجوز أن يكون صفة للاسم والأول أظهر ومعنى علوه تعالى أن يعلو عن يحيط به وصف الواصفين بل علم العارفين ومعنى أعلويته إن له الزيادة المطلقة في العلو قال بعضهم ليس علوه عو جهة ولا كبره كبر جثة سبحانه عن ذلك بل علو استحقاق لنعوت الجلال والكبرياء فمن عرف علوه وكبرياءه تواضع وتذلل بين يديه عباده الصالحين والمنى نزه اسمه عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة نحو أن يجعل الأعلى من العلو في المكان لا من العلو في الكمال وأن يؤخذ الاستواء بمعنى الاستقرار لا بمعنى الاستيلاء وكذا نزهه عن إطلاقه على يره بوجه يشعر بتشاركهما فيه كان يسمى الصنم ولوثن بالرب والإله ومنه تسمية العرب مسيلمة الكذاب برحمان اليمامة وكذا نزهه عن ذكره لا عى وجه الإعظام والإجلال ويدخل فيه أن يذكر اسمه عند التثاؤب وحال الغائط وكذا بالغفلة وعدم الوقوف على معناه وحقيقته ومنه إكثار القسم بذكر اسمه من غير مبالاة وقال جرير في الآية ارفع صوتك بذكره أي بذكر اسمه فإن ذكر المدلول إنما هو بذكر الاسم الدال عليه فظهر من هذا التقرير أن الاسم غير مقحم وقال بعضهم الاسم والمسمى هنا واحد أي نزه ذاته عما دخل في الوهم والخيال وفي الحديث لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال عليه السلام اجعلوها في ركوعكم فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت وفي الحديث دلالة على أن لفظ الاسم مقحم قاله سعدي المفتي وعلى أن الامتثال بالأمر يحصل بأن يقول سبحان ربي العظيم والأعلى بدون قراءة النظم ولذا قرأ علي وابن عمر رضي الله عنهم سبحان ربي الأعلى الذي الخ فإن قوله سبح أمر بالتسبيح فلا د وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو الأقول سبحان ربي الأعلى ومثله سبحان ربك العزة فإن معناه نزه ربك العزة فيحصل الامتثال بأن يقول سبحان ربنا رب العزة على معنى
402
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
(10/312)
تنزه ربنا رب العزة وقس على ذلك سائر المواقع المأمور بها وسر اختصاص سبحان ربي العظيم بالركوع والأعلى بالسجود أن الأول إشارة إلى مرتبة الحيوان والثاني إشارة إلى مرتبة النبات والجماد فلا بد من الترقي في التنزيه وكان عليه السلام وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا سبحوا فوضعت الصلاة على ذلك قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره في شرح الحديث أعلم أن الرفعة والارتفاع استعلاء وإنه من التكبر فإن كان الاستعلاء ظاهراً فهو صورة من صور التكبر وإن كان باطناً فهو معنى التكبر ولما كان الكبرياءوحده وكان في الصعود على الثنايا ضرب من الاستعلاء موجود وشبيه به أيضاً لذلك سن التكبير فيه أي إن الله أكبروا أعلى من أن يشارك في كبريائه وإن ظهرنا بصورة حال يوهم الاشتراك وإما الأمر بالتسبيح في الهبوط فهو من أجل سر لمعية المشار إليها بقوله تعالى وهو معكم أينما كنتم فإذا أمنا إنه معنا أينما كنا فحال كوننا في هبوط يكون معنا وهو يتنزه عن التحت والهبوط لأنه سبحانه فوق التحت كما القوق إنه فوق ونسبة الجهات إليه على السواء لنزاهته عن التقيد بالجهات وإحاطته بها فلهذا شرع التبكير في الصعود والتسبيح في الهبوط على الوجه المنبه عليه انتهى.
وأول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل عليه السلام ، وذلك إنه خطر بباله عظمة الرب تعالى فقال يا رب أعطني قوة حتى انظر إلى عظمتك وسلطانك فأعطاه قوة ل السموات فطار خمسة آلاف سنة حتى احترق جنحه من نور العرش ثم سأل القوة فأعطاه قوة ضعف ذلك وجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخرسا جداً وقال سبحان ربي الأعلى ثم سأل ربه أن يعيده إلى مكانه وإلى حالته الأولى ذكره أبو الليث في تفسيره وقال النبي عليه السلام يا جبرائيل أخبرني عن ثواب من قال سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته فقال يا محمد ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا ويقول الله صدق عبدي أنا الأعلى وفوق كل شيء وليس فوقي شيء اشهدوا يا ملائكتي إني قد غفرت لعبدي وأدخلته جنتي فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه فيوقفه بين يدي الله فيقول يا رب شفعني فيه فيقول قد شفعتك فيه اذهب به إلى الجنة ذكره ابن الشيخ في حواشيه وفي الحديث : "سبحان الله والحمديملآن ما بين السموات والأرض" أي لاشتمال هاتين الكلمتين على كلمال الثناء والتعريف بالصفات الذاتية والفعلية الظاهرة الآثار في السموات والأرض وما بينهما.
وقال القاشاني : اسمه الأعلى والأعظم هو الذات مع جميع الصفات أي نزه ذاتك بالتجرد عما سوى الحق وقطع النظر عن الغير ليظهر عليها الكمالات الحقانية بأسرها وهو تسبيحه الخاص به في مقام الفناء لأن الاستعداد التام القابل لجميع الصفات الإلهية لم يكن الإله فذاته هو الاسم إلا على عند بلوغ كماله ولك شيء تسبيح خاص يسبح به اسماً خالصاً من سماء ربه {الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى} صفة أخرى للرب على الوجه الأول ومنصوب على المدح على الثاني لئلا يلزم الفصل بين الموصوف والصفة غيره أي خلق
403
كل شيء فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله ويتسنى معاشه.
وقال القاشاني : انشأ ظاهرك فعدل بنيتك على وجه قبلت بمزاجه اخاص الروح الأتم المستعد لجميع الكمالات.
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
وفي التأويلات النجمية خلق كل شي بحسب الوجود فسوى تسوية بها يصل الفيض الإلهي المعد له بحسب استعداده الفطري.
وقال بعضهم : خلق الخلق فسوى بينهم في الخلقة وميز بينهم باختصاص بعضهم بالهداية {وَالَّذِى قَدَّرَ} معطوف على الموصول الأول أي قدر أجناس الأشياء وأنواعها وأفرادها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها كما قال عليه اسلام ، إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة أي جعل أجناس الأشياء وكذا أشاص كل نوع بمقدار معلوم وكذا جعل مقدار كل شخص في جثته وأوضعه وسائر صفاته كالحسن والقبح والسعادة والشقاوة وإلا لهداية والضلالة والألوان والأشكال والطعوم والروائح والأرزاق والآجال وغير ذلك بمقدار معلوم كما قال وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم {فَهَدَى} فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعاً أو اختياراً ويسره لما خلق له بخلق الميول والهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات ولو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما يحار فيه العقول.
(يحكى) إن الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت وقد ألهمها الله أن تمسح عينيها بوزن الروازيانج الغض فيرد إليها بصرها فربما كانت عند عروض العمى لها في برية بينها وين الريف مسافة طويلة فتطويها على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها فتحك عينيها بورقها وترجع باصرة بإذن الله تعالى.
(10/313)
(ويحكى) إن التمساح لا يكون له دبر وإنما يخرج فضلات ما يأكله من فيه حيث قيض الله له طائراً قدر الله غذاءه من ذلك فإذا رآه التمساح يفتح فمه فيدخله الطائر فيأكل ما فيه وقد خلق الله له من فوق منقاره ومن تحته قرنين لئلا يطبق عليه التمساح فمه والتمساح خلق كالسلحافة ضخم يكون بنيل مصر وبنهر مهران في السند كما في "القاموس" ويختطف البهائم والآدميين وربما بلغ طوله عشرين ذراعاً وهو يبيض في البر فما وقع من ذلك فى الماء صار تمساحاً وما بقى صار سقنقورا وهي دابة بمصر شكلها كالوزغة على عظم خلقته وهو أنفس ما يهدي لملوك الهند فإنهم يذبحونه بسكين من الذهب ويحشونه من ملح مصر ويحملونه كذلك إلى أرضهم فإذا وضوا مثقالاً من ذلك على بيض أو لحم وأكل نفع ذلك نفعاً بليغاً والسقنقور والضب والسلحفاة للذكر منها ذكران وللأنثى فرجان ومن عجائب هداياته تعالى إن القطا وهو طائر يترك فراخه ثم يطلب الماء من سيرة عشرة أيام وأكثر فيرده فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ثم يرجع فلا يخطىء لا ذهاباً ولا إياباً والجمل والحمار إذا سلكا طريقاً في الليلة الظلماء ففي المرة الثانية لا يخطئان والدبة إذا ولدت ولدها رفعته في الهواء يومين خوفاً من النمل لأنها تضعه قطعة لحم غير متميزة الجوارح ثم يتميز أولاً فأولاً وإذا جمع العقرب والفأرة في إناء زجاج قرضت الفأرة أبرة العقرب فتسلم منها.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
وحكى) إن ابن عرس تبع فأرة فصعدت شجرة ولم يزل يتبعها حتى انتهت إلى رأس الغصن ولم يبق مهرب فنزلت على ورقة وعضت طرفها وعلقت نفسها فعند ذلك صاح ابن
404
عرض فجاءته زوجته فلما انتهت إلى تحت الشجرة قطع ابن عرس الورقة التي عضتها الفأرة فسقطت فاصطادها ابن عرس الذي كان تحت الشجرة والفأرة تدخل ذنبها في قارورة الدهن ثم تلحسه والثعلب إذا اجتمع في جلده البق الكثير والبعوض يأخذ بفيه قطعة جلد من الحيوان فينغمس في الماء فإذا اجتمعت في الفر وألقاه في الماء وخرج سالماً والعنكبوت تبنى بيتها على وجه عجيب غير مقدور والبشر لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالا لبركار والمسطر والنحل تبنى تلك البيوت من غير آلة والنمل تسعى لأعداد الذخيرة لنفسها فإذا أحست بنداوة المكان تشق الحبة نصفين لئلا تنبت وإذا وصلت النداوة إليها تخرجها إلى الشمس لتجف قال بعضهم رأيت غواصاً وهو طائر غاص وطلع بسمكة فغلبه الغراب عليها فأخذها منه فغاص مرة أخرى فطلع فأخذها منه الغراب وفي الثالثة كذلك فلما اشتغل الغراب بالسمكة وثب الغواص فأخذ برجل الغراب وغاص به تحت إلماء حتى مات الغراب وخرج هو من الماء وفي الحديث لا تشوبوا اللبن بالماء فإن رجلاً كان فيمن كان قبلكم يبيع اللببن ويشوبه بالماء فاشترى قرداً وركب البحر حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد فأتى صرة الدنانير فأخذها وصعد الدقل وهو سهم السفينة ففتح الصرة وصاحبها ينظر إليه فأخذ ديناراً ورمى به في البحر وديناراً في السفينة حتى قسمها نصفين فألقى ثمن الماء في الماء وفي عجائب المخلقوت إن شخصاً قتل شخصاً بأصفهان وألقاه في بئر وللمقتول كلب يرى ذلك فكان يأتي كل يوم إلى رأس البئر وينحى التراب عنها وإذا رأى القاتل نبح عليه فلما تكرر منه ذلك حفروا الموضع فوجدوا القتيل ثم أخذوا الرجل فاقر فقتل به ومن عجيب شجرة النخل أن يعرض لها العشق وهي أن تميل إلى نخلة أخرى فيخف حملها وتهزل وعلاجها أن يشد بينها وبين معشوقها الذي مالت إليه بحبل أو يعلق عليها سعفة منه أو يجعل فيها من طلعه وأمثال هذا لا تحيط بها العبارة والتحرير كثرة {وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي أنبت بكمال قدرته ما ترعاه الدواب غضاً طريقاً من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وقال ابن عباس رضي الله عنه ، المرعى الكلأ الأخضر وف يالصحاح الرعى بالكسر الكلأ وبالفتح المصدر والمرعى الرعى والمصدر {فَجَعَلَهُ} بعد ذلك {غُثَآءً} أي درينا وهو كأمير ييس كل حطام حمض أو شجر أو بقل قال الجوهري الغثاء بالضم والمد ما يحمله السيل من القماش والقمش جمع الشيء من ههنا وههنا وذلك الشي قماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس قماش وبالفارسية خشك ومرده {أَحْوَى} أسود من الحوة بمعنى السواد وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس أسود سواء كان جفافه واسوداده بتأثير حرارة الشمس أو برودة الهواء الفاء التعقيبية إشارة إلى قصر مدة الحضرة ورمز إلى قصر مدة العمر وسرعة زال الدنيا ونعيمها يعني محققان از مضمون اين آيت فهم كرده اندكه را كاه متمتعان دنيا اكره در أول تازه وسيراب وسبز وخرم نمايد إما اندك وقتى را بسبب هبوب رياح خزان حوادث تيره وبي طراوت خواهد بود.
405
اكره خرم وتازه است كلبن دنيا
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
ولى بنكبت باد خزان نمى ارزد
بكرده خورى وقرص قمر زجاي مرو
كه خون رخ نيك تاي نان نمى ارزد
(10/314)
وفيه إشرة إلى زينة الحياة الدنيا ومنافعها ومآكلها ومشاربها فإنها مرعى النفس الحيوانية ومرتع بهائم القوى جعلها الله سريعة الفناء وشيكة الزوال كالهشيم والحطام البالي المسود فينبغي أن لا يلتفت إليها ولا يشغل بها فإنها مانعة عن التسبيح الخاص وهو تنزيه الذات وتجريدها عن العلائق وبها يحصل الاحتجاب عن الكمال المقدر في حق كل أحد {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} بيان لهدايته تعالى الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلّم أثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته وهي هدايته عليه السلام ، لتلقى الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه عليه السلام لهداية الناس أجمعين.
قال الراغب : في المفردات أخبار وضمان من الله تعالى أن يجعله بحيث لا ينسى ما يسمعه من الحق انتهى.
والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد إقراء ما أوحى إليه حينئذٍ وما سيوحى إليه بعد ذلك فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء يقال قرأ القرآن فهو قارىء وأقرأه غيره فهو مقرىء أي علمه إياه فهو معلم وفي تاج المصادر الإقراء قرآن كوش فرا داشتن وخواننده كردن.
ومنه سنقرئك انتهى والمعنى سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسانه جبرائيل فلا تنسى أصلاً من قوة الحفظ والاتقان وفي "كشف الأسرار" سنجمع حفظ القرآن في قلبك وقراءته في لسانك حتى لا تنسى كقوله إن علينا جمعه وقرآنه {إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ} استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى شيئاً من الأشياء مما تقرأه إلا ما شاء الله أن تنساه أبداً بأن نسخت تلاوته فإن النسخ نوع منا ساء وطريق من طرقه فكأنه بالنسخ محي من الصحف والصدور فالمراد بالنسيان هو النسيان الكلي الدائم بحيث لا يعقبه التذكر بعده ويجوز بأن يراد به النسيان المتعارف الذي يعقبه الذكر بعده وهو النسيان في الجملة على القلة والندرة أي فلا تنسى إلا ما شاء الله نسينه ثم لا يبقى المنسى منسياً دائماً بل يعقبه الذكر كما هو المفهوم من المقام ويؤيد هذا المعنى ما روى إنه عليه السلام ، أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أبي رضي الله عنه إنه نسخت فسأله فقال عليه السلام نسبتها.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
وروى) إن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يقرأ القرآن في الليل فقال عليه السلام لقد أذكرني آية أنسيتها ومن هذا كان عليه اسلام يقول في دعائه اللهم ارحمني بالقرآن العظيم واجعله لي إماماً ونوراً وهدى رحمة اللهم ذكرني منه ما سنيت وعلمني منه ما جهلت وارزقتي تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله حجة لي يا رب العالمين وكان عليه السلام ، يقول إنما أنا بشر سى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وقال تعالى : [الكهف : 24-7]{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ودل الكل على جواز طريان النسيان عليه وإن لم يكن سهوه ونسيانه من قبيل سهو الأمة ونسيانهم فإنه أهل الحضور الدائم روى عن جعفر الصادق رضي الله عنه إنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب وفيه معجزة له عليه السلام ، فإنه كان أمياً وقد جعله الله قارئاً ثم إنه كان يقر من الحفظ
406
(10/315)
ومن الصحيفة أيضاً من غير تعلم الخط وكان منبع الكمالات كلها حتى إنه علم الكتاب الخط وقوانينه وأصحاب الحرف دقائق حرفتهم إنه يعلم الجهر وما يخفى} تعليل لما قبله وما موصولة وكل من الجهر والإخفاء شامل لما كان من قبيل القول والعمل والإخفاء والإخفاء لما في الضمائر من النيات أي يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها ما أوحى إليك فينسى ما يشاء إنساءه ويبثقى محفوظاً ما يشاء إبقاءه لما نيط بكل منهما من مصالح دينكم {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} عطف على نقرئك واليسرى فعلى من اليسر وهو السهولة ويسرت كذا سهلت وهيأت وضمن نيسرك معنى التوفيق ولذا عدى بدون اللام وإلا فالعبارة المعتادة أن يقال جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان لا أن يقال جعل فلان ميسراً للفعل الفلاني كما في الآية فإنه قيل ونيسرك لليسرى لا ونيسر اليسرى لك وقال بنون العظمة لتكون عظمة المعطى دليلاً على عظمة العطاء وفي "الإرشاد" تعليق التيسير به عليه السلام ، مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى : [طه : 26-9]{وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} للإيذان بقوة تمكينه عليه السلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة رسخة له كأنه عليه السلام جبل عليها كما في قوله عليه السلام اعملوا فكل ميسر لما خلق له والمعنى ونوفقك توفيقاً مستمراً توفيقاً للطريقة اليسرى أي التي هي أيسر وأسهل في كل باب من أبواب الدين علماً وتعليماً واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير طريق تلقى الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه عليه السلام ، وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء في قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى} أي فذكر الناس حسبما يسرناك له بما يوحي إليك وأهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله أن نفع التذكير والعظة والنصيحة وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما إن رسول الله عليه السلام ، طالما كان يذكرهم ويستفرغ فيه جهده حرصاً على إيمانهم وكان لا يزيد ذلك بعضهم إلا كفراً وعناداً فأمر عليه السلام ، بأن يخص التذكير بمدار النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلا أو بعضاً ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه في تذكير من لا يزيده التذكير الاعتوا ونفوراً من المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى فذكر بالقرآن من يخاف وعيد فحرف الشك راجع إلى النبي عليه السلام لا إلى الله وفي "كشف الأسرار" أن تجيء في العربية مثبتة لا لشرط فتكون بدل قد كقوله وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقد علم عليه السلام إن الذكرى تنفع لا محالة إما في ترك الكفر أو ترك المعصية أو في الاستكثار من الطاعة فهو حث على ذلك وتنبيه على إنها تنفع إلا أن تكون مطبوعاً على قلبه غير مستعد للقبول فالنفع مشروط بشرط الاستعداد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
زمن شوره سنبل بر نيارد
در وتخم عمل ضابع مكردان
والحاصل أن التذكير خاص بالمنتفع وذلك في النهاية وإما في البداية فعام وما على الرسول إلا البلاغ.
من آنه شرط بلاغتس باتوميكويم
توخواه ازسختم ندكير وخواه ملال
407
قال القاشاني : أجمل في قوله إن نفعت الذي تم فصل بقوله {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} أي سيتذكر بتذكيرك ك يعني زود باشدكه ندذيرد.
من شأنه أن يخشى الله حق خشيته أو من يشخى الله في الجملة فيزداد ذلك بالتذكير فيتفكر في أمر ما تذكر به فيقف على حقيقته فيؤمن به وفي التفسير الكبير الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام منهم من قطع بصحته ومنهم من جوز وجوده ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات ومنهم من أصر على إنكاره والقسمان الأولان ينتفعون بالتذكير بخلاف الثالث {وَيَتَجَنَّبُهَا} أي يتبعد من الذكرى ولا يسمعها سماع القبول {إِلا الاشْقَى} أي الزائد في الشقاوة من الكفة لتوغله في عداوة النبي عليه السلام ، مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونحوهما أو الأشقى هو الكافر مطلقاً لأنه أشقى من الفاسق وروى أن من يخشى هو عثمان بن عفان رضي الله عنه وإلا شقى رجل من المنافقين وذلك إن المنافق كانت له نخلة مائلة في دار رجل من الأنصار فسقط نمرها في داره فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فأرسل إلى المنافق ولم يكن يعلم بنافقه فسأله أن يعطي النخلة للأنصاري على أن يعطيه نخلة في الجنة فقال أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل فأعطه عثمان رضي الله عنه حائط نخل له فنزلت الآية كما في التكملة ونظيره إن رجلاً قضى النبي عليه السلام حاجة فقال ائتني بالمدينة فأتاه فقال أيما أحب إليك ثمانون من الضأن أو أدعو الله أنيجعلك معي في الجنة قال بل ثمانون من الضأن قال أعطوه إياها ثم قال إن أصاحبة موسى عليه السلام كانت أعقل منك وذلك إن عجوزاً دلته على عظام يوسف عليه السلام فقال لها موسى أيما أحب إليك أسأل الله أن تكون معي في الجنة أو مائة من الغنم قالت الجنة.
هركه بيندمر عطارا صد عوض
زود در بزد عطار ازين غرض
(10/316)
آروزى كل بود كل خواره را
كلشكر نكوارد آن بياره را
{الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} أي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار.
وآتش آن از آتش دركات ديكر تيز تروسوزنده تراست وآن جاي آل فرعون ومنافقان ومنكران مائده عيسى عليه السلام اشد ونار صغرى رر طبقه علياكه اي كنهكاران امت محمد مصطفاست عليه السلام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
فالكبرى اسم تفصيل لأنه تأنيث الأكبر والمفضل هو ما في أسفل دركات جهنم من النار التي هي نصيب الكفار كما قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} والمفضل عليه مافي الدكرات التي فوقها فإن لجهنم نيراناً ودركات متفاضلة كما أن في الدنيا ذنوباً ومعاصي متفاضلة فكما أن الكفار أشقى العصاة كذلك يصلون أعظم النيران وقيل الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا يعني إن المفضل نار الآخرة والمفصل عليه نار الدنيا لقوله عليه السلام ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم وقد غمست ف يماء البحر مرتين ليدنى منها وينتفع بها ولولا ذلك ما دنوتم منها ويقال إنها تتعوذ بالله من جهنم وإن ترد إليها.
يقول الفقير : الظهر إن المراد بالنار الكبرى هو العذاب الأكبر في قوله تعالى فيعذبه الله العذاب
408
الأكبر وهو عذاب الآخرة وأما العذاب الأصغر فهو عذاب الدنيا وعذاب البرزخ فإنه يصغر بالنسبة إلى عذاب الآخرة قال بعض الحكماء علامة الشقاوة أشياء كثيرة الأكل والشرب والنوم والإصرار على الذنب وقساوة القلب وكثرة الذنب ونسيان الرب والوقوف بين يدي املك الجبار فهذا هو الأشقى الذي يدخل النار الكبرى.
وفي التأويلات النجمية : النار ناران نار حجاب الدنيا بالاشتغال بالشهوات والذات وهي الصغرى ونار حجاب الآخرة وهو الابتلاء بالخذلان والخران والطرد والهجران كما قال تعالى ومن كان ف يهذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاف لفوات الاستعداد.
وقال القاشاني : النار الكبرى هي نار الحجاب عن الرب بالشرك والوقوف مع الغير ونار القهر في مقام الصفات ونار الغضب والسخط في مقام الأفعال ونار جهنم الأثار في المواقف الأربعة من موقف الملك والملكوت والجبروت وحضرة اللاهوت أبد الآيدين فما أكبر ناره ثم لا يموت فيها} حتى يستريح {وَلا يَحْيَى} حياة تنفعه كما يقال لمن ابتلى بالبلاء الشديد لا هو حي ولا هو ميت وثم للتراخي من مراتب الشدة لأن التدد بي الموت والحياة أفضع من نفس الصلى وقال ابن عطاء لا يموت فيستريح من غم القطعية ولا يحيي فيصل إلى روح الوصلة.
وفي التأويلات النجمية : لا يموت نفسه بالكلية ليستريح من عقوبات الحجاب والاحتجاب ولا يحيى قلبه بحياة الإيمان لكونه في دار الجزاء لا في دار التكليف.
وقال القاشاني : لا يموت لامتناع انعدامه ولا يحيي بالحقيقة لهلاكه الروحاني أي يتعذب دائماً سرمداً في حالة يتمنى عندها الموت وكلما احترق وهلك أعيد إلى الحياة وعذب فلا يكون ميتاً مطلقاً ولا حياً مطلقاً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
يقول الفقير لا يموت لأن الموت يذبح فلا موت ولا يحيى لأن المموم كالميت فيبقى في العذاب الروحاني كما يبقى في العذاب الجسماني قال بعض الكبار لا حياة إلا عن موت ولا موت إلا عن رؤية حي فمن مات غير هذا الموت فلا يحيى ومن حي غير هذهالحياة فهي حياة حيوانية لا حياة إنسانية {قَدْ أَفْلَحَ} أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه {مَن تَزَكَّى} أي تطهر من الكفر والمعاصي بتذكره واتعاظه بالذكرى أو تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء وكلمة قد لما أن عند اُبار بسوء حال المتجنب عن الذكرى ف يالآخرة يتوقع السامع الأخبار بحسن حال المتذكر فيها وينتظره {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} بقلبه ولسانه {فَصَلَّى} أقام الصلوات الخمس كقوله أقم الصلاة لذكرى أي كبر تكبيرة الافتتاح فصلى فالمراد بالذكر تكبيرة الافتتاح لكن لا يختص الذكر عند الحنفية بأن يقول الله أكبر لعموم الذكر ودل العطف بالفاء التعقيبية عل عدم دخول الكبير في الأركان لأن العطف يقتضى المغايرة بين المعطوفين قال الامام مراتب أعمال المكلف ثلاث فأولاها إزالة العقائد الفاسدة عن القلب وهي المرادة بالتزكى والثانية استحصار معرفة الله بذاته وصفاته وأسمائه وهي المرادة بالذكر لأن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة والثالثة الاشتغال بالخدمة والطاعة وهي المرادة بالصلاة فإنها عبارة عن التواضع والخشوع فمن استتار قلبه بمعرفة جلال الله لا بد وإن ظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع.
قال بعضهم خلق الله وجهاً يصلح للسجدة وعيناً تصلح للعبرة ودنا صلح للخدمة وقلبا يصلح للمعرفة وسرا يصلح للمحبة فاذكروا نعمة الله
409
عليكم حيث زين ألستكم بالشهادة وقلوبكم بالمعرفة وأبدانكم بالعبادة.
(10/317)
(روى) عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الله تعالى قال الله سبحانه إن لي مع المصلين ثلاث شرائط إحداها تنزل الرحمة من عنان السماء إلى مفرق رأسه ما دام في صلاته والثانية حفته الملائكة بأجنحتها والثالثة أناجي معه كلما قال يا رب أقول لبيك ثم قال عليه السلام لو علم لمصلي من يناجي ما التفت.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
وروى) عن ابن عمر رضي الله عنه أن المراد بالتزكي إخراج صدقة الفر قبل المضي إلى المصلي وبالذكران يكبر في الطريق حين خروجه إلى المصلي وبالصلاة أن يصلي صلاة العيد بعد ذلك مع الامام وهذه السورة وإن كانت مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا صدقة فطر إلا أنه لما كان في علمه إن ذلك سيكون اثني الله على من فعل ذلك فإنه تعالى قد يخبر عما سيكون وفي الآية إشارة إلى تطهير النفس عن المخالفات الشرعية وتطهير القلب عن المحبة الدنيوية بل عن ملاحظة الغير والتوجه إلى الله تعالى بقدر الاستعداد إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قبل أثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح لا تفعلون ذلك بل تختارون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها والخطاب إما للكفرة فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضى والاطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكبة كما في قوله تعالى وإن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها الآية أو للكل فالمراد بإيثارها ما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالباً من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادي والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في حق المسلمين وفي "فتح الرحمن" فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله وفي "عين المعاني" خطاب للأمة إذ كل يميل إلى الدنيا إما رغبة فيها أو إدخار الثواب الآخرة.
(وفي كشف الأسرار) : مصطفى عليه السلام أول قلم فتوى.
در حق دنيا اين راندكه حلالها حساب وحرامها عذاب آنكه برو لعنت كردكه.
الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله.
اكردينت همى بايد زد ننا دار ى بكسل
ورت دنيا همي بايد بده دين وببر دنيا
ورازد وزخ همي ترسى بمالي س مشوغره
كه اينجا صورتش ما لست وآنجاشكلش ادرها
ه مانى بهر مردارى وازاغان اندرين ستى
قفص بشكن وطا سان يكى برر بزين بالا
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
{وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما إن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة أبدى لا انصرام له وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية ظهوره وفيه إشارة إلى أن ظواهر الأشياء بالنسبة إلى حقائقها كالقشر بالنسبة إلى اللب واللب خير من القشر وأبقى لأن لب الحب يحفظ زماناً طويلاً وقشره إذا سلخ من اللب يطرح في النار أو يرمى بالمزابل فيفنى بعد اليومين أو أكثر فأرباب
410
القشر يؤثرون الأمور الظاهر الخسيسة الدنية الفنية على الأمور الباطنة المعنوية الشريفة العزيزة الباقية لكونهم محجوبين عن الآخرة وأرباب اللب يختارون الآخرة بل الله الآخر كما قال قل الله ثم ذرهم ويقال قد أفلح من تزكى أي من تاب من الذنوب وذكر اسم ربه يعني إذا سمع الأذان خرج إلى الصلاة ثم ذم تارك الجماعة لأجل اشتغاله بالدنيا فقال بل تؤثرون الحياة الدنيا يعني تختارون عمل الدنيا على علم الآخرة وعمل الآخرة خير وأبقى من عمل الدنيا والاشتال بها وبزينتها {إِنَّ هَـاذَآ} إشارة إلى ما ذكر من قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا * وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى} جميع صحيفة وهي الكتاب قال الراغب الصحيفة المبسوط من كل شي كصحيفة الوجه والصحيفة التي كان يكتب فيها والمصحف ما جعل جامعاً للصحف المكتوبة والمعنى لثابت فيها يعني أن تطهير النفس عما لا ينبغي وتكميل الروح بالمعارف وتكميل الجوارح بالطاعة والزجر عن الالتفات إلى الدنيا والترغيب في الآخرة وفي ثواب الله في دار كرامته لا يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع {صُحُفِ} جدك {إِبْرَاهِيمَ} الخليل عليه السلام صحف أخيك {مُوسَى} الكليم عليه السلام بدل من الصحف الأولى.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
(10/318)
روى) إن جميع ما أنزل الله من كتاب مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عليه السلام عشر صحف حروف التهجي صحيفة منها وعلى شيت عليه السلام خمسين صحيفة وعلى إدريس عليه اسلام ثثين صحيفة وعلى إبراهيم عليه السلام عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فصحف موسى هي الألواح التي كتبت فيها التوراة كذا قال الامام وفي التيسير صحف شيت وهي ستون وصحف إبراهيم وهي ثلاثون وصحف موسى قبل الوراة وهي عشر والتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكان في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شانه وأيضاً الخروج عما سوى الله بنعت التجريد كما قال إني بريء مما تشركون والإقبال على الله لقوله يو جهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ونقل من صحف موسى يقول الله يا ابن آدم اعمل لنفسك قبل نزول الموت بك ولا تغرنك المطية فإن على آثارها السفر ولا تلهينك لحياة وطول الأمل عن التوبة فإنك تندم على تأخيرها حين لاي نفعك الندم يا ابن آدم إذا لم تخرج حقي من مالي الذي رزقتك إياه ومنعت منه الفقراء حقوقهم سلطت عليك جباراً يأخذه منك ولا أثيبك عليه وفي صحف موسى أيضاً سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات عند تعريف الصفات لقوله إني تبت إليك وأنا أول المؤمنين وفي المؤمنين وفي التيسير دل الكلام على قول الامام الأعظم رحمه الله إن قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة صحيحة وهو قرآن بأي لسان قرىء لأنه جعل هذا المذكور مذكوراً في تلك الصحف ولذلك قال وإنه لفي زبر الأولين ولا شك إنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة وكان قرآناً لأن العبرة بالمعني والألفاظ ظروف وقوالب لها انتهى.
وفيه تأييد لمن جوز نقل الحديث بالمعنى وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل
411
يا أيها الكافرون ، وفي الوتر بقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، وبه عمل الشافعي ومالك رحمهما الله ، وما عند أبي حنيفة وأحمد والمستحب في الثالثة الإخلاص فقط.
جزء : 10 رقم الصفحة : 402
تفسير سورة الغاشية
ست وعشرون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 411
{هَلْ أَتَااكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال قطرب من أئمة النحو أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية قال المولى أبو السعود رحمه الله في "الإرشاد" وليس بذاك بل هو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه والتشويق إلى استماعه والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها إن يتناقلها الرواة ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد والغاشية الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفم بِوالها وهي القيامة كما قال تعالى : {يَوْمَ يَغْشَااهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وقال يوماً كان شره مستطيراً يقال غشيه يغشاه أي غطاه وكل ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو عاش له وجوه يومئذٍ خاشعة} استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ عن الاستفهام التشويقي كأنه قيل من جهته عليه السلام ما أتاني حديثها ما هو فقيل وجوه يومئذٍ وهو ظرف لما بعده من الأخبار الثلاثة أي يوم إذ غشيت تلك الداهية الناس فإن الخشوع والخضوع والتطامن والتواضع كلها بمعنى ويكنى بالجميع عما يعترى بالإنسان من الذل والخزي والهوان فوجوه مبتدأ ولا بأس بتنكيرها لأنها في موقع التنويع وخاشعة خبره قال الشيخ لعل وجه الابتداء بالنكرة كون تقدير الكلام أصحاب وجوه بالإضافة إلا أن الخشوع والذل لما كان ظهر في الوجه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإنما قلنا إن الذل يظهر في الوجه لأنه ضد التكبر الذي محله الرأس والدماغ والمراد بأصحابا لوجوه هم الكفار بدلالة ماب عده من الأوصاف
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} خبر إن آخران لوجوه إذا المراد بها أصحابها كما أشير إليه آنفاً والنصب التعب والناصبة التعبة يقال نصب نصباً من باب علم إذا تعب في العمل والمعنى تعمل أعمالاً شاقة تتعب فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا فاعملها الله في أعمال شاقة وهي جر السلاسل والإغلال الثقيلة كما قال في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً والخوض في النار خوض الإبل في الوحل أي الطين الرقيق والصعود في تلال النار والهبوط في وهادها وقال بعضهم : خشوع الظاهر ونصب الأبدان لا يقربان إلى الله تعالى بل يقطان عنه وإنما يقرب منه سعادة الأزل وخشوع السر من هيبة الله وهو الذي يمنع صاحبه من جميع المخالفات فالرهبانية والفلاسفة وأضرابهم من أهل الكفر والبدع والضلال إنما يضربون حديداً بارداً ويتعبون أنفسهم في طريق الهوى والسعي فيه {تَصْلَى} تدخل {نَارًا} وتذوق ألمها {حَامِيَةً} أي متناهية في الحر وقد أوقدت ثلاثة آلاف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة وهو
412(10/319)
خبر آخر لوجوه قال في "القاموس" حمى الشمس والنار حمياً وحمياً وحموا اشتد حرهما وقال السجاوندي حامية أي دائمة الحمى وإلا فالنار لا تكون إلا حامية {تُسْقَى} بعد مدة طويلة من استغاثتهم من غاية العطش ونهاية الاحتراق أي سقاها الله أو الملائكة بأمره {مِنْ عَيْنٍ} أي شمه آب كه {ءَانِيَةٍ} أي متناهية بالغة في الأدنى أي احر غايتها لتسخينها بتلك النار منذ خلقت لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت فإذا أدنيت من وجوههم تناثرت لحوم وجوههم وإذا شربوا قطعت أمعاءهم كما قال تعالى : [الرحمن : 44-6]{{وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} يقال إني الحميم انتهى.
حره فهو آن وبلغ هذا أناه وأناه غايته وفيه إشارة إلى نار الطبيعة وعين الجهل المركب الذي هو مشرب أهلها والاعتقاد الفاسد المؤذي ليس لهم طعام إلا من ضريع} بيان لطعام الكفار في النار أثر بيان شرابهم وأورد ضمير العقلاء إشارة إلى أن المراد من الوجوه أصحابها وإنما أسند إليها ما ذكر من الأحوال لكونها مظهراً يظهر فيه ما في الباطن مع إنها يكنى بها كثيراً عن الذوات والضريع يبيس الشبرق كزبرج وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطباً وإذا يبس نحامته وهو سم قاتل قال في "فتح الرحمن" سموا ذلك الشوك ضريعاً لأنه مضعف للبدن ومهزل يقال ضرع الرجل ضراعة ضعف وذل وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حراً من النار وهذا طعام بعض أهل النار والزقوم والغسلين لآخرين بحسب جرائمهم وبه يندفع التعارض بين هذه الآية وبين آية الحاقة وهي قوله تعالى ولا طعام إلا من غسلين قال سعدي المفتي ويمكن في قدرة الله أن يجعل الغسلين إذا انفصل عن أبدان أهل النار على هيئة الضريع فيكون طعامهم الغسلين الذي هو الضريع انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
يقول الفقير ويمكن عندي أن يجعل كل من الضريع والغسلين والزقوم بالنسبة إلى شخص واحد بحسب الأعمال المختلفة لكل عمل أثراً مخصوصاً وجزاء متعيناً فيصح الحصر وتحقيقه إن الضريع إشارة إلى الشبه والعلوم الغير المنتفع بها المؤذية كالمغالطات والخلافيات والسفسطة وما يجري مجراها على ما قاله القاشاني والغسلين إشارة إلى الشهوات الطبيعية ولذا يسيل من أبدانهم فإن لكل شهوة رشحاً وعرقاً وكل اء يترشح بما فيه والزقوم إشارة إلى خوضهم في الأنبياء والألوياء وطعنهم في دينهم وضحكهم منهم وكانوا يتلذذون بذلك على ما أشار إليه قوله تعالى : [الغاشية : 7]{وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} أي متلذذين بما فعلوا من التغامز والسخرية ونحو ذلك على إن الزقمة هو الطاعون ووجه آخر وهو إنه يمكن الترتيب بالنسبة إلى شخص واحد بأن يكون الزقوم نزلاً له والضريع إكلاله بعد ذلك والغسين شرا ً له كالحميم والعلم عند الله لا يسمن} فربه نمى كند آن ضريع {وَلا يُغْنِى مِن جُوعٍ} ودفع نمى كند كرسنكى را.
أي ليس من شأنه الاسمان والإشباع كما هو شأن طعام الدنيا وإنما هو شيء يضطرون إلى أكله من غير أن يكن له دفع لضرورتهم لكن لا على إن لهم استعداداً للشبع والسمن إلا أنه لاي يفيدهم شيئاً منهما بل على إنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهة طعامهم
413
وتحقيق ذلك جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يتلذذ بهما عند الأكل والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملأها ويخرج ما فيها من اللهب وإما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما لو التذاذ به عند الأكل والاستغناء به عن الغير أو استفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد يطفئه من غير أن يكون لهم التذاذ بشر به أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روى إنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع فإذا أكلوه يسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم فيشوى وجوههم ويقطع أمعاءهم وتنكير الجوع إياه بخلاف العكس ولذلك كرر لتأكيد النفي {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاعِمَةٌ} أي ذات بهجة وحسن وضياء مثل القمر ليلة البدر وبالفارسية تازه باشد أثر نعمت در ويدا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
(10/320)
فناعمة من نعم الشيء بالضم نعومة أي صار ناعماً ليناً ويجوز أن يكون بمعنى متنعمة أي بالنعم الجسمانية والروحانية وهي وجوه المؤمنين فيكون المراد بها حقيقة النعمة وإنما لم تعطف على ما قبلها إيذاناً بكمال تباين مضمون الجملتين وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها وفيه إشارة إلى نعيم اللقاء الذي هو ثمرة اللطافة والتورية التي هي نتيجة التجرد كما قال تعالى وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة فإن بالنظر إلى الرب يحصل نضرة أي نضرة {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لعملها اذي عملته في الدنيا حيث شاهدت ثمرته ورأت عاقبته الحميدة فاللام متعلقة براضية والتقدير راضية سعيها فلما تقدم المعمول على العامل الضعيف جيء باللام لتقوية العمل ويجوز أن تكون لام التعليل أي لأجل سعيها في طاعة الله راضية جزاءها وثوابها ودخل في السعي الرياضات والمجاهدات والخلوات {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي كائنة أو متمكنة في جنة مرتفعة المحل فإن الجنات فوق السموات العلى كما إن النيران تحت الأرضين السبع وأيضاً هي درجات بعضها أعلى من بعض والدرجة مثل ما بين السماء والأرض فتكون من العلو في المكان وفي الحديث : "إن المتحابين في الله في غرف ينظر إليهم أهل الجنة كما ينظر أهل الدنيا إلى كواكب السماء" ويجوز أن يكون معنى عالية عليهة القمدار فتكون من العلو في القدر والشرف لتكامل ما فيهما من النعيم وفيه إشارة إلى المقامات العالية المعنوية لأنها مقامات أهل الوجاهة والشرف المعنوي فلا يصل إليها أهل التمني والدعوى {لا تَسْمَعُ} أنت يا مخاطب فالخطاب عام لكلم ن يصلح له أو الوجوه فيكون التاء للتأنيث لا للخطاب {فِيهَا} أي في تلك الجنة العالية {لَـاغِيَةً} لغوا من الكلام وهو ما لا يعتد به فهي مصدر كالعافية أو كلمة ذات لغو على إنها للنسبة أو نفساً تلغو على أنها اسم فاعل صفة لموصوف
414
محذوف هو نفس وذلك فإن كلام أهل الجنة كله إذكار وحكم إذ لا يدخلها المؤمن إلا من مرتبة القلب والروح فإن النفس والطبيعة تطرحان في النار وشأن القلب والروح هو الذكر كما إن شأن النفس والطبيعة هو اللغو فكما لا لغو في الجنة الصورية فكذا لا لغو في الجنة المعنوية في الدنيا لاستغراق أهلها في الذكر وسماع خطاب الحق ولذا لا تسمع في مجالستهم إلا المعارف الربانية والحكم الرحمانية وفي الحديث "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولاي بولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون قالوا فما بال الطعام قال رشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وإما الدنيا ومجالس أهلها فلا تخلو من اللغو ولذلك قال عليه السلام : "من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه" وهو الكلام الرديء القبيح والضجة والأصوات المختلفة لا يفهم معناها "فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" أي ما لم يتعلق بحق آدمي كالغيبة
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} التنوين للتكثير أي عيون كثيرة تجري مياهها على الدوام حيث شاء صاحبها وهي أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل من شرب منها لا يظمأ عدها أبداً ويذهب من قلبه الغل والغش والحسد والعداوة والبغضاء وفيه إشارة إلى عيون الذوق والكشف والوجدان والتوحيد فإن بها يحصل الشفاء والصحة والبقاء لأهل القلوب وأصحاب الأرواح {فِيهَا سُرُرٌ} يجلسون عليها جمع سرير وهو معروف يعني در آنجا تختها برهر تختي هفصد يستر برهر سترى حورى ون ماء أنور {مَّرْفُوعَةٌ} رفيعة السمك أي عالية في الهواء على قوائم طوال فإن السمك هو الامتداد الآخذ من أسفل الشيء إلى أعلاه فالمراد برفعة سمكها شدة علوها في الهواء فيرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم الكبير والملك العظيم قال عليه السلام ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام قيل إذا جاء ولي الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت ويجوز أن يكون المعنى رفيعة المقدار من حيث اشتمالها على جميع جهات الحسن والكمال في ذواتها وصفاتها.
أصل آن زر مكلل بزبرجد وجواهر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
(10/321)
وقال الخراز قدس سره هي سرائر رفعت عن النظر إلى الإعراض والأكوان وفيه إشارة إلى مراتب الأسماء الإلهية التي بلغوها بالإنصاف والتخلق بها في السلوك فإنها رفيع قدرها عن مراتب الجسمانيات {وَأَكْوَابٌ} يشربون منها جمع كوب بالضم وهو إناء لا عروة له ولا خرطوم يعني بي دسته ولو له مقدور الرأس ليمسك من أي طرف أريد بخلاف الإبريق وهو مستعمل في بعض بلاد العرب الآن ولذا وقع به التشويق {مَّوْضُوعَةٌ} أي بين أيديهم حاضرة لديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها وهو لا ينافي أن يكون بعض الأقداح في أيدي الغلمان كما سبق في هل أتى على الإنسان الخ وفيه إشارة إلى ظروف خمور المحبة وثابتها على حالها مع ما فيها {وَنَمَارِقُ} وسائد يستندون إليها للاستراحة جمع نمرقة بفتح النون وضمها والراء مضمومة فيهما بمعنى الوسادة {مَصْفُوفَةٌ} بعضها إلى جنب بعض كما يشاهد في بيوت الأكابر أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان
415
وفيه إشارة إلى التجريد والتفريد والجمع والتوحيد أينما يريدون يجلسون ويستندون إليها {وَزَرَابِيُّ} أي بسط فاخرة جمع زربي.
قال الراغبي : هو ضرب من الثياب محبر منسوب إلى موضع على طريق التشبيه والاستعارة {مَبْثُوثَةٌ} أي مبسوطة على السرر زينة وتمتعا وفيه إشارة إلى انبساط أرواحهم واشنراح صدورهم وانفتاح قلوبهم في بساط القدس والإنس وإلى مقامات تجليات الأفعال التي تحت مقامات الصفات كالتوكل تحتى الرضى مبثوثة أي مبسوطة تحتهم وأصل البث إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الهمزة للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام والإبل بكسرتين وتسكن الباء واحد يقع على الجمع وليس بجمع ولا اسم جمع والجمع آبال كما في "القاموس" وقال بعضهم اسم جمع لا واحد لها من لفظها وإنما واحدها بعير وناقة وجمل وكلمة كيف منصوبة بما بعدها معلقة لفعل النظر والجملة في حيز الجر على إنها بدل اشتمال من الإبل أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه عن قدرة الله فلا ينظرون نظر اعتبار إلى الإبل التي هي نصب عينهم يستعملونها كل حين إنها كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سن خلفة سائر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة يتأتى ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنهوض منا لأرض بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ظمئها ليبلغ العشر فصاعداً واكتفاءها باليسير ورعيها لكل ما تيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وتبول من خلفها لأن قائدها أمامها فلا يترشش عليه بولها وعنقها سلم إليها وتتأثر من المودة والغرام وتسكر منهما إلى حيث تنقطع عن الأكل والشرب زماناً ممتداً وتتأثر من الأصوات الحسنة والحداء وتصير من كمال التأثر إلى حيث تهلك نفسها من سرعة الجرى ويجري الدمع عينيها عشقاً وغراماً بر رومى فرموده است.
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
برخوان أفلا ينظر تاقدرت ما بيني
يكره بشتر بنكر تاصنع خدا بيني
درخار خورى قانع دربار برى راضي
اين وصت اكرجويى در أهل صفا بيني
ولم يذكر الفيل مع إنه أعظم خلقة من الإبل لأنه لم يكن بأرض العرب فلم تعرفه ولاي حمل عليه عادة ولا يحلب دره ولا يؤمن ضره.
بخلاف شتركه هره مطلوبست از حيوان مثل نسل وحمل وشير ولحم وركوب هم از وحاصل است.
وقال بعض العلماء ذكر الله الجنة وما اتخذ فيها من المنازل الرفيعة والسرر العالية التي سمكها كذا وكذا ذراعاً قالوا فكيف يقعد أحدنا عليها وقامته قصيرة وهو لا يكاد يرقى سطحاً بغير سلم وتعجب المشركون منه وأيضاً.
كفتند بطريق سخريت كه اكراين واقعست س بلال وخباب أمثال ايشانرا كار افتاد زيرا بسى زحمت بايد تابر بالاي آن تخت بلند روند وبسى فرصت بايدتا ازان فرود
416
(10/322)
آيند ابن آيت آمدكه أفلا ينظرون الخ يعني شتريا آن همه بلندى وبزركى برشته مسخر كودكى ميشود تا برد برآيد وفرود آيدس را ارتخت بهشت متعجب مشوندكه درفرمان بهشتى باشد {وَإِلَى السَّمَآءِ} التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار {كَيْفَ رُفِعَتْ} رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك {وَإِلَى الْجِبَالِ} التي ينزلون في أقطارها وينفعون بمياهها وأشجارها {كَيْفَ نُصِبَتْ} نصباً رصيناً فهي راسخة لا تميل ولا تميد وقال أبو الليث كيف نصبت على الأرض أوتاداً لها وفيه إشارة إلى عالم المثال لأنه متوسط بين سماء الروحانيات وأرض الجسمانيات كالجبال في الخارج {وَإِلَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي وإلى الأرض التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كيف سطحت سطحاً وبسطت على ظهر الماء بسطاً حسما يقتضيه صلاح أمرو ما عليها من الخلائق والاستدلال بكونها مسطوحة على عدم كونها كرة مجاب بأن الكرة إذا كانت عظيمة جداً يكون كل قطعة منها كالسطح فيصح أن يطلق عليها البسط ففرق بين كرة وكرة كما إنه فرق بين بض المامة وبيض النعامة والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية ابعث والنشور لإشعارها بأن خالقها متصف بصفات الكمال من القدرة والقوة والحكمة منزه عن صفات النقصان من العجز والضعف والجهل حتى يرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقاء الله بالإيمان والطاعة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
درتبيان آورده كه مخاطب عرب اند وأكثر ايشان أهل بريه باشند ومال ايشان شتراست وهرطر في مينكرند جز آسمان وزمين وكوه نمى بينند لا جرم بعد از ذكر شتر آسمان وكوه وزمين ياد ميكرد.
يعني قرنت الإبل بالسماء والجبال بالأرض لأن الآية نزلت بطريق الاستدلال وهم كانوا أشد ملابسة بهذه الأشياء من غيرهم فلذا جمع الله بينها وقال الغزالي رحمه الله خص الإبل بالذكر لأنها لائقة بقرائنها معنى فالسماء الظليلة والأرض الزاملة والجبال الثقيلة كالإبل لفرش والحمولة فالسحاب تحمل الماء الزلال والإبل الأحمال الثقال والأرض الجبال والكل مسخر بأمره قال القرطبي قدم الإبل في الذكر ولو قدم غيره جاز وعن القشيري رحمه الله إنه قال ليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة.
يقول الفقيران قلت لو أخر ذكر الإبل لكان له مناسبة تامة مع ذكر الأرض لأن الإبل سفن البر قلت نعم لكنه اعتبر سمك الإبل فترقى منه إلى سمك السماء.
ثم يقول الفقير ولي كلام عريض في هذا المقام ذكرته في كتاب الواردات الحقية لي وخلاصته إنه تعالى أشار بالإبل إلى النفوس فإنها ضخمة جسيمة مثلها وبدأ بالنفوس لأنها أصل بمنزلة الأم والدرجة الأنوثة تقدم حكماً وإن كان لها تأخر صورة كحواء بالنسبة إلى آدم وأشار بالسماء إلى الأرواح لأنها علوية وبمزلة الأب ولهذا أردفها بها وأشار بالجبال إلى القلوب لأنها أثبت من الرواسي ولأنها خلقت بعد خلق الروح والنفس كما أن الجبال خلقت بعد خلق السماء والأرض هي بمنزلة الولد لهما ولذا عقبهما بها وقد صح إن الجبال تعبر في الرؤيا بأهل القلوب من الرجال لأنهم أوتاد الأرض والعمد المعنوية في الحقيقة كما أن الجبال أوتاد الأرض في الصورة وأشار بقوله نصبت دون خلقت إلى أن
417
القلوب في الحقيقة أمر ملكوتي وإن ظهرت في الصورة ظهور الولد من الأبوين وأشار بالأرض إلى الأجساد السافلة وهي مؤخرة في المرتبة فالله تعالى سطح أرض البشرية والجسدانية لتكون مستقر النفوس وخلق النفوس لتكون مستوى القلوب وخلق القلوب لتكون عروش الروح بل السر بل الأخفى فما أحسن ترتيب هذه الآية وما أشد انتظام جملتها وتناسها فهي كالجمع بين كاتب وقلم وقرطاس ودواة والله تعالى أعلم {فَذَكِّرْ} الفاء لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبىء عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك إنهم لا ينظرون ولا يتذكرون
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
(10/323)
{إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} تعطيل للأمر بما أمرت به أي مبلغ وإنما الهداية والتوفيق إلى الله تعالى {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} أي لست بمسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى وما أنت عليهم بجبار وأكثر القراء قرأوا بمصطر بالصاد على القلب لمناسبة الطاء بعدها وقرىء بالسين على الأصل وبالإشمام بأن يخلط صوت الصاد بصوت الزاي بحيث يمتزجان فيتولد منهما حرف ليس بصاد ولا زاي وخلطذ حرف بحرف أحد معاني الإمام في عرف القراء يقال سطر يسطر سطراً كتب والمسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف لعيه ويتعهد أحواله ويكتب عمله فأصله من السطر فالكتاب مسيطر والذي يفعله مسيطر.
وقال الراغب : يقال سطر فلان على كذا أو تسطر عليه إذا قام عليه قيام سطر أي لست عليهم بقائم وحافظ واستعمال مسيطر هنا كاستعمال القائم في قوله من هو قائم على كل نفس بما كسبت والحفيظ في قوله وما أنت عليهم بحفيظ انتهى {إِلا مَن تَوَلَّى} أعرض عن الحق أو عن الداعي إليه بعد التذكير {وَكَفَرَ} وثبت على الكفر أو أظهره وفي "فتح الرحمن" إلا من تولى عن الإيمان وكفر بالقرآن أو بالنعمة.
وفي التأويلات النجمية : إلا من تولى عن الحق بالإقبال على الدنيا وكفر أي ستر الحق بالخلق وهو استثناء منقطع ومن موصولة لا شرطية لمكان الفاء ورفع الفعل أي لكن من تولى وكفر فإنالولاية والقهر وهو المسيطر عليهم قالوا وعلامة كون الاستثناء متصلاً محضاً لا يحسن ذلك نحو عندي مائتان إلا درهماً فلا يدخل عليه أن {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاكْبَرَ} الذي هو عذاب جهنم حرها شديد وقعرها بعيد ومقامعها من حديد وفي فتح الرحمن الأكبر عذاب جهنم والأصغر ما عذبوا به في الدنيا من الجوع والأسر والقتل ويؤيده ما قال الراغب في قوله يوم نبطش البطشة الكبرى فيه تنبيه على أن كل ما ينال الكافر من العذاب قبل ذلك في الدنيا وفي البرزخ صغير في جنب عذاب ذلك اليوم انتهى.
وأيضاً قوله تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} فإن المراد بالعذاب الأدنى هو العذاب الأصغر الدنيوي لا البرزخي لقوله تعالى : بعده لعلهم يرجعون فإن الرجوع إنما يعتبر في الدنيا لا في البرزخ وفيما بعد الموت فيكون المراد بالعذاب الأكبر هو العذاب الأخروي وإليه ينظر قوله تعالى : يصلى النار الكبرى كما سبق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
وفي التأويلات النجمية : العذاب الأكبر هو عذاب الاستتار في الدنيا وعذاب نار الهجران في الآخرة إن إلينا إيابهم} تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر يقال آب
418
يؤوب أوبا وآيابا رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً كما قال تعالى ألا إلى الله تصير الأمور وإليه يرجع الأمر كله فتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة فإنه يفيد معنى أن يقال إن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام كما أن مبدأهم وصدورهم كان منه وفيه تخويف شديد فإن رجوع العبد العاصي المصر إلى مالكه الغضوب في غاية الصعوبة ونهاية العسرة وجميع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما إن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} في المحشر لا على غيرنا فنحن نحاسبهم على النقير والقطمير من نياتهم وأعمالهم وثم للرتاخي في الرتبة لا في الزمان فإن الترتب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه تعالى فإنهما أمران مستمران قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله إن إلينا إيابهم في الفضل ثم إن علينا حسابهم في العدل وقال البقلي رحمه الله انظر كيف تفضل بعد الوعيد بأن جعل نفسه مآبهم وتكفل بنفسه حسابهم فينبغي أن يعيشوا بهذين الفضلين أطيب العيش في الدارين ويطيروا من الفرح بهذين الخطابين.
(10/324)
يقول الفقير ما قاله البقلي هو ما ذاقه العارفون بطريق المكاشفة فينبغي أن لا يغتر به العوام فإنه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر على الله تعالى يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية إنما خف الحساب في الآخرة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وثقلت موازين قوم في الآخرة وزنوا نفوسهم في الدنيا ومحاسبة النفس تكون بالورع وموزنتهها تكون بمشاهدة عين اليقين والتزين للعرض يكون بمخافة الملك الأكبر وعن علي رضي الله عنه إما بعد فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه فما نالك من الدنيا فلا تكثرنه فحاً وما فاتك منها فلا تتبعنه أسفاً وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على منا خلفت وشغلك لآخرتك وهمك فيما بعد الموت وفي الحديث ثلاث من كن في استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا ولآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا وقال عليه السلام : لو لم ينزل على إلا هذه الآية لكانت تكفي ثم قرأ آخر سورة الكهف فمن كان يرجو لقاء ربه الخ.
فكان هذا فصل الخطاب وبلاغاً لأولى الألباب فالعمل الصالح الإخلاص بالعبادة ونفى الشرك بالخلق هو اليقين بتوحيد الخالق فما كان أي خالصا لأجله وبالله أي بمشاهدة قربه لا بمقارنة نفسه وهواه وفي الله أي سبيله وطلب ما عنده لا لأجل عاجل حظه فمقبول وأهله من المقربين وحسابهم حساب يسير بل لا حساب لهم.
419
جزء : 10 رقم الصفحة : 412
تفسير سورة الفجر
تسع وعشرون أو اثنتان وثلاثون آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 419
{وَالْفَجْرِ} قال في "كشف الأسرار" لما كان العرب أكثر خلق الله قسماً في كلامهم جاء القرآن على عادتهم في القسم والفجر فجران مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب ولا يتعلق به حكم ومستطير وهو الصادق الذي يتعلق به الصوم والصلاة أقسم الله بالفجر الذي هو أول وقت ظهور ضوء الشمس في جانب المشرق كما أقسم بالصبح حيث قال والصبح إذا تنفس لما يحصل به من انقضاء الليل بظهوره الضوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطيور والوحوش في طلب الأرزاق وذلك مشاكل لنشور الموتى وفيه عبرة عظيمة لمن تأمل.
(وقال الكاشفي) : سوكند بصبح كه وقت مناجات دوستانست.
أو أقسم بصباح عرفة لأنه يوم شرف يتوجه فيه الحجاج إلى جبل عرفات وفي الحديث "الحج عرفة" يعني صباح روز عرفه كه وظائف دعا ونياز حاجيان درآنست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
أو صباح يوم النحر لأنه يوم عظيم أيضاً ويقع فيه الطواف المفروض والحلق والرمى ويروى أن يوم النحر يوم الحج الأكبر.
وبقولي مراد از صبح روز أول محرم است كه سال از ومنفجر ميشود يا بادمدا آذينه كه حج مسكينانست ودر تبيان آورده كه اشارت بانفجار آب از أصابع حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم در روز طائف وغير آن وكفته اند انفجار ناقه از صخره صالح عليه السلام ، يا انفجار عيون ومنابع يا انفجار آب از حجر موسى عليه السلام يا انفجار مطر از سحاب يا وران شدن اشك ندامت ارديده عاصيان.
بران ازدوسر شمه ديده جوى
ورآلايشى داري ازخود بشوى
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص420 حتى ص430 رقم43
{وَلَيالٍ عَشْرٍ} هن عشر ذي الحجة والعرب تذكر الليالي وهي تعينها بأيامها تقول بني هذا البناء ليالي السامانية أي أيامهم أو العشر الأواخر من شهر رمضان وتنكيرها للتعظيم لأنها مخصوصة بفضائل ليست لغيرها ولذا اقسم الله بها وذلك كالاشتغال بأعمال الحج في عشر في الحجة وفي الحديث ما من أيام أزكى عند الله ولا أعظم أجراً من خير عمل في عشر الأضحى قيل يا رسول الله ولا المجاهد في سبيل الله قال ولا المجاهد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء وفيه إشارة إلى أن الغازي ينبغي أن يخرج من بيته على قصد أن لا يعود والله يفعل ما يريد وإما شرف العشر الآواخر فيكفي أي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر تطلب فيها.
وكفته اندمراددهه محرم است كه عاشرا از آنست يادهه ميان شعبان كه شب براءت درآنست.
وقال البقلي هي ليال ست خلق في أيامها السموات والأرض وليلة خلق فيها آدم عليه السلام وليلة يومها يوم القيامة وليلة كلم الله فيها موسى عليه السلام وليلة أسرى بالنبي عليه السلام وقال القاشاني : اقسم بابتداء ظهور نور الروح على مادة البدن عند أثر تعلقه به وليال عشر ومحال الحواس العشر الظاهرة
420
والباطنة التي تتعلق عند تعلقه به لكونها أسباب تحصيل الكمال وآلائها.(10/325)
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى القسم بانفجار الحسنة الواحدة من أرض قلب المؤمن وليال الحسنات العشر المشار إليها بقوله نم جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وإنما سماها بليال لكون ظهور الحسنات العشر من غيب مرتبة أحدية الحسنة الواحدة من غير الاكتساب من نهار العمل بل من عالم الغيب بطريق الموهبة الإلهية {وَالشَّفْعِ} بالفارسية جفت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
وذلك لأن الشفع ضم الشيء إلى مثله {وَالْوَتْرِ} بفتح الواو وكسرها أي شفع هذه الليالي ووترها والظاهر التعميم لأن الألف واللام للاستغراق أي الأشياء كلها شفعها ووترها لأن كل شيء لا بد أن يكون شفعاً أو وتراً وقال الراغب المخلوقات كلها من حيث إنها مركبات كما قال ومن كل شيء خلقنا زوجين فهو الشفع وإما الوتر فهو الله تعالى من حيث إن له الوحدة من كل وجه وإليه يرجع قول من قال من كبار أهل الحال يشير إلى القسم بشفع الكثرة الإسمائية ووتر الوحدة الذاتية الحقيقية ودخلفيهما العناصر الأربعة والأفلاك التسعة والبروج الاثنا عشر والسيارات السبع وصلاة المغرب وسائرها ويوم النحر لأنه عاشر أيام ذي الحجة ويوم عرفة لأنه تاسع تلك الأيام واليومان بعد يوم النحر واليوم الثالث وآدم وحواء عليهما السلام ، زوجين ومريم عليها السلام وتر والعيون الاثنتا عشرة التي فجرها الله لموسى عليه السلام والآيات التسع وأيام عاد الشفع ولياليها الوتر كما قال تعالى : [الحاقة : 7-4]{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ} والشهر الذي يتم بثلاثين يوماً والشهر الذي يتم بتسعة وعشرين والأعضاء والقلب والشفتان واللسان والسجدتان والركوع وأبواب الجنة وأبواب النار ودرجات الجنة ودركات النار وصفات الخلق كالعلم والجهل والقدرة والعجز وإرادة والكراهة والحياة والموت وصفات الحق وجود بلا عدم حياة بلا موت علم بلا جهل قدرة بلا عجز عز بلا ذل ونفس العدد شفعه ووتره والأيام والليالي واليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة وكل بني له اسمان مثل محمد وأحمد والمسيح وعيسى ويونس وذو النون وكل من له اسم واحد مثل آدم ونوح وإبراهيم ومسجد مكة ولمدينة وكذا يقال لهما الحرمان الريفان والمسجد الأقصى والجبلان الصفا والمروة والبيت الحرام والنفس مع الروح في حالة الجمع وهما في حالة الافتراق وقال سهل رحمه الله الفجر محمد عليه السلام ، منه تفجرت الأنوار وليال عشر هي العشرة المبشرة بالجنة والشفع هو افرض والوتر هو الإخلاص في الطاعات والليل} جنس الليل {إِذَا يَسْرِ} أي بمضى وبالفارسية آنكاه كه بكذرد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
كقوله والليل إذا أدبر والسرى سير الليل يقال سرى يسرى سرى ومسرى إذا سار عامة الليل وسار يسير سيراً ذهب والتقييد به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة وفور النعمة كان جميع الحيوانات أعد إليهم الحياة بعد الموت وتسببوا بذلك لطلب الأرزقا الممدة للحياة الدنيوية التي يتوسل بها إلى سعادة الدارين فإن قيل القسم بالليل إذا يسر يغني عن القسم بليال عشر قلنا المقسم به في قوله والليل إذا يسر هو الليل باعتبار سيره ومضيه وفي قوله وليال عشر هو الليالي بلا اعتبار مضيها بل اعتبار خصوصية أخرى فلا يغنى
421
(10/326)
أحدهما عن الآخر ويجوز أن يكون المعنى والليل إذا يسر يعني يسرى فيه الساري ويسير فيه السائر فإسناد السرى إلى الليل مجاز كما في نهاره صائم أي هو صائم في نهاره فالتقيد بذلك لأن السير في الليل حافظ للسائر من حر الشمس فإن السفر مع مقاساة حر النهار أشد على النفس وقد قال النبي عليه السلام عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى في الليل وكذا هو حافظ من شر قطاع الطريق غالباً لأنهم مشغولون بالنوم في الليل وحذفت الياء اكتفاء بالكسر ولسقوطها في خط المصحف ولموافقة رؤوس الآي وإن كان وصل إثباتها لأنها لام فعل مضارع مرفوع وسئل الأخفش عن حذفها فقال أخذ مني سنة فسأله بعد سنة فقال الليل يسرى فيه ولا يسرى فعدل به عن معناه فوجب يعدل عن لظفه يعني إن سقوط الياء ليدل على أن أصل الفعل منفى عن الليل وإن كان مسنداً إلى ضميره كما أن حركة العين في الحيوان تدل على وجود معنى الحركة في معنى لحيون لأن للتراكيب خواص بها تختلف وفيه إشارة إلى ظلمة الدن إذا ذهبت وزالت بتجرد الروح وإلى القسم بسريانه ليل الهوية المطلقة في نهار الحقائق المقيدة كما قال يولج اليل في النهار ويولج النهار في الليل برفع المقيدات بسطوات أنوار المطلق وإلى القسم بليلة المعراج التي أسرى الله بعبده فيها فكانت أشرف جميع الليالي لأنها ليلة القدر والشرف والقرب والوصال والخطاب ورؤية الجمال المطلق {هَلْ فِى ذَالِكَ} الخ تقرير وتحقيق لفخامة شأن المقسم بها وكونها أموراً جليلة حقيقة بالإعظام والإجلال عند أرباب العقول وتنبيه على الإقسام بها أمر معتد به خليق بأن يؤكد به الأخبار على طريقة قوله تعالى وإنه لقسم لو تعلمون عظيم كما يقول من ذكر حجة باهرة هل فيما ذكرته حجة والمعنى هل فيما ذكر من الأشياء المقسم بها {قَسَمٌ} أي مقسم به وفي "فتح الرحمن" مقنع ومكتفى {لِّذِى حِجْرٍ} لذي عقل منور بنور المعرفة والحقيقة يراه حيقاً بأن يقسم به إجلالاً وتعظيماً والمراد تحقيق إن الكل كذلك وإنما أوثرت هذه الطريقة هضماً للخلق وإيذاناً بظهور الأمر أو هل في الأقسام بتلك الأشياء أقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه وبالفارسية آيادرين سوكندكه ياد كردم سوكندى سنديده مرخداوند عقل را تا اعتبار كند ودندكه سوكنديست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
محقق ومؤكد والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي كما سمى عقلاً ونهيه بضم النون لأنه يعقل وينهى وحصاة أيضاً من الإحصاء وهو الضبط قال الفراء يقال إنه لذ وحجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها والتنوين في الحجر للتعظيم قال بعض الحكماء : العقل للقلب بمنزلة الروح للسجد فكل قلب لا عقل له فهو ميت بمنزلة قلب الهائم والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن أي الكفار كما ينبىء عنه قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} الهمزة للإنكار وهو في قوة النفيو نفي النفي إثبات أي ألم تعلم يا محمد علماً يقينياً ارياً مجرى الرؤية في الجلاء أي قد علمت بأعلام الله تعالى وبالتواتر أيضاً كيف عذب ربك عادا ونظائرهم فسيعذب كفار قومك أيضاً لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي والمراد بعاد أولاد عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام
422
(10/327)
قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمى بنوا هاشم هاشماً وبنو تميم تميماً فلفظ عاد اسم للقبيلة المنتسبة إلى عاد وقد قل لأوائلهم عاد الأولى ولأواخرهم عاد الأخيرة قال عماد الدين بن كثير كل ما ورد في القرآن خبر عاد الأولى إلا ما في سورة الأحقاف {إِرَمَ} عطف بيان لعاد للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف أي سبط ارم أو ل ارم على ما قيل من أن ارم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها وكانت منازلهم بين عمان إلى حضر موت وهي بلاد الرمال والأحقاف ويؤيده القراءة بالإضافة وأياماً كان فامتنع صرفها للتعريف والتؤنيث وفي "المفردات" الآرام أعلام تبنى من الحجارة وارم ذات العماد إشارة إلى إعلامها المرفوعة المزخرفة على هيئة المنارة أو على هيئة القبور وفيه أيضاً حذف مضاف بمعنى أهل الإعلام {ذَاتِ الْعِمَادِ} صفة لارم واللام للجنس الشامل للقيل والكثير والعماد كالعمود والجمع عمد وعمد بفتحتين وبضمتين وأعمدة أي ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة أو ذات الخيام والأعمدة حيث كانوا بدويين أهل عمد يطلبون الكلأ حيث كان فإذا هاجت الريح ويبس العشب رجعوا إلى منازلهم أو ذات البناء الرفيع وكانوا ذات بنية مرفوعة على العمد وكانوا يعاجلون الأعمدة فينصبونها ويبنون فوقها القصور وكانت قصورهم ترى من أرض بعيدة أو ذات الأساطين إذ كانت مدينتهم ذات أبنية مرفوعة على الاسطوانات على أن أرم اسم بلدتهم وقال السهيلي رحمه الله ارم ذات العماد وهو جيرون بن سعد بن ارم وهو اذي بني مينة دمشق على عمد من رخام ذكر أنه أدخل فيها أربعمائة ألف عمود وأربعين ألف عماد من رخام فالمراد هذه العماد التي كان البناء عليها في هذه المدينة وكانت تسمى جيرون وبه تعرف وسميت دمشق بدمشق بن نمرود عدو إبراهيم الخليل عليه السلام وكان دمشق قد أسلم وبنى جامع إبراهيم في الشأم انتهى لعل هذه الرواية أصح فليتأمل {الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَـادِ} صفة أخرى لارم والضمير لها على إنها اسم القبيلة أي لم يخلق مثلهم في عظم الإجرام والقوة في الآفاق والنواحي حيث كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها ويلقيها على الحي فيهلكهم ولذا كانوا يقولون من أشد منا قوة ونظيرهم في الطيور الرخ وهو طير في جزائر الصين يكون جناحه الواحد عشرة آلاف باع يحمل حجرا في رجله كالبيت العظيم ويلقيه على السفينة في البحر أو لم يخلق مثل مدينتهم في جميع بلاد الدنيا فالضمير لها على إنها اسم البلدة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
وقصه آن بر سبيل إجمال آنست كه عبد الله بن قلابه بطلب شترى كم شده صحراى عدن ميكشت دربيا باني بشهري رسيدكه باره محكم داشت كه اساس آن از جزع يماني وبر حوالى آن قصور بسيار بودباميد آنكه كسى بيندو أحوال شترخود رسد بدر حصار آمد درى ديد هردو مصراعش مكلل بجواهر قيمتي وهيكس را آنجا نيافت متحيرشد وون بشهر درامد حيرتش بيفزوده قصرها ديدبرستونها زبرجد وياقوت بناكرده خشتى از زر وخشتى ازنقره وفرشها برهمين وتيره بجاي سنك ريزه مرواريدهاي آبدار ريخته ودر حوالى هرقصرى آبهاي روان بروري لؤلؤ ومرجان ودرختان بسيار تنهاى آن اززر وبركهاي آن اززبرجد وشكوفهاي آن ازسيم باخود كفت هذه الجنة التي وعد المتقون (مصراع).
423
اين ه منزل ه بهشت اين ه مقمست اينجا
وقال والذي بعث محمداً ما خلق الله مثل هذا في الدنيا س قدري ازان جواهر برداشت ودرس بالحق وشت بست وبيمن باز آمد ومردمان آن كوهررا دردست او بيدند وحمل بر يافتن كنجى كره قصه وى درزبانها افتاد تاحدى كه حال اورا بمعاويه كه ران وقت حاكم شام بود آنها كردند معاويه أورا طلبيد وتمام حكايت اواز أول تا آخر استماع كردس اورا در مجلس بنشانيد وكعب الأحبار را طلبيده رسيدكه دردنيا شهري هست كه بناي اواز زرونقره باشد ودرختان مكلل بجواهر كعب كفت آرى شهريست كه حق سبحانه وتعالى در قرآن مجيد ياد فرمودكه (لم يخلق مثلها في البلاد) وآنراشداد بن عاد ساخته واو بادشاه عظيم قدر بوده است ونهضد سال عمر داشت هرجا در عالم زرى وجوهري بوده همه را جمع كراده وصد قهرمان باهر يكى هزار فرستاد تا شهرارم را بساختند وبسيصد سال باتمام رسيدده سال ديكر تهيئه راه اشتغال نمود امر أو ملوك عالم را جمع كرد واز دار السلطة خود بتماشاى آن شهر متوجه شديك شبه راه ميان أو وآن بنامانده بودكه حق سبحانه وتعالى ملكي فرستاد تا صيحه برايشان زدوهمه بمردند وان شهراز نظر مردم وشيده شد نانه أصحاب كهف درغار وخوانده ام كه در حكومت تومردى كوتاه بالأسرخ رنك سير شم كه برروى لأ خالي وبركردن آن علامتي باشد بطلب شترى بدآنجارسد وآنرا بيند س بازنكريست وابن قلابه راديد كفت هو والله ذلك الرجل.
(10/328)
قال ابن الشيخ في حواشيه وفيه بحث لأن قوم عاد أهلكوا بالربح وقوم صالح أهلكوا بالصيحة إلا أن يراد بالصيحة ههنا الريح الشديد الصوت وذكر كعب إنه كتب ابن شداد على لوح وضع عند رأس أبيه عن لسانه حين رفعه من المفازة ودفنه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
أنا شداد بن عاد صاحب الحصن العميد
وأخو القوة والباساء ولملك المشيد
دان أهل الأرض لي من خوف وعدي وعيدي
وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد
فآتتنا صيحة تهوى من الأفق البعيد
فتوفتنا كزرع وسط بيداء حصيد
وذكر في قوت القلوب تصنيف العالم الرباني أبي طالب المكي قدس سره إنه قيل لأبي يزيد البسطامي قدس سره هل دخلت أرم ذات العماد فقال صه قد دخلت الف مدينةتعالى في ملكه أدناها ذات العماد ثم أخذ يعدد تلك المدائن جابلق جابلص إلى غير ذلك فظاهر قول أبي يزيد أدناها ذات العماد يخالف قوله تعالى : لم خلق مثلها في البلاد لكن المستفاد من الآية نفى الخلق في الماضي ويجوز أن تكون تلك المدائن حادثة بعد نزول القرآن ويجوز أن يراد بنفي المثل هو المثل في الزينة وبالأدنى صغر الجثة وفي بعض نسخ قوت القلوب إن معنى الآية لم يخلق مثلها في بلاد اليمن لأنهم خوطبوا بما في بلادهم كما قال الله تعالى أو ينفوا من الأرض أي أرض بلادهم وبمثل هذه التوجيهات يندفع الأشكال كذا في شرح البردة لابن الشيخ {وَثَمُودَ} وديكره كرد خداي تعالى بقوم ثمود.
وهو
424
عطف على عاد وثمود قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثموداخي جديس وهما ابنا عامر بن رام بن سام بن نوح عليه الصلاة واللام وكانوا عرباً من العارية يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك وكانوا يعبدون الأصنام كعاد وهم قوم صالح كما قال تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحاً {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} الجواب القطع تقول جبت البلاد أجبها جوباً وزاد الفراء جبت اللاد أجيبها جيباً إذا جلت فيها وقطعتها وجبت القميص ومنه سمى الجيب والصخر هو الحجر الصلب الشديد والواد أصله الوادي حذفت ياؤه اكتفاء بالكسرة ورعاية لرأس الآية وأصل الوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء ومنه سمى المنفرج بين الجبلين وادياً والمراد هنا هو وادي القرى بالقرب من المدينة الشريفة من جهة الشأن قال أبو نضرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك على وادي ثمود وهو على فرس اشقر فقال أسرعوا السير فإنكم في واد ملعون والمعنى قطعوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتاً نحتوها من الصخر كقوله تعالى : [الشعراء : 149-10]{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} قيل إنهم أول من نحت الجبال والصخور والرخام وقد بنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة وفرعون} وه كرد بفرعون موسى عليه السلام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
وهو الوليد ابن مصعب بن ريان بن ثروان أبو لعباس القبطي وإليه تنسب الأقداح العباسية وفرعون لقب رده تعالى بالذكر لانفراده في التكبر والعلو حتى ادعى الربوبية والألوهية {ذِى الاوْتَادِ} جمع وتد بالتحريك وبكسر التاء أيضاً بالفارسية ميخ.
وقد سبق في سورة النبأ وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم ويربطونها بالأوتاد والأطناب كما هو الآن عادة في ضرب الخيمة والتعذيبة بالأوتاد كما قال في "كشف الأسرار" وفرعون آن كشنده بميخ بند يعني بطريق هار ميخ تعذيب كننده.
(روى) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن فرعون إنما سمى ذا الأوتاد لأن امرأة خازنه خربيل كانت ماشطة هيجل بنت فرعون وكان خربيل مؤمناً يكتم إيمانه منذ مائة سنة وكذا امرأة فبينا هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله تعالى فقالت ابنة فرعون وهل لك إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال ما يبكيك قالت إن الماشطة امرأة خازنك تزعم إن الهك والهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقانت صدقت فقال لها ويحك اكفري بإلهك قالت لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب وقال لها اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت به وكانت لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها وقال لها اكفري بإلهك وإلا ذبحت الصغرى على فيك أيضاً وكانت رضيعا فقالت لو بحت من في الأرض على في ما كفرت بالله تعالى فأتى بابنتها فلما أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت يا أماه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة اصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته فذبحت فلم تلبث إن ماتت فأسكنها الله
425
(10/329)
تعالى إلى جوار رحمته وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت في نفسها كيف يسعني إن أصبر على ما يفعل فرعون وأنا مسلمة وهو كافر بينما هي تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها فقالت يا فرعون أنت شر الخلق واخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فلعلك بك الجنون الذي كان بها قالت ما بي من جنون وإنما المجنون من يكفر بالله الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وحده لا شريك له وهو على كل شيء قدير فمدها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنى من فرعون وعمله فقبض الله روحها واسكنها الجنة العالية وقد سبق طرف من هذه القصة في آخر سورة التحريم فارجع ثم في عاد إشارة إلى الطبيعة البشرية وفي ثمود إلى القوة الشهوية وفي فرعون إلى القوة الغضبية فلا بد للسالك من تزكيتها وإزالة آثارها
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
{الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَـادِ} صفة للمذكورين من الطوائف الثلاث فيكون مجرور المحل لكون بعض المذكورين قبله مجروراً بالباء وبعضها معطوفاً عليه وهو أحسن بحسب اللفظ إذ لا حذف فيه واختار صاحب الكشاف كونه منصوباً على الذم بتقدير أعني لكونه صريحاً في الذم والمقام مقام الذم وهو أحسن نظراً إلى المعنى والمعنى طغى كل طائفة منهم في بلادهم وتجاوزوا الحد يعني طغى عاد في اليمن وثمود بأرض الشأم والقبط بمصر كما أن نمرود طغى بالسواد وقس على هذا سائرهم {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أي بالكفر وسائر المعاصي فإن الفساد يتناول جميع أقسام الإثم كما إن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد متجاوز عن الحد الذي حد له وفيه خوف شديد لأكثر حكام الزمان ونحوهم {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ} صب الماء إراقته من أعلى أي أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد {سَوْطَ عَذَابٍ} السوط الجلد المضفور أي المنسوج المفتول الذي يضر به أي عذاباً شديداً لا تدرك غايته وهو عبارة عما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة وهي الريح لعاد والصيحة لثمود والغرق للقبط وتسميته سوطاً للإشارة إلى أن ذلك بالنسبة إلى ما أعدلهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف قال أبو حيان استعير السوط للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره.
(وقال الكاشفي) : ون عرب ضرب تازيانه راسخت ترين عذابها مى دانستند.
يعني إن السوط عندهم غاية العذاب.
هركونه از عذاب را نيز سوط ميكفتند حق سبحانه بقانون كلام ايشان عذابهاي خودرا سوط كفت قال الشاعر :
ألم تر إن الله أظهر دينه
وصبت على الكفار سوط عذاب
والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته واستمراره وتتابعه فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالرمل والحبوب وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار ونسبته
426
إلى السوط مع إنه ليس من ذلك القبيل باعتبار تشبيه في نزوله المتتابع المتدارك على المضروب بقطرات الشيء المصبوب فإن قيل أليس إن الله تعالى قال ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة وهو يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتيتن قلنا إنه يقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة وذلك لا ينافي أن يعجل شيء من ذلك في الدنيا فإن الواقع في الدنيا شيء من الجزاء ومقدماته كذا في "حواشي ابن الشيخ".
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
يقول الفقير وأوجه من ذلك إن المفهوم من الآية المؤاخذة لكل الناس وهو لا ينافي إن يؤاخذ بعضهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كبعض الأمم السالفة المكذبة {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تعليل لما قله وإيذان بأن كفار قومه عليه السلام سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليى ضميره عليه السلام والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الراصدون مفعال من رصده كالميقات من وقته والباء للظرفية أي إنه لفي المكان الذي تترقب فيه السابلة ويجوز أن يكون صيغة مبالغة كالمطعان والباء تجريدية وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة وإنهم لاي فوتونه شبه حاله تعالى في كونه حفيظ لأعمال العباد مجازياً عليها على النقير والقطمير ولا محيد للعباد عن أن لا يكون مصيرهم إلا الله بحال من قعد على طريق السابلة يترصدهم ليظفر بالجاني أو لأخذ المكس أو نحو ذلك ولا مخلص لهم من العبور إلى ذلك الطريق ثم ستعمل هنا ما كان مستعملاً هناك.
(قال الكاشفي) : حق سبحانه همه رامي بيند ومي شنود وبرو وشيده نيست.
هم نهان داند وهم آنه نهان ترباشد
يعلم السر وأخفى صفت حضرت أوست
(10/330)
ويقال يعني ملائكة ربك على الصراط يترصدون على جسر جهنم في سبعة مواضع فيسأل في أولها عن الإيمان فإن سلم من النفاق والرياء نجا وإلا تردى في النار وفي الثاني عن الصلاة فإن أتم ركوعها وسجودها وإقامها في مواقيتها نجا وإلا تردى في النار وفي الثالث عن الزكاة وفي الرابع عن صوم شهر رمضان وفي الخامس عن الحج والعمرة وفي السادس عن الوضوء والغسل من الجنابة وفي السابع عن بر الولدين وصلة الرحم فإن خرج منها قيل له انطلق إلى الجنة وإلا وقع في النار {فَأَمَّا الانسَـانُ} متصل بما قبله من قوله إن ربك لبالمرصاد وكأنه قيل إنه تعالى بصدد مراقبة أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً وشراً فأما الإنسان فلا يهمه ذلك وإنما مطمح نظره ومرصد فكره الدنيا ولذائذها.
قال السهيلي رحمه الله المراد بالإنسان عتبة بن ربيعة وكان هو السبب في نزولها فيما ذكروا وإن كانت هذه الصفة تعم {إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ رَبُّهُ} أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار {فَأَكْرَمَهُ} س كرامى كندش بجاه واقتدار {وَنَعَّمَهُ} ونعمت دهدش ومعيشت برو فراخ كرداند وبآساني كارا وبسازد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
والفاء تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين الابتلاء {فَيَقُولُ} مفتخراً {رَبِّى} روردكار من {أَكْرَمَنِ} فصلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه ولا يخطر بباله إنه محض تفضل عليه ليبلوه ايشكر
427
أم يكفر وهو خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان والفاء لما في إما من معنى الشرط والظرف المتوسط على نية التأخير كأنه قيل فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام وإنما تقديمه للإيذان من أول الأمر بأن لإكرام والتنعيم بطريق الابتلاء ليضح اختلال قوله المحكى فإذا لمرجد الظرفية وإن هذه الفاء لا تمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ} أي وإما هو إذا ما ابتلاه ربه فيكون الواقع بعد إما في الفقرتين اسماً فتكون الجملتان متعادلتين {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} س تنك سازد برو روزى اورا يعني ضيقه حسماً تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة وجعله عى قدر كفايته وقوت يومه {فَيَقُولُ} متضجراً {رَبِّى أَهَـانَنِ} أذلني بالفقر ولا يخطر بباله إن ذلك ليبلوه ايصبر أم يجزع مع إنه ليس من الإهانة في شيء ولذا لم يقل فأهانه فقدر عيه رزقه في مقابلة أكرمه ونعمه بل التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين في حق الفقير اصابر أما تأتديته إلى كرامة الآخرة فأمر ظاهر وإما تأديته إلى كرامة الدنيا فلأنه قد يسلم به من طمع الأعداء فيحسن فيه اعتقاد الكبراء من أهل الدنيا فيراجعونه ويلتمسون منه الدعاء والتوسعة قد تفضى إلى خسران الدارين بالكفران فيكون استدراجاً.
أي دل اكر بديده تحقيقي بنكري
درويشى اختياركنى بر توانكري
قال بعضهم : ربما كان التضييق إكاماً له بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإم كساء قد ربطوه في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ نصف الكعبين فيجسعه بيده كراهة إن ترى عورته فتأمل هل تكون هذه إهانة لخواص عباد الله فالمؤمن إما في مقام الشكر أو في مقام الصبر قال عليه الصلاة والسلام الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
صيرفى از فقر ون درغم شود
عين فقرش دابه ومطعم شود
رانكه جنت از مكاره رسته است
رحم قسم عاجزا شكسته است
آنكه سرها بشكند اواز علو
رحم حق وخلق نايد سوى او
كما قال بعض الكبار في قوله فيقول ربي أهانن أي تركني ذليلاً مهينا لم يعرف المحجوب المسكين إن ربه ناظر إليه بنظر الرحمة والشفقة إذ جذبه بالجبة الرحمانية من العالم الطبيعي إلى العالم الروحاني ومن عالم النفس إلى عالم القلب ومن عالم الفرق إلى عالم الجمع ومن عالم الفراق إلى عالم الوصال {كَلا} ردع للإنسان عن مقالته المحكية وتكذيب له فيها في كلما الحالتين قال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى لم ابتله بالغنى لكرامته على ولم ابتله بالفقر لهوانه على بل ذلك لمحض القضاء والقدر بلا تعليل بالعلل {بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله والتفات إلى الخطاب للإيذان بقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشافهته بالتوبيخ تشديداً للتقريع وتأكيداً للتشنيع والجمع باعتبار
428
معنى الإنسان إذ المراد والجنس أي بل لكم أحوال أشد شراً مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالنفقة والكسوة ونحوهما وهو من بني آدم هو الذي فقد أباه وكان غير بالغ ومن البهائم ما فقد أمه قال عليه الصلاة والسلام أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم.
برحمت بكن آبش از ديده اك
(10/331)
بشفقت بيفيانش از هره خاك
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
قال في "الأشباه" استخدام اليتيم بلا أجرة حرام ولو لأخيه ومعلمه إلا لأمه وفيما إذا أرسله المعلم لإحضارشريكه كما في القنية {وَلا تَحَـاضُّونَ} بحذف إحدى التاءين من تنحاضون والحض الحث والتحريض لا يحض بعضكم بعضاً ولا يحث من أهل وغيره شكراً لإنعام الله تعالى {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي على إطعام جنس المسكين ومن لا يحض غيره على إطعامه فإن لا يطعمه بنفسه أولى فيؤول المعنى إلى أن يقال ولا تطعمون مسكيناً ولا تأمرون بإطعامه وفيه ذم بليغ للبخيل قال مقاتل كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه عن حقه فنزلت {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} أي الميراث وأصله وارث قلبت واوه تاء والميراث هو المال المنتقل من الميت {أَكْلا لَّمًّا} اللم الجمع يقال كتيبة ملمومة مجتمعة بعضها إلى بعض والمعنى أكلا ذا لم على حذف المضاف أي جمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم وفيه ءشارة إلى أنه كان بينهم ميراث يتوارثونه من إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام لكنهم قد بدلوه كما بدلوا غيره من بعض الأحكم أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام مشتبه عالمين بذلك {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} كثيراً مع حرص وشره ومنع حقوق رعدم انتفاع فإن الجم الكثير يقال جم الماء في الحوض إذا اجتمع فيه وكثر والمقصود ذمهم ببيان إن حرصهم على الدنيا فقط وإنهم عادلون عن أمر الآخرة وفيه إشارة إلى أن حب المال طبيعي فلا يتخلص منه المرء بالكلية إلا أن يكون من الأقوياء فكأنه إشار إلى أن حبه إذا لم يشتد لا يكون مذموماً وقال بعض اكبار وتحبون مال الأعمال السيئة النفسانية والأحوال القبيحة الهوائية حباً كثيراً {كَلا} ردع لهم عما ذكر من الأفعال والتروك وإنكار أي لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك في الحرص على الدنيا وقصرالهمة على تحصيلها وجمعها من حيث تهيأ من حل أو حرام وترك المواساة منها وتوهم أن لا حساب ولا جزاء فإن عاقبة ذلك الحسرة والندامة على إيثار الحياة الدنيوية الفانية على الحياة الأخروية الباقية {إِذَا دُكَّتِ الارْضُ دَكًّا دَكًّا} استئناف بطريق الوعيد تعليل للردع والدك ادق يقال دككت الشيء أدكه دكا إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض وبالفارسية كوفتن يزى تابزمين برا بر كردد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
وقال الخليل الدك كسر الحائط والجبل ودكته الحمى دكا أي كسرته كسرا وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط ودكا الثاني ليس تأكيد الأول بل هودك آخر سوى الأول والمعنى إذا دكت الأرض دكا متتابعاً وضرب بعضها ببعض حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور حين نزلت زلزلة بعد زلزلة وحركت تحريكاً بعد
429
تحريك وصارت هباء منبثاً وهو عبارة عما عرض لها عند النفخة الثانية وبالفارسية ون شكسته شود زمين شكستني بعد ازشكستنى يعني اره اره كردد {وَجَآءَ رَبُّكَ} أي ظهرت آيات قدرته وآثار قهره مثل ذلك بما يظهر عند حضور السطان بنفسه من أحكام هيبته وسياسته فإنه عند حضوره ظهر ما لا يظهر بحضور وزرائه وسائر خواصه وعساكره وقال الامام أحمد جاء أمره وقضاؤه على حذف المضاف للتهويل.
وفي التأويلات النجمية : تجلى في المظهر الجلالي القهري {وَالْمَلَكُ} وبيايد فرشتكان بعرصه محشر {صَفًّا صَفًّا} أي حال كونهم مصطفين لأ ذوي صفوف فإنه ينزل يومئذٍ ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم اصطفاف أهل الصلاة في الدنيا من الأنس والجن كما قال تعالى والملك على أرجائها فهم سبعة صفوف عدد السموات السبع {وَجِا ىاءَ يَوْمَـاـاِذٍ بِجَهَنَّمَ} كقوله تعالى وبرزت الجحيم يعني إن المجيء بها عبارة عن إظهارها حتى يراها الخلق مع ثباتها في مكانها فإن من المعلوم إنها لا تنفك عن مكانها والباء للتعدية على أن جهنم قائم مقام الفاعل لجيء وقال ابن مسعود رضي الله عنه ومقاتل تقاد جهنم بسبعين ألف زمام معه سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير يعني دوزخ از خشم كافران مى جوشدومى خروشد.
فترد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ويجثو كل نبي وولى من الهول والهيبة على ركبته ويقول نفسي نفسي حتى يعترض لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويقول أمتي أمتي تقول النار مالي ومالك يا محمد لقد حرم الله لحمك على فالمجيء بها على حقيقة فإن الجر يدل على انفكاكها عن مكانها وتأوله الأولون بحمله على التجوز بأن معنى يجرون يباشرون أسباب ظهورها.
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص430 حتى ص440 رقم44
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
(10/332)
يقول الفقير : لا حاجة إلى الحمل على التجوز فإن بعض الأمكنة كالكعبة تزور بعض الخواص بالإيجاد والإعدام اللذين هما إسراع شيء من طرفة العين فلا بعد في أن يكون مجيء جهنم من هذا القبيل على أن الأرض يومئذٍ أوسع شي كما بين فيما سبق فهي تسع جهنم وأهل المحشر جميعاً وأيضاً المراد بمجيء جهنم مجيء صورتها المثالية ولا مناقشة فيه فيكون كمجيء المسجد الأقصى إلى مرأى النبي عليه الصلاة والسلام حين سأله قريش عن بعض أوصافه في قصة المعراج {يَوْمَـاـاِذٍ} بدل من إذا دكت والعامل فيهما قوله تعالى {يَذْكُرُ الانسَـانُ} أي يتذكر ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه أو بمعانية عينه على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فيبرز كل من الحسنات والسيئات بما يناسبها من الصور الحسنة والقبيحة أو يتعظ أي يقبل التذكير والإرشاد الذي بلغ إليه في الدنيا ولم يتعظ ولم يقبله في الدنيا فيتعظ به في الآخرة فيقول يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا وهذا الاتعاظ يستلزم الندم على تقصيراته والندم توبة لكن لا توبة هناك لفوت الوقت.
قال القاشاني : يوم يتذكر الإنسان خلاف ما أعتقده في الدنيا وصار هيئة في نفسه من مقتضيات فطرته فإن ظهور الباري بصفة القهر والملائكة بصفة التعذيب لا يكون إلا لمن اعتقد خلاف ما ظهر عليه بما هو في نفس الأمر كالمنكر والنكير {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة امرأته عن الجدوى بعدم وقوعه في أوانه وأنى خبر مقدم
430
للذكرى وله متعلق بما تعلق به الخبر أي ومن أين يكون له الذكرى وقد فات أوانها وقيل هناك محذوف واللام للنفع أي إني له منفعة الذكرى وبه يرتفع التناقض الواقع بين إثبات التذكر أو لا ونفيه ثانياً ثم إنه تعالى لما نفى كون هذه الذكرى والتوبة نافعة له بقوله وأنى له الذكرى علمنا إنه لا يجب قبول التوبة كما ذهب إليه المغتزلة وفي "الإرشاد" والاستدلال به على عدم وجواب قبول التوبة في دار التكليف يعني عقلاً كما تزعم المعتزلة مما لا وجه له على أن تذكره ليس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه قوله تعالى {يَقُولُ يا لَيْتَنِ} أيها الحاضرون {لَيْتَنِى} كاشكى من {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} وهو بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ عنه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول : يا ليتني عملت لأجل حياتي هذه يعني لتحصيل الحياة الأخروية التي هي حياة نافعة دائمة غير منقطعة أعمالاً صالحة انتفع بها اليوم أو وقت حياتي على أن اللام بمعنى في للتوقيت ويجوز أن يكون المعنى قدمت عملاً ينجيني من العذاب فأكون من الإحياء قال تعالى لا يموت فيها ولا يحيى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
واعلم أن أهل الحق لا يسلبون الاختيار بالكلية وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله كما يزعمه المعتزلة وإنما الذي يدل عليه ذلك اعتقاد كونه متمكناً من تقديم الأعمال الصالحة وإما إن ذلك بمحض قدرته أو بخلق الله عند صرف قدرته الكاسبة إليه فلا وإما ما قيل من أن المحجور قد يتمنى إن كان ممكناه منه وموفقاً له فربما يوهم إن من صرف قدرته إلى أحمد طرفي الفعل يعتقدانه محجور من الطرف الآخر وليس كذلك بل كل أحد جازم بأنه لو صرف قدرته إلى أي طرف كان من أفعاله الاختيارية لحصل وعلى هذا يدور فلك التكليف وإلزام الحجة {فَيَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال {لا يُعَذِّبُ عَذَابَه أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَه أَحَدٌ} الهاء راجع إلى الله تعالى والعذاب بمعنى التعذيب كالسلام بمعنى التسليم وكذا الوثاق بالفتح بمعنى الإيتاق وهو الشد بالوثاق وهو ما يشد به من الحديد والحبل والإيثاق بالفارسية بند كردن يعني بسلاسل واغلال واسير كرد دران.
(10/333)
والمعنى لا يتولى عذاب الله ووثاقه أحد سواه إذا لأمر كلهفلا يلزم أن يكون يوم القيامة معذب سوى الله لكنه لا يعذب أحد مثل عذابه وفي "عين المعاني" لا يعذب كعذاب الله في الآخرة أحد في الدنيا ويجوز أن يكون الهاء للإنسان أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه وقرأهما الكسائي ويعقوب على بناء المفعول وفي "الكشاف" هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعن أبي عمر وأنه رجع إليه في آخر عمره أي لا يعذب مثل عذاب الإنسان أحد وظاهره يقتضي أن يكون عذابه أشد من عذاب إبليس إلا أن يكون المراد أحد من هذا الجنس كعصاة المؤمنين نسأل الله السلامة والعافية في الدارين {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ} لما ذكر شقاوة النفس الأمارة شرع في بيان سعادة النفس المطمئنة والاطمئنان السكون بعد الانزعاج وسكون النفس إنما هو بالوصول إلى غاية الغايات في اليقين والمعرفة والشهود وفي قوله تعالى : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} تنبيه على إنه بمعرفته تعالى والإكثار من عبادته يكتسب اطمئنان النفس وإذا وصلت إلى مقام الاطمئنان بذكر الله صار صاحبها في مقام
431
التلوين في التميكن آمنا من الرجوع إلى الأحكام الطبيعية والآثار البشرية فإن الفاني لا يرد إلى أوصافه فمن كان متمكناً في مقام الترقي تخلص من التنزل إلى مقام النفس الأمارة.
وفي التعريفات النفس المطمئنة هي التي تنورت بنور القلب حتى تخلت عن صفاتها الذميمة وتحلت بالأخلاق الحميدة.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
وقال الكاشفي) : أي نفس آرام كرفته بذكر من كه شاكر بودي در نعمت وصبر نمود درحمنت.
والمعنى إن الله تعالى يقول بالذات للمؤمن إكراماً له كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام أو على لسان الملك وذلك عند تمام الحساب يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك} أي إلى ما وعد لك من الكرامة والزلفى فكونه تعالى منتهى الغاية إنما هو بهذا الاعتبار فسقط تمسك المجسمة واستدل بالرجوع الذي هو العود على تقدم الروح خلقاً {رَاضِيَةً} بما أوتيت من النعيم المقيم {مَّرْضِيَّةً} عند الله {فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى} في زمرة عبادي الصالحين المختصين بي {وَادْخُلِى جَنَّتِى} معهم كقوله تعالى : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} فالدخول في زمرة الخواص هي السعادة الروحانية والدخول معهم في الجنات ودرجاتها هي السعادة الجسمانية وقيل المراد بالنفس الروح والمعنى فادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها وادخلي دار ثواب وهذا يؤيد قول من قال إن الخطاب عند البعث وذهب بعضهم إلى أنه عند الموت كما روى أن أبا بكر رضي الله عنه سأل عن ذلك رسول الله فقال : إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر عند موتك وقال الحسن إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله ورضيت عن الله ورضى الله عنها وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا توفى العبد المؤمن أرسل الله ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة فيقال لها اخرجي أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه والملك على أرجاء السماء يقولون قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح ولا بملك الأصلي عليها حتى يؤتى بها إلى الرحمن أي إلى حضوره ومقام مخصوص من مقامات كراماته فتسجد ثم يقال لميكائيل اذهب بهذه فاجعلها مع النفس المؤمنين ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه وسبعون ذراعاً طوله وينبذ له فيه الريحان فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره وإن لم يكن جعل له نور مثل نور الشمس في قبره فيكون مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله وإذا توفى الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل إليه قطعة بجاد أنتن من كل منتن وأخشن من كل خشن فيقال : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى جهنم عذاب أليم ورب عليك غضبان وقال سعيد بن جبير رحمه الله مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم ير مثله على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها يا أيتها النفس المطمئنة ودل قوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها إن من النفوس الظبية من يتولى الله قبضها بنفسه فيا طوبى لها وقال بعض أهل الإشارة يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها وبسلوك سبيل الآخرة
432
فادخلي في عبادي الأخروية وادخلي جنتي الصورية والمعنوية.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
أي باز هوا كرفته باز آي ومرو
كز رشته توسرى در انكشت منست
(10/334)
وقال القاشاني : يا أيتها النفس المطمئنة التي نزلت عليها السكينة وتنورت بنور اليقين فاطمأنت إلى الله من الاضطراب ارجعي إلى ربك في حال الرضى أي إذا تم لك كمال الصفات فلا تسكني إليه وارجعي إلى الذات في حال الرضى الذي هو كمال مقام الصفات والرضى عن الله لا يكون إلا بعد رضى الله عنها كما قال رضي الله عنهم ورضوا عنه فادخلي في زمرة عبادي المخصوصين بي من أهل التوحيد الذاتي وادخلي جنتي المخصوصة بي أي جنة الذات.
وفي التأويلات النجمية : ارجعي إلى ربك بالفناء فيه بعد قطع المنازل والمقامات راضية من نتائج السلوك إلى الله والسير في الله مرضية عند الله بالبأسي خلعة البقاء عليها فادخلي في عبادي الباقين في وبصفاتي وادخلي جنة ذتي لفنائك عن ذاتك وأنانيتك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 420
تفسير سورة البلد
عشرون آية مكية أو مدنية إلا أربع آيات من أولها
جزء : 10 رقم الصفحة : 432
لا أقسم بهذا البلد} أي اقسم بالبلد الحرام الذي هو مكة فكلمة لا صلة دل عليه إن الله اقسم بالبلد الأمين في سورة التين وبالفارسية سوكند ميخورم.
بمكة وفي "كشف الأسرار" لا لتأكيد القسم كقول العرب لا والله ما فعلت كذا لا والله لأفعلن كذا والبلد المكان والمحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه وجمعه بلاد وبلدان ثم إن الله تعالى اقسم بمكة لفضلها فإنه جعلها حرماً آمناً ومسقط رأس النبي عليه السلام وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما السلام ، وجعل البيت قبلة لأهل الشرق والغرب وحج البيت كفارة لذنوب العمر وجعل البيت المعمور في السماء بإزائه {وَأَنتَ حِلُّا بِهَاذَا الْبَلَدِ} حال من المقسم به وأنت خطاب للنبي عليه السلام.
كفته اند در قرآن هار هزار نام وى برد وذكروى كرد بعضي بتعريض وبعضي بتصريح.
والحل بمعنى الحال من الحلول وهو النزول أي والحال إنك لا يا محمد حال في مكة نازل بها قيد أقسامه تعالى بمكة بحلوله عليه السلام فيها إظهاراً لمزيد فضلها فإنها بعد إن كانت شريفة بنفسها زاد شرفها بحلول النبي العظيم الشريف فيها فما لا شرف فيه يحصل له شرف بشرف المكين وما فيه شرف ذاتي يحصل له بشرف شرف زائد فمحل قدمي النبي عليه السلام كمكة والمدينة وغيرهما ينبغي أن يحافظ على حرمته وقد سمى عليه السلام المدينة طابة لأنها طابت به وبمكانه وفيه تعريض لأهل مكة بأنهم لجهلهم يرون أن يخرجوا منها من به مزيد شرفها ويؤذوه.
433
أي كعبه را زيمن قدوم توصد شرف
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
وى مرده را زمقدم اك توصد صفا
بطحا زنور طلعت تو يافته فروغ
يثرب زخاك تو با رونق و نوا
وفيه إشارة إلى بلد مكة الوجود الإنساني وإلى رسول القلب المستكن في الجانب الأيسر منه {وَوَالِدٍ} وزاينده عظف على هذا البلد والمراد به إبراهيم عليه السلام والتنكير للتفخيم {وَمَا وَلَدَ} وآنه زاده است.(10/335)
وهو إسماعيل عليه السلام فإنه ولد بلا واسطة ومحمد عليه السلام ، فإنه ولده بواسطة إسماعيل فتتضمن السورة القسم بالنبي عليه السلام في موضعين وإيثار ما على من لمعنى التعجب مما أعطاه الله من الكمال كما في قوله والله أعلم بما وضعت أي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن وهو مريم أو الوالد آدم عليه السلام ، وما ولد ذريته وهو الأنسب لمضمون الجواب فالتفخيم المستفاد من كلمة ما لا بد فيه من اعتبار التغليب أي فهو من باب وصف الكل بوصف البعض أو للتعجيب من لأمر الذي يشترك فيه الكل كالنطق والبيان والصورة البديعة وغيرها وقيل الوالد أعلمكم أمر دينكم ولقوله عليه السلام لعلي رضي الله عنه أنا وأنت أبوا هذه الأمة وإلى هذا أشار بقوله عليه السلام كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وهو سبب الدين ونسب التقوى وقد سمى الله النبي عليه السلام أبا للمؤمنين حيث قال النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وفي بعض القراآت وهو أب لهم فإن أمومية الأزواج المطهرة تقتضي أبوته عليه السلام إذ كل من كان سبباً لا يجاد شيء وإصلاحه أو ظهوره يسمى أبا وقد قال عليه السلام إنا من الله والمؤمنون من فيض نوري وصرح تعالى بفضيلة هذه الأمة حيث قال وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ولذا عظمهم بالإقسام بهم وفيه إشارة إلى إبراهيم الروح الوالد وإسماعيل السر المولود منه أو آدم الروح وإبرهيم السر أو إلى روح القدس الذي هو الأب القحيقي للنفوس الإنسانية كقول عيسى عليه السلام ، إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي وقوله تشبهوا بأبيكم السماوي فالمراد بما ولد هو النفس التي ولدها هو فكأنه قيل واقسم بروح القدس والنفس الناطقة {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ} جواب للقسم يقال كبد الرجل كبداً إذا وجعت كبده فانتفخت وأصله كبده إذا أصاب كبده كذكرته إذا قطعت ذكره ورأيته إذا قطعت رئته ثم اتسع فيه حتى استعمل في كل نصب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة بمعنى مقاساة الشدة وفي كبد حال من الإنسان بمعنى مكابداً وحرف في واللام متقاربان تقول إنما أنت للعناء والنصب وإنما أنت في العناء والنصب ووجه آخر ن أقوله في كبد يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف والمعنى لقد خلقنا الإنسان في تعب ومشقة فإنه مع كونه أضعف الخلق لا يزال يقاسى فنون الشدائد مبدأها ظلمة الرحم ومضيقة ومنتهاها الموت وما بعده فابن آدم يكابد من البلايا ما لا يكابده غيره يعني إن الكبد يتناول شدائد الدنيا من قطع سرته والتفافه بخرقة محبوس الأعضاء ومكابدة الختان وأواجاعه ومكابدة المعلم وصولته والاستاذ وهيبته ثم مكابد شغل التزوج وشغل الأولاد والخدم
434
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
وشغل المسكن ثم الكبر والهرم من جملة مصائب كثيرة لا يمكن تعدادها كالصداع ووجع الأضراس ورمد العين وهم الدين ونحو ذلك ويتناول أيضاً شدائد التكاليف كالشكر على السراء والصبر على الضراء والمكابدة في أداء العبادات كالصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ثم بعد ذلك يقاسي شدة الموت وسؤال الملك وظلمة القبر ثم البعث والعرض على الملك المحاسب إلى أن يصل إلى موضع الاستقرار إما في الجنة وإما في النار كما قال لتركبن طبقاً عن طبق قال الامام ليس في الدنيا لذة البتة بل ذلك الذي يظن إنه لذة فهو خلاص من الألم فاللذة عند الأكل هي الخلاص من ألم الجوع وعند اللبس هي الخلاص من ألم الحر والبلاد فليس للإنسان إلا ألم أو خلاص من ألم وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مما كان يكابده من كفار قريش وإشارة إلى أن الإنسان المقيد بقيد التعين الوجودي خلق في تعب التعين والتقييد وفيه حرمان من المطلق ونوره فإن المقيد بقيد التعين معذب بحرمان المطلق.
وقال القاشاني : لقد خلقنا الإنسان في مكابدة ومشقة من نفسه وهواه أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب إذا الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة فاسعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل {أَيَحْسَبُ} أيامي ندارد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
(10/336)
والضمير لبعض صناديد قريش الذين كان عليه السلام ، يكابد منهم أكثر مما يكابد من غيرهم كالوليد بن المغيرة وإضرابه {أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} إن مخففة من الثقيلة سادة مع اسمها مسد مفعولي الحسبان أي يحسب إن الأمر والشأن لن يقدر على انتقام منه أحد فحسبانه الناشيء عن غلظ الحجاب ومرض القلب فاسد لأن الله الأحد يقدر عليه وهو عزيز ذو انتقام {يَقُولُ} ذلك الظان على سبيل الرعونة والخيلاء {أَهْلَكْتُ} أنفقت كقول العرب خسرت عليه كذا إذا أنفق عليه {مَالا لُّبَدًا} أي كثيراً متلبداً من تلبد الشيء إذا اجتمع يريد كثرة ما أنفقه سمعة ومفاخرة وكان أهل الجاهلية يسمون مثل ذلك مكارم ويدعونه معالي ومفاخر وفي لفظ الإهلاك إشارة إلى أنه ضائع في الحقيقة إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة ما قالت عائشة رضي الله عنها في حق عبد الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه يا رسول الله فقال عليه السلام : لا ينفعه لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين {أَيَحْسَبُ} ذلك الأحمق المباهي {إِنَّ} أي إن الشأن {لَّمْ يَرَه أَحَدٌ} حين كان ينفق وإنه تعالى لا يسأله عنه ولا يجازيه عليه يعني إن الله رآه واطلع على خبث نيته وفساد سريرته وإنه مجازيه عليه فمثل ذلك الانفاق وهو ما كان بطريق المباهاة رذيلة فكيف يعده الجاهل فضيلة وفي الحديث لا تزول قدماً العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين كسبه وفيم أنفقه وعن عمله ماذا عمل وعن حبه أهل البيت {أَلَمْ نَجْعَل لَّه عَيْنَيْنِ} يبصر بهما عالم الملك من الأرض إلى السماء حتى يشاهد بهما في طرفة عين النجوم العلوية التي بينه وبينها عدة آلاف سنة ويفرق بهما بين ما يضر وما ينفع وبهما يحصل شرف النظر إلى وجه العالم وإلى المصحف وإلى الشواهد قال في أسئلة الحكم العين
435
نحرس ابدن من الآفات وهي نيرة كالمرءآة إذ قابلها شيء ارتسمت صورته فيها مع صغر الناظر وهو الحدقة التي هي شحمة وجعل الله اعين سريعة الحركة وجعل لها أجفاناً تسترها وأهداباً من الشعر كجناح الطائر تطرد بانضمامها وابنفتاحها الذباب والهوام عن العين وجل العين في الرأس لأن السراج يوضع على رأس المنار وجعلها ثنتين كالشمس والقمر فإنهما عينا التعين الدنيوي وجعل فوقهما حاجبين أسودين لئلا يتضرر البصر بالضياء ولأن الذي ينظر في السواد إلى البياض يكون أحد نظراً ولذلك جعلت الحدقة سوداء وإهداب العين شعراً أسود لأن السواد يقوي البصر ولما بنى ذو القرنين الاسكندرية رخمها بالرخام الأبض جدرها وأرضها فكان لباسهم فيها السواد من نصوع بياض الرخام فمن ذلك لبس الرهبان السواد فإن النظر إلى الأبيض يفرق البصر ويضعفه ولذا قال عليه السلام في الأثمد إنه يقوي البصر وجعل الحدقة محركة في مكانها لتتحرك إلى الجهات يمنة ويسرة فيبصر بها من غير أن يلوي عنقه وجعل النظارين جميعاً على خط مستقيم عرضاً ولم يقع واحد منهما أعلى وإلا اخفض ليجتمع الناظران على شيء واحد لئلا يترا أي له الشخص الواحد شخصين وفي العينين إشارة إلى العين الظاهرة والعين الباطنة فينبغي أن يحافظ على كلتيهما فإن نظر عينين أتم من نظر عين واحدة و
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
(10/337)
{لِّسَانًا} يترجم به عن ضمائره وبه تنعقد المعاملات وتحصل الشهادات ويدرك الطعوم من الحلو والمر ولو يكن اللسان لاحتاج الإنسان إلى الإشارة أو الكتابة فتعسر أمره وإنما تعدد العين والأذن وتفرد اللسان لأن حاجة الإنسان إلى السمع والبصر أكثر من حاجته إلى الكلام وفيه تنبيه أيضاً على أن يقل من الكلام إلا في الخير وإن لا يتكلم فيما لا فائدة فيه وهو السر في أن الله تعالى جعل اللسان داخل الفم وجعل دونه الشفتين اللتين لا يمكن الكلام إلا بفتحهما ليستعين العبد بإطباق شفتيه على رد الكلام وقد حكه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنه كان يجعل في فمه حجر ليمتنع من الكلام فيما لا يعنيه وفيه إشارة إلى لسان القلب فإنه يتكلم به بالمفاوضة القلبية وقد أبطله كما أبطل العين الباطنة وأفسد استعداد التكلم الباطني القلبي {وَشَفَتَيْنِ} يستر بهما فاه إذا أراد السكوت ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ قال السجاوندي خص الشفة لروج أكثر الحروف منها وفي الدعاء الحمد الذي جعلنا ننط بلحم ونبصر بشحم ونسمع بعظم قال بعضهم أسبل الصانع الحكيم أمام الفم ستراً من الشفة ذا طرفين يضمهما عند الحاجة ويمتص بهما المشروب وجعل الشارب محيطاً من العليا ليمنع ما على وجه الشراب من القش والقذى أن يدخل حالة الشرب وفي الحديث إن الله يقول ابن آدم إن نازعك لسان فيما حرمت عليك فقد اعنتك بطبقتين فأطبق وإن نازعك بصرك إلى بعض م حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق وفي الخبر الفرج أمانة والأذن أمانة واليد أمانة والرجل أمانة والإيمان لمن لا أمانة له أورا كوبند ما دوديده بتوسرديم اك تو بنظر هاي نا ك ملطخ كردمى تا آثار تقديس ازوى برخاست وخبيث شدا كنون ميخواهى كه ديدار مقدس ما بنظرخ ويش بيني هيهات ما اكيم
436
وا كانوا اك شايد الطيبت للطيبين دو سمع داديم تراتا ازان دو خانه سازى ودرهاى آثار وحي در وتعبيه كنى ومر وزباز سارى توا نرا محال دروغ شنيدن ساختي وهكذر أصوات خبيثه كردى ونداء ما اكست جز سمع اك نشنود امروز بكدام كوش حديث ما خواهى شنيد زباني داديم تراتا بامار ازكويى در خلوت وقرآن خواتي در عبادت وصدق دروى فرواري وبادوستان ما سخن كويى توخود زبا نرا بساط غيبت ساختي وروز نامه جدل وديوان خصومت كردى تواموز بكدام زبان حديث ما خواهى كرد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
زبان آمد از بهر شكر وساس
بغيبت نكرد اندش حق شناس
كذركاه قرآن وبندست كوش
به بهتان وباطل سنيدن مكوش
دو شم ازى صنع بارى نكوست
زعيب برادر فروكير ودوست
وفيه إشارة إلى شفتي لسان القلب ولسان الرأس {وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ} معطوف على ألم نجعل لأن في التقدير مثبت أي جعلنا له ذلك وهديناه طريقي الخير والشر كما قال عليه السلام هما النجدان نجد الخير ونجد الشر فلا يكن نجد لشر أحب إليكم من نجد الخير أو طريقي الثديين لأنهما طريقان مرتفعان لنزول اللبن سببن لحياة المولود وتمكين مولود عاجز من رضاع أمه عقيب الولادة قدرة عليه ونعمه جلية.
نه طفل زبان بسته بودى زلاف
همى روزى آمد بجوفت زناف
و نافش بريدند وروزى كسست
به ستان مادر در آويخت دست
وأصل النجد المكان المرتفع جعل الخير بمنزلة مكان مرتفع بخلاف الشر فإنه يستلزم الانحطاط عن ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فكان استعمال النجدين بطريق التغليب أو لأن فعل الشر بالنسبة إلى قوته في الواهمة مصور بصورة المكان المرتفع ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله وقال ابن الشيخ لما وضحت الدلالة الدالة على الخير والشر صارتا كالطريقين المرتفعين بسبب كونهما واضحين للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار وفيه إشارة إلى نجد الروح ونجد القلب فأبطلهما بغلبة النفس على الروح وغلبة الهوى على القلب {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} الاقتحام الدخول في أمر شديد ومجاوزته بصعوبة وفي "القاموس" قحم في الأمر كنصر قحو مارمى بنفسه فيه فجأة بلا روية والعقبة الطريق الوعر في الجبل فلم يشكر تلك النعم الجليلة بالأعمال الصالحة وعبر عنها بالعقبة لصعوبة سلوكها {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي أي شيء أعلمك يا محمد ما اقتحام العقبة فإن المراد ليس العقبة الصورية واقتحامها {فَكُّ رَقَبَةٍ} الفك الفرق بين الشيئين بإزالة أحدهما عن الآخر كفك القيد والغل وفك الرقبة الفرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية والرقبة اسم العضو المخصوص ثم يعبر بها عن الجملة وجعل في التعارف أسماء للمماليك كما عبر بالرأس وبالظهر عن المركوب فقيل فلان يربط كذا رأساً وكذا ظهرا والمعنى هو أي اقتحام العقبة اعتاق رقبة فالفك ليس تفسيراً
437
(10/338)
لنفس العقبة بل لاقتحامها بتقدير المضاف وذلك لأن العقبة عين والفك فعل فلا يكون تفسيراً للآخر ثم فك الرقبة قد يكون بأن ينفرد الرجل في عتق الرقبة وقد يكون بأن يعطي مكاتبه ما يصرفه إلى جهة فكاك رقبته وبأن يعين في تخليص نفس من قود أو غرم فهذا كله يعم الفك دون الاعتاق ويحتمل أن يكون المراد بفك الرقبة أن يفك المرء رقبة نفسه من عذاب بأن يشتغل بالأعمال الصالحة حتى يصير بها إلى الجنة ويتخلص من النار وهي الحرية الوسطى وإن يفك رقبة القلب من أسر انفس وقيد لهوى وتعلق السوى وهي الحرية الكبرى فيكون قوله أو إطعام الخ من قبيل التخصيص بعد التعميم إشارة إلى مزيد فضل ذلك الخاص بحيث خرج به من أن يتناول اللفظ السابق مع عمومه وقال بعضهم تقدم العتق على الصدقة يدل على أنه أفضل منها كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله وفي الحديث من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار.
قال الراغب : فك الإنسان غيره من العذاب إنما يحصل بعد فك نفسه منه فإن من لم يهتد ليس في قوته إن يهدي وفك الرقبة من قبيل فك النفس لأنه من الأعمال الصالحة التي لها مدخل عظيم في فكها
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
{أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} أي مجاعة لقحط أو غلاء من سغب إذا جاع قال الراغب السغب الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب فمسغبه مصدر ميمي وكذا مربة ومتربة قيد الإطعام بيوم المجاعة لأن إخراج المال في ذلك الوقت أثقل على النفس وأوجب للأجر {يَتِيمًا} مفعول إطعام {ذَا مَقْرَبَةٍ} أي قرابة من قرب في النسب قرباً ومقربة وقال السجاوندي قرب قرابه لأ جوار انتهى قيد اليتيم بأن يكون بينه وبين المطعم قرابة نسبية لأنه اجتمع فيه جهتا الاستحقاق اليتم والقرابة فإطعامه أفضل لاشتماله على الصدقة وصلة الرحم {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي افتقار من ترب بالكسر ترباً بفتحتين ومتربا إذا افتقر كأنه لصق بلتراب من فقره وضره فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه ويفرشه وإما قولهم أترب فمعناه صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قبل أثري وعن النبي عليه السلام ، في قوله ذا مترتبة الذي مأواه المزابل وقال ابن عباس رضي الله عنهما البعيد التربة يعني الغريب.
(كما قال الكاشفي) : واين نين كس عيال مند بود يا وام دار يابيمار بي خواستار يا غريبي دور ازديار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
وفي الحديث الساعي على الأرملة والمسكين كالساعي في سبيل الله وكالقائم لا يفتر والصائم لا يفطر يقول الفقير خص الفك والإطعام لصعوبة العمل بهما وجعل الإطعام لليتيم والمسكين لما إن ذلك يثقل على النفس فقد ينفق المرء الوفا في هواه كإطعام أهل الهوى وبناء الأبنية الزائدة ونحو ذلك ولا يستكثرها وإما الفقير واليتيم فلا يراهما بصره لهوانهما عنده وعلى تقدير الرؤية فيصعب عليه إعطاء درهم أو درهمين إو إطعام لقمة أو لقمتين واحتج الشافعي رحمه الله ، بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئاً وإلا لكال تقييده بقوله ذا متربة تكرارا وهو غير جائز وفيه بحث لجواز أن يكون ذا متربة صفة كاشفة للمسكين وتكون الفائدة في التوصيف بها التصريح بجهة الاحتياج ليتضح إن إطعام الأحوج أفضل والتكرير الذي لا يجوز هو التكرير الخالي عن
438
(10/339)
الفائدة وما نحن فيه ليس من هذا القبيل وفيه إشارة إلى يتيم القلب المغلوب في يد النفس والهوى ومسكين السر المذلل تحت قهر النفس وعزتها وفي "الإرشاد" وحيث كان المراد باقتحام العقبة هذه الأمور حسن دخول لا على الماضي ولسي بشرط إذ قد يكون بمعنى لم فكأنه قيل فلم يقتحم العقبة {ثُمَّ كَانَ} س باشد اين آزاد كننده وطعام دهنده {مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} عطف على المنى بلا وثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان عن العتق والصدقة ورفعة محله لاشتراط جميع الأعمال الصالحة به وإلا فهو في المان مقدم على الطاعات والمعنى إن الإنفاق على هذا الوجه هو الاتفاق المرضى النافع عند الله لا إن يهلك ما لا لبدا في الرياء والفخار فيكون مثله كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قم وفي ذكر العقبة إشارة إلى أن عقبة الآخرة لا يجوزها إلا من كان محقاً قال المحاسبي : تلك عقبة لا يجوزها إلا من خمص بطنه عن الحرام والشبهات وتناول مقدار بقاء المهجة وقال القاسم القعبة نفسك ألا ترى إلى قوله فك رقبة فإنه أن تعتق نفسك من رق الخلق وتشغلها بعبودية ربك {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله وعن المعاصي وفي المصائب {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} مصدر بمعنى الرحمة أي أوصى بعضهم بعضاً بالرحمة على عاد الله أو بموجبات رحمته تعالى من الخيرات على حذف المضاف أو ذكر المسبب وإرادة السبب تنبيهاً على كماله في السببية والرحمة بهذا المعنى أعم من الرحمة بالمعنى الأول وهي الشفقة لمن يستحقها من اعباد يتيماً أو فقيراً أو نحو ذلك وفي الحديث لا يرحم الله من لا يرحم الناس فقوله وتواصوا بالصبر إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وتواصوا بالمرحمة إشارة إلى الشفقة على خلق الله وإلى التكميل بعد الكمال فإن الإيمان كمال في نفسه وكذا الصبر والمرحمة وغيرهما من الأعمال الصالحة والتواصي من باب تكميل الغير قال بعضهم : الإطعام خصوصاً وقت شدة الحاة أفضل أنواع العفة والإيمان أجل أنواع الحكمة وهو الإيمان العلمي اليقيني وجاء فيه بلفظ ثم لبعد رتبته عن الفضيلة الأولى في الارتفاع والعلو لكونه الأساس والصبر على الشدائد من أعظم أنواع شجاعة وأخره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين والتراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
{أولئك} الموصووفن بالنعوت الجليلة المذكورة وفي اسم الإشارة دلة على حضورهم عند الله في مقام كرامته وعلو رتبتهم وبعد درجتهم {الْمَيْمَنَةِ مَآ} أي اليمين وهم الذين يعطون كتهم بإيمانهم ويسلك بهم من طريق اليمين إلى الجنة أو أصحاب اليمن والخير والسعادة لأن الصلحاء ميامين على أنفسهم بطاعتهم وعلى غيرهم أيضاً أو أصحاب اليد اليمنى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآياتنا} بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن {هُمْ} في ضمير الغالب دلالة على سقوطهم عن شرف الحضور وإنهم أحقاء بالإخفاء {وَأَصْحَابُ الْمَشْاَمَةِ} أي الشمال وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ومن وراء ظهورهم وسلك بهم شمالاً إلى النار أو أصحاب السؤم والشر والشقاوة لأن الفساق مشائيم على أنفسهم بمعصيتهم وعى غيرهم أيضاً ويجب التوسل بالصلحاء والاجتناب عن الفسقاء أو أصحاب اليد اليسرى {عَلَيْهِمْ}
439
خبر مقدم لقوله نار مؤصدة أي نار أبوابها مغلقة فلا يفتح لهم باب فلا يخرج منا غم ولا يدخل فيها روح أبد الآباد إلا أنها جعلت صفة للنار إشعاراً بإحاطتهم فاصل التركيب مؤصدة الأبواب فلما تركت الإضافة عاد التنوين إليها لأنهما يتعاقبان من أو صدت الباب من المعتل الفاء وآصدته بالمد من المهموز مثل آمن إذا أظطبقته وأغلته واحكمته فمن قرأها مؤصدة بالهمزة جعلها اسم مفعول من آصدت ومن لم يهمزها أخذها من أو صدت مثل أو عد فيه موعد وذلك موعد ويحتمل أن يكون من آصد مثل آمن لكنه قلبت همزته الساكنة واو الضمة ما قبلها للتخفيف وكان أبو بكر بن عباس راوي عاصم يكره الهمزة في هذا الحرف ويقول لنا إمام يهمز مؤصدة فاشتهى أن أسد أذنى إذا سمعته وكأنه لم يحفظه عن شيخه إلا بترك الهمزة وقد حفظه حفص بالهمزة وهو أضبط لحرف من أبي بكر على ما نقله القراء وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن وأوثق عند أهل الحديث وفيه إشارة إلى إن نار الحجاب والخذلان والخسران مؤصدة على نفس الأمارة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 433
تفسير سورة الشمس
خمس عشرة أو ست عشرة آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 439
{وَالشَّمْسِ} سوكند ميخوم بآفتاب {وَضُحَااهَا} أي ضوئها إذا طلعت وقام سلطانها وانبسط نورها يعنيسوكند بتايش وى ون بلند كردد وبموضع اشت رسد.(10/340)
يقال وقت الضحى أي وقت إشراق الضو فالضحى والضحوة مشتقان من الضح وهو نور الشمس المنبسط على وجه الأرض المضاد للظل وفيه إشارة إلى الأقسام بشمس الروح وضوئها المنتشر في البدن الساطع على النفس {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَـاـاهَا} من التلو بمعنى التبع أي إذا تبعها بأن طلع بعد عروبها آخذاً من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر قال الراغب تلاه تبعه متابعة ليس بسنهما ما ليس منهما وذلك يكون تارة بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلو وتلو وتارة بالقرآن وتدبر المعنى ومصدره تلاوة ثم قال قوله والقمر إذا تلاها فإنما يراد به ههنا الاتباع على سبيل الاقتداء والمرتبة وذلك إنه فيما قبل أن القمر يقبتس النور من الشمس وهو لها بمنزلة الخليفة قيل وعلى هذا قوله وجعل الشمس ضياء والقمر نوراً والضياء على مرتبة من النور إذ كل ضياء نور دون العكس وفيه اشارة إل قمر القلب إذا تلا الروح في التنور بها وإقباله نحوها واستضاءته بنورها ولم يتبع النفس فيخسف بظلمتها قال شيخي وسندي روح الله روحه في كتاب اللائحات البرقيات له إن الشمس آية للحقيقة الإلهية الكمالية الأكملية
440
وإشارة إليها والقمر آية للحقيقة الإنسانية الكمالية الأكملية وإشارة إليها فكما إن القمر منذ خلقه الله إلى يوم القيامة كان مجلى ومظهر التجلي نور الشمس وظهروه في الليل حتى يهتدى به أرباب الليل في الظلمات الليلية في سبرهم وسلوكهم في طرق مقاصدهم فكذلك الحقيقة الإنسانية الكمالية الأكملية منذ خلقها الله إلى أبد الآبدين كانت مجلى ومظهراً لتجلى نور الحقيقة الإلهية الكمالية الأكملية وظهوره في الكون حتى يهتدى به أرباب الكون في ظلمات الكون عند سلوكهم وسيرهم في العوالم والأطوار الكونية نزولاً عند السير إلى عالم الإمكان وعروجا عند السلوك إلى عالم الوجوب فكما أن القمر يفنى من نوره ونفسه بالتمام في نور الشمس ونفسها بحيث لا يبقى أثر من وره ونفسه عند المقارنة والمواصلة الحاصلة بينهما بالتوجه الشمسي القابض والإقبال الجاذب عليه ويبقى مع نوره ونفسه أي جرمه بالكمال وبنور الشمس ونفسها بحيث لا يفنى شيء من نوره ونفسه عند المقابلة والمفارقة الكاملة الحاصلة بينهما بالإرسال إلى نفسه والبسط إلى نوره مراراً وكراراً دائماً وباقياً إلى يوم القيامة فكذلك الحقيقة الإنسانية الكمالية الأكملية تفنى من نورها وتعينها في نور الحقيقة الإلهية الكمالية الأكملية وتعينها بالتمام بحيث لا يبقى لها أثر ما أصلاً عند الوصلة الإلهية الحاصلة في مرتبة الذات الأحدية الجمعية المطلقة بالقبض والجذب من نورها وتعينها إلى نورها وتعينها الأزلي الأبدي السرمدي وتبقى مع نورها وتعينها بنورها بحيث لا يفنى منها أثر أصلاً عند الفرقة الكونية الحاصلة في مرتبة المظهرية الكثرتية الفرقية المقيدة بالبسط والإرسال إلى نورها وتعينها مراراً وكراراً أبداً سرمداً وعند تجلي النور الشمسي والإلهي وظهوره في القمر والإنسان الكامل تدريجاً إلى حد الكمال يكمل بقاؤهما وعند استتاره واختفائه عنهما تدريجاً أيضاً إلى حد التمام يتم فناؤهما وفناؤهما على هذا الوجه من قبض جلال احق سبحانه وبقاؤهما على ذلك النمط من سط جماله تعالى ولله يقبض ويبسط دائماً من مرتبة كماله الذاتي بيدي جلال كماله وجماله بل يداه مبسوطتان كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً انتهى.
كلامه قدس الله سره فإن قلت إذا ههنا لسيت بشرطية لعدم جوابها لفظاً أو تقديراً حتى يعمل فيها فتكون ظرفاً مطلقاً فلا بد لها من عامل وهو في المشهور اقسم المقدر وهو إنشاء فيكون للحال وإذا للاستقبال ولا اجتماع بينهما فلا تكون ظرفاً ووقتاً له قلت إذا في أمثال هذا المقام للتعليل أي اقسم بالقمر اعتباراً يتلوها وبالنهار اعتباراً بتجليته الشمس وبالليل اعتباراً بغشيانه إياها كما تقول أشهدك على هذا حيث كنت صالحاً متديناً أي لأجل ذلك كذا في بعض التفاسير وقال في "القاموس" إذا تجبىء للحال وذلك بعض القسم مثل والليل إذا يغشى والنجم إذا هوى انتهى فيكن بمعنى حين فاعرف
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
{وَالنَّهَارِ} هو نور الشمس الذي ينسخ ظل الأرض بمحو ظلمة الليل {إِذَا جَلَّـاـاهَا} أي جلى الشمس يعني هويد اكرد.
فإنها تتجلى عند انبساط النهار واستيفائه تمام الانجلاء فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه يعني لما كان انتشار الأثر وهو زمان ارتفاع النهار زماناً لانجلاء الشمس وكان الجلاء واقعاً فيه أسند فعل التجلية إليه إسناداً مجازياً مثل نهاره صائم أو جلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها وفيه إشارة إلى نهار استيلاء نور الروح وقيام سلطانها واستواء نورها إذا جلاها وأبرزها في غاية الظهور كالنهار عند الاستواء في تجلية الشمس {وَالَّيْلِ} هو ظل اللأرض الحائلة بين الشمس وبين ما وقع عليه ظلمة
441
(10/341)
الليل {إِذَا يَغْشَـاـاهَا} أي الشمس فيغطي ضوءها فتغيب وتظلم الآفاق ولما كان احتجاب الشمس بحيلولة الأرض بيننا وبينها واقعاً في الليل صار الليل كأنه حجبها وغطاها فأسند التغطية وتغشية إلى الليل لذلك أو إذا يغشى الآفاق والأرض ولعل اختيار صيغة المضارع هنا على المضي للدلالة على إنه لا يجري عليه تعالى زمان فالمستقبل عند كالماضي مع مراعاة الفواصل ولم يجيء غشاها من التغشية لأنه يتعدى إلى المفعولين وحيث كانت الواوات العاطفة نواب الواو الأولى القسمية القائمة مقام الفعل والباء سادة مسدهما معاً في قولك اقسم بالله حق أن يعملن عمل الفعل والجار جميعاً كما تقول ضرب زيد عمراً وبكر خالداً فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما فندفع ما يورد ههنا من أن تلك الواوات إن كانت عاطفة يلزم العطف على معمولي عاملين مختلفين وإن كانت قسمية يلزم تعداد القسم مع وحدة الجواب وحاصل الدفع اختيار الشق الأول ومنع لزوم المحذور وفيه إشارة إلى ليل النفس عند غشيانه بظلمتها شمس نهار الروح وهو أيضاً آية من آياته الكبرى لأن الليل مظهر الاسم المضل فيجوز القسم به كما جاز القسم بالنهار نظراً إلى أنه مظهر الاسم الهادي {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} أي ومن بناها على غاية العظم ونهاية العلو وهو الله تعالى وإيثار ما على من لإرادة الوصفية تعجباً لأن ما يسأل بها عن صفة من يعقل كأنه قيل والقادر العظيم الشان الذي بناها وكذا الكلام في قوله {وَالارْضِ وَمَا طَحَـاـاهَا}
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
أي ومن بسطها من كل جانب على الماء كي يعيش أهلها فيها والطحو كالدحو بمعنى البسط وإبدال الطاء من الدال جائز وأفراد بعض المخلوقات بالذكر وعطف الخالق عليه والأقسام بهما ليس لاستوائهما في استحقاق التعظيم بل النكتة في الترتيب أن يتبين وجود صانع العالم وكمال قدرته ويظفر العقل بإدراك جلال الله وعظمة شأنه حسبما أمكن فإنه تعالى لما أقسم بالشمس التي هي أعظم المحسوسات شرفاً ونفعاً ووصفها بأوصافها الأربعة وهي ضوؤها وكونها متبوعة للقمر ومتجلية عند ارتفاع النهار ومختفية متغطية بالليل ثم اقسم بالسماء التي هي مسير الشمس وأعظم منها فقد نبه على عظمة شأنهما لما تبين إن الأقسام بالشيء تعظيم له ومن المعلوم هما لحركتهما الوضعية وتغير أحوالهما من الأجسام الممكنة المحتاجة إلى صانع مدبر كامل القدرة بالغ الحكمة فتوسل العقل بمعرفة أحوالهما وأوصافهما إلى كبرياء صانعهما فكان الترتيب المذكور كالطريق إى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية وبيداء كبريائه الصمدية وفيه إشارة إلى سماء الأرواح وأرض الأجساد {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا} أي ومن أنشأها وأبدعها مستعدة لكملاتها والتنكير للتفخيم على أن المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير وهو الأنسب للجواب وذكر في تعرف ذات الله تعالى السماء والأرض ولنفس لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو إما علوي بسيط كالسماء وأما سفلى بسيط كالأرض وإما مركب وهو أقسام أشرفها ذوات الأنفس وقد استدل بعطف ما بعدها على ما قبلها على عدم جواز تقدير المضاف فيه مثل ورب الشمس وكذا
442
(10/342)
في غيره إذا المقدر في المعطوف عليه يقدر في المعطوف فيكون التقدير ورب ما بناها ورب ما طحاها ورب ما سواها وبطلانه ظاهر فإن الظاهر أن تكون في مواضعها موصولة فاعرف وسيجيء شرح انفس وتسويتها عند أهل التأويل إن شاء الله تعالى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} الفاء إن كانت لسببية التسوية فالأمر ظاهر وإن كانت لتقبها فلعل المراد منها إتمام ما يتوقف عليه الإلهام من القوى الظاهرة والباطنة والإلهام القاء الشيء في الروع إما من جهة الله أو من جهة الملاء الأعلى وأصل إيهام الشيء ابتلاعه والفجور شق ستر الديانة قدم على التقوى لمراعاة الفواصل أو لشدة الاهتمام بنفيه لأنه إذا انتفى الفجرو وجدت التقوى فقدم ما هم بشأنه أعني والمعنى أفهم النفس إياهما وعرفها حالهما من الحسن والقبح وما يؤدي إليه كل منهما ومكنها من اختيار أيهما شاءت قال بعض الكبار الإلهام لا يكون إلا في الخير فلا يقال في الشر الهمني الله كذا وإما قوله تعالى فألمهما فجورها وتقواها فالمراد فجورها لتجتنبه لا لتعمل به وتقواها لتعمل به إذ لسي في كلام الله تناقض أبداً وقال بعضهم : لا يخفى إن محل الإلهام هو النفس قال تعالى : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا} لتعلمه ولا تعمل به وتقواها لتعلمه وتعمل به فهو في قسم الفجور إلهام إعلام لا إلهام عمل إن الله لا يأمر بالفحشاء وكما لا يأمر بالفحشاء لا يلهم بها فإنه لوالهم بها ما قامت الحجةعلى العبد فهذه الآية مثل قوله وهديناه النجدين أي بينا له الطريقين وقال بعضهم لم ينسب سبحانه إلى النفس خاطر المباح ولا إلهامه فيها وسبب ذلك إن المباح لها ذاتي فبنفس ما خلق عينها ظهر المباح فهو من صفاتها النفسية التي لا تعقل النفس إلا بها فخاطر المباح نعت خاص كالضحك للإنسان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
وفي التأويلات النجمية : تدل الآية على كون النفوس كلها حقيقة واحدة تحدة تختلف باختلاف توارد الأحوال والأسماء فإن حقيقة النفس المطلقة من غير اعتبار حكم معها إذا توجهت إلى الله توجهاً كلياً سميت مطمئنة وإذا توجهت إلى الطبيعة توجهاً كلياً سميت أمارة وإذا توجهت تارة إلى الحق بالتقوى وتارة أخرى إلى الطبيعة البشرية بالفجور سميت لوامة انتهى.
وفي الخبر الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، سأل رجل من جهينة أو مزينة رسول الله ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم أم شيء يستقبلونه فقال عليه السلام : بل قضى عليهم قال فيم العمل إذا يا رسول الله فقال عليه السلام من كان خلقه الله لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها ثم تلا الآية وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله عليه السلام ، ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم أم شي يستقبلونه فقال عليه السلام : بل قضى عليهم قال ففيم العمل إذا يا رسول الله فقال عليه السلام من كان خلقه الله لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها ثم تلا الآية وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله عليه السلام يقول عند الآية اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها قد أفلح من زكاها} جواب القسم وحذف اللام لطول الكلام وقال الزجاج طول الكلام صار عوضاً عن اللام وإنما تركه الكشاف وغيره لأنه يوجب الحذف والحذف لا يجب مع الطول ولم يجعل كذبت جواباً لأن أقسام الله إنما يؤكد به الوعد أو الظفر وإدراك البغية وهو دنيوي كالظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا من الغنى والعز
443
والبقاء مع الصحة ونحوها وأخروي وهو بقاء فلا فناء وغنى بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذلك قيل لا عيش إلا عيش الآخرة وأصل الزكاة الزيادة والنمو ومنه زكا الزرع إذا حصل فيه نمو كثير وبركة ومنه تزكية القاضي الشاهد لأنه يرفع قدره بالتعديل ومنه الزكاة لما يخرج الإنسان من حق الله إلى الفقراء لما فيها من رجاء البركة أو لتزكية النفس أي تميها بالخيرات والبكرات أولهما جميعاً فإن الخيرين موجودان فيها والمعنى قد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى النفس وأعلاها بالتقوى أي رفعها وأظهرها وشهرها بها فأهل الصلاح يظهرون أنفسهم ويشهرونها بما سطع من أنوار تقواهم إلى الملاء الأعلى وبملازمتهم مواضع الطاعات ومحافل الخيرات بخلاف أهل افسق فإنهم يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية لا يلوح عليهم سيما سعادة يشتهرون به بين عباد الله المقربين وأصل هذا إن أجواد العرب كانوا ينزلون في أرفع المواضع ويوقدون النار للطارقين لتكون أشهر واللئام ينزلون الأطراف والهضاب لتخفى أماكنهم عن الطالبين فأخفوا أنفسهم فالبار أيضاً أظهر نفسه بأعمال البر والفاجر دسها وتستعمل التزكية بمعنى التطهير أيضاً كما قال في "القاموس" الزكاة صفوة الشيء وما أخرجته من مالك لتطهره به فالمعنى قد أفلح من طهر نفسه من المخالفات الشرعية عقداً وخلقاً وعملاً وقولاً فقد أقسم تعالى بسبعة أشياء على فلاح من زكى نفسه ترغيباً في تزكيتها.
(10/343)
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
وابن عباس رضي الله عنهما ، روايت كرده كه حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم نزديك تلاوت اين آيت فرمودى كه تزكيه أنفس موجب تزكيه دل است هركاه كه نفس از شوب هوا مزكى شود في الحال دل ازلوث تعلق بما سوى مصفى كردد.
تا نفس مبراز مناهى لشود
دل آيينه نور الهي نشود
وكون أفعال العبد بتقدير الله تعالى وخلقه لا ينافي إسناد الفعل إلى العبد فإنه يقال ضرب زيد ولا يقال ضربا الله مع أن الضرب بخلقه وتقديره وذلك لأن وضع الفعل بالنسبة إلى الكاسب.
قال الراغب : وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة وفي الآخرة الأجر والمثوبة وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره وذلك ينسب تارة إلى العبد لاكتسابه ذلك بحر قد أفلح من زكاها ونارة إلى الله لكونه فاعلاً لذلك في الحقيقة نحو بل الله يزكى من يشاء وتارة إلى الشيء لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وتارة إلى العبادة التي هي آلة في ذلك نحو وحناناً من لدنا وزكاء انتهى {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} في "القاموس" خاب يخب خيبة حرم وخسر وكفر ولم ينل ما طلب وأصل دسى دسس كتقضى البازي وتقضض من التدسيس وهو الإخفاء مبالغة الدس واجتماع الأمثال لما أوجب الثقل قلبت السين الأخيرة ياء وقال الراغب : الدس إدخال الشيء في الشيء بضرب من الإكراه ودساها أي دسسها في المعاصي انتهى والمعنى قد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور وبإرسالها في المشتهيات الطبيعية وقال شيخي وسندي قدس سره في قوله تعالى [الشمس : 7-11]{وَنَفْسٍ} .
.
الخ المراد بالنفس هنا الذات والحقيقة الجمعية
444
الإنسانية الكمالية المخلوقة على الصورة الإلهية الجمعية الكمالية لتكون مرءآة لها كما ورد خلق الله آدم على صورته ويقال لها النفس الناطقة المدبرة للبدن وما سواها أي خلقها مستوية قابلة لتكون مجلى لتجليات تعينات الكمال والجلال والجمال ومتوسطة ممكنة لتكون مظهراً الظهورات الذات والصفات والأفعال ومعتدلة صالحة لتكون مشهداً لمشاهدات آثار الأسماء والمراتب والأحوال وبهذه القابلية الجامعة بين القبضتين الجمال والجلال كانت أتم كل موجود فألهمها أي أفاض عليها بوساطة سادة الجلال فجورها أي آثار الجلال المندرج في جميعة حقيقتها البرزخية وأحكامه وأحواله من العقائد والعلوم والأعمال والمذاهب وغير ذلك مما تفجر وتميل فيه من الحق إلى الباطل فتجازي بالخسران وتقواها وأفاض عليها بوساطة خادم الجمال أي آثار الجمال وأموره وأحكامه من كلمة التوحيد العلمي الرسمي المنا في للشرك والكفر والهوى الجلى وسائر الفساد في تبة الشريعة والطريقة ومن كلمة التوحيد العيني الحقيقي المزيل للشرك والكفر والهوى الخفي وباقي الكساد في مرتبة المعرفة والحقيقة ومن غيرهما من لطائف العلوم والمعارف ومحاسن الأعمال والأحوال ومكارم الأخلاق والصفات قد أفلح أي دخل في الفلاح في جميع المراتب صورة وحقيقة من زكاها من طهرها من رذائل آثار الجلال في جميع الأطوار وقد خاب أي حرم من الفلاح من دساها أي أخفى فيها الآثار الجلالية والصفات النفسانية وكتم فيها العيوب والقبائح الشيطانية والأهواء والشهوات البهيمية والأعمال النفسانية وكتم فيها العيوب والقبائح الشيطانية والأهواء والشهوات البهيمية والأعمال والأخلاق الرديئة ولم يعالجها بأضدادها بل أهملها عن التربية في مرتبة الشريعة بالتقوى والصلاح وعن التزكية في مرتبة الطريقة بالمجاهدة والإصلاح وساعدها في هواها وشهواتها في النيات والمقصود والأعمال والأقوال وصارت حركاتها وسكناتها جميعاً بالأهواء انتهى.
باختصار فإن كلامه رحمه الله في هذه الآية يبلغ إلى نصف جزء بل أكثر كذبت ثمود} المراد القبيلة ولذا قال وهو استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى : [الشمس : 12]{وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} فإن الطغيان أعظم أنواع التدسية والطغوى بالفتح مصدر بمعنى الطغيان إلا أنه لما كان أشبه برؤوس الآيات اختير على لفظ الطغيان وإن كان الغطاين أشهر وفي الكشف الطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واواً في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا امرأة خزياً وصدياً من الخزى بالفتح والقصر بمعنى الاستحياء ومن الصدى بمعنى العطش والباء للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول ظلمني بجراءته عى الله فالفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول وهو المشهور أو كذبت ثمود نبيها صالحا عليه السلام فحذف المفعول للعلم به وفيه إشارة إلى أن الصيان إذا اشتد بلغ الكفر ويجوز أن تكون الباء صلة للتكذيب أي كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى والتجاوز عن الحد وهو الصيحة كقوله تعالى : فاهلكوا بالطاغية أي بصيحة ذات طغيان إذ انبعث أشقاها}
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
(10/344)
منصوب بكذبت أو بالطغوى أي حين قام أشقى ثمود وهو قدار بن سالف امتثالا لأمر من بعثه إليه فإن انبعث مطاوع لبعث يقال بعثت فلاناً على أمر فانبعث له
445
وامتثل قال في "كشف الأسرار" الانبعاث الإسراع في الطاعة للباعث أو حين قام قدار ومن تصدى معه لعقر الناقة من الأشقياء فإن أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث ويدل على الأول قوله تعالى في سورة القمر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فإنه يدل على أن المباشر واحد معين وفضل شقاوتهم على من عداهم مباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضى به {فَقَالَ لَهُمْ} أي لثمود {رَسُولُ اللَّهِ} لما علم ما عزموا عليه وهو صالح عليه السلام ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن عوص بن أرم فالإضافة للعهد عبر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجواب طاعته وبياناًلغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان {نَاقَةَ اللَّهِ} منصوب على التحذير وإن لم يكن من الصور التي يجب فيها حذف العامل والناقة بالفارسية اشتر ماده أضيفت إليه تعالى للشريف كبيت الله أي ذروا ناقة الله الدالة على وحدانيته وكمال قدرته وعلى نبوتي واحذروا عقرها {وَسُقْيَاهَا} يعني شربها وهو نصيبها من الماء ولا تطردوها عنه في نوبتها فإنها كان لها شرب يوم معلوم ولهم ولمواشيهم شرب يوم آخر وكانوا يستضرون بذلك في مواشيهم فهموا بعقرها {فَكَذَّبُوهُ} أي رسول الله في وعيده بقوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب {فَعَقَرُوهَا} أي الأشقى والجمع على تقدير وحدته لرضى الكل بفعله قال السهيلي العاقر قدار بن سالف وأمه قديرة وصاحبه الذي شاركه في عقر الناقة اسمه مصدع بن وهراوا بن جهم والعقر النحر وقدم التكذيب على العقر لأنه كان سبب العقر وفي الحديث قال عليه السلام لعلي يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله رسوله أعلم قال عاقر الناقة قال أتدري من أشقى الآخرين قال الله ورسوله أعلم قال قتلك وذلك الناقة إشارة إلى ناقة الروح فكما أن عقرها بالظلمة النفسانية والشهوات الحيوانية من مزيد شقاوة النفس فكذا قتل علي رضي الله عنه فإنه كان مظهراً لروحانية نبينا عليه السلام ولذا كان وارثه الأكبر في مقام الحقيقة فالقصد إلى علي الولي رضي الله عنه قصد إلى محمد النبي عليه السلام ولا شقاوة فوق الشقاوة من قابل مظهر الرحمة الكلية بالغضب وانتقام {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم} فأطبق عليم العذاب وهو الصيحة الهائلة وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة إذا طلبت بالشحم وأحيطت بحيث لم يبق منها شيء لم يمسه الشحم ودم الشيء سده بالقير ودممت على القبر وغيره إذا أطبقت عليه ثم كررت الدال للمبالغة في الإحاطة فالدمدمة من الدمدم كالكبكة من الكب قال في "كشف الأسرار" تقول العرب دممت على فلان ثم تقول من المبالغة دممت بالتشديد ثم تقول من تشديد المبالغة دمددمت والتركيب يدل على غشيان الشيء الشيء {بِذَنابِهِمْ} أي بسب ذنبهم المحكى والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب {فَسَوَّااهَا} أي الدمدمة والإهلاك بينهم لم يفلت منهم أحد من صغير وكبير أو فسوى ثمود بالأرض.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
روى) أنهم لما رأوا علامات العذاب طلبوا صالحاً عليه السلام أن يقتلوه فأنجاه الله كما قال في سورة هود فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} الواو للاستئناف أو للحال من المنوى في فسواها الراجع إلى الله تعالى أي فسواها الله غير خائف عاقبة الدمدمة
446
وتبعتها أو عاقبة هلاك ثمود كما يخاف سائر المعاقبين من الملوك والولاة فيترحم بعض الترحم وذلك أن الله تعالى لا يفعل إلا بحق وكل من فعل بحق فإنه لا يخاف عاقبة ولا يبالي بعاقبة ما صنع وإن كان من شأنه الخوف وقال بعضهم : ولا يخاف هواي قدار ولا هم ما يعقب عقرها ويتبعه وما يترتب عليه من أنواع البلاء والمصيبة والعقاب مع أن صالحاً عليه السلام قد أخبرهم بها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 440
سورة الليل
إحدى وعشرون آية مكية وقيل فيها مكي ومدني
جزء : 10 رقم الصفحة : 446
{وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إذا للحال لكونها بعد القسم كما مر في السورة السابقة أي اقسم بالليل حين يغشى الشمس ويغطيها ويسترها كقوله والليل إذا يغشاها فعدم ذكر المفعول للعلم به أو النهار أو كل ما يواريه بظلامه فعدم ذكر المفعول للتعميم والليل عند أهل النجوم ما بين غروب الشمس وطلوعها وعند أهل الشرع ما بين غروبها وطلوع الفجر الصادق لعله المراد هنا والنهار ما يقابله.(10/345)
(وفي كشف الأسرار) الله تعالى شب رامرتبتي وشرفي دادكه آنرا درقرآن مجيذ محل قسم خود كردنيد واين شرف ازان يافت كه شب درآيد دوستان خداتنها در مناجات شوند همه شب شراب صفامي نوشند وخلعت رضا مي وشند وعتاب محبوب مي نيوشند وون وقت سحر باشدكه فرمان رسد تادرهاي اين قبه يروزه باز كشايند ودامنهاى سراد قات عرش مجيد براندازند ومقربان حضرت بامر حق خاموش شوند آنكه جبار كائنات در علو وكبرياي خود خطاب كندكه إلا قد خلال كل حبيب بحبيبه فأين أحبائي يعني هر دوستى بادوست خود در خلوت وشادي آمدند دوستان من كجا اند.
الليل داج والعصاة نيام
والعابدون لذي الجلال قيام
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ظهر بزوال ظلمة الليل أي إن كان المغشى غير الشمس أو تبين وتكشف بطلوع الشمس أي كان المغشى الشمس واختلاف الفاصلتين بالمضي والاستقبال لما ذكرنا في السورة السابقة وفيه إشارة إلى القسم بليل غيب الهوية المطلقة إذا يغشى نهار التعينات الاعتبارية على أهل الذوق والشهود وبنور نهار الوجودات المقيدة إذا تجلى بسبب التعينات العقلية بالنسبة إلى أهل الحجاب والاحتجاب.
وقال القاشاني : اقسم بليل ظلمة النفس إذا ستر نور الروح إذا تجلى وظهر من اجتماعهما وجود القلب الذي هو عرش الرحمن فإن القلب يظهر باجتماع هذين له وجه إلى الروح يسمى الفؤاد يتلقى به المعارف والحقائق ووجه إلى النفس يسمى الصدر يحفظ به السرائر ويتمثل فيه المعاني {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى} ما عبارة عن صفة العالم كمافي وما بناها وإنها لتوغلها في لإبهام أفادت أن الوصف الذي استعملت هي فيه بالغ إلى أقصى درجات القوة والكمال بحيث كان مما لا يكتنه كنهه وإنه لا سبيل للعقل إلى إدركه بخصوصه وإنما الممكن هو إدراكه بأمر عام صادق واللامان للحقيقة ويجوز
447
أن يكونا للاستغراق أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد فخرج مثل البغل والبغلة وقيل إن الله لم يخلق خلقاً من ذوي الأرواح ليس بذكر ولا أنثى والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة فلو حلف بالطلاق إنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى وقد لقى خشى مشكلاً كان حانثاً لأنه في الحقيقة أما ذكر أو أنثى وإن كان مشكلاً عندنا كما في "الكشاف" وقيل إنهما آدم وحواء عليهم السلام على أن اللام للعهد قال تعالى : يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وعن ابن مسعود رضي الله عنه إنه كان يقرأ والذكر والأنثى قال علقمة قدمنا الشأم فأتانا أبو الدرداء رضي الله عنه فقال : أفيكم من يقرأ قراءة عبد الله بن مسعود فأشاروا إلي ، فقلت : نعم أنا ، فقال : كيف يقرأ هذه الآية ، قلت : سمعته يقرأ والذكر والأنثى قال وأنا هكذا والله سمعت رسول الله عليه السلام يقرأها وهؤلاء يريدونني على أن رأها وما خلق فلا أتابعهم وفيه إشارة إلى الذكر الذي هو الروح والأنثى التي هي النفس وقد ولد القلب من ازدواجهما وعند بعض العارفين الليل ذكر والنهار أنثى كما سبق في النازعات إن سعيكم لشتى} جواب القسم والمصدر بمعنى الجمع لما عرف أن المصدر المضاف من صيغ العموم ولذلك أخبر عنه بالجمع وشتى جمع شتيت كمرضى ومريض وهو المفترق المتشتت والمعنى أن مساعيكم أي أعمالكم المختلفة حسب اختلاف الاستعدادات الأزلية فبعضها حسن نافع خير صالح وبعضها قبح ضار شر فاسد وفي الحديث الناس عاديان فمبتاع نفسه فمعتقها أو بائع نفسه فموبقها.
قال القاشاني : إن سعيكم اشتات مختلفة لانجذاب بعضكم إلى جانب الروح والتوجه إلى الخير لغلبة النورية وميل بعضكم إى جانب النفس والانهماك في الشر لغلبة لظلمة ، وقال بعضهم : باطن هذه الآية أن يرى سعيه قسمة من الحق له من قبل التكوين والتخليق لقوله تعالى : [الزخرف : 32-5]{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} وإن السعي له مراتب كمراتب المتصلين بالسلطان من الندماء والجلساء وأصحاب الأسرار فسعى بالنفوس لطلب الدرجات وبالعقول لطلب الكرامات وبالقلوب لطلب المشاهدات وبالأرواح لطلب المداناة وبالأسرار لفنائها في أنوار الذات وبقائها في أنوار الصفات وسعى بالإرادة وبالمحبة وبالشوق وبالعشق وبالمعرفة إلى غير ذلك فأما}
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
(10/346)
تفصيل لتلك السماعي المتشتتة وتبين لأحكامهما {مَنْ أَعْطَى} حقوق ماله {وَاتَّقَى} محارم الله التي نهى عنها ومن جملتها المن والأذى {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو بالكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد أو بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام أو المثوبة الحسنى وهي الجنة {فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى} معنى التيسير التهيئة لا ما يقابل التعسير ومنه قوله كل ميسر لما خلق له فلا حاجة إلى أن يقال استعمل التيسير في العسرى على المشاكلة كما في قوله تعالى : {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ} أو على حسب قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها واليسرى تأنيث الأيسر والمعنى فسنهيئه ونوفقه للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه وبالفارسية س زود باشدكه آساني دهيم ويرا براي طريقت نيكوكه سبب آسابي راحت باشد يعني عملي كه اورا به بهشت رساند.
فوصف الخصلة
448
باليسرى مجاز باعتبار كونها مؤدية إلى اليسرى وفيه إشارة إلى أن من طهر نفسه بالطاعة بالإقبال على الله والإعراض عن الدنيا واتقى في عين تلك الطاعة عن نسبتها إلى نفسه وصدق في باطنه بالكلمة الحسنى فسنيسره للخصلة اليسرى وهي الوصول إلى حضرتنا العليا وسراد قاتنا الكبرى وإما من بخل} أي بماله فلم يبذله في سبيل الخير والبخل إمساك المقتنيات عما لا يحق حبسها عنه ويقابله الجود {وَاسْتَغْنَى} زهد فيما عنده تعالى أي لم يرغب كأنه مستغن عنه فلم يتق أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة فلم يتق فيكون الاستغناء مستتبعاً لعدم الاتقاء الذي هو مقابل الاتقاء في الآية الأولى وبه يحصل التقابل بينهما {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي ما ذكر من المعانى المتلازمة {فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى} أي فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومقدماته لاختياره لها وبالفارسية س مهيا كردانيم مرورا براي صفتي كه مؤدي بدشوارى ومحنت بود يعني كردارى كه اورا بدوزخ برد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
ولعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلا مهما أدنى رتبة مما بعدهما في استتباع التيسير لليسرى والتيسر للعسرى للإيذان بأن كلا منهما أصيل فيما ذكر لا تتمة لما بعدما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء والظاهر أن السين للدلالة على الجزاء الموعود بمقابلة الطاعة والمعصية وهو يكون في الآخرة التي هي أمر متراخ منتظر فأدخلت السين وهي حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر كذا في بعض التفاسير وفيه إشارة إلى أن من بخل في نفسه بالطاعة والعبادة الروحية والسرية والقلبية واستغنى عن زقبال علينا وكذب بالحسنى التي أعطنياها إياه من سلامة الأعضاء والجوارح والجاه والمال فسنيسره للعسرى وهي البعد عنا الطرد واللعن ودخول نار الحجاب {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ} أي شيئاً من العذاب فالمفعول محذوف أو أي شيء يغني عنه ماله الذي يبخل به أي لا يغنى شيئاً فما مفعول يغنى والاستفهام للإنكار {إِذَا تَرَدَّى} أي هلك ومات تفعل من الردى للمبالغة والردى كالعصا وهو الهلاك.
قال الراغب : الردى الهلاك والتردى التعرض للهلاك انتهى.
أو تردى وسقط في الحفرة إذا قبر أو تردى في قعر جهنم فالمال الذي ينتفع به الإنسان في الآخرة وقت حاجته هو الذي أعطى حقوقه وقدمه دون الذي بخل به وتركه لوارثه وفيه إشارة إلى أنه إذا تردى وتصدى لمخالفتنا وموافقته الطبيعة البشرية أي شيء له يخلصه من غضبنا وقهرنا عند نجلينا له بصورة القهر والنقمة {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبنى على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه حيث بينا حال من سلك كلا الطريقين ترغيباً وترهيباً ومن هنا تبين أن الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البغية لا الدلالة الموصلة إليها قطعاً وإن المراد بالوجوب المفهوم من على الوجوب بموجب القضاء ومقتضى الحكمة فلا تكون الآية بظاهرها دليلاً على وجوب الأصلح عليه تعالى كما يزعم المعتزلة.
قال القاشني : إن علينا للهدى بالإرشاد إلينا بنور العقل والحس والجمع بين الأدلة العقلية
449
والسمعية والتمكين على الاستدلال والاستبصار {وَإِنَّ لَنَا لَلاخِرَةَ وَالاولَى} أي التصرف الكلى فيهما كيفما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما وعدنا من التيسير لليسرى والتيسير للعسرى {فَأَنذَرْتُكُمْ} خوفتكم بالقرآن وبالفارسية س بيم كنم شمارا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 447(10/347)
أي ي أهل مكة {نَارًا} از آتشى كه {تَلَظَّى} زبانه زند وهو بحذف إحدى التاءين من تتلظى أي تتلهب فإن النار مؤنث وصفت به ولو كان ماضياً لقيل تلظت مع أن المراد بوصفها دوام التلظى بالفعل الاستمراري وفي بعض التفاسير المراد من أنذرتكم إنشاء الإنذار كقولهم بعت واشتريت أو أخبار يراد به الإنذار السابق في مثل قوله تعالى في سورة المدثر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر فإنها لأل سورة نزلت عند الأكثرين وهذا أشد تخويفا من أن يقال خافوا واتقوا ناراً تلظى {لا يَصْلَااهَآ} صليا لازماً ولا يقاسي حرها {إِلا الاشْقَى} الزائد في الشقاوة وهو الكافر فإنه أشقى من الفاسق وفي "كشف الأسرار" يعني الشقي والعرب تسمى الفاعل أفعل في كثير من كلامهم منه قوله تعالى : [آل عمران : 139-16]{وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} وقوله واتبعك الأرذلون انتهى فالفاسق لا يصلاها صليا لازماً ولا يدخلها دخولاً أبدياً وقد صرح به قوله تعالى الذي كذب وتولى} أي كذب بالحق واعرض عن الطاعة وليس هذا إلا الكافر {وَسَيُجَنَّبُهَا} أي سيبعد عنها بحيث لا يسمع حسيسها والفاعل المجنب المبعد هو الله وبالفارسية وزود بودكه دور كرده شودازان آتش {الاتْقَى} المبالغ في الاتقاء عن الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها فضلاً عن دخولها أو صليها الأبدي وإما من دونه ممن يتقى الكفر دون المعاصي وهو المؤمن الشقي الفاسق الغير التائب فلا يبعد عنها هذا التبعيد بل يصلاها وإن لم يذف شدة حرها كما ذاق الكافر لكونه في الطبقة الفوقانية من طبقات النار فذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور فلا يقدح في الحصر السابق وفي "كشف الأسرار" ألا تقى بمعنى التقى كالأشقى بمعنى الشقي قال الشاعر :
تمنى رجال إن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
كتاب تفسير روح البيان المجلد الثالث من ص450 حتى ص461 رقم46
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
أي بواحد انتهى {الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ} يعطيه ويصرفه في وجوه البر والحسنات {يَتَزَكَّى} أما بدل من يؤتى داخل في حكم الصلة لا محل له أو في حيز النصب على إنه حال من ضمير يؤتى أي يطلب أ يكون عند الله زاكياً نامياً لا يريد به رياء ولا سمعة أو متزكيا متطهراً من الذنوب ومن دنس البخل ووسخ الإمساك {وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} استئناف مقرر لكون إيتائه للتزكى خالصاً لوجه الله أي ليس لأحد عنده نعمة ومنة من شأنها أن تجزى وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتى مجازاتها {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى} استثناء منقطع من نعمة لأن ابتغاء وجه ربه ليس من جنس نعمة تجزى فالمعنى لكن فعل ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى أي لابتغاء ذاته وطلب رضه فهو في الحقيقة مفعول له وما أتى من المال مكاأة على نعمة سالفة فذلك يجري مجرى أداء الدين فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب وإنما يستحق الثواب إذا كان فعله لأجل إن الله أمره به وحثه
450
عليه ومعنى الأعلى العلى الرفيع فوق خلقه بالقهر والغلبة كما قاله أبو الليث.
وقال القاشاني : وصف الوجه الذي هو الذات الموجودة مع جميع الصفات بالأعلى لأن تعالى بحسب كل اسم وجهاً يتجلى به لمن يدعوه بلسان حاله بذلك الاسم ويعبده باستعداده والوجه الأعلى هو الذي له بحسب اسمه الأعلى الشامل لجميع الأسماء وإن جعلته وصفاً لرب فالرب هو ذلك الاسم انتهى.
والآية نزلت في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حين اشترى بلالاً رضي الله عنه في جماعة كعامر بن فهيرة وأخيه وعبيد وزنيرة كسكينة وهي مملوكة رومية وابنتها أم عميس وأمة بني المؤمل والنهدية ابنتها وكانت زنيرة ضيفة البصر فقال المشركون اذهب اللات والعزى بصرها لما خالفت دينهما فرد الله بصرها بعد ذلك وكان المشركون يؤذون هؤلاء المذكورين ليرتدوا عن الإسلام فاشتراهم أبو بكر فأعتقهم ولذلك قالوا المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف.
در كشف الأسرار آورده كه اين سوره درباده دوكس است يكى اتقى كه يشرو صديقا نست يعني أبو بكر رضي الله عنه ، ويكى اشقى كه يشرو زند يقانست زاهل ضلالت يعني أبو جهل ودر فاتحه اين سوره كه بشب وروز قسم ياد ميكند اشارتست بظلمت يكى ونورانيت ديكر يعني درشب ضلالت كسى را آن كمرهى نبودكه أبو جهل شقى را ودر روز دعوت هيكس را ان نور هدايت ظاهر نشدكه أبو بكر تقى را.
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
سر روشند لان صديق أعظم
كه شد أقليم تصديقش مسلم
زمهرش روز دين را روشنايى
بدو أهل يقين را آشنايى
آورده اندكه أمية بن خلف بلال راكه بنده أبو بود بأنواع آزارها عذاب ميكرد تا ز دين بركردد وهر زمان آتش محبت رباني در باطن أو أفروخته تربود.
آنجاكه منتهاي كمال ارادتست
هرند جور يش محبت زيادتست(10/348)
روز صديق ديدكه أميه ويرا برخاك كرم افكنده بود وسنكهاي تفسيده بر سينه وى نهاده واودرين حال أحد أحد ميكفت يعني يقول أمية لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وهو يقول أحد أحد.
أبو بكر را دل برو بسوخت وكفت اي أميه وأي برتو اين دوست خدايرا ند عذاب كنى كفت أي أبا بكر اكردلت برو ميسوزد از منش بخر.
وفي رواية مر النبي عليه اسلام ببلال بن رباح الحبشي وهو يقول أحد فقال عليه السلام : أحد يعني الله الأحد ينجيك ثم قال لأبي بكر رضي الله عنه إن بلالاً يعذب في الله فعرف مراده عليه السلام ، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف فقال له أتبيعني بلالاً قال : نعم فاشتراه وأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده فنزلت وقال ابن مسعود رضي الله عنه وقد اشتراه ببرد وعشر أواق جمع أوقية وهي أربعون درهماً وكان مدفوناً تحت الحجارة فقالوا لو أبيت إلا أوقية لبعناك فقال ولو أنتم أتيتم إلا بمائة أوقية لاشتريته بها وقيل كان عبداً لعبد الله بن جدعان سلح على أصنام قوم أي
451
تغوط فشكوا إليه فوهبه لهم مع مائة من الإبل قرباناً لها فعذبوه في الرمضاء أشد العذاب وفي رواية ابن المسيب بل ابتاعه من أمية بغلام له اسمه نسطاس بكسر النون صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وهو مشرك بعد ما حمله أبو بكر على السلام على أن يكون ماله له.
(كما قال الكاشفي) : صديق رضي الله عنه كفت يا أمية بند ميفروشى كفت عوض ميكننم آنرا به نسطاس رومي وآن غلامي بودازان صديق رضي الله عنه در هزار دينار استعداد داشت وصديق رضي الله عنه اوراكفته بودكه اكر ايمان آرى آن مال كه داري بتو بخشم نسطاس مسلمان نمى شد ودل مبارك صديق رضي الله عنه أز وملول بود ون اين كلمه از أميه شنيده غنيمت شمرده نسطاس را باتمام استعداد بداد وبلال را بستد وفي الحال بميد نواب أخروي آزادكرد وفي الحديث يرحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً من ماله وكان عمير بن الخطاب رضي الله عنه يقول بلال سيدنا ومولى سيدنا وهو نظير قوله عليه السلام سلمان منا أهل البيت فانظر إلى شرف التقوى كيف أدخل الموالي في الأشراف ولا تغتر بالنسب المجرد فإنه خارج عن حد الإنصاف وقال السهيلي رحمه الله قال لأبي بكر رضي الله عنه أبوه لو اشتريت من له نجدة وقوة فيتعصب لك وينفعك كان أجدى من ابتياع الضعفة وأعتقاهم فأنزل الله هذه الآية وفهم مما ذكر أن أعلى الإعطاء فضيلة ما يكون لرضى الله وأوسطه ما يكون لعوض أخروي وأدناه ما يكون لغرض دنيوي مباح وأما ما يكون للرياء والسمعة أو لغير ذلك مما ليس بمباح فهو أخس وأقبح وقوله عليه السلام : من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له يدل لعى أن المكافأة مشروعة ممدوحة لكنها ليست بدرجة ابتغاء المرضاة {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى ذلك إلا تقى الموصوف بما ذكر وبالفارسية وزود باشدكه خشنود كردد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضى.
قال بعضهم : أي يرضى الله عنه ويرضى هو بما يعطيه الله في الآخرة من الجنة والكرامة والزلفى جزاء ما فعل ولم ينزل هذا الوعد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى ولأبي بكر رضي الله عنه ههنا قال البقلي هذا الرضى لا يكون من المعارف حتى يفنى في المعروف ويتصف بصفاته حتى يكون نعته في الرضى نعت الحق سبحانه وتعالى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضى.
قال بعضهم : أي يرضى الله عنه ويرضى هو بما يعطيه الله في الآخرة من الجنة والكرامة والزلفى جزاء ما فعل ولم ينزل هذا الوعد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله ولسوف يعطيك ربك فترضى ولأبي بكر رضي الله عنه ههنا قال البقلي هذا الرضى لا يكون من المعارف حتى يفنى في المعروف ويتصف بصفاته حتى يكون نعته في الرضى نعت الحق سبحانه وتعالى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 447
تفسير سورة الضحى
إحدى عشرة آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 451
{وَالضُّحَى} هو وقت ارتفاع الشمس وصدر النهار أريد بلضحى الوقت المذكور على المجاز بعلاقة الحلول والظرفية فإن الزمان ظرف لما فيه أو على تقدير المضاف وذلك التجوز أو الحذف ليناسب الليل قالوا تخصيصه بالأقسام به لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وألقى فيها السحرة سجداً لقوله تعالى : [الضحى : 2]{وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} فكا نله بذلك شرف
452(10/349)
ومناسبة بحال المقسم لأجله وصلاة الضحى سنة بالاتفاق ووقتها إذا علت الشمس إلى قبيل وقت الزوال وهي عند أبي حنيفة ركعتان أو أربع بتسليمة وعند ملك لا تنحصر وعند الشافعي وأحمد أقلها ركعتان واختلف في أكثرها فقال الشافعي ثنتا عشرة وقال أحمد ثمان وهو الذي عليه الأكثرون من أصحاب الشافعي وصححه النووي في التحقيق وقد صح إن النبي عليه اسلام صلى صلاة الضحى يوم فتح مكة ثماني ركعات وهو في بيت أم هانىء وكان يصلي صلاة الضحى قبل ذلك أيضاف والليل} أي وجنس الليل قال ابن خالويه هو نسق على الضحى لا قسم لأنه يصلح أن يقع في موضع الواو ثم أو الفاء بأن يقال ثم الليل مثلاً وثم لا يكون قسماً {إِذَا سَجَى} أي سكن أهله على المجاز من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه أو ركد ظلامه واستقر وتناهى فلا يزداد بعد ذلك يعني أن سكون ظلامه عبارة عن عدم تغيره بالاشتداد والتنزل وذلك حين اشتد ظلامه وكمل فيصتقر زماناً ثم يشرع في التنزل فإسناد سكون الظلمة الكائنة إليه مجاز أيضاً يقال سجا البحر سجوا إذا سكنت أمواجه وليلة ساجية ساكنة الريح وقيل معناه سكون الناس والأصوات وعن جعفر الصادق رضيعنه أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله فيه موسى وبالليل ليلة المعراج.
وصاحب كشف الأسرار كفته مراد از روز وشب كشف وحجا بست كه نشانه نسيم لطف وسموم قهر بود وعلامه أنوار جمال وإاثر جلال.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
كما قال الجنيد قدس سره والضحى مقام الشهود والليل إذا سجا مقام الغبن الذي قال عليه السلام فيه إنه ليغان على قلبي.
يا اشارتست بروشنى وروى حضرت مصطفى عليه السلام وكنايتست از سباهى موى وى.
والضحى رمزي زروي همو ماه مصطفى
معنى والليل كيسوى سيه مصطفى
وتقديم الليل في السورة المتقدمة باعتبار الأصل لأن النهار إنما يحدث بطلوع النير وبغروبه يعود الهواء إلى حالته الأصلية ولذا قدم الظلمة في قوله وجعل الظلمات والنور وتقديم النهار باعتبار الشرف الذاتي والعارضي فإن قيل ما السبب فإنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار وذكر الليل بكليته أجيب بأنه وإن كان ساعة من النهار لكنه يوازي جميع الليل كما إن محمداً عليه السلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وبأن النهار وقت السرور والراحة والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى هموم الدنيا أكثر من سرورها فإن الضحى ساعة والليل له ساعات.
(روى) إن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يساره ونادت ماذا أمطر فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بضاء ونادت ما أمطر فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السب ترى الغموم والأحزان دائمة كثيرة والسرور قليلاً ونادراً {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} جواب القسم والتوديع مبالغة في الوداع وهو الترك لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والودع هو الإعلام
453
بالفراق.
وقال الراغب أصل التوديع من الدعة وهو أن يدعو للمسافر بأن يتحمل الله عنه كآية السفر وإن يبلغه الدعة والخفض كما أن التسليم دعاء له بالسلامة فصار ذلك متعارفاً في تشييع المسافر وتركه وعبر به عن الترك في الآية والمعنى ما قطعك قطع المودع وما تركك بالحط عن درجة الوحي والقرب والكرامة فيه استعارة تبعية وإشارة إلى أن الرب لا يترك المربوب {وَمَا قَلَى} أي وما أبغضك والأبغاض دشمن داشتن.
والقرى شدة البغض يقال فلا زيداً يقلوه أبغضه من القلو وهو الرمي كما يقال قلت الناقة براكبها رمت به فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله وقلاه وقليه يقليه ويقلاه أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض كما في "القاموس" فمن جعله من اليائي فمن قليت البسر والسويق على المقلى كما في "المفردات" ولعل عطف وما قلى من عطف السبب على المسبب لإفادة التعليل وحذفت الكاف من قلاك لدلالة الكلام عليه ولمراعاة الفواصل.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
(10/350)
روى) إن الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضعة عشر يوماً لتركه الاستثناء وذلك إن مشركي قريش أرسلوا إلى يهود المدينة وسألوهم عن أمر محمد عليه السلام ، فقالت لهم اليهود سلوه عن أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن قصة أهل الكهف وقصة ذي القرتين ولم يخبرك عن أمر الروح فاعلموا إنه صادق فجاءه المشركون وسألوه عنها.
فقال عليه السلام : لهم ارجعوا سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أياماً فقال المشركون إن محمداً ودعه ربه وقلاه أو أن جبريل أبطأ فشكا عليه السلام ذلك إلى خديجة فقالت خديجة لعل ربك قد قلاك فنزل جبريل بقوله تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} فأخبره بما سئل عنه وقد سبق في سورة الكهف ونزل أيضاً بقوله تعالى : ما دعك ربك وما قلى رداً على المشركين وتبشيراً له عليه السلام بأن الحبيب لا يقلى الحبيب وإنه تعالى يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا مع أن ما سيؤتيه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك كما تنبىء عنه الآية الآتية.
(وروى) إن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي فقال لخادمته خولة يا خولة ما حدث في بيتي إن جبريل لا يأتيني قالت خولة فكنست البيت فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جروميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله ترتدع لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة فقال يا خولة دثريني فأنزل الله هذه السورة فلما نزل جبريل سأله النبي عليه اسلام عن سبب تأخيره فقال أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة وقيل غير ذلك وفيه إشارة إلى أنه عليه السلام وقع منه ما هو ترك الأولى ولذا لم يكن ممقوتاً ولا مبغوضاً وإنما احتبس عنه الوحي للتربية والإرشاد.
وفي التأويلات النجمية : ما ودعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظهرك وما قلى بقطع فيض الولاية عن باطنك وللآخرة خير لك من الأولى} لما إنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق والأولى أي الدنيا لأنها خلقت قبل الآخرة فانية مشوبة بالمار فالمراد بالآخرة والأولى كراماتهما واللام في وللآخرة لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة.
وفي التأويلات النجمية : يعني أحوال
454
نهايتك أفضل وأكمل من أفعال بدايتك كما أخبر بقوله : [المائدة : 3-5]{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية ، لأنه لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطرقة في جو سماء السير ويترقى في مقامات القرب والكرامة وهكذا حال ورثته ولسوف يعطيك ربك} اللام للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك ربك لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة الاسمية وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة وجمعها مع سوف للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تراخى لحكمة يعني إن لام الابتداء لما تجردت للدلالة على التأكيد وكانت السين تدل على التأخير والتنفيس حصل من اجتماعهما إن العطاء المتأخر لحكمة كائن لا محالة وكانت اللام لتأكيد الحكم المقترن بالاستقبال {فَتَرْضَى} ما تعطاه مما يطمئن به قلبك يعني شندان عطار أرزاني داردكه توكويى بس ومن راضي شدم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
وهو نسق على ما قبله بالفاء والآية عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وأعلاء الدين بالفتوحات الواقعة في عصره عليه السلام وفي خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى وقد أنبأ عنسمة منها قوله عليه اسلام لي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابها السك.
ودر هر كوشكى ازخدم ونعم وأمتعه وآنه لايق آن بود.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل على فاطمة رضي الله عنها وعليها كساء من وبر الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عيناه لما أبصرها فقال : يا بنتاه تعجل مرارة الدنيا الحلاوة الآخرة فقد أنزل الله ولسوف يعطيك ربك فترضى.
أمام محمد باقر رضي الله عنه در كوفه مي فرموده كه أهل عراق شما ميكوبيدكه اميد وارترين آيتي ازقرآن اينست كه لا تقنطوا من رحمه الله وما أهل البيت برآنيم كه اميد درآيت ولسوف يعطيك ربك فترضى بيشترست يعني ارجي آية عند أهل البيت هذه الآية ه رسول الله صلى الله عليه وسلّم راضي نشودكه يكى ازامت وى دردوزخ باشد.
نماند بدوزخ كسى دركرو
كه دارد و توسيدي يشرو
عطاي شفاعت نانش دهند
كه امت تمامي زدوزخ رهند
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
(10/351)
وفي الحديث أشفع لأمتي حتى ينادي لي أرضيت يا محمد فأقول رب قد رضيت وقال الفهري : ومما يرضيه فيه بعد إخراج كل مؤمن إن لا يسوءه في أمه وأبيه وإن منع الاستغفار لهما وأذن له في زيارة قبرهما في وقت دون وقت لأنهما من أهل الفترة وقال سبحانه : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} ومن لم يقنعه هذا فحط المؤمن منهما الوقف فيهما وإن لا يحكم عليهما بنار إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة بخلاف ما ثبت في عمه أبي طالب انتهى.
كلامه في التفسير المسمى بفتح الرحم وقال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أقمت بمدينة قرطبة بمشهد فأراني الله أعيان رسله من لدن آدم إلى نبينا عليه وعليهم السلام فخاطبني منهم هود عليه السلام
455
وأخبرني بسبب جمعيته وهو أنهم اجتمعوا شفعاء للحلاج إلى نبينا محمد عليه السلام ، وذلك إنه كان قد أساء الأدب بأن قال في حياته الدنيوية إن رسول الله همته دون منصبه قيل له ولم ذلك قال لأن الله تعالى قال ولسوف يعيك ربك فترضى فكان من حقه إن لا يرضى إلا أن يقبل الله شفاعته في كل كافر ونؤمن لكنه ما قال إلا شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فلما صدر منه هذا القول جاءه رسول الله في واقعته وقال له يا منصور أنت الذي أنكرت على في الشفاعة فقال يا رسول الله قد كان ذلك قال ألم تسمع إني قد حكيت عن ربي عز وجل إذا أحببت عبداً كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً فقال : بلى يا رسول الله قال : فإذا كنت حبيب الله كان هو لساني القائل فإذا هو الشافع والمشفوع إليه وأنا عدم في وجوده فأي عتاب علي يا منصور ، فقال يا رسول الله أنا تائبم ن قولي هذا فما كفارة ذنبي قال : قرب نفسك ا قرباناً قال فكيف قال اقتل نفسك بسيف شريعتي فكان من أمره ما كان ثم قال هود عليه السلام وهو من حيث فارق الدنيا محجوب عن رسول الله والآن هذه الجمعية لأجل الشفاعة له إليه وكانت المدة بين مفارقته الدنيا وبين الجمعية المذكورة أكثر من ثلاثمائة سنة قال بعض العارفين الحقيقة المحمدية أصل مادة كل حقيقة ظهرت ومظهرها أصل مادة كل حقيقة تكونت وإليه يرجع الأمر كله قال تعالى : ولسوف يرضى ولا يكون رضاه إلا بعود ما تفرق منه إليه فأهل الجمال يجتمعون عند جماله وأهل الجلال يجتمعون عند جلاله وقال ابن عطاء قدس سره كأنه يقول لنبيه افترضي بالعطاء عوضاً عن المعطي فيقول لا فقيل له وإنك لعلى خلق عظيم أي على همة جليلة إذ لم يؤثر فيك شيء من الأكوان ولا يرضيك شيء منها وقان بعضهم كم بين من يتكلف ليرضى ربه وبين من عطيه ربه ليرضى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
وقال القاشاني : ولسوف يعطيك ربك الوجود الحقاني لهداية الخلق والدعوة إلى الحق بعد الفناء الصرف فترضى به حيث ما رضيت بالوجود البشري والرضى لا يكون إلا حال الوجود.
وفي التأويلات النجمية : أي يظهر عليك بالفعل ما في قوة استعداداك من أنواع الكمالات الذاتية وأصناف الكرامات الصفاتية والإسمائية ألم يجدك يتيماً} مات أبواك {فَـاَاوَى} جواب ألم أونسق قاله ابن خالويه أي قد وجدك ربك والوجود بمعنى العلم ويتيماً مفعوله الثاني أي ألم يعلمك الله يتيماً فجعل لك مأوى تأوى إليه يقال أوى فلان إلى منزله يأوى أو يا علي فعول رجع ولجأ وآويته أنا إيواء والمأوى كل مكان يأوى إليه شيء ليلاً أو نهاراً أي يرجع وينزل ويجوز أن يكون الوجود بمعنى المصادفة ويتيماً حال من مفعوله يعني على المجاز بأن يجعل تعلق العلم الوقوعي الحالي مصادفة وإلا فحقيقة المصادفة لا تمكن في حقه تعالى.
(روى) أن أباه عبد الله ابن عبد المطلب مات وهو عليه السلام جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه وهو بن ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك إيواؤه.
وقال بعضهم : لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين ثم مات جده بعد أمه بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين ولما شرف جده عبد المطلب على الموت أوصى به عليه السلام أبا طالب لأن عبد الله وأبا طلب كانا من أم واحدة فكان أبو طالب هو الذي تكفل
456
رسول الله إلى أن بعثه الله للنبوة فقام بنصره مدة مديدة ثم توفى أبو طالب فنال المشركون منه عليه السلام ، ما لم ينالوا في زمان أبي طالب أي آذوه وكان عليه السلام يقول كنت يتيماً في الصغر وغريباً في الكبر وكان يحب الأيتام ويحسن إليهم وفي الحديث من ضم يتيماً وكان في نفقة وكفاه مؤونته كان له حجاباً من النار ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة وإنما جعله الله يتيماً لئلا يسبق على قلب بشر إن اذي نال من العز الشرف والاستيلاء كان عن تظاهر نسب أو توارث مال أو نحو ذلك.
وفي التأويلات النجمية ؛ ألم يجدك يتيماً أي رآك يتيماً فآواك إلى صدف النبوة ومشكاة الولاية.
بس كه غواص قدم درتك درياي عدم.
غوطه زد تا بكف آورد نين دريتيم.
(10/352)
يا ديد ترا كوهرى يكانه كه بكمال قابليت ازهمه كائنات منفرد بودي وبقطع علاقة نسبت از ما سوى متوحد ترا متمن ساخته در حضرت احديت جمع كه مقام خاص تست.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
وفي "الكشاف" ومن بديع التفاسير أنه من قولهم درة يتيمة وإن المعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير أي في العز والشرف فآواك في دار أعدائك فكنت بين القوم معصوماً محروساً {وَوَجَدَكَ ضَآلا} معنى الضلال فقدان الشرائع والخلو عن الأحكام التي لا يهتدي إليها العقول بل طريقها السماع كما في قوله تعالى : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ} يعني راه نيافته بودي بأحكام وشرائع.
وإليه يؤول معنى الغيبوبة فإن ضل يجيء بمعنى غاب كما في قوله شربت الإثم حتى ضل عقلي.
أي شربت الخمر حتى غاب عقلي وغلب.
قال الراغب : يقال الضلال لكل عدود عن المنهج عمداً كان أو سهواً يسيراً كان أو كثيراً ولذا نسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار وإن كان بين الضلالين بون بعيد ألا ترى أنه قال في النبي عليه السلام ووجدك ضالاً فهدى أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة وقال فعلتها إذا وأنا من الضالين وقال : إن أبانا لفي ضلال مبين تنبيهاً على أن ذلك منهم سهو انتهى.
هذا واحذر عن الإساءة في العبارة فهدى} أي فهداك إلى مناهج الشرائع في تضاعيف ما أوحى إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم قدم هذا الامتنان على الأخير لأن ابتداءه بعد زمان اليتم وقت التكليف فإنه عليه السلام كان موفقاً للنظر الصحيح حينئذٍ ولهذا لم يعبد صنماً قط ولم يأت بفاحشة وفي الأسئلة المقحمة معناه ووجدك بين ضالين فهداهم بك فعلى هذا يكون الضلال صفة قومه يقال رجل ضعيف إذا ضعف قومه.
وفي التأويلات النجمية : أي متحيراً في تيه الألوهية فهدى إلى كمال المعرفة بالصحو بعد المحو والسكر والضلال الحيرة كما قال : إنك لفي ضلالك القديم وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، إن النبي عليه السلام ضل في شعاب مكة حال صباه وكان عبد المطلب يطلبه ويقول متعلقاً بأستار الكعبة.
يا رب فاردد ولدي محمداً
ردا إلى واصطنع عندي يدا
فوجده أبو جهل فرده إلى عبد المطلب فمن الله عليه حيث خلصه على يدي عدوه فكان في ذلك نظير موسى عليه اسلام ، حين التقط فرعون تاتوته ليكون له عدواً وحزناً وقيل :
457
غير ذلك {وَوَجَدَكَ عَآاـاِلا} أي فقيراً يؤيده ما في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عديماً يقال : عال يعيل عيلاً وعيلة افتقر أي فأعناك بمال خديجة رضي الله عنها أو بما أفاء عليه من الغنائم حتى كان عليه السلام يهب المائة من الإبل وفي الحديث جعل رزقي تحت ظل رمحي وفيه إشارة إلى أن عليه السلام ، لو كان متمولاً من أول الأمر لكان يسبق إلى بعض الأوهام إنه إنما وجد العز والغلبة بسبب المال فلما علا كل العلو على الأغنياء والملوك علم أنه كان من جهة الحق وقيل قنعك وأغنى قلبك قال عليه السلام ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ولذا قال الراغب : أي أزال عنك فقر النفس وجعل لك الغنى الأكبر المعنى بقوله عليه السلام ، الغنى غنى النفس وقيل ما عال مقتصد أي ما افتقر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
وفي التأويلات النجمية : أي فقيرا فانياً عن أنيتك وأنانيتك بحسب استعدادك القديم فأغنى بالبقاء بوجوده وجوده وأسمائه وصفاته انتهى.
فالفقر الحقيقي هو التخلي عما سوى الله وبذل الوجود وما يتبعه وهو الذي وقع الافتخار به قال الامام القشيري رحمه الله أغناء الله عباده على قسمين فمنهم نم يغنيهم تنمية أموالهم وهم العوام وهو غنى مجازي ومنهم من يغنيهم بتصفية أحوالهم وهم الخواص وهو الغنى الحقيقي لأن احتياج الخلق إلى همة صاحب الحال أكثر من احتياجهم إلى نعمة صاحب المال ثم المراد من تعداد هذه النعم ليس الامتنان بل تقوية قلبه عليه السلام للاطمئنان بعد التوديع {فَأَمَّا الْيَتِيمَ} منصوب بقوله {فَلا تَقْهَرْ} والفاء سببية ليست بمعانعة قال الرضى يتقدم المفعول به على الفعل إن كان المنصوب معمولاً لما يلي الفاء التي في جواب إما إذا لم يكن ل منصوب سواه نحو قوله فأما اليتيم فلا تقهر لأنه لا بد من نائب مناب الشرط المحذوف بعداً ما والقهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما.
قال الراغب : قوله فلا تقهر أي لا تذلله وقال غير فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه.
وقدر ايشان بشناس كه شربت يتيمي شيده.
وكانت العرب تأخذ أموال اليتامى وتظلمهم حقوقهم وفي الحديث إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن فيقول من أبكى هذا اليتيم الذي وأريت والده تحت الثرى من أسكته أي أرضاه فله الجنة.
إلا تانكويدكه عرش عظيم
بلزدهمى ون بكريد يتيم
وقال مجاهد : لا تحتقر فإن له ربا ينصره وقرىء فلا تكهر أي فلا تعبس في وجهه.
(10/353)
وفي التأويلات النجمية : أي لا تقهر يتيم نفسك بكثرة الرياضة والمجاهدة من الجوع والسهر فإن نفسك مطيتك وإن لنفسك عليك حقاً كما قال طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى {وَأَمَّا السَّآاـاِلَ فَلا تَنْهَرْ} النهر والانتهار الزجر بمغالظة أي فلا تزجر ولا غلظ له القول بل رده رداً جميلاً يعني بأنك بروى مزن ومحروم مساركه دردبى نوايى وتنكدستى كشيده.
وهذا الثاني بمقابلة الأخير وهو ووجدك عائلاً فأغنى لمراعاة الفواصل والآية بينة لجميع الخلق لأن كل واحد من الناس كان فقيراً في الأصل فإذا أنعم الله عليه وجب أن يعرف حق الفقراء.
458
نه خواهنده بر درديكران
بشكرانه خواهند ازدرمران
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النخعي السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول اتبعثون إلى أهليكم بشيء.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
وروى) إن عثمان بن عفان رضي الله عنه أهدى إلى رسول الله عليه السلام ، عنقود عنب فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم وقدمه إلى رسول الله ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه ففعل ذلك ثالثاً فقال عليه السلام ملاطفاً للسائل لا غضبان أسائل أنت يا فلان أم ناجر فنزلت وأما السائل فلا تنهر وهو أحد وجوه احتباس الوحي هذا على أن السؤال بمعنى طلب الحاجة من الحوائج الدنيوية وجوز أن يكون من التفتيش عن الأمور الدينية وفي الحديث : "من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وهذا الوعيد يشمل حبس الكتب عمن طلبها للانتفاع.
وفي التأويلات النجمية : أي لا تنهر سائل قلبك عن الاستغراق في بعض الأوقات في بحر الحقيقة لاستراحته بذلك من أعباء تكاليف الأنبياء بقولك عند ذلك الاستغراق والاستهلاك يا حميراء كلميني {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} فإن تحديث العبد وأخباره بنعمة الله شكر باللسان وتذكير للغير وفي الحديث التحدث بالنعم شكر وأريد بالنعمة ما أفاضه الله عليه صلى الله عليه وسلّم من النعم الموحدة منها والموعودة وحيث كان معظم النعم نعمة النبوة فقد اندرج تحت الأمر هدايته عليه السلام لأهل الضلال وتعليمه للشرائع والأحكام حسبما هداه الله وعلمه من الكتاب والحكمة.
صاحب فتوحات قدس سره آورده كه نعمت يزيست محبوب بالذات ومنعم در أغلب شكور ميباشد س حق سبحانه وتعالى حبيب خودرا فرمودكه از نعمت من سخن كويى كه خلق محتاجند ومحتاج ون ذكر منعم شنود بدوميل كند واورا دوست دارد س بجهت تحدث بنعمت من خلق را دوست من كرداني ومن ايشانرا دوست ميدارم وهذا الثالث بمقابلة الثاني وهو قوله ووجدك ضالاً فهدى آخر لمراعاة الفواصل وإن التحلية وهو التحديث بنعمة الله بعد التخلية وهو لا تقهر ولا تنهر وكرر أما لوقوعها في مقابلة ثلاث آيت قال في "الكواشي" رأى بعض التحدث بنعم الله من الطاعات مع أمن الرياء وغائلة النفس وطلب الاقتداء به وكرهه بعض خوف الفتنة وفي "عين المعاني" قال عليه السلام : التحدث بالنعم شكر وتركه كفر وأما الحديث الآخر عليكم بكتمان النعم فإن كل ذي نعمة محسود يعني عن الحسود لا غير وفي الأشباه أي رجل ينبغي له أخفاه إخراج الزكاة عن بعض دون بعض فقل المريض إذا خاف من ورثته يخرجها سراً عنهم وأي رجل يستحب له أخفاؤها فقل الخائف من الظلمة لا يعلمون كثرة ماله وقال ابن عطية في الآية حدث به نفسك أي لا تنسى فضله عليك قديماً وحديثاً وإذا جاز تحديث النعم الظاهرة جاز تحديث النعم الباطنة من الكرامات والمخاطبات ونحو ذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
وفي التأويلات النجمية : اذكر شكر نعمة النبوة على ظاهر نفسك ونعمة الرسالة على باطن قلبك ونعمة الولاية على سرك ونعمة البقاء بعد الفناء على روحك وهو معنى سورة والضحى والليل إذا سجا فافهم وهذه السورة وسورة الانشراح درتان
459
(10/354)
يتيمتان غاليتان لما فيهما من الحكم والمعارف ولذا كانتا هما وسورة النصر من سور الكمل من الأولياء ولما نزلت سورة الضحى كبر صلى الله عليه وسلّم فرحا بنزول الوحي فصار سنة الله أكبر أولاً إله إلا الله والله أكبر كما في "الكواشي" وقال في إنسان العيون لما نزلت السورة المذكورة كبر عليه السلام فرحاً بنزول الوحي واستمر عليه السلام ، لا يجاهر قومه بالدعوة حتى نزل وإما بنعمة ربك فحدث فعند ذلك كبر عليه السلام أيضاً وكان ذلك سبباً للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قرأ كذلك على النبي عليه السلام ، بعد أمره له بذلك وإنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال : الله أكبر ، هذا وقيل أن أول ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول الضحى وقيل : إن التكبير إنما هو لآخر السورة وابتداؤه من آخر سورة الضحى إلى آخر قل أعوذ برب الناس والإتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين الرواية التي جاءت بأنه يكبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه يكبر في آخرها ونقل عن الشافعي رحمه الله ، إنه قال لآخر إذا تركت التكبير من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقط تركت سنة من سنن نبيك عليه السلام ، لكن في كلام الحافظ ابن كثير ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف وفي "فتح الرحمن" صح التكبير عن أهل مكة قرائهم وعلمائهم وصح أيضاً عن أبي جعفر وأبي عمر ووورد عن سائر القراء عند الختم وهو سنة مأثورة عن النبي عليه السلام ، وعن الصحابة والتابعين في الصلاة وخارجها لكن من فعله فحسن ومن لم يفعله فلا خرج عليه وإما ابتداؤه فاختلف فيه فروى أنه من أول ألم نشرح وروى أنه من أول الضحى واختلف أيضاً في انتهائه فروى أن انتهاءه آخر سورة الناس وروى أولها وقد ثبت نصه عن الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله ولم يستحبه الحنابلة لقراءة غير ابن كثير ولم اطلع على نص في ذلك لأبي حنيفة ومالك رحمهما الله ولفظه الله أكبر في رواية البزي وقنبل وروى عنهما التهليل قبل التكبير ولفظه لا إله إلا الله والله أكبر ، والوجهان عنهما صحيحان جيدان مشهوران مسعملان وفي صفة التكبير في رواية ابن كثير بين كل سورتين أربعة عشر وجهاً الأول قطعه عن آخر السورة ووصله بالبسملة ووصل البسملة بأول السورة الآتية وهو ولسوف يرضى قف الله أكبر
460
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
قف بسم الله الرحمن الرحيم ، صل والضحى والثاني قطعه عن آخر السورة ووصله بالبسملة والوقف على البسملة ثم الابتداء بأول السورة وهو لسوف يرضى قف الله أكبر ، صل بسم الله الرحمن الرحيم ، قف والضحى والثالث وصله بآخر السورة والقطع عليه ووصل البسملة بأول السورة وهو ولسوف يرضى صل الله أكبر قف بسم الله الرحمن الرحيم صل والضحى وارابع وصله بآخر السورة والقطع عن البسملة وهو ولسوف يرضى صل الله ، أكبر قف بسم الله الرحمن الرحيم قف والضحى والخامس قطع التكبير عن آخر السورة وعن البسملة ووصل البسملة بأول السورة وهو ولسوف يرضى قف الله أكبر قف بسم الله الرحمن الرحيم صل والضحى والسادس وصل التكبير بآخ السورة والبسملة وبأول السورة وهو ولسوف يرضى صل الله أكبر صل بسم الله الرحمن الرحيم صل والضحى والسابع قطع الجميع أي قطع التكبير عن السورة الماضية وعن البسملة وقطع البسملة عن السورة الآتية وهو ولسوف يرضى قف الله أكبر قف بسم الله الرحمن الرحيم قف والضحى فهذه السبعة صفته مع التكبير ويأتي مع التهليل مثل ذلك وبقى وجه لا يجوز وهو وصل التكبير بآخر السورة وبالبسملة مع القطع عليها وهو ولسوف يرضى الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم بالوصل في الجميع ثم يست على البسملة ثم يبتدىء والضحى فهذا ممتنع إجماعاً لأن البسملة لأول السورة فلا يجوز أن تجعل منفصلة عنها متصلة بآخر السورة قبلها.
واعلم أن القارىء إذا وصل التكبير بآخر السورة فإن كان آخرها ساكناً كسره للساكنين نحو فحدث الله أكبر وفارغب الله أكبر وإن كان منوناً كسره أيضاً للساكنين سواء كان احرف المنون مفتوحاً أو مضموماً أو مكسوراً نحو تواباً الله أكبر ، ولخبير الله أكبر ومن مسد الله أكبر وإن كان آخر السورة مفتوحاً فتحه وإن كان مسكوراً كسره وإن كان مضموماً ضمه نحو قوله إذا حسد الله أكبر والناس الله أكبر وإلا بتر الله أكبر وشبهه وإن كان آخر السورة هاء كناية موصولة بواو حذف صلتها للساكنين نحو ربه الله أكبر وشراً يره الله أكبر ، وأسقط الف الوصل التي في أول اسم الله في جميع ذلك استغناء عنها الكل في "فتح الرحمن" لكن المواضع منها ينبغي أن يقطع عن التكبير حذراً من الإيهام وإن كان مقتضى القياس الوصل نحو إلا بتر الله أكبر ، وحسد الله أكبر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 452
ثماني آيات مكية وعند ابن عباس رضي الله عنهما مدنية(10/355)
تفسير سورة ألم نشرح
جزء : 10 رقم الصفحة : 460
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قال الراغب : الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه وشرح المشكل من الكلام بسطه وإظهار ما يخفى من معانيه انتهى.
وفي الحديث إذا دخل النور في القلب انشرح أي عاين القلب وانفسح أي احتمل البلاء وحفظ سر الربوبية كما قال موسى عليه السلام ، رب اشرح لي صدري أي وسع قلبي حتى لا يضيق بسفاهة المعاندين ولجاجهم بل يحتمل إذا هم وزيادة لك للإيذان بأن الشرح من منافعه ومصالحه عليه السلام وإنكار النفي إثبات أي عدم شرحنا لك صدرك منفى بل قد شرحنا لك صدرك وفسحناه حتى حوى عالم الغيب والشهادة بين ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق
461
في شؤون الحق أي لم تحتجب لا بالحق عن الخلق ولا بالخلق عن الحق بل كنت جامعاً بين الجمع والفرق حاضراً غائباً.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى انفساح صدر قلبه بنور النبوة وحمل همومها بواسطة دعوة الثقلين وانشراح صدر سره بضياء الرسالة واحتمال مكاره الكفار وأهل النفاق وانبساط صدر نوره باشعة الولاية وتحققه بالعلوم اللدنية والحكم الإلهية والمعارف الربانية والحقائق الرحمانية وأما شرح الصدر الصوري فقد وقع مراراً مرة وهو ابن خمس أو ست لإخراج مغمز الشيطان وهو الدم الأسود الذي به يميل القلب إلى المعاصي ويعرض عن الطاعات ومرة عند ابتداء الوحي ومرة ليلة المعراج در حديث آمده كه شب معراج جبريل مرا تكيه داد واز بالاي سينه تانافمن بشكافت وميكائيل طشتى از آب زمزم آورده بشكافت وبشست ودر آخر طشتى از طلا مملو از حكمت وايمان آوردند ودل مرا ازان ر ساختند وبرجاي او نهادند ونقلى هست كه بخاتمي ازنور مهر كرد نانه اثر راحت ولذت آن هنوز در عروق ومفاصل خودمى يابم.
لم خزانة أسرار بود ودست قضا.
درش به بست وكليدش بدلستاني داد.
ومن هنا قال المشايخ لا بد للطالب في ابتداء أمره أن يشتغل بذكر لا إله إلا الله بحيث يبدأ من الجانب الأيمن للصدر ويضرب بالأعلى الجانب الأيسر منه لينتقض به العلقة التي هي حظ الشيطان ومنبع الشهوات النفسانية مقداراً بعد مقدار ويمتلىء النور مقام ما ينتقض منها وربما قاء دما أسود رقيقاً لانحلاله بحرارة التوحيد وذو بأنه بنار الذكر وهو من صفت الكمل فبداوم الذكر ينشرح الصدر وينفتح القلب {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أي حططنا وأسقطنا عنك حملك الثقيل وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح للقصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر {الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك كما يسمع من الرحل المتداعى إلى الانتقاض من ثقل الحمل وبالفارسية آن باري كه كران ساخت شت تراكما قال في تاج المصادر الانقاض كران كردن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 461
وفي "المفردات" كسره حتى صار له نقيض وفي "القاموس" أثقله حتى جعله تقضا أي مهزولاً أو أثقله حتى سمع نقيضه وفي بعض التفاسير ثقل عليك ثقلاً شديداً فإن انقاض الحمل الظهر إنما يكون بمعنى تصويت الرحل الذي عليه وهو يكون بثقل الحمل وتأثيره المفضي إلى انحراف بعض أجزاء الرحل عن محالها وحصول الصوت بذلك فيه انتهى.
مثل به حاله عليه السلام ، مما كان يثقل عليه ويغمه من فرطاته قبل النبوة أو من عدم إحاطته بتفاصيل الأحكام والشرائع ومن تهالكه على إسلام المعاندين من قومه وتلهفه ووضعه عند مغفرته كما قال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وتعليم الشرائع وتمهيد عذره بعد أن بلغ وبالغ وقد يجعل قوله ووضعنا عنك وزرك كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس فيكون كقوله القائل رفعنا عنك مشقة الزيارة لمن لم يصدر عنه زيارة قط على سبيل المبالغة في انتفاء الزيارة منه له {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بعنوان النبوة وأحكامها أي
462
رفع حيث قرن اسمه باسم الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة وفيه يقول حسان ابن ثابت.
اغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن اشهد
وجعل طاعته طاعته تعالى وصلى عليه هو وملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وسمى رسول الله ونبي الله وغير ذلك من الألقاب المشرفة.
وذو النون المصري قدس سره فرمود رفعت ذكر اشارت بآنست كه همم انبيا عليهم اسلام بر حوالىء عرش جولان مي نمودند وطاهر همت آن حضرت عليه السلام رواز ميكرد.
سميرغ فهم هيكس از نبيا نرفت
آنجاكه تو ببال كرامت ريده
هريك بقدر خويش بجايى رسيده اند
انجاكه جاي نيست بجاي رسيده(10/356)
{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} تقرير لما قبله ووعد كريم بتيسير كل عسير له عليه السلام وللمؤمنين فاللام للاستغراق قال في "الكشاف" فإن قلت كيف تعلق قوله فإن مع العسر يسراً بما قبله قلت كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم ثم قال فإن مع العسر الخ كأنه قيل خولناك من جلائل النعم فكن على ثقة بفضل الله ولطفه فإن مع العسر يسرا كثيراً وفي كلمة مع إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن للعسر وإلا فالظاهر ذكر كلمة المعاقبة لا أداة المصاحبة لأن الضدين لا يجتمعان بل يتعاقبان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 461
إن مع العسر و يسرش قفاست
شاد برآنم كه كلام خداست
وقال بعضهم : هذا عند العامة وأما عند الخاصة فالمعية حقيقية كما قيل :
برجانم از توهره رسد جاى منت است
كرناوك جفاست وكر خنر ستم
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر هي معية امتزاج لامعية مقارنة ولا تعاقب ولذلك كررها فلولا وجود اليسر في العسر لم يبق عسر لعموم الهلاك ولولا وجود العسر في اليسر لم يبق يسر وبضدها تتبين الأشياء ثم إن العسر يؤول كله إلى اليسر فقد سبقت الرحمة الغضب وذلك عناية من الله فإن ذلك قد يكون مصقلة وجلاء لقلوب الأكابر وتوسعة لاستعدادهم فتتسع لتجلي الحضرة الإلهية وكما أن حظهم من الملائم أوفر فكذلك غير الملائم قال عليه السلام أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ولذلك قال تعالى : [غافر : 60-6]{ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال عليه السلام : إن الله يحب الملحين في الدعاء وفي تعريف العسر وتنكير اليسر إشارة لطيفة إلى أن الدنيا دار العسر فالعسر عند السامع معلوم معهود واليسر مجهول منهم إن مع العسر يسرا} تكرير للتأكيد أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر
463
كثواب الآخرة كقولك إن للصائم فرحتين أي فرحة عند الأفطار وفرحة عند لقاء الرب وعليه قوله عليه السلام : "لن يغلب عسر يسرين" أي لن يغب عسر الدنيا يسرى الدنيا والآخرة فإن المعرف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول سواء كان معهودا أو جنساً وإما المنكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول قال ابن الملك في شرح المنار المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى كالعسرين في قوله تعالى : [الأنعام : 143-7]{فَإِنَّ مَعَ} .
.
إلخ وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين قال فخر الإسلام في جعل لآية من هذا القبيل نظر لأنها لا يحتمل هذا المعنى كما لا يحتمل قولنا إن مع الفارس رمحا إن مع الفارس رمحا أن يكون معه رمحان بل هذا من باب التأكيد.
فإن قلت : فإذا حمل على التأكيد فما وجه قول ابن عباس رضي الله عنهما.
قلت : كأنه قصد باليسرين ما في قوله يسراً من عنى التفخيم فيتناول يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة انتهى.
قال بعضهم : إن مع عسر المجاهدة يسر المشاهدة ومع عسر الانفصال يسر الاتصال ومع عسر القبض يسر البسط والعسر الواحد هو الحجاب واليسران كشف الحجاب ورفع العتاب فإذا فرغت} أي من التبليغ أو من المصالح المهمة الدنيوية {فَانصَبْ} النصب محركة التعب أي فاجتهد في العبادة واتعب شكراً لما أوليناك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآتية وبه ارتبطت الآية بما قبلها ويجوز أن يقال فإذا فرت من تلقى الوحي فانصب في تبليغه.
وقال الحسن رحمه الله : إذا كنت صحيحاً فاجعل فارغك نصباً في العبادة كما روى أن شريحاً مر برجلين يتصارعان وآخر فارغ ، فقال ما أمر بهذا إنما قال الله فإذا فرغت فانصب وقعود الرجل فارغاً من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة وعن عمر رضي الله عنه إن لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سهلاً لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته فلا بد للمرء أن يكون في عمل مشروع دائماً فإذا فرغ من عمل اتبعه بعمل آخر وقال قتادة والضحاك : فإذا فرغت من الصلاة فنصب في الدعاء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 461
وأبو مدين مغربي قدس سره در تأويل اين آيت فرموده كه ون فارغ شوى از مشهده اكون نصب كن دل خوداراباي مشاهده جمال رحمن.
قال في "الكشاف" ومن البدع ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ فانصب بكسر الصاد أي فانصب علياً للإمامة ولو صح هذا للرافضة لصح للناصي أن يقرأ هكذا ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض على وعداوته {وَإِلَى رَبِّكَ} وحده {فَارْغَب} أصل الرغبة السعة في الشيء يراد بها السعة في الإرادة فإذا قيل رغب فيه وإليه يقتضى الحرص عليه وإذا قيل رغب عنه اقتضى صرف الرغبة عنه والزهد فيه وفي "القاموس" رغب فيه كسمع رغباً ويضم رغبة إراده وعنه لم يرده وإليه رغباً محركة ابتهل أو هو الضراعة والمسألة والمعنى فارغب بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر على إسعافك لا غيره.
(10/357)
وسخن تو بدركاه قرب مقبولست ودعوات طيبات تو در محل قبول.
و مقصود كون ومكان جودتست
خدا ميدهد آنه مقصود تست
وعن بعض الأكابر ألم نشرح لك صدرك برفع غطاء أنيتك وكشف حجاب أثنينيتك عن
464
حقيقة أحديتنا ووجه صمديتنا ووضعنا عنك ذنب وجودك الذي أنقض ظهر فؤادك بأن نطلعك على فناء وجودك الصوري الظلى وبقاء وجودنا الحقيقي العيني ورفعنا لك ذكرك بأفنائك فينا وأبقائك بنا إلى مرتفع الخطاب الوارد في شأنك بقولنا إن إلى ربك المنتهى أي منتهى جميع الأرباب الأسماء الإلهية فكذلك إليك منتهى كافة المربوبين الحقائق اكونية وبذلك الرفع كن سيد الكل فارض بالقضاء واصبر على البلاء واشكر على النعماء فإن مع عسر الابتلاء بالبلايا المؤدي إلى اضطراب صدرك يسر الامتلاء بالعطيا المفضى إلى اطمئنان روحك إن مع العسر يسرا البتة إذ هكذا جرت سنتنا مع كل عبد ولن تجد لسنتنا تبديلاً بأن يرتفع العسر جميعاً ويصير الكل يسرا أو بالعكس فلا تلتفت إلى اليسر والسرور فإنه حجاب نوراني ولا إى العسر والألم فإنه حجاب ظلماني فإذا فرغت من إعطاء حق وارد كل وقت حاضر فانصب نفسك في منصب إعطاء وارد كل وقت قابل إذا أتى يني فافعل ثنياً كما فعلت أولاً وكن هكذا دائماً إلى أن يأتيك اليقين وإلى ربك أي إلى جلاله وجماله وكماله فارغب لا إلى غيره من الأمور والأحكام الواردة عليك في الأوقات لأن في الرغبة والالتفات إلى غير الرب احتجاباً عن الرب وسقوطاً عن قرب إلى بعد ومقامك لا يسع غير القرب والأنس والحضور وعن طاووس وعمر بن عبد العزيز رحمهما الله إنهما كانا يقولان إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما بالبسملة لأنهما رأيا أن أول ألم نشرح مشانه لقوله ألم يجدك الخ وليس كذلك لأن تلك حال غتمامه عليه السلام بأذى الكفار فهي حال محنة وضيق وهذه حال انشراح الصدر وتطيب القلب فكيف يجتمعان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 461
ودر ليله معراج ندا آمدكه أي محمد بخواه تابخشيم رسول عليه السلام كفت خدا وندا هر يغمبرى ازتو عطايى يافت إبراهيم را خلت دادى باموسى بي واسطه سخن كفتى إدريس را بمكان عالي رسانيدى داودرا ملك عظيم دادى ولزت وى بيامر زيدي سليما نرا ملكي دادى كه بعد ازوى كس راسزاي آن ندادى عيسى را درشكم مادر توراة وإنجيل در آمو ختى ومرده زنده كردن بردست وى آسان كردى وآبراء أكمه وأبرص مراورا دادى جواب الهي آمدكه يا محمد اكر إبراهيم را خلت دادم ترا محبت دادم واكرا باموسى سخن فتم بي واسطه لكن كوينده را ندد وباتو سخن ميكفتم بي حاجب وكوينده ديدى واكر إدريس را بآسمان رسانيدم ترا از آسمان بحضرت قاب قوسين أو أدنى رسنيدم واكر داودرا ملك عظيم دادم وزلت وى بيامر زيدم امت تا ملك قناعت دادم وكنهنان ايشان بشفاعت بيامر زيدم واكر سليمان مملكت دادم ترا سبع مثاني وقرآن عظيم دادم وكناهنان ايشان بشفاعتت بيامزيدم واكر سليمان مملكت دادم تر سبع مثاني وقرآن عظيم دامد وخاتمه سوره بقره كه بهي يغمبر بجز توندادم ودعاهاى تودر آخر سورة البقرة أجابت كردم وأعطيتك الكوثر وترابسه خصلت براهل زمين وآسمان فضل دادم يكى الم نشر لك صدرك يدكر ووضعنا عنك وزرك سوم ورفعنا لك ذكرك وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأرسلتك إلى اناس كافة بشيراً ونذيراً وجعلتك فاتحاو خاتماً
465
وهذا السوق يشير إلى السورة مدنية وف يبعض الروايات سألت ربي مسائل وددت إني لم سألها إياه قط فقلت اتخذت الخ وهو الظاهر وهذا يقتضي أن يكون مسألته عليه السلام من عند نفسه من غير أن يقول الله له سل تعط والله تعالى أعلم وفي الحديث من قرأها أي سورة ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني.
جزء : 10 رقم الصفحة : 461(10/358)
تفسير سورة التين
ثماني آيات مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 465
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} هما هذا التين الذي يؤكل وهذا الزيتون الذي يعصر منه الزيت خصمهما الله من بين الثمار بالإقسام بهما لاختصاصهما بخواص جليلة فإن التين فاكهة طيبة لا فضل له وغذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع يلين الطبع ويحلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح سدد الكبد والطحال وروى أبو ذر رضي اللهعنه أنه أهدى للنبي عليه السلام ، سل من تين فأكل منه وقال لأصحابه كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذا الآن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس وعن علي بن موسى الرضى رضي الله عنه ، التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج قال الامام : لما عصى آدم عليه السلام ، وفارقته ثيابه تستر بورق التين ولما نزل وكان مترزاً بورق التين استوحش فطافت الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها الله الجمال صورة والملاحة معنى وغير دمها مسكاً فلما تفرقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبه فلما كان الغد جاءت ظباء آخر على أثر الأول فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال دون المسك وذلك لأن الأولى جاءت إلى آدم لأجله لا لأجل الطمع والطائفة الأخرى جاءت إليه ظاهراً وللطمع باطناً فلا جرم غير الظاهر دون الباطن وفي أسئلة الحكم فإن قلت ما الحكمة في أن سائر الأشجار يخرج ثمرها في كمامها أو لا ثم تظهر الثمرة من الكمام ثانياً وشجرة التين أول ما يبدو ثمرها يبدو بارزاً من غير كمام قلت لأن آدم لم يستره إلا شجرة التين فقال الله بعدما سترت آدم أخرج منك المعنى قبل الدعوى وسائر الأشجار يخرج منها الدعوى قبل العنى ، قال في "خريدة العجائب" ، إذا نثر رماد خشب التين في البساتين هلك منه الدود ودخان التين يهرب منه البق والبعوض.
جزء : 10 رقم الصفحة : 466
وأما الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدهن كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهنية فيها كالجبال لكفى به فضلاً وشجرته هي الشجرة المباركة المشهورة في التنزيل ومر معاذ بن جبل رضي الله عنه بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً وساتاك به وقال سمعت النبي عليه السلام يقول نعم سواك الزيتون هو سواكي وسواك الأنبياء ، من قبلي وشجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة ومن خواصها أنها تصبر عن الماء طويلاً كالنخل وإذا لقط ثمرتها جنب فسدت والقت حملها وانتثر ورقها وينبغي إن تغرس
466
في المدر لكثرة اغار لأن الغبار كلما علا على زيتونها زاد دسمه ونضجه ورماد ورقها ينفع العين كحلا ويقوم مقام التوتيا وفي الحديث : "عليكم بالزيت فإنه يكشف المرة ويذهب البلغم ويشد العصب ويمنع الغشى ويحسن الخلق ويطيب النفس ويذهب الهم" قال الامام إن التين في النوم رجل خير غني فمن ناله في المنام نال ما لا وسعة ومن أكله رزقه الله أولاداً ومن أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى وقال مريض لابن سيرين رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللاءين تشفى فقال كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية.
وقال الطبري المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق يعني جبل الصالحية ويسمى جبل قاسيون والزيتون وهو طورزيتا الجبل الذي يلي بيت المقدس من جهة المشرق وذلك أن التين ينبت كثيراً بدمشق والزيتون بايليا {وَطُورِ سِينِينَ} هو الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه.
قال الماوردي : ليس كل جبل يقال له طوراً لا أن يكون فيه الأشجار والثمار وإلا فهو جبل فقط وسينين وسيناء علمان للموضع الذي هو فيه ولذلك أضيف إليهما ومعنى سينين بالسريانية ذو الشجر أو حسن مبارك بلغة الحبشة وفي "كشف الأسرار" أصل سينين سيناء بفتح السين وكسرها وإنما قال ههنا سينين لأن تاج الآيات النون كما قال في سورة الصافات سلام على الياسين وهو الياس فخرج على تاج آيات السورة {وَهَاذَا الْبَلَدِ الامِينِ} أي الآمن يقال أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين وهو مكة شرفها الله تعالى وأمانتها أنها تحفظ من دخلها جاهلية وإسلاماً من قتل وبى كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول بمعنى المأمون فيه على الحذف والإيصال من أمنه لأنه مأمون الغوائل والعاهات كما وصف بالأمن في قوله تعالى : {حَرَمًا ءَامِنًا} بمعنى ذي ن وفي الحديث من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشأهما عليهما السلام ، والطور المكان الذي نودي فيه موسى عليه السلام ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله ومبعثه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 466(10/359)
ودر بحر الحقائق آورده كي بزبان اشارت قسم است بشجره تينيه قلبية كه مثمر ثمره علوم دينيه است وشجره زيتونه مباركه سريه كه روشنى بخش مصباح دلست وطور سينين روح معلى كه بتجلى الهي مجلى است وبلد أمين خفى كه محل أمن وأمانست ازهجوم آفات تعلقات أكوان.
يقول الفقير أشار بالتين إلى علوم الحقيقة التي محلها السر الإنساني لأنها لذة صرفة ولذا قدمت لأنها المطلب الأعلى لتعلقها بذات الله وصفاته وأفعاله وكما أن عمر شجرة التين قصير بالنسبة إلى الزيتون فكذا عمر أهل الحقيقة غالبا إذ لا معنى للبقاء في الدار الفانية بعد حصول المقصود الذي هو الحياة الباقية إلا أن يكون لإرشاد الناس وأشار بالزيتون إلى علوم الشريعة التي محلها النفس الإنسانية هي ليست بنعيم محض لأنه لا بد في الشريعة من اتعاب النفس والقالب وأشار بطور سينين إلى روح الذي هو محل المعارف الإلهية ومقام المناجاة وأشار بالبلد الأمين إلى مكة الوجود المشتملة على بيت القلب فإنه أمن أهلها من اختطاف
467
الشياطين ودخول شر الوسواس الخناس فيها وإلى الأعمال القالبية الحاصلة بالحواس والأعضاء فالقالب أخذ الشرف من القلب وهو من الروح وهو من السر فلذا كان الكل جديداً بالأقسام به لقد خلقنا الإنسان} أي جنس الإنسان {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} يقال قام انتصب وقام الأمر اعتدل كاستقام وقومته عدلته كما في "القاموس" والتقويم تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف والتعديل وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة فإنه حكى أن ملك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة فقال لها إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت كذا فافتى الكل بالحنث إلا يحيى بن أكثم ، قال لا يحنث فقالوا خالفت شيوخك فقال الفتوى بالعلم ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى قال لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم فالإنسان أحسن الأشياء ولا شيء أحسن منه وفي "المفردات" هو إشارة إلى ما خص به الإنسان من بين الحيوان من العقل ولفهم وانتصاب القامة الدال على استيلائه على كل ما في هذا العالم والمعنى كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورة ومعنى حيث يراه تعالى مستوى القامة متناسب الأعضاء حسن الشكل كما قال وصوركم فأحسن صوركم أي صوركم أحسن تصوير وكذا خلقه متصفاً بالصفات الإلهية من الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام التي هي الصورة الحقيقية الإلهية المشار إليها بقوله عليه السلام : "خلق الله آدم على صورته وعليه يدور" معنى قوله عليه السلام من عرف نفسه فقد عرف ربه فالإنسان مظهر الجلال والجمال والكمال {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ} أي جعلناه من أهل النار الذي هو أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين والحاصل إنه حول بسوء حاله من أحسن تقويم إلى أقبح تقويم صورة ومعنى لأن مسخ الظاهر إنما هو من مسخ الباطن فالمراد بالسافلين عصاة المؤمنين وأفعل التفضييل هنا يتنول التعدد المتفاوت وأسفل سافلين إما حال من المفعول أي رددناه حال كونه أسفل سافلين أو صفة لمكان محذوف أي رددناه إلى مكان هو أسفل أمكنة السافلين والأول أظهر ثم هذا بحسب بعض الأفراد الإنسانية لانماسهم في بحر الشهوات الحيوانية البهيمية وإنهماكهم في ظلمات اللذات الجسمانية الشيطانية والسبعية وفيه إشارة إلى أن الاعتبار إنما هو بالصورة الباطنة لا بالصورة الظاهرة ولذا قال الشيخ سعدى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 466
ره راست بايدنه بالاي راست
كه كافرهم ازروى صورت وماست
فكم من مصور على أحسن الصور في الظاهر وهو في الباطن على أقبح الهيئات ولذا يجيء الناس يوم القيامة أفواجاً فإن صفاتهم الباطنة تظهر على صورهم الظاهرة فتتنوع صورهم بحسب صفاتهم على أنواع وقيل رددناه إلى أرذل العمر وهو الهرم بعد الشباب والضعف بعد القوة كقوله تعالى : {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} أي نكسناه في خلقه فتقوس ظهره بعد اعتداله وأبيض شعره بعد سواده وكل سمعه وبصره وتغير كل شيء منه.
468
دورسته درم دردهن داشت جاي
وديوارى ازخشت سميين باي
كنونم نكه كن بوقت سخن
بيفتاده يك يك و سوركهن
مراهمنين جعد شبرنك بود
قبا در براز نازكى تنك بود
درين غايتم رشد بايد كفن
كه مويم ونيه است ودوكم بدن
(10/360)
قال في عين المعاني ولم تدخل لام الجنس في سافلين كما ورد في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنه عنى أسفل الخرفين خاصة دون كل الناس من أهل الزمانة وفي كشف الأسرار السافلون هم الضعفاء من المرضى والزمني والأطفال فالشيخ البكير أسفل من هؤلاء جميعاً إلا الذين آمنوا} أيما نا صادقا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المأمور بها والمأجور عليها وهو على الأول استثناء متصل من ضمير ثم رددناه فإنه في معنى الجمع وعلى الثاني منقطع أي لكن الذين كانوا صالحين من الهرمي.
قال أبو الليث : معنى قوله إلا الذين.
.
الخ.
يعني لا يخرف ولا يذهب عقل من كان عالماً عاملاً وفي لحديث طوبى لمن طال عمره وحسن عمله وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر {فَلَهُمْ أَجْرٌ} في دار الكرامة لأنها المحل له ودخول الفاء لتضمن اسم لكن معنى الشرط وهو على الأول للتعليل أي لا يغير صورهم في النار لأنهم مثابون في الجنة {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على ضعف نهوضهم وفي التيسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن العبد إذا مرض أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً كذا روى في الهرم وفي تفسير أبي الليث روى عن النبي عليه السلام أنه قال إن المؤمن إذا مات صعد الملكان إلى السماء فيقولاون إن عبدك فلاناً قد مات فائذن لنا حتى نعبدك على السماء فيقول الله إن سمواتي مملوءة بملائكتي ولكن اذهبا إلى قبره واكتاب حسناته إلى يوم القيامة ويجوز أن يكون المعنى غير ممنون به عليهم كما سبق في آخر سورة الانشقاق
جزء : 10 رقم الصفحة : 466
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} بعد مبنى على الضم لحذف المضاف إليه ونيته والاستفهام مشعر بالتعجب أي فأي شيء يكذبك يا محمد دلالة أو نطقاً بالجزاء بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة به أي ينسبك إلى الكذب بسب إثباتك الجزاء وإخبارك عن البعث والمراد الآلة الدالة على كمال القدرة فإن من خلق الإنسان السوي من الماء المهين وجعل ظاهره وباطنه على أحسن تقويم ودرجه في مراتب الزيادة إلى أن استكمل واستوى ثم نكسه إلى أن يبلغ إلى أرذل العمر لا شك أنه قادر على البعث والجزاء أو فما يجعلك أيها الإنسان كاذباً بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل يعني إنك تكذب إذا كذبت بالجزاء لأن كل مكذب للحق فهو كاذب وحاصله أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتحويله من حال إلى حال كمالاً ونقصانا من أوضح دليل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيبه أيها الإنسان
469
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي أليس الذي فعل ما ذكر باحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء أي أليس ذلك بأبلغ اتقاناً للأور من كل متقن لها إذا لحاكم هو المتقن للأمور ويلزمه كونه تام القدرة كامل العلم وحيث استحال عدم كونه احكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء أو المعنى أليس الله باقضى القاضين يحكم بينك وبين من يكذبك بالحق العدل يقال حكم بينهم أي قضى فالآية وعيد للمكذبين وإنه يحكم عليهم بما هم أهله وكان عليه السلام إذا قرأها يقول بلى وأنا على ذلك من الشاهدين يعني خارج الصلاة كما في "عين المعاني" ويأمر بذلك أيضاً قال من قرأ أليس الله باحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ومن قرأ هذه السورة إعطاه الله خصلتين العافية واليقين ما دام في الدنيا ويعطي من الأجر بعدد من قرأها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 466(10/361)
تفسير سورة العلق
ثمان عشرة أو تسع عشرة آية مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 469
{اقْرَأْ} أي ما يوحي إليك يا محمد فإن الأمر بالقراءة يقتضي المقروء قطعاً وحيث لم يعين وجب أن يكون ذلك ما يتصل بالأمر حتماً سواء كانت السورة أول ما نزل أم لا فليس فيه تكليف ما لا يطاق سواء ذدل الأمر على الفور أم لا والأقرب أن هذا إلى قوله ما لم يعلم أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلّم على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة والخلاف إنما هو في تمام السورة عن عائشة رضي الله عنها أول ما ابتدىء به رسول الله عليه السلام ، من النبوة حين أراد الله به كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح أي كضيائه وإنارته فلا يشك فيها أحد كما لا يشك في وضوح ضياء الصبح وإنما ابتدىء عليه السلام ، بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل بالرسالة فلا تتحملها القوة البشرية لأنهما لا تحتمل رؤبة الملك وإن لم يكن على صورته الأصلية ولا على سماع صوته ولا على ما خبر به فكانت الرؤيا تأنيساً له وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر على على ما هو أدنى الخمل ثم جاءه الملك فعبر من عالم الرؤيا إلى عالم المثال ولذا قال الصوفية إن الحاجة إلى التعبير إنما هي في مرتبة النفس الأمارة واللوامة وإذا وصل السالك إلى النفس الملهمة ، كما قال تعالى : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَااهَا} قل احتياجه إلى التعبير لأنه حينئذٍ يكون ملهماً من الله تعالى فمرتبة الإلهام له كمرتبة مجيء الملك للرسول عليه اسلام ، فإذا كانت مدة الرؤيا ذلك العدد يكون ابتداؤها في شهر ربيع الأول وهو مولده عليه السلام ثم أوحى إليه في اليقظة في شهر رمضان وكان عليه السلام في تلك المدة إذا خلا يسمع نداء يا محمد يا محمد ويرى نوراً أي يقظة وكان يخشى أن يكون الذي يناديه تابعاً من الجن كما ينادى الكهنة وكان في جبل حراء ار وهو الجبل الذي نادى رسول الله بقوله إلى يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره اهبط عني يا رسول الله فإني أخاف أن تقتل على ظهري وكان عليه السلام ، تعبد في
470
ذلك الغار ليالي ثلاثاً وسبعاً وشهراً ويتزود لذلك من الكعك والزيت وذلك في تلك المدة وقبلها وأول من تعبد فيه من قريش جده عبد المطلب ثم تبعه سائر المتألهين هم أبو أمية بن المغيرة وورقة بن نوفل ونحوهما وكان ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن عم خديجة رضي الله عنها وكان قد قرأ الكتب وكتب الكتاب العبري وكان شيخاً كبيراً قد عمى في أواخر عمره ثم لما بلغ عليه السلام رأى الأربعين ودخلت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان جاءه الملك وهو في الغار كما قال الامام الصرصري رحمه الله :
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
وأتت عليه أربعون فأشرقت
شمس لنبوة منه في رمضان
قالت عائشة رضي الله عنها ، جاءه الملك سحر.
يوم الاثنين فقال اقرأ قال ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطني أي ضمني وعصرني ثم أرسلني فعله ثلاث مرات ثم قال اقرأ إلى قوله ما لم يعلم وأخذ منه القاضي شريح من التابعين إن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات فخرج عليه السلام من الغار حتى إذا كان في جانب من الجبل سمع صوتاً يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ورجع إلى خديجة يرجف فؤاده فحدثها بما جرى فقالت له ابشر يا ابن عمي وأثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم انطلقت إلى ورقة فأخبرته بذلك فقال فيه :
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي
حديثك إيانا فاحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما
من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز عزا لدينه
ويشقى به الغاوي الشقي لمضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه
وأخرى باغلال الجحيم تغلل
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص471 حتى ص رقم48(10/362)
ومكث عليه السلام مدة لا يرى جبريل وإنما كان كذلك ليذهب عنه ما كان يجده من الرعب وليحصل له التشوق إلى العود وكانت مدة الفترة أي فترة الوحي بين اقرأ وبين يا أيها المدثر وتوفي ورقة في هذه الفترة دفن بالحجون وقد آمن به عليه السلام ، وصدقه قبل الدعوة التي هي الرسالة ولذا قال عليه السلام لقد رأيته في الجنة وعليه ثياب الحرير ثم نزل يا أيها المدثر قم فانذر فظهر الفرق بين النبوة والرسالة قال بعض العارفين : أهل الإرادة في الطلب والمراد مطلوب وهو نعت الحبيب ألا تر أنه لما قيل له اقرأ استقبله الأمر من غير طلب ونظيره ألم نشرح لك صدرك فإنه فرق بينه وبين قول موسى رب اشر له صدري باسم ربك} متعلق بممر هو حال من ضمير الفاعل أي اقرأ ملتباً باسم الله تعالى أي مبتدئاً به ليتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء أي قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة وقد صرح بذلك الامام البخاري رحمه الله ، أمره بذلك لأن ذكر اسم الله قوة له في القراءة وأنس بمولاه فإن الأنس بالاسم يفضي إلى الإنس بالمسمى والذكر باللسان يؤدي إلى الذكر بالجنان والباء في باسم يفضي إلى الإنس بالمسمى والذكر باللسان يؤدي إلى الذكر بالجنان والباء في باسم بره تعالى على
471
على المؤمنين بانواع الكرامات في الدارين والسين كونه سميعا لدعاء الخلق جميعا والميم معناه من العرش الى تحت الثرى ملكه وملكه وفي الكواشي دخلت الباء في إقرأ باسم ربك لتدل على الملازمة والتكرير كأخذت بالخطام ولو قلت اخذت الخطام لم يدل على التكرير والدوام في كتاب شمس المعارف اول آية نزلت على وجه الارض بسم الله الرحمن الرحيم على آدم الصفي عليه السلام فقال آم الآن علمت ان ذريتي لا تعذب بالنار ما دامت عليها ثم انزلت على ابراهيم عليه السلام في المنجنيق فاتجاه الله بها من النار ثم على موسى عليه السلام فقهر بها فرعون وجنوده ثم على سليمان عليه السلام فقالت الملائكة الآن والله قدتم ملكك فهي آية الرحمة والامان لرسله واممهم ولما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة النمل انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم كانت فتحاً عظيماً فأمر رسول الله فكتبت على رؤوس السور وظهور الدفاتر واوائل الرسائل وحلف رب العزةبعزته ان لا يسميه عبد مؤمن على شيء الا بورك له فيه وكانت لقائلها حجاب من النار وهي تسعة عشر حرفا تدفع تسعة عشر زبانية وفي الخبر النبوي لو وضعت السموات والارض وما فيهن وما بينهن في كفة والبسملة في كفة لرجحت عليها يعني البسملة
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
{الَّذِى خَلَقَ} وصف الرب به لتذكير اول النعماء الفائضة عليه منه تعالى والتنبيه على ان من قدر على خلق الانسان على ما هو عليه من الحياة وما يتبعها من الكمالات قادر على تعليم القراءة العالم المتكلم اي الذي له الخلق والمستاثر به لا خالق سواه فيكون خلق منزل منزلة اللازم وبه يتم مرام المقام لدلالته على أن كل خلق مختص به أو خلق كل شيء فيكون من حذف المفعول للدلالة على التعميم وقال في فتح الرحمن لما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمى الاصنام اربابا جاء بالصفة التي لا شركة للاصنام فيها فقال الذي خلق{خَلَقَ الانسَـانَ} على الاول تخصيص لخلق الانسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لاستقلاله ببدآئع الصنع والتدبير وعلى الثانى افراد للانسان من بين سائر المخوقات بالبيان وتفخيم لشأنه اذ هو اشرفهم وعليه نزل التنزيل وهو المأمور بالقرآءة ويجوز أن يراد بالفعل الاول ايضا خلق الانسان ويقصد بتجريده عن المفهوم الابهام ثم التفسير روما لتخفيم فطرته {مِنْ عَلَقٍ} جمع علقة كثمر وثمرة وهى الدم الجامد واذا جرى فهو المسفوح اى دم جامد رطب يعلق بما مر عليه لبيان كمال قدرته تعالى باظهار ما بين حالته الاولى والآخرة من التباين البين وايراده بلفظ الجمع حيث لم يقل علقة بناء على أن الانسان فى معنى الجمع لأن الالف فيه للاستغراق لمراعاة الفواصل ولعله هو السر فى تخصيصه بالذكر من بين سائر اطوار الفطرة الانسانية مع كون النطفة والتراب ادل منه على كمال القدرة لكونهما ابعد منه بالنسبة الى الانسانية ولما كان خلق الانسان اول النعم الفائضة عليه منه تعالى واقوم الدلائل الدالة على وجوده تعالى وكماله قدرته وعلمه وحكمته وصف ذاته تعالى بذلك اولا ليستشهد عليه السلام به على تمكينه تعالى من القرءآة
472
(10/363)
حواشي ابن الشيخ إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين لو قال له [العلق : 1]{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى} لا شريك له لا بوا أن يقبلوا ذلك منه لكنه تعالى قدم في ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به حيث أمر رسوله أن يقول لهم إنهم هم الذين خلقوا من العلقة ولا يمكنهم إنكاره ثم أن يقول لهم لا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيقوا ذلك الفعل إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون دون الأوثان لأن الإهية موقوفة على الخالقية ومن لم يخلق شيئاً كيف يكون الها مستحقاً للعبادة ومن هذه الطريقة ما يحكى أن زفر لما بعثه أبو حنيفة رحمه الله إلى البصرة لتقرير مذهبه فيهم فوصل إليهم وذكر أبا حنيفة منعوه ولم يلتفوا إليه فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال له أبو حنيفة إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك ههنا قول آخر فاذكر قولي وحجتي فإذا تمكن ذلك في قلبهم فقل هذا قول أبي حنيفة فإنهم حينئذٍ يستحسنونه فلا يردونه اقرأ} أي افعل ما أمرت به وكرر علامة الأمر بالقراءة تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لما يعقبه من قوله تعالى {وَرَبُّكَ الاكْرَمُ} الخ فإنه كلام مستأنف ولذا وضع السجاوندي علامة الوقف الجائز على خلق وارد لإزاحة ما بينه عليه السلام من العذر بقوله ما أنا بقارىء يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل له وربك الذي أمرك بالقراءة مبتدئاً باسمه وهو الأكرم أي الزائد في الكرم على كل كريم فإنه ينعم بلا غرض ولا يطلب مدحاً أو ثواباً وتخلصاً من المذمة وأيضاً أن كل كريم إنما أخذ الكرم منه فكيف يساوي الأصل.
وقال ابن الشيخ : ربك مبتدأ والأكرم صفته والذي مع صلته خبر {الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره فكما علم القارىء بواسطة الكتابة والقلم يعلمك بدونهاما وقال بعضهم علم الخط بالقلم والقلم ما يكتب به لأنه يقلم ويقص ويطع وفيه امتنان على الإنسان بتعليم علم الخط والكتابة بالقلم ولذلك قيل العلم صيد والكتابة قيده وقيل :
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
وما من كاتب إلا سيبلى
ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء
يسرك في القيامة أن تراه
ولولا القلم ما استقامت أمور الدين والدنيا وفيه إشارة إلى القلم الأعلى الذي هو أول موجود وهو الروح النبوي عليه السلام فإن الله علم القلب بواسطه ما لم يعلم من العلوم التفصيلية.
قال كعب الأحبار أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه السلام ، قبل موته بثلاثمائة سنة ، كتبها في الطين ثم طبخه فاستخرج إدريس ما كتب آدم وهذا هو الأصح وأما أول من كتب خط الرمل فإدريس عليه السلام وأول من كتب بالفارسية طهمورث ثالث ملوك الفرس وأول من اتخذ القراطيس يوسف عليه السلام ، قال السيوطي رحمه الله أول ما خلق الله القلم قال له اكتب ما هو كائن إلى يوم
473
القيامة وأول ما كتب القلم أنا التواب أتوب على من تاب.
قال بعضهم وجه المناسبة بين الخلق من العق وتعليم القلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالماً فالله تعالى امتن على الإنسان بنقله منأدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهو تعلم العلم ثم الله الذي خلق الإنسان على صورته الحقيقية خلقه من علقة النجلى الأولى الحبي المشار إليه بقوله كنت كنزاً مخفياً أحببت أنأعرف فخلقت الخلق فصارت المحبة الذاتية علقة بالإيجاد الحبي وهو أكرم الأكرمين إذ هو جاع محيط بجميع الأسماء الدالة على الكرم كالجواد والواهب والمعطى والرازق وغيرها {عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} بدل اشتمال من علم بالقلم وتعيين للمفعول أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية واخفية ما لم يخطر بباله أصلاً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
(10/364)
فإن قلت : فإذا كان القلم والخط من المن الإلهية فما باله عليه السلام لم يكتب قلت لأنه لو كتب لقيل قرأ القرآن من صحف الأولين ومن كان القلم الأعلى يخدمه واللوح المحفوظ مصحفه ومنظره لا يحتاج إلى تصوير الرسوم وتشكيل اعلوم بآيات الجسمانية لأن الخط صنعة ذهينة وقوة طبيعية صدرت بالآلة الجسمانية وفيه إشارة بديعة إلى أن أمته بين الأمم هم الروحانيون وصفهم سبحانه في الإنجيل أمة محدم أناجيلهم في صدورهم لو لم يكن رسم الخطوط لكانوا يحفظون شرائعه عليه السلام بقلوبهم لكمال قوتهم وظهور استعدادتهم {كَلا} ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يسبق ذكره للمبالغة في الزجر فيوقف عليه وقال السجاوتدي يوقف على ما لم يعلم لأنه بمعنى حقاً ولذا وضع علامة الوقف عليه {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى} أي يتجاوز الحد ويستكبر على ربه بيان للمردوع والمردوع عنه قيل إن هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان وهو الظاهر {أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} مفعول له أي يطغى لأن رأى وعلم نفسه مستغنياً أو أبصر مثل أبي جهل وأصحابه ومثل فرعون ادعى الربوبية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا ولا يستويان أما طالب العلم فيزداد في رضي الله وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان وتعليل طغيانه برؤيته لنفسه الاستغناء للإيذن بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد روى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبريل فقال إن شئت فلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله عن الدعاء إبقاء عليهم ورحمة وأول هذه السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال وكفى بذلك رغباً في العلم والدين ومنفراً عن المال والدنيا وكان عليه السلام يقول : اللهم إني أعوذ بك من غنى يطغى وفقر ينسى.
وفيه إشارة إلى أن الإنسان إذا رأى نفسه مظهر بعض صفات ربه وأسمائه دعها لنفسه ويظن أن تلك الصفات والأسماء الإلهية المودعة فيه بحكمة بالغة ملك له وهو مالكها فيعجب بها وبكمالاتها فيستغنى عن مالكها الذي أودعها فيه ليستدل بها على خالقه وبارئه {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} الرجعى مصدر بمعنى الرجوع والألف للتأنيث أي إن إلى مالك أمرك أيها الإنسان رجوع الكل بالموت
474
والبعث لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فسترى حينئذٍ عاقبة طغيانك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
وآنجاهمه را عمل بكار آيدنه أموال
توانكرى نه بما لست نزد اهل كمال
كه مال تالب كورست وبدع ازان أعمال
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} الاستفهام للتعجيب والرؤية بصرية والخطاب لكل من يأتتى منه الرؤية وتنكير عبداً لتفخيمه عليه السلام كأنه قيل : ينهى أكمل الخلق في العبودية عن عبادة ربه والعدول عن ينهاك إلى ينهى عبداً دال على أن النهي كان للعبد عن إقامة خدمة مولاه ولا أقبح منه روى أن أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش لئن رأيت محمداً يصلى لأطأن عنقه وفي التكملة نهى محمداً عن الصلاة وهم أن يلققى على رأسه حجراً فرآه في الصلاة وهي صلاة الظهر فجاءه ثم نكص على عقبيه فقالوا مالك فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة فنزلت والمراد أجنحة الملائكة أبصر اللعين الأجنحة ولم يبصر أصحابها فقال عليه السلام ، والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية بأبي الحكم لأنهم كانوا يزعمون أنه عالم ذو حكمة ثم سمى أبا جهل في الإسلام.
(10/365)
يقول الفقير : كان عليه اسلام يدعو ويقول اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر فلما أعزه الله بعمر رضي الله عنه دل على أن عمر أسعد قريش كما أن أبا جهل أشقى قريش إذ الأشياء تتبين بأضدادها {أَرَءَيْتَ} رؤية قلبية معناه أخبرني ذلك الناهي وهو المفعول الأول {إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} فيما ينهى عنه من عبادة الله {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي أمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وهذه الجملة الشرطية بجوابها المحذوف وهو ألم يعلم بأن الله يرى سدت مسد المفعول الثاني فإن المفعول الثاني لأرأيت لا يكون إلا جملة استفهامية أو قسمية وإنما حذف جوب هذه الشرطية اكتفاء عنه بجواب الشرطية لأن قوله إن كذب وتولى مقابل للشرط الأول وهو أن كان على الهدى أوامر بالتقوى والآية في الحقيقة تهكم بالناهي ضرورة إنه لسي في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام على هدى البتة {أَرَءَيْتَ} أخبرني ذلك الناهي {إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي إن ان مكذباً للحق معرضاً عن الصواب كما نقول نحن ونظم الأمر والتكذيب والتولى في سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس باعتبار أنفس الأفعال المذكورة من حيث صدورها عن الفاعل فإن ذلك ليس في حير التردد أصلاً بل باعتبار أوصافها التي هي كونها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} جواب للشرطية الثانية أي يطلع على أحواله فيجاريه بها حتى اجترأ على ما فعل أي قد علم ذلك الناهي أن الله يرى فكيف صدر منه ما صدر وإنما أفرد التكذيب والتولي بشرطية مستقلة مقرونة بالجواب مصدرة باستخبار مستأنف ولم ينظمهما في سلك الشرط الأول بعطفهما على كان للإيذان باستقلالهما بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب وأما القسم الأول
475
فأمر مستحيل قد ذكر في حيز الشرط لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريد الشرطية الأولى عن الجواب والإحالة به على جواب الثانية وقيل : العنى أرأيت الذي ينهى عبداً يصلي والمنهي على الهدى أمراً بالتقوى والناهي مكذب متول ولا أعجب من ذا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
برزكان كفته انددر كلمه إن الله يرى هم وعد مندر جست وهم وعيد أي فاسق توبه كن كه ترامييبند أي مرايى اخلاص ورزكه ترامييبند أي درخلوت قصد كناه كرده هش داركه ترامى بيند درويشى بعد ازكناهى توبه كرده بود ويوسته مى كريست كفتند ندمى كريى خداي تعالى غفورست كفت أرى هرند عفو كند خجلت آنراكه أومى ديده ه كونه دفع كنم.
كيرم كه تواز سركنه در كذرى
زان شرم كه ديدى كه ه كردم ه كنم
قال أبو الليث رحمه الله : والآية عظة لجميع الناس وتهديد لمن يمنع عن الخير وعن الطاعة وقال ابن الشيخ في حواشيه وهذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل لكن كل من نهى عن طاعة فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد ولا يلم عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه غير الصلاة وهو المعصية فإن عدم مشروعية اوصف المقارن وكونه مستحقاً لأن ينهى عنه لاي نافي مشروعية أصل الصلاة إلا أنه لشدة الاصال بينهما بحيث يكون النهي عن الوصف موهماً للنهي عن الأصل احتاط فيه بعض الأكابر حتى روى عن علي رضي الله عنه ، إنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعل ذلك فقيل له ألا ننهاهم فقال أخشى أن ندخل تحت وعيد قوله تعالى : [العلق : 9-6]{أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} فلم يصرح بالنهي عن الصلاة احتياطاً وأخذ أبو حنيفة هذا الأدب الجمل حتى قال له أبو يوسف أيقول المصلى حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي قال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي كلا} ردع للناهي اللعين وخسو له عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة اللات {لَـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ} اللام موطئة للقسم المضمر أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر ولم يتب ولم يسلم قبل الموت والأصل ينتهي بالياء يقال نهاه ينهاه نهيا ضد أمره فانتهى {لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} أصله لنسفعن بالنون الخفيفة للتأكيد ونظيره وليكونا من الصاغرين كتب في المصحف بالألف على حكم الوقف فإنه يوقف على هذه النون بالألف تشبيهاً لها بالتنوين والسفع القبض على الشيء وجذبه بعنف وشدة والناصية شعر مقدم الرأس والمعنى لنأخذن في الآخرة بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار بمعنى لتأمرن الزبانية ليأخذوا بناصيته ويجروه إلى النار بلتحقير والإهانة وكانت العرب تألف من جر الناصية وفي "عين المعاني" الأخذ بالناصية عبارة عن القهر والهوان والاكتفاء بلام العهد عن الإضافة لظهور أن المراد ناصية الناهي المذكور ويحتمل أن يكون المراد من هذا السفع سحبه على وجهه في الدنيا يوم بدر فيكون بشارة بأن يمكن الملمين من ناصيته حتى يجروه على وجهه إذا عاد إلى النهي فلما عاد مكنهم الله من ناصيته يوم بدر.
(
(10/366)
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
روى) أنه لما نزلت سورة الرحمن ، قال عليه السلام : "من يقرأها على رؤساء قريش فتثاقلوا" فقام ابن
476
مسعود رضي الله عنه ، وقال أنا فأجلسه عليه السلام ثم قال ثانياً من يقرأها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود رضي الله عنه ، ثم ثالثاً إلى أن أذن له وكان عليه السلام ، يبقى عليه لما كان يعلم ضعفه وصغر جثته ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة فقام أبو جهل فلطمه فشق إذنه وادماها فانصرف وعينه تدمع فلما رآه عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً فإذا جبرائيل جاء ضاحكاً مستبشراً فقال يا جبرائيل تضحك ويبكى ابن مسعود فقال سيعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر الشمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد فقال له عليه السلام ، خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان له رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منحره من بعيد فطعنه ولعل هذا قوله سنسمه على الخرطوم ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى عليه بحيلة فلما رآه أبو جهل قال له يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباًقال ابن مسعود الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فقال له أبو جهل بلغ صاحبك إنه لم يكن أحد أبغض إلى منه في حال مماتي فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال آمنت وهو قد زاد عتوا ثم قال ابن مسعود اقطع بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع فلما قطع رأسه لم يقدر عى حمله فشق إذنه وجعل الخيط فيها وجعل يجره إلى رسول الله عليه السلام ، وجبرائيل بين يديه يضحك ويقول يا محمد إذن بإذن لكن الرأس ههنا مع الإذن مقطوع ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً حتى لم يقو على الرأس المقطوع لوجوه أحدها أن أبا جهل كلب والكلب يجر ولا يحمل والثاني ليشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث ليحقق الوعيد المذكور بقوله لنسفعا بالنصاية فيجر تلك الرأس على مقدمها قال ابن الشيخ والناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر ناصية ثم إنه تعالى كنى بها ههنا عن الوجه والرأس ولعل السبب في تخصيص السفع بها إن اللعين كان شديد الاهتمام بترجيل الناصية وتطييبها {نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} بدل من الناصية وإنما جاز أبدالها من المعرفة وهي نكرة لوصفها وصوف الناصية بالكذب والخطأ على الإسناد الجازي وهما لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء كأن الكافر بلغ في الكذب قولاً والخطأ فعلاً إلى حيث أن كلا من الكذب والخطأ ظهر من ناصيته وكان أبو جهل كاذباً على الله في أنه لم يرسل محمداً كاذباً في أنه ساحر ونحوه وخاطئاً بما تعرض له عليه السلام بأنواع الأذية {فَلْيَدْعُ} من الدعوة يعنى كوبخاند أبو جهل {نَادِيَهُ} أي أهل ناديه ومجلسه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدى فيه القوم أي يجتمعون وقدر المضاف لأن نفس الجلس والمكان لا يدعى ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه له ودار الندوة بمكة كانوا يجتمعون فيها للتشاور وهي الآن لمحفل الحنفي روى أن أبا جهل مر برسول الله وهو يصلي فقال ألم ننهك فاغلظ رسول الله فقال أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً يريد كثرة من يعينه فنزلت {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار وواحد منهم يغلب على ألف ألف من أمثال أهل ناديه.
477
قال عليه السلام : "لو دعا ناديه الزبانية عياناً".
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
(10/367)
اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من سندع خطا ولا موجب للحذف من العربية لفظاً ولعله للمشاكلة مع فليدع أو للتشبيه بالأمر في أن الدعاء أمر لابد منه قوال ابن خالويه في إعراب الثلاثين آية الأصل سندعو بالواو غير أن الواو ساكنة فاستثقلها اللام ساكنة فسقطت الواو في المصحف من سندع ويدع الإنسان ويمح الله الباطل وكذلك الياء من واد النمل وإن الله لهاد الذين آمنوا والعلة فيهاما أنبأتك من بنائهم الخط على اللفظ انتهى والزبانية في الأصل في كلام العرب الشرط كصرد جمع شرطة بالضم وهم طائفة من أعوان الولاة سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها كما في "القاموس" والشرط بالتحريك العلامة والواحد زبنية كعفرية وعفرية الديك شعرة القفا التي يردها إلى يافخوخه عند الهراش من الزبن بالفتح كالضرب وهو الدفع لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهم بشدة وبطش يعني أن ملائكة العذاب سموا بما سمى به الشرط تشبيهاً لهم بهم في البطش والقهر والعنف والدفع وقيل الواحد زبنى وكأنه نسب إلى الزبن ثم غير إلى زبانية كأنسى بكسر الهمزة وأصلها زبني وقيل زبانية بتعويض التاء عن الياء بعد حذفها للمبالغة في الدفع وفيه إشارة إلى التجليات القوية الجلالية الجرارة أبا جهل النفس الأمارة وأهل ناديه الذي هو الهوى وقوه الظلمانية إلى نار الخذلان وجهنم الخسران {كَلا} ردع بعد ردع للناهي المذكور وزجر له أثر زجر فهو متصل بما قبله ولذا جعلوا الوقف عليه وقفا مطلقاً {لا تُطِعْهُ} أي دم على ما أنت عليه من معاصاة ذلك الناهي الكاذب الخاطىء كقوله تعالى : {لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ} وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث به {وَاقْتَرِب} وتقرب بذلك السجود إلى ربك وفي الحديث : "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد فأكثروا من الدعاء في السجود" كلمة ما مصدرية وأقرب مبتدأ حذف خبره ويكن تامة أي أقرب وجود العبد من ربه حاصل وقت سجوده.
ودر فتوحات اين راسجده قرب كفته.
وهذا محل سجود عند الثلاثة خلافاً لمالك ومم عن أصولهم في قولهم بالوجوب والسنية ثم إن السجود إشارة إلى إزالة حجاب الرياسة وفي الحديث : "لا كبر مع السجود" يعني هركه سجده آرد از كبر دور كست وبر دركاه الله شرف متواضعان يافت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 470
روى أن إبراهيم عليه السلام ، أضاف يوماً مائتي مجوسي فلما أكلوا قالوا أمرنا يا إبراهيم ، قال : إن لي إليكم حاجة فقالوا ما حاجتك قال اسجدوا لربي سجدة واحدة فتشاوروا فيما بينهم فقالوا إن هذا الرجل قد صنع معروفاً كثيراً فلو سجدنا لربه ثم رجعنا إلى آلهتنا لا يضرنا ذلك بشيء فسجدوا جميعاً فلما وضعوا رؤوسهم على الأرض ناجى إبراهيم ربه فقال إني جهدت جهدي حتى حملتهم على هذا ولا طاقة لي على غيره وإنما التوفيق والهداية بيدك اللهم زين صدورهم بالإسلام فلما رفعوا رؤوسهم من السجود أسلموا وللسجدة أقسام سجدة الصلاة وسجدة التلاوة وسجدة السهو وهذه مشهورة وسجدة التعظيم لجلال الله وكبريائه وسجدة التضرع إليه خوفاً وطمعاً وسجدة الشكر له وسجدة المناجاة وهذه مستحبة في الأصح صادرة عن
478
الملائكة وعن رسول الله عليه السلام وسائر الأنبياء والأولياء عليهم السلام وقال أبو حنيفة ومالك سجود الشكر مكروه فيقتصر على الحمد والشكر باللسان وقال الأمامان هي قربه يثاب فاعلها.
وقال القاشاني : قرأ عليه السلام ف هذه السجدة أي سجدة اقرأ "أعوذ بعفوك من عقابك" أي بفعل لك من فعل لك "وأعوذ برضاك من سخطك" أي بصفة لك من صفة لك "وأعوذ بك منك" أي بذاتك من ذاتك وهو معنى اقترابه بالسجود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 470(10/368)
تفسير سورة القدر
خمس أو ست آيات مكية وقيل مدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 478
{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} النون للعظمة أو للدلالة على الذات مع الصفات والأسماء والضمير للقرآن لأن شهرته تقوم مقام تصريحه اسمه وإرجاع الضمير إليه فكأنه حاضر في جميع الأذهان وعظمه بأن أسند إنزاله إلى جنابه مع أن نزوله إنما يكون بواسطة الملك وهو جبرائيل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنوي إلا أنه اكتفى بذكر الأصل عن ذكر التبع قال في بعض التفاسير إنا أنزلناه مبتدأ أو خبر في الأصل بمعنى نحن أنزلناه فأدخل أن للتحقيق فاختير اتصال الضمير للتخفيف ومعنى صيغة الماضي إنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضينا به وقدرناه في الأزل ثم إن الإنزال يستعمل في الدفعى والقرآن لم ينزل جملة واحدة بل أنزل منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة وهذه السورة من جملة ما أنزل ووابه أن المراد أن جبرائيل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا وأملاه على السفرة أي الملائكة الكاتبين في تلك السماء ثم كان ينزل على النبي عليه السلام منجماً على حسب المصالح وكان ابتداء تنزيله أيضاً في تلك الليلة وفيه إشارة إلى أن بيت العزة أشرف المقامات السماوية بعد اللوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه ولذلك قيل بفضل السماء الأولى على أخواتها لأنها مقر الوحي الرباني وقيل لشرف المكان بالمكين وكل منهما وجه فإن السلطان إنما ينزل على أنزه مكان ولو فرضنا نزوله على مسبخة لكفى نزوله هناك شرفاً لها فالمكان الشريف يزداد شرفاً بالمكين الشريف كما سبق في سورة البلد ففي نزول القرآن بالتدريج إشارة إلى تعظيم الجناب المحمدي كما تدخل الهدايا شيئاً بعد شيء على أيدي الخدام تعظيماً للمهدي إليه بعد التسوية بينه وبين موسى عليهم السلام بإنزاله جملة إلى بيت العزة وفي التدريج أيضاً تسهيل للحفظ وتثبيت لفؤاده كما قال تعالى وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لتثبت به فؤادك وكلام الله المنزل قسمان القرآن والخبر القدسي لأن جبرائيل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبرائل أداها بالمعنى ولم تجز القراءة المعنى لأن جبرائيل أداها باللفظ والسر في ذلك التعبد بلفظه والإعجاز به فإنه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظاً ومن الأسرار معنى فكيف يقوم لفظ الغير ومعناه مقام حرف القرآن ومعناه ثم إن اللوح المحفوظ قلب هذا التعين
479
جزء : 10 رقم الصفحة : 479(10/369)
ولكن قلب الإنسان ألطف منه لأنه زبدته وأشرفه لأن القرآن نزل به الروح الأمين على قلب النبي المختار وهنا سؤال وهو الملائكة بأسرهم صعقوا ليلة نزول القرآن من حضرة اللوح المحفوظ إلى حضرة بيت العزة فما وجهه والجواب أن محمداً صلى الله عليه وسلّم عندهم من أشراط القيامة والقرآن كتابه فنزوله دل على قيام الساعة فصعقوا هيبة منه وإجلالاً لكلامه وحضرة وعده ووعيده وفي بعض الأخبار إن الله تعالى إذا تكلم بالرحمة تكلم بالفارسية والمراد بالفارسية لسان غير العرب سريانياً كان أو عبرانياً وإذا تكلم بالعذاب تكلم بالعربية فلما سمعوا العربية المحمدية ظنوا أنه عقاب فصعقوا وسيأتي معنى القدر ثم القرآن كلامه القديم أنزله في شهر رمضان كما قال تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وهذا هو البيان الأول ولم ندر نهاراً أنزل فيه أم ليلاً فقال تعالى : [الرحمن : 44-4]{إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ} وهذا هو البيان الثاني ولم ندراي ليلة هي فقال تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر فهذا هو البيان الثالث الذي هو غاية البيان فالصحيح أن الليلة التي يفرق فيها في كل أمرح كيم وينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها هي ليلة القدر ولتقدير الأمور فيها سميت ليلة القدر ويشهد التنزيل لما ذكرنا إذ في أول الآية إنا أنزلناه في ليلة باركة ثم وصفها فقال فيها يفرق كل أمر حكيم والقرآن إنما نزل في ليلة القدر فكاتن هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر كذا في قوت القلوب للشخ أبي طالب المكي قدس سره فإن قلت ما الحكمة في إنزال القرآن ليلاً قلت لأن أكثر الكرامات ونزول النفحات والإسراء إلى السموات يكون بالليل والليل من الجنة لأنها محل الاستراحة والنهار من النار لأن فيه المعاش والتعب والنهار حظ اللباس والفراق والليل حظ الفراش والوصال وعبادة الليل أفضل من عبادة النهار لأن قلب الإنسان فيه أجمع والمقصود هو حضور القلب قال بعض العارفين : أعمل التوحيد في النهار والاسم في الليل حتى تكون جامعاً بين الطريقتين الجلوتية بالجيم والخلوتية ويكون التوحيد والاسم جناحين لك وما أدراك ما ليلة القدر} أي وأي شيء أعلمك يا محمد ما هي أي إنك لا تعل كنهها لأن علو قدرها خارج عن دائرة دراية اللخق لا يدريها ولا يدريها الإعلام الغيوب وهو تعظيم للوقت الذي أنزل فيه ونم عض فضائل ذلك الوقت إنه يرتفع سؤال القبر عمن مات فيه وكذا في سائر الأوقات الفاضلة ومن ذلك العيد ثم مقتضى الكرم أن لا يسأل بعده أيضاً وقد وقع تجلى الأفعال لسيد الأنبياء عليه السلام في رجب ليلة الجمعة الأولى بين العشاءين فلذا استحب صلاة الرغائب وقتئذٍ وتحلى الصفات في نصف شعبان فلذا استحب صلاة البراءة بعد العشاء قبل الوتر وتجلى الذات في ليلة القدر ولذلك استحب صلاة القدر فيها كما سيجيء ولما كان هذا معرباً عن الوعد بإدرائها قال
جزء : 10 رقم الصفحة : 479
{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} القيامها والعبادة فيها {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي من صيامها وقيامها ليس فيها ليلة القدر حتى لا يلزم تفضيل الشيء على نفسه فخير هنا للتفضيل أي أفضل وأعظم قدراً وأكثر أجراً من تلك المدة وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر وفي الحديث من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه
480
(10/370)
وما تأخر ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في "كشف الأسرار" قال الخطابي : قوله إيماناً واحتساباً أي بنية وعزيمة وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طبية به نفسه غير كاره له ولا مستثقل لصايمه ولا مستطيل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب ، وقال البغوي : قوله احتساباً أي طلباً لوجه الله وثوابه يقال فلان يحتسب الأخبار أي يطلبها كذا في الترغيب والترهيب والمراد بالقيام صلاة التراويح ، وقال بعضهم : المراد مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل قوله غفر له ما تقدم من ذنبه قيل المراد الصائر وزاد بعضهم ويخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة وقوله وما تأخر هو كناية عن حفظهم من الكبائر بعد ذلك أو معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة كذا في "شرح الترغيب" المسمى بفتح القريب وقال سعيد بن السميب من شهد المغرب والعشاء في جماعة فقد أخذ حظه من ليلة القدر كما في "الكواشي" ثم أن نهار ليلة القدر مثل ليلة القدر في الخير وفيه إشارة إلى أن ليلة القدر للعارفين خير من ألف شهر للعابدين لأن خزائنه تعالى مملوءة من العبادات ولا قدر إلا للفناء وأهله وللشهود وأصحابه واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها لقوله عليه السلام : "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، فاطلبوها في كل وتر" وإنما جعلت في الشعر الأخير الذي ه ومظنة ضعف الصائم وفتوره في العبادة لتجدد جده في العبادة رجاء إدراكها وجعلت في الوتر لأن الله وتر يحب الوتر ويتجلى في الوتر على ما هو مقتضى الذات اْدية وأكثر الأقوال إنها السابعة لأمارات وأخبار تدل على ذلك أحدها حديث ابن عباس رضي الله عنهما السورة ثلاثون كلمة وقوله هي السابعة والعشرون منها ومنها ، ما قال ابن عباس : أيضاً للة القدر تسعة أحرف وهو مذكور في هذه السورة ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين ومنها إنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر ، قال : إذا كانت تلك الليلة فاعلمني فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان ومن قال إنها هي الليلة الأخيرة من رمضان استدل بقوله عليه السلام إن الله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار يعتق ألف ألف عتيق من النار كلهم استوجبوا العذاب فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في تلك الليلة بعدد من أعتق من أول الشهر إلى آخره ولأن الليلة الأولى كمن ولد له ذكر فهي ليلة شكر والليلة الأخيرة ليلة الفراق كمن مات له ولد فهي ليلة صبر وفرق بين الشكر والصبر فإن الشاكر مع المزيد كقوله تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 479
{لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} والصابر مع الله لقوله تعالى : إن الله مع الصابرين وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سألت النبي عليه السلام لو وافقتها ماذا أقول قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وعنها أيضاً لو أدركتها ما سألت الله إلا العافية وفيه إشارة إلى ما قال عليه السلام : اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة ولعل السر في إخفائها تحريض من يريدها لثواب الكثير بإحياء الليالي الكثيرة رجاء لموافقتها.
481
كتاب تفسير روح البيان ج10 من ص482 حتى ص492 رقم49
أي خواجه ه كويى زشب قد رنشاني
هر شب شب قدرست اكر قدر بداني
ونظيره إخفاء ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس واسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل وغضبه في المعاصي ليحتزوا عن الكل ووليه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل.
خورش ده بكنجشك وكبك وحمام
كه يك روزت افتدهماي بدام
والمستجاب من الدعوات في سائرها ليدعوه بكلها.
ه هر كوشه تيرنياز افكني
اميدست كه ناكه كه صيدي زنى
ووقت الموت ليكون المكلف على احتياط في جميع الأوقات وتسميتها بليلة القدر إما لتقدير الأمور وقضائها فيها لقوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم أي : إظهار تقديرها للملائكة ، بأن تكتبها في اللوح المحفوظ وإلا فالتقدير نفسه أزلي فالقدر بمعنى التقدير وهو جعل الشي على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، إن الله قدر فيها كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة وغيرها إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية فيسلمه إلى مدبرات الأمور من لملائكة فيدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل ونسخة الحروب والرياح والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرائيل ونسخة الأعمال إلى إسرافيل ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
فكم من فتى يمسى ويصبح آمنا
وقد نسجت اكفانه وهو لا يدري
وكم من شيوخ ترتجى طول عمرهم
وقد رهقت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد قبضت أرواحهم ليلة الدر
جزء : 10 رقم الصفحة : 479
(10/371)
يقال إن مكيائيل هو الأمين على الأرزاق والأغذية المحسوسة ويقابله منك الكبد فهو الذي يعطى الغذاء لجميع البدن وكذلك إسرافيل يغذى الأشباح بالأرواح ويقابله منك الدماغ وجبرائيل يغذى الأرواح بالعلوم والمعارف ويقابله منك العقل وكل محدث لا بد له من غذاء فغذاء الجسم بالتأليف والعقل بالعلوم الضرورية والروح القدسي أيضاً متعطش ولا يرتوى إلا بالعلوم الإلهية هذا وإما لخطرها وشرفها على سائر الليالي فالقدر بمعنى المنزلة والشرف إما باعتبار العامل على معنى أن من أتى بالطاعة فيها صار ذا قدر وشرف وإما باعتبار نفس العمل على معنى أن الساطعة الواقعة في تلك الليلة لها قدر وشرف زائد وعن أبي بكر الوراق رحمه الله ، سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي القدر لأمة لها قدر ولعله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب ، وقال الخليل رحمه الله : سميت ليلة القدر أي ليلة الضيق لأن الأرض
482
تضيق فيها بالملائكة فالقدر بمعنى الضيق ، كما في قوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه وتخصيص الألف بالذكر إما للتكثير لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها ولا تريد حقيقتها أو لما روى أنه عليه السلام ، ذكر رجلاً من بني إسرائيل اسمه شمسون لبس السلاح في سبيل الله ، ألف شهر فتعجب المؤنون منه وتقاصرت إليهم أعمالهم بأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي وقيل إن الرجل فيما مضى كا نلا يقال له عابد حتى يعبد الله ألف شهر فأعطوا ليلة أن أحيها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقيل : رأى النبي عليه السلام ، أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر وجعلنا خيراً من ألف شهر لسائر الأمم وقيل : كان ملك سليمان عليه السلام ، خمسمائة شهر وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما وروى عن الحسن بن علي بن أبي طالب أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية إن الله أرى نبيه عليه السلام ، في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة أي يثبون فاغتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير له ولذريته ولأهل بيته من ألف شهر وهي مدة ملك بني أمية وأعلمه إنهم يملكون أمر الناس هذا القدر من الزمان ثم كشف الغيب إن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوكهم هذا القدر من الزمان بعينه كما في فتح الرحمن ودل كلام الله تعالى على ثبوت ليلة القدر فمن قال إن فضلها كان لنزول القرآن يقول انقطعت فكانت مرة والجمهور على إنها باقية آتية في كل سنة فضلاً من الله ورحمة على عباده غير مختصة برمضان عند البعض وهو قول الامام أبي حنيفة رحمه الله ، وحضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر حتى لو علق أحد طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر فإنه لا يحكم به إلا بأن يتم الحول وعند الأكثرين مختصة به وكان عليه السلام ، إذا دخل العشر شد مزره وأحيى ليله وأيقظ أهله وكان الصالحون يصلون في ليلة من العشر ركعتين بنية قيام ليلة القدر وعن بعض الأكابر من قرأ كل ليلة عشر آيات على تلك النية لم يحرم بركتها وثوابها قال الامام أبو الليث رحمه الله : أقل صلاة ليلة القدر ركعتان وأكثرها ألف ركعة وأوسطها مائة ركعة وأوسط القراءة في كل ركعة أن يقرأ بعد الفاتحة إنا أنزلناه مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات ، ويسلم على كل ركعتين ويصلى على النبي عليه السلام بعد التسليم ويقوم حتى يتم ما أراد من مائة أو أقل أو أكثر ويكفي في فضل صلاتها ما بين الله من جلالة قدرها وما أخبر به الرسول عليه السلام من فضيلة قيامها وصلاة التطوع بالجماعة جائزة من غير كراهة لو صلوا بغير تداع وهو الأذان والإقامة كما في الفرائض صرح بذلك كثير من العلماء قال شرخ النقاية وغيره وفي المحيط لا يكره الاقتداء بالامام في النوافل مطلقاً نحو القدر والرغائب وليلة النصف من شعبان ونحو ذلك لأن ما رأه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن فلا تلتفت إلى قول من لا مذاق لهم من الطاعنين فإنهم بمنزلة العنين لا يعرفون ذوق المناجاة وحلاوة الطاعات وفضيلة الأوقات.
483
جزء : 10 رقم الصفحة : 479
هركس ازجلوه كل فهم معاني نكند
شرح آن دفتر ننوشته زبلبل بشنو
(10/372)
تنزل الملائكة والروح فيها} استئناف مبني لماله فضلت على ألف شهر وأصل ينزل تتنزل بتاءين والظاهر أن المراد كلهم للإطلاق وقد سبق معنى الروح في سورة النبأ ، وقال بعضهم : إنه ملك لو التقم السموات والأرضين كانت له لقمة واحدة أو هو ملك رأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس كل رأس أعظم من الدنيا وفي كل رأس ألف وجه وفي كل وجه ألف فم وفي كل فم ألف لسان يسبح الله بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد لكل لسان لغة لا تشبه الأخرى فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خر كل ملائكة السموات سجداً مخافة أن يحرقهم نور أفواهه وإنما يسبح الله غدوة وعشية فينزل تلك الليلة فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد عليه السلام بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر أو هو طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد أو هو عيسى عليه السلام ، لأنه اسمه ينزل في موافقة الملائكة ليطالع أمة محمد عليه السلام.
ودر تفسير جواجه محمد ارسا رحمه الله ، مذكوراست كه روح حضرت محمد صلى الله عليه وسلّم فرودايد.
وفي الحديث لأنا أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث وكان الثلاث عشر مرات ثلاثين لأن الحسين رضي الله عن ، قتل في رأس الثلاثين سنة فغضب على أهل الأرض وعرج به إلى عليين وقد رآه بعض الصالحين في النوم فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي إما ترى فتن أمتك فقال زادهم الله فتنة قتلوا الحسين ولم يحفظوني ولم يراعوا حقي فيه وعلى كل تقدير فالمعنى تنزل الملائكة والروح في تلك الليلة من كل سماء إلى الأرض وهو الأظهر لأن الملائكة إذا نزلت في سائر الأيام إلى مجلس الذكر فلأن ينزلوا في تلك الليلة مع علو شأنها أولى أو إلى السماء الدنيا قالوا ينزلون فوجاً فوجاً فمن نازل ومن صاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة ومواضع النسك بأسرهم لكن الناس بين داخل وخارج ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر وذكر لفظ تنزل المفيد للتدريج وبه يندفع ما يرد أن الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتملها الأرض وكذا السماء على أن شأن الأرواح غير شأن الأجسام والملائكة وإن كان لهم أجسام لطيفة يقال لهم : الأرواح ، وقال بعضهم : النازلون هم سكان سدرة المنتهى ، وفيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ومقام جبرائيل في وسطها ولا يدخلون أي الملائكة النازلون الكنائس وبيوت الأصنام والأماكن التي فيها الكلب والتصاوير والخبائث وفي بيوت فيها خمر أو مدمن خمر أو قطاع رحم أو جنب أو آكل لحم خنزيراً ومتضمخ بالزعفران وغير ذلك ، والتضمخ بالفارسية بوى خوش برخويشتن آلودن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 479
ويعدى بالباء كما في تاج المصادر وقال في "القاموس" التضمخ لطخ الجسد بالطيب حتى كأنه يقطر قوله الروح معطوف على الملائكة والضمير لليلة القدر والجار متعلق بتنزل ويجوز أن يكون والروح فيها جملة اسمية في موقع الحال من فاعل تنزل والضمير للملائكة والأول هو لوجه لعدم احتياجه إلى ضمير فيها {بِإِذْنِ رَبِّهِم} أي بأمره متعلق بتنزل وهو بدل
484
على أنهم كانوا يرغبون إلينا ويشتاقون فيستأذن فيؤذن في النزول إلينا لهم فإن قيل كيف يرغبوا إلينا مع علمهم بكثرة ذنوبنا قلنا لا يقفون على تفصيل المعاصي روى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا يرونه فحينئذٍ يقولون سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح ولأنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات كأطعام الطعام وأنين العصاة وفي الحديث القدسي : "لأنين المذنبين أحب إلى من زجل المسبحين فيقولون تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتاً هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا وكيف لا يكون أحب وزجل المبحين إظهار لكمال حال المطيعين وأنين العصاة إظهار لغافرية رب العالمين.
نصيب ماست بهشت أي خدا شناس برو
كه مستحق كرامت كنا هكارانند
جزء : 10 رقم الصفحة : 479
(10/373)
{مِّن كُلِّ أَمْرٍ} متعلق بتنزل أيضاً أي من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر أو بكل أمر من الخير والبركة كقوله تعالى : [الرعد : 11-5]{يَحْفَظُونَه مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي بأمر الله قيل يقسم جبرائيل في تلك الليلة بقية الرحمة في دار الحرب على من علم الله أنه يموت مسلماً فبتلك الرحمة التي قسمت عليهم ليلة القدر يسلمون ويموتون مسلمينفإن قيل المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلما ذا تنزيل الملائكة فيها لأجل تلك الأمور قيل لعل تنزلهم لتعين انفاذ تلك الأمور وتنزلهم لأجل كل أمر ليس تنزل كل واحد لأجل كل أمر بل ينزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات سلام هي} تقديم الخبر لأفادة احصر مثل تميمي أنا أي ما هي إلا سلامة أي لا يحدث فيها داء ولا شيء من الشرور والآفات كالرياح والصواعق ونحو ذلك مما يخاف منه بل كل ما ينزل في هذه الليلة إنما هو سلامة ونفع وخير ولا يستطيع الشيطن فيها سوأ ولا ينفذ فيها سحر ساحر والللة ليست نفس السلامة بل ظرف لها ومع ذلك وصفت بالسلامة للمبالغة في اشتمالها عليها وعلم منه أنه يقضى في غير ليلة القدر كل من السلامة والبلا يعني يتعلق قضاء الله بهما أو ما هي الإسلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين ومن إصابته التسليمة غفر له ذنبه وفي الحديث : "ينزل جبرائيل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة" أي : جماعة متضامة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد بذكر الله {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي وقت طلوعه قدر المضاف لتكون الغاية من جنس المغيا فمطلع بفتح اللام مصدر ميمي ومن قرأ بكسر اللام جعله اسما لوقت الطلوع أي اسم زمان وحتى متعلقة بتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أيلمكثهم في تنزلهم أو لنفس تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر.
وقال بعضهم : ليلة القدر من غروب الشمس إلى طلوع الفجر سلام ، أي يسلم فيها الملائكة على الطميعين إلى وقت طلوع الفجر ثم يصعدون إلى السماء فحتى متعلقة بسلام قالها علامة ليلة القدر إنها ليلة لا حارة ولا باردة وتطلع الشمس صبيحتها لإشعاع لها لأن الملائكة تصعد عند طلوع الشمس إلى السماء فيمنع صعودها انتشار شعاعها لكثرة الملائكة
485
أو لأنها لا تطلع في هذه الليلة بين قرني الشيطان فإنها على ما جاء بعض الأحاديث تطلع كل يوم بين قرني الشيطان ويزيد الشيطان في بث شعاعها وتزيين طلوعها ليزيد في غرور الكافرين ويحسن في أعين الساجدين وقد سبق أنه يعذب الماء الملح تلك الليلة وإما النور الذي يرى ليلة القدر فهو نور أجنحة الملاكئة أو نور جنة عدن تفتح أبوابها ليلة القدر أو نور لواء الحمد أو نور أسرار العارفين رفع الله الحجب عن أسرارهم حتى يرى الخلق ضياءها وشعاعها وهو المناسب لحقيقة ليلة القدر فإن حقيقتها عبارة عن انكشاف الملكوت لقلب العارف فإذا تنول الباطن بنور الملكوت انعكس منه إلى الظاهر وفي الحديث من قرأ سورة القدر أعطى ثواب من صام رمضان وأحيى ليلة القدر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 479(10/374)
تفسير سورة البينة
والبينة والبرية ثمان أو تسع آيات مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 485
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي اليهود والنصارى وإيراد الصلة فعلاً لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم {وَالْمُشْرِكِينَ} أي عبدة الأصنام ومن للتبيين لا للتبعيض حتى لا يلزم أن لا يكون بعض المشركين كافرين وذلك أن الكفار كانوا جنسين أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى والمشركين وهم الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب فذكر الله الجنسين بقوله الذين كفروا على الإجمال بالتفصيل والتبيين وهو قوله من أهل الكتاب والمشركين وهو حال من الواو في كفروا أي كائنين منهم {مُنفَكِّينَ} خبر كان أي عما كانوا عليه من الوعيد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان والعزم على إنجازه وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخرا لزمان ويقولون لأعدائهم من المشكين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وارم وإما من المشركين فلعله قد وقع من متأخريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب واعتقد وأصحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم كما يشهد به أنهم كانوا يسألونهم عن رسول الله هل هو المذكور في كتبهم وكانوا غرونهم بتغيير نعوته وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه كالعظم إذا انفك من مفصله وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم أي لم يكونوا مفارقين للوعد المذكور بل كانوا مجمعين عليه عازمين على إنجازة {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} التي كانوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماع الكلمة والاتفاق على الحق فجعلوه ميقاتاً للانفكاك والافتراق وأخلاق الوعد والتعبير عن إتيانها بالمضارع باعتبار حال المحكى لا الحكاية والبينة الحجة الواضحة {رَسُولٌ} بدل من البينة عبر عنه عليه السلام بها للإيذان بغاية ظهور أمره وكونه ذلك الموعود في الكتابين {مِّنَ اللَّهِ} متعلق بمضمر هو صفة لرسول مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية
486
بالفخامة الإضافية أي رسول وأي رسول كائن منه تعالى {يَتْلُوا} صفة أخرى {صُحُفًا} جمع صحيفة وهي ظرف المكتوب ومحله من الأوراق {مُّطَهَّرَةً} أي منزهة من الباطل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن أن يمسه غير المطهرين.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
وقال الكاشفي) : صحيفهاى اكيزه از كذب وبهبان.
ونسبة التلاوة إلى الصحف وهي القراطيس مجازية أو هي مجاز عمافيها بعلاقة الحلول والمراد أنه لما كان ما يتلوه الذي هو القرآن مصدقاً لصحف الأولين مطابقاً لها في أصولي الشرائع والأحكام صار متلوه كأنه صحف الأولين وكتبهم فعبر عنه باسم الصحف مجازاً.
(قال الكاشفي) : قرآنرا صحف كفت براي تعظيم با آنكه جامع أسرار جميع صحفست قال في "عين المعاني" وسميت الصحف لأنها أصحف بعضها على بعض أي وضع {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} صفة لصحف أي في تلك الصحف أمور مكتوبة مستيمة ناطقة بالحق والصاب وبالفارسية دران صحيفها توشتهاى راست ودرست يعني أحكام.(10/375)
ومواعظ وفي "المفردات" إشارة إلى ما فيه من معاني كتب الله فإن القرآن مجمع ثمرة كتب الله المتقدمة {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} عما كانوا عليه من الوعد وأفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم وإنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى خضوا بالذكر لأن جحود العالم أقبح وأشنع من إنكار الجاهل {إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} استثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله عليه السلام ، هو الموعود في كتابهم دلالة جلية لا ريب فيها {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا أي والحال إنهم ما أمروا بما أمروا في كتابهم لشيء من الأمور إلا لأجل أن يعبدوا الله وهذه اللام في الحقيقة لام الحكمة والمصلحة يعني أن فعله تعالى وإن لم يكن معللاً بالغرض إلا أنه مغياً بالحكم والمصالح وكثيراً ما تستعمل لام الغرض في الحكمة المترتبة على الفعل تشبيهاً لها بها في ترتبها على الفعل بحسب الوجود وفي حصر علة كونهم مأمورين بما في كتبهم من عبادة الله بالإخلاص حيث قيل وما أمروا بما أمروا إلا لأجل أن يتذللوا له ويعظموه غاية التذلل والتعظيم ولا يطلبوا في امتثال ما كلفوا به شيئاً آخر سوى التذلل لربهم ومالكهم كثواب الجنة والخلاص من النار دليل ما ذهب إليه أهل السنة من أن العبادة ما وجبت لكونها مقضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد والنجاة من عذابا لنار بل لأرجل إنك عبد وهو رب ولو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة ثم أمرك بالعبادة وجبت لمحض العبودية ومقتضى الربوبية والمالكية وفيه أيضاً إشارة إلى أن من عبد الله للثواب والعقاب فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب والحق واسطة فالمقصود الأصلي من العبادة هو المعبود وكذا الغاية من العرفان المعروف فعليك بالعبادة للمعبود وبالعرفان للمعروف وإياك وإن تلاحظ شيئاً غير الله تعالى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
عاشقانرا شادماني وعم اوست
دست مزدوا جرت خدمت مم اسوت
وقال بعضهم : الأظهر أن تجعل لام ليعبدوا الله زائدة كما تزاد في صلة الإرادة فيقال أردت
487
لتقوم لتنزيل الأمر منزلة الإرادة فيكون المأمور به هذه الأمور من العبادة ونحوها كما هو الظاهر ثم إن العبادة هي التذلل ومنه طريق معبد أي مذلل ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسماً لكل طاعةأديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم والعبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحداً في صفاته الذاتية والفعلية فإن كان له مثل لم يمكن أن يصرف إليه نهاية التعظيم فثبت بما قلنا أنه لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين أحدهما غاية التعظيم ولذلك قيل إن صلاة الصبي ليست بعبادة لأنه لا يعرف عظمة الله فلا يكون فعله غاية التعظيم وفي حكمه الجاهل الغافل وثانيهما أن يكون مأموراً به ففعل اليهود ليس بعبادة وإن تضمن نهاية التعظيم لأنه غير مأمور به فإذا لم يكن فعل الصبي عبادة لفقد التعظيم ولا عل اليهود لفقد الأمر فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة والحال أنه لا أمر به ولا تعظيم فيه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} حال من الفاعل في ليعبدوا أي جاعلين أنفسهم خالصةتعالى في الدين يعني از شرك والحاد اكيزه باشند واز أغراض نفسانية وقضاي شهوات صافي وبي غش.
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
(10/376)
والإخلاص أن يأتي بالفعل خالصاً لداعية واحدة ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل فالعبادة لجلب المنفعة أو لدفع المضرة ليست من قبيل الإخلاص وكذا الاشتغال بالمباح في الصلاة مثل التحنح وغيره من الحظوظ النفسانية وزيادة الخشوع في الصلاة لأجل الغير رياء ودفع الزكاة إلى الوالدين والمولدين وعبيده وإمائه ينافي القربة ولذا نهى عنه فالإخلاص في العبودية تجريد السر عم اسوى الله تعالى وقال بعضهم : الإخلاص أن لا يطلع على عملك إلا الله ولا ترى نفسك فيه وتعلم أن المنة عليك في ذلك حيث أهلك لعبادته ووفقك لها ولا تطلب من الله أجراً وعوضاً {حُنَفَآءَ} حال أخرى على قول من جوز حالين من ذي حال واحد ومن المنوى في مخلصين على قول من لم يجوز ذلك أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وهو في المعنى تأكيد للإخلاص إذ هو الميل عن الاعتقاد الفاسد وأكبره اعتقاد الشركة وأصل الحنف الميل وانقلاب ظهر القدم حتى يصير بطنا فالأحنف هو الذي يمشي على ظهر قدميه في شقها الذي يلي خنصرها ويجيء الحنف بمعنى الاستقامة فمعن حنفاء مستقيمين فعلى هذا إنام سمى مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل كقولك للأعمى بصير وللحبشي كافورو للطاعون مبارك وللمهلكة مفازة قال ابن جبير لا يسمى أحد حنيفاً حتى يحج ويختن لأن الله وصف إبراهيم عليه السلام ، بكونه حنيفاً وكان من أنه أنه حج وختن نفسه {وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ} التي هي العمدة في باب العبادات البدنية {وَيُؤْتُوا الزَّكَواةَ} التي هي الأساس في العادات المالية قال في "الإرشاد" إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها {وَذَالِكَ} أي ما ذكر من عبادة الله بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي دين الملة القيمة قدر الموصوف لئلا يلزم إضافة الشء إلى صفته فإنها إضافة الشيء إلى سفته وصحة
488
إضافة الدين إلى الملة باعتبار التغاير الاعتباري بينهما فإن الشريعة المبلغة إلى الأمة بتبليغ الرسول إياها من قبل الله تسمى ملة باعتبار أنها تكتب وتملى ودينا باعتبار أنها تطاع فإن الدين الطاعة يقال دان له أي أطاعه وقال بعضهم : إضافة الدين إلى القيمة إضافة العام إلى الخاص كشجر الأراك ولا حاجة إلى تقدير الملة فإن القيمة عبارة عن الملة كما يشهد له قراءة أبي رضي الله عنه وذلك الدين القيم انتهى.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
وقال الكاشفي) : دين القيمة يعني دين وهلت درست است واينده.
(10/377)
يعني أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين والعر تضيف الشيء إلى نعته كثيراً ونجد هذا في القرآن في ماضع منها قوله والدار الآخرة وقال في موضع وللدار الآخرة لأن الدار هي الآخرة وقال عذاب الحريق أي المحرق كالأليم بمعنى المؤلم وتقول دخلت مسجد الجامع ومسجد الحرام وأدخلك الله جنة الفردوس هذا وأمثاله وأنث اليمة لأن الآيات هائية فرد الدين إلى الملة كما في "كشف الأسرار" والقيمة بمعنى المستقيمة التي لا عوج فيها وقال الراغب : القيمة هنا اسم الأمة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله كتم خير أمة قال ابن الشيخ بعض أهل الأديان لما بالغوا في باب الأعمال من غير أحكام الأصول وهم اليهود والنصارى والمجوس فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات ولكنهم ما حصلوا الدين الحق بتحصيل الاعتقاد المطابق وبعضهم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع وهم المرئجة الذين يقولون لا تضر المعصية مع الإيمان فالله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله مخلصين ومن العمل في قوله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ثم قال وذلك المجموع كله هو دين الملة المستيمة المعتدلة فكما أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذلك هذا المجموع دين واحد {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} بيان لحالهم الأخروي بعد بيان حالهم الدنيوي وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم ومعنى كونهم فيها إنهم يصرون إليها يوم القيامة وإيراد الجملة الاسمية للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة أو أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم لما يوجبها منزلة ملابستهم لها وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشاة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية {خَـالِدِينَ فِيهَآ} حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول دار العذاب بطريق الخلود لأجل كفرهم لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية فإن جهم دركات وعذابها ألوان فالمشركون كانوا ينكرون الصانع والنبوة والقيامة وأهل الكتاب نبوة محمد عليه السلام ، فقط فكان كفرهم أخف من كفر المشركين لكنهم اشتركوا في أعظم الجنايات التي هي الكفر فاستحقوا أعظم العقوبات وهو الخلود ولما كفروا طلباً للرفعة صاروا إلى سفل السافلين فإن جهنم نار في موضع عميق مظلم هائر يقال بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر واشتراكهم في هذا الجنس من العذاب لا يوجب اشتراكهم في نوعه
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
{أولئك} البعداء المذكورون {هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} ابرية جميع الخلق لأن الله برأهم أي أوجدهم بعد العدم
489
والمعنى شر الخليقة أي مالاً وهو الموافق لما سيأتي في حق المؤمنين فيكون في حيز التعليل لخلودهم في النار أو شرهم مقاماً ومصيراً فيكون تأكيداً لفظاعة حالهم وتوسيط ضمير الفصل لأفادة الحصر أي هم شر البرية دون غيرهم كيف لا وهم شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله نعوت محمد عليه السلام وشر من قطاع الطرق لأنهم قطعوا الدين الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكفر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح من كفر الجهال وظهر منه أن وعيد العلماء السوء أعظم من وعيد كل أحد ومن تاب منهم وأسلم خرج من الوعيد وقيل لا يجوز أن يدخل في الآية ما مضى من الكفار لأن فرعون كان شراً منهم وإما الآية الثانية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم تأخر لأنهم أفضل الأمم والبرية مخففة من المهموز من برا بمعنى خلق فهو البارىء أي الموجد والمخترع من العدم إلى الوجود وقد قرأ نافع وابن ذكوان على الأصل {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} يفهم من مقابلة الجمع بالجمع أنه لا يكلف الواحد بجميع الصالحات بل لكل مكلف حظ فحظ الغنى الإعطاء وحظ الفقير الأخذ والصبر والقناعة {أولئك} المنعوتون بما هو في الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} استدل بالآية على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بقوله إن الذين آمنوا هو البشر والبرية يشمل الملك والحق سئل الحسن رحمه الله عن قوله أولئك هم خير البرية أهم خير من الملائكة قال ويلك وإني تعادل الملائكة الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ملائك راه سود از حسن طاعت
و فض عشق برآدم فرو ريخت
{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلة مالهم من الإيمان والطاعات وهو مبتدأ {عِندَ رَبِّهِمْ} ظرف للجزاء {جَنَّـاتُ عَدْنٍ} أي دخول جنات عدن وهو خبر المبتدأ والعدن الإقامة والدوام وقال ابن مسعود رضي الله عنه عدن بطنان الجنة أي وسطها {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} ميرود از زير أشجار آن ويهاه بستان بي آب روان نشايد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
(10/378)
وفي "الإرشاد" إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة الأغصان كما هو الظهر فريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض وما عليها فهو باعتبار الجزء الظاهر وأيا ما كان فالمراد جريانها بغير اخدود وجمع جنات يل على أن للمكلف جنات كما يدل عليه قوله تعالى : [البينة : 8]{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} ثم قال : ومن دونهما جنتان فذكر للواحد أربع جنات والسبب فيه أنه بكى من خوف الله تعالى وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان اثنان دون اثنين فاستحق به جنتين دون نتين فحصل له أربع جنان لبكائه بأربعة أجفان وقيل : أنه تعالى قابل الجمع بالجمع في قوله جزاؤهم عند ربهم جنات وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد فيكون لكل مكلف جنة واحدة لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعاً ويدل عليه قوله تعالى : وملكا كبيرا أو الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن وهي نهر الماء ونهر اللبن ونهر العسر ونهر
490
الحمر وفي توصفها بالجري بعد ما جعل الجنات الموصوفة جزاء إشارة إلى مدحهم بالمواظبة على الطاعات كأنه تعالى يقول طاعتك كانت جارية ما دمت حياً على ما قال واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فلذلك كانت أنهار كرمي جارية إلى الأبد خالدين فيها أبدا} متنعمين بفنون النعم الجسمانية والروحانية وهو حال وذو الحال وعامله كلاهما مضمران يدل عليه جزاؤهم والتقدير يجزون بها خالدين فيها وقوله أبداً ظرف زمان وهو تأكيد لخلود أي لا يموتون فيها ولا يخرجون منها {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} استئناف مبين لما يتفضل به عليهم زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم أي استئناف أخبار كأنه قيل تزاد لهم أو استئناف دعاء من ربهم فلذا فصل وقد يجعل خبراً بعد خبر وحالاً بتقدير قد قال ابن الشيخ لما كان المكلف مخلوقاً من جسد وروح وإنه اجتهد بهما في طاعة ربه اقتضت الحكمة أن يجزيه بما يتنعم ويستريح به كل واحد منهما فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضى الرب (مصراع) :
يست جنت روح را رضوان أكبر از خدا
{وَرَضُوا عَنْهُ} حيث بلغوا من المطالب قاصيتها وملكوا من المآرب ناصيتها وأبيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا سيما أنهم أعطوا لقاء الرب الذي هو المقصد الأقصى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 486
دارند هركس ازتو مرادى ومطلبي
مقصود مازديني وعقبى لقاي تست
{ذَالِكَ} المذكور من الجزاء والرضوان وقال بعضهم الأظهر أنه إشارة إلى ما ترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} براي آنكس كه بترسد از عقوبت روردكار خود وبموجبات ثواب اشتغال نمايد وذكل الخشية التي هي من خصائص العلماء بشؤون الله تعالى مناط لجميع الكمالات العلمية العملية المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية قال تعالى إنا يخشى الله من عباده العلماء والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية التربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية وعن أنس رضي الله عنه قال عليه السلام لأبي بن كعب رضي الله عنه ، إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا.
.
الخ ، قال أو سماني لك قال : نعم ، قال : وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم فذرفت عيناه أي سال دمع عينيه وعن السنة أن يستمع القرآن في بعض الأوقات من غيره فإنه قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال لي رسول الله عليه السلام ، وهو على المنبر اقرأ على قلت اقرأ عليه وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت هذه الآة فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان أي تقطران وكان عمر رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه ذكرنا ربنا فيقرأ حتى يكاد وقت الصلاة يتوسط فيقول يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فبقول أنا في الصلاة وفي الحديث : "من استمتع آية من كتاب الله كان له نوراً يوم القيامة" فظهر أن استماع القرآن من الغير
491
في بعض الأحيان من السنن وإما أنه هل يفرض استماعه كلما قرىء بناء على قوله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ففي الصلاة نعم وإما خارجها فعامة العلماء على استحبابها كما في شرح شرعة الإسلام للشيخ قورد أفندي رحمه الله.
جزء : 10 رقم الصفحة : 486(10/379)
تفسير سورة الزلزلة
آياتها ثمان
جزء : 10 رقم الصفحة : 491
إذا} ون {زُلْزِلَتِ الارْضُ} أي حركت تحريكاً عنيفاً متكرراً متداركاً فإن تكرر حروف لفظه ينبىء عن تكرر معنى الزلل {زِلْزَالَهَا} أي الزلزال المخصوص بها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية ورآه وهو معنى زلزالها بالإضافة العهدية يقال زلزله زلزلة وزلزالاً مثلثة حركة كما في "القاموس" وقال أهل التفسير الزلزال بالكسر مصدر وبالفتح اسم بمعنى المصدر وفعلال بالفتح لا يوجد إلا في المضاعف كالصلصال ونحوه {وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا} اختيار الواو على الفاء مع أن الإحراج متسبب عن الزلزال للتفويض إلى ذهن السامع وإظهار الأرض في موضع الإضمار لأن إخراج الأثقال حال بعض أجزائها والأثقال كنوز الأرض وموتاها جمع ثقل بالكسر وإما ثقل محركة فمتاع المسافر وحشمه على ما في "القاموس" المعنى وأخرجت الأرض ما في جوفها من دائها وكنوزها كما عند زلزال النفخة الأولى الذي هو من أشراط الساعة وكذا من أمواتها عند زلزال النفخة الثانية وفي الخبر تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع رحمة فيقول : في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول في هذا القطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شئياً قوله أفلاذ كبدها أراد أنها تخرج الكنوز المدفونة فيها وقيئها إخراجها ويدخل في الأثقال الثقلان وفيه إشارة إلى أن الجن تدفن أيضاً {وَقَالَ الانسَانُ} أي كل فرد من أفراده لما يغشاهم من الأهوال ويلحق بهم من فر الدهشة وكمال الحيرة أي شيء للأرض زلزلت هذه المرة الشديدة من الزلزال وأرجت ما فيه من الأثقال استعظاماً لما شاهده من الأمر الهائل وتعجباً لما يرونه من العجائب التي لم تسمع بها الآذان ولا ينطق بهما اللسان لكن المؤمن يقول بعد الإفاقة هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون والكافر من بعثنا من مرقدنا {يَوْمَااِذٍ} يدل من إذا {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} عامل فيهما وهو جواب الشرط وهذا على القول بأن العامل في إذا الشرطية جوابها وأخبارها مفعول لتحدث والأول محذوف لعدم تعلق الغرض بذكره إذ الكلام مسوق لبيان تهويل اليوم وإن الجمادات تنطق فيه وإما ذكر ابن الحاجب من أن حدث
492
وأنبأ ونبأ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد فغير مسلم الصحة على ما فصل في محله والمعنى تحدث الخلق أخبارها إما بلسان الحال حنث تدل دلالة ظاهرة على ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها وإن هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويخوفون منه وإما بلسان المقال وهو قول الجمهور حيث ينطقها الله تعالى فتخبر بما عمل على ظهره من خير وشر حتى يؤد الكافر أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 492
روى) أن عبد الرحمن بن صعصعة كان يتيماً في حجر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، فقال أبو سعيد يا بني إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لا يسمعه جن ولا أنس ولا حجر ولا شجر إلاشهد له وروى أن أبا أمية صلى في المسجد الحرام المتكوبة ثم تقدم فجعل يصلي ههنا وههنا فلما فرع قيل له يا أبا أمية ما هذا الذي تصنع قال قرأت هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها فأردت أن يشهد لي يوم القيامة فطوبى لمن شهد له المكان بالذكر والتلاوة والصلاة ونحوها وويل لمن شهد عليه بالزنى والشرب والسرقة والسماوي ويقال إنعليك سبعة شهود المكان كما قال تعالى : يومئذٍ تحدث أخبارها والزمان كما في الخبر ينادي كل يوم أنا يوم جديد وأنا على ما تعمل في شهيد واللسان كما قال تعالى يوم تشهد عليهم ألسنتهم والأركان كما قال تعالى وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم والملكان كما قال تعالى : [الانفطار : 10]{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} والديوان كما قال تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق والرحمن ، كما قال : إنا كنا عليكم شهوداً فكيف يكون حالك يا عاصي بعد ما شهد عليك هؤلاء الشهود بأن ربك أوحى لها} أي تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها وأمره إياها بالتحديث بلسان المقال على ما عليه الجمهور أو بسبب أن أحدث فيها أحوالاً دالة على الأخبار كما إذا كان التحديث بلسان الحال وفيه إشارة إلى زلزلة أرض البدن عند نزع الروح الإنساني باضطراب الروح الحيواني والقوى وإلى إجراجها متاعها التي هي به ذات قدر من القوى والأرواح وهيئات الأعمال والاعتقادات الراسخة في القلب وقال الإنسان مالها زلزلت واضطربت ما طبها وما داؤها الانحراف المزاج أم لغلبة الأخلاط يومئذٍ تحدث أخبارها بلسان حالها بأن ربك أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال عند زهوق الروح وتحقق الموت {يَوْمَااِذٍ} أي يوم إذ يقع ما ذكر {يَصْدُرُ النَّاسُ} من قبورهم إلى موقف الحساب وانتصب يومئذٍ بيصدر والصدر يكن عن ورود أي هو رجوع وانصراف بعد الورود والمجيء فقال الجمهور هو كونهم مدفونين في الأرض والصدر قيامهم للبعث والصدر والصدور بالفارسية باز كشتن.(10/380)
جزء : 10 رقم الصفحة : 492
يعني الصدر بسكون الدال الرجوع والاسم بالتحريك ومنه طواف الصدر وهو طواف الوداع {أَشْتَاتًا} يقال جاؤوا أشتاتاً أي متفرقين في النظام واحدهم شت بالفتح أي متفرق ونصب على الحال أي حال كونهم متفرقين بيض الوجوه والثياب آمنين ينادي المنادي بين يديه هذا ولي الله وسود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال فزعين والمنادى ينادي بين يديه هذا عدو الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبرائيل عليه السلام ، جاء إلى النبي عليه السلام ، يوماً فقال يا محمد
493
إن ربك يقرئك السلام وهو يقول ماي أراك مغموماً حزيناً وهو أعلم به فقال عليه السلام يا جبرائيل قد طال تفكري في أمر أمتي يوم القيامة قال يا محمد في أمر أهل الكفر أم في أمر أهل الإسلام ، قال : يا جبرائيل لا بل في أمر أهل لا إله إلا الله ، قال : فأخذ بيده حتى أقامه على مقبرة بني سلمة فضرب بجناحه الأيمن على قبر ميت فقال : قم بإذن الله فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله الحمد رب العالمين فقال له جبرائيل عد فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الأيسر على قبر ميت فقال قم بإذن الله فخرج رجل مسود الوجه أزرق العين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه واسوأتاه فقال له جبريل عد فعاد كما كان ثم قال جبرائيل هكذا يبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه {لِّيُرَوْا} الام متعلقة بيصدر {أَعْمَـالَهُمْ} أي جزاء أعمالهم خيراً كان أو شراً وإلا فنفس الأعمال لا يتعلق بها الرؤية البصرية إذا الرؤية هنا ليست علمية لأن قوله فمن يعمل الخ تفصيل ليروا والرؤية فيه بصرية لتعديتها إلى مفعول واحد اللهم إلا أن يجعل لها صور نورانية أو ظلمانية أو يتعلق الرؤية بكتبها كما سيجيء {فَمَنْ} س هركه {يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} تفصيل ليروا والمثقال الوزن والذرة النملة الصغيرة أو ما يرى في شاع الشمس من الهبال وقال ابن عباس رضي الله عنهما إذا وضعت راحتك أي يدك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزقى بها من التراب ذرة وقال يحيى بن عمار حبة الشعير أربع أرزات والأرزة أربع سمسمات والسمسمة أربع خردلات والخردلة أربعة أوراق نخالة وورق النخالة ذرة ومعنى رؤية ما يعادل الذرة من خير وشر إما مشاهدة أجزيته فمن الأولى مختصة بالسعداء والمخصص قوله أشتاتاً أي فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره والثانية بالأشقياء بقرينة أشتاتاً أيضاً أي ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره وذلك لأن حسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن المجتنب عن الكبائر معفوة وما قيل من أن حسنة الكاف تؤثر في نقص العقاب فقد ورد أن حاتماً الطائي يخفف الله عنه لكرمه وورد مثله في أبي طالب وغيره يرده قوله تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 492
{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} وقوله عليه السلام : في حق عبد الله بن جدعان لا ينفعه لأنهلم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين وذلك حين قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه وقوله عليه السلام في حق أبي طالب ولولا إنا كنا في الدرك الأسفل من النار فتلك الشفاعة مختصة به وإما حسنات الكفار فمقبولة بعد إسلامهم وإما مشاهدة نفسه من غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتنب عن الكبائر وإثابته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه فالمعنى ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً إلا أراه الله إياه إما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته وإما الكافر فيرد حسناته تحسيراً له وفي تفسير البقاعي الكافر يوقف على ما عمله من خير على أنه جوزى به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوي حزنه وأسفه
494
والمؤمن يراه ليشتد سروره به وفي جانب الشر يراه المؤمن ويعلم أنه قد غفر له فيكمل فرحه والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه.
(10/381)
وفي التأويلات النجمية : ليروا أعمالهم المكتسبة بيدي الاستعدادات الفاعلية العلمية والقابلية العملية فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره في الصورة الجزائية لتصور الأعمال بصور تناسبها نورانية كانت أو ظلمانية ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره متجسداً في يوم القيامة في جسد السباع بحسب القوة الغضبية وفي جسد البهائم بحسب القوة البهيمية وكلما ازدادت الصور الحسنة المتنوعة ازدادت البهجة والسرور كما أنه كلما ازدادت الصور القبيحة المختلفة ازداد العبوس والألم وفيه رمز إلى أنه لا يلزم من مجرد الرؤية الجازاة كما في حق المؤمن وذلك من فضل الله تعالى على من يشاء من عباده وفي التفاسير نزلت الآية ترغيباً في الخير ولو كان قليلاً كتمرة وعنبة وكسرة وجوزة ونحوها فإنه يوشك أن يكثر إذا كان بنية خالصة وتحذيراً من الشر وإن كان قليلاً كخيانة ذرة في الميزان وكنظرة وخطوة وكذبة فإنه يوشك أن يكون كثيراً عظيماً للجراءة على الله العظيم وكان الناس في بدء الإنسان يرون أن الله لا يؤاخذهم بالصغائر من الذنوب وكان بعضهم يستحيى من صدقة الشيء اليسير ويظن أنه ليس له أجر حتى نزلت الآية وفي الحديث إذا زلزلت تعدل ربع القرآن رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً فتكون قراءتها أربع مرات كقراءة القرآن كله وذلك لأن الإيمان بالبعث ربع الإيمان في قوله عليه السلام لا يؤمن عبدح تى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله بعثني الله بالحق ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر وفي بعض الآثار أن سورة الزلزلة نصف القرآن وذلك لأن أحكام القرآن تنقسم إلى كام الدنيا وأحاكم الآخرة وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة كلها إجمالاً وروى أن جد الفرزدق بن صعصعة بن ناجية أتى رسول الله يستقرئه يعني كفت از آنه برنو فرودمى آيد برمن بخوان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 492
وفي كشف الأسرار صعصعة عم فرزدق يش مصطفى آمد ومسلمان كشت واز رسول خدا در خواست تا از قرآن يزى بروى بخواند فقرأ عليه السلام عليه هذه الآية أي فمن يعمل.
.
الخ.
فقال حسبي حسبي وآشوبي وشوري ازنهاد وى برآمد وبخاك افتاد وزار بكريست وهي احكم آية وسميت الجامعة وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام ، فقال علمني ما عملك الله فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن فعلمه إذا زلزلت الأرض حتى بلغ فمن يعمل.
.
الخ.
قال الرجل حسبي فأخبر بذلك النبي عليه السلام ، فال دعه فقد فقه الرجل ون كسى داندكه برذره وحبه محاسبه بايد كرد امروز بحساب خود مشغول شود.
حساب كارخود امروزكن كه فرصت هست
زخير وشر بنكر تاهاست حاصل تو
اكربنقد نكويى توانكري خوش باش
ورت بغير بدي نيست وأي بردل تو
495
جزء : 10 رقم الصفحة : 492(10/382)
تفسير سورة العاديات
مختلف فيها وآيها إحدى عشرة بلا خلاف
جزء : 10 رقم الصفحة : 495
والعاديات} جمع عادية وهي الجارية بسرعة من القدر وهو بالفارسية دويدن.
وياؤها مقلوبة عن الواو لكسرة ما قبلها اقسم سبحانه بخيل العزاة التي تعدو نحو العدو {ضَبْحًا} مصدر منصوب إما بفعله المحذوف الواق حالاً منها أي تضبح ضبحاً على تأويل العاديات بالجماعة وهو صوت أنفاسها عند عدوها يعني صوتاً يسمع من أفواه الفرس وأجوافها إذا عدون وهو صوت غير الصهيل والحمحمة وهي صوت البرذون عند الشعير أو بالعاديات فإن العدو مستلزم للضبح كأنه قيل والضابحات ضبحاً أو حال على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضابحات {فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا} الإيراء إخراج النار والقدح الضرب فإن الخيل يضربن بحوافر هن وسنا بكهن الحجارة فيخرجن منها ناراً يقال قدح الزند فأورى وقدح فاصلد أي صوت ولم يور فالقدح يتقدم على الإيراء بخلاف الضبح حيث تأخر ويتسبب عن العدو والمعنى تورى النار من حوافرها إذا سارت في الأرض ذات الحجارة فالقدح استعارة لضرب الحجارة بحوافرها وانتصاب قدحاً كانتصاب ضبحاً على الووه الثلاثة أي تقدح قدحاً أو فالقادحات قدحاً أو قادحات {فَالْمُغِيرَاتِ} يقال أغار على القوم غارة وأغارة دفع عليهم الخليل وأغار الفرس اشتد عدوه في الغارة وغيرها أسند الأغارة التي هي مباغتة العدو للنهب والقتل وأسر إلى الخليل وهي حال أهلها إيذاناً بأنها العمدة في إغراتهم {صُبْحًا} نصب على الظرفية أي في وقت الصبح وهو المعتاد في الغارات يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون عليهم صباحاً على حين غفلة ليروا ما يأتون وما يذرون ومنه قولهم عند خوف الغارة يا صباحاه أي يا قوم احذروا من شر توجه إلينا صباحاً {فَأَثَرْنَ بِهِ} عطف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل إذ المعنى واللاتي عدون فأورين فاغرن فأثرن به أي فهيجن في ذلك الوقت وأصله أثورن من الثور وهو الهيجان نقلت حركة الواو إلى الثاء قبلها وبلت الواو الفا فصار أثارن فحذفت الألف لاجتماع الساكنين فبقى أثرن بوزن أفلن ويجوز أن يجعل الضمير لفعل الأغارة فالباء للسببية أو للملابسة {نَقْعًا} أي غباراً وبالفارسية س دران وقت كرد انكيختند.
جزء : 10 رقم الصفحة : 496
من نقع الصوت إذا ارتفع فلغبار سمى نقعاً لارتفاعه أو هو من النقع في الماء فكان صاحب الغبار خاض فيه كما خوض الرجل في الماء وتخصيص أثارته بالصبح لأنه لا يثور ولا يظهر ثورانه بالليل وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل ولله در شأن التنزيل قال سعدى المفتي وإثارة النقع لأنهم يكونون حال الإغارة مختلفين يميناً وشمالاً وإماماً وخلفاً بحسب الكر والفر في المجاولة أثر المدبر الهارب والمصاولة مع المقبل المحارب فيشأ الغبار الكثير {فَوَسَطْنَ بِهِ} أي توسطن في ذلك الوقت فوسط بمعنى توسط والباء ظرفية والتوسط درميان يزى شدن أو توسطن ملتبسات بالنقع فالباء للملابسة {جَمْعًا} من جموع الأعداء أي دخلن في وسطهم
496(10/383)
وهو مفعول به لوسطن والفاآت للدلالة على ترتب ما بعد كل منها على ما قبلها فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإغارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو {إِنَّ الانسَـانَ لِرَبِّه لَكَنُودٌ} جواب القسم يقال كند النعمة كنودا كفر بها فالكنود بالضم كفران النعمة وبالفتح الكفور ومنه سمى كندة بالكسر وهو لقب ثور بن عفيرابي حي من اليمن لأنه كند أبوه النعمة ففارقه ولحق بأخواله وقال الكلبي : الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل وبلسان مضر وربيعة الكفور والمراد بالإنسان بعض أفراده أي إنه لنعمة ربه خصوصاً لكفور أي شديد الكفارن فقوله لربه متعلق بكنود قدم عليه لإفادة التخصيص ومراعاة الفواصل روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث إلى ناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه ، وكان أحد النقباء فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلّم خبرها شهراً فقال المنافقون إنهم قتلوا فنزلت السورة أخباراً للنبي عليه السلام بسلامتها وأشارة له بإغارتها على القوم ونعيا على المرجفين في حقهم ما هم فيه من الكنود فاللام في العاديات إن كانت للعهد كان المقسم به خيل تلك السرية وإن كانت للجنس كان ذلك قسماً بكل خيل عدت في سبيل الله واتصفت بالصفات المذكورة وعلى التقديرين فهي مستحقة لأن يقسم بها لاتصافها بتلك الصفات الشريفة وفي تخصيص خيل الغزاة بالأقسام بها من الراعة ما لا مزيد عليه كأنه قيل وخيل الغزاة التي فعلت كيت وكيت وقد أرجف هؤلاء في حق أربابها ما أرجفوا إنهم مبالغون في الكفران وإذا كان شرف خيل الغزاة بهذه المرتبة حتى أقسم الله بها فما ظنك بشرف الغزاة وفضلهم عند الله تعالى وعنه عليه السلام الكنود هو الذي يضرب عبده ويأكل وحده ويمنع رفده أي عطاه فيكون بخيلاً يقال كان ثلاثة نفر من العرب في عصر وحد أحدهم آية في السخاء وهو خاتم الطائي والثاني آية في البخر وهو أبو حباحب وبخله إنه كان لا يوقد النار للخبز إلا إذا نام الناس فإذا انتبهوا أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد والثالث آية في الطمع وهو أشعب بن جبير مولى مصعب بن الزبير بن العوام قرأ صبي في المكتب وعنده أشعب جال إن أبي يدعوك فقام وليس نعليه فقال الصبي أنا أقرأ حزبي وكان إذا رأى إنساناً يحك عنقه يظن أنه ينتزع قميصه ليدفعه إليه وكان إذا رأى دخاناً ارتفع من دار ظن أن أهلها تأتي بطعام وكان إذا رأى عروساً تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره قال ما رأيت أطمع مني إلا كلباً تبعني على مضغ العلك فرسخاً وقال الحسن لكنود أي لوام لبه يذكر المصيبات وينسى النعم ، وقال أبو عبيدة : قليل الخير من الأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً كأنه مقلوب النكد.
وقال القاشاني لكفور لربه باحتجابه بنعمه عنه ووقوفه معها وعدم استعماله لها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 496
وفي التأويلات النجمية : لكنود بنعمة الوجود والصفات والأسماء لادعائها لنفسه بالاستقلال والاستبداد أو لعاص باستعمالها في غير محالها أو لبخيل لاختصاصها لنفسه وعدم إيثارها على الخلق بطريق الإرشاد {وَإِنَّه عَلَى ذَالِكَ} أي الإنسان على كنوده {لَشَهِيدٌ} أي يشهد على نفسه بالكنود لظهور أثره عليه فالشهادة بلسان الحال لا بلسان
497
المقال ويحتمل أن يجعل من الشهود بمعنى أنه لكفور مع علمه بكفارنه والعمل السيء مع العلم به غاية المذمة {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي المال كما في قوله تعالى : [البقرة : 180-7]{إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإيثار الدنيا وطلبها وفي الأسئلة المقحمة فإن قلت سمى الله الجنس المال خيراً وعسى أن يكون خبيثاً وحراماً قلت أنما سماه خيراً جرياً على العادة فإنهم كانوا يعدون المال خيراً فسماه الله خيراً جرياً على عادتهم كما سمى الجهاد سوأ فقال لم يمسسهم سوء أي قتال والقتال ليس بسوء ولكن ذكره جرياً على عادتهم لشديد} أي قوى مطيق مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس يقال هو شديد لهذا الأمر وقوى له إذا كان مطيقاً له ضابطاً أو الشديد البخيل الممسك يعني وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبخيل ممسك ولعل وصفه بهذا الوصف القبيح بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أن من جملة الأمور الداعية للمنافقين إلى النفقا حب المال لأنهم بما يظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم ويجوزون من الغنائم نصيباً.
شيخ الإسلام قدس سره فرموده كه اكرمال رادوست ميدارى بده تابازبتو دهند وبراي وارث منه كه داغ حسرت بردل تونهند.
مال همان به كه بياران دهى
كر بدهى به كه بخا كش نهى
زرزى مفعت است أي حكيم
بهر نهادن ه سفال وه سيم
جزء : 10 رقم الصفحة : 496
(10/384)
{أَفَلا يَعْلَمُ} أي أيفعل ما يفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم في الدنيا إن الله مجازيه {إِذَا بُعْثِرَ} بعث وأخرج وقد سبق في الانفطار فناصب إذا محذوف وهو مفعول يعلم لا يعلم لأن الإنسان لا يراد منه العلم في ذلك الوقت وإنما يراد منه ذلك في الدنيا {مَا فِى الْقُبُورِ} من الموتى وإيراد ما لكونهم إذ ذاك بمعزل عن مرتبة العقلاء {وَحُصِّلَ} أي جمع في الصحف أي أظهر محصلاً مجموعاً وأصل التحصيل إخراج المستور بآخر المغمور فيه وأخذه منه كإخراج اللب من القشر وإخراج الذهب من حجر المعدن والبر من التين والدهن من اللين ومن الدردى والجمع والإظهار من لوازمه ويجوز أن يكون المعنى ميز حيزه من شره ومنه قيل للمنخل المحصل أي آلة التحصيل وتمييز الدقيق من النخالة فإنه لا بد من التمييز بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه المحظور فإن لكل واحد حكماً على حدة فتمييز البعض من البعض وتخصيص كل واحد منها بحكه اللاحق هو التخصيل وفي "القاموس" التحصيل تمييز ما يحصل والحاصل من كل شيء ما بقى وثبت وذهب ما سواه {مَا فِى الصُّدُورِ} من الأسرار الخفية التي من جملتها ما يخفيه المنافقون من الكفر والمعاصي فضلاً عن الأعمال الجلية فتخصيص أعمال القلب لأنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح فالقلب أصل وأعمال الجوارح تابعة له ولذا قال تعالى آثم قلبه وقال عليه السلام : "يبعثون على نياتهم" {إِنَّ رَبَّهُم} أي المبعوثين كنى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بعد ما عبر عنهم قبل ذلك بما بناء على تفاوتهم في الحالين فحين كانوا في القبور كانوا كجمادات بلا عقل ولا علم وإن كان لهم نوع حياة فيها بخلاف وقت الحشر {بِهِمُ} بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها
498
{يَوْمَااِذٍ} أي يوم إذ يكون ما ذكر من بعث ما في القبور وتحصيل ما في الصدور {لَّخَبِيرُ} أي عالم بظواهره وبواطنه علماً موجباً للجزاء متصلاً به كما ينبىء عنه تقييده بذلك اليوم وإلا فمطلق علمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون قوله بهم ويومئذٍ متعلقان بخبير قدما عليه مراعاة للفواصل واللام غير مانعة من ذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 496
تفسير سورة القارعة
مكية وآيها عشر أو إحدى عشرة
جزء : 10 رقم الصفحة : 498
{الْقَارِعَةُ} القرع هو الضرب بشدة واعتماد بحيث يحصل منه صوت شديد ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة والمراد بها ههنا القيامة التي مبدأها النفخة الأولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق سميت بها لأنها تقرع القلوب والإسماع بفنون الإفزاع والأهوال وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال السماء بانشقاق والانفطار والشمس والنجوب بالتكوير والانكدار والانتثار والأرض والجبال بالدك والنسف وهي مبتدأ خبره قوله {مَا الْقَارِعَةُ} على أن ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ أي راي شي عجيب هي في الفخامة والفظاعة وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل {وَمَآ أَدْرَااكَ مَا الْقَارِعَةُ} ما في حيز الرفع على الابتداء وإدراك هو الخبر أي وأي شيء أعلمك ما شان القارعة فإن عظيم شأنها بحيث لا تكاد تناله دراية أحد حتى يدرك بها ولما كان هذا منبئاً عن الوعد الكريم بأعلامها أنجز ذلك بقوله {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} أي هي يوم يكون النسا على أن يوم مرفوع على إنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعاً على ما هو رأى الكوفيين أو اذكر يوم.
.
الخ.
فإنه يدريك ما هي {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} جمع فراشة وهي التي تطير وتتهافت على السراج فتحترق وبالفارسية روانه.
والمبثوث المفرق وبيه شبه فراشة القفل وهو ما ينشب فيه والمبثوث بالفاسية راكنده.
والمعنى كالفراش المفرق في الكثرة والانتشار والعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار قال جرير في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار قال جرير :
إن الفرزدق ما عملت وقومه
مثل الفراش عشين نار المصطلى
جزء : 10 رقم الصفحة : 499
وهذا دل على كثرة الفراش ولو في بعض المواضع فسقط ما قال سعدي المفتي فيه إن الفراش لا يعرف بالكثرة بحيث يصلح أن يكون مشبهاً به لأهل المحشر فيها إلا أن يفسر بصغار الجراد أي كالجراد المنتشر حين إرادة الطيران كما قال تعالى : [القمر : 7-5]{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} وفيه أن الفراش لم يفسر في اللغات بصغار الجراد وقال ابن الشيخ شبه الله الخلق وقت البعث في هذه الآية بالفراش المبثوث وفي الآية الأخرى بالجراد المنشر وجه التشبيه بالجراد هو الكثرة والاضطراب وبالفراش المبثوث اختلاف جهات حركاتهم فإنهم إذا بعثوا
499(10/385)
فزعوا فيذهب كل واحد منهم إلى جهة غير جهة الآخر كالفراش فإنها إذا طارت لا تتجه إلى جهة واحدة بل تختلف جهاتها انتهى.
وفيه إشارة إلى أن السالك الفاني يكون في الشهود الإحدى في الذلة وتفرق الوجهة كالفراش واحقر وأذل لأنه لا قدر ولا وقع له في عين الموحد وتكون الجبال كالعهن المنفوش} العهن الصوف المصبوغ ألواناً والنفش نشر الشعر والصوف والقطن بالأصبع وخلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصها قال السجاوندي شبه خفتها بعد رزانتها بالصوف وتلونها بالمصبوغ ومرها بالمندوف واختصاص العهن لألوان الجبال كما قال تعالى : من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود والمعنى وتكون الجبال كالصوف الملون بالألوان المختلفة المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق يبدل الله الأرض غير الأرض ويغير هيئاتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئات الهائلة ليشاهدها أهل المشحر وهي وإن اندكت عند النفخة الأولى ولكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} جمع الموزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله أو جمع ميزان وثقلها رجحانها لأن لحق ثقيل والباطل خفيف والجمع للتعظيم أو لأن لكل مكلف ميزاناً أو لاختلاف المزونات وكثرتها قال ابن عباس رضي الله عنهما ، إنه ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال ليبين الله أمر العباد بما عهدوه فيما بينهم قالوا توضع فيه صحف الأعمال إظهاراً للمعدلة وقطعاً للمعذرة أو تبرز الأعمال العرضية بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح يعني يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وبالأعمال السيئة على صور سيئة فتوضع في الميزان أي فمن ترجحت مقادير حسناته {فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} من قبيل الإسناد إلى السبب لأن العيش سبب الرضى من منعم العيش وقال بعضهم : راضية أي راض صبها عنها وبالفارسية درزندكاني باشدسنديده.
جزء : 10 رقم الصفحة : 499
وقد سبق في الحاقة ، وفي التأويلات النجمية : فأما من ثقلت له موزونات الأوصاف الإلهية والأخلاق اللاهوتية فهو في راحة واستراحة من نتائج تلك الأوصاف والأخلاق {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ترجحت سيئاته على حسناته وعن ابن مسعود رضي الله عنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار {فَأُمُّهُ} أي مأواه {هَاوِيَةٌ} هي من أسماء النار سميت بها لغاية عمقها وبعدها مهواها روى أن أهل النار يهوى فيها سبعين خريفاً.
(وقال الكاشفي) : وآن دركه باشذد زير ترين همه دركها وعبر عن المأوى بالأم لأن أهلها يأوون إليها كما يأوى الولد إلى أمه وفيه تهكم به أو لأنها تحيط به إحاطة رحم الأم بالولد أو لأن الأم هي الأصل والكافر خلق من النار وكل شيء يرجع إلى أصله وهو اللائح وفي "الكشاف" من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلاً وحزناً فكأنه قيل فقد هلك وعن قتادة فأم رأسه هاوية في جهنم لأنه يطرح فيها منكوساً وأم الرأس الدماغ أو الجلدة
500
الرقيقة التي عليها.
وفي التأويلات النمية : وأما من خفت موازينه بالأخلاق السيئة والأوصاف القبيحة الخبيثة فأصله المجبول عليه هاوية الحجاب من الأزل إلى الأبد وهي نار حامية بنار الجهل والعمى وحطب النفس والهوى ونفخ الشيطان والدنيا وفي لفظ الثقل والخفة إشارة إلى أن العدا والأشقياء مشتركون في فعل السيئة وإن كانت في الفريق الأول مرجوحة قليلة وفي الثاني راجحة كثيرة ولا يرتفع هذا الابتلاء ولذا قال عليه السلام : لعلي رضي الله عنه يا علي إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة وذلك لما إنه مقتضى الاسم الغفور.
اعلم أن ميزان الحق بخلاف ميزان الخلق إذ صعود الموزونات وارتفاعها فيه هو الثقل وهبطها وانحطاطها هو الخفة لأن ميزاته تعالى هو العدل والموزونات الثقيلة أي المعتبرة الراجحة عند الله التي لها قدر ووزن عنده هي الباقيات الصالحات والخفيفة التي لا اعتبار لها عند الله هي الفانيات الفاسدات من اللذات الحسية والشهوات وفي الهاوية إشارة إلى هاوية الطبيعة الجسمانية التي يهوى فيها أهلها وفي الحقيقة الموزونات هي الاستعدادات الغيبية والقابليات العلمية الأزلية المسواة كفتا بكف اليد اليمنى وبكف اليد اليسرى {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا هِيَهْ} وه يزى دانا كرد تراكه يشت هاوية.
جزء : 10 رقم الصفحة : 499
(10/386)
فهي للهاوية والهاء للسكت والاستراحة والوقف وإذا وصل القارىء حذفها وقيل حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج لأنها ثابتة في المصحف وقد أجيزا ثباتها مع الوصل ، قال أبو الليث قرأ حمزة والكسائي بغير هاء في الوصل وبالهاء عند الوقف والباقون بإثباتها في الوصل والوقف وقد سبق مفصلاً في الحاقة وفيه إشعار بخروجها عن الحدود المعهودة فلا يدريها أحد ثم أعلمها بقوله {نَارٌ حَامِيَةُ} متناهية في الحر وبالفارسية آتشى بغايت رسيده درسوزش.
يقال حمى الشمس والنار حماً وحميا وحموا اشتد حرهما وقد سبق :
جزء : 10 رقم الصفحة : 499
تفسير سورة التكاثر
مختلف فيها وهي ثمان آيات
جزء : 10 رقم الصفحة : 500
{أَلْهَااكُمُ التَّكَاثُرُ} اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ويقال لهوت بكذا ولهوت عن كذا أي اشتغلت عنه بلهو ويعبر به عن كل ما به استمتاع ويقال ألهي عن كذا أي شغل عما هوأهم والتكاثر التباري في الكثرة والتباهي بها وأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر والمعنى شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها وبالفارسية مشغول كرد شمارا فخر كردن به بسيارى قوم.
قال ابن الشيخ الإلهاء الصرف إلى اللهو البعث والتكاثر إذا صرف العبد إلى اللهو يكون العبد منصرفاً إليه ومعلوم أن الإنصراف إلى الشيء يقتضى الإعراض عن غيره فتفسير ألهاكم كذا بشغلكم تفسير له بما يلزم أصل معناه إلا أنه صار حقيقة عرفية فيه بالغلبة وحذف الملهى عنه أي الذي إلهي عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة إما الأول فلان الحذف كالتنكير قد يجعل ذريعه إلى التعظيم لاشتراكهما في الإبهام.
وأما الثاني فلان تذهب النفس كل مذهب ممكن فيدخل فيه جميع ما يحتمله
501
المقام مثل إلهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات مما يتعلق بالقلب كالعلم والتفكر والاعتبار أو بالجوارح كأنواع الطاعات وتعريف التكاثر للعهد والعهد المذموم هو التكاثر في الأمور الدنيوية الفانية كالتفا خربا لمال والجاه والأعوان والأقرباء وأما التفاخر بالأمور الأخروية الباقية فممدوح كالتفاخر بالعلم والعمل والأخلاق والصحة والقوة والغنى والجمال وحسن الصوت إذا كان بطريق تحديث النعمة من ذلك تفاخر العباس رضي الله عنه بأن السقاية بيده وتفاخر شيبة بأن مفتاح البيت بيده إلى أن قال علي رضي الله عنه ، وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة والتكاثر مكاثرة اثنين مالاً أو عدداً بأن يقول كل منهما لصاحبه أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً والمراد هنا هو التكاثر في العدد لأنه روى أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا وتعادوا وتكاثروا بالسعادة والإشراف في الإسلام فقال كل من الفريقين نحن أكثر منكم سيدا وأعظم نفراً فكثرهم بنوا بعد مناف أي غليهم بالكثرة فقال بنو أسهم أن البغي أفناناً في الجاهلية فعادونا بالإحياء والأموات.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 501
قال الكاشفي) : بكورستان رفتند وكورها بر شمر ، دندكه اين قبر فلان واين قبر فلان قبور أشراف قبيله خود شمردند.
فكثرهم بنو أسهم يعني سه خاندان بني سهم زيادة آمد بربني عبد مناف برين نسق بر يكديكر تطاول نمودند وتفاخر كردند.
والمعنى أنكم تكاثر تم بالإحياء {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتى استوعبتم عددهم وصرتم إلى التفاخر والتكاثر بالأموات وبالفارسية تاحدى آمديد بورستانها ومرد كانرا شماره كرديد.
فعبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة القبور أي جعلت كناية عنه تهكماً بهم قال الطيبي إنما كان تهكاً لأن زيارة القبور شرعت لتذكر الموت ورفض حب ادنيا وترك المباهاة والتفاخر وهؤلاء عكسوا حيث جعلوا زيارة القبور سبباً لمزيد القسوة والاستغراق في حب الدنيا والتفاخر في الكثرة وهذا خبر فيه تفريع وتوبيخ والغاية تدخل تحت المغيا في هذا الوجه وقيل المعنى إلهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى إن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا معرضين عما يهمكم من السعي لإخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت والتكاثر هو التكاثر بالمال والولد كما روى إنه عليه السلام ، سمع إنه يقرأ هذه الآية ويقول بعدها يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وفيه إشارة إلى أنهم يبعثون فإن الزائر منصرف لا مقيم وقرأها عمر بن عبد العزيز قال : ما أرى المقابر إلا زيارة ولا بد لمن زار إن يرجع إلى بيته أما إلى الجنة أو إلى النار وفيه تحذير عن الدنيا وترغيب في الآخرة والاستعداد للموت.
روزي كه اجل كند شبيخون
البته بيايد از جهان رفت
كردل نبود أسير دنيا
آسان ره آن جهان توان رفت
جزء : 10 رقم الصفحة : 501(10/387)
{كَلا} ردع عما هم فيه من التكاثر أي ليس الأمر كما يتوهم هؤلاء من فضل الإنسان وسعادته بكثرة أعوانه وقبائله وأمواله أي ارتدعوا عن هذا وتنبهوا من الخطا فيه وتنبيه على
502
أن العاقل ينبغي أن لا يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول المحشر فالعلم بمعنى المعرفة ولذا قدر له مفعول واحد وهو إنذار وتخويف ليخافوا وينتهبوا من غفلتهم قال الحسن رحمه الله ، لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت حدك وتبعث وحدك وتحاسب وحدك {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تأكيد لتكيرير الردع والإنذار وفي ثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول لأن فيه تأكيداً خلا عنه الأول وٌّ فيه تنزيلاً لبعد المرتبة منزلة بعد الزمان واستعمالاً للفظ ثم في مجرد التدرج في درج الارتقاء كما تقول للمنصوخ أقول لك ثم أقول لك لا نفعل أو الأول عند الموت في وقت ما بشر به المحتضر من جنة أو ناراً وفي القبر حين سؤال منكر ونكير من ربك وما دينك ومن نبيك والثاني عند النشور حين ينادي المنادي شقى فلان شقاوة لا سعادة بعدها وحين يقال وامتازوا اليوم أيها المجرمون فعلى هذا لا تكرير في الآية لحصول التغاير بينهما بتغاير زماني العلمين وبتعلقيهما فإنه يلقى في كل واحد من الزمانين نوعاً آخر من العذاب وثم على بابها من المهلة لتباعد ما بين الموت والنشورو كذا ما بين القبور والنشور وعن علي رضي الله عنه ما زلنانشك في عذاب القبر حتى نزلت السورة إلى قوله تعالى : {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون في القبر ثم في القيامة وفي الحديث يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتلذعه حتى تقوم الساعة لو إن تنينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراء كلا} تكرير للتنبيه تأكيداً {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} جواب لو محذوف للتهويل فإنه إذا حذف الجواب يذهب الوهم كل مذهب ممكن والعلم مصدر أضيف إلى مفعوله وانتصابه بنزع الخافض واليقين صفه لموصوف محذوف والمعنى لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين أي لو علتم ما تستيقنونه فعلتم ما لا يوصف ولا يكبنه ولكنكم ضلال جهلة فاليقين بمعنى المتيقن به كمال التيقن حتى كأنه عين اليقين وإلا فيلزم إضافة أحد المترادفين إلى الآخر إذ العلم في اللغة بمعنى اليقين حتى كأنه عين اليقين وإلا فيلزم إضافة أحد المترادفين إلى الآخر إذا العلم في اللغة بمعنى اليقين وقد يجعل العلم من إضافة العام إلى الخاص بناء على أن اليقين أخص من العلم فإن العلم قد يعم الظن واليقين فتكون إضافته كإضافة بلد بغداد ويدل عليه قولهم العلم اليقين بالوصف
جزء : 10 رقم الصفحة : 501
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب قسم مضمراً كدبة الوعيد حيث إن ما أوعدوا به مما لا مدخل فيه للريب وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيماً ولا يجوز أن يكون جواب لو لأن رؤية الجحيم محققة الوقوع وليست بمعلقة فلو جعل جواب لو لكان المعنى إنكم لا ترونها لكونكم جهالاً وهو غير صحيح وقال بعضهم : يصح أن يكون جواباً فيكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني يكون الجحيم دائماً في نظركم لا يغيب عنكم أصلاً {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} تكرير للتأكيد أو الأولى إذا رأوها من كان بعيد ببعضخ واصها وأحوالها مثل رؤية لهبها ودخانها والثانية إذا أوردوها فإن معاينة نفس الحفرة وما فيها من الحيوانات المؤذية وكيفية السقوط فيها أجلى وأكشف من الرؤية الأولى فعلى هذا يتنازع الفعلان في "عين اليقين" أو المراد بالأول المعرفة وبالثانية
503
(10/388)
المشاهدة والمعاينة {عَيْنَ الْيَقِينِ} أي الرؤية التي هي نفس اليقين فإن علم المشاهدة للمحسوست أقصى مراتب اليقين فلا يدر أن أعلى اليقينيات الأوليات وإنما قيد الرؤية بعين اليقين احترزا عن رؤية فيها غلط الحس فانتصاب عين اليقين على إنه صفة المصدر لترونها وجعل الرؤية التي هي سبب اليقين نفس اليقين مبالغة {ثُمَّ لَتُسْاَلُنَّ يَوْمَااِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال في "التيسير" كلمة ثم للترتيب في الأخبار لا في الوجود فإن السؤال بأنك أشكرت في تلك النعمة أم كفرت يكون في موقف الحساب قبل دخول النار والمعنى ثم لتسألن يوم رؤية الجحيم وورودها عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه فتعذبون على ترك الشكر فإن الخطاب في لتسألن مخصوص بمن عكف همته على استيفاء اللذات ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين ويقطع أوقته باللهو والطرف لا يعبأ بالعلم والعمل ولا يحمل على نفسه مشاقهما فإن من تمتع بنعمة الله وتقوى بها بها على طاعته وكان ناهضاً بلشكر فهو من ذلك بمنزل بعيد وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما أكل هو وأصحابه تمراً وشربوا ماء فقال الحمد الذي أطعمنا وسقانا كما في "الكشاف" فدخلت في الآية كفار مكة ومن لحق بهم في وصفهم من فسقة المؤمنين وقيل الآية مخصوصة بالكفار وقال بعضهم : المراد بالنعيم هو الصحة والفراغ وفي الحديث نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ وفي هذا الحديث دلالة عل عظم محل هاتين النعمتين وجلالة خطرهما وذلك لأن بهما يستدرك مصالح الدنيا ويكتسب درجات الآخرة فإن الصحة تنبىء عن اجتماع القوى الذاتية والفراغ يدل على انتظام الأسباب الخارجة المنفصلة ولا قدرة على تمهيد مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة إلا بهذين الأمرين ثم سائر النعم يعد من توابعهما وقد قال معاوية بن قرة شدة الحساب القيامة على الصحيح الفارغ يقال له كيف أديت شكرهما وعن الحسن رحمه الله ما سوى كن يؤويه وثوب يواريه وكسرة تقويه يسأل عنه ويحاسب عليه وقال بعض السلف من أكل فسمى وفرغ فحمد لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام وقال رجل للحسن رحمه الله ، إن لنا جاراً لا يأكل الفالوذج ويقول لا أقوم بشكره فقال ما أجهل جاركم نعمة الله عليه بالماء البارد أكثر من نعمته بجميع الحلاوي ولذلك قال عليه السلام أول ما يسأل العبد عنه من النعيم ألم نصح جسمك ونروك من الماء البارد وفي "عين المعاني" عن النعم الخمس شبع البطون وبرد الشراب ولذة النوم وظلال المساكن واعتدال الخلق وقال ابن كعب النعيم ذات محمد صلى الله عليه وسلّم إذ هو الرحمة والنعمة بالآيتين وهما قوله تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 501
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} ، وقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} .
وهمه را ازدعوت وملت واتباع سنت أو خواهند رسيد.
ه نعمتيست بزرك ازخداكه برثقلين
سس دارى اين نعمت است فرض العين
يقول الفقير : النعيم إما النعيم جسماني وشكره بمحافظة أحكام الشريعة وإما نعيم روحاني وشكره بمراعاة آداب الطريقة فإنه لما ازدادت المحافظة والمراعاة ازداد النعيم كما قال تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم وما من عضو من الأعضاء وقوة من القوى إلا وهي مطلوبة بنوع شكر
504
ولذلك قال تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً على أن عالم الصفات والأسماء كلها عالم النعيم وفقنا الله وإياكم لشكر النعيم إنه هو البر الرحيم وفي الحديث ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم قال إما يستطيع أحدكم أن يقرأ إلهاكم التكاثر مرة على ما قال السيوطي رحمه الله في الإتقان إن القرآن ستة آلاف آية ومائتا آية فإذا تركنا زيادة الآلاف كان الألف سدس القرآن وهذه السورة تشتمل على سدس مقاصد القرآن فإنها على ما ذكره الغزالي رحمه الله ، ثلاثة مقاصد مهمة وثلاثة متمة واحد المقاصد المهمة معرفة الآخرة المشتمل عليها السورة والتعبير عن هذا المعنى بألف آية افهم وأجل وأصح من التعبير بالسدس انتهى.
يقول الفقير : هذا منتقض بسورة الزلزلة فإنها أيضاً تشتمل على أحكام الآخرة ومعرفتها وقد سبق إنها تعدل نصف القرآن أو ربعه والظاهر إن المراد بالألف التكثير لأن أول السورة مما ينبىء عنه ومن الله التوفيق والإرشاد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 501(10/389)
تفسير سورة العصر
ثلاث آيات مكية أو مدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 504
والعصر} اقسم سبحانه بصلاة العصر فإنه كثير إما يطلق العصر ويراد صلاته وذلك لفضلها الباهر لكونها وسطى لتوسطها بين الشفع الذي هو صلاة الظهر وبين الوتر النهاري الذي هو صلاة المغرب فإنها لما توسطت بين الطرفين اتصفت بالوصفين وظهرت بالحكمين وتحققت بالكمالين كما هو حكم البراخ فحصل لها من القدر ما لم يكن لكل واحد من الطرفين وأيضاً إن أوقات أوائل الصلوات الأربع محدودة إلا اعصر يعني أن أول صلاة العصر غير محدود بالحد المحقق ففيه سر التنزيه عن التقييد بالحدود ولذا شرع التكبير في الصلاة لأن الله تعالى منزه عن التقييد بأوضاع الصلاة وحركات المصلى قال بعض الكبار صلاة العصر بركعاتها الأربع إشارة إلى التعينات الأربعة الذاتية والإسمائية والصفاتية والافعالية في مرتبة الجال الكوني بالفعل كما أن الظهر إشارة إليها في مرتبة الجمال الإلهي بالفعل ولا شك أن الإنسان كون جامع ففي العصر إشارة إليه وفي الحديث من فاتته صلاة العصرفكأنما وتر أهله وماله أي نقص أي ليكن من فوتها حذراً كما يحذر من ذهاب أهله وماله وسر الوعيد أن التكليف في أداء صلاة العصر أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم واشتغالهم بمعايشهم آخر النهار لبرد الهواء حينئذٍ لا سيما في أرض الحجاز فالكسب الحاصل في ذلك الوقت مع السهو عن الصلاة في حكم الخسران وسبب للخذلان.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 505
حكى) أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول دلوني على النبي عليه السلام فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألها ماذا حدث قالت يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنى فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة فقال عليه السلام إما الزنى فعليك الرجم بسببه وإما القتل فجزاؤه جهنم وإما بيع الخل فقد ارتكبت به كبيرة لكن ظننت إنك
505
تركت صلاة العصر ويقال إن الله تعالى أقسم بوقت العصر نفسه كما أقسم بالفجر فقد خلق فيه أصل البشر آدم عليه السلام فكان له شرف زائد على غيره ويقال اقسم بالعشى الذي هو ما بين الزوال والغروب كما سم بالضحى لما فيها جميعاً من دلائل القدرة ويقال اقسم بعصر النبوة الذي مقداره فيما مضى من الزمان مقدار وقت العصر من النهار وهو زمان بعثته إلى انقراض أمته في آخر الزمان وهو ألف سنة كما قال عليه السلام : إن استقامت أمتي فلها يوم وإن لم تستقم فلها نصف يوم وفضل هذا العصر على سائر الأعصار ظاهر لأنه عصر خير الأنبياء والمرسلين وعصر خير الأمم وخير الكتب الإلهية وفيه ظهر تمام الكمالات تفصيلاً ويقال اقسم بالدهر لانطوائه على أعاجيب الأمور القارة والمارة وللتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران فإن الإنسان يضيف المكاره والنوئاب إليه ويحيل شقاوته وخسرانه عليه والأقسام بالشيء إعظام له وما يضاف إليه الخسران لا يعظم عادة وقد قال عليه السلام : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فاقسم الله بالدهر لأنه بالنسبة إلى الفهم العام محل شهود الآيات الإلهية كالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وغيرها وبالنسبة إلى الفهم الخاص مظهر التجليات الإلهية لظهوره تعالى بصفته وأفعاله في مظهره فلما كان العصر جامعاً لجميع الآيات التي أقسم الله بها في القرآن كقوله تعالى {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} ، وقوله تعالى : والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ، وقوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، وقوله تعالى : والضحى والليل إذا سجا ختم الله بقسم العصر أقسام جميع القسم.
وفي التأويلات النجمية : أقسم الله بكمال دوامه الزمان واستمراره لاشتماله على ولاية النبي عليه السلام ونبوته ورسالته وخلافته لقوله كنت نبياً وآدم بين الماء والطين أي بين ماء العلم وطين المعلوم ولقوله نحن الآخرون السابقون ولقوله حكاية عن الله سبحانه لولاك لما خلقت الأفلاك ولقوله أنا من الله والمؤمنون مني ويقوى هذه الأحاديث ، قوله تعالى : الحمدرب العالمين إن الإنسان} التعريف للجنس يعني الاستغراق بدلالة صحة الاستثناء من الإنسان فإن صحة الاستثناء من جملة أدلة العموم والاستغراق {لَفِى خُسْرٍ} الخسر والخسران معناه النقصان وذهاب رأس المال في حق جنس الإنسان هو نفسه وعمره والتنكير للتفخيم أي لفي خسران عظم لا يعلم كنهه إلا الله في متاجرهم وصرف أمارهم في مباغيهم يعني هر آينه در زيبند بصرف أعمار در مطالب نا يدار.
جزء : 10 رقم الصفحة : 505
مده به بيهده نقد عزيز عمر بدست.
كه س زيان كنى ومرترا ندارد بود.(10/390)
والذنب يعظم إما لعظم من في حقه الذنب أو لأنه في مقابلة النعمة العظيمة وكلا الوجهين حاصل في ذنب العبد في حق ربه فلا جرم كان ذلك الذنب في غاية العظيم ويجوز أن يكون التنوين للتنويع أي نوع من الخسران غير ما يتعارفه الناس {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالله الإيمان العلمي اليقيني وعرفوا أن لا مؤثر بالحقيقة إلا الله وبرزوا عن حجاب الدهر {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي اكتسبوا الفضائل
506
والخيرات الباقية فربحوا بزيادة النور الكمال على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفني الخسيس واشتروا الباقي النفيس واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيا لها من صفقة ما أربحها وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم واستدل بعض الطوائف بالآية على أن مرتكب الكبيرة مخلد لأنه لم يستثن من الخسران إلا الذين آمنوا.
.
الخ والتفصي منه إن غير المستثنى في خسر لا محالة إما بالخلود إن مات كافراً وإما بالدخول في النار إن مات عاصياً لم يغفر له وإما بفوات الدرجات العالية إن غفر {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} .
.
الخ بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضهم بعضاً بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثره وهو الخير كله من الإيمان بالله واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبلو الله ب عباده وتخصيص هذا التواصي بالذكر مع اندراجه تحت التواصي بالحق لإبراز كمال الاتناء به أو لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى به الله تعالى والثاني عن رتبة العبودية التي هي الرضى بما فعل الله فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تشوق إليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه تعالى بالجميل والرضى به ظاهراً وباطناً ولعله سبحانه إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود فإن المقصود بيان ما فيه الفوز بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية وإشعاراً بأن ما عدا ما عد يؤدي إلى خسر ونقص حظ أو تكرماً فإن الإبهام في جانب الخسر كرم لأنه ترك تعداد مثالهم والإعراض عن مواجهتهم به وروى عنه عليه السلام أنه قال اقسم ربكم بآخر النهار أن أبا جهل لفي خسر إلا الذين آمنوا أي أبا بكر رضي الله عنه وعملوا الصالحات أي عمر رضي الله عنه وتواصوا بالحق أي عثمان رضي الله عنه وتواصوا بالصبر أي علياً رضي الله عنه فسرها بذلك علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، على المنبر فيكون تكرير وتواصوا لاختلاف الفاعلين وإما على الأول فلاختلاف المفعولين وهما قوله بالحق وبالصبر روى عن الشافعي رحمه الله ، أنها سورة لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم وهو معنى قول غيره إنها شملت جميع علوم القرآن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 505
تفسير سورة الهمزة
تسع آيات مكة
جزء : 10 رقم الصفحة : 506
{وَيْلٌ} بالفارسية بمنى واي.
وهو مبتدأ وساغ الابتداء به مع كونه نكرة لأنه دعاء عليهم بالهلكة أو بشدة الشر خبره قوله {لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} الهمز الكسر واللمز الطعن شاعاً في الكسر من إعراض الناس والطعن فيهم وفي "القاموس" الهامز والهمزة الغماز واللمزة العياب للناس أو الذي يعيبك في وجهك والهمزة من يعيبك في الغيب انتهى.
.
وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا قال ضحكة ولعنة إلا للمكثير المتعود وفي أدب الكاتب لابن
507(10/391)
قتيبة فعلة بسكون العين من صفات المفعول وفعلة بفتح العين من صفات الفاعل يقال رجل هزءة للذي يهزأ به وهزأة لمن يهزأ بالناس وعلى هذا القياس لعنة ولعنة ولمزة ولمزة وغيرها ونزلوها في الأخنس بن شريف أو في الوليد بن المغيرة فإن كلا منهما كان يغتاب رسول الله عليه السلام ، والأصح العموم لقوله تعالى : [الهمزة : 1 ، 2]{لِّكُلِّ} ولم يقل للهمزة واللمزة كما قرأ عبد الله كما في عين المعاني وفي الحديث : المؤمن كيس فطن حذر وقاف متثبت لا يعجل عالم ورع والمنافق همزة لمزة حطمة كحاطب ليل لا يدري من أين اكتسب وفيم أنفق.
قال القاشاني : الهمز واللمز رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكلب لأنهما يتضمنان الأذية وطلب الترفع على الناس وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة وإن عدم الرذيلة ليس بفضيلة فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية الذي جمع مالاً} بدل من كل كأنه قيل ويل للذي جمع مالاً وإنما وصفه الله بهذا الوصف المعنوي لأنه يجري مجرى السبب للهمزة واللمزة من حيث إنه أعجب بنفسه مما جمع من المال وظن أن كثرة امال سبب لعزا لمرء وفضله فلذا استنقص غيره وإنما لم يجعل وصفاً نحوياً لكل لأنه نكرة لا يصح توصيفها بالموصولات وتنكير ما لا للتفخيم والتكثير الموافق لقوله تعالى : {وَعَدَّدَهُ} أي عده مرة بعد أخرى من غير أن يؤدي حق الله منه ويؤيد أنه من العد وهو الإحصاء لا من العدة إنه قرىء وعدده يفك الإدغام على أنه فعل ماض بمعنى أحصاه وضبط عدده وقيل معنى عدده جعله عدة وذخيرة لنوائب الدهر وكان للأخنس المذكور أربعة آلاف دينارا وشعرة آلاف ثم في الجمع إشارة إلى القوة الشهوانية وفي عدده إلى الجهل لأن الذي جعل المال عدة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال هو الذي يجر إليه النوائب لا يعلم أن نفس ذلك هو الذي يجر إليه النوائب لاقتضاء حكمة الله تفريقه بالنائبات فكيف يدفعها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 507
وفي التأويلات النجمية جمع مال الأخلاق الذميمة والأوصاف الرديئة وجعله عدة منازل الآخرة والدخول على الله {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَه أَخْلَدَهُ} إظهار المال لزيادة التقرير أي يعمل من تشييد البنيان وإيثاقه بالصخر والآجر وغرس الأشجار وكرى الأنهار عمل من يظن أنه لاي موت بل ماله يبقيه حياً فالحسبان ليس بحقيقي بل محمول على التمثيل.
وقال أبو بكر بن طاهر رحمه الله ، يظن أنه ماله يوصله إلى مقام الخلد وإنما قال أخلده ولم يقل يخلده لأن المراد أن هذا الإنسان يحسب أن المال قد ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت فكأنه حكم قد فرغ منه ولذلك ذكره بلفظ الماضي قال الحسن رحمه الله ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت ونعم ما قال {كَلا} ردع له عن ذلك الحسبان الباطل يعني نه نانست كه آدمى ندارد وقال بعضهم : الأظهر أنه ردع له على الهمز واللمز جواب قسم مقدر والجملة استيناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن ذلك الذي يحسب وقوع الممتنع بسب تعاطيه للأفعال المذكورة وقال بعضهم ولك أن ترد الضمير إلى كل من الهمزة واللمزة ويؤيده قراءة لينبذان على التثنية
508
{فِى الْحُطَمَةِ} أي في النار التي شأنها أن تحطم وتكسر كل ما يلقى فيها كما أن شأنه كسر بأعراض الناس وجمع المال قال بعضهم : قولهم إن فعلة بفتح العين للمكثير المتعود ينتقص الحطمة فإنها أطلقت على النار وليس الحطم عادتها بل طبيعتها وجوابه أن كونه طبيعياً لا ينافي كونه عادة إذ العادة على ما في "القاموس" الديدن والشأن والخاصية وهو يغم الطبيعي وغيره ومنه يعلم أن النبذ في الحطمة كان جزاء وفاقلاً لأمالهم فإنه لما كان الهمز واللمز عادتهم كان الخطم أيضاً عادة فقويل صيغة فعلة بفعلة وكذا ظنوا أنفسهم أهل الكرامة والكثرة فعبر عن جزائهم بالنبذ المنبىء عن الاستحقار والاستقلال يعني شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً بعددهم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر وفيه إشارة إلى الإسقاط عن مرتبة الفطرة إلى مرتبة الطبيعة الغالبة {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْحُطَمَةُ} تهويل لأمرها ببيان أنها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق والمعنى بالفارسية وه يز دانا كرد تراثا داني يست حطمه {نَارُ اللَّهِ} أي هي نار الله {الْمُوقَدَةُ} أفروخته شد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 507
(10/392)
بأمر وقدرت أو جل جلاله وما أوقد وأشعل بأمره لا يقدر أن يطفئه غيره فأضافة انار إليه تعالى لتفخيمها والدلالة على أنها ليست كسائر النيران وفي الحديث أوقد عليها ألف سنة حتى أحمرت ثم ألف سن حتى أبيضت ثم ألف سنة حتى أسودت فهي سوداء مظلمة وعن علي رضي الله عنه عجباً ممن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته {الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْاِدَةِ} أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها فإن الفؤاد وسط القلب ومتصل بالروح عني أن تلك النار تحطم العظام وتأكل اللحوم فتدخل في أجواف أهل الشهوات وتصل إلى صدورهم وتستولى على أفئدتهم إلى أنها لا تحرقها بالكلية إذ لو أحترقت لماتت أصحابها ثم إن الله تعالى يعيد لحومهم وعظامهم مرة أخرى وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشد تألماً بأدنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة فإطلاعها على الأفئدة التي هي خزانة الجسد ومحل ودائعه يستلزم الإطلاع على جميع الجسد بطريق الأولى.
صاحب "كشف الأسرار" فرموده كه آتشى كه بدل راه يا بد عجبست حسين منصور قدس سره فرموده كه هفتادسال آتش نار الله الموقدة در باطن مازدند ناتمام سوخته شدنا كاهشررى از مقدحه أنا الحق بون جست ودران سوخته افتاد سخوته بايدكه از سوزش ما خبر دهد.
أي شمع بياتا من تلك النار الموصوفة مطبقة أبوابها عليهم تأكيداً ليأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد من أوصدت الباب وأصدته أي أطبقته وقد سبق في سورة البلد {فِى عَمَدٍ} جمع عمود كما في "القاموس" أي حال كونهم موثقين في أعمدة {مُّمَدَّدَة} من التمديد بالفارسية كشيدن.
أي ممدودة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص أي يلقون فيها على أحد طريهم والقطر الجانب والمقطرة الخشبة التي جعل فيها أرجل اللصوص والشطار يعني خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المحبوس كيلاً يهربوا فقوله في عمد حال من الضمير المجرور في عليهم
509
أو صفة لمؤصدة قاله أبو البقاء أي كائنة في عمد ممددة بأن تؤصد عليهم الأبواب وتمد على الأبواب العمد المطولة التي هي آسخ من القصيرة استيثاقاً في استيثاق لا يدخلها روح ولا يخرج منها غم وفيه إشارة إلى إيثاقهم وربطهم في عمد أخلاقهم وأوصافهم وأعمالهم ومدهم في أرض الذل والهوان والخسران لأن أهل الحجاب لا عز لهم نسأل الله تعالى إن لا يذلنا بالاحتجاب إنه الوهاب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 507
بأمر وقدرت أو جل جلاله وما أوقد وأشعل بأمره لا يقدر أن يطفئه غيره فأضافة انار إليه تعالى لتفخيمها والدلالة على أنها ليست كسائر النيران وفي الحديث أوقد عليها ألف سنة حتى أحمرت ثم ألف سن حتى أبيضت ثم ألف سنة حتى أسودت فهي سوداء مظلمة وعن علي رضي الله عنه عجباً ممن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته {الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْاِدَةِ} أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها فإن الفؤاد وسط القلب ومتصل بالروح عني أن تلك النار تحطم العظام وتأكل اللحوم فتدخل في أجواف أهل الشهوات وتصل إلى صدورهم وتستولى على أفئدتهم إلى أنها لا تحرقها بالكلية إذ لو أحترقت لماتت أصحابها ثم إن الله تعالى يعيد لحومهم وعظامهم مرة أخرى وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشد تألماً بأدنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة فإطلاعها على الأفئدة التي هي خزانة الجسد ومحل ودائعه يستلزم الإطلاع على جميع الجسد بطريق الأولى.
صاحب "كشف الأسرار" فرموده كه آتشى كه بدل راه يا بد عجبست حسين منصور قدس سره فرموده كه هفتادسال آتش نار الله الموقدة در باطن مازدند ناتمام سوخته شدنا كاهشررى از مقدحه أنا الحق بون جست ودران سوخته افتاد سخوته بايدكه از سوزش ما خبر دهد.
أي شمع بياتا من تلك النار الموصوفة مطبقة أبوابها عليهم تأكيداً ليأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد من أوصدت الباب وأصدته أي أطبقته وقد سبق في سورة البلد {فِى عَمَدٍ} جمع عمود كما في "القاموس" أي حال كونهم موثقين في أعمدة {مُّمَدَّدَة} من التمديد بالفارسية كشيدن.
أي ممدودة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص أي يلقون فيها على أحد طريهم والقطر الجانب والمقطرة الخشبة التي جعل فيها أرجل اللصوص والشطار يعني خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المحبوس كيلاً يهربوا فقوله في عمد حال من الضمير المجرور في عليهم
509
أو صفة لمؤصدة قاله أبو البقاء أي كائنة في عمد ممددة بأن تؤصد عليهم الأبواب وتمد على الأبواب العمد المطولة التي هي آسخ من القصيرة استيثاقاً في استيثاق لا يدخلها روح ولا يخرج منها غم وفيه إشارة إلى إيثاقهم وربطهم في عمد أخلاقهم وأوصافهم وأعمالهم ومدهم في أرض الذل والهوان والخسران لأن أهل الحجاب لا عز لهم نسأل الله تعالى إن لا يذلنا بالاحتجاب إنه الوهاب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 507(10/393)
تفسير سورة الفيل
خمس آيات مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 509
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والهمزة لتقرير رؤيته بإنكار عدمها ويكفها معلقة لفعل الرؤية منصوبة بما بعدها والرؤية علمية لأن النبي عليه السلام ، ولد عام الفيل ولم يرهم والمراد بأصحاب الفيل أبرهة وقومه وبالفيل هو الفيل الأعظم الذي اسمه محمود وكنيته أبو العباس كما سيجيء ونسبوا إليه لأنه كان مقدمهم والمعنى ألم تعلم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواتة ومعاينة الآثار الظاهرة وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى لا بنفسه بأن يقال : ألم تر ما فعل ربك.
.
الخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئات عجيبة دالة على عظم قدرة الله وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله فإن ذلك من الإرهاصات والإرهاص أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة تأسيساً لها ومقدمة كإظلال اغمام له عليه السلام ، وتكلم الحجر والمدر معه قال بعضهم : الإرهاص الترصد سميت الأمور الغريبة التي وقعت للنبي عليه السلام إرهاصات لأن كلا منها مما يترصد بمشاهدته نبوته فالإرهاص إنما يكون بعد وجود النبي وقيل مبعثه وفي كلام بعضهم إن الإرهاص يكون قبل وجوده أيضاً قريباً من عهده كما دل عليه قصة الفيل ورجحوا الأول فإن قيل اتحاد السنة بأن يكون وقوع القصة عام المولد أمر اتفاقي لا يمنع عن كون الواقعة لتعظيم الكعبة قلنا شرفها أيضاً بشرف مكانه عليه السلام ألا يرى أنه تعالى كيف قيد الأقسام بالبلد بحلوله عليه السلام فيه حيث قال : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد قال في "فتح الرحمن" كان هذا عام مولد النبي عليه السلام ، في نصف المحرم وولد عليه السلام ، في شهر ربيع الأول فبين الفيل ومولده الشريف خمس وخمسون ليلة وهي سنة ستة آلاف ومائة وثلاث وستين من هبوط آدم على حكم التواريخ اليوننية المعتمدة عند المؤرخين وبين قصة الفيل والهجرة الشريفة النبوية ثلاث وخمسون سنة والمقصود من تذكير القصة إما تسلية النبي عليه السلام ، بأنه سيجزى من يظلمه كما جزى من قصد الكعبة وإما تهديد الظلمة وتفصيلها أن ملك حمير وما حولها وهو يظلمه كما جزى من قصد الكعبة وإما تهديد الظلمة وتفصيلها أن ملك حمير وما حولها وهو ذو نواس اليهودي لما أحرق المؤمنين بنار الأخدود ذات الوقود على ما سبق في سورة البروج هرب رجل منهم إلى ملك الحبشة وهو أصحمة بن بحر النجاشي بتخفيف الياء الذي أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك وحرضه
510
جزء : 10 رقم الصفحة : 510(10/394)
على قتال ذي نواس فبعث أصحمة سبعين ألفاً من الحبشة إلى اليمن وأمر عليهم أرياطاً ومعه في جنده في جنده أبرهة بن الصباح الأشرم ومعنى أبرهة بلسان الحبشة الأبيض الوجه وسيجيء معنى الأشرم فركبوا البحر حتى نزلوا ساحلاً مم يلي الأرض اليمن وهزم أرياط ذا نواس وقتله في المعركة أو ألقى هو نفسه في البحر فهلك واستقر إمراراً ياط في أرض اليمن زماناً وأقام فيها سنين في سلطانه ذلك ثم نازعه أبرهة في أمر الحبشة فكان من أمراء الجند فتفرقت الحبشة فقتين فرقة مع أرياط وفرقة مع أبرهة فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر فلما تقارب الفرقتان للقال أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تفعل شيئاً بأن تغرى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط أن قد انصفت فأخرج فخرج إليه أبرهة وكنيته أبو يكسون وكان رجلاً قصير الجثمان لحيما ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلاً طويلاً عظيماً وفي يده حربة وخلف أبرهة غلام يقال له عتودة يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفتيه أي شقت وقطعت وخدشت فبذلك سمى رهة الأشرم وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة في اليمن بلا منازع وكان ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي فلما بلغة ذلك غضب غضباً شديداً فقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته فلما بلغ هذا الخبر أبرهة حلق رأسه وملأ جراباً تراباً من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي مع هدايا جليلة كثيرة وكتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأا عبدك فاختلفنا في أمرك وكل طاعة لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط له واوسو منه وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه في فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي لأن ورضى عنه وكتب إليه إن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن ثم إنه رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله الحرام فتحرك منه عرق الحسد فبنى بصنعاء كنيسة من رخام ملون وفي بعض التفاسير ودرو ديوار آنرا بزر وجواهر مرصع ومزين كرادنيد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
وفي إنسان العيون واجتهد في زخرفتا فجعل فيها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب وكان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان لعيه السلام وجعل فيها صلباناً من الذهب والفضة ومنابر من العاج والأبنوس وسماها القليس كجميز لارتفاع بنائها وعلوها ومنها القلانيس لأنها في أعلى الرأس وأراد أن يصرف إليها الحاج وفي "كشف الأسرار" ون رسول أبرهه باآن هديا يش ملك نجاشي رسيد وآن يغام بداد ملك ازوخشنود شد وولايت يمن جمله بدو ارزاني داشت وبوي تسليم كرد ون آن رسول بنزديك أبرهه باز آمد ابرهه شادشد وبكشرانكه ملك ازوخشنود كشت وزراء وعقلاء مملكت خويش جمع كردو ايشانرا كفت مراراهى سازيد بعملي كه ملك راخوش آيدواو
511
ر دران عزى وجمالي بودتا آنراشكر نعمت عفو او سازم ايشان همه متفق شدندكه عرب راخانه ايست معظم ومقدس وشرف جمله عرب بدان خانه است ومردمان شرق وغرب روى بدان خانه دارند وآن خانه ازسنك است تو درصنعاء يمن كنيسه بساز يرنام ملك وبردين ترسايى كه دين نجاشي است واساس آن از زرويسيم والوان جواهر كن وكسى فرست بأطراف زمين وديار عرب وايشانرا بخوان وبزر وسيم وتحفها وهديها ايشانرا رغبتي كن تا عالميان روى بدان كنيسه نهند وآنجا طواف كنند ملك عزى وجمالي باشد أبرهه همنان كردكه ايشان كفتند وآن كنيسه بدان صفت بساخت وازبهر طمع مال وزروسيم خلقي روى بدان كنيسه نهادند وهركه آنجار فتى باهديه وتحفه باز كشتى.
وكتب أبرهة إلى النجاشي أيها الملك إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك قبلك ولست أرضى حتى أصرف إليها حاج العرب فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من بني كنانة حتى أتى القليس.
(10/395)
(وفي كشف الأسرار) : وخبر در أطراف افتادكه از حج وزيارت وطواف كه درمكه وخانه عرب بود بايمن افتاد ودران وقت رئيس مكه عبد المطلب بود مردى از عرب ازساكنان مكة نام وى زهير بن بدر از عبد المطلب درخواست وسوكند خوردكه من بروم ودرخانه ايشان حدث كنم برخواست وآنجاشد وند روز آنجا عبادت كرد رتبه مجاورت يافت شبى كفت من ميخواهم كه اينجا امشب عبادت كنم كه مراسخت نيكو وخوش آمده است اين بقعه اورا آن شب آنجاتنها بكذا شتند ودران خانه مسك وعنبر فراوان بود يسوته بوي خوش ازان ميد ميد زهر آنجا حدث كرد وهمه ديوار ومحراب بنجاست بايلود آنكه آهنك بيرون كردو بكر بخت اين خبر در آفاق وأقطار منتشر كشت ومردم از طواف آن متنفر إبرهه ازين حال آكاه شد ومتأثر كشت دانت كه اين مرد ازمكه بود واز مجوران كعبه سكند خوردكه من بالشكر وحشم بروم وآن خانه ايشن خراب كنم وبازمين برابر حتى لا يحجه حاج أبداً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
وفي حواشي ابن الشيخ كان أصل مقصوده من هدم البيت أن يصرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بولدتهم إلى نفسه وإلى بلدته.
ورسولي فرستاد بحبشه وملك راخبر كرداز آنه زهير كرداند ران كنيسه واز رفتن خويش سوى مكه وخراب كردن كعبه.
فخرج بالحبشة وكفته اند نجاشى يلان بسيار فرستاد ولشكر وحشم.
وقال السجاوندي أغتم النجاشي لذل وعزاه أبرهة وحجر من قواده وأبو يكسوم وزيره وقال لا تحزن إن لهم كعبة هي فخرهم فننسف أبنيتها وتبيح دماءها وننتهب أموالها فخرج أبراهة بجند كثير وجم غفير ومعه فيل أبيض اللون وهو فيل النجاسي بعثه إليه بسؤاله وكان فيلا لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة يعني بعظمت جثه مشابه كوه بود.
بهكل قوى راست ون كوه قاف
وشير غرين ابك اندر مصاف
ومن شأن الفيل المقاتلة ولذلك كان في مرابط ملك الصين ألف فيل أبيض وهو مع عظم
512
صورته ضعيف يخاف من السنور ويفزع منه وكان دليلهم كبير ثقيف وهو أبو رغال رحيم العرب قبره حين مات كما في كتاب التعريف والإعلام للإمام السهيلي رحمه الله ، وفي "كشف الأسرار" أبو رال درراء هلاك شد وكووى معروفست براه يمن حاج يمن جون آنجار سند بآن كوروى سنك اندازند.
حتى صار كالجبل العظيم وفي ذلك يقول جرير في الفرزدق الشاعر :
إذا مات الفرزدق فارجموه
كما ترمون قبر أبي رغال
وفي "القاموس" أبو رغال ككتاب في سنن أبي داود ودلائل النبوة وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال هذا قبراً بي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه الحديث وقول الجوهري كان دليلاً للحبشة حين توجهوا إلى مكة فمات في الطريق غير جيد وكذا قول ابن سيدة كان عبد الشعيب وكان عشاراً جائراً انتهى كلامه.
أبرهه ون بأطراف حرم رسد بيرون حرم نزول كرد.
وبعث رجلاً من الحبشة يقال له الأسود حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة يعني هره درحوالى شهر مكة شتر بود وكوسفند غارت كردت ودر جمله دويست سر شترازان عبد المطلب كه بوقف حاج كرده يود بغارت بردند.
وقال بعضهم : فلما بلغ المغمس وهو كمعظم ومحدث موضع بطريق الطائف فيه قبر أبي رغال دليل أبرهه ويرجم كما في "لقاموس" أي على ما اشتهر وإلا ناقض كلامه السابق خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وفي شرح البردة للمرزوقي لما نزل المغمس بعث حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد هذا البلد وشريفهم وقل له إن الملك يقول أنني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تتعرضوا دونه لحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فائتني به وفي "كشف الأسرار" أبرهه ون آنجا نزول كرد هيبت خانه كعبه دردر وى أثر كرد وازان قصدكه داشت شيمان كشت وردل خود ميخواست كه كسى در حق خانه شفاعت كند تابا زكردد وبفرمودكه رئيس مكة رابياريد ورئيس مكة آنكاه عبد المطلب بودبا جمعي بني هاشم بنزديك أبرهه آمد وآن مردكه فرستاده بود يش ازر سيدن عبد المطلب دريش أبرهه شد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
وقال المرزوقي رحمه الله ، استان لعبد المطلب بعض وزرائه يقال لهأنيس سائس الفيل وكفت قد جاءك سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال حقاً مردى مي آيد بحضرت توكه بدرستي وراستي سيد قريش است مردى كريم طبع نيكوروى باسيادت وباسخاوت وبهيبت وانكه ازوى نور همي تابدكه منظروي بترسانيد يعني نور مصطفى عليه السلام ، از ييشاني وى همي تافت أبرهه خويشتن رابزي نيكوبيا راست وبر تخت نشت وعبدا المطلب را أجازت دار ون در آمد نخواست كه اورا باخود برتحت نشاند يعني كره أن تراه الحبشة يجلس على سرير ملكه از تخت بزير آمد وبا عيد المطلب به ايان تت بنشست واورا اجلال كرد ونيكو بنواخت سخنان وي اوراخواش آمد
513
(10/396)
وباخود كفت اكر در حق خانه شفاعت كندا ورا نوميد نكنم س ترجمانرا كفت تا حاجتي كه دارد بخواهد عبد المطلب كفت حاجت اينست كه دويست شترازان من بياورده اند وكانت ترعى بذي المجاز بفرماي تاباز دهند أبرهه را ازان انده آمد ترجما نرا كفت رس ازوى تارا ازبهر خانه كعبه حاجت نخواست خانه كه شرف وعز شما بآنست وسبب عصمت وحرمت شما آنست در قديم دهر ومن آمده أم تاآنرا خراب كنم مى نخواهى اين اشترا انراه خطر باشدكه ميخواهى قال عبد المطلب أنا رب الإبل والبيت رب يحفظه كما عليه بعرانه لينظر من يحفظ البيت مني عبد المطلب بازكشت وميكانرا فومود هره داشتند ازمال ومتاع بركر فتند وباكوه شدندومكه خالي كردنداي تخوفاً من معرة الجيش فجهز أبرهة جيشة وقدم الفيل الأعظم المذكور فكان كلما وجوه إلى الحرم برك ولم يبرح كما بركت القصواء في الحديبية حتى قال عليه السلام ، حبسها حابس الفيل ومعنى بروك الفيل سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله أو لزوم موضعه كالذي برك وإلا فالفيل لا يبرك كما قال عبد اللطيف البغدادي الفيلة تحمل سبع سنين وإذا تم حملها وأرادت لوضع دخالت النهر حتى تضع ولدها لأنها تلد وهي قائمة ولا فواصل لقوائمها فتلد والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيتان انتهى.
وقال بعضهم : الفيل صنفان صنف يبرك وصنف يبرك كالجمل انتهى وإذا وجوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول والهرولة كالدحرجة ما بين المشي والعدو وأمر أبرهة أن يسقى الفيل الخمر ليذهب تميه فسقوه فثبت على أمره.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
وكفه اند نفيل ابن حبيب الخثعمي كوش آن فيل كرفت وكفت أبرك محمود وأرجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ون ابن سخن بكوش يل فرو كفت بازشكت واي در حرم نهاد ونفيل هذا قاتل أبرهة بأرض خثعم وهو جبل وأهله خثعيون وأبو قبيلة فهزمه أبرهة فأخذ أسيراً فلما أتى به وهم أبرهة بقتله قال أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب فخلى سبيله وخرج به معه يدله على أرض العرب حتى إذا مر بالطائف رأى أهله إن لا طاقة لهم بهم فانقادوا له وبعثوا معه بأبي رغال فأنزلهم بالمغمس وهو على ستة أميال من مكة ومات أبو رغال هناك وقبره المرجوم فيه كما في بعض التفاسير : قال المرزوقي رأى العرب جهاد أبدهة حقاً عليهم فكانوا يجتمعون لقتاله في الطريق قبائل قبائل فهزمهم أبرهة ومن جملة من هزمهم وأسرهم نفيل بن حبيب أخذه وما قتله ليكون دليلاً له وأخذ عبد المطلب بحلقة البيت ودعا وقال : (لا هم إن المرء يحمي رحله فامنع حلالك" (لا يغلبن صليبهم.
ومحا لهم غدوا محالك) وذلك إنهم كانوا نصارى أهل صليب ولا هم أصله اللهم فإن العرب تحذف الألف واللام وتكتفي بما يبقى والحلال بكسر الحاء المهملة جم حلة وهي البيوت المجتمعة والمحال بكسر الميم الشدة والقوة والغدو بالغبن المعجمة أصل الغدو هو اليوم الذي يأتي بعد يومك الذي أنت فيه فالتفت وهو يدعو فإذا بطير فقال والله إنها لطير غريبة لا نجدية ولا تهامية ولا حجازية وإن لها لشأنا وفي "حواشي
514
(10/397)
ابن الشيخ" كان عبد المطلب وأبو مسعود الثقفي يشامدان من فوق الجبل عسكر أبرهة فأرسل الله طيراً سوداً صفر المناقير خضر الأعناق طوالها أو حضراً أو بيضاً أو بلقاً أو حماماً كما سئل من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن الطير فقال حمام مكة منها وقد يقال إن هذا اشتباه لأن الذي قيل فيه إنه من نسل الأبابيل إنما هو شي يشبه الزرازير يكون بباب إبراهيم من الحرم وإلا فحمام الحرم من نسل الحمام الذي عشش على فم الغار والزرازير جمع زرزور بضم الزاي طائر صغير من نوع العصفور سمى بذلك لزرزرته أي لصوته وعن عائشة رضي الله عنها كانت تلك الطير الأبابيل أشباه الخطاطيف والوطاويط وقد نشأت في شاطىء البحر ولها خراطيم الطير وأكف الكلاب وأنيابها وقال ابن جبير لم ير مثلها لا قبلها ولا بعدها وقال عكرمة هي عنقاء مغرب وفي الخبر إنها طير بين السماء ولأرض تعيش وتفرخ وقيل من طير السماء قيل جاءت عشية ثم صبحتم مع كل طائر حجر في ماقره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الخمصة وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه رأى منها عند أم هاني نحو قفيز مخطط بحمرة كالجزع الظفاري وظفار كقطام بل باليمن قرب صنعاء ينسب إليه الجزع وأرسلت ريح فزادتها شدة فكان الحجر يقع على رأس كل واحد منهم فيخرج من أسفله وينفذ من الفيل ومن بضهم فيخرق الأرض وعلى كل حجر اسم من يقع عليه.
قال القاشاني وإلهام الوحوش والطيور أقرب من إلهام الإنسان لكن نفوسهم ساذجة وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر ومن اطلع على عالم القدرة وكشف له حجاب الحكمة عرف لمية أمثال هذه وقد وقع في زماننا مثلها في استيلاء الفأر على مينة أبي يوزد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيك التي على شط النهر وركوبها عليها وعبورها من النهر فهي لا تقتل التأويل كأحوال القيامة وأمثالها انتهى وعن عكرمة كل من أصابته الحجارة جدونه وفي الخبران أول ما وقعت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ففروا وهلكوا في كل طريق ومنهل قال بعضهم : فلم تصب منهم أحداً إلا هلك وليس كلهم أصيب كما قال في إنسان العيون ثم ركب عبد المطلب لما استبتطأ مجيء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر فوجدهم قد هلكوا أي غالبهم وذهب غالب من بقي فاحتمل ما شاء الله من صفراء وبيضاء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
ثم اعلم أهل مكة بهلاك القوم فخرجوا فانتهبوا انتهى يعني والذي سلم منهم ولي هارباً مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وصاروا يتساقطن بكل منهل.
وقال الكاشفي ويك نفس قوم أبرهه مستأصل شديد وآن يلان نيزهمه هلاك كشتند.
وقال بعضهم ولم يسلم إلا كندي فقال :
أكندة لو رأيت ولو ترينا
جنب ربا الممس ما ألقينا
حسبنا الله إن قد بث طيرا
وظل سحابة تهمى علينا
وأخذ أبرهة داء أسقط أنامله وأعضاه ووصل إلى صنعاء كذلك وهو مثل فرخ الطير
515
ومامات حتى انصدع صدره ع نقلبه فملك اليمن ابنه يكسوم بن أبرهة وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يتحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمما وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه فأرى الله النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
وقال بعضهم : همه هلاك شدند مكر أبرهه كه مرغ بر سروى ايستاد وازمكه بيرون شدروى بحبشة نهاد وآن مرغ برهوا برسوري هميبود وأونمى دانست تادر يش نجاشي شد ون أبرهه صورت حال بعرض نجاشي رسانيد نجاشي از روى تعجب رسيدكه كونه مرغان بودندكه ندين مبارزا انرا هلاك كردند أبرهه رادرين حال نظر بران مرغ افتاد كفت أي ملك يكى أذان مرغان اينست همان لحظه آن مرغ سنكى كه داشت بنام وى برسرش افكند وهم در نظر نجاشى هلاك شدوازين صورت آيت عبرتي بر صحيفه دل نجاشي منقش كشت.
نوشت خامه تقدير بر جريده دهر
خطى كه فاعتبروا يا أولى الأبصار
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
(10/398)
وعن عائشة رضي الله عنها رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس ويعلم من ذلك إنهما من جملة من سلم من قوم أبرهه ولم يذهبا بل بقيا بمكة كما في "إنسان العيون" وفي "حواشي ابن الشيخ" كان عبد المطلب وأبو مسعود الثقفي يشاهدان من فوق الجبل عسكر أبرهة حين رماهم الطير بالحجارة فهلكوا فقال عبد المطلب لصاحبه صار القوم حيث لا يسمع لهم ركز أي حس فانحطا من الجبل فدخلا المعسكر فإذا هم موتى فجمعا من الذهب والجواهر وحفر كل منهما لنفسه حفرة وملأها من لمال وكان ذلك سبب غناهما وفي كلام سبط ابن الجوزي وسبب غنى عثمان بن عفان أن أباه عفان وعبد المطلب وأبا مسعود الثقفي لما هلك أبرهة وقومه كانوا أول من نزل مخيم الحبسة فأخذوا من أموال أبرهة وأصحابه شيئاً كثيراً ودفنوه عن قريش فكانوا أنياء قيش وأكثرهم مالاً ولما مات عفان ورثه عثمان رضي الله عنه ثم إنه يرد على ما ذكر أن الحجاج خرب مكة بضرب المنجنيق فلم يصبه شيء ولم يستعجل عذابه ويجاب بأن الحجاج لم يجيء لهدم الكعبة ولا لتخريبها ولم قصد ذلك وإنما قصد التضييق على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، ليسلم نفسه وفيه أنه قد يشكل كونه حرماً آمناً وجاء في حق الحجاج إن عليه نصف عذاب العالم ويرد عليه أيضاً قصة القرامطة وهي أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحطة ظهروا بالكوفة سنة سبعين ومائتين يزعمون أن لا غسل من جنابة وحل الخمر وإنه لا صوم من السنة إلا يومي النيروز والمهرجان ويزيدون في أذانهم وإن محمد بن الخليفة رسول الله وإن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال وأهل البراري وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسبه وسبب ولده أبي طاره فإن ولده أبا طاهر بني دارا في الكوفة وسماها دار الهجرة وكثر فساده واستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هبته من القلوب وكثرت أتباعه وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير ما مرة وهو يهزمهم ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فققتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعاً وألقى
516
القتلى في بئر زمزم وضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه وأخذه معه وقلع باب الكعبة ونزع كسوتها وسقفها وقسمه بينأصحابه وهدم قبة زمزم وارتحل عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوماً ومعه الحجر لأسود وبقى عند القرامطة أكثر من عشرين سنة وكان الناس يضعون أيديهم محله للتبكر ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد إلى موضعه في خلافة المطيع لأمر الله وهو الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس بعدا شترائه منهم وجعل له طوق فضة شد به رنته ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعون درهماً ونصف قال بعضهم : تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض وطوله قدر عظم الذراع وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر الأود ثلاث ضربت بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات وتساقطت منه شظيات مثل الأظفار وخرج بكسره فتات أسمر يضرب إلى الصفرة محبباً مثل حب الخشخاش فجمع بنوا شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه بطلاط من ذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
(10/399)
ويقول الفقير : لعل الجواب عن مثل هذا أن الاستئصال وما يقرب منه مرفوع عن هذه الأمة وأكثر ما كان من خوارق العادت كان في أيام الأمم السالفة وليست الكعبة بأفضل من الإنسانالكامل وقد جرت عادة الله على التسامح عن بعض من يعاديه بل يقتله وإنكان اشتد غضبه عليه فهو يمهل ولا يهمل ولعنة الله على الظالمين {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} الهمزة للتقرير وضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً ونحوه قوله تعالى : [الفيل : 3]{وَمَا كَيْدُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} وضل الماء في اللبن إذا ذهب وغاب والمعنى قد جعل مكرهم وحيلتهم في تعطيل الكعبة عن الزوار وتخريبها في تضييع وإبطال بأن أهلكهم أشنع إهلاك وجزاهم بعد إهلاكهم بمثل ما قصدوا حيث خرب كنيستهم قال في إنسان العيون لما أهلك صاحب الفيل وقومه عزت قريش وهابتهم الناس كلهم وقالوا : هم أهل الله لأن الله معهم ومزقت الحبشة كل ممزق وخرب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة فلم يعمرها أحدو ثكرت حولها السباع والحياة ومردة الجن وكل من أراد أن يأخذ منها شيئاً أصابته الجن واستمرت كذلك إلى زمن الفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس فذكر له أمرها فبعث إليها عامله الذي باليمن فخربها وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب فحصل لها منها مال عظيم وحينئذٍ عفا رسمها وانقطع خبرها واندرست آثارها وأرسل عليهم طيراً} عطف على قوله ألم يجعل لأن الهمزة فيه لإنكار النفي كما سبق {أَبَابِيلَ} صفة طيراً أي جماعات لأنها كانت أفواجاً فوجاً بعد فوج متتابعة بعضها على أثر بعض أو من ههنا وههنا جمع أبالة وهي الحزمة الكبيرة بالفارسية دسته بزرك از حطب.
شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وقيل أبابيل مفرد كعباديد ومعناه الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه وكشماطيط ومعناه القطع المتفرقة وفيه إنها لو كانت مفردات لا شكل قوة النحاة إن هذا الوزن من الجمع يمنع صرفه لأنه لا يوجد في المفردات {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} صفة أخرى لطيرا وقرأ
517
أبو حنيفة رحمه الله ، يرميهم أي الله أو الطير لأنه اسم جمع تأنيثه باعتبار المعنى والحجارة جمع حجر بالتحريك بمعنى الصخرة والمعنى بالفارسية مي افكندند بدان لشكر بسنكها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
يقال رمى الشيء وبه ألقاه {مِّن سِجِّيلٍ} من طين متجر وهو الآجر معرب.
سنك كل.
وقال بعضهم : متحجر من هذين الجنسين وهما سنج الذي هو الحجر وجيل الذي هو الطين أو هم علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما سجينا علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما أن سجينا علم للديون الذي تكتب فيه أعمالهم كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون واشتقاقه من الأسجال وهو الإرسال {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول} كورق زرع وقع فيه الآكال وهو أن يأكله الدود وسمى ورق الزرع بالعصف لأن شأنه أن يقطع فتعصفه الرياح أي تذهب به إلى هنا وهنا شبههم به في فنائهم وذهابهم بالكلية أو من حيث إنه حدثت فيهم بسبب رميهم منافذ وشقوق كالزرع الذي أكله الدود ويجوز أن يكون المعنى كورق زرع أكل حبه فبقى صفراً منه فيكون من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي كعصف مأكول الحب شبههم بزرع أكل حبه في ذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم أو كتبن أكلته الدواب وألقته روثا فيبس وتفرقت أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث وفيه تشويه لحالهم ومبالغة حسنة وهو أنه لم يكتف بجعلهم أهون شيء في الزرع وهو التبن الذي لا يجدي طائلاً حتى جعلهم رجيعاً إلا أنه عبر عن الرجيع بالمأكول أو أشير إليه بأول حاله على طريق الكناية مراعاة لحسن الأدب واستهجاناً لذكر الروث كما كنى بالأكل في قوله تعالى : {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} عما يلزم الأكل من التبول والتغوط لذلك فدأب القرآن هو العدول عن الظاهر في مثل هذا المقام قال بعض العارفين من كان اعتماده على غير الله أهلكه الله بأضعف خلقه ألا ترى أن أصحاب الفيل لما اعتمدوا على الفيل من حيث إنه وى خلق الله أهلكهم الله بأضعف خلق من خلقه وهو الطير.
وكفته اندا كربيل نتوانى بودباري ازشه كم مباش كه برصورت يل است شه كويدكه اكر من بقوت يل نيستم كه باري كشم باري بصورت يلم كه بار خويش بركس نيفكنم.
وفيه إشارة إلى أبرهة النفس المتصفة بصفة الغضب والحقد المجبولة على خلقة الفيل كالسبعية في السبع والكبر في النمر فأرسل الله عليها طير الأرواح حاملين أحجار الأذكار والأوراد فأكلتها أكل الأكلة وعصفت مزروعاتهم السيئة وبطل فليس طبيعتها الجسمانية التي كانت تدعو القوى إليها لأن هذه الدعوة كانت بتزيين الشيطان فلا تقاوم دعوة الروح إلى كعبة القلب التي كان من الرحمن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
هركه بر شمع خدا آردتفو
شمع كي ميرد بسوز دوازار
ون توخفاشان بسى بينند خواب
كين جهان ماند يتيم از آفتاب
(10/400)
قوله مأكول يوقف عليه ثم يكبر ولا يوصل حذراً من الإيهام.
518
جزء : 10 رقم الصفحة : 510
تفسير قريش
أربع آيات مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 518
{لايلَـافِ قُرَيْشٍ} متعلق بقوله تعالى فليعبدوا وهو قول الزجاج والفاء لما في الكلام من معنى اشرط إذ المعنى أن نعم الله عليهم غير محصورة فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة فالإيلاف تعدية الألف مصدر من المبني للمفعول مضاف إلى مفعوله الأول مطلقاً عن المفعول الثاني هو الرحلة كما قيد به في الإيلاف الثاني يقال ألفت الشيء بالقصر وآلفته بالمد بمعنى لزمته ودمت عليه وما تركته فيكون كل من الألف والإيلاف لازماً ويقال أيضاً آلفته غيري بالمد أي ألزمته إياه وجعلته يألفه فيكون متعدياً قال في تاج المصادر الإيلاف ألف دادن وألف كرفتن.
وضد الإيلاف والإيناس هو الإيحاش وقيل متعلق بما قبله منقوله فجعلهم كعصف مأكول ويؤيده إنهما في مصحف أبي رضي الله عنه سورة واحدة بلا فصل فيكون الإيلاف بمعنى الألف اللازم فالمعنى أهلك الله من قصدهم من الحبشة لأن يألفوا هاتين الرحلتين ويجمعوا بينهما ويلزموا إيهما ويثبتوا عليهما متصلاً لا منقطعاً بحيث إذ فرغوا من ذه أخذوا في ذه وبالعكس وذلك لأن الناس إذا تسامعوا بذلك الإهلاك تهيبوا لهم زيادة تهيب واحترموهم فضل احترام فلا يجترىء عليهم أحد فينتظم لهم إلا من في رحلتيهم وكان لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشأم فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته العزيز فلا يتعرض لهم والناس بين متخطف ومنهوب وذلك إن قريشاً إذا أصاب واحدا منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا إلى أنفسهم خباء حتى يموتوا وكانوا على ذلك إلء أن جاء هاشم به عبد مناف وكان سيد قومه فقام خطيباً في قريش فقال إنكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتذلون وأنتم أهل حرم الله وأشرف ولد آدم ولناس لكم تبع قالوا نحن تبع لك فلسي عليك من خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشأم لأن بلاد اليمن حامية حارة وبلاد الشام مرتفعة باردة ليتجروا فيما بدا لهم من التجارات فما ربح الغنى قسم بينه وبين فقرائنهم حتى كان فقيرهم كغنيهم فجاء الإسلام وهم على ذلك فلم يكن في العرب بنوا أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش وكان هاشم أول من حمل السمراء من الشام وقريش ولد النضر بن كننة ومن لم يلده فلسي بقرشي سموا بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن وتقلبها وتضربها فتكسرها ولا تطاق إلا بالنار فشبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى والتصغير للتعظيم فكأنه قيل قريش عظيم وقال بعضهم : الأوجه أن التصغير على حقيقه لأنه إذا كان القرش دابة عظيمة والقرش مع صغر حجمه جعل قرشاً فهو لام حالة قريش وفيه إن جعل قريش قريشاً لم يكن لمناسبة الحجم بل كان لوصف الآكلية وعدم المؤكولية ووصف الغلبة وعدم الملوبية وهذان الوصفان يوجد أن في تلك الدابة على وجه الكمال
519
فلا معنى للتصغير إلا التعظيم قال الزمخشري : سمعت بعض التجار بمكة ونحن قعود عند باب بني شيبة يصف لي القرش فقال هو مدور الخلقة كما بين مقامنا هذا إلى الكعبة ومن شأنه يتعرض للسفن الكبار فلا يرده شيء إلا يأخذ أهلها المشاعل فيمر على وجهه كالبرق وكل شيء عنده قليل إلى النار وبه سميت قريش قال الشاعر :
جزء : 10 رقم الصفحة : 519
وقريش هي التي تسكن البحر
بها سميت قريش قريشاً
تأكل الغث والسمين ولا تترك
فيه لذي جناحين ريشاً
هكذا في البلاد حتى قريش
يأكلون البلاد أكلاً كميشاً
ولهم آخر الزمان نبي
يكثر القتل فيهموا والخموشا
(10/401)
الخموش الخدوش وأكلا كميشاً أي سريعاً وفي "القاموس" فرشه يقرشه ويقرشه قطعه وجمعه من ههنا وههنا وضم بعضه إلى بعض ومنه قريش لتجمعهم إلى الحرم أو لأنهم كانوا يتقرشون البيعات فيشترونها أو لأن النضرابن كنانة اجتمع في ثوبه يوماً فقالوا تقرش أو لأنه جاء إلى قومه فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد أو لأن قصضياً كان يقال له القريشي أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فسيدون خلتها أوسميت بمصغر القرش وهو دابة بحرية يخافها دواب البحر كلها أو سميت بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر وكان صاحب عيرهم فكانموا يقولون قدمت عير قريش وخرجت عير قريش والنسبة قرشي وقريشي انتهى {إِالَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ} بدل من لأول ورحلة مفعول به لإيلافهم وهي بالكسر الارتحال وبالضم الجهة التي يرحل إليها وأصل الرحلة السير على الراحلة وهي الناقة القوية ثم استعمل في كل سير وارتحال وإفرادها مع أنه أراد رحلتي الشتاء والصيف لأمن الألباس مع تناول اسم الجنس للواحد والكثير وفي إطلاق الإيلاف عن المفعول أولاً ثم إبدال المقيد منه تفخيم لأمره وتذكير لعظيم النعمة فيه والشتاء الفصل المقابل للصيف وفي "القاموس" الشتاء أحد أرباع الأزمنة والموضع المشتى والصيف القيظ أو بعد الربيع والقيظ صميم الصيف من طلوع الثريا إلى طلوع سهيل {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم} بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيرانه وسكان حرمه وقيل بدعوة إبراهيم عليه السلام ، يجيء إليه ثمرات كل شيء {مِن جُوعٍ} شديد كانوا فيه قبلهما وكان الجوع يصيبهم إلى إن جمعهم عمرو العلي وهو هاشم المذكور على الرحلتين قال أبو حيان من ههنا للتعليل أي لأجل الجوع وقال سعدى المفتي الجوع لا يجامع الإطعام والظاهر إنها للبدلية.
يقول الفقير الظاهر إن مآل المعنى نجاهم مكن الجوع بسب الإطعام والترزيق {وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْف} عظيم لا يقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف اتخطف في بلدهم ومسايرهم وقال صاحب الكشاف الفرق بين عن ومن أن عن يقتضي حصول جوع قد زال بالإطعام ومن يقتضى المنع من لحاق الجوع والمعنى أطعمهم فلم يلحقهم جوع وآمنهم فلم يلحقهم خوف فيكون من لابتداء الغاية والمعنى أطعمهم في بدء جوعهم قبل
520
لحاقه إياهم وآمنهم في بدء خوفهم قبل اللحاق ومن بدع التفاسير وآمنهم من خوف من أن تكون الخلافة في غيرهم كما في "الكشاف" وعن أم هانىء بنت أبي طالب رضي الله عنها ، قلت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فضل قريشاً أي ذكر تفضيلهم بسبع خاصل لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أح بعدهم النبوة فيهم والخلافة فيهم والحجابة للبيت فيهم والسقاية فيهم ونصروا على الفيل أي على أصحابه وعبدوا الله سبع سنين وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش وتسمية لإيلاف قريش سورة يرد ما قيل إن سورة الفيل ولإيلاف قريش سورة واحدة فلينظر ما معنى عباتدهمدون غيرهم في تلك المدة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 519
يقول الفقير اشار بقريش إلى النفس المشركة وقواها الظالمة الخاطئة الساكنة في البلد الإنساني الذي هو مكة الوجود وبالشتاء إلى القهر والجلال وبالصيف إلى الطف والجمال وأعني بالقهر والجلال العجز والضعف لأن المقهور عاجز ضعيف وباللطف والجمال القدرة والقوة لأن الملطوف به صاحب التمكين فأما عجز النفس وضعفها فعدن عدم مساعدة هواها وأما قوتها وقدرتها فعند وجود المساعدة فهي وصفاتها ترتحل عندا لعجز والضعف إلى بمن المعقولات لأنها في جانب يمين القلب وعند القوة والقدرة ترتحل إلى شأم المحسوسات لأنها في جانب شمال القلب الذي يلي الصد فهي تتقلب بين نعم المعقولات ونعم المحسوسات ولا تشكرها بأن تقر بوحدة الوجود ورسالة رسول القلب كالفلاسفة المتوغلة في المعقولات والفراعنة المنهمكة في الحسوسات ولذا قال تعالى : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ} أي بيت القلب الذي هو الكعبة الحقيقية لأنها مطاف الواردات والإلهامات ومن ضرورة العبادة له الإقرار برسالة رسول الهدى الذي هو القلب فالبيت معظم مشرف مطلقاً لإضافة الرب إليه فما ظنك بعظمة الرب وجلاله وهيبته ورب القلب هو الاسم لجامع المحيط بجميع الأسماء والصفات وهو الاسم الأعظم الذي نيط به جميع التأثيرات العقلية والروحانية والعلمية والغيبية أمروا بأن يكونوا تحت هذا الاسم لا تحتب الأسماء الجزئية ليتخلصوا من الشرك ويتحققوا بسر وحدة الوجود فإن الأسماء الجزئية تعطي التقييد والاسم الكلي يعطي الإطلاق ومن ثمة بعث النبي عليه السلام ، في أم البلاد إشارة إلى كليته وجمعيته وهذا الرب الجليل المفيض المعطي أزال عنهم جوع العلوم والفيوض وأطعمهم بها وآمنهم من خوف الهلاك من الجوع لأن نفس الجاهل كالميت ولا شك أن الإحياء يخافون من الموت هكذا ورد بطريق الإلهام من الله العلام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 519(10/402)
تفسير سورة الماعون
سبع أو ست آيات مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 520
رأيت} يا محمد أي هل عرفت {الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي بالجزاء أو بالإسلام يعني آياديدي ودانستي آنكس راكه تكذيب مكيندبر وزجرا ويا دين الإسلام وباور نميكند.
إن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه {فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي بدفعه دفعاً عنيفاً ويزجره زجراً
521
قبيحاً فهو جواب شرط محذوف على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره وهو و جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه دفعاً شنيعاً فأيس الصبي فقال له اكابر قريش بقل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء به وهو عليه السلام ما كان يرد محتاجاً فذهب معه إلى أبي جهل فقام أبو جهل وبذل المال لليتيم فعيره قريش وقالوا أصبوت فقال لا والله ما صبوت ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها في فالذي للعهد ويحتمل الجنس فيكون عاماً لكل من كان مكذباً بالدين ومن شأنه أذية الضعيف ودفعه بنف وخشنونة لاستيلاء النفس السبعية عليه {وَلا يَحُضُّ} أ لا يحث أهله وغيرهم من الموسرين {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي على بذل طعام له يعني بر طعام دان درويش ومحتاج ويمنع المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمة ومحبة المال واستحكام رذيلة البخل فإنه إذا ترك حث غيره فكيف يفعل هو نفسه فعلم أن كلا من ترك الحث وترك الفعل من أمارات التكذيب وفي العدول من الإطعام إلى الطعام وإضافته إلى المسكين دلالة على أن للمساكين شركة وحقاً في مال الأغنياء وإنه إنما منع المسكين مما هو حقه وذلك نهاية البخل وقساوة القلب وخساسة الطبع فإن قلت قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال ولا يعد ذلك إثماً فكيف يذم به قلت أما لأن عدم حضه لعدم اعتقاده بالجزاء وإما لأن ترك الحض كناية عن البخل ومنع المعروف عن المساكين ولا شبهة في كونه محل الذم والتوبيخ كما أن منع الغير من الإحسان كذلك.
ون زكرم سفله بود در كران
منع كند از كرم ديكران
سفله نخواهد دكلى رابكام
جزء : 10 رقم الصفحة : 521
خس نكذار دمكسى رابجام
{فَوَيْلٌ} الفاء لربط ما بعدها بشرط محذوف كأنه قيل إذ كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين من دلائل التكذيب بالدين وموجبات الذم والتوبيخ فويل أي شدة العذاب {لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} السهو خطأ عن غفلة وذلك ضربان أحدهما أن لا يكون من الإنسان جواليه وبوالداته كمجنون سب إنساناً والثاني أن يكون منه مولداته كمن شرب خمراً ثم ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله فالأول معفو عنه والثاني مأخوذ به ومنه ما ذم الله في الآية والمعنى ساهون عن صلاتهم سهو ترك لها وقلة التفات إليها وعدم مبالاة بها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة من المؤمنين وهو معنى عن ولذا قال أنس رضي الله عنه الحمدعلى أن لم يقل في صلاهم وذلك إنه لو قال في صلاتهم لكان المعنى إن السهو يعتريهم وهم فيها إما بوسوسة شيطان أو بحديث نفس وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم والخلوص منه عسير ولما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : "هذه خير لكم من أن يعطي كل واحد منكم مثل جميع الدنيا" فإن قلت : هل صدر عن النبي عليه السلام سهو قلت نعم كما قال : (شغلونا عن صلاة العصر) أي يوم الخندق (ملأ الله قلوبهم ناراً) وأيضاً سها عن صلاة الفجر ليلة التعريس وأيضاً صلى الظهر ركعتين ثم سلم فقال له أبو بكر رضي الله عنه صليت ركعتين
522(10/403)
فقام وأضاف إليهما ركعتين لكن سهوه عليه السلام فيما ذكر وفي غيره ليس كسهور سائر الخلق وأيهم مثله عليه السلام ، وهو في الاستغراق والانجذاب دائماً وقد قال تنام عيناي ولا ينام قلبي وفيه إشارة إلى السهو عن شهود لطائف الصلاة والغفلة عن أسررها وعلومها وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه لاهون مكان ساهون فعلى العاقل أن تفوته الصلاة التي هي من باب المعراج والمناجاة ولا يعبث فيها باللحية والثياب ولا يكثر والتثاؤب والالتفات ونحوهما ومن المصلين من لا يدري عن كم انصرف ولا ما قرأ من السورة {الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ} أي يرون الناس مالهم ليروهم الثناء عليها فإن قلت فحينئذٍ يلزم الجمع بين القحيقة والمجاز لأن الثناء لا يتعلق به الرؤية ابصرية قلت هو محمود على عموم المجاز أو عل جعل الآراءة من الرؤية بمعنى المعرفة قال في "الكشاف" والعمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله عليه السلام : "ولا غمة في فرائض الله لأنها أعلام الإسلام وشعائر ادين ولأن تاركها يستحق الذم والمقت" فوجب إماطة التهمة بالإظهار وإن كان تطوعاً فحقه أن يخفى لأنه مما لا يلام بتره ولا تهمة فيه وإن أظهره قاصداً للاقتداء فيه كان جميلاً وإنما الرياء أن يقصد أن تراه الأعين فتثنى عليه بالصلاح واجتناب الرياء صعب لأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود.
جزء : 10 رقم الصفحة : 521
كليد در دوزخست آن نماز
كه در شم مردم كزارى دراز
والفرق بين المرائي والمنافق إن المنافق يبطن الكفر ويظهر الإيمان والمرائي يظهر زيادة الخشوع وآثار الصلاح ليعتقد من يراه إنه من أهل الصلاح وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة وفيه إشارة إلى أن من يضيف أعماله وأحواله إلى نفسه الظلمانية فهو مراىء {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} من المعن وهو الشي القليل وسميت الزكاة ماعوناً لأنه يؤخذ من المال ربع العشر وهو قليل من كثير وقال أبو الليث : الماعون بلغة الحبشة المال وفي برهان القرآن قوله الذين هم ثم بعده الذين هم كرر ولم يقتصر على مرة واحدة لامتناع عطف الفعل على الاسم ولم يقل الذين هم يمنعون لأنه فعل فحسن العطف على الفعل وهذه دقيقة انتهى.
والمعنى ويمنعون الزكاة كما دل عليه ذكره عقيب الصلاة أو ما يتعور عادة فإن عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيث كان من عدم الاعتقاد بالجزاء موجب للذم والتوبيخ فعدم المبالاة بالصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإسلام وسوء المعامل مع الخلق ق بذلك وكم ترى من المتسمين بالإسلام بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة فيامصبتناه والمراد بما يتعاوره عادة أي يتداوله الناس بالعارية ويعين بعضهم بعضاً بإعارته هو مثل الفاس والقدر والدلو والأبرة والقصعة والغربال والقدوم والمقدحة والنار والماء والملح ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنولك أو يضع متاعه عندك يوماً أو نصف يوم عن عائشة رضي الله عنها ، إنها قالت يا رسول الله ما الذي لا يحل منعه قال الماء والنار والملح فقالت يا رسول الله هذا الماء فما بال النار والملح قال لها : يا حميراء من أعطى ناراً فكأنما
523
تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار ومن أعطى ملحاً فكأنما تصدق بجميع ما طيب بذلك الملح ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحيى نفساً كما في "كشف الأسرار" وقد يكون منع هذه الأشياء محظوراً في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار وقبياً في المروءة في غير حال الضرورة وفي "عين المعاني" فلم منعوا من الكوثر ففي الآية الزجر عن البخل الذي هو صفة المنافقين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 521(10/404)
تفسير سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية أو مدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 523
{إِنَّآ} إن جار مجرى القسم في تأكيد الجملة {أَعْطَيْنَاكَ} بصيغة الماضي مع أن العطايا الأخروية وأكثر ما يكون في الدنيا لم تحصل بعد تحقيقا لوقوعها {الْكَوْثَرَ} أي الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين فوعل من الكثرة كنوفل من النفل وجوهر من الجهر قيل لأعرابية آب ابنها من السفر تم آب ابنك قالت آب بكوثر أي بالعدد الكثير من الخير قال في "القاموس" الكوثر الكثير من كل شيء وفي المفردات وقد يقال للرجل السخي كوثر ويقال تكوثر الشيء كثر كثرة متناهية وروى عنه عليه السلام إنه قرأها فقال : أتدرون ما الكوثر إنه نهر في الجنة وعد فيه ربي فيه خير كثير أحلى من العسل وأشد بياضاً من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء لا يظمأ من شرب منه أبداف أول وارديه فقراء المهاجرين لدنسوا الثياب الشعث الرؤوس الذين لا يزوحون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد ويموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره لو أقسم على الله لائبره وعن ابن عباس رضيالله عنهما إنه فسر الكوثر بالخير تتلجلج في صدره لو سم على الله لأثبره وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه فسر الكوثر بالخير الكثير فقال له سعيد بن حبيران ناساً يقولون هو نهر في الجنة فقال هو من الخير الكثير وعن عائشة رضي الله عنها ، من أراد أن يسمع خرير الكوثر فليدخل أصبعيه في أذنيه وقال عطاء هو حوضه لكثرة وارديه وفي الحديث حوضي ما بين صنعاء إلى أيلة على إحدى زواياه أبو بكر وعلى الثانية عمرو وعلى الثالثة عثمان وعلى الرابعة على فمن أبغض واحداً منهم لم يسقه الآخر فيكون الحوض في المحشر والأظهر إن جميع نعم الله داخلة في الكوثر ظاهرة أو باطنة فمن الاهرة خيرات الدنيا والآخرة ومن الباطنة العلوم اللدنية الحاصلة بالفيض الإلهي بغير اكتساب بواسطة القوى الظاهرة والباطنة.
صاحب تأويلات فرموده كه كوثر معرفت كثرتست بوحدت وشهود وحدت درعين كثرت واين نهريست دربستان معرفت هركه ازو سيراب شدا بد ازتشكى جهالت ايمن است وأين معنى خاصه حضرت رسالت عليه السلام وكمل أولياء أمت أو {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي وانحر له فحذف اكتفاء بما قبله والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه السلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها ولن يعطها أحداً من العاين مستوجب للمأمور به أي استيجاب والنحر في للبة كالذبح في الحلق
524
وامعنى فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك هذه النعمة الجليلة التي لا تضاهيها نعمة خالصاً لوجهه كما دل عليه اللام الاختصاصية خلافاً للسهين عنها المرآئين فيها أداء لحقوق شكرها فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر وهي ثلاثة لشكر بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعم منه لا من عيره والشكر باللسان وهو أن يمدح المنعم ويثنى عليه والشكر بالجوارح وهو أن يخدمه ويتواضع له والصلاة جامعة لهذه الأقسام وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى يعني وشتر قربان كن براي وي.
جزء : 10 رقم الصفحة : 524
وتصدق على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وقد فسرت الصلاة بصلاة العيدو النحر بالتضحية وهذا يناسب كون السورة مدنية وعن عطية هي صلاة الفجر بجمع والنحر بمنى مصطفى را لعيه السلام رسيدندكه اكر كسى درويش بود وطاقت قربان ندارد كونه كند تا ثواب قربان اورا حاصل شود كفت هار ركعت نمازكند درهر ركعتي يكابر الحمد خواند ويزاده بارانا أعطيناك الكوثر الله تعالى أورا ثواب شصت قربان در ديوان وى ثبت كند كما في "كشف الأسرار" وعن علي رضي الله عنه النحر ههنا وضع اليدين في الصلاة على النحر وعن سليمان التيمي أرفع يديك بالدعاء إلى نحرك.
وفي التأويلات النجمية : ونحر بدن أنانيتك وأنيتك بوضع يدك اليمنى الروحانية على يدك اليسرى الجسمانية على نحرك المشروح بسيف نص ألم نشرح لك صدرك {إِنَّ شَانِئَكَ} يقال شنأه كمنعه وسمعه شنأ أبغضه أي مبغضك {هُوَ} للفصل {الابْتَرُ} لبغضه لك لأن نسبة أمر إلى المشتق تفيد علية المأخذ والبغض ضد الحب والبتر يستعمل في قطع الذنب ثم أجرى قطع العقب مجراه فقيل فلان أبرت إذا لم يكن له عقب يخلفه والمعنى هو الذي لا عقب له حيث لا يبقى له نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة.
آثار اقتدار توتا حشر متصل
خصم سياه روى توبى حاصل وخجل(10/405)
ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان وذلك إنهم زعموا حين مات ابنه عليه السلام القاسم وعبد الله بمكة إبراهيم بالمدينة إن محمداً صلى الله عليه وسلّم ينقطع ذكره إذا انقطع عمره لفقدان سنله فنبه الله إن الذي ينطع ذكره هو الذي يشنأه فأما هو فكما وصفه الله تعالى ورفعنا لك ذكرك وذلك إنه أعطاه نسلاً يبقون على مر الزمان فانظركم قتل من أهل البيت ثم العالم متلىء منهم وجعله أباً للمؤمنين فهم أعقابه وأولاده إلا يوم القيام وقيض له من يراعيه ويراعي دينه الحق وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين رضي الله عنه ، العلماء باقون ما بقى الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة هذا في العلماء الذين هم أتباعه عليه السلام ، فكيف هو وقد رفع الله ذكره وجعله خاتم الأبنياء عليهم السلام.
وفي التأويلات النجمية : إن شانئك هو الأبتر وهو حمار النفس المبتور ذنب نسله وعقبه فإن أولاد الأعمال الصالحة والأحوال الصادقة والأخلاق الروحانية والأوصاف الربانية أولادك يا رسول القلب وأتباعك وأشياعك وأعوانك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 524
يقول الفقير : أيده الله القدير وردت لعى سورة الكوثر وقت الضحى بعد القيلولة
525
والإشرة فيها إنا بجميع أسمائنا اللطفية الجمالية الإكرامية أعطيناك يا محمد القلب وروسل الهدى المبعوث إلى جميع القوى بالخير والهدى الكوثر وهو العلم الكثير الفائض من منبع الاسم الرحمن فإنا رحمناك بهذه الرحمة العامة الشاملة لجميع الرحمات فلذا صرت مظهر الرحمة الكلية في جميع المواطن فلك علم الأحكام وعلم الحقائق فصل في مسجد الفناء والتسليم وهو المسجد الإبراهيمي لربك أي لشكر ربك ولا دامة شهوده وإبقاء حضوره معك في جميع الحالات وانحر دنة البدن في طريق الخدمة وبدنة الطبيعة في طريق العفة وبدنة النفس في طريق الفتوة إن شانئك أي مبغضك من القوى الشريرة الأنفسية والآفاقية هو الأبتر المقطوع أعقابه وآخره كما قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد رب العالمين الذي ربي لولياء فجعل لهم الوصل كما جعل لأعدائهم القطع ثم إن قوله هو الأبتر يوقف عليه ثم يقال الله أكبر ، ولا يوصل بالتكبير حذراً من الإيهام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 524
تفسير سورة الكافرون
ست آيات مكية أو مدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 525
{قُلْ يا اأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} قالوا في مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وشوكتهم إيذان بأنه عليه السلام ، محروس منهم فيها علم من أعلام النبوة وفي التعبير بالجمع الصحيح دلالة على قلتهم أو حقارتهم وذلتهم وهم كفرة مخصوصة كالوليد بن المغيرة وأبي جهل والعاص بن وائل وأمية بن خلف والأسود بن عبد يغوث والحارث بن قي ونحوهم قد علم الله إنه لا يأتي ولا يتأتى منهم الإيمان أبداً على ما هو مضمون السورة فالخطاب للرسول عليه السلام ، بالنسبة إلى قوم مخصوصين لا يردان مقتى هذا الأمران يقول كل مسلم ذلك لكل جماعة من الكفار مع أن الشرع ليس حاكماً به روى أن رهطاً من عتاة قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك بعبد آلهتنا سنة ونعبد ءهك سنة فقال معاذ الله إن رك بالله غيره فقالوا استلم بعض آلهنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه وفيه إشارة إلى الذين ستروا نوراً استعدادهم الأصلي بظلمة صفات النفوس وآثار الطبيعة حجبوا عن الحق بالغير {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي فيما يستقبل لأن لا تدخل غالباً إلا على مضارع في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلى على مضارع في معنى الحال ألا ترى إن لن تأكيد فيما ينفيه لا قال الخليل في لن أصله لا والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم {وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي والمراد ولا أنتم عابدون عبادة يعتد بها إذ العبادة مع إشراك الأنداد لا تكون في حيز الاعتداد {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي وما كنت عابداًفيما سلف ما عبدتم فيه أي لم يعهد مني عبادة صنم في الجاهلية فكيف يرجى مني في الإسلام {وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته وهو الله تعالى فليس في
526
جزء : 10 رقم الصفحة : 526(10/406)
السورة تكرار وقيل هاتان الجملتان لنفي العبادة حالاً كما أن الأولين لنفيها استقبالاً وإنما لم يل ما عبدت ليوافق ما عبدتم لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذٍ موسوماً بعبادة الله ومشتهراً بكونه عابداًعلى سبيل الامتثال لأمره يعني على ما قتضيه جعل العبادة صلة للموصول ثم عدم الموسومية بشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء فلا يلزم أن لا يكون عليه السلام ، عابداًقبل البعثة بل يكون ما وقع منه قبلها من قبيل الجري على العادة المستمرة القديمة وفي "القاموس" كان عليه السلام ، على دين قوه على ما بقي فيهم من أرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، في حجهم ومناكحهم وبيوعهم وأساليبهم وإما التوحيد فإنهم كانوا بذلوه والنبي عليه السلام لم يكن إلا عليه انتهى.
وإيثار ما في أعد على من لان لمراد هو الوصف كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشان الذي لا يقادر قدر عظمته {لَكُمْ دِينُكُمْ} تقرير لقوله تعالى : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله تعالى : ولا أنا عابد ما عبدتم ولي} بفتح ياء المتكلم {دِينِ} بحذف الياء إذ أصله ديني وهو تقرير لقوله تعالى : {وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} والمعنى إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضاً كما تطمعون فلا تعلقوا به أمانيكم الفارعة فإن ذلك من المحال وإن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوز إلى الحصول لكم أيضاً لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي إياها ولأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث كان مبنى قولهم تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة على شركة الفريقين كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تديم المسند قصر أفراد حتماً وفي عين المعاني ونحوه هو منسوخ بآية السيف وقال أبو الليث : وفيها دليل على أن الرجل إذا رأى منكراً أو سمع قولاً منكراً فأنكره ولم يقبلوا منه لا يجب عليه أكثر من ذلك وإنما عليه مذهبه وطريقه وتكرهم على مذهبهم وطريقهم.
يقول الفقير : وردت على هذه السورة وكأني أقرأها في صلاة العصر بصوت جهوري حتى أسمعتها جميع ما في الكون وإشارتها قل يا محمد القلب يا أيها الكافرون أي القوى النفسانية الساترة للتوحيد بالشرك والطاعة بالمعصية ولوحدة بالكثرة والوجود الحقيقي بالوجود المجازي ونور الحقيقة الوجوبية بظلمة الحقيقة الإمكانية لا أعبد ما تعبدون من الأصنام التي يعبر عنها بما سوى الله فإني مأمور بالإيمان بالله والكفر بالطاغوت وكل ما سوى الله من قبيل الطاغوت والإله المجعول المقيد فلا يستحق العبادة إلا الله المطلق عن الإطلاق والتقييد ولا أتم عابدون ما أعبد وهو الله الواحد القهار الذي قهر بوحدته جميع الكثرات ولكن لا يقف عليه إلا أهل الوحدة والشهو وأنتم أهل الكثرة والاحتجاب فإني لكم هذا الوقوف ولا أنا عابد ما عبدتم من التلوينات والتقلبات في الكثرات الإسمائية والصفاتية ولا أنتم عابدون ما أعبد من التمكين والتحقيق وكذا من التلوين في التمكين فإنه من مقتضيات ظهور حقائق جميع الأسماء وليس فيه ميل وانحراف عن الحق أصلاً بل فيه بقاء مع الحق في كل طور لكم دينكم الذي
527
هو الإيمان بالطاغوت والكفر بالله وهو الدين يجب التبري منه ولي دين الذي هو الإيمان بالله والكفر بالطاغوت وهو الدين الذي يجب التعلق بأحكامه والتخلق بأخلاقه والتحقق بحقائقه هذا فحقائق القرآن ليست بمنسوخة أبداً بل العمل بها باق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 526
ابن عباس رضي الله عنهما فرموده در قرآن سوره نيست بر شيطان سخت ترازين سوره زيراكه توحيد محض است ودرو برائت از شرك فمن قرأها برىء من الشرك وتباعد عنه مردة الشياطين وأمن من الفزع الأكبر وهي تعدل ريع القرآن وفي الحديث مروا صبيانكم فليقرأوها عند المنام فلا يعرض لهم شيء ومن خرج مسافراً فقرأ هذه السور الخمس قل يا أيها الكافرون إذا جاء نصر الله ، قل هو الله أحد ، قل أعوذ برب الفلق ، قل أعوذ برب الناس ، رجع سالماً غانماً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 526(10/407)
تفسير سورة النصر
ثلاث آيات مدنية
جزء : 10 رقم الصفحة : 527
إذ جاء نصر الله} أي أعانته تعالى وإظهاره إياك على أعدائك فإن قلت لا شك إن ما وقع من الفتوح كان بنصرة المؤمنين فما وجه أضافتها إلى الله قلت لأن أفعالهم مستندة إلى دواعي قلوبهم وهي أمور حادثة لا بد لها من محدث وهو الله تعالى فالعبد هو المبدأ الأقرب والله هو المبدأ الأول والخالق للدواعي وما يبتني عليها من الأفعال والعامل في إذا هو سبح أيفسبح إذا جاء نصر الله ولا يمنع الفاء عن العمل على قول الأكثرين أو فعل الشرط وليس إذا مضافاً إليه على مذهب المحققين وإذا لما يستقبل واوَلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة لما روى أن السورة نزلت قبل فتح مكة كما عليه الأكثر {وَالْفَتْحُ} أي فتح مكة على أن الإضافة واللام للعهد وهو الفتح الذي تطمح إليه الأبصار ولذلك سمى فتح الفتوح ووقع الوعد به في أول سورة الفت وقد سبقت قصة الفتح في تلك السورة وقيل جنس نصر الله ومطلق الفتح على أن الإضافة واللام للاستغراق فإن فتح مكة لما كان مفتاح الفتوح ومناطها كما أن نفسها أم القرى وأمامها جعل مجيئه بمنزلة مجيء سائر الفتوح وعلق به أمره عليه السلام وإنهما على جناح الوصول إليه عن قريب ويمكن أن يقال التعبير للإشارة إلى حصول نصر الله بمجيء جند بهم النصر وقيل نزلت السورة في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع وعاش عليه السلام بعدها ثمانين يوماً أو نحوها فكلمة إذا حينئذٍ باعتبار أن بعض ما في حيزها أعني رؤيته دخول الناس.
.
الخ.
غير منقض بعد وقال سعدى المفتي وعلى هذه الرواية فكلمة إذا تكون خارجة عن معنى الاستقبال فإنها قد تخرج عنه كما قيل في قوله تعالى : [الجمعة : 11-5]{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الآية وفي المصطلحات إن الفتوح كل ما يفتح على العبد من الله تعالى بعد ما كان مغلقاً عليه من النعم الظاهرة والباطنة كالأرزاق والعبادات والعلوم والمعارف والمكاشفات وغير ذلك والفتح القريب هو ما انفتح على العبد من مقام القلب وظهور صفاته وكمالاته عند قطع منازل النفس وهو المشار إليه بقوله نصر من الله
528
وفتح قريب والفتح المبين هو ما يفتح على العبد من مقام الولاية وتجليات أنوار الأسماء الإلهية المفنية لصفات القلب وكمالاته المشار إليه بقوله : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر يعني من الصفات النفسانية والقلبية والفتح المطلق هو أعلى الفتوحات وأكملها وهو ما انفتح على العبد من تجلى الذات الأحدية والاستغراق في عين الجمعب فناء الرسوم الخلقية كلها وهو المشار إليه بقوله : إذا جاء نصر الله والفتح انتهى.
وقد سبق بعبارة أخرى في سورة الفتح وعلى هذا فالمراد بالنصر هو المدد الملكوتي والتأييد القدسي بتجليات الأسماء والصفات وبالفتح هو الفتح المطلق الذي لا فتح وراءه وهو فتح باب الحضرة الإلهية الأحدية والكشف الذاتي ولا شك إن الفتح الأول هو فتح ملكوت الأفعال في مقام القلب بكشف حجاب حس النفس بإفناء أفعالها في أفعال الحق والثاني هو فتح جبروت الصفات في مقام الروح بكشف حجاب خيالها بإفناء صفاتها في صفاته والثالث هو فتح لاهوت الذات في مقام السر بكشف حجاب وهمها بإفناء ذاتها في ذاته ومن حصل له هذا النصر والفتح الباطني حصل له النصر والفتح الظاهري أيضاً لأن النصر والفتح من باب الحرمة وعند الوصول إلى نهاية النهايات لا يبقى من السخط أثر أصلاً ويستوعب الظاهر والباطن أثر الرحمة مطلقاً ومن ثمة تفاوت أحوال الكمل بداية ونهاية فظهر من هذا إن كلا من النصر والفتح في الآية ينبغي أن يحمل على ما هو المطلق لكنى اقتفيت أثر أهل التفسير في تقديم ما هو المقيد لكنه قول مرجوح تسامح الله عن قائله ورأيت الناس} أبصرتهم أو علتمهم يعني العرب واللام للعهد أو الاستغراق العرفي جعلوه خطاباً للنبي عليه السلام ، بالاستغفار مع إنه لا تقصير له إذ الخطاب لا يخصه فالأمر بالاستغفار لمن سواه وإدخاله في الأمر تغليب {يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ} أي ملة الإسلام التي لا دين يضاف إليه تعالى غيرها والجملة على تقدير الرؤية البصرية حال وعلى تقدير الرؤية القلبية مفعول ثان وقال بعضهم : ومما يحتلج في القلب إن المناسب لقوله يدخلون.
.
الخ إن يحمل قوله والفتح على فتح باب الدين عليهم {أَفْوَاجًا} حال من فاعل يدخلون أي يدخلون فيه جماعات كثيرة كأهل مكة والطائف واليمن وهو أزن وسائر قبائل العرب وكانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحداً واحداً واثنين اثنين روى إنه عليه السلام لما فتح مكة أقبلت الرعب بعضها على بعض فقالوا إذا ظفر بأهل الحرم فلن يقاومه أحد وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في دين الإسلام أفواجاً من غير قتال.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 528
قال الكاشفي) : درسال نزول اين سوره تتابع وفود بود ون بني أسد وبني مرة وبني كلب وبني كنانة وبني هلال وغير ايشان ازا اكناف وأطراف بخدست آن حضرت آمده بشرف إسلام مشرف ميشدند.(10/408)
قال أبو عمر ابن عبد البر لم يمت رسول الله عليه السلام وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل وفي الإسلام بعد حنين منهممن قدم ومنهم من قدم وافده وقال ابن عطية والمراد والله أعلم العرب عبدة الأوثان وإما نصارى بني تغلب
529
فما أسلموا في حياته عليه السلام ، ولكن أعطوا الجزية وفي "عين المعاني" الناس أهل البحر ، قال عليه السلام : "الإيمان يماني والحكمة يمانية" وقال وجدت نفس ربكم من جانب اليمن أي تنفيسه من الكرب وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه بكى ذات يوم فقيل لهفي ذلك فقال سمعت رسول الله عليه السلام ، يقول دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} التسبيح مجاز عن التعجب بعلاقة السببية فإن من رأ أمر أعجبياً يقول سبحان الله قال ابن الشيخ لعل الوجه في إطلاق هذه الكلمة عند التعجب كما ورد في الأذكار ولكل أعجوبة سبحان الله هو أن الإنسان عدن مشاهدة الأمر العجيب الخارج عن حد أمثاله يستبعد وقوعه وتنفعل نفسه منه كأنه استقصر قدرة الله فلذلك خطر على قلبه أن يقول من قدر عليه وأوجده ثم إنه في هذا الزعم مخطىء فقال سبحان الله تنزيهاً عن العجز عن خلق أمر عجيب يستبعد وقوعه لتيقنه بأن الله على كل شيء قدير قال الامام السهيلي رحمه الله ، سر اقتران الحمد بالتسبيح أبداً نحو سبح بحمد ربك وإن من شيء ألا يسبح بحمده إن معرفة الله تنقسم قسمين معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ولا سبيل إلى إثبات أحد القسمين دون الآخر وإثبات وجود الذات من مقتضى العقل وإثبات الأسماء والصفات من مقتضى الشرع فبالعقل عرف المسمى وبالشرع عرفت الأسماء ولا يتصور في العقل إثبات الذات إلا مع نفي سمات الحدوث عنها وذلك هو التسبيح ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع وإنما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول فنبه العقول على النظر فعرفت ثم علمها ما لم تكن تعلم من الأسماء فانضاف لها التسبيح والحدم والثناء فما أمرنا تسبيحه إلا بحمده انتهى.
ومعنى الآية فقل سبحان الله حال كونك ملتبساً بحمده أي فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد من أن يغلب أحد على أهل حرمه المحترم وأحمده على جميع صنعه هذا على الرواية الأولى ظاهر وإما على الثانية فلعله أمربأن يداوم على ذلك استعظاماً لنعمته لا بأحداث التعجب لما ذكر فإنه إنما يناسب حالة الفتح.
وقال بعضهم : والأشبه أن يراد نزهه عن العجز في تأخير ظهور الفتح وأحمده على التأخير وصفه بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا بحكم لا يعرفها إلا هو انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 528
أو فاذكره مسبحاً حامداً وزد في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك أو فصل له حامداً على نعمه فالتسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئية لأنها تشتمل عليه في الأكثر روى إنه عليه السلام لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات وحملها بعضهم على صلاة الشكر لا على صلاة الضحى وبعضهم على أن أربعاً منها للشكر وأربعاً للضحى أو فنزهه عما يقول الظلمة حامداً له على أن صدق وعده أو فأثن على الله بصفات الجلال يعني الصفات السلبية حامداً له على صفات الإكرام يعني الصفات الثبوتية أي على آثرها أو على تنزيلها منزلة الأوصاف الاختيارية لكفاية الذات المقدس في الاتصاف بها فإن المحمود عليه يجب أن يكون أمراً اختيارياً.
وقال القاشاني : نزه ذاتك عن الاحتجات بمقام القلب الذي هو معدن النبوة بقطع علاقة البدن والترقي إلى مقام حق اليقين الذي هو معدن الولاية حامداً له بإظهار كمالاته
530
(10/409)
وأوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلي {وَاسْتَغْفِرْهُ} هضماً لنفسك واستقصاراً لعملك واستعظاماً لحقوق الله واستدراكاً لما فرط منك من ترك الأولى أو استغفر لذنبك وللمؤمنين وهو المناسب لما في سورة محمد وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق حيث لم تشتغل على رؤية الناس باستغفارهم أولاً مع إن رؤيتهم تستدعى ذلك بل اشتغل أولاً بتسبيح الله وحمده لأنه رأى الله قبل رؤية الناس كما قيل ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وذلك لأن الناس مرآة العارف وصاحب المرآة يتوه أولاً إلى المرئي وبرؤية المرئي تلتفت نفسه إلى المرآة ولك أن تقول إن في التقديم المذكور تعليم أدب الدعاء وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسؤول عنه عن عائشة رضي الله عنها ، إنه كان عليه السلام يكثر قبل موته أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك وعنه عليه السلام ، إني لاستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ومنه يعلم إن ورد الاستغفار لا يسقط أبداً لأنه لا يخلو الإنسان عن الغين والتلوين وروى إنه لما قرأها النبي عليه السلام على أصحابه استبشروا وبكى العباس فقال عليه السلام ما يبكيك يا عم قال نعيت إليك نفسك أي ألقى إليك خبر موت نفسك والنعي ألقاء خبر الموت قال عليه السلام ، إنها لكما تقول فلم ير عليه السلام ، بعد ذلك ضاحكاً مستبشراً وقيل إن ابن عباس رضي الله عنهما هو الذي قال ذلك فقال عليه اسلام لقد أوتى هذا الغلام علماً كثيراً ولذلك كان عمر يدنيه ويأذن له مع أهل بدر ولعل ذلك للدلالة على تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين كقوله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} والكمال دليل الزوال كما قيل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 528
توقع زوالاً إذا قيل تم.
أو لأن الأمر بالاستغفار تنبيه على قرب الأجل كأنه قال قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر ونبه به على أن العاقل إذا قرب أجله ينبغي أن يستكثر من التوبة وروى إنها لما نزلت خطب رسول الله فقال إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فعلم أبو بكر رضي الله عنه فقال فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا وعنه عليه السلام إنه دعا فاطمة رضي الله عنها ، فقال : يا بنتاه إنه نعيت إلى نفسي يعني خبر وفات من دهند.
نامه رسد ازان جهان بهر مراجعت برم
عزم رجوع ميكنم رخت برخ ميبرم
فبكت فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقاً بي فضحكت وعن ابن مسعود إن هذه السورة تسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا قال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض رسول الله عليه السلام ، فخرج إلى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل فتوفى بعد أيام قال الحسن رحمه الله أعلم إنه قد اقتر أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له بالعمل الصالح وفيه تنبيه لكل عاقل إنه كان تواباً} مبالغاً في قبول توبتهم منذ خلق المكلفين فليكن كل تائب مستغفر متوقعاً للقبول وذلك إن قبول التوبة من الصفات الإضافية ولا منازعة في حدوثها فاندفع ما يرد إن المفهو من الآية إنه تعالى تواب في الماضي
531
وكونه تواباي الماضي كيف يكون علة للاستغفار في الحال والمستقبل وفي اختيار إنه كان تواباً على غفاراً مع أنه الذي يستدعيه قوله واستغفر حتى قيل وتب مضمر بعده وإلا لقال غفاراً تنبيه على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة والندم والعزم على عدم العود ثم إن من أضمر وتب يحتمل إنه جعل الآية من الاحتباك حيث دل بالأمر بالاستغفار على التعليل بأنه كان غفاراً وبالتعليل بأنه كان تواباً على الأمر بالتوبة أي استغفره وتب.
ذكر البرهان الرشيدي إن صفات الله تعالى التي على صيغة المبالغة كلها مجاز لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكبر أكثر مماله وصفاته تعالى منزهة عن ذلك واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله وقال الزركشي في البرهان التحقيق إن صيغة المبالغة قسمان أحدهما ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل والثاني بحسب تعدد المفعولات ولا شك إن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين وعلى هذا القسم تنزل صفاته ويرفع الأشكال ولهذا قال بعضهم : في حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع وقال في الكشاف المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه أو لأنه بليغ في قبول التوبة بحيث ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 528(10/410)
تفسير سورة المسد
خمس آيات مكية
جزء : 10 رقم الصفحة : 531
{تَبَّتْ} أي أهلكت فإن التباب الهلاك ومنه قولهم أشابة أم تابة أ هالكة من الهرم والعجز أو خسرت فإن التباب أيضاً خسران يؤدي إلى الهلاك {يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} تثنية يد واللهب واللهي اشتعال النار إذا خلص من الدخان أو لهبها لسانها ولهيبها حرها أبو لهب وتسكن الهاء كنية عبد العز بن عبد المطلب لجماله أو لماله كما في "القاموس" يعني إن التكني لإشراق وجنتيه وتلهبهما وإلا فليس له ابن يسمى باللهب وإيثار التباب على الهلاك وإسناده إلى يديه لما روى أنه لما نزل وأنذر عشيرتك الأقربين رقى رسول الله عليه السلام ، الصفاء وجمع أقاربه فأنذرهم فقال فقال يا بني عبد المطلب يا بني فهر إن أخبرتكم إن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي قالوا : نعم يعني اكر من شمارا خبر كنم بآنكه در اي اين كوه جمعي آمده اند بداعبه آنكه ير شماشبيخون كرده دست بقتل وغارت بكشايند مرا دران تصديق ميكنيد يانه كفتند را نكنيم وتويش ما بدروغ نعتهم نشده.
قال فإ نذير لم بين يدي الساعة فقال عمه أبو لهب تبا لك يعني هلاكت باد.
ألهذا دعوتنا وأخذ حجراً بيده ليرميه عليه السلام ، به فمنعه الله من ذلك حيث لم يستطع أن يرميه فلا كناية في ذكر اليدين ووجه وصف يديه بالهلاك ظاهر وأما
532
وصفهما بالخسران فلرد ما أعتقده من نفعه وربحه في أذية رسول الله عليه السلام ، ورميه بالحجر وذكر في التأويلات ألما تريدية إنه كان كثير الإحسان إلى رسول الله عليه السلام ، وكان يقول إن كان الأمر لمحمد فيكون لي عنده يد وإن كان لقريش فلي عندها يد فأخبر أنها خسرت يده التي كانت عند محمد عليه السلام ، بعناده له ويده التي عند قريش أيضاً لخسران قريش وهلاكهم في يد محمد {وَتَبَّ} أي وهلك كله فهو أخبار بعد أخبار والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه وقيل المراد بالأولى هلاك جملته كقوله تعالى : [المسد : 2]{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على أن ذكر اليد كناية عن النفس والجملة ومعنى وتب وكان ذلك وحصل ويؤيده قراءة من قرأ وقد تب فإن كلمة قد لا تدخل على الدعاء وقيل كلاهما دعاء عليه بالهلاك والمراد بيان استحقاقه لأن يدعى عليه بالهلاك فإن حقيقة الدعاء شأن العاجز وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بكنيته فليست للتكريم أو لكراهة ذكر اسمه القبيح إذ فيه إضافة إلى الصنم أو للتعريض بكونه جهنمياً لأنه سيصلى ناراً ذات لهب يعني إن أبا لهب باعتبار معناه الإضافي يصلح إن بكون كناية عن حاله وهي كونه جهنمياً لأن معناه باعتبار إضافته ملابس اللهب كما أن معنى أبو الخير وأخو الحرب بذلك الاعتبار ملابس الخير والحرب واللهب الحقيقي لهب جهنم وهذا المعنى يلزمه إنه جهنمي ففيه انتقال من الملزوم إلى اللازم فهي كنية تفيد الذم فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر فاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها قال في الاتقان ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبد العزى أي الصنم لأنه حرام شرعاً انتهى.
وفيه الحرام وضع ذلك لا استعماله وفي كلام بعضهم ما يفيدان الاستعمال حرام أيضاً إلا أن يشهر بذلك ما في الأوصاف المنقصة كالأعمش وكان بعد نزول هذه السورة لا يشك المؤمن إنه من أهل النار بخلاف غيره ولم يقل في هذه السورة قل تبت.
.
الخ لئلا يكون مشافها لعمه بالشتم والتغليظ وإن شتمه عمه لأن للعم حرمة كحرمة الأب لأنه مبعوث رحمة للعالمين وله خلق عظيم فأجاب الله عنه وقرىء أبو لهب بالواو كما قيل علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان مع أن القياس الياء لكونه مضافاً إليه كيلاً يغير منه شيء فيشكل على السامع والحاصل إن الكنية بمنزلة العلم والإعلام لا تتغير في شيء من الأحوال وكان لبعض أمراء مكة ابنان أحدهما عبد الله بالجر والآخر عبد الله بالفتح ما أغنى عن ماله وما كسب} أي لم يغن عنه حين حل به التبات ولم ينفعه أصلاً على أن ما نافية أو أي شيء أغنى عنه على أنها استفهامية في معنى الإنكار منصوبة بما بعدها على إنه مفعول به أو أي أغناء أغنى عنه على أنها مفعول مطلق أصل ماله وما كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع ولا أحداً أكثر مالاً من قارون وما دفع عنه الموت والعذاب ولا أعظم ملكاً من سليمان لعيه السلام وقد قيل فيه :
جزء : 10 رقم الصفحة : 532
نه برباد رفتى سحركاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
بآخ نديديكه برباد رفت
خنك آنكه بادانش وداد رفت
أو ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبي
533
عليه السلام ، أو عمله الذي ظن إنه منه على شيء كقوله تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا} من عمل فجعلناه هباء منثوراً وقال بعضهم : ما كسب منفعة وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما كسب ولده.(10/411)
(وروى) إنه كان يقول إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا افتدى منه نفسي بمالي وولدي فاستخلص منه وقد خاب رجاه وما حصل ما تمناه فافترس ولده عتبة أسد في طريق الشأم وذلك إن عتبة بن أبي لهب وكان تحت ابنة رسول الله عليه السلام أراد الخروج إلى الشأم فقال لآتين محمداً فلأوذنه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل في وجه رسول الله ورد عله ابنته وطلقها فقال عليه السلام : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً فأشرف عليهم راهب من الدير فقال إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب أعينوني يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف عى ابني دعوة محمد فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتبة فجاء الأد يتخللهم ويتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله وهلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال والعدسة بثرة تخرج في البدن تشبه العدسة وهي من جنس الطاعون تقتل غالباً فاجتنبه أهله مخافة العدوى وكانت قريش تتقيها كالطاعون فبقي ثلاثاً حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان واحتملوه ودفنوه فكان الأمر كما أخبر به القرآن وفي إنسان العيون لم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه وفي رواية حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه وعن عائشة رضي الله عنها ، إنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها والقبر الذي يرجم خارج باب الشبيكة الآن ليس بقبر أبي لهب وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة وذلك في دولة بني العباس فإن الناس أصبحوا يوماً فوجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فأمسكوهما بعد أيام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يرجمان إلى الآن سيصلى} أي ما ذكر من العذاب مآل أمره في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سيدخل لا محالة {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}
جزء : 10 رقم الصفحة : 532
نارا عظيمة ذات اشتعال وتوقد وهي نارج هنم ولسي هذا نصاً في إنه لا يؤمن أبداً حتى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبداً فيكون مأموراً بالجمع بين النقيضين كما هو المشهور فإن صلى النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب من هذا إن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره فلا اضطرار إلى الجواب المشهور من أن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي عليه السلام إجمالاً لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر {وَامْرَأَتُهُ} عطف على المستكن في سيصلى لكون الفصل بالمفعول يعني زن أو نزي با ودر آيد وداخل نار شود وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفاين عمة معاوية رضي الله عنه ، واسمها العوراء وآن درهمسا يكى حضرت عليه السلام ، خانه داشت وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق النبي عليه السلام ، تا خارى نعوذ بالله در دامنش آو يزديا درايش خلد وكن عليه السلام يطأه كما يطأ الحرير وفي تفسير أبي الليث حتى صار النبي عليه السلام ، وأصحابه في شدة
534
وعناء وفي تفسير الكاشفي وآن حضرت كه بنماز بيرون آمدي آنها برسرراه بركرفتي وبطريق ملايمت كفتى اين ه نوع همسا يكيست كه يا من ميكنيد.
مير يختند درره توخار باهمه
ون كل شكفته بود رخ كلستان تو
{حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} الحطب ما أعد من الشجر شبوباً كما في "القاموس" ونصب حمالة على الشتم والذم أي أذم حمالة الحطب قال الزمخشري وأنا استحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله عليه السلام ، بجميلم ن أحب شتم أم جميل انتهى.
وقيل على الحالية بناه على أن الإضافة غر حقيقية إذا المراد إنها تحمل يوم القيامة حزمة حطب كالزقوم والضريع وفي جيدها سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يناسب حاله في جرمه وعن قتادة إنها مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل فالنصب حينئذٍ على الشتم حتماً وقيل كانت تمشي بالنميمة وتفسد بين الناس تحمل الحطب بينهم أي توقد بينهم النائرة وتورث الشر.
س هيزم كشى عبارتست ازسخن ينى كه آتش خصومت ميان دوكس برمى افروزد.
ميان دوكس جنك ون آتش است
سخن ين بدبحت هيزم كش است
كنند اين وآن خوش دكر باره دل
وى اندرميان كور بخت وخجل
ميان دوكس آتش افروختن
جزء : 10 رقم الصفحة : 532
نه عقلست خود درميان سوختن
{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد} جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والجملة حالية والجيد بالكسر العنق ومقلده أو مقدمه كما في "القاموس" والمسد ما يفتل من الحبال فتلا شديداً من ليف كان أو جلداً وغيرهما يقال دابة ممسودة شديدة الأسر والمعنى في عنقها حبل مما مسد من الحبال وإنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون تخسيساً حالها وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتغضب من ذلك ويشق عليها ويغضب بعلها أيضاً وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة قال مرة الهمداني كانت أم جميل تأتي كل يوم بابالة من حسك فتطرحها على طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت فقعدت على حجر لتستريح فجذبها الملك من خلفها فاختقت بحبلها حتى هلكت وبدوزخ رفت وفي ينبوع الحياة إنها لما بلغها سورة تبت يدا أبي لهب جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي متحرقة غضبي فقالت له ويحك يا أحمس أي يا شجاع أما تغضب إن هجاني محمد فقال سأكفيك إياه ثم أخذ بسيفه وخرج ثم عاد سريعاً فقالت له هل قتلته فقال لها يا أختي أيسرك إن رأس أخيك في فم ثعبان قالت لا والله قال فقد كاد ذلك يكون الساعة أي فإنه رأى ثعباناً لو قرب منه صلى الله عليه وسلّم لالتقم رأسه ثم كان من أمر أبي سفيان الإسلام ومن أمر أخته الموت على الكفر والكل من حكم الله السابق.
(قال في كشف الأسرار) سك أصحاب الكهف رنك كفزادشت ولباس بلعام باعور طراز دين داشت ليكن شقاوت وسعادت أزلي ازهر دو جانب دركمين بود ون دولت روى نمود وست أن سك ازروى
535
صورت در بلعام وشانيد ند كفتند.
(فمثله كمثل الكلب) ومرقع بلعام دران سك وشيدند كفتند ثلاثة رابعهم كلبهم قوله من مسد بالوقف يعني يوقف عليه ثم يجاء بالتكبير لما مر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 532(10/412)
تفسير سورة الإخلاص
أربع أو خمس آيات مكية أو مدينة
جزء : 10 رقم الصفحة : 535
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الضمير للشأن كقولك هو زيد منطلق وارتفاعه بالابتداء وخبره الجملة ولا حاجة إلى العائد لأنها عين الشان الذي عبر عنه بالضمير أي الله أحد هو الشأن هذا أو هو أن الله أحد والسر في تصدير الجملة به التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع أن في الإبهام ثم التفسير مزيد تقرير أو الضمير لما سئل عنه أي الذي سألتم عنه هو الله إذ روى إن المشركين قالوا للنبي عليه السلام ، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه وأنسبه أي بين نسبه وذاكره فنزلت يعني بين الله نسبه بتنزيهه عن النسب حيث نفى عنه الوالدية ولمولودية والكفاءة فالضمير حينئذٍ مبتدأوخبره واحد بدل منه وإبدال النكرة المحضة من المعرفة يجوز عند حصول الفائدة على ما ذهب إليه أبو علي وهو المختار والله أعلم.
دال على الإله الحق دلالة جامعة لمعاني الأسماء الحسنى كلها.
وقال القاشاني : هو عندنا اسم الذات الإلهية من حيث هي هي أي المطلقة الصادق عليها مع جميعها أو بعضها أو لا مع واحد منها كقوله تعالي : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} انتهى.
وعبد الله هو العبد الذي تحلى بجميع أسمائه فلا يكون في عباده أرفع مقاماً وأعلى شأنا منه لتحققه بالاسم الأعظم واتصافه بجميع صفاته وهذا خص نبينا عليه السلام ، بهذا الاسم في قوله وإنه لما قام عبد الله يدعوه فلم يكن هذا الاسم بالحقيقة إلا له وللأطاب من ورثته بتبعيته وإن أطلق على غيره مجازاً لاتصاف كل اسم من أسمائه بجميعها بحكم الواحدية واحدية جميع الأسماء والأحد اسم لمن لا يشاركه شيء في ذاته كما أن الواحد اسم لمن لا يشاركه شيء في صفاته يعني أن الأحد هو الذات وحدها بلا اعتبار كثرة فيها فأثبت له الأحدية التي هي الغنى عن كل ما عداه وذلك من حيث عينه وذاته من غير اعتبار أمر آخر والواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات وهي الحضرة الإسمائية ولذا قال تعالى : إن إلهكم لواحد ولم يقل لأحد لأن الواحدية من أسماء التقييد فبينها وبين الخلق ارتباط أي من حيث الآلهة والمألوهية بخلاف الأحدية إذ لا يصح ارتباطها بشيء فقولهم العلم الإلهي هو العلم بالحق من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما لا تفيه الطاقة البشرية وهو ما وقع به الكمل في ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة ومنه يعلم أن توحيد الذات مختص في الحقيقة بالله تعالى وعبد الأحد هو وحيد الوقت صاحب الزمان الذي له القطبية الكبرى والقيام بالأحدية الأولى وعبد الواحد هو الذي بلغه الله الحضرة الواحدية وكشف له عن أحدية جميع أسمائه فيدرك ما يدرك ويفعل ما يفعل بأسمائه ويشاهد وجود أسمائه الحسنى قال
536
جزء : 10 رقم الصفحة : 536(10/413)
ابن الشيخ في حواشيه قوله هو الله أحد ثلاثة ألفاظ كل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى الله تعالى فالمقام الأول مقام المقربين وهم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته يجب وجوده وإما ما عداه فممكن والممكن إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوماً فهؤلاء لم يروا موجوداً سوى الحق تعالى وكلمة هو وإن كانت للإشارة المطلقة مفتقرة في تعين المراد بها إلى سبق الذكر بأحد الوجوه أو إلى أن يعقبها ما يفسرها إلا أنهم يشيرون بها إلى الحق ولا يفتقرون في تلك الإشرة إلا ما يميز المراد بها من غيره لأن الافتقار إلى الممز إنما يحصل حيث وقع الإبهام بأن يتعدد ما يصلح لأن يشار إليه وقد بينا إنهم لا يشاهدون بعيون عقولهم إلا الواحد فقط فلهذا السبب كانت لفظة هو كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء والمقام الثاني مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول وذلك لأنهم شاهدوا الحق موجوداً وشاهدوا الخلق أيضاً موجوداً فحصلت الكثرة في الموجودات فلا جرم لم تكن لفظة هو كافية في الإشارة إلى الحق بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق من الخلق فهؤلاء مفتقرون إلى أن يقرن لفظة الله بلفظة هو فقيل لأجلهم هو الله لأن لفظة الله اسم للموجود الذي يفتقر إليه ما عداه ويستغنى هو عن كل ما عداه فتتميز به الذات المرادة عما عداه والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد فقرن لفظة الأحد بما تقدم رداً على هؤلاء وإبطالاً لمقالهم فقيل قل هو الله أحد انتهى.
كلامه ومنه يعلم صحة ما أعتاده الصوفية من الذكر بالاسم هو وذلك لأن أهل البداية منهم وهم المحجوبون تابعون لأهل النهاية منهم وهم المكاشفون كأنهم كلهم ما شاهدوا في الوجود إلا الله فالله عندهم بهويته المطلقة السارية متعين لا حاجة إلى التعيين أصلاً فضمير هو راجع إليه لا إلى يره كما أن الضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن لتعينه وحضوره في الذهن فقول الطاعن إنه ضمير ليس له مرجع متعين فكيف يكون ذكر الله تعالى مردود على أن الضمائر أسماء وكل الأسماء ذكر لا فرق بينها بالمظهرية والمضمرية فعلى هذا يجوز أن يدخل اللام في كلمة هو في اصطلاح الصوفية لأنها إشارة إلى الهوية ولا مناقشة في الاصطلاح ثم قوله قل أمر من عين الجمع وارد على مظهر التفصيل وفيه إشارة إلى سر قوله تعالى شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم فكأنه يقول إنا شهدت بوحدة الهوية في مقام الجمع فأشهد أنت أيضاً بتلك الوحدة في مقام الفرق ليظهر سر الأحدية واللا حدية ويحصل التطابق بينهما جمعاً وتفصيلاً هكذا لاح بالبال والله أعلم بحقيقة الحالو قرىء هو الله بلا قل وكذا في المعوذتين لأنه توحيد والأخريان تعوذ فيناسب إن يدعو بهما وإن يؤمر بتبليغهما وقد سبق في سورة الأعلى ما يغنى عن تكراره ههنا وقال بعضهم : إنما أثبت في المصحف قل والتزم في التلاوة مع إنه ليس من دأب المأمور بقل أن يتلفظ في مقام الائتمار إلا بالمقول لأن المأمور ليس المخاطب به فقط بل كل واحد ابتلى بما ابتلى به المأمور فأثبت ليبقى على مر الدهور منا على العباد الله الصمد}
537
جزء : 10 رقم الصفحة : 536
مبتدأ وخبر فعل بمعنى مفعول كقبض بمعنى مقبوض من صمد إليه من باب نصر إذا قصد أي هو السيد المصمود إليه في الحوائج المستغنى بذاته وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته فلا صمد في الوجود سوى الله فهو مثل زيد الأمير يفيد قصر الجنس على زيد فإذ كان هو الصمد فمن انتفت الصمدية عنه لا يستحق الألوهية وتعريفه لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته وتكرير الاسم الجليل للإشار بأن من يتصف به فهو بمعزل عن استحقاق الألوية كما أشير إليه آنفاً وتعرية الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى وبين أولاً أولهيته المستتبعة لكافة نعوت الكمال ثم أحديتة الموجبة لتنزهه عن شائبة التعدد والتركب بوجه من الوجوه وتوم المشاركة في الحقيقة وخواصها ثم صمديه المقتضية لاستغنائه الذاتيعما سواه وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودا وبقائها وسائر أحوالها تحقيقاً للحق وإرشاداً لم إلى سننه الواضح فإثبات الصمدية له سبحانه إنما هو باعتبار استنادنا إليه في الوجود والكمالات التابعة للوجود باعتبار أحدية ذته فهو غني عن هذه الصفة والحاصل إن الصمدية تقتضي اعتبار كثرة الأسماء والصفات في الله دون الأحدية وعبد الصمد هو مظهر الصمدية الذي يصمد إليه أي يقصد لدفع البليات وإيصال امداد اخيرات ويستشفع به إلى الله ادفع العذاب وإعطاء الثواب وهو محل نظر الله إلى العالم في ربوبيته له.
(10/414)
يقول الفقير : جرى على لسان الباطن بلا اختيار منى وذلك بعد الإشراق إن أقول أزلي أبدي إحدى صمدي أي أنت يا رب أزلي أحدي وأبدي صمدي فالأزلية ناظرة إلى الأحدية كما أن الأبدية ناظرة إلى الصمدية وذلك باعتبار التحليل والتعقيد فإن الأحدية لا تتجلى إلا بإزالة الكثرت فعند الانتها إلى مقام الغنى الذي هو الغيب المطلق تزول الكثرة ويكون الزوال أزلاً وهذا تحليل وفناء وعبور عن المنازل وعروج إلى المرصد الأعلى والمقصد الأقصى عيناً وعلماً وإما الصمدية فباعتبار الأبدية التي هي البقاء وذلك يقتضي التعقيد بعد التحليل فهي بالنزول إلى مقام العين بالمهملة أي العين الخارجي والعالم الشهادي الذي أسفل منازله عالم الناسوت والحاصل أن الأحدية جمع والصمدية فرق فمقام الأحدية هي النقطة الغير المنقسمة التي نبسطت منها جملة التراكيب الواحدية فأول تعيناتها هي مرتبة آدم ثم حواء لأن حواء إنما ظهرت بعد الهواء المنبعث من تعين آدم الحقيقي ولذا انقلبت الهاء حاء فصار الهواء حواء وخاصية الاسم الأحد ظهور عالم القدرة وآثارها حتى لو ذكره ألفاً في خلوة على طهارة ظهرت له العجائب بحسب قوته وضعفه وخاصية الاسم الصمد حصول الخير والصلاح فمن قرأه عند السحر مائة وخمساً وعشرين مرة ظهرت عليه آثار الصدق والصديقية وفي اللمعة ذاكره لا يحس بألم الجوع ما دام ملتبساً بذكره والقراءة وصلاً أحد الله الصمد منوناً مكسور الالتقاء الساكنين وكان أبو عمر وفي أكثر الروايات يسكت عند هو الله أحد وزعم أن العرب لا تصل مثل هذا وروى عنه إنه قال وصلها قراءة محدثة وروى عنه قال أدركت القراء كذلك يقرأونها قل هو الله أحدو إن وصلت نونت وروى عنه إنه قال أحب إلى إذا كان رأس آية أن يسكت عندها وذلك لأن الآية منقطعة عما بعدها مكتفية بمعناها فهي فاصلة وبها سميت آية وإما وقفهم كلهم
538
فيسكتون على الدال ثم صرح ببعض أحكام جزئية مندرجة تحت الأحكام السابقة فقيل {لَمْ يَلِدْ} نزاد كسى را.
جزء : 10 رقم الصفحة : 536
تنصيصاً على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي من غير أن يقال لن يلد أولاً يلد أي لم يصدر عنه ولد لأنه لا يجانسه شي ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالد أولاً يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه فإن قلت لم قال في هذه السورة لم يلد وفي سورة بني إسرائيل لم يتخذ ولداً أجيب بأن النصارى فريقان منهم من قال عيسى ولد الله حقيقة فقوله لم يلد إشارة إلى الرد عليه ومنهم من قال اتخذه ولداً تشريفاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً تشريفاً فقوله لم يتخذ ولداً إشارة إلى الرد عليه {وَلَمْ يُولَدْ} ونزاده شد از كسى.
أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه سابقاً أولاً حقاً وقال بعضهم : الوالدية والمولودية لا تكونان إلا بالمثلية فإن المولود لا بد أن يكون مثل الوالد ولا مثلية بين هويته الواجبة وهوياتنا الممكنة انتهى وقال البقلي لم يلد ولم يولد أي لم يكن هو محل الحوادث ولا الحوادث محله والتصريح بأنه لم يولد مع كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه بالإشرة إلى أنهما متلازمان إذ المعهود إن ما يلد يولد وما لا فلا ومن قضية الاعتراف بأنه لم يولد الاعتراف بأنه لا يلد وفي "كشف الأسرار" قدم ذكر لم يلد لأن من الكفار من ادعى إن له ولداً ولم يدع أحد إنه مولود.
(وفي التفسير الفارسي) : لم يلد رد يهوداست كه كفتند عزيز سر اوست ولم يولد رد نصارى است كه كويند عيسى خدا است.
قال أبو الليث لم يلد يعني لم يكن له ولد يرثه ولم يولد يعني لم يكن له والد يرث ملكه {وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ} يقال هذا كفاؤه وكفؤه مثله وكافأ فلاناً ماثله وله صلة لكفؤا قدمت عليه مع أن حقها التأخر عنه للاهتمام بها لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى أي لم يكافئه دو لم يماثا ولم يشاكله بل هو خالق الأكفاء ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح نفياً للصاحبة وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل ولعل ربط الجمل الثلاث بالعاطف لأن المراد منها نفي أقسام الأمثال فهي جملة واحدة منبه عليها بالجمل.
قال القاشاني : ما كانت هويته الأحية غير قابلة للكثرة والانقسام ولم تكن مقارنة الوحدة الذاتية الغيرها إذا ما عدا الوجود المطلق ليس إلا لعدم المحض فلا يكافئه أحد إذ لا يكافىء اعدم الصرف الوجود المحض.
(وقال الكاشفي) : رد مجوس ومشركان عربست كه كفتند اورا كفوهست نعوذ بالله وكفته اند هر آيتي ازين سوره تفسير آيت يش است ون كويند من هو توكويى أحد ون كويند أحد كيست تو كويى صمد ون كويند صمد كيست توكويى الذي لم يلد ولم يولد ون كويند لم يلد ولم يولد كيست توكويى الذي لم يكن له كفؤا أحد.
جزء : 10 رقم الصفحة : 536
(10/415)
وقال بعضهم : كاشف الوالهين بقوله هو وكاشف الموحدين بقوله الله وكاشف العارفين بقوله أحد والعلماء بقوله الصمد والعقلاء بقوله {لَمْ يَلِدْ} .
.
الخ وهو أي لم يلد إشارة إلى توحيد العوام لأنهم يستلدون على المصانع بالشواهد والدلائل وقال بعض الكبار إن سورة الإخلاص إشارة إلى حال النزول وهو حال المجذوب فأولاً يقول هو الله أحد الله الصمد.
.
الخ وحال
539
الصعود يعتبر من الآخر إلى جانب هو فيقول أولاً لم يكن له كفؤا أحد ثم يترقى إلى أن يقول هو لكن لا ينبغي للسالك أن يكتفي بوجدان هو في القرآن بل ينبغي له أن يترقى إلى القرآن الفعلي فيشاهد هو في القرآن وهو محيط بالعوالم كلها وهو أول ما ينكشف للسالك ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع معارف الإلهية والرد على من الحد فيها جاء في الحديث إنها تعدل ثلث القرآن فإن مقاصده منحصرة في بيان العقائد والأحكام والقصص ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات منه وهو علم المبدأ وصفاته إذ ما عداه ذرائع إليه وقال عليه السلام : أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد أي ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه اسورة وعنه عليه السلام ، سمع رجلاً يقرأ قل هو الله أحد فقال : وجبت فقيل وما وجبت يا رسول الله قال وجبت له الجنة وعن سهيل ابن سعد رضي الله عنه جاء رجل إلى النبي عليه السلام وشكا إليه الفقر فقال إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة وحدة ففعل الرجل ذلك فأدر الله عليه رزقاً حتى أفاض على جيرانه وعن علي رضي الله عنه إنه قال من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الفجر إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذٍ ولو اجتهد الشيطان وفي الحديث أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة واحدة فقيل يا رسو الله من يطيق ذلك قال أن يقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات وروى إنه نزل جبريل عليه السلام بتبوك فقال يا رسول الله إن معاوية بن المزني رضي الله عنه مات في المدينة أتحب أن أطوي لك الأرض فتصلي عليه قال : نعم فضرب بجناحه على ورض فرفع له سريره وصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة كل صف سبعون الف ملك ثم رجع فقال عليه السلام بم أدرك هذا قال بحبه قل هو الله أحد وقراءته إياها جائياً وذاهباً وقائماً وقاعداً وعلى كل حال رواه الطبراني وصحب سورة الإخلاص حين نزلت سبعون ألف ملك كلما مروا بأهل سماء سألوهم عما معهم فقالوا نسبة الرب سبحانه ولهذا سميت هذه اسورة نسب الرب كما في كشف الأسرار وسميت سورة الإخلاص لإخلاص الله من الشرك نسب الرب كما في كشف الأسرار وسميت سورة الإخلاص لإخلاص الله من الشرك أو للخلاص من العذاب أو خالصة في التوحيد قال الامام الغزالي رحمه الله تعالى.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 536
عفو ربي وثيقتي بالخلاص.
واعتصامي بسورة الإخلاص).
أو لأنها سورة خالصةليس فيها ذكر شيء من الدنيا والآخرة وقال الحنفي لأنها تخلص قارئها من شدائد الآخرة وسكرات الموت وظلمات القبر وأهوال القيامة وقال القاشاني : لأن الإخلارص تمحيض الحقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة.
540
جزء : 10 رقم الصفحة : 536(10/416)
تفسير سورة الفلق
خمس آيات مدينة
جزء : 10 رقم الصفحة : 540
قل أعوذ برب الفلق} الفلق الصبح لأنه يفلق عنه الليل ويفرق فهو من باب الحذف والإيصال فعل بمعنى مفعول كالصمد والقبض بمعنى المصمود إليه والمقبوض كما مر فإن كل واحد من المفلوق والمفلوق عنه مفعول وذلك إنما يتقق بأن يكون الشيء مستوراً ومحجوباً بآخر ثم يشقق الحجاب الساتر عن وجه المستور ويزول فيظهر ذلك المستور وينكشف بسبب زواله وذلك الحجاب المشقق مفلوق والمحجوب المنكشف بزواله مفلوق عنه والصبح صار مفلوقاً عنه بإزالة ما عليه من ظلمة الليل يقال في المثل هو أبين من فلق الصبح والفلق أيضاً الخلق لأن الممكنات بأسرها كانت أعياناً ثابتة في علم الله مستورة تحت ظلمة العدم فالله تعالى فلق تلك الظلمات بنور التكون والإيجاد فأظهر ما في علمه من المكونات فصارت مفلوقاً عنها وفي تعليق العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المبنىء عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعادة العائد مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه لتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه والاعاذة بربه قالوا إذا طلع الصبح تتبدل الثقلة بالخفة والغم بالسرور روى أن يوسف عليه السلام لما ألقى في الجب وجعت ركبته وجعاً شديداً فبات ليلته ساهراً فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل بإذن الله تعالى يسأله ويأمره بأن يدعو ربه فقال يا جبريل ادع أنت واؤ من فدعا جبريل وأمن يوسف عليهما السلام ، فكشف الله تعالى ما كان به من الضر فلما طاب وقت يوسف قال يا جبريل وأنا أدعو أيضاً وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم إنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم به من دنياهم فقال لا أبالي أليس من ورائهم الفلق فقيل وما الفلق قال بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} أي من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم كائناً ما كان من ذوات الطبائع والاختيار وبالفارسية ازبدي آنه آفريد است ازمؤذيات أنس وجن وسباع وهوام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 541
فيشمل جميع الشرور والمضار بدنية كانت أو غيرها من ضرب وقتل وشتم وعض ولدغ وسحر ونحوها وءِّافة الشر إليه لاختصاصه بعالم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة وتفاعل كيفياتها المتضادة المستنبعة للكون والفساد وإما عالم الأمر فهو خير محض منزه عن الشوائب الشر بالكلية وقرأ بعض المعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الشر من شر بالتنوين ما خلق على النفي وهي قراء مردودة مبنية على مذهب باطل الله خالق كل شيء {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندارجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه ولأن تعيين المستعاذ أدل على الاعتناء بالاستعاذة
541(10/417)
وادعى إلى الإعاذة أي ومن شر ليل مختلط ظلامه مشتد وذلك بعد غيبوبة الشفق من قوله تعالى : [الإسراء : 78-3]{إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} أي اجتماع ظلمته وفي القاموس الغسق محركة ظلمة أول الليل وغسق الليل غسقاً ويحرك اشتدت ظلمته فالغاسق الليل المظلم كما في المفردات وأصل الغسق الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعاً أو هو السيلان وغسق العين سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له بحدوثه فيه وتنكيره لعدم شمول الشر لجميع أفراده ولا لكل أجزائه إذا وقب} الوقب النقرة في الشيء كالنقرة في الخرة يجتمع فيها الماء ووقب إذا دخل في وقب ومته وبت الشمس إذا غابت ووقب الظلام دخل والمعنى إذا دخل ظلامه في كل شيء وتقييده به لأن حدوث الشرفيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر ولذلك قيل الليل أخفى للويل وقيل : أغدر الليل لأنه 5ا أظلم كثر فيه الغدر والغوث يقل في الليل ولذا لو شهر إنسان بالليل سلاحاً فقتله المشهر عليه لا يلزمه قصاص ولو كان نهاراً يلزمه لأنه يوجد فيه الغوث والحاصل إنه ينبعث أهل الحرب في الليل وتخرج عفاريت الجن والهوام والمؤذيات ونهى رسول الله عليه السلام ، عن السير في أول الليل وأمر بتغطية الأواني وأغلاق الأبواب وإيكاء الأسقية وضم الصبيان وكل ذلك للحذر من الشر والبلاء وقيل الغاسق القمر إذا امتلأ ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده لما روى عن عائشة رضي الله عنها ، إنها قالت أخذ رسول الله علي السلام بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب وشره الذي يتقى ما يكون في الأبدان كآفات التي تحدث بسببه ويكون في الأديان كالفتنة التي بها افتتن من عبد وعبد الشمس وقيل التعبير عن القمر بالغاسق لأن جرمه مظلم وإنما يستنير بضوء الشمس ووقوبه المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحساً ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلا في ذلك قيل وهو المناسب لسبب النزول وقيل الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين وإذا طلعت قلت الأمراض والآلام وقيل هو كل شر يعترى الإنسان ووقوبه هجومه ويجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحياة ووقبه ضربه ولسبه وفي "القاموس" هو الذكر إذا وقام هو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة {وَمِن شَرِّ النَّفَّـاثَـاتِ} واز شرد مندكان.
جزء : 10 رقم الصفحة : 541
من النفث وهو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه فإن كان معه ريق فهو التفل يقال منه نفث الراقي ينفث وينفث بالضم ولكسر والنفاثات بالشديد يراد منها تكرار الفعل والاحتراف به والنفاثات تكون للدفعة الواحدة من الفعل ولتكراره أيضاً {فِى الْعُقَدِ} جمع عقدة وهي ما يعده الساحر على وتر أو حبل أو شعر وهو ينفث ويرقى وأصله من العزيمة ولذلك يقال لها عزيمة كما يقال لها عقدة ومنه قيل للساحر معقد والمعنى ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها وتعريفها إما للهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها إنه كان غلام من اليهود يخدم النبي عليه السلام ، وكان عنده أسنان من مشطه عليه السلام ، فأعطاها اليهود فسحروه عليه السلام ، فيها ولذا ينبغي أن يقطع الظفر بعد التقليم وكذا الشعر
542
(10/418)
إذا أسقط من اللحية والرأس نصفين أو أكثر لئلا يسحر به أحد وتولاه لبيد بن أعصم اليهودي وبناته وهن النفاثات في العقد فدفنها في بئر أريس وفي "عين المعاني" في بئر لبني زريق تسمى ذروان فمرض النبي عليه السلام روى إنه لبث فيه ستة أشهر فنزل جبرائيل بالمعوذتين بكسر الواو كما في "القاموس" وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره فأرسل عليه السلام علياً والزبير وعماراً رضي الله عنهم ، فنزحوا ماء البئر فكأنه نقاعة الحناء ثم رفعوا راعونة البئر وهي الصخرة التي توضع في أسفل البئر فأخرجوا من تحتها الأسنان ومعها وترقد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بلأبر فجاؤوا بها النبي عليه السلام ، فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما قرأ آية نحلت عقدة ووجد عليه السلام ، خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين فقام عليه السلام ، كأنما أنشط من عقال وجعل جبرائيل يقول بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل شيء يؤذيك من عين وحاسد فلذا جوز الاسترقاء بما كان من كلام الله وكلام رسوله لا بما كان بالعبرية والسريانية والهندية فإنه لا يحل اعتقاده فقالوا يا رسول الله أفلا نقتل الخبيث فقال عليه السلام إما أنا فقد عافاني الله وأكره إن أثير على الناس شراً قالت عائشة رضي الله عنها ما غضب النبي عليه السلام ، غضباً ينتقم لنفسه قط إلا أن يكون شيئاً هو الله فيغضب الله وينتقم وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقدة بنفث الريق ليسهل حلها فعلى هذا فالنفاثات هي جنس النساء اللاتي شأنهن أن يغلبن على الرجال ويحولنهم عن آرائهم بأنواع المكر والحيلة فمعنى الآية إن النساء لأجل استقرار حبهن في قلوب الرجال يتصرفن فيهم ويحولنهم من رأي إلى رأي فأمر الله تعالى له رسوله بالتعوذ من شرهن.
جزء : 10 رقم الصفحة : 541
اعلم أن السحر تخييل لا أصل له عند المعتزلة وعند الشافعي تمريض بما يتصل به كما يخرج من فم المتثائب ويؤثر في المقابل وعندنا سرعة الحركة ولطافة الفعل فيما خفي فهمه وقيل طلسم يبني على تأثير خصائص الكواكب كتأثير الشمس في زئبق عصى سحرة فرعون والمعتزلة أنكروا صحة الرواية المذكورة وتأثير السحر فيه عليه السلام وقالوا كيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول والله يعصمك من الناس وقال ولا يفلح الساحر حيث أتى ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوى ولحصل فيه عليه السلام ذكر العيب ومعلوم أن ذلك غير جائز وقال أهل السنة صحة القصة لا تستلزم صدق لكفرة في قولهم إنه مسحور وذلك لأنهم كانوا يريدون بكونه مسحوراً إنه مجنون أزيل عقله بسبب السحر فلذلك ترك دين آبائه فأما أن يكون مسحوراً بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطاناً ولا أنسياً وجنياً يؤذيه فيما يتعلق بنبوته وعقله وإما الإضرار به من حيث بشريته وبدنه فلا بعد فيه وتأثير السحر فيه عليه السلام ، لم يكن من حيث إنه نبي وإنما كان في بدنه من حيث إنه إنسان وبشر فإنه عليه السلام يعرض له من حيث بشريته ما يعرض لسائر البشر من الصحة والمرض والموت والأكل والشرب ودفع الفلات وتأثير السحر فيه من حيث بشريته لا يقدح في نبوته وإنما يكون
543
(10/419)
قادحاً فيها لو وجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة ولم يوجد ذلك كيف والله تعالى يعصمه من يضره أحد فيما يرجع إليها كما لم يقدح كسر رباعيته يوم أحد فيما ضمن الله له من عصمته في قوله والله يعصمك من الناس وفي "كشف الأسرار" فإن قيل : ما الحكمة في نفوذ السحر وغلبته في النبي عليه السلام ، ولماذا لم يرد الله كيد الكائد إلى نرحه بإبطال مكره وسحره قلنا الحكمة فيه الدلالة على صدق رسول الله عليه السلام ، وصحة معجزاته وكذب من نسبه إلى السحر والكهانة لأن سحر الساحر عمل فيه حتى التبس عليه بعض الأمر واعتراه نواع من الوجع ولم يعلم النبي عليه السلام بذلك حتى دعا ربه ثم دعا فأجابه الله وبين له ره ولو كان ما يظهر من المعجزات الخارقة للعادات من باب السحر على ما زعم أعداوؤه لم يشتبه عليه ما عمل من السحر فيه ولتوصل إلى دفعه من عنده وهذا بحمد الله من أقوى البراهين على نبوته وإنما أخبر النبي عليه السلام ، عائشة رضي الله عنها من بين نسائه بما كشف الله تعالى له من ر السحر لأنه عليه السلام كان مأخوذاً عن عائشة رضي الله عنها ، في هذا السحر على ما روى يحيى بن يعمر قال حبس رسول الله عليه السلام ، عن عائشة فبينما هو نائم أو بين النوم واليقظة إذا أتاه ملكان جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فهذا يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر ، قال : من فعل به قال لبيد بن أعصم اليهودي قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا قال فما دواؤه قال ينبعث إلى تلك البئر فينزح ماءها فإنه ينتهي إلى صخرة فإذا رآها فليقلعها فإن تحتها كوبة وهر كوز سقط عنقها وفي الكوبة وترفيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالأبر فيحرقها بالنار فيبرأ إن شاء الله تعالى فاستيقظ عليه السلام ، وقد فهم ما قالا فبعث علياً رضي الله عنه إلى آخر ما سبق وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت كان رسول الله عليه السلام ، إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ
جزء : 10 رقم الصفحة : 541
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي وفيه إشارة إلى الهواجس النفسانية والخواطر الشيطانية النفاثات الساحرات في عقد عقائد القلوب الصافية الظاهرة أخباث السيئات العقلية وألواث الشكوك الوهمية والعياذ بالله منها ومن شر حاسد إذا حسد} بالوقف ثم يكبر لأن الوصل لا يخلو من الإيهام أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه ترتيب مقدمات الشر ومبادي الأضرار بالمحسود قولاً أو فعلاً والتقييد بذلك لما أن ضرر الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد لا غير وفي "الكشاف" فإن قلت فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه قلت عرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة ونكر غاسق لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر ورب حسد محمود وهو الحسد في الخيرات ويجوز أن يراد بالحاسد قابيل لأنه حسد أخاه هابيل والحسد الأسف على الخير عند الغير وفي "فتح الرحمن" تمنى زوال النعمة عن مستحقها سواء كانت نعمة دين أو دنيا وفي الحديث المؤمن يغبط والمنافق يحسد وعنه عليه السلام الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وأول ذنب عصى الله به في السماء حسد إبليس لآدم فأخرجه من الجنة فطرد وصار شيطاناً رجيماً وفي الأرض قابيل لأخيه هابيل
544
فقتله قال الحسين بن الفضل رحمه الله ، ذكر الله الشرور في هذه السورة ثم ختمها بالحسد ليظهر إنه أخبث الطبائع كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
اكر در عالم از حسد بدتر بودي
ختم اين سوره بدان كردى
حسد آتشى دان كه ون بر فروخت
حسود لعين را همان لحظه سوخت
كرفتم بصورت همه دين شوى
حسدكى كذا ردكه حق بين شوى
وفيه إشارة إلى حسد النفس الأمارة إذا حسدت القلب وأرادت أن تطفىء نور وتوقعه في التلوين وكفران النعمة الذي هو سبب لزوالها وفي الحديث أن النبي عليه السلام قال لعتبة بن عامر رضي الله عنه ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قوله : ألم تر كلمة تعجب وما بعدها بيان لسبب التعجب يعني لم يوجد آيات كلهن تعويذ غير هاتين السورتين وهما قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وفي الحديث دليل على أنهما من القرآن ورد على من نسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه إنهما ليستا منه وفي عين المعاني الصحيح إنهما من القرآن إلا أنهما لمتثبتا في مصحفه للأمن من نستانهما لأنهما تجريان على لسان كل إنسان انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 541
اعلم أن مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، حذف منه أم الكتاب والمعوذتان ومصحف أبي بن كعب رضي الله عنه ، زيد فيه سورة القنوت ومصحف زيد بن ثابت رضي الله عنه كان سليماً من ذلك فكان كل من مصحفي ابن مسعود أبي منسوخاً ومصحف زيد معمولاً به وذلك لأنه عليه السلام ، كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام في كل شهر رمضان مرة واحدة فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه مرتين وكان قراءة زيد من آخر العرض دون قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما وتوفي عليه السلام وهو يقرأ على ما في مصحف زيد ويصلى به قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جميع سور القرآن مائة واثنتا عشرة سورة قال الفقيه في البستان إنما قال إنها مائة واثنتا عشرة سورة لأنه كان لا يعد المعوذتين من القرآن وكان لا يكتبهما في مصحفه ويقول إنهما منزلتان من السماء وهما من كلام رب العالمين ولكن النبي عليه السلام كان يرقى ويعوذ بهما فاشتبه عليه إنهما من القرآن أو ليستا منه فلم يكتبهما في المصحف وقال مجاهد جميع سور القرآن مائة وثلاث عشرة سورة وإنما قال ذلك لأنه كان يعد الأنفال والتوبة سورة واحدة ، وقال أبي بن كعب رضي الله عنه ، جميع سور القرآن مائة وست عشرة سورة وإنما قال ذلك لأنه كان يعد القنوت سورتين إحداهما من قوله اللهم إنا نستعينك إلى قوله من يفجرك والثانية من قوله اللهم إياك نعبد إلى قوله ملحق وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة وهذا قول عامة الصحابة رضي الله عنهم وهكذا في مصحف الامام عثمان بن عفان رضي الله عنه وفي مصاحب أهل الأمصار فالمعوذتان سورتان من القرآن روى أبو معاوية عن عثمان بن واقد قال أرسلني أبي إلى محمد بن المنكدر وسأله عن المعوذتين اهما من كتاب الله قال من
545
لم يزعم إنهما من كتاب الله فعلية لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وفي نصاب الاحتساب لو أنكر آية من القرآن سوى المعوذتين يكفر انتهى.
وفي الأكمل عن سفيان بن سختان من قال إن المعوذتين ليستا من القرآن لم يكفر لتأويل ابن مسعود رضي الله عنه ، كما في المغرب للمطرزي وقال في هدية المهديين وفي إنكار قرآنية المعوذتين اختلاف المشايخ والصحيح إنه كفر انتهى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 541(10/420)
تفسير سورة الناس
ست آيات مدينة
جزء : 10 رقم الصفحة : 545
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم.
قال القاشاني : رب الناس هو الذات مع جميع الصفات لأن الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتبا لوجود فربه الذي أوجده وأفاض عليه كماله هو الذات باعتبار جميع لأسماء الجمالية والجلالية تعوذ بوجهه بعد ما تعوذ بصفاته ولهذا تأخرت هذه الصورة عن المعوذة الأولى إذ فيها تعوذ في مقام الصفات باسمه الهادي فهداه إلى ذاته وفي الحديث : "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك" ابتدأ بالتعوذ بالرضى الذي هو من الصفات لقرب الصفات من الذات ثم استعاذ بالمعافاة التي هي من صفات الأفعال ثم لما ازداد يقيناً ترك الصفات فقال وأعوذ بك منك قاصراً نظره على الذات وابتدأ بعض العلماء في ذكر هذا الحديث بتقديم الاستعاذة بالمعافاة على التعوذ بالرضى للترقي من الأدنى الذي هو من صفات الأفعال إلى الأعلى الذي هو صفات الذات قال بعضهم : من بقى له التفات إلى غير الله استعاذ بأفعال الله وصفاته فأما من توغل في بحر التوحيد بحيث لا يرى في الوجود إلا الله لم يستعذ إلا بالله ولم يلتجىء إلا إلى الله والنبي عليه السلام ، لما ترقى عن هذا المقام وهو المقام الأول قال أعوذ بك منك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
يقول الفقير : ففي الالتجاء إلى الله في هذه السورة دلالة على ختم الأمر فإن الله تعالى هو الأول الآخر وإليه يرجع الأمر كله وإن إلى ربك المتهى وفيه إشارة إلى نسيان العهد السابق الواقع يوم الميثاق فإن الإنسان لو لم ينسه لما احتاج إلى العود والرجوع بل كان في كنف الله تعالى دائماً {مَلِكِ النَّاسِ} عطف بيان جيء به لبيان إن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الشامل والسلطان القاهر فما ذكروه في ترجيح المالك على الملك من أن المالك مالك العبد وإنه مطق التصرف فيه بخلاف الملك فإنه إنما يملك بقهر وسياسة ومن بعض الوجوه فقياس لا يصح ولا يطرد إلا في المخلوقين لا في الحق فإنه من الين إنه مطلق التصرف وإنه يملك من جميع الوجوه فلا يقاس ملكية غيره عليه ولا تضاف النعوت والأسماء إليه إلا من حيث أكمل مفهوماته ومن وجوه ترجيح الملك على المالك إن الأحاديث النبوية مبينات لأسرار القرآن ومنبهات عليها وقد ورد في الحديث في بعض الأدعية النبوية
546(10/421)
لك الحمد لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه ولم يرد ومالكه وأيضاً فالأسماء المستقلة لها تقدم على الأسماء المضافة واسم الملك ورد مستقلاً بخلاف المالك ومما يؤيد ذلك إن الأسماء المضافة لم تنقل في إحصاء الأسماء الثابتة بالقنل مثل قوله عز وجل فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا وذي المعارج وشبهها وأيضاً فإن الحق يقول في آخر الأمر عند ظهور غلبة الأحدية على الكثرة في القيامة الكبرى والقيامات الصغرى الحاصلة للسالكين عند التحقق بالموصول عقيب انتهاء السير وحال الانسلاخ لمن الملك اليومالواحد القهار والحاكم على الملك هو الملك فدل إنه أرجح وقد جوزوا القراءة مالك وملك في سورة الفاتحة لا في هذه السورة حذراً من التكرار فإن أحد معاني الاسم الرب في اللسان المالك ولا ترد الفاتحة فإن الراجح فيها عند المحققين هو الملك لا المالك {إِلَـاهِ النَّاسِ} هو لبيان إن ملكه تعالى لسي بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمرو سياستهم والتولي لترتيب مبادي حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيم إحياء وإماتة وإيجاداً وإعداماً وأيضاً إن ملك الناس إشارة إلى حال الفناء في الله كم أشرنا إليه وإله الناس لبيان حال البقاء بالله لأن الإله هو المعبود المطلق وذلك هو الذات مع جميع الصفات فلما فنى العبد في الله ظهر كونه ملكاً ثم رده الله إلى الوجود لمقام العبودية فتم استعاذته من شر الوسواس لأن الوسوسة تقتضي محلاً وجودياً ولا وجود في حال الفناء ولا صدر ولا وسوسة ولا موسوس بل إن ظهر هناك تلوين بوجود الأنانية يقول أعوذ بك منك فلما صار معبوداً بوجود العابد ظهر الشيطان بظهور العباد كما كان أولاً موجوداً بوجوده وأيضاً مقام الربوبية المقيدة بالناس هو لحضرة الامام الذي على باب عالم الملكوت وفيها يشهد وهي موضع نظره فإنها ثلاث حضرات اختصت بثلاثة أسماء نالها ثلاثة رجال وهي حضرة الرب والملك والإله فرجالها الأمامان والقطب والأمامان وزيرن للقطب صاحبا لوقت وينفرد القطب بالكشف الذتي المطلق كما ينفرد الامام الذي على يسار القطب بباب عالم الشهادة الذي لا سبيل للامام الثاني الذي يمينه إليه وإنما أضيف أمام الربوبية للناس وهو ما الملكوتيات لأنه لا بد له عند موت الامام الثاني المسمى بالملك أن يرث مقامه بخلاف غير وفي "الإرشاد" تخصيص الإضافة بالناس مع انتظام جميع العالمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته لأن المستعاذ مكنه شر الشيطان المعروف بعدواتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملزوته رمز إلى إنجائهم من هلكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير بالإضافة فإن ما لا شرف فيه لا يعبأ به ولا يعاد ذكره بل يترك ويهمل وقد قال من قال :
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره
هو المسك ما كررته يتضوع
والتضوع بوي خوشض دميدن فلولا إن الناس أشرف مخلوقاته لما ختم كتابه بذكرهم {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} هو اسم بمنى الوسوسة وهو الصوت
547
الخفي الذي لا يحس فيحترز منه كالزلزال بمعنى الزلزلة وما المصدر فالبكسر والفرق بين المصدر واسم المصدر هو أن الحدث أن اعتبر صدوره عن الفاعل ووقوعه على المفعول سمى مصدراً وإذا لم يعتبر بهذه الحيثية سمى اسم المصدر ولما كانت الوسوسة كلاماً يكرره الموسوس ويؤكده عند من يليه إليه كرر لفظها بإزاء تكرير معناها والمراد بالوسواس الشيطان لأنه يدعو إلى المعصية بكلام خفي يفهمه القلب من غير أن يسمع صوته وذلك بالأغرار بسعة رحمة الله أو بتخييل أن له في عمره سعة وإن وقت التوبة باق بعد سمى بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة لدوام وسوسته فقد أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس.
.
الخ ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه وإنما وصفه بأعظم فاته وأشدها شراً وأقواها تأثيراً وأعمها فساداً وإنما استعاذ منه بالإله دون بعض أسمائه كما في السورة الأولى لأن الشيطن هو الذي يقابل الرحمن ويستولى على الصورة الجمعية الإنسانية ويظهر في صور جميع الأسماء ويتمثل بها إلا بالله والرحمن فلم تكف الاستعاذة منه بالهادي والعليم والقدير وغير ذلك فلهذا لما تعوذ من الاحتجاب والضلالة تعوذ برب الفلق وههنا تعوذ برب الناس ومن هذا يفهم معنى قوله عليه السلام ، من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي وكذا لا يتمثل بصور الكمل من أمته لأنهم مظاهر الهداية المطلقة.
قال بعض الكبار : الإلقاء إما صحيح أو فاسد.
فالصحيح إلي رباني متعلق بالعلوم والمعارف أو ملكي روحاني وهو الباعث على الطاعة وعلى كل ما فيه صلاح ويسمى إلهاماً.
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
(10/422)
والفاسد نفساني وهو ما فيه حظ النفس ويسمى هاجساً أو شيطاني وهو ما يدعو إلى معصية ويسمى وسواساً وفي آكام المرجان وينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم في ست مراتب المرتبة الأولى الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه وهذا أول ما يريده من العبد والمرتبة الثانية البدعة وهي أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها فتكون كالعدم والبدعة يظن صاحبها إنها صحيحة فلا يتوب منها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابع هي الصغائر التي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها كالنار الموقدة من الخطب الصغار فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة وهي اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقبا بل عقابها فوات الثواب الذي فات عليه باشتغاله بها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل ومن الشياطين شيطان الوضوء ويقال له الولهان بفتحتين وهو شيطان يولع الناس بكثرة استعمال الماء قال عليه السلام ، تعوذوا بالله من وسوسة الوضوء ومنهم شيطان يقال له خنزب وهو الملبس على المصلي في صلاته وقراءته قال أبو عمر والبخاري رحمهما الله ، أصل الوسوسة ونتيجتها من عشرة أشياء أولها الحرص فقابله بالتوكيل والقناعة والثاني الأمل فأكسره بمفاجأة الأجل والثالث التمتع بشهوات الدنيا فقابله بزوال النعمة وطول الحساب والرابع الحسد
548
فاكسره برؤية العدل والخامس البلاء فأكسره برؤية المنة والعوافي والسادس الكبر فاكسره بالتواضع والسابع الاستخفاف بحرمة المؤمنين فاكسره بتعظيمهم واحترامهم والثامن حب الدنيا والمحمدة فاكسره بالإخلاص والتاسع طلب العلو والرفعة فأكسره بالخشوع والذلة والعاشر المنع والبخل فاكسره بالجود والسخاء {الْخَنَّاسِ} اذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه.
(
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
حكى) إن بعض الأولياء سأل الله تعالى إن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه الحق تعالى هيكل الإنسان في صورة بلور وبين كتفيه خال أسود كالعش والوكر فجاء الخناس يتحسس من جميع جوانبه وهو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل فجاء بين الكتفين فادخل خروطمه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر الله فخنس وراءه ولذلك سمى بالخناس لأنه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب ولهذا السر الإلهي كان عليه السلام ، يحتجم بين كتفيه ويأمر بذلك ووصاه جبرائيل بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري وسوته مجرى الدم ولذلك كا خاتم النبوة بين كتفيه عليه السلام إشارة إلى عصمته من وسوته لقوله أعانني الله عليه فأسلم أي بالختم الإلهي وشرح الصدر أيده وبالعصمة الكلية خصه فأسلم قربنه وما أسلم قرين آدم عليه السلام فوسوس إليه لذلك ويجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام لأنه جسم لطيف وهو وإن كان مخلوقاً في الأصل من نار لكنه ليس بمحرق لأنه لما امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجاً مخصوصاً كرتكيب الإنسان وفي الوسواس إشارة إلى الوسواس الحاصل من القوة الحسية والخيالية وفي الخناس إلى القوة الوهمية المتأخرة عن مرتبتي القوتين فإنها تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وتأخرت توسوسه وتكشكه كما يحكم الوهم بالخوف من الموتى مع إنه يوفاق العقل في أن الميت جماد والجماد لا يخاف منه المنتج لقولنا الميت لا يخاف منه فإذا وصل العل والوهم إلى النتيجة نكص الوهم وأنكرها {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} إذا غفلوا عن ذكره تعالى ولذا قال في التأويلات النجمية : أي الناسي ذكر الله بالقلب والسر والروح.
كما قال تعالى : [القمر : 6]{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} بحذف الياء انتهى.
ومحل الموصول الجر على الوصف فلا وقف على الخناس أو النصب أو الرفع على الذم فيحسن الوقف عليه ذكر سبحانه وتعالى وسوسته أولاً ثم ذكر حلها وهو صدور الناس تأمل السر في قوله يوسوس في صدور الناس ولم يقل في قلوبهم والصدر هو ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات عليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز وهو بالكسر ما بين الباب والدار ومن القلب تخرج الإرادات والأوامر إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود فالشيطان يدخل ساحة القلب وبيته فيلقى ما يريد إلقاءه إلى القلب فهو يوسوس في الصدور ووسوسته واصلة إلى القلوب قال بعض أرباب الحقائق للقلب أمراء خمسة ملكية يسمون الحواس كحاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة اللمس وأمراء خمسة ملكوتية يسمون أرواحاً كالروح الحيواني والروح الخيالي والروح الفكري والروح العقلي والروح القدسي فإذا نفذ الأمر الإلهي إلى أحد
549
(10/423)
هؤلاء الأمراء من القلب بادر لامتثال ما ورد عليه على حسب حقيقته وقس عليه الخواطر والوساوس فإن عزم الإنسان يخرج كلا منها إلى الخارج ويجريها من طرق الحواس والقوى وقوله في صدور الناس يدل على إنه لا يوسوس في صدور الجن قال في آكام المرجان لم يرد دليل لعى أن الجني يوسوس في صدور الجني ويدخل فيه كما يدخل في الأنسي ويجري مه مجراه من الأنسي من الجنة والناس} الجنة بالكسر جماعة الجن ومن بيان للذي يوسوس على إنه ضربان جني وإنسي كما قال تعالى :
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
{شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} والموسوس إليه نوع واحد وهو الإنس فما أر شيطان الجن قد يوسوس تارة وينس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك وذلك لأنه يلقى الأباطيل ويرى نفسه في وصرة الناصح المشفق فإن زجره السامع يخنس ويترك الوسوسة وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه قال في الأسئلة المقحمة من دعا غيره إلى الباطل فإن تصوره في قلبه كان ذلك وسوسة وقد قال تعالى : ونعلم ما توسوس به نفسه فإذا جاز أن توسوس نفسه جاز أن يوسوسه غيره فإن حقيقة الوسواس لا تختلف باختلاف الأشخاص ويجوز أن تكون من متعلقة بيوسوس فتكون لابتداء الغاية أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن إنهم يعلمون الغيب ويضرون وينفعون ومن جهة الناس كالكهان والمنجمين كذلك وفي الجنة إشارة إلى القوى الباطنة المستجنة المستورة إذ سمى الجن بالجن لاستجنانه وفي الناس إلى القوى الظاهرة إذ الناس من الإيناس وهو الظهور كما قال آنست ناراً وفي هذا المقام لطيفة بالغة وهي إن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي إنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات وهي الغاسق والنفاثات والحاسد وإما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بثلاثة أوصاف وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة ومن المعلوم إن المطلوب كلما كان أهم والرعبة فيه أتم وأكثر كان ثناء الطالب قبل طلبه أكثر وأوفر والمطلوب في السورة المتقدمة هو سلامة البدن من الآفات المذكورة وفي هذه السورة سلامة الدين من وسوسة الشيطان فظهر بهذا إن في نظم السورتين الكريمتين تنبيهاً على إن سلامة الدين من وسوسة الشيطان وإن كانت أمراً واحداً إلا أنها أعظم مراد وأهم مطلوب وإن سلامة البدن من تلك الآفات وإن كانت أموراً متعددة ليست بتلك المثابة في الاهتمام وفي آكام المرجان سورة الناس مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة وسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من خارج فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت كان رسول الله إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما وقرأ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبد بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يصنع
550
ذلك ثلاث مرات وفي قوت القلوب للشيخ أبي طالب المكي قدس سره وليجعل العبد مفتاح درسه أن يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون وليقرأ قل أعوذ برب الناس وسورة الحمد وليقل عند فراغه من كل سورة صدق الله تعالى وبلغ رسوله اللهم أنفعنا وبارك لنا فيه الحمد رب العالمين واستغفر الله الحي القيوم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
وفي أسئلة عبد الله بن سلام أخبرني يا محمد ما ابتداء القرآن وما ختمه قال بتداؤه بسم الله الرحمن الرحيم ، وختمه صدق الله العظيم قال صدقت وفي خريدة العجائب يعني ينبغي أن يقول القارىء ذلك عند الختم وإلا فختم القرآن سورة الناس وفي الابتداء بالباء والاختتام بالسين إشارة إلى لفظ بس.
يعني حسب أي حسبك من الكونين ما أعطيناك بين الحرفين كما قال الحكيم سناني رحمه الله.
أول وآخر قران زه باآمد وسين
يعني اندرره دين رهبر تو قرآن بس
(10/424)
يقول الفقير أيده الله القدير إن الله تعالى إنما بدأ القرآن ببسم الله وختمه بالناس إشارة إلى أن الإنسان آخر المراتب الكونية كما إن الكلام آخر المراتب الآلهية وذلك لأن ابتداء المراتب الكونية هو العقل الأول وانتهاؤها الإنسان ومجموعها عدد حروف التهجي وأول المراتب الآلهية هو الحياة وآخرها الكلام ولذا كان أول ما يظهر من المولود الحياة وهو جنين وآخر ما يظهر منه الكلام وهو موضوع لأن الله تعالى خلق آدم على صورته فكان أول الكلام القرآني اسم الله لأنه المبدأ الأول وآخره الناس لأن الإنس هو المظهر الآخر والمبتدىء يعرج تعلماً إلى أن ينتهى إلى المبدأ الأول واسمه العالي والمنتهي ينزل تلاوة إلى أن ينتهي إلى ذكر الأنس السافل وحقيقته أن الله تعالى هو المبدأ جلاء والمنتهى استجلاء وهو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية.
(روى) عن ابن كثير رحمه الله ، إنه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى قل أعوذ برب الناس قرأ سورة الحمد رب العالمين وخمس آيات من أول سورة البقرة على عد الكوفي وهو إلى وأولئك هم المفلحون لأن هذا يسمى حال المرتحل ومعناه إنه حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى إراماً للشيطان وصار العمل على هذا في إمصار المسلمين في قراءة ابن كثير وغيرها وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن من قرأ سورة الناس يدعو عقب ذلك فلم يستحب أن يصل ختمه بقراءة شيء وروى عنه قول آخر بالاستحباب واستحسن مشايخ العراق قراءة سورة الإخلاص ثلاثاً عند ختم القرآن كان كمن شهد المغانم حين تقسم ومن شهد فاتحة القرآن كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله تعالى وعن الامام البخاري رحمه الله إنه قال عند كل ختمة دعوة مستجابة وإذا ختم الرجل القرآن قبل الملك بين عينيه ومن شك في غفرنه عند الختم فليس له غفران ونص الامام أحمد على استحباب الدعاء عند الختم وكذا جماعة من السلف فيدعو بما أحب مستقبل القبلة رافعاً يديه خاضعاًموقناً بالإجابة ولا يتكلف السجع في الدعاء بل يجتنبه ويثنى على الله تعالى قبل الدعاء وبعده ويصلي على النبي عليه السلام يمسح وجهه بيديه بعد فراغه من الدعاء
551
وعنه عليه السلام إنه أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يدعو عند ختم القرآن بذا الدعاء وهو اللهم إني أسألك إخبات المخبتين وإخلاص الموقنين ومرافقة الأبرار واستحقاق حقائق الإيمان والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم ووجوب رحمتك وعزائم مغفرتك والفوز بالجنة والخلاص من النار وفي شرح الجزري لابن المصنف ينبغي أن يلح في الدعاء وإن يدعو بالأمور المهمة والكلمات الجامعة وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلاطينهم وسائر ولاة أمورهم في توفيقهم للطاعات وعصمتهم من المخالفات وتعاونهم على البر والتقوى وقيامهم بالحق عليه وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخافين وبما كان يقول النبي عليه السلام عند ختم القرآن اللهم ارحمني بالقرآن العظيم واجعله لي إماماً ونوراً وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله حجة لي يا رب العالمين وكان أبو القاسم الشاطبي رحمه الله يدعو بهذا الدعاء عند ختم القرآن الهم أنا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء أماتك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو نزلته في شيء من كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا شوفاء صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا وسائقنا وقائدنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم وإدارك دار السلام مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
552
جزء : 10 رقم الصفحة : 546
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا(10/425)
فهرس أجزاء الكتاب
1 ـ الجزء الأول من أول سورة الفاتحة وحتى آخر سورة البقرة
2 ـ الجزء الثانى من أول سورة آل عمران وحتى آخر سورة المائدة
3 ـ الجزء الثالث من أول سورة الأنعام وحتى آخر سورة التوبة
4 ـ الجزء الرابع من أول سورة يونس وحتى آخر سورة الحجر
5 ـ الجزء الخامس من أول سورة النحل وحتى آخر سورة الأنبياء
6 ـ الجزء السادس من أول سورة الحج وحتى آخر سورة العنكبوت
7 ـ الجزء السابع من أول سورة الروم وحتى آخر سورة الصافات
8 ـ الجزء الثامن من أول سورة ص وحتى آخر سورة محمد
9 ـ الجزء التاسع من أول سورة الفتح وحتى آخر سورة المنافقون
10 ـ الجزء العاشر من أول سورة التغابن وحتى آخر سورة الناس(10/426)