الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المراد بـ (يخادعون الله)
قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهً والّذيِنَ آمَنُوا} [9].
هو مجاز في حق الله تعالى، فإن الخديعة إخفاء الشيء. ولا يخفى على الله شيء، والقوم إن لم يعرفوا الله تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع، وكذلك إن عرفوه، ولكنهم عملوا عمل المخادع، ووباله رجع اليهم، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم.
أو يقال: يخادعون رسول الله ...
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة:15]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…استهزاء الله إنما يكون على المقابلة
وقوله تعالى: {يَستَهزىءُ بهِمْ} [15].
يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله، كقوله: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيَّئَةٌ مِثلُهَا}، وكذلك {فَاعتدُوا عَلَيهِ} الآية ...
وقيل: إنه لما رجع وبال الاستهزاء عليهم فكأنه استهزأ بهم.
ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلاً وإنما تشرع في الآخرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور في ابتداء الإسلام بالصفح عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة.
فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة، ويجوز خلافه.
ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان وأن يرد بخلافه، والعقل لا يمنع من ذلك.(1/1)
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:22]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…معنى الفراش
2)…إبطال التقليد
قوله تعالى: {الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً} [22].
إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش. وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش. فبات على الأرض لم يحنث، ولو قال: لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه... وكذلك في قوله: {والجِبَالَ أَوْتَاداً} .. فأفهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي ، والمذكور على وجه التقييد ..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة:24]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…إبطال التقليد
ودل قوله تعالى: {الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشَاً}، إلى قوله: {فَإنْ لَم تفَعَلُوا وَلَنْ تَفعَلوا} [24]، على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
{ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:25]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…محمد أول مبلّغ
وقال: {وَبَشِّرِ الّذيِنَ آمَنُوا} [25]: وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم...(1/2)
وقال العلماء: إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر. أن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، وهو ما يحصل به الإستبشار ويأتي على بشرة الوجه.
ولو قال: أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال: ظهرت تباشير الأمر لأوائِله، ولا تطلق البشارة قي الشر إِلا مجازاً.
وقيل: هو عام فيما سر وغم، لأن أصله فيما يظهر أولاً في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر ..
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:29]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإباحة
قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ ما في الأَرْضِ جَميِعاً} [29]:
يدل على إباحة الأشياء في الأصل، وإلا ما ورد فيه دليل الحظر، وكذلك قوله: {سَخّرَ لَكُمْ ما فيِ السّمَوَاتِ وَمَا في الأرْضِ} ..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } [البقرة:41]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السبق إلى الكفر عظيمة
وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بهِ} [41].(1/3)
يدل على أن الكفر وإن كان قبيحاً، فالأول من السابق أشد قبحاً، وأعظم لمأتمه وجرمه، لقوله: {وَلْيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ}.. الآية وقوله: {ليَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَار الّذيِنَ يُضِلونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ فَكَأنّمَا قَتَلَ النّاس جَميْعاً}، وقال عليه السلام : "إن على ابن آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلماً لأنه أول من سن القتل".
وقال: "من سن سنة حسنة" الحديث.
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة:43]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
وقوله: {أَقيِمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} [43].
يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة متقدمة، ويجوز أن يكون مجملاً موقوفاً على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.
{وارْكَعُوا مَعْ الرَّاكِعِينَ} [43]:
لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتابين لا ركوع فيها، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم ..
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [البقرة:59]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التحريف
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الّذيِنَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ} [59].
يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها ، وأنه يتعين اتباعها.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [البقرة:67](1/4)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (المجمل)
قوله تعالى: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [67].
هو مقدم في التلاوة.
{ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } [البقرة:68]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإجتهاد
وقوله: {لاَ فَارِضٌ وَ لاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [68].
لا يعلم إلا بالإجتهاد، فهو دليل على جواز الإجتهاد، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة:71]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المجمل
ودل عليه قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون} [71].
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة:71]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السلامة من العيب
وقوله: {مُسَلَّمَةٌ} [71]:
يعني من العيوب، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهراً..
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة:72]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المجمل(1/5)
وقوله: {قَتَلْتُمْ نَفسْاً} [72] مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة.
ويجوز أن يكون في النزول مقدماً وفي التلاوة مؤخراً..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها، فكأن الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها ..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدماً في المعنى، لأن الواو لا توجب الترتيب، كقول القائل: أذكر إذ أعطيت زيداً ألف درهم إذ بنى داري، والبناء متقدم العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: {قُلْنَا احْملْ فيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ - إلى قوله - إلاَّ قَلِيلٌ}..
فذكر إهلاك من أهلك منهم، ثم عطف عليه بقوله:
{وقَالَ ارْكَبوُا فيِهَا بِسْمِ الله مَجْرَاها وَمُرْسَاهَا}.
فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ ، ويستدل به على جواز تأخير بيان المجمل ..
وقد قيل: إنه كان عموماً وكان ما ورد بعده نسخاً ..
فقيل له: فهو نسخ قبل مجيء وقته.
فأجابوا: بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.
وقد قيل: فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة؟
فأجابوا: بأن التغليظ ضرب من الكبر.
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة:75]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحيدة عن الحق
قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمنُوا لَكُمْ ... الآية} [75].
دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده ..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/6)
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:80]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
2)…الحيض
قوله: {لَنْ تَمَسنَا النّارُ إلا أَيّاماً مَعْدودَةً} [80], فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام حيضتك".. في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوماً أو يومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوماً ..
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: {أَيّاماً مَعْدُوداتٍ} وعنى به جميع الشهر، وقال: {لَن تَمَسّنَا النّارُ إلاَّ أَيّاماً معدودةً} وعنى به أربعين يوماً، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد.
ولعله أراد ما كان معتاد لها، والعادة ست أو سبع.
{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:81]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان
قوله تعالى: {بَلىَ مَن ْ كَسِبَ سَيِّئةً وأَحَاطَتْ بِه خَطِيئتهُ} [81].
فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا يتنجز بأحدهما ومثله في قوله تعالى:
{.. الّذِينَ قالُوا رَبنَا اللهُ ثم اسْتَقَامُوا}..(1/7)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [البقرة:83]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…قتال المشركين
قوله تعالى: {وقُولُوا للنّاسِ حُسْناً} [83].
يجوز أن يكون مخصوصاً بالمسلمين.
ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم.
ويجوز أن يكون في الدعاء إلى الله تعالى ...
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة:114]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…ذكر الله
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا} [114]:
قوله "منع": نزل في شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وسعيهم في خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.
1)…عمارة المسجد
وقوله: {أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلاَّ خائفين} [114].
يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها.
ويدل على مثل ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ للْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ}:
وعمارتها تكون ببنائها وإصلاحها، والثاني: حضورها ولزومها ... كما يقال: فلان يعمر مسجد فلان، أي يحضره ويلزمه ..(1/8)
{ وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:115]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله عز وجل: {وَللهِ المَشْرِقُ وَ المَغْرِبُ} [115].
يدل على جواز التوجه إلى الجهات في النوافل، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع ..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [البقرة:116]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المِلْك
وقوله: {وقَالُوا اتّخَذَ اللهُ وَلَدَاً} الآية [116]:
يدل على امتناع اجتماع الملك والولادة، إلا جواز الشراء توسلاً إلى العتق بقوله عليه السلام: " فيشتريه فيعتقه".. أي بالشراء يعتقه، كقوله عليه السلام "الناس عاريان: فبائع نفسه فموبقها، ومشتر نفسه فمعتقها" .. يريد أنه يعتقها بالشراء لا باستئناف عتق.
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة:124]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإمامة الكبرى
2)…العصمة
3)…المعجزة
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمين} [124].
ودل قول الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عهْدي الظّالمين} على أن الإجابة قد وقعت له في أن من ذريته أئمة، ولكن لا إمامة لظالم حتى لا يقتدى به، ولا يجب على الناس قبول قوله في أمر الدين.(1/9)
نعم: كان يجوز أن تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم، ويجب قبول قوله لوجود الدليل، وإن لم يجب قبول الفاسق، لعدم ظهور الصدق الذي هو دليل قبول قوله، فأما دليل المعجزة فلا يختلف بالظلم وعدمه عقلاً، غير أن العصمة وجبت للأنبياء سمعاً.
ويجوز عقلاً وجوب قبول قول الفاسق، ولكن دلت هذه الآية على أن عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.
فيحتمل أن يكون ذلك النبوة، ويحتمل أن يكون ما أودعهم من أمر دينه، وأجاز قولهم فيه، وأمر الناس بقبوله منهم.
ويطلق العهد على الأمر، قال الله تعالى:
{إنَّ اللهَ عَهِدَ إلَيْنَا}، يعني أمرنا، وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنيِ آدَمَ}، يعني: ألم أقدم إليكم الأمر به.
وإذا كان عهد الله هو أوامره، فقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِيِ الظّالمِين}، لا يريد به أنهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الإجماع، فدل على أن المراد به أن يكونوا بمحل من تقبل منهم أوامر الله، ولا يؤمنون عليها.
1)…الطهارة
قوله تعالى: {وإذ ابَتَلَى إبْرَاهِيِمَ ربّهُ بكَلِماتٍ فَأتَمّهُنَّ}: الآية [124].
دلت على أن التنظف ونفي الأوساخ والأقذار عن الثياب والبدن مأمور به ، وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل: أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولاً، فقال:
جاء رجل إلى النبي عليه السلام يسأل عن أخبار السماء، فقال: يجىء أحدكم فيسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الوسخ و النفث؟
وقالت عائشة رضي الله عنها:
"خمس لم يكن النبي صلىالله عليه وسلم: يدعهن في سفر ولا حضر: المرآة، والكحل، والمشط، و المدري، والسواك".
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة:124]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(1/10)
1)…الإمامة الكبرى
قوله تعالى: {إنِّي جَاعِلُكَ للنّاسِ إمَامَاً} [124].
الإمام: من يؤتم به في أمر الدين، كالنبي عليه السلام، والخليفة والعالم.
أخبر الله تعالى إبراهيم أنه جاعله للناس إماماً، وسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة. فقال تعالى:
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة:125]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
2)…الصلاة
وقوله تعالى: {واتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيِمَ مُصَلّى} [125].
يدل على ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات.
وقوله: {أَنْ طَهّرَا بَيْتي للطّائِفِينَ والعَاكِفِينَ والُّرُّكّعِ السُجودِ} [125].
يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة للمقيمين والعاكفين بها أفضل ...
ويدل على اشتراط الطهارة للطواف، ويدل على جواز الصلاة في نفس الكعبة رداً على مالك في منع الصلاة المفروضة في الكعبة. دون النفل.
وأمره بتطهير نفس البيت يدل على الصلاة - التي شرعت الطهارة فيها - في نفس البيت.
ودل أيضاً قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحَرامِ} على جواز الصلاة، إذ الشطر الناحية، والمصلي في البيت متوجه إلى ناحية منه.
1)…الحج
2)…الجهاد
3)…الصلاة
قوله تعالى: {وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وأَمْناً}، يحتج به في كون الحرم مأمناً، ويحتمل أن يكون معناه جميع الحرم، كقوله:
{وَلا َ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}. وقوله: {فَلاَ يَْقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا}. إلا أن معناه أنه مأمن عن النهب والغارات، ولذلك قال النبي عليه السلام في خطبته يوم فتح مكة:(1/11)
"إن الله حبس عن مكة الفيل، وملك عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أُحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد"
نعم، قد روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم، وإن الله تعالى حلها لي ساعة، ولم يحلها للناس".
ويحتمل أن يكون جعلها مأمناً ما جعل فيها من العلامة العظيمة على توحيد الله تعالى، واختصاصه لها بما يوجب تعظيمها ما شوهد من مر الصيد فيها، فإن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض، ويجتمع فيها الكلب والظبي، فلا يهيج الكلب، ولا ينفر منه الظبي، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه، وعاد إلى النفور والهرب.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة:126]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الحدود
3)…الحج
قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [126].
يعني من القحط والغارة، لا على ما ظنه بعض الجهال أنه يمنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصوداً لإبراهيم عليه السلام، حتى يقال: إنه طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، ممن حرم الله تعالى عليه دخول الحرم والمقام فيه وأمره بالخروج ومنع من معاملته، وتعزيره على ظلمه، دون أن يكون مراده منه رفع القتر والغارات والنهوب والقتال، خاصة إذا قيل: يجوز قطع الأيدي في السرقة، وإقامة الجلدات في الجرائم الموجبة لها، وكيف يحصل معنى الأمن مع هذا؟
ودل سياق الآية على ذلك، فإنه تعالى قال:(1/12)
{وارْزُقْهُمْ مِنَ الثّمَرَاتِ}.
وقال: {فاجْعَلْ أَفْئِدةً مِنَ النّاسِ تَهْوى إلَيْهِمْ}.
ومنع الله تعالى من اصطلام أهلها، ومنع من الخسف و الغرق الذي لجّو غيرها، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار أهلها متميزين بالأمن عن غيرهم من أهل القرى.
قوله تعالى: {وَلْيَطّوّفُوا بِالْبَيْتِ العَتيِقِ}، يوجب الطواف لجميع البيت، فمن سلك الحجر، أو على شاذروان الكعبة، وهي من البيت فلم يطف جميع البيت فلا يجوز.
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة:127]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الحدود
3)…الحج
قوله: {رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا} [127].
معناه: يقولون ربنا، كما قال تعالى:
{وَالمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْديِهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكَمْ} معناه: يقولون: أخرجوا أنفسكم.
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المناسك
قوله تعالى: {أَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [128].
يقال أن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً.
وقال البراء ابن عازب:
خرج النبي عليه السلام يوم الأضحى فقال:
"إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح".
وقال عز وجل: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ}
يعني ذبح شاة.
ومناسك الحج: مايقتضيه من الذبح و سائر أفعاله.
وقال عليه السلام حين دخل مكة محرماً:
"خذوا عني مناسككم".
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/13)
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [البقرة:130]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (شرع من قبلنا)
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إبْرَاهِيِمَ} الآية [130].
يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت نسخه.
{ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة:142]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة (التيمم)
2)…قبول خبر الواحد
3)…أصول فقه (النسخ)
وقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ التِّي كاَنُوا عَلَيْهَا؟ قُلْ للهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِمٍ} [142].
يدل على جواز النسخ: لقوله: {وللّهِ المَشرِقُ والمَغْرِبُ}، ومعناه: أن الجهات لا تقتضي التوجه في الصلاة إليها لذواتها وإنما وجود التوجه إليها بإيجاب الله تعالى.
وقد دلت الآية أيضاً على جواز نسخ السنة بالقرآن، لأن النبي عليه السلام كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس - وليس في القرآن ذكر ذلك - ثم نسخ.
ومن يأبى ذلك يقول: قد ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}. وكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية، ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة.
ولما نسخت القبلة إلى بيت المقدس وصل الخبر إلى أهل قباء في صلاتهم، فاستداروا، ففهم منه أن الأمة إذا عتقت وهي في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبني، وهذا أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين.(1/14)
ويدل على جواز ثبوت نسخ بقاء الحكم بعد الأمر الأول بقول الواحد وأن الدليل الموجب للعلم بثبوت الحكم غير الدليل المبقي، ولذلك صح ثبوت النسخ بقول الواحد.
ويمكن أن يفهم منه أن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الفلاة يتوضأ ويبنى.
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة:144]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإجتهاد
وقوله تعالى: {وَحيثُ ما كُنتُمْ فَوَلُّوا وَجُوهَكُمْ شَطرَهُ} [144]:
خطاب لمن كان معايناً للكعبة ولمن كان غائباً عنها.
والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها، ومن كان غائباً عنها، ولا يمكنه إصابة عينها يكلف ما لا يطيق وإنما سبيله الإجتهاد، فهو دليل على استعمال الأدلة، وهو سبيل القياس في الحوادث أيضاً.
ويدل على أن الأشبه من الحوادث حقيقة مطلوبة بالإحتهاد، ولذلك صح تكليف طلب القبلة بالإجتهاد، لأن لها حقيقة، ولو لم يكن هناك قبلة رأساً لما صح تكليفنا طلبها.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:148]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وَلِكُلٍ وجهَةُ هُوَ مُوَلِّيها} [148]:
يفيد أن لكل قوم من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق إلى جهات الكعبة، وراءها وقدامها، وعن يمينها أوشمالها، كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها.(1/15)
1)…المسارعة إلى الخيرات
قوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [148]:
يدل على أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها.
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة:150]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول الفقه (الإستثناء)
قوله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاَّ الّذيِنَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [150].
من الناس من يحتج به في جواز الاستثناء من غير جنسه، وقد قام قوم: هو استثناء منقطع، ومعناه: لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبه ويضيعون موضع الحجة، وهو مثل قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظّنِّ}. معناه: لكن اتباع الظن.
وقال النابغة:
* ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُم * بهنَّ فُلول من قِرَاعِ الكتائب *
ومعناه: لكن بسيوفهم فلول، وليس بعيب.
وقيل: أراد بالحجة المحاجة والمجادلة، ومعناه: لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم يحاجونكم بالباطل.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة:152]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوحدانية
قوله تعالى: {فاذْكُرُوني أذْكُرْكُمْ} [152].
يحتمل التفكر في دلائله.
ومثله قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}.
{ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:153]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة(1/16)
2)…الوحدانية
وقوله تعالى بعده: {اسْتَعِينوا بِالصّبْرِ والصّلاَةِ} [153]:
عقب قوله {فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ}.
يدل على أن الصبر وفعل الصلاة معونه في التمسك بأدلة العقول الدالة على وحدانيته.
وهو مثل قوله: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكر} أخبر أن فعل الصلاة لطف في ترك الفحشاء والمنكر، ثم عقبه بقوله: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}.
يعني أن ذكر الله تعالى بالقلب قي دلائله أكبر من فعل الصلاة، وأن فعل الصلاة معونة في التمسك بهذا الذكر ولطف في إدامته.
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [البقرة:154]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشهادة
2)…عذاب القبر
قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لمَنْ يُقْتَلُ فيِ سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ} الآية [154]:
قيل دليل على إحياء الله الشهداء بعد موتهم، لا حياة القيامة، فإنه قال: "وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُوُنَ".
وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم، فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، وفيه دليل على عذاب القبر.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة:155]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصَّبر
قوله تعالى: {وَلْنَبْلُوَنّكُمْ بشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونقصٍ مِنَ الأمْوَالِ والأَنْفُسِ والثّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصّابِرِين} [155]:
فقدم ذكر ما علم أنه يصيبهم ليوطنوا أنفسهم عليه، فيكون أبعد لهم من الجزع، ويكونوا مستعدين له، فلا يكون كالهاجم عليهم. وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.(1/17)
{ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة:156]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…البعث
2)…الصَّبر
وقوله تعالى: {الّذِينَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ} [156]:
يعني إقرارهم بالعبودية في تلك الحالة بتفويض الأمور إليه ، والرضا بقضائه فيما يبتليهم به، وأنه لا يقضي إلا بالحق، كما قال تعالى:
{واللهُ يَقْضِي بالحَقِّ والذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}.
وقوله: {وإنا إليه رَاجِعُون} إقرار بالبعث، وأن الله تعالى يجزي الصابرين على قدر استحقاقهم.
ثم الصبر على جهات مختلفة:
فما كان على فعل الله تعالى فهو بالتسليم والرضا، وما كان من فعل العدو فهو بالصبر على جهادهم، والثبات على دين الله تعالى لما يصبهم من ذلك.
ونبهت الآية على فرح الصابرين، وما في الصبر من تسلية عن الهم، ونفي الجزع ، وفيه صبر على أن الفرائض لا يثنيه عنها مصاعب الدنيا و شدائدها ...
وفي التلفظ بقوله تعالى: {إنّا للهِ وإنّا إليهِ رَاجِعُون} غيظ الأعداء لعلمهم بجده، واجتهاده، ويقتدي به غيره إذا سمعه، وربما ترقى الأمر بالصابر المفكر في الدنيا إلى أن - لا يحب - البقاء فيها وهو الزهد في الدنيا، والرضا يفعل الله تعالى، عالماً بأنه صدر من عند من لا يتهم عدله، ولا يصدر عن غير الحكمة فعله. وأنه لا يجوز أن يفوته ما قد قدر لحوقه به، ومن علم أن لكل مصيبة ثواباً فينبغي أن لا يحزن لها.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } [البقرة:159]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…العلم
2)…خبر الواحد(1/18)
قوله تعالى: {إنَّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البَيِّنَاتِ} [159] مع أمثاله في القرآن:
يدل على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس، وعم ذلك المنصوص عليه، والمستَنبط لشمول إسم الهدى للجميع.
وفيه دليل على وجوب قبول قول الواحد، لأنه لا يجب البيان عليه إلا وقد وجب قبول قوله ..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:160]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…العلم
2)…الإجارة
وقال: {إلاَّ الّذيِنَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيّنوُا} [160]، فحكم بوجوب البيان بخبرهم.
فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهياً عن الكتمان ومأموراً بالبيان، ليكثر المخبرون، فيتواتر بهم الخبر..
قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه.
ومتى جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ في النقل، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم.
ودلت الآية أيضاً على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، ومنع أخذ الأجرة عليه، إذ لا تستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام.
وقال: {إنَّ الّذيِنَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ ويَشْتَرُونَ بهِ ثَمَنَاً قَليلا}.
وذلك يمنع أخذ الأجرة على الإظهار وترك الكتمان، لأن قوله: {وَيَشْتَرُونَ بهِ ثَمَناً قَليلاً} مانع من أخذ البدل عليه من سائر الوجوه، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل.
1)…التوبة
وقوله تعالى: {إلاَّ الذينَ تابُوا وأَصْلَحُوا وَبَيّنُوا} [160]:
يدل على أن التوبة من الكتمان إنما تكون بإظهار البيان، وأنه لا يكتفي في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما فيما يستقبل..
1)…اللّعْن(1/19)
وقوله تعالى: {إن الذين َ كفَروا وماتُوا وهمْ كفارٌ أولئكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} [160].
فيه دليل على أن على المسلمين لعن من مات كافراً، وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه مذمة لعن المسلمين، وكذلك إذا جن الكافر، وأنه ليس لعنتنا له بطريق الزجر عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر، وإظهار قبح كفره ..
وقد قال قوم من السلف إنه لا فائدة في لعن من مات أو جن منهم لا بطريق الجزاء، ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به ..
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر به، ويتألم قلبه، ويكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضَكُمْ بَعْضاً} ..
ويدل على صحة هذا القول أن الآية دالة على الإخبار من الله تعالى بلعنهم لا على الأمر ..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَالهكُمْ اله وَاحِدٌ لاَّ اله إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ } [البقرة:163]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوحدانية
قوله تعالى: {وإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ} [163].
دل على الإتحاد في الذات والصفات، واستحالة المثل، والإتحاد في الوجود منفرداً بالقدم، فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني..
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة:164]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإجتهاد
2)…وجود الصانع(1/20)
وقوله: {إنَّ في خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ} [164]:
بيان توحده في أفعاله، وأمر لنا بالإستدلال بها، رداً على من نفى حجج العقول..
واعلم أن الدلالة الأصلية على الصانع إثبات حدوث الأجسام والجواهر، أما قوله تعالى على التفصيل: {إنَّ في خَلقِ السّمَواتِ والأَرْضِ} فهو من جهة وقوف السماء على غير عمد، ودلالة ذلك من جهة السكون أو الحركة..
وفيه شيء آخر، وهو أن وقوف الثقيل بلا مساك يقله تتعجب منه العامة، مع أن الثقل لا معنى له إلا اعتمادات يخلقها الله تعالى، وليس يجب هُوِيُّ الجِرم، وذهابه في جهة دون جهة، من جهة كثرة الأجزاء وقلتها، غير أن وقوف العظيم غير هاوٍ مُتَعَجّبٌ منه عند من لا يعرف السبب فيه ..
ولا سبب للسكون إلا خلق الله تعالى السكون فيه، ولا يقف حجر في الهواء من غير علاقة، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة: ولو جاء نبي وتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزاً ...
وأما اختلاف الليل والنهار فلتعاقبهما، وتعاقبهما على سنن واحد يدل على أول، لاستحالة حوادث لا أول لها ..
ودل اتساق هذه الأفعال وحركات الفلك على أن لها صانعاً عالماً قادراً يدبرها ويديرها.
ودلالة الفلك من جهة أن الجسم السيال كيف يحمل الثقل العظيم، وكيف صار الفُلْك على عظمه وثقل ما فيه مسخراً للرياح، وذلك يقتضي مسخِّراً يسخِّر الفلك والماء والرياح.
والماء المنزل من السماء فيه دليل من جهة أن الماء شابه السيلان، فارتفاعه عجب، ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى الموضع الذي يريده بالسحاب المسخرة لنقله فيه، فجعل السحاب مركباً للماء، والرياح مركباً للسحاب، حتى يسوقه من موضع إلى موضع، ليعم نفعه سائر خلقه، كما قال الله تعالى:(1/21)
{أَوَ لَمْ يَرَوا أنّا نَسُوق المَاءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ}، ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة، لا تلتقي واحد مع صاحبتها في الجو، مع تحويل الرياح لها، حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض فلولا أن مدبراً دبره على هذا الوجه كيف كان يجوز أن ينزل الماء من السحاب مع كثرته، وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا الترتيب والنظام، فلو اجتمع القطر، وائتلف في الجو، لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها عند نزولها إلى الأرض، فيؤدي ذلك إلى هلاك الحرث والنسل.
واعلم أن من عرف حدوث العالم لأمر مرَّ، يعلم أن فعل الله تعالى في جميع ما ذكرناه لا بآلة، فلا العلاقة ماسكة، ولا الماء حامل، ولا الريح ولا السحاب مركب، ولا الرياح سابقة، فإنها جمادات لا أفعال لها، وإنما هذه عادات أجراها الله تعالى وليست موجبة، وكذلك حياة الأراضي بالمياه، وخروج أنواع النبات منها ليس بالمياه، ولعل إجراء العادة في إنشاء الخلق على النظام المعلوم تنبيه للعباد عند كل حادث من ذلك على قدرته، والفكر في عظمته، وليشعرهم في كل وقت بما أغفلوه، ويحرك خواطرهم للفكر فيما أهملوه، فخلق الأرض والسماء ثابتين لا يزولان إلى الوقت المقدر، ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض، ثم أنشأ للجميع رزقاً منها، وأقواتاً تبقي حياتهم بها.
ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا، بل جعل لهم قوتاً معلوماً في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا، ويكونوا مستشعرين بالإفتقار إليه في كل حال.
ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة، ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر، فيكون ذلك باعثاً لهم إلى فعل الخير، ليجتنوا ثمرته، واجتناب الشر ليسلموا من مغبته، فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله.(1/22)
ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا، وجعل أخلاقهم متفاوتة ليختلف بذلك صناعاتهم ويختلف درجاتهم في المهن والأعمال، وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة، ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله، حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولاً فأولاً على مقدار الحاجة، كما قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَسَلَكهُ يَنَابِيعَ في الأَرْضِ}، وقال:
{وأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأسْكَنّاهُ في الأرْضِ وإنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} ..
ولو كان اقتصر على ما ينزل من السماء من غير حبس له في الأرض إلى وقت الحاجة لكان قد سال كله، وكان في ذلك هلاك الحيوانات كلها، فجعل الأرض بمثابة بيت يأوي إليه الإنسان، والسماء بمنزلة السقف، وجعل ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان والملابس والمطاعم، بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه.
ثم سخر هذه الأرض لنا، وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها، ومكننا من الإنتفاع بها في بناء الدور والبيوت للسكن من المطر والحر والبرد، وتحصيناً من الأعداء، ولم يحوجنا إلى غيرها، وأي موضع أردنا منها بالإنتفاع بها. في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين، ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك. وسهل علينا، سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعها من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك، كما قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَة أيّامٍ}..
فهذه كلها، وما يكثر تعداده، ولا يحيط به علمنا من بركات الأرض ومنافعها..
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد أن تكون متناهية، جعلها كفاتاً لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة، فقال:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً}، وقال:(1/23)
{إنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَها} الآية..
ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم، ولا على الغذاء دون السم، ولا على الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه الدار، لئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن الدار الآخرة التي خلقنا لها، فكان النفع في خلق الدواب المؤذية كالنفع في اللذة السارة، ليشعرنا في هذه الدار كيفية الآلام، ليتضح الوعيد بألم الآخرة، وينزجر عن القبائح، فإذا رأى حرّاً مفرطاً تذكر نار جهنم فيتعوذ بالله منها، وإذا رأى برداً مفرطاً تذكر برد الزمهرير فيتعوذ منه، واستدل بالقليل الفاني على الكثير الباقي، وانزجر عن القبائح طلباً لنعيم محض لا يشوبه كدر.(1/24)
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ * ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا(1/25)
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:164-173]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التجارة
2)…الجهادة
3)…أصول فقه (الخاص)
4)…المطعومات
5)…الذبائح
وفي قوله تعالى: {وَالفُلْكِ الّتيِ تَجْرِي في البَحْرِ} [164] دلالة على إباحة ركوب البحر تاجراً وغازياً، وطالباً صنوف المآرب.
وقال في موضع آخر:
{هُوَ الّذِي يُسَيِّرُكُمْ في البَرِّ والبَحْرِ}، وقال:
{رَبكُمُ الّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فيِ البَحْرِ لتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}..
فقد انتظم التجارة وغيرها، كقوله تعالى:
{فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأرْضِ}.
{أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}.
قوله تعالى: {إنّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ} [173] عموم في السمك والجراد وغيرهما.
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام الله تعالى بالسنة، وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد".
وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط: فإن البحر ألقى إليهم حوتاً أكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه، فقال: هل عندكم منه شيء تطعموني؟
وبالجملة: الخبر عام، وأيضاً الكتاب عام، فإذا وقع التنازع في الطافي، لم يصح الإستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب ...
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لكُمْ}.(1/26)
وهذا مع عمومه لا يصلح لتخصيص عموم تحريم الميتة.
واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال قي حديث صفوان بن سليمان الزرقي، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة (عن أبي هريرة) عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر:
"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" ..
وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالتبت، وقد خالفه في سنده يحيى ابن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام، ومثل هذا الإضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائر تخصيص آية محكمة به.
وقد روى زياد بن عبدالله البكائي قال: حدثنا سليمان الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"البحر الذكي صيده، والطهور ماؤه"..
وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول.
وقد روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي معاوية العلوي، عن مسلم إبراهيم، عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر:
"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"..
قال أبو بكر الرازي، وهو الذي روى هذه الأخبار:
وحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال أنبأنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال:
حدثنا إسحاق بن حازم، عن عبيدالله بن مقسم، عن جابر، عن النبي عليه السلام أنه سئل عن البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
وأما أبو عيسى الترمذي فإنه يروي حديث سعيد بن سلمة في صحيحه، ويقول: إنه من آل ابن الأزرق، ويقول: إن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول:
"سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر؟..
فقال عليه السلام: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".(1/27)
قال أبوعيسى: وفي الباب عن جابر والفراسي، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح ..
وروى الرازي عن علي أنه قال:
"ما طفا من صيد البحر فلا تأكله".
وروى أيضاً عن جابر وابن عباس كراهة الطافي.
وروى عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة الطافي من السمك ..
وروى الرازي في أحكام القرآن - بإسناد له متصل عن جابر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه"..
وروي بإسناد آخر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ماجزر البحر عنه فكل، وما ألقي فكل، وما وجدته طافياً فوق الماء فلا تأكل".
وروي بإسناد آخر عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذ صدتموه (وهو حي) فكلوه، وما ألقى البحر (حياً) فمات فكلوه وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه"..
وروي بإسناد آخر عن جابر: "ما وجدتموه وهو حي (فمات) فكلوه، وما ألقى البحر طافياً ميتاً فلا تأكلوه"..
وروي سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفاً على جابر..
وبالجملة: هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى، ويقابله أن عموم كتاب الله تعالى أنفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولاً به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولاً به في الطافي ..
وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قال: "كل مما طفا على البحر"..
وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته.
وقال شعبة: لأن أزني سبعين زنية أحب إليَّ من أن أروى عن ابان ابن أبي عياش..
وقد أباح أبو حنيفة الميتة من الجراد، ومستنده قوله عليه السلام:(1/28)
"أحلت لنا ميتتان"، وقضى بذلك على عموم الكتاب في تحريم الميتة، مع أن مالكاً يقول في الجراد أنه إذا أخذ حياً وقطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ منه حياً فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتاً قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده، وهو قول الزهري وربيعة..
وقال مالك: ما قتله مجوسي فلا يؤكل..
وقال الليث بن سعد: أكره الجراد ميتاً، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به
وقال النبي عليه السلام في الجراد:
"أكثر جنود الله: لا آكله و لا أحرمه"
ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه ..
وقال عطاء عن جابر: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا جراداً فأكلناه..
وقال عبدالله بن أبي أوفى:
"غزوت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره"..
وكانت عائشة تأكل الجراد وتقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله"..
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد، وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد، ومذهب أبي حنيفة في الطافي..
ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين، وأي أثر للآدمي واصطياده؟..
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله أبو حنيفه، وخالفه فيه صاحباه مع الشافعي ..
ومالك يقول: إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل:
وهو قول سعيد بن المسيب، لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة، وقبل ذلك لا حياة، فيبقى على عموم تحريم الميتة.
وذلك ضعيف، فإنه إن لم يكن حياً فلا يكون ميتة، فالميتة ما زايلتها الحياة..
وقد وردت أخبار في أن ذكاة الجنين ذكاة أمه، وبعد حملها على أن ذكاة الجنين مثل ذكاة الأم فإنه عند ذلك لا يكون جنيناً، وإذا تم خرج حياً وفيه حياة مستقرة، فلا يخفى حكم الذكاة، فلا يكون في ذكره فائدة ..(1/29)
وقد روى مجالد عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتاً فقال:
"إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه".
وأما مالك فإنه ذهب إلى ما روى في حديث سليمان بن عمران عن ابن البراء، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت.
وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:
(إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه) ..
والشافعي يقول: "نحن نقول بهما جميعاً، إلا أن ذكرالإشعار كان تنبيهاً على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءاً من الأم".
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها، لولا الخبر المخصّص واقتضى ظاهر الآية أيضاً تحريم الإنتفاع بدهن الميتة، وروى فيه محمد ابن إسحاق، عن عطاء، عن جابر قال:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك فقالوا: يا رسول الله، إنا نجمع هذه الأوداك وهي من الميتة وغيرها، وإنما هي للأدم والسفن، فقال صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها"
فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرمه على الإطلاق، ودخل تحته تحريم البيع..
وذكر عن عطاء أنه قال: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهذا قول شاذ، فظن أصحاب أبي حنيفة ان تحريم الله تعالى عين الميتة منع الإنتفاع بالميتة من الوجوه كلها، ومنع بيعها، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة، إذ التحريم فيها ليس مضافاً إلى العين.(1/30)
قال الشافعي رحمه الله: ينبغي من قوله {حُرِمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ} تحريم لبنها، وأبو حنيفة حكم بطهارة أنفحتها وألبانها، ولم يجعل لموضع الخلقة أثراً في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق بمع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة، فإن الموت لا يحله أصلاً، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها..
وله أن يقول: إن الودك في حكم الجزء الباقي معه، واللبن خلق خلقاً ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجساً بخلاف اللبن، فإذا لم ينجس اللبن في حالة الحياة إذا انفصل فإنما ينجس بالمجاورة، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها.
والشعر والعظم من جملة الميتة، فعموم التحريم يشملهما.
قوله تعالى: {والدم}، أوجب تحريم الدم مطلقاً، وقال في موضع آخر:
{أوْ دَمَاًَ مَسْفُوحَاً}، فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبج والطحال، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم..
وقال تعالى: {وَلَحْمُ الخِنزِيرِ} بعد قوله: {حُرِمَتْ عليكم المَيْتَةَ}، وقال: {إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} - إلى قوله - {أَوْ لَحمَ خِنْزِيرِ فّإنّهُ رِجْسٌ}، فخص اللحم بالذكر، ولم يقل "حرمت الخنزير" كما قال: "حرمت الميتة" لأنه معظم ما يقصد منه، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه، ومثله تحريم قتل الصيد مع تحريم جميع الأفعال في الصيد، ونص على تحريم البيع إذا نودي للصلاة لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم.
فقيل لهم: فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيهاً على الإجزاء؟..
فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/31)
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:173]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الذبائح
قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللهِ} [173]، ولا يرى ذلك أصحابنا محرماً إلا من جهة الإعتقاد، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب، والمشرك وإن ذبح على إسم الله تعالى لا يحل.
ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في التصراني يذبح على إسم المسيح، وليس بصحيح، فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح، وذلك معلوم من اعتقاده، وبه كفرناه، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهراً بما يعتقده، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الإعتقاد القبيح.
1)…المطعومات
قوله: { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [173] يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل، ويحتمل العدوان بالسفر، فلا جرم اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره.
ويشهد لأحد القولين قوله تعالى: {إلاَّ ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}، فإنه عام.
ويشهد للقول الآخر قوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم}...
وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصياً.
وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقاً بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفراً كان أو حضراً، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضاً، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء، وهو الصحيح عندنا..(1/32)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة:178]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القصاص (الجنايات)
2)…الجهاد
قوله تعالى: {يَا أَيُهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصَاصُ في القَتْلىَ} الآية: [178]
ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه، وأن الخصوص بعده في قوله: {الحرُّ بالحرِّ والعَبْدُ بِالْعَبْدِ} لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلاً دون البناء على الأول، إذ قول القائل: "الحر بالحر والعبد بالعبد" لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الاول، وتقديره: كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصاً، والعبد بالعبد قصاصاً، فوجب بناء الكلام عليه.
قالوا: أمكن أن يقال: كتب عليكم القصاص مطلقاً، وقوله: {الحرُّ بالحرِّ} لنفي قتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام:
" إن من أعتى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية"..
والذي قالوه ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه، فتقديره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ} وكيفيته {الحُرَّ بالحُرِّ والعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية..
فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد.
ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقاً من الجانبين إلا في النفس.
وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص..(1/33)
وقال الليث بن سعد: إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس، ولا يقتص من الحر بالعبد.
وقال: إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء..
وقال قائلون من علماء السلف: يقتل السيد بعبده.
وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص..، ورووا عن سَمُرة بن جندب، عن النبي عليه السلام أنه قال:
"من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه".
والذي ينفيه يقول: إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص، وولي العبد سيده، فلا يستحق القصاص على نفسه، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالاً من العبد إليه، فلا ملك للعبد، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتاً للمسلمين إرثاً، ولا يمكن ذلك في حق العبد.
ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده فلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين.
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن أبيه عن جده "أن رجلاً قتل عبده متعمداً فجلده النبي عليه السلام، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يَقِدْه به".
ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه، فسماه عبداً استصحاباً للإسم السابق..
ولهم أن يقولوا: وخبركم حكاية حال، فيحمل على أنه كان كافراً، أو أباح العبد له دم نفسه..
وقال الشّافعيّ: يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي، إلا أن الليث بن سعد قال: إذا جنى الرجل على امرأته عَقَلها ولم يقتص منه بها، وكأنه رأي أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص.
وقال عثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت، وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك فيما دون النفس، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء..
وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات ولا مخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص..(1/34)
وقال عليه السلام: "من قتل قتيلاً فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية"، ولم يذكر التخيير.
وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة، فمنها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ}.. ومساق ذلك يدل على الإختصاص بالمسلم، فإنه قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيه شَيءٌ}، ولا يكون الكافر أخاً للمسلم، وقال: {ذلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةَ}.
وأما قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}. فلا حجة فيه، فإنا نجعل له سلطاناً وهو طلب الدية.
وأما قوله: {وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا}. فإخبار عن شريعة من قبلنا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية، إلا أنه يضعف..
وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلماً بكافر، وقال: "أنا آخر من وفى بذمته"، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر" على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خُزاعة قتل رجلاً من هُذَيل بذحل الجاهلية، فقال عليه السلام: "ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، فكان ذلك تفسيراً لقوله عليه السلام: "كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين". لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وذكر أهل المغازي أن عَقْد الذِّمة على الجزية كان بعد فتح مكة، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مُدَد، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله يوم فتح مكة: "لا يقتل مؤمن بكافر" منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه..(1/35)
ويدل عليه قوله عليه السلام: "ولا ذو عهد في عهده"، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة، ولذلك قال: "ولا ذو عهد في عهده"، كما قال الله تعالى: {فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}، وقال: {فَسيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
وكان المشركون حينئذ ضربين:
أحدهما: أهل الحرب، والآخر: أهل العهد، ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين.
وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة..
وقال عثمان البتي: يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروى مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل والد بولده".
وحكم به عمر بمحضر من الصحابة، واشتهر بينهم، فكان كقوله: "لا وصية لوارث" في الإشتهار..
وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الأول.
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد الوالد بالولد"..
ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى: {وَوَصّيْنَا الإنْسَان بِوَالِدَيْهِ حُسْنَاً}. الآية، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه إبنه إذا قتله الأب، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالإبن، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعاً، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركاً..
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركاً محارباً لله ورسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول..
أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلماً فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين، فيجعل الكل كشخص واحد.(1/36)
وإذا قدر ذلك تعظيماً للقتل، فإذا قتل أحدهما عمداً والآخر خطأ فالمخطىء في حكم آخذ جميع النفس، فيثبت لجميعها حكم الخطأ، وانتفى منها حكم العمد، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع، وثبوت حكم العمد للجميع، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه.
ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأَرْش لشيء منها..
وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أباً فلا قصاص على الأجنبيّ، فإن المحل متى كان واحداً وخرج فعل الأب عن كونه موجباً لأنه لم يصادف المحل، صار أيضاً الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.
وخروج الروح به شبهة في المحل، ومتى حصل في المحل شبهة إمتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل، وكل ذلك لحصول مثل الخطاء للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ عمداً موجباً للمال والقود في حالة واحدة، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوماً للجميع بحكم الخطأ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد.
وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما، فلا قطع على واحد منهما..
فإن قيل: فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه.
قيل: ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطىء، وانتفى عنه حكم العمد المحض، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجنى عليه، واستحالة تبعضه، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.(1/37)
ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ، لولا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم لو كانول من أهل القود لأقدنا منهم جميعاً؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط، ودل ذلك على سقوط القود، وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ، فلذلك توزعت الدية عليهم..
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلْيكُمْ القِصَاصُ في القَتْلى}.
وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النّفْسََ بِالنّفْس}
وقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً} الآية...، وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر، وهو أنه يتعين القود في العمد، لأنه تعالى قال: {النّفْسُ بالنّفْسِ}، وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول المطلق، بل الواجب أحد الأمرين..
مثاله أنه إذا قيل لنا: ما الواجب بالحنث في اليمين؟ فلا يجوز أن نقول إنه العتق أو الكسوة أو الإطعام، بل نقول: أحد هذه الخلال الثلاثة لا بعينه.
فإذا لم يكن المال واجباً بالقتل وجب القود على الخصوم.
وروي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمداً فقود يده، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر..
وعلى القول الآخر يحتج بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}.. الآية، وهذا يحتمل معاني:
أحدها: أن العفو ما سهل، قال الله تعالى: {خُذِ العَفْوَ} يعني ما سهل من الأخلاق، وقال صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" يعني تسهيل الله على عباده.(1/38)
وقال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني الولي إذا اعطى شيئاً من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان، فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا تسهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال عند ذكر القصاص في سورة المائدة، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ}، فندبه إلى العفو والصدقة، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني، لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي بالاتباع، وأمر الجاني بالأداء بإحسان.
وهذا خلاف الظاهر من وجهين:
أحدهما: أن العفو بعد القصاص يقتضي العفو عنه من مستحقه بإسقاطه.
والثاني: أن الضمير في "له" يجب أن ينصرف إلى من عليه القصاص، لأنه الذي تقدم ذكره في قوله: {كُتِبَ عَلَيْْكُمُ القِصَاصُ}، والولي لا ذكر له فيما تقدم حتى ينصرف الضمير إليه، إلا أنه يستظهر بظاهر قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} وذلك يدل على أن القصاص هو المكتوب دون غيره..
التأويل الثاني: ما قاله ابن عباس قال: كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عليكُمُ القِصَاصُ في القَتْلىَ} إلى قوله تعالى: {فمن عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء}..
قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، {فَاتّباعٌ بالمعروفِ وأَدَاءٌ إليهِ بإحْسَانٍ} قال: على هذا أن يتبع بالمعروف، وعلى هذا أن يؤدي بإحسان، {ذلكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة} فيما كان كتب على من قبلكم، {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}، قال: ذاك بعد قبوله الدية، فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية، وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل، تخفيفاً من الله تعالى علينا، ورحمة بنا.(1/39)
ولو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال: فالعفو بأن يقبل الدية، لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له غيره، ولو لم يكن أراد ذلك لقال: إذا اختار الولي.
وكأن المقصود بذلك أن الذي قاله الله تعالى أنه كتب لم يعن به أنه كتب على وجه لا يمكن إسقاطه برضا من كتب له مثل ما كان على بني إسرائيل، بل يجوز إسقاطه، فإذا جاز إسقاطه رغب في إسقاطه من جهة من عليه القصاص بالمال، فهذان معنيان..
المعنى الثالث للآية ما رواه سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال: كان بين حيّين من العرب قتال، فقتل من هذا ومن هذا، فقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل، وبالرجل الرجلين، وارتفعوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: القتلى بواء - أي سواء - فاصطلحوا على الديات، ففضل لأحد الحيين على الآخر، فهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِِصَاصُ}.. إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيِهِ شَيْءٌ}..
قال سفيان بن حسين: {فمن عفي له من أخيه شيء} يعني فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان أن العفو ها هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدّلْنَا مَكَانَ السّيِّئَةِ الحَسَنَة َ حَتّى عَفَوْا}. يعني حتى كبروا فسمنوا، وقال صلى الله عليه وسلم: "إعفوا اللحى"، فتقدير الآية: فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الإصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف، وليؤد إليه بإحسان..
المعنى الرابع: أنهم قالوا في الدم بين جماعة إذا عفا عنهم تحول أنصباء الآخرين مالا، وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخيهِ شَيْءٌ} يدل على وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فيتحول نصيب الشركاء مالاً، فعليهم اتباع القائل بالمعروف، وعليه أداؤه إليهم بإحسان..(1/40)
والإتباع بالمعروف أن لا يكون بتشدد وإيذاء، وعلى المطلوب منه الأداء بإحسان، وهو ترك المطل والتسويف، {ذَلِكَ تَخْفِيِفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةً} أي جواز العفو على مال تخفيف، ولم يكن ذلك إلا لهذه الأمة، {فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي قتل القاتل بعد أخذ الدية، {فَلَهُ عَذَابٌ أَليم}.
المعنى الخامس: أخذ ولي الدم المال بغير رضا القاتل، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، فقيل لهؤلاء: العفو لا يكون مع أخذه، ألا ترى أن النبي عليه السلام قال: "العمد قود إلا أن يعفو الأولياء" فأثبت له أحد السببين من قتل أو عفو، ولم يثبت له مالا ، فلئن قيل: إنه إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافياً وتناوله لفظ الآية، قيل له: لو كان الواجب أحد سببين لجاز أيضاً أن يكون عافياً بتركه المال، وأخذ القود، فلا ينفك الولي في اختيار أحدهما من عقد قتل أو أحذ المال، وهذا بعيد.
ويجاب عنه بأن يقال: عفا لسقوط أثر المال في حق من عليه القود بالإضافة إلى القتل، وإذا عدل عن المال إلى القتل لم يظهر لإسقاط المال وقع، فلا يقال: عفا، فإن يؤذن بتخفيف وترفيه عرفا، وإن كان العدول عن أحدهما إلى الآخر عفواً عن المعدول عنه، وإسقاطاً له.
فقيل لهم: فهذا ينفيه الظاهر من وجه آخر، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بتركه القود وأخذه المال، فإنه لا يقال عفا له - وإنما يقال عفا عنه - إلا بتعسف، فيقيم اللام مقام عن، أو بحمله على أنه عفا له عن الدم، فيضم حرفاً غير مذكور.
وعلى تأويل من يخالفه: العفو بمعنى التسهيل، وهو أن يسهل له القاتل إعطاء الأموال، كما يقال: سهل الله لك كذا ويسر لك، فيكون العفو بمعنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال، ولأن قوله: {مِنْ أخيه شيء} يقتضي التبعيض.(1/41)
وعلى أحد قولي الشافعي هو عفو عن جميع الدم لا عن شيء منه، فمتى حمل على الجميع كان مخالفاً مقتضى الكلام، وفي الحمل على كل محمل حيد عن الظاهر من بعض الوجوه، فلا يبعد أن يكون الجميع مراداً، فإن اختيار الدية يوجب إسقاط القصاص، حتى لو أراد العدول إليه بعده لا يجوز.
وشهد لأحد القولين قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بِالنّفْسِ} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الربيع حين كسرت بنته جارية: "كتاب الله تعالى القصاص" أخبر أن موجب الكتاب القصاص، فإن قوله {كُتِبَ عَليكُم القِصاصُ} محكم ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيِهِ شَيء} محتمل للمعاني والمتشابه يجب رده إلى المحكم.
وقوله تعالى {عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمَعْرُوفِ} يدل على أن دية العمد على القاتل.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:179]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القصاص
وقال: {وَلَكُمْ في القَصَاصِ حَيَاةٌ} [179] وذلك تنبيه على الحكمة في شرع القصاص، وإبانة الغرض منه، وخص أولي الألباب مع وجود المعنى في غيرهم لأنهم المنتفعون به، كما قال: {إنّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ مَنْ يَخْشَاهَا}. وقال: {نَذِيِرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد}، فأبان أنه منذر الجميع، ولكنه خص في موضع "من يخشاها" لأنهم المنتفعون بإنذاره، وقال: {هُدَىً للمُتّقِين} مع قوله في موضع آخر {هُدَىً للنّاسِ} لأن المتقين هم الذين ينتفعون به.. وقال في قصة مريم: {قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّاً}، لأن المتقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله تعالى..(1/42)
وقوله: {والجُرُوحَ قِصَاصٌ} يدل على مراعاة المماثلة في الجراح، على ما قاله الشافعي رحمه الله، وأن يفعل بالقاتل مثل ما فعله، فإن لم يمت وجب قتله، فإن القتل لا بد منه قصاصاً لأخذ النفس بالنفس فجمعنا بين قوله تعالى: {والجُرُوحَ قِصَاصٌ} وبين قوله: {النّفْسُ بِالنّفْسِ} وهذا أولى من طرح أحدهما..
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة:180]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصايا
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ..} الآية [180]:
فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} يدل على وجوب الوصية، وقوله {بالمعروف} أي بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: {وَعَلَىَ المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ}. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}.
وقوله {حَقّاً عَلىَ المُتّقِينَ} يؤكد الوجوب...
ووردت أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب الوصية، فمنها ما رواه نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"ما حق امرىء مسلم له مال يوصي فيه، يمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة".
ثم اختلف الناس في وجوبها أولاً:
فمنهم من قال: كان ذلك ندباً.
والصحيح أن ذلك كان واجباً.
وقال ابن عباس في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}.. الآية. إنه منسوخ بقوله: {للرِّجَالِ نَصِيْبٌ} الآية، ورووا بطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث".
فإن قيل: كيف جوزتم نسخ القرآن بأخبار الآحاد؟..
فأجابوا: بأن ذلك لا يمتنع من طريق النظر في الأصول، فإن بقاء الحكم مظنون، فيجوز أن ينسخ بمثله، وشرح ذلك في الأصول.
وقد قيل: إن الإجماع انعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول، ومثل ذلك يجوز أن ينسخ به الكتاب.(1/43)
وليس في إيجاب الميراث للورثة ما ينافي جواز الوصية لهم، لإمكان أن يجتمع الحقان للورثة بالطريقين، وإنما ينسخ الشئ ما ينافيه، والله تعالى لما جعل الميراث بعد الوصية فمن الذي يمنع من أن يعطي الوارث قسطه من الوصية ، ثم يعطى الميراث بعدها؟.
وقال الشافعي في كتاب الرسالة: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتة معها، ثم قال: فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجاهد - وهو منقطع - أنه قال: "لا وصية لوارث"، إستدللنا بما روي عنه عليه السلام في ذلك أن المواريث ناسخة للوصايا بالوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع.
أما قول الشافعي: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة، فوجه الإحتمال أن الوصية إنما كانت واجبة لتعطي كل ذي حق حقه، من ماله بعد موته، فكان إثبات الحق للوارث في ماله لمكان القرابة، ثم كان يميل الموصي بقلبه إلى بعض الورثة ويقصر في حق بعض الورثة، فعلم الله تعالى ذلك منهم، فأعطى كل ذي حق حقه، ولهذا قال النبي عليه السلام:
"إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب" الحديث.. إلى أن قال: "إلا لا وصية لوارث"، فكان الميراث قائماً مقام الوصية فلم يجز الجمع بينهما..
والذي ذكره الشافعي رحمه الله من أن ناسخه الخبر يعترض عليه من وجهين:
أحدهما: أنه منقطع وهو لا يقبل المراسيل.
الثاني أنه لو كان متصلاً كان نسخ القرآن بالسنة وعنده أن ذلك غير جائز.
ثم قال الشافعي: قوله عليه السلام: "ألا لا وصية لوارث" لا ينفي الوصية أصلاً للأقربين الذي لا يرثون ودل لفظ الكتاب عليهم ولم يرد ما يوجب نسخه.(1/44)
وقال الشافعي: حكم النبي عليه السلام في ستة مملوكين أعتقهم رجل ولا مال له غيرهم، فجزّأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق إثنين وأرق أربعة، والذي أعتقهم رجل من العرب، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينهم وبينه من العجم، فأجاز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية، فالوصية لو كانت تبطل لغير قرابته بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت الوصية للوالدين..
ويعترض على هذا بأنه يجوز أن يكون أمه أعجمية فيكونوا أقرباء من قبل أمه عجماً فيكون العتق وصية لأقربائه، ولأن فيه نسخ القرآن بالسنة.
والذي يقال في ذلك: أن قوله {والأقربين} ليس نصاً في حق غير الوارث بل يجوز أن يكون قد عنى بالأقربين الوارثين منهم، فغاية ما في ذلك تخصيص العموم لا النسخ.
فيقال: اللفظ احتمل الوارث ونسخ، ويحتمل أن يقال: إن الناسخ له مطلق قوله: {من بعد وصية}، ولم يعرف الوصية حتى ينصرف إلى المتقدم المذكور مثل قوله: {وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {فإذْ لَمْ يَأْتُوا بالشهداء} معرفاً..
واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية، ولا خفاء لما فيه من الضعف..
{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:181]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصايا
قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [181]:
يدل على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية وإن أثم التبديل لا يلحقه.
ويدل أيضاً على أن من كان عليه دين وأوصى بقضائه أنه قد سلم من تبعته في الآخرة، وإن ترك المعاصي والوارث قضاءه لا تلحقه تبعته.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/45)
{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:182]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصايا
قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفا أَوْ إثْمَاً فأصْلَحَ بَيْنَهُمْ} [182].
يحتمل أن يكون معناه أن يعلم من الموصي جنفاً أو غيظاً على بعض الورثة، وأن ذلك ربما يحمله عن زي الميراث عن الوارث، فعلى من خاف ذلك منه أن يرده إلى العدم ويخوفه عاقبة الجور، ويدخل بين الموصى له والورثة على وجه الإصلاح لئلا يقطع عنه الميراث بوصيته، أو يرجع عن وصية كانت منه إلى غير أهلها قاصداً قطع الميراث.
وهذا وإن كان فيه أجر عظيم ولكنه قد يظن الظان امتناع جواز ذلك، ولذلك قال: {فلا إثم َعَلَيْهِ}، وقد وعد بالثواب على مثله وغيره، فقال: {لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرَاً عَظِيماً}..
الضمير في قوله {بينهم} يجوز أن يكون يرجع إلى الموصى له والورثة إذا تنازعوا، ويجوز أن يرجع إلى الموصي والورثة، فأفاد بهذه الآية أن على الوصي والحاكم والوارث، وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ والعمد ردها إلى العدل.
ودل على أن قوله: {بعد ما سمعه} خاص في الوصية العادلة دون الجائرة.
وفيها الدلالة على جواز اجتهاد الرأي، والعمل على غالب الظن، لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف.
وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك بتراضيهم..
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيّام(1/46)
فرض الصيام في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلىَ الّذيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [183].
وقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلىَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يحتمل ثلاثة معاني كلها منقوله عن أهل التفسير.:
قال الحسن والشعبي، وقتادة: كتب على الذين من قبلنا وهم النصارى شهر رمضان أو مقداره من عدد الأيام، وإنما حولوه وزادوا فيه.
وقال ابن عباس: كان الصوم من العتمة ولا يحل بعد النوم أن يأكل ويشرب وينكح، ثم نسخ فكان ذلك صوماً بالليل لا تشبهاً بالصائمين ولا عقوبة على أكل حرام بل كان عبادة...
وقال آخرون: معناه أنه كتب علينا صيام أيام، ولا دلالة فيه على مساواته في المقدار، بل جائز فيه الزيادة والنقصان..
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيل الصيام ثلاثة أحوال، قدم أولاً رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يصوم كل شهر ثلاثة أيام، وصيام عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض الصيام فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}. وذكر نحو قول ابن عباس الذي ذكرناه وقدمناه، وليس في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلىَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} دلالة على المراد في العدد في أو صفة الصوم أو في الوقت فكان اللفظ مجملاً..
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:184]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيّام
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَاَنَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ} [184] يقتضي تعليق جواز الإفطار على إسم المرض والسفر، إلا أن المريض الذي لا يضره الصوم مخصوص إجماعاً، ولا يعرف له مأخذ أقوى من الإجماع.(1/47)
وأطلق السفر ولم يذكر له حداً، والمسافة القريبة لا تسمى سفراً في العرف، فلا جرم اختلف العلماء في تحديده، فحده أبو حنيفة بثلاثة أيام والشافعي بستة عشر فرسخاً، ولكل مأخذ..
قوله تعالى: {وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [184]:
قال الشافعي. ظاهره أن الذين يطيقونه إذا لم يصوموا أطعموا، ونسخ ذلك في غير الحامل والمرضع، وهي في حقهما ظاهره، ومنه قال علي رضي الله عنه في المريض والمسافر إنه يفطر ويطعم كل يوم مسكيناً صاعاً، ثم قال: وذلك قوله: {وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}.
وكانت عائشة تقرأ: "وعلى الذين يطوقونه فدية" وذلك في الشيخ الهرم.
والذي قاله علي - رضي الله عنه - فيه نظر، فإن قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ} يتبع دلالة قوله بعد ذلك: {وَعَلىَ الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} على المسافر والمريض، لأن ما عطف على الشيء غيره لا محالة، وليس يظهر أيضاً حمله على الشيخ الكبير، فإنه ليس مطيقاً، بل كان مطيقاً ثم عجز، فعلى هذا قال مالك وربيعة في حق الشيخ الكبير: لا أرى عليه إطعاماً فإن فعل فحسن، ولم يروا الفدية قائمة مقام الصوم الذي هو عبادة بدنية، ولا أن تكليف الصوم لاقاه، وهم يقولون: الذي نسخ كان ترك الصوم إلى الإطعام لا قضاء الصوم مع الإطعام، وقد سمى الله تعالى ذلك فدية، والفدية ما يقوم مقام ما يفدى عنه، فالجمع بين الفدية والقضاء لا وجه له، وكان الواجب في الأصل أحد سببين من فدية أو صيام لا على وجه الجمع، فكيف يجوز الإستدلال به على إيجاب الجمع بينهما على الحامل أو المرضع..(1/48)
نعم قال ابن عباس في الحامل والمرضع عليهما الفدية ولا قضاء عليهما، فله حجة في ظاهر القرآن في اقتصاره على إيجاب الفدية دون القضاء، فكانت الآية دالة في الأصل على التخيير بين الفدية والصوم، فلا يجوز أن يتناول الحامل والمرضع لأنهما غير مخيرين، لأنهما إما أن يخافا فعليهما الإفطار بلا تخيير، أو لا يخافا فعليهما الصيام بلا تخيير، ولا يجوز أن تتناول الآية فريقين: تقتضي بظاهرها إيجاب الفدية ويكون المراد في أحد الفريقين التخيير بين الإطعام والصيام، وفي الفريق الآخر إما الصيام على وجه الإيجاب بلا تخيير أو الفدية بلا تخيير، وقد تناولهما لفظ الآية من وجه واحد، فثبت بذلك أن الآية لم تتناول الحامل أو المرضع.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:185]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيّام
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ} [185] يحتمل معاني، منها:
من كان شاهداً لمعني مقيماً غير مسافر، كما يقال الشاهد والغائب، فمقتضاه أن لا يجب على المسافر، لكنه لما قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} [185] بين حكم المرضى والمسافرين في الإيجاب.(1/49)
ويحتمل أن يكون قوله {شهد .. الشهر} أي علمه، وذلك يدل على أن من أفاق من الجنون بعد مضي شهر رمضان فلا قضاء عليه، خلافاً لمالك فإنه قال فيمن بلغ وهو مجنون، فمكث سنين ثم أفاق، فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا تقضى الصلاة، ومالك يحمل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} على شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكره غيره من شهوده بالتكليف.
ويصعب عليه الفرق بين الصغر والجنون فإنهما ينافيان التكليف وليس إسم المرض متناولاً له..
وأبو حنيفة يقول: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} لا يمكن أن يراد به شهود جميع الشهر لأنه لا يكون شاهداً لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله، ويستحيل أن يكون مضيه شرطاً للزوم صومه كله، لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه، فعلم أنه لم يرد شهود جميعه، فتقدير الكلام عنده: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهده منه، وهذا بعيداً جداً..
ومالك يقول: شهد أي أدرك، كما يقال: شهد زمان النبي عليه السلام أي أدرك، والمجنون قد أدرك ذلك الزمان فلزمه الصوم لزوماً في الذمة..
قوله تعالى: {فليصمه}:
والصوم في اللغة: الإمساك المطلق، غير مختص بالإمساك عن الأكل والشرب دون غيرهما، بل كل إمساك فهو مسمى في لغة صوماً، غير أن الله تعالى أحل الأكل والشرب الجماع إلى أن يصبح، ثم أمر بإتمام الصوم إلى الليل، ففحوى الكلام تحريم أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولهذا ساغ الإختلاف فيه واختلف فيه علماء السلف.
وأما الحيض والإستقاء فلمنافاتهما للصوم، فلا يعلل أصلاً، فقاس قوم الجنابة على الحيض, وقاس قوم الحجامة على الإستقاء، لأنهما استخراج الفضلة من البدن..
وروى إبن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً.(1/50)
قوله تعالى: {فَعدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر} يدل على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً، فإنه ذكر الأيام منكرة، فإذا فرق فقد أتى بما اقتضاه الأمر، وفهمنا أن تتابع صوم رمضان للشهر لا لنفس الصوم، ولذلك لم يكن إفساد يوم منه مانعاً صوم الباقي، وقد قال الله تعالى: {فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر} فدل على جواز التأخير من غير أن يتحدد بوقت، وهو كالأمر المطلق الذي لا يتقيد بوقت، ويجوزمفرقاً ومجموعاً..
والشافعي رأى تقييد القضاء بالسنة قبل دخول رمضان آخر وقال: إذا دخل رمضان آخر فدى عن كل يوم بمد، ورواه عن ابن عباس وابن عمر.
فأما ما روي عن ابن عباس أن رجلاً جاء إليه فقال: مرضت رمضانين، فقال ابن عباس: إستمر بك المرض أو صححت فيما بينهما؟..
قال: بل صححت، قال: صم رمضانين، واطعم ستين مسكيناً..
وعن إبن عمر: أنه سئل عمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر؟.. قال: يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول كل يوم مداً من تمر ولا قضاء عليه، وهذا يشبه مذهبه في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها..
فقيل لهم فالقضاء بعد الصوم الآخر مأخوذ من قوله تعالى: {فَعِدةٌ منْ أيّامٍ أُخَر}. واللفظ قد تناول الأوقات فلا يجوز أن يكون قد أوجب القضاء على قوم والفدية على قوم آخرين، بل يقتضي أن يكون الحكم في الكل واحداً، وغاية قول الصحابي على خلاف القياس، أن يتوهم فيه توقيف، مع احتمال كون احتجاجه بالتوقيف فاسداً وغلطاً، فظهور هذا من كتاب الله تعالى أولى بالإعتبار والإتباع.(1/51)
وذكر داود الأصفهاني أن قضاء رمضان يجب على الفور، وأنه إذا لم يصم اليوم الثاني من شوال أثم لأنه لو مات عصى، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة، فوجد رقبة تباع بثمن، فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها، ولو كان عنده رقبة فلا يجوز أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله..
وقد قال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصى على شرط العزم.
وقال الرازي أبو بكر إنه لا يعصى إلى السنة القابلة، فإن آخر الوقت معلوم، فبنى عليه أنه لو مات في خلال السنة لا يعصى، فقدر القضاء بالسنة، وذلك خلاف قول الجماعة، وجعله كوقت الصلاة لما كان التأخير موسعاً عليه إلى آخره، لم يكن مفرطاً بتأخيره إلى أن مات قبل مضي الوقت، فكذلك قضاء رمضان.
وأجمعوا على وجوب الفدية إذا مات قبل مضي السنة لا لكونه عاصياً، كما تجب على الشيخ الكبير، وتجب الفدية أيضاً على من فاته صوم رمضان ومات في أول يوم من شوال...
قوله تعالى: {فَعدّةٌ مِن أيامٍ أُخَر}:
إستدل به قوم على أن المسافر لا صوم عليه، لأن قوله: {فَعدَةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر} يدل على أن الصوم المسافر في الأيام الأخر، ولم يقدروا الإضمار مثل قول أكثر العلماء: فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا مذهب يروى عن أبي هريرة وقال به داود إلا أنه صح أن رسول الله صام في السفر.
وعن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟.. فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر"..
وروى أبو سعيد الخدري وابن عباس وأنس وجابر وأبو الدرداء وسلمة ابن المحبق صيام النبي عليه السلام في السفر، ومن خالف في هذا يدفع بظاهر قوله تعالى: {فَعِدةٌ مِنْ أيامٍ أُخَر}. من غير فصل بين المفطر وبين الصائم..(1/52)
ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس من البر الصوم في السفر"..
ورووا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر".
وبحديث أنس عن النبي عليه السلام: "إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، وعن الحامل والمرضع"..
ومن يخالف هؤلاء يقول: روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلل عليه والزحام عليه فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" فجائز أن يكون كل من روى ذلك، فإنما حكى ما ذكره النبي عليه السلام في تلك الحال، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم.
وذكر أبو سعيد الخدري، أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا"، فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سعيد الخدري:
لقد رأيتني مع النبي عليه السلام أصوم قبل ذلك وبعده، فيجوز أن يكون الخبر ورد على سبب، وهو حال لزوم القتال مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم. ولأن قوله: "وأن تصوموا خير لكم" معطوف على كل من تقدم وبينهم المسافر والمريض..
ثم إنه إذا صام أهل بلد تسعة وعشرين يوماً للرؤية، وفي البلد رجل مريض لم يصم، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوماً.
وقال قوم منهم الحسن بن صالح: إنه يقضي شهراً بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. وهذا بعيد، لقوله تعالى: {فَعدةٌ مِنْ أيامٍ أُخَر}، ولم يقل فشهر من أيام أخر.
وقوله: (فعدة) يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك في أنه لو أفطر بعض رمضان، وجب قضاء ما أفطر بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار العدد...
وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلدة ثلاثين للرؤية وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين، أن على الذين صاموا تسعة وعشرين قضاء يوم، وأصحاب الشافعي رحمه الله لا يرون ذلك، إذا كانت المطالع في البلدتين يجوز أن تختلف.(1/53)
وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: {ولتُكْمِلوا العِدَّةَ} وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها، ومخالفهم يحتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "صوموا لرؤيته..الحديث"، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم..
وروى الشافعي بإسناده عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، فاستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟.. فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى يكمل الثلاثين أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟. قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقيل على هذا: قوله "هكذا أمرنا" يحتمل أن يكون تأول فيه قول النبي عليه السلام: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته".
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة:187]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الاعتكاف
قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المساجد} [187].(1/54)
ظاهر ذلك يقتضي تحريم المباشرة مطلقاً لشهوة وغير شهوة، والمباشرة أن تتصل بشرته ببشرتها، إلا أن عائشة كانت ترجل شعر رسول الله وهو معتكف، فكانت لا محالة تمس بدن الرسول عليه السلام بيدها، ودل ذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة..
وزعم قوم أن الآية لا تدل على المباشرة بالشهوة أيضاً، بعد أن اتفق الناس على أن الجماع مراد به، لأن الكناية بها عن الجماع مجاز، وإذا حمل اللفظ على المجاز فلا يحمل بعينه هو على الحقيقة.
وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ المباشرة عموم في الجماع، لا بطريق المجاز، بل من حيث أن الجماع مباشرة، إذ المباشرة هي الإفضاء ببشرته إلى بشرة صاحبه، فإذا كانت حقيقة المباشرة - لا من حيث المجاز - إلصاق البشرة بالبشرة فهي عامة في الجماع وغيرها، فدلالتها على الجماع من حيث الحقيقة لا من حيث المجاز..
قوله: {وَلاَ تُباشِروهُنَّ وأَنْتُم عَاكِفُونَ في المَساجِدِ} يقتضي أن يكون الحظر مختصاً بالمسجد، حتى لو جامع عند الخروج لا يبطل اعتكافه.
ويحتمل أن يقال: قوله: {وأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِد} معناه: لا تباشروهن حال ما يقال لكم إنكم عاكفون في المساجد، والرجل وإن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فهو عاكف. واعتكافه باق.
وأمكن أن يقال: لا يقال له عاكف في المسجد بل يقال: لم يبطل تتابع اعتكافه، فأما أن يكون عاكفاً في المسجد لفظاً وإطلاقاً وهو خارج منه فلا.
ولما كان الرجل باعتبار قعوده في المسجد، لا يقال له عاكف، إذا كان يخرج ويرجع على ما جرت به العادة، وإنما يقال عاكف للمواظب، فيقتضي ذلك زوال إسم العاكف عنه، إذا كان يتردد في حاجاته، ويخرج لأشغاله، إلا ما لا بد له منه.
1)…الصيّام
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ،الآية} [187].(1/55)
الرفث يقع على الجماع ويقع على الكلام الفاحش، والمراد به الجماع ها هنا لأنه الذي يمكن أن يقال فيه: {أٌحِلَّ لَكُمْ لَيْْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُمْ}، ولا خلاف فيه.
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} يعني كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه.
ويحتمل أن يراد باللباس الستر، لأن اللباس هو ما يستره، وقد سمى الله تعالى الليل لباساً لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه،فالمراد بالآية أن كل واحد منهما يستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه، ويكون كل واحد منهما متعففاً بالآخر مستتراً به.
قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنفُسَكم}.
أي يساتر بعضكم بعضاً في مواقعة المحظور من الجماع، والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ} يعني: يقتل بعضكم بعضاً.
ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وكان خائناً لنفسه من حيث كان صرره عائداً إليه.
ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المساتر له، فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها، والخيانة انتقاص الحق على وجه المساترة.
وقوله {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يحتمل معنيين:
أحدهما: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم.
والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}.
{وَعَفَا عَنْكُمْ}: يعني خفف عنكم.
وذكر عقيب قتل الخطأ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ} يعني تخفيفاً، لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئاً يلزمه التوبة منه.
وقال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلىَ النّبِيِّ والمُهَاجِرِيِنَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ}، وإن لم يكن من النبي عليه السلام ما يوجب التوبة منه..
وقوله: {وَعَفَا عَنْكُمْ}.(1/56)
يحتمل العفو عن المذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل كقول النبي عليه السلام: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله"، يعني تسهيله وتوسعته..
قوله: {حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [187]، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه خيطاً وخيطاً أسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا، قال: فذكر سهل بن سعد الساعدي - وهو راوي الحديث - أنهم كانوا على ذلك حتى نزل قوله تعالى: {مِنَ الفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما عنى بذلك الليل والنهار، ولا يجوز أن لا يكون في قوله {الخَيْطُ الأبْيَضُ} بيان للحكم مع الحاجة، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز أصلاً..
ويجوز أن يكون التجوز بالخيط الأبيض عن الفجر سائغاً في لغة قريش دون غيرها من اللغات، فأشكل على قوم آخرين، حتى تبين لهم بقوله من الفجر، ولا يجب أن يكون البيان بلغة يشترك في معرفتها جميع الناس قبل أن يتبين لهم بلغة من كان بياناً في لغتهم..
ويجوز أن يكون قد قال: {من الفجر} أولا، لكن قوله {من الفجر} يحتمل أن يكون تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر،على معنى أنه يتبين الخيطان من أجل الفجر، ويحتمل أن يكون المستبان في نفسه هو الفجر..
فإن قيل: كيف يشبه الليل بالخيط الأسود وهو يشتمل على جميع العالم، وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بخيط مستطيل أو معترض في الأفق، أما الليل فليس بينه وبين الخيط مشاكلة؟..
الجواب: أن الخيط الأسود هو السواد الذي في المواضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فلأجل ذلك سمي الخيط الأسود، وإذا أباح الله الأكل والشرب إلى أن يتبين، فيدل ذلك على جواز الأكل قبل التبين حالة الشك.
ويدل على أنه لا نظر إلى الشك إذا أمكن درك اليقين، وأنه يجوز استصحاب حكم الليل في حق الشاك.(1/57)
وفيه الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم بأن المجامع من الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر، أنه يصبح جنباً، ثم حكم مع ذلك بصحة صيامه بقوله: {ثُمَّ أَتِموا الصِّيامَ إلى اللّيْلِ}.
والذي يخالف هذا يقول.. إنما أبيح الأكل إلى الفجر لا الجماع، فإنه لم يقل: "وباشروهن إلى أن يتبين".
وفيه دليل على أن البياض بعد تبين الفجر من النهار، بخلاف البياض بعد غروب الشمس.
وظن قوم أنه إذا أبيح له الفطرإلى أول الفجر، فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع، فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل، فلا قضاء عليه، كذلك قاله مجاهد وجابر بن زيد، ولا خلاف في وجوب القضاء، إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان، إذا أكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:188]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وتُدْلُوا بهَا إلىَ الحُكّامِ} [188] فيه دلالة على أن حكم الحاكم لا يغير بواطن الأحكام، ولأن الحاكم يحكم بالظاهر وهو مصيب في عمله، لا أنه مصيب ما عند الله تعالى حقيقة.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة:189](1/58)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والْحَجِّ} [189].
سماه على وحدته أهلة إذ الأهلة ليست إسماً للقمر، وإنما سمي الهلال هلالاً في أول ما يرى، وما قرب منه لظهوره في ذلك بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج وهو إظهار التلبية، واستهلال الصبى ظهور حياته بصوت أو حركة، ويقولون تهلل وجهه إذا ظهر فيه البشر والسرور، وليس هناك صوت مرفوع حتى يقال: الإهلال رفع الصوت وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت عند رؤيته، قال تأبط شراً:
* وإذا نظرت إلى أسرة وجهه * برقت كبرق العارض المتهلل *
وأمكن أن يقال متهلل لصوت الرعد فإن البرق لا يخلو منه، واستدل به أصحاب أبي حنيفة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج فحملوه على الإحرام به.
فقيل لهم: فقد قال: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، فأجابوا بأنه لا بد في الكلام من ضمير ولا بيان فيه دونه، فإن الحج فعل الحاج، وفعل الحاج لا يكون أشهراً، فلا بد أن يكون المراد به أفعال الحج ومعناه أفعال الحج في أشهر معلومات. فقيد تخصيص أفعال الحج بالأشهر المعلومات، وهو كذلك، فإنه لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، وطاف له وسعى قبل أشهر الحج، فسعيه ذلك لا يجزيه، وعليه أن يعيده، لأن أفعال الحج لا تجزىء قبل أشهر الحج، فعلى هذا معنى قوله: {الحَج أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي أن أفعاله في أشهر معلومات.
وهذا غلط، فإنه إذا قال: "أشهر معلومات" فيجب أن يقع في الأشهر، فيكون الأشهر المعلومات ظرفاً، ويكون الفعل واقعاً في جميعه، كالإحرام يقع في الأشهر ويبقى في الأشهر، فيفال هو في الأشهر محرم.(1/59)
ولا يجوز أن يكون الفعل الذي هو السعي يقع في الأشهر، وإنما يقع في ساعة من يوم، ولا يجوز أن يكون المراد به بقاء الإحرام كما قالوه، فإنهم قالوا: إذا أحرم بالحج في أشهر الحج أو في غيرها، فإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الإحرام، فقول الله تعالى: {الحجُّ أشهْرٌ} يعني: دوام الحج وبقاؤه أشهر، وهذا باطل، فإن الذي ذكروه من بقاء الإحرام، ليس يتحدد له أشهر معلومات، فإنه لو أحرم من وقت الفوات، دام الإحرام والحج إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل، والحج لا يتعين له أشهر، بل أشهره جميع السنة، وإنما يفوت في وقت خاص، ولا يبقى أكثر من سنة قط، فإذا بطلت تأويلاتهم، بقي تأويل الآية التي تعلقوا بها، ووجه ذلك أن قوله: {قُلْ هيَ مَواقِيتُ للنّاسِ والحَجِّ} معناه: "قل هي مواقيت للناس في الحج "، فيحصل في الأهلة المعنيان من غير تفصيل، فلا دلالة في الآية على أن الأهلة يجب أن تكون مواقيت للحج..
نعم الأهلة كلها مواقيت للناس لا مفهوماً من هذا اللفظ، فإن المفهوم من هذا اللفظ بيان فائدة الأهلة، والفائدة حصلت بما قلناه من غير تفصيل، ويدل عليه أن مراد الله تعالى من ذلك بيان الحاجة إلى الأهلة، ببيان منافعها في كونها مواقيت للناس، فإنما يقال ذلك فيما يعتاده الناس ويتعارفونه، وما اعتاد الناس قط الإحرام في غير أشهر الحج ولا ندبوا إليه، ولذلك سمي بعض الشهور أشهر الحج، وغير المعتاد لا يحصل به الإمتياز في كونه ميقاتاً، وما يعد ميقاتاً أصلاً، كما تعد الشهور كلها بأسرها مواقيت للأعمال والآجال، فهذا يدل على صحة هذا التأويل وبطلان تأويلات من يخالف هذا القول...
1)…صوم الوصال
2)…الآداب(1/60)
قوله: {وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [189]، هو تنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً يشير به إلى أن تأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه، وفيه بيان أن ما لم يشرعه الله تعالى قربةً، ولا ندب إليه لا يصير قربة، بأن يتقرب به متقرب، ومثله تحريم الوصال الذي يتقرب به ولا تقرب فيه. والرهبانية التي يتقرب بها ولا تقرب فيها..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة:189]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلّةِ قُلْ هيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ والحَجِّ} [189]:(1/61)
فاستدل بعض الحنفية، على كون جميع شهور السنة مواقيت للحج، كما كانت بأسرها مواقيت للناس، ولزمهم من هذا أن يكون الحج المطلق،عبارة عن الإحرام فقط، دون سائر الأفعال، مع أن الإحرام عندهم، ليس من الحج، بل هو شرط الحج، والذي هو الحج من طواف القدوم في غير أشهر الحج، وسعى، لم يجز إجماعاً، فإذا علم ذلك، فحمل اللفظ على بعض الشهور، أولى من حمل الحج المطلق على الإحرام، الذي ليس من الحج، وإنما هو طريق إليه وشرط له، ولأن الله تعالى لم يرد جعل الأهلة ميقاتاً للحج، باعتبار كونها أهلة، فإن الإحرام ليس يتعين له أول الشهر،ولا المواقيت أيضاً، وإنما الأهلة عبارة عن جملة الشهر، فإن السائل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أجمع عليه أهل التفسير وقال: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مستدقاً، ثم ينمو حتى يتكامل ثم ينقص.
وكان السؤال من معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن زيادة القمر ونقصانه،فأخبر الله تعالى أن الحكمة في زيادته ونقصانه، زوال الإلتباس عن أوقات الناس في حجهم، وحل ديونهم، وعدد نسائهم، ومدد حواملهم، وأجرة أجرائهم وغير ذلك.
ولا شك أن الوقت في الوقوف متعلق بالهلال، فالهلال ميقات له، لأنه به يعرف، وكذلك الطواف، فلا يتضمن ما قلناه، إطلاق إسم الحج على شرط الحج، دون نفس الحج.
فإن قيل: فعلى قولكم أيضاً قد قال تعالى: {الحج أشْهُرٌ مَعلوماتٌ} والأفعال كالوقوف، وسائر الأفعال إنما تقع في غير الأهلة، بل في وسط الشهر لا في الأشهر، فليس في شوال من أفعال الحج شيء، فقد أخرجتم الحج عن أن يكون اسمه متناولاً لشيء من الأفعال سوى الإحرام.
قلنا في جواب ذلك: إن الإحرام ركن الحج عندنا، فقوله: {الحجُّ أشْهرٌ}، يعني عقد الحج وإنشاؤه في أشهر معلومات..(1/62)
قالوا: احتمل أن يكون المراد به غالب أحوال الناس، وكأنه قال تعالى: {الحجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} في تعارف الناس، فمن فرض في هذه الأشهر الحج، فلا يخلن بحقه، وليرفض الفسوق والرفث والجدال كما قال الله تعالى في صوم رمضان: {أياماً مَعْدودات}، والمقصود به تهوين الأمر عليهم دعاء إلى فعله، لا سيما وليس في قوله: {الحجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} صفة الأمر، فيجوز أن يكون إخباراً عن متعارف أحوال الناس، في إيقاع الإحرام بالحج في هذه الأشهر، وهذا لأنا لا ننكر احتمال اللفظ له، إلا أن الظاهر ما قلناه.
ومما سألوه أن من فروض الحج، ما يفعل بعد أشهر الحج، ويكون مفعولاً في وقته، وهو طواف الزيارة، ولم يجز شيئاً من فروض الصلاة يفعل بعد خروجها وقتها، إلا على وجه القضاء، فلم يجز أن يكون ركن العبادة باقياً في غير وقتها، فبقي إحرامه كاملاً بعد أشهر الحج، وهو يوم النحر قبل رمي الجمار، حتى قال الشافعي: "إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه"، فدل على كونه وقتاً للإحرام بالعبادة، وليس بقاء العبادة في هذا الوقت، على نحو بقاء العصر بعد غروب الشمس، والصبح بعد طلوع الشمس، فإن ذلك وقت العذر والضرورة، لا وقته الأصلي، ولذلك لا يجوز تأخير صلاة العصر، إلى وقت يعلم وقوعها بعد غروب الشمس، وها هنا يوم النحر وقت أصلي لأفعال الحج، فليكن وقتاً لعقد الإحرام..
والجواب عنه، أنه وقت لأعمال حج، لا يتصور بقاء الإحرام به، فإن الطواف في هذا اليوم، إنما يكون لحج يقدم الإحرام به قبل يوم النحر، وذلك الحج بالإتفاق، لا يتصور بقاؤه في هذا الوقت، والذي ينعقد من الإحرام في هذا الوقت، لا يتصور أن يكون هذا الوقت وقتاً لأعماله،فكيف يجوز الإستدلال به؟
بل يقال إن فواته يدل على أن الوقت الذي لا يبقي فيه الإحرام، لا يجوز أن يكون وقتاً لابتداء مثله، وهذا أقرب في الإستدلال .(1/63)
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة:190]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلونكم} [190] الآية..
ولا خلاف بين العلماء في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله: {إدْفَعْ بالّتي هيَ أَحْسَنُ}، إلى قوله: {ذُو حَظٍ عَظِيم}، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}، وقوله: {وجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ}، {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ}، الآية..، {وَإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمَاً}.
وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحاباً له كانت أموالهم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، كنا في عز ومنعة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم" فلما حوله إلى المدينة انكفوا، فأنزل الله تعالى:
{ألَمْ تًَرَ إلىَ الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمُ وأقيموا الصَّلاَةَ} الآية..
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {لَسْتُ عَلَيْهِمْ بمُسَيْطِرْ} وقوله: {وَمَا أنْتَ عَلَيْهِمْ بجَبّارٍ}، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}، وقوله: {قُلْ للذّينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِيِنَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللهِ} قال:
نسخ هذا كله قوله تعالى: {فَاقْتُلوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وقوله: {قَاتِلُو الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِر} ..الآية..
واختلف السلف في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع ابن أنس وغيره أن قوله تعالى: {وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أول آية نزلت في القتال.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أول آية نزلت في القتال قوله تعالى:(1/64)
{أُذِنَ للّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأنّهُمْ ظُلِمُوا} الآية..
وقال آخرون: قوله تعالى: {وقاتِلُوا في سبيلِ اللهِ} أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية نزلت في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم، ومن لم يقاتلهم من المشركين.
فقال الربيع بن أنس: أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة قوله تعالى: {وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، فكان النبي عليه السلام بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين ويكف عمن كف عنه إلى أن أمر بقتال الجميع، وهو مثل قوله تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}..
ويحتمل أن يقال إن قوله: {الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} لم يرد به حقيقة القتال، فإن جواز دفع المقاتل عن نفسه ما كان محرماً قط، حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به الذين يقاتلونكم ديناً، ويرون ذلك جائزاً اعتقاداً، ولم يرد به حقيقة القتال.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، فإنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلح الحديبية إلى المدينة، حين صده المشركون عن البيت، صالحهم على أن يرجع عامة القابل، ويخلو له مكة ثلاثة أيام، فلما كان في العام القابل، تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن البيت ويقاتلونهم، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله تعالى:
{وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قريشاً الذين صالحوهم، {وَلاَ تَعْتَدُوا} فنبذوا في الحرم بالقتال، ودل عليه ظاهر ما بعده قوله:(1/65)
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ وَالْفِتَنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ} يعني أن شركهم بالله عز وجل، أعظم من قتلكم إياهم في الحرم، والذي كان منهم من تعذيب من أسلم وظفروا به، ليفتنوهم عن الدين، أعظم من قتالكم إياهم في الشهر الحرام.
وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ}. معناه حتىلا يكون الشرك الذي هو باعث على الفتنة، ويكون الدين كله لله، ولذلك لم يقبل العلماء الجزية من وثنيي العرب، فإن الله تعالى قال في حقهم:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلّه للهِ}.
فأمر الله تعالى بقتالهم، حتى لا يكون الشرك ويكون الدين كله لله.
وروي عن أبي بكر أنه أمر بقتال الشماسنة، لأنهم يشهدون القتال ويرون ذلك رأياً، وأن الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا، فأمر أبو بكر أن لا يقتلوا، ثم قال: قد قال الله سبحانه: {وَقَاتِلُوا في سَبيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتلُونَكُمْ}.. وحمل ذلك أبو بكر رضي الله عنه على المقاتلة ديناً واعتقاداً، فالآية على هذا ثابتة الحكم لا نسخ فيها.
وعلى قول الربيع بن أنس، أن النبي عليه السلام والمسلمين، كانوا مأمورين - بعد نزول الآية - بقتال من قاتل دون من كف عنهم، سواء كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتدين وليس بصحيح.
وروي عن عمر بن عبد العزيز في قوله: {الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} قال: ذلك في النساء والذرية، فعلى هذا لا نسخ في الآية.
ويحتمل أن يقال: إن قوله تعالى: {وَاْقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، عام في الرجال والنساء والصبيان، وهم يقتلون إذا كانت المصلحة في قتلهم، على ما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله فيه.
وإذا كانت المرأة مقاتلة بالمال والرأي والتدبير، وكانت ذات عز في قومها، فيجب قتلها، وإذا كانت المصلحة في استرقاقها، فنفع الإسترقاق إذا أوفى على قتلها، فلا يجوز قتلها..(1/66)
قوله تعالى: {والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ}، يعني كفرهم وتعذيبهم للمؤمنين، في البلد الحرام والشهر الحرام، أعظم مأثماً من القتل في الشهر الحرام، وأنه إذا كان يتوقع منهم مثل ذلك، وجب قتلهم في البلد الحرام وفي الشهر الحرام، وكذلك معنى قوله: {وَقَاتِلوهم حَتىّ لاَ تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِينُ للهِ}، فعلل القتال والقتل بهذا المعنى، وهذا يستوي فيه الحرم وغيره، والشهر الحرام وغيره.
وكذلك قاله الربيع بن أنس فإنه قال:
قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}.
منسوخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُم حَتّى لاَ تَكُون فِتْنَةٌ}.
وقال قتادة: هو منسوخ بقوله: {اقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم}، وقد نزل قوله تعالى: {اقتُلوا المُشْركينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في سورة براءة (التوبة) بعد سورة البقرة، والذي كان من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وقوله فيها: "إن الله تعالى حرم مكة" الحديث، نسخه ما بعده، وسورة براءة فإنها نزلت بعد ذلك بمدة.
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: الفتنة في قوله: {وقاتِلوهم حَتّى لاَ تكون فِتْنَةٌ}، الشرك بالله.
وقيل: إنما سمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما تؤدي إليه الفتنة..
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ } [البقرة:191]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ} [191]:(1/67)
صفة مشركي قريش، فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم، فلا جرم لا تقبل الجزية من المشركين لقوله تعالى: {وقاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة} - يعني كفر- {وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ}.
فمد القتال في حقهم إلى غاية وجود الإسلام، وفي حق أهل الكتاب إلى غاية وجود الجزية في قوله: {حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} لأنهم إذا أعطوا الجزية حصلت منفعة المسلمين، إلا في حق من لا يقنع منه بالجزية لعظم جريمته.
وبنى الشافعي رحمه الله على ذلك جواز قتل النساء المرتدات، لعظم جرائمهن وكبر ذنوبهن، وأن ذلك لا يندفع بالإسترقاق ومنفعته، كما لا يندفع بالجزية، وليس إذا عدم القتال منهن فلا مصلحة في قتلهن، بل في قتلهن مصالح منها:
منعهن عن إمداد الرجال بالأموال، وبالحث على القتال بإنشاد الأشعار المحركة لطباعهم، فإنه إذا حدث الحرب بالعرب أبرزن النساء باعثات على الحرب متناشدات بالأشعار، وذلك من أعظم الفتن، وترى الواحد منهم يقتل نفسه ويرد الأمان قائلاً: بأن نساء الحي لا يتحدثن عني بالجزع في القتال وطلب الأمان.
ففي قتلهن على هذا الوجه مصالح عظيمة، وهل يقاتل أكثر الناس إلا ذباً عن النساء؟
غير أنهن إذا حصلن في السبي، فالإسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وبعد فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
وليس يتوقع من القتال إلا أذية المسلمين، وذلك يحصل للمسلمين بما يصدر منهن وإن لم يباشرن القتال، ولم تكن فتنة فني بها خلق في الأكثر، إلا كان سببه أمور النساء، والذي كان من شؤم البسوس ورعيف حولاً وغيرهما، مما نتج الحروب العظيمة وهيج الفتن الهائلة مشهور معروف..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/68)
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة:194]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {الشّهْرُ الحَرَامُ بِالْشّهْرِ الحَرَامِ} الآية. [194]
روي عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟.. قال: نعم، فأراد المشركين أن يغيّروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية..
يعني إذا استحلوا منكم فاستحلوا منهم مثله.
وروي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك، أن قريشاً لما ردت رسول الله عام الحديبية - محرماً في ذي القعدة - عن البلد الحرام فأعاده الله إليه في مثل ذلك الوقت فقضى عمرته، وأقصه لما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية، فيكون على هذا التتقدير إخباراً بما أقصه الله تعالى من الشهر الحرام، الذي صده المشركون فيه عن البيت بشهر مثله في العام القابل،ويتضمن مع ذلك أمراً بالقتال.
فإن قيل: إنه إذا حمل اللفظ على حقيقة الجزاء انتفى كونه أمراً، فيقال:
يجوز أن يكون الإخبار حاصلاً في تعويض الله تعالى نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام، الذي صده فيه المشركون عن البيت، بشهر مثله في العام القابل، وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات، فلذلك قال: {والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، ثم عقب ذلك بقوله: {فَمَنْ اعْتَدىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [194].
فأبان أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام، فعليهم أن يقاتلوهم فيه، وإن لم يجز الإبتداء..
ويحتمل أن يكون الإبتداء جزاء على ما كان من سابق فعلهم في مثل ذلك الوقت، ولا يكون قوله {فمن اعتدى} لاستثناء وحكم، بل يكون معناه:(1/69)
فمن اعتدى في الماضي بهتك حرماتكم في الشهر الحرام في البلد الحرام فاعتدوا عليه الآن بمثل ما اعتدى عليكم في الماضي، فيكون ذلك إباحة للقتال مطلقاً في كل موضع وفي كل وقت، ويحتج بذلك في مراعاة المماثلة في القصاص على ما يقوله الشافعي رحمه الله..
{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة:195]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَةِ} الآية 195.
روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيه، وأظهر دينه. قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ}، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد..
قال الراوي: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.
فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك..
وروى مثله عن ابن عباس، والحسن، وحديفة، وقتادة، ومجاهد والضحاك.
وروي عن البراء بن عازب، أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، هو اليأس من الرحمة بارتكاب المعاصي.
وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما ينفق فيتلف.
وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو.(1/70)
وقال محمد بن الحسن في السير الكبير: لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجزئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه، فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله:
{إشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنينَ أنْفُسَهُمْ} الآية..، إلى غيرها من آيات مدح الله بها من يذل نفسه لله عز وجل.
وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى:
{وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلىَ مَا أَصَابَكَ إن ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}..
وقد روي مكرمة عن ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال: " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله".
وروي أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: "شر ما في رجل شحّ هالع، وجبن خالع".(1/71)
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة:196]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج والعمرة
وقوله تعالى: {وَأَ تِمُّوا الحَج والعُمْرَةَ لله ِ} [196].
فالمنقول عن عمر وعلي وسعيد بن جبير وطاووس، أن الإتمام فيهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك..
وقال مجاهد: إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما، وذلك أشبه بالظاهر، ودل عليه ما بعده فإنه قال: {فإنْ أُحْصِرْتُمْ}، والإحصار إنما يمنع الإتمام بعد الشروع، ويوجب ما استيسر من الهدى عند ذلك قد وجب الإتمام إجماعاً، ويظهر أن مأخذ وجوبه هذه الآية، ولا فصل فيه بين الحج الأول والثاني، والعمرة الأولى والثانية.
قوله تعالى: {فإنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية. ذكر بعض أهل اللغة أنه لا يقال في العدو "أحصرتم" وإنما يقال حصرتم، وهو كقوله حبسه إذا جعله في الحبس، وأحبسه أي عرضه للحبس، وقتله إذا أوقع به القتل، وأقتله إذا عرضه للقتل، وقبره إذا جعله في القبر، وأقبره عرضه للدفن في القبر، كذلك حصره حبسه وأوقع به الحصر، وأحصره عرضه للحصر.(1/72)
فإذا كان كذلك، فالعدو إذا كان بعيداً منه على الطريق، فهذا هو التعريض للحصر، وهو متعرض به لأن ينحصر، وليس بمحصور في الحال ولا محبوساً، ولكنه معرض لذلك، فتقدير الآية: فإن عرضتم للحبس والمنع، وإن لم يلحقكم في الحال حصر ولا منع , وذلك إنما يكون بالعدو، أما المريض فقد احتبس عليه المضي في الحال، فليس هو معرضاً بل هو محصور في الحال، وقد حصره المرض ولذلك قال ابن عباس ذهب الحصر الآن.
وكذلك نزلت هذه الآية في شأن الحديبية، وما كان من حصر إلا العدو ولا يجوز أن لا يذكر سبب النزول ويذكر غيره، مما يدل على العدو بطريق الإستنباط والدلالة..
وقال تعالى بعد قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ}، {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ فَمَنْ كَانَ منكم مَرِيضاً}، فلو كان المرض مذكوراً في أول الآية، وكان يحل بذلك الدم المذبوح في محله، لم يكن يحتاج إلى فدية.
ولا يجوز أن يكون المرض ها هنا هوام الرأس، فإنه ذكر ذلك بعد المرض فقال: {مَرِيضَاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ} .
ولهم أن يقولوا: لعله أباح ذلك قبل أن يبلغ الهدى محله، إذا حلق للأذى والمرض، أو عنى به مرضاً لا يمنعه من الوصول إلى البيت، وإلا فأي معنى لذكر المرض عند ذكر الإحلال، وحكمه عند عدم الإحلام يثبت؟
ويحتمل على موجب مذهب أبي حنيفة أن قوله: فمن كان منكم مريضاً، عائداً إلى أول الخطاب، كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله: {وأتموا الحج والعمرة}، ثم عطف عليه قوله: {فََإنْ أُحْصِرْتُمْ} أي صددتم عن الإتمام، ثم عقب بقوله {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ}. يعني أيها المحرمون بالحج والعمرة، ليكون على هذا الرأي مثبتاً حكم المريض، إذا صد عن الإتمام أن الذي يجب عليه ما استيسر من الهدي، وأنه إن لم يكن المريض ممنوعاً من الإتمام، فحكمه كذلك، ليكون قد بين حكم المرض دون الاحصار، والمرض عند الإحصار..(1/73)
فقيل لهم: فقد قال: {فَإذَا أمنتُم}، وذلك إنما يطلق على العدو لأن الأمن نقيض الخوف، ويقال في نقيض المرض الشفاء.
نعم قد يقال: أمن المرض وزال الخوف منه، ولكن لا يطلق إسم الأمن عليه غالباً.
وحكي عن ابن الزبير، أنه لا يتحلل بالعدو والمرض إلا بأن يلقى البيت ويطوف..
وقال ابن سيرين: الإحصار يكون من الحج دون العمرة، وذهب إلى أن العمرة غير مؤقتة وأنه لا يخشى الفوات..
والمذهبان مختلفان لنص الخبر عام الحديبية، فإنه عليه السلام تحلل من عمرته وكان محرماً بها..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة:196]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ محِلّهُ} الآية [196]:
زعموا أن مطلق المحل هو الحرم، لقوله عز وجل: {ثُمَّ مَحِلُّها إلىَ البَيْتِ العَتِيقِ}.
وقال في موضع آخر: {هَدْياً بالِغَ الكَعْبَةِ} فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي، كما يجعل التتابع من صفات الصوم ولا خفاء بوجه الجواب عن هذا.(1/74)
فقيل لهم: فقد قال الله تعالى: {والهَدْيَ مَعْكُوفَاًً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ}، فأجابوا بأن ذلك هو الدليل على أن المحل هو الحرم.
فقيل لهم: هو كذلك في غير المحصر وهو الأصل، فالإحصار عذر نادر، ودل قوله تعالى: {مَعْكُوفَاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ}، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحلل بذبح وقع في الحل.
فأجابوا بأن النبي عليه السلام ذبح في الحرم، ولكن لما حصل أدنى منع، جاز أن يقال: إنهم منعوا لمنعهم الهدي بدياً قبل الصلح، كما وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام، وإن كانوا أطلقوا بعد ذلك، وقال سبحانه: {يا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ}، وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر.
وقد جوز مالك والشافعي وأبو حنيفة، ذبح هدي الإحصار في الحج متى شاء.
وأبو يوسف ومحمد والثوري لا يرون الذبح قبل يوم النحر، فكأنهم يقيسون الزمان على المكان، ويستدلون بقوله تعالى: {حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ}، والمحل يقع على الوقت والمكان جميعاً فكان عموماً.
ولا شك أن الله تعالى ذكر العمرة أيضاً، ووردت الآية في صلح الحديبية، وهدي العمرة لا يتأقت بزمان بالإتفاق.
ولهم أن يقولوا: في الآية ذكر الحج والعمرة، وذكر محل الهدي فهو عموم إلا ما خصه دليل الإجماع.
ونقول من طريق النظر: إن الإختصاص بمكان التحلل، يدل على الإختصاص بزمان التحلل، وزمان التحلل هو يوم النحر، وهذا على أصل أبي حنيفة لازم، أما الشافعي فإنه يعتبر معنى الحاجة في جواز ترك الزمان والمكان جميعاً، نظراً إلى معنى الرخصة.
ولما قال تعالى: {ولاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ}،ظهر منه أنه إذا بلغ الهدي محله جاز الحلق، وليس فيه دليل على وجوبه، بل يجوز أن يكون استباحة المحظور الذي كان, وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد.
وأبو يوسف يوجبه في رواية.(1/75)
والذي لا يوجب الحلق يقول: إنه لما سقط عنه سائر المناسك التي لم يتعذر فعلها، مثل الوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، ولم يمكنه الوصول إلى البيت، ولا الوقوف بعرفة، فلا يلزمه الوقوف بالمزدلفة، ولا رمي الجمار مع إمكانهما، لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما، كذلك الحلق مرتب على أفعال أخر، لم يكن فعله قبلها نسكاً.
وحجة أبي يوسف أنه صلى الله عليه وسلم: أمر بالحلق وترحم على المحلقين ثلاثاً.
ويجاب عنه بأنه أمر وأعاد القول، لأنه أراد أن يتحللوا ويرجعوا وما كانوا يفعلون، لأنهم كانوا ينتظرون نزول القضاء، بأمر يمكنهم به الوصول إلى العمرة، ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه، فلما رأوه كذلك، حلق بعضهم وقصر بعضهم، فدعا للمحلقين ثلاثاً لمبالغتهم في متابعة رسول الله، ومسارعتهم إلى أمره..
ولما قيل له: يا رسول الله، دعوت للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة؟
قال: لأنهم لم يشكوا، يعني أنهم لم يشكوا في أن الحلق أفضل من التقصير، واستحقوا الثواب للمتابعة..
قوله: {فإذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ}. الآية [196].
ذكر ذلك بعدما ذكر شأن المحصر، فقال ابن عباس وابن مسعود: على المحصر بعد زوال الإحصار حجة وعمرة، فإن جمع بينهما في أشهر الحج، فهو متمتع وعليه دم، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه، وهو قول علقمة، والحسن، وإبراهيم، والقاسم، وسالم، ومحمد بن سيرين، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وإنما يوجب عليه أبو حنيفة حجة وعمرة، إذا حل بالدم ولم يحج من عامه ذلك، ولو أنه حل من إحرامه قبل يوم النحر، ثم زال الإحصار فأحرم بالحج، ثم حج من علمه لم يكن عليه عمرة، لأنه رأى أن هذه العمرة إنما هي العمرة التي تلزم بالفوات، لأنه من فاته الحج فعليه التحلل لعمل العمرة، فلما حصل حجه فائتاً كان عليه عمرة للفوات.(1/76)
والدم الذي عليه في الإحصار، إنما هو لتعجل إحلاله، لا لقيام الدم مقام الأعمال التي تلزم بالفوات، إذ الدم لا يقوم مقام تلك الأعمال، ويدل على ذلك: أن الدم لو قام مقام الأعمال، ما جاز الدم قبل الفوات، كما لا يجوز فعل العمرة التي لا تلزم بالفوات قبل الفوات، لعدم وقتها وسببها، ودم الإحصار يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات، وهو يوم النحر. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومحمد، وإن خالف فيه أبو يوسف في رواية: فرأى أن الدم بالإحلال لا على أنه قائم مقام أعمال العمرة، فدل أن الدم يتعلق بتعجيل الإحلال.
وهذا من أبي حنيفة دليل دال، على أنه يجعل أعمال من فاته الحج، أعمال العمرة وهذا بعيد، فإنه لم ينو إلا الحج وما لزمه غيره، غير أنه إذا فاته من أعمال الحج ما يتأقت، وهو الوقوف، وجب أن يأتي منها بما لا يتأقت، فالمؤدي أعمال الحج لا غير، إلا أنه رخص في المحصر أن يتحلل، ولا يأتي بأفعال الحج، لا أن عليه مع الحج عمرة حتى يقضي الحج ويتداركه مع العمرة، ولو أمكن تدارك الوقوف دون غيره لفعل، ولكنه غير ممكن، فلا بيان لقوله في إيجاب العمرة مع الحج.
وإذا لم يحل المحصر حتى فاته الحج، ووصل إلى البيت، فعليه أن يتحلل بعمل عمرة.
وقال مالك: يجوز له أن يبقى محرماً حتى يحج في السنة الآتية.
وقال: وإن شاء تحلل لعمل عمرة، ولا يجوز ذلك لفائت الحج لتقصيره، وكأنه يقول: جاز له التحلل نظراً له، فإذا اختار الضرر فله ذلك، وهذا بعيد. فإنه لو جاز له استبقاء الإحرام، لما جاز التحلل كما لا يجوز له التحلل في السنة الأولى، حين أمكن فعل الحج به، ولقوله وجه على كل حال..
ولا يوجب الشافعي ومالك على المحصر في حجة التطوع قضاء من قابل.
وأبو حنيفة يحتج بأن آية الاحصار، نزلت في عام الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معتمر، وكان قد اعتمر من قبل الهجرة مراراً، وقضى العمرة في القابل، وسميت عمرة القضاء..(1/77)
وعندنا يجوز أن يقضي وإنما الكلام في الوجوب..
ولما قال تعالى في المحصر: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَديُ مَحِلّهُ}، قال أبو حنيفة: إذا لم يجد المحصر هدياً، لا يحل حتى يجد هدياً ويذبح عنه.
وقال الشافعي في قول: يحل ويذبح إذا قدر.
وقيل: إن لم يقدر على دم أجزأه، وعليه الطعام، أو الصيام إن لم يجد ولم يقدر، وقاسه على دم المتمتع.
واحتج محمد بن الحسن، بأن هدي المتمتع منصوص عليه، وهدي المحصر كذلك، فلا يقاس المنصوصات بعضها على بعض.
وذكر غيره أن الكفارات بالقياس لا يجوز إثباته، ووجه الجواب عنه بين.
قوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} إلى قوله: {فَفِدية ٌمِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسكٍ} وقوله تعالى: {أَوْ بهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ}، يفيد أنه لو كان به قروح في رأسه، أو جراح، فاحتاج إلى سده وتغطيته، كان حكمه في الفدية حكم الحلق، وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه، واحتاج معها إلى لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدى. لأن الله تعالى لم يخصص شيئاً من ذلك، فهو عموم في الكل.
فعلى هذا إن قال قائل: {أوْ بهِ أذىً مِنْ رَأْسِهِ} معناه: فحلق، ففدية قبل الحلق، وهو غير مذكور وإن كان مراداً، وكذلك اللبس وتغطية الرأس، كل ذلك غير مذكور وهو مراد، لأن المعنى فيه استباحة ما يحظره الاحرام للعذر، وكذلك لو لم يكن مريضاً وكان به أذى في بدنه، يحتاج معه إلى حلق الشعر، كان في حكم الرأس في باب الفدية، إذا كان المعنى معقولاً وهو استباحة ما يحرمه الإحرام في حالة العذر.
وصيام الجبرانات ثلاثة أيام في خبر كعب بن عجزة، ويحكى فيه خلاف ذلك عن الحسن وعكرمة، وأن الصيام لها عشرة أيام كصيام المتمتع.
وأما النسك فأقله شاة.(1/78)
والفدية بالصدقة، أن يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع من تمر أو طعام، فأما الصدقة بالطعام والدم، فيمكنه عند الشافعي، والصيام، حيث شاء، وأبو حنيفة يجوز الصدقة حيث شاء، لمطلق قوله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، غير أن الدم اختص بالحرم بقوله: {ثُمَّ مَحِلُّها إلىَ البَيْتِ العَتِيقِ}، وقال: {هَدْيَا بالغَ الكَعْبَةِ}.
والشافعي يرى أن وجوب الذبح متى كان في الحرم، أوجب اختصاص التصدق باللحم بالحرم أيضاً، وهذا أيضاً مذكور في علم الخلاف..
قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الحَجِّ} الآية..، والتمتع كرهه عمر، لأنه أحب عمارة البيت بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم، تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام بقوله:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ}.
ورخص الشرع في ذلك نظراً لأرباب الدور البعيدة، وليجمعوا بين النسكين في أيام الحج، مراغمة لأهل الجاهلية، في جعلهم العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وأكبر الكبائر.
وسماه الله تعالى تمتعاً، لأنه تمتع بربح سفر العمرة.
ولزمه الدم لذلك، ولم يجب على حاضري المسجد الحرام، لأنهم لم يربحوا سفراً.
وأبو حنيفة يقول: لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، فإن قرن منهم قارن أو تمتع، فهو مخطىء، وعليه دم لا يأكل منه، لأنه ليس هو بدم متعة، إنما هو دم جناية.
والشافعي يقول: لهم أن يتمتعوا بلا هدي..
واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكنْ أهله حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ}. فانصرف ظاهره إلى القرآن والمتعة، أي: ليس للحاضرين ذلك، ولو كان المراد به الدم لقال: "ذلك على من لم يكن".
والشافعي يقول: لهم، بمعنى عليهم، وإلا فالنسك لا يختلف في متعة أهل مكة من القرآن.(1/79)
والتمتع دليل على أن القرآن رخصة، لكنه رآها لأرباب المسافة البعيدة، وذلك يقتضي كون الإقران أفضل، لأن الرخصة لا تكون أفضل، بل هي لمكان الحاجة، وكونه رخصة، يقتضي كون الدم دم جبر، حتى لا يؤكل منه خلافاً لأبي حنيفة.
ثم اعتقد أبو حنيفة أن استثناء أهل مكة، إنما كان لإلمامهم بالأهل، فالإلمام بالأهل بين العمرة والحج في حق الآفاقي، يمنع كونه متمتعاً، ولم ينظر إلى صورة السفر، وقال: إذا خرج من مكة حتى جاوز الميقات، فهو متمتع، إن حج من عامه ذلك، إذا لم يلم بأهله بعد العمرة.
وقال أبو يوسف: إنه ليس بمتمتع، لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلده، لأن الميقات صار بينه وبين مكة، فكان بمنزلة عوده إلى أهله، وزعموا أنه لو أحرم بالعمرة في رمضان، واعتمر في شوال، وحج من عامه، كان متمتعاً، وإن وقع الإحرام في غير أشهر الحج، وقالوا: يعتبر وقوع أكثر الطواف في أشهر الحج، فأن وقع في غيره لم يكن متمتعاً، يعني الأكثر.
وشيء من ذلك لا يعتبر عندنا..
وأما حاضري المسجد الحرام، فهم من كان دون مسافة القصر عند الشافعي، ودون الميقات عند أبي حنيفة، ويبعد جعل أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام، وبينهم وبين مكة مسيرة عشرة أيام.
وذكر عبدالله بن الزبير، وعروة بن الزبير متعة أخرى: وهو أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة، ويتمتع بحجة إلى العام القابل ويحج، فهذا المتمتع بالعمرة إلى الحج، فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل، ولكنه يبقى على إحرامه، حتى ينحر عنه الهدي يوم النحر، ثم يحلق ويبقي على إحرامه، حتى يقدم مكة فيتحلل بعمل عمرة من حجه..(1/80)
والذي ذكره ابن الزبير بخلاف عموم قوله: {فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ منَ الهَدْي} بعد قوله: {وأَتِمُوا الحجَّ والعُمْرَةَ للهِ}، ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة، والنبي عليه السلام وأصحابه، حين حصروا بالحديبية، حلق وحل أمرهم بالإحلال، وعلى أن الذي يلزم بالفوات، ليس بعمرة، وإنما هو مثل عمل عمرة، وهي من أعمال الحج.
والله عز وجل يقول: {فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىَ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي}. فجعل الهدي معلقاً بفعل العمرة والحج، والدم الذي يلزمه هو بالإحصار، غير متعلق بوجود الحج بعد العمرة، وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء،لا على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج.
نعم إذا بان أنه ليس بعمرة، فالذي قاله أبوحنيفة، من وجوب قضاء الحج والعمرة على المحصر بعد التحلل ليس بصحيح.
المتعة الأخرى: وهي فسخ الحج، إذا طاف له قبل يوم النحر، وهذا الحكم غير ثابت، إلا على قول ابن عباس، فإنه كان يراه على ما رواه عطاء عنه، وأنه كان يقول: لا يطوف أحد بالبيت قبل يوم النحر إلا حل من حجه، فقيل له: من أين قلت ذلك؟..
فقال: من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمره الناس في حجة الوداع أن يحلوا، ومن قول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلىَ البَيْتِ العَتِيقِ}، وتظاهرت الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج، من لم يكن معه منهم هدي، ولم يحل هو عليه السلام وقال:
"إني سقت الهدى فلا أحل إلى يوم النحر"، ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية، حين أرادوا الخروج إلى منى، وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر: متعتان كانتا علىعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج.
وروي عن بلال بن الحارث المزني أنه قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟..
فقال:لا، بل لنا خاصة.(1/81)
وقال أبو ذر: لم يكن فسخ الحج بعمرة، إلا لأصحاب رسول الله..
وقال قوم: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال،كان على وجه آخر، وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كانوا فرضوا الحج أولاً، بل أمرهم أن يهلوا مطلقاً، وينتظرون ما يؤمرون به، وكذلك أهل على اليمن، وكذلك كان إحرام النبي عليه السلام، ويدل عليه قوله عليه السلام:
"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة".
وكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به، وبه أمر أصحابه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك - وهو بوادي العقيق - فقال: صل بهذا الوادي وقل حجة في عمرة".
فهذا يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم، خرج منتظراً ما يؤمر به، فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة، ثم أهل أصحاب النبي عليه السلام بالحج، وظنوا أنه أمرهم بذلك، فلم يكن إحرامهم صحيحاً، أومروا بالمتعة بأن يطوفوا البيت، ويحلوا ويعملوا عمل العمرة ويحرموا بالحج، كما يؤمر من يحرم بشيء لا يسميه أنه يجعله عمرة إن شاء، وهذا ليس له وجه، فإن الصرف إلى الحج إن لم يصح، فلا حاجة إلى الفسخ، وإن صح ففسخه هو الحكم المنسوخ.
ولأن المقصود إبانة حكم مفسوخ، وفي وقتنا هذا تمام العمرة، إذا صرف إلى أحد النسكين، تعين فلا يقبل الفسخ..
والصحيح في ذلك ما ذكرته عائشة، وقد أنكرت أن يكون النبي عليه السلام، أمر بفسخ الحج على حال، وقالت:
"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا من أهلّ بالحج، ومنا من أهلّ بالعمرة، ومنا من قرن"، فمن أهل بحج مفرد أو قرن، لم يحل حتى يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة وطاف وسعى، حل من إحرامه حتى يستقبل حجاً..
وروي عن أصحاب أبي حنيفة، بناء على الأقوال الأولى، أن هدي المتعة لا يجزئ قبل يوم النحر، لأن النبي عليه السلام قال:
"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة".(1/82)
وقد كان النبي عليه السلام قارناً وقد ساق الهدي، وقال لعلي: "إني سقت فلا أحل قبل يوم النحر"، فدل على امتناع جواز ذبح الهدى للمتعة قبل يوم النحر.
وهذا فاسد، فإنه بيّنَا أن النبي عليه السلام، لم يأمر أحداً بفسخ الحج وجعله عمرة، وأن الأمر على ما قالته عائشة، وإنما قال عليه السلام ما قال، لأنهم التمسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعتمر معهم، فذكر أنه أحرم بالحج وأنه لا يقضي مناسكه، إلا في يوم النحر وبعده.
وكانت عائشة وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالت: أكل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا أنصرف بنسك واحد؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، فاعتمرت وانصرفت بنسكين.
وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيّامٍ} الآية [196]. يدل على أن صيام الثلاثة الأيام يجب أن يقع في الحج، لا كما قال أبو حنيفة، إنه يجوز ذلك بعد الإحرام بالعمرة، قبل الإحرام بالحج..
وقوله تعالى: (في الحج): إما أن يكون المراد به: في الإحرام بالحج، أو في أشهر الحج، وأحد المعنيين خلاف الإجماع فتعين الثاني.. وكيف يجوز أن يعلق البدل على عدم الأصل، ثم يجوز البدل في غير وقت جواز الأصل؟
وإن زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر"، فهذا هو التحلل من الحج لا غيره.
ولأصحاب الشافعي خلاف في جواز تقديم العبادة المالية على وقت الوجوب إذا وجد سببها.
ولكن سبب البدل يكون بسبب الأصل لا محالة، فأما أن يمتنع الأصل، ولا يمتنع البدل فلا وجه له، وبه يعلم أن لا سبب قبل الإحرام بالحج، فإنه إنما يمتنع بإخلاء بعض وقت الحج عن الإحرام بالحج وشغله بغيره، فلا يظهر ذلك ولا يتحقق، قبل الإحرام بالحج.
ولأجل بناء البدل على الأصل قلنا: إن لم يصم المتمتع قبل يوم النحر، صام الثلاث بعد أيام التشريق.:(1/83)
وقال أبو حنيفة: لا يصوم بعد أيام الحج، ويصوم قبل الإحرام بالحج وأيامه، وهذا تناقض بين، وقصارى قوله تعالى: {في الحج} بيان وقت الجواز، وأنه يتهيأ له في تلك الحالة، لأنه يكون على صورة المقيمين، والإ فصيام الثلاثة والسبعة والهدى ميقاتها واحد، ويجوز تأخيرها عندنا بعذر السفر، وهو كأداء الكفارات بعد وجوبها من غير فرق.
وسوى أصحاب الشافعي بين الأصل والبدل، وصيام السبعة والثلاثة في أن جميعها شيء واحد.
وفرق أبو حنيفة وأصحابه بينهما قالوا: إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم قبل أن يحل، فعليه الهدي ويبطل حكم الصوم.
وعند الشافعي: كما لا يبطل صوم السبعة بوجود الهدى بعد الثلاثة، فكذلك بعد الصوم في أول اليوم أو في ثانيه، لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثةِ أيّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رجعتمْ} [196] فجعل الجميع بدلاً.
وزعم المخالف أن صوم الثلاثة يتوقف عليها الحل، ففرض الهدي قائم عليه، ما لم يحل وتمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق، فمتى وجد فعليه أن يهدي، وزعموا أن الهدي مشروط للإحلال، لأنه لا يجوز أن يحل ذبح الهدي، لقوله تعالى:
{وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلّهُ}.
فمن لم يحل حتى وجد الهدي، فعليه الهدي، لأن الله عز وجل لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم أو بعده، وهذا غلط، ولو كان وجوب الهدي لمكان التوصل به إلى الإحلال، ما ثبت وجوبه إلا على هذا الوصف، ويسقط بالإحلال دون الهدي، إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة، وهذا خلاف الإجماع. ولأنه أوجب الهدى على المتمتع، فكان ذلك مضافاً إلى تمتعه لا إلى غيره، وذلك لا يستدعي وصف الإحلال، ولو كان لوصف الإحلال، لما شرع صوم السبعة بدلاً عن الهدي بعد الإحلال، لأن البدل يقصد به ما قصد بالأصل، ولا يجوز أن يشرع بعض البدل لمقصود، وبعضه لمقصود آخر..(1/84)
نعم أوجب الله تعالى عليه الهدي أولاً جزاء على تمتعه، فإذا لم يجد أوجب الصوم، فإذا ابتدأ الصوم ها هنا أو صوم الظهار، فقد صح الصوم، ومتى صح الصوم، سقط عنه فرض الرقبة والهدي لصحة الجزاء المفعول عنه، ولذلك قالوا في المتيمم إذا رأى الماء في خلال صلاته، إن فرض الطهارة بالماء يسقط عنه لهذه الصلاة، فخرج الوضوء عن كونه شرطاً في حق هذه الصلاة، وليس يمكن أن يقال إن الصلاة أو الصوم موقوفان لا يحكم بصحتهما، فإن الوقف إنما يكون إذا لم تكمل شرائط الصحة، فأما إذا كملت الشرائط، فلا يمكن أن يجعل موقوفاً، ولو بطلت العبادة، فليس بطلانها نظراً إلى الحال، بل لمكان الفساد فيما مضى، وفساده فيما مضى لعدم شرطه فيما مضى..
قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُم}، يحتمل الرجوع إلى أهله ويحتمل الصوم في الطريق في حالة الرجوع من منى.
وقوله {كاملة}، يحتمل أنها كاملة في قيامها مقام الهدي.
ويحتمل أن يزيل به خيال تأويل مستكره، وهو أن الواو ربما تذكر بمعنى أو، فأزال هذا الإحتمال بقوله: كاملة.
وجعل الشافعي هذا من البيان الأول، فقيل له: قوله: ثلاثة وسبعة، غير مفتقر إلى البيان، فكيف يعده من أقسام البيان؟..
فأجاب بأنه لا يحتاج إلى بيان ليخرج به عن حد الإشكال، ولكنه يخرج به عن حد الإحتمال البعيد الضعيف، فجعلناه في أول أقسام البيان، لأن معناه تجلى على وجه لا مرتقى بعده في درجات البيان..
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ } [البقرة:197]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [197].
إختلف الناس في أشهر الحج ما هي؟..(1/85)
فقال ابن عباس وابن عمر: إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وعن ابن مسعود: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وعن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله، وكذلك روي عن طاوس ومجاهد..
وقال قائلون: يجوز أن لا يكون ذلك اختلافاً في حقيقة، وأن يكون مراد من قال: وذو الحجة أنه بعضه، لأن الحج لا محالة، إنما هو في بعض هذه الأشهر لا في جميعها، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج، فأريد بعض الشيء يذكر جميعه، كما قال صلى الله عليه وسلم في أيام منى ثلاثة، وإنما هي يومان وبعض الثالث.
ويقال: حجبت عام كذا، وإنما حج في بعضه، ولقيت فلاناً في سنة كذا، وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة وإنما المراد به البعض.. هذا في فعل لا يستغرق كل الوقت..
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن الجاهلية كانوا ينسئون الشهور، فيجعلون صفر المحرم، ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون بها القتال، فأبطل الله تعالى النسىء، وأقر وقت الحج على ما كان عليه ابتداؤه يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة إثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، فقال الله تعالى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، يعني بها هذه الأشهر، التي ثبت وقت الحج فيها، دون ما كان عليه أهل الجاهلية من تبديل الشهور وتقديم الحج وتأخيره، وقد كان الحج عندهم معلقاً بأشهر الحج، التي هي الأشهر الحرم الثلاثة التي يأمنون فيها صادرين وواردين، فذكر الله تعالى هذه الأشهر، وأخبر باستقرار أمر الحج فيها، وحظر عليهم تغييرها وتبديلها إلى غيرها.(1/86)
ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قدم ذكر التمتع إلى الحج، ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في هذه الأشهر، قال الله تعالى: {الحجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج، ويثبت حكمه فيها، هي هذه الأشهر، وأن من اعتمر في غيرها ثم حج، لم يكن متمتعاً، ولم يكن له حكم التمتع.
1)…الحج
قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيِهِنَّ الحَجَّ} [197] أي أوجبه على نفسه فيه.
وظن بعض الناس أنه لا بد من شئ يصح القصد إليه، ويصح فرضه، يعني إيجابه، وهو التلبية، وهو مذهب أبي حنيفة.
والشافعي يقول: أوجب فيه على نفسه فعل الحج، وهو منقسم إلى كف النفس عن المحظورات، كالصوم، وإلى أفعال تباشرها..
قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} الآية [197]:
قال ابن عمر: الرفث الجماع.
وعن ابن عباس مثل ذلك.
وروي عنه أنه التعريض بالنساء.
والأصل في الرفث الإفحاش في القول، وبالفرج الجماع، وباليد الغمز للجماع، هذا أصل اللغة.
فدلت الآية، على النهي عن الرفث في هذه الوجوه كلها، ومن أجله حرم العلماء ما دون الجماع في الإحرام، وأوجبوا في القبلة الدم.
وأما الفسوق فالسباب، والجدال والمراء، وقيل: هو أن تجادل صاحبك حتى تغضبه، والفسوق المعاصي، فدلت الآية على تحريم أشياء لأجل الإحرام، وعلى تأكيد التحريم، في أشياء محرمة في غير الإحرام، تعظيماً للإحرام، ومثله قوله:
"إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إني امرؤ صائم "..
قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} في هذا المقام، يعطي التزود للحج حتى لا يتكلوا على الناس وسؤالهم.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/87)
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [البقرة:198]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله في مساق ذكر الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [198].
يدل على جواز التجارة في الحج ، حتى لا يتوهم متوهم أن ذلك لا يجوز، حتى لا يصرفه عن إكمال الحج ، كما لا يجوز الإصطياد.
قوله تعالى: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [198]:
فيه دليل على أن الوقوف بعرفة من مناسك الحج..
{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:199]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ} [199]..
قيل: معناه أنه خطاب للحمس وهم قريش، فإنهم كانوا يقفون بالمزدلفة،ويقف سائر الناس بعرفات، فلما جاء الإسلام، أمرت قريش بأن تفيض من حيث أفاض الناس ويقفوا منهم..(1/88)
وقال الضحاك: إنه أراد به الوقوف بالمزدلفة، وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام، وسماه الناس، كما سماه أمة، لأنه بوحدته أمة كالناس، وأكثر الناس على القول الأول، إلا أن قول الضحاك أقوى من حيث دلالة النظم، فإن الله تعالى قال: {فإذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}، فذكر الإفاضة من عرفات، ثم أردف ذلك بقوله: {ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ}، وثم تقتضي الترتيب لا محالة، فعلمنا أن هذه الإفاضة، هي بعد الإفاضة من عرفات، وليس بعدها إفاضة، إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام، فكان حمله على هذا، أولى منه على الإفاضة من عرفة، لأن الإفاضة من عرفة، قد تقدم ذكرها، فلا وجه لإعادتها.
ويبعد أن يقول: {فَإذَا أَفَضْتُم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَاذْكُرُوا اللهَ} بعد الإفاضة من المشعر الحرام، ثم أفيضوا من عرفات.
وغاية ما قيل في القول الآخر: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ}، عائد إلى الكلام الأول، وهو الخطاب بذكر الحج ومناسكه، ثم قال: أيها المأمورون بالحج من قريش - بعدما تقدم ذكرنا له - أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيكون ذلك راجعاً إلى صلة خطاب المأمورين، وهو كقوله تعالى:
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَامَاً عَلىَ الّذِي أَحْسَنَ}. والمعنى: ثم بعد ما ذكرنا لكم، أخبركم أنا أتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن.
ويعترض عليه، أن ذكر الإفاضة إذا تقدم وعقب بعده بنسك آخر، يقتضي الإفاضة، فلا يحسن أن يذكر بكلمة ثم ما يرجع على الإفاضة من الذي تقدم، دون أن يرجع إلى ما يليه.
وقد قيل: إن ثم بمعنى الواو، ولا يبعد أن يقول: {فَإذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَر الحَرَامِ}، {ثُمَّ أفيضوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ النّاسُ}، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الّذيِنَ آمَنُوا...} ومعناه: كان من الذين آمنوا، {ثُمَّ اللهُ شهيدٌ} ومعناه "والله شهيد".(1/89)
فقيل لهم: قد ذكر الإفاضة من عرفات، فأي معنى لذكر الإفاضة ثانياً؟
فأجابوا: بأن فائدته أن يعلم أنه ليس خطاباً لمن كان يقف بها من قبل، دون من لم يكن يرى الوقوف بها، فيكون التاركون للوقوف على ملة إبراهيم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات، فأبطل ظان الظان لذلك بقوله: {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ}..
أما كون الوقوف ركناً لا يصح الحج بدونه، فإنما علم بالإجماع وفيه إخبار أيضاً، فمنه ما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال:
سئل النبي عليه السلام: كيف الحج؟ قال: "يوم عرفة، من جاء عرفة ليلة جمع قبل الفجر فقدتم حجه"..
وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي عليه السلام قال بالمزدلفة:
"من صلى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، ووقف بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه ".
وليس وجوب الوقوف والإعتداد به مخصوصاً بالليل أو النهار، فالوقوف نهاراً غير مفروض، وإنما هو مسنون، وقد دل ما رويناه من الخبر ومطلق قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا}، على عدم اختصاصه بليل أو نهار، ولا يعرف لمذهب مالك وجه، إلا أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها، إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنما كانوا يدفعون من المزدلفة، بعد طلوع الشمس، فخالفهم النبي عليه السلام، ودفع من عرفات بعد الغروب، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس، فرأى أن خاصية الشريعة في مراغمة الكفار في عاداتهم، والمراغمة إنما تحصل بالوقوف ليلاً..
والذي قالوه، لا يقتضي أن يكون فرضاً، بل يجوز أن يكون ندباً، فإثبات الوجوب على هذا المعنى لا وجه له.(1/90)
وقوله تعالى: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُروا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ}، ولم يختلف العلماء في أن المشعر الحرام هو المزدلفة، ويسمى جمعاً أيضاً، والذكر الثاني في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، هذا الذكر المفعول عند المزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني، والصلاة تسمى ذكراً لقوله تعالى: {أقِمِ الصَّلاةََ َ لِذِكْرِي}.
فيجوز أن يفهم منه تأخير صلاة المغرب، إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة، وتواترت الأخبار في جمع النبي عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
واختلف فيمن صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة، فالشافعي وأبو يوسف يجوزان، وأبو حنيفة ومحمد لا يجوزان.
فأما الوقوف بالمزدلفة فليس بركن عند أكثر العلماء.
وقال الأصم وابن علية: إنه ركن.
وقوله عليه السلام: الحج عرفة.
ومن وقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد تم حجه بإدراك عرفة، ولم يشترط معه الوقوف بجمع.
نعم قد قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ}، والذكر بالإجماع ليس بواجب، ولعل المراد بالذكر الصلاة، وهي الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [البقرة:200]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْراً} [200]:
قضاء المناسك أداؤها على التمام مثل قوله تعالى:
{فَإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوداً}.
وقال صلى الله عليه وسلم: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا"
يعني: فافعلوا على تمام.(1/91)
وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}: فيه معنيان محتملان:
أحدهما: الأذكار المفعولة في خلال المناسك كقوله:
{إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.
وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم: إذا حججت فطف بالبيت، وإذا صليت فتوضأ، وإذا أحرمت فاغتسل.
قوله تعالى: {فَاذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُروا اللهَ}، يجوز أن يريد به الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة، وعند الرمي والطواف، وقد قيل فيه: إن أهل الجاهلية، كانوا يقفون عند قضاء المناسك، ذاكرين مآثرهم ومفاخرهم، فأبدلهم الله تعالى ذلك بذكره والثناء عليه، وقال صلى الله عليه وسلم:
"إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها للآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ثم تلا:
{يَا أَيُّهَا النّاسُ إنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} إلى قوله {عَليِمٌ خَبِيرْ}.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [البقرة:203]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} [203].
وقال في موضع آخر: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}.
فرأى الشافعي: أن "المعلومات": العشر الأول من ذي الحية، وآخرها يوم النحر.
وروي عن علي رضي الله عنه، أن "المعلومات" يوم النحر ويومان بعده، في أيهما شئت.(1/92)
وروى الطحاوي عن أبي يوسف، أنه قال في جواب مسألة ابي العباس الطوسي، عن الأيام المعلومات، إنها أيام النحر، وقال: روي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وإليه أذهب، لأنه قال تعالى: {عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}.
وحكى الكرخي عن محمد، أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاث: يوم الأضحى ويومان بعده.
وعن أبي حنيفة: المعلومات: العشر، ولم يختلف قول أبي حنيفة في ذلك كما لم يختلف قول الشافعي.
واحتجاج من احتج على أن المعلومات، أيام النحر، بقوله تعالى: {عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمةِ الأنْعَامِ}، لا يصح، لأن في العشر يوم النحر، وفيه الذبح، فعلى قول أبي يوسف ومحمد، لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق فلا خلاف، ولا يشك أحد في أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَين فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث.
وروي عن ابن عباس أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول الجمهور، وليس في الأدلة ما يقتضي افتراقهما.
ودلالة المعدودات على أيام التشريق بينة من جهة ما بعدها، فأما دلالة المعلومات على العشر، فليست ظاهرة من جنب الآية.
ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها، إذا رمى الجمار وينفر، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث، حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر.
قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا} [204]، مع قوله: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ}، تنبيه على الإحتياط، فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال القضاة والشهود..(1/93)
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة:215]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله: {يَسْألُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِديْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [215]:
يبعد حمله على الواجب الثابت في الحال، فإنه لا يجب الإنفاق على اليتامى والمساكين والذي يجب لهم الزكاة، وذلك لا ينصرف إلى الوالدين والأقربين، إلا أنه يحمل على صدقة التطوع.
ويجوز أن يريد به الصدقة المتطوع بها.
ويجوز أن يريد به إبانة مصارف المال التي يستحق بها الثواب.
وقد قيل: قد انتسخت بآية الزكاة.. هذا على تقدير كون المراد بالآية الزكاة، فإنها تجب لليتامى والمساكين..
ويبعد أن يقال: إن المراد في البعض التطوع، وفي البعض الفرض، واللفظ واحد...
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:216-217](1/94)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ} [216].
وذلك إما أن يكون مجملاً موقوفاً على بيان يرد ما بعده من البيان، لامتناع قتال الناس كلهم، وإما أن يكون مبنياً على معهود متقدم، ولا يعقل دون هذين.
قوله: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ} الآية [217]:
وقال عطاء: لم ينسخ ذلك وكان يحلف عليه.
وقال آخرون: هي منسوخة بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ}.
ولا شك أن عموم ذلك، يرفع خصوص ما قبله عند الشافعي، وإن خالفه بعض الأصوليين في انتساخ القيد بالمطلق بعده، ورأوا نسخ القتال في البلد الحرام، بعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وهذا أيضاً من قبيل الأول.
نعم صح ورود العمومين بعد المقيدين.
وذكر الحسن وغيره، أن الكفار سألوا النبي عليه السلام عن ذلك على جهة التعنيت للمسلمين، باستحلالهم القتال في الشهر الحرام.
وقال آخرون: إن المسلمين سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.
وقيل: إنها نزلت على سبب، وهو قتل واقد بن عبدالله الحضرمي مشركاً، فقال المشركون: قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام، ورأى المشركون مناقضة قولهم بإقامتهم على الكفر، مع استعظامهم القتل في الأشهر الحرام، مع أن الكفر أعظم الإجرام.
فإن وردت الآية العامة على هذا السبب، فلا شك في النسخ، فإن اللفظ العام في موضع السبب نص.
وفيه أيضاً شيء آخر وهو: أن الله تعالى نبه على العلة فقال: إنهم استعظموا القتل في الشهر الحرام، فالذي كان منهم أعظم، وإنما سقطت حرمتهم في الشهر الحرام، لعظم جرائمهم، وهو الكفر بالله في الشهر الحرام.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/95)
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة:219]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود
2)…المطعومات
3)…المعاملات
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ} الآية [219]...
فأما تحريم الخمر، فيمكن أن يوجد من هذا، لأن قوله عز وجل: {وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، يدل على المفسدة في شربها، وأن ما فيها من المنفعة لا يقاوم بالمفسدة.
ويمكن أن يقال لا، بل في شرب الخمر مفسدة عظيمة، لإفضاء قليل الشرب إلى كثيره، وذلك يحتمل أيضاً وليس بنص.
وأما الميسر فهو في اللغة من التجزئة، وكل ما جزأته فقد يسرته، ويقال للجازىء ياسر لأنه يجزر الجزور، والميسر: الجزور نفسه إذا جزىء، وكانوا ينحرون جزوراً، ويجعلونه أقساماً، يتقامرون عليها بالقداح على عادتهم في ذلك، فكل من خرج له قدح، نظراً إلى ما عليه من التسمية، فيحكمون له بما يقتضيه من أسماء القداح، فسمي على هذا سائر ضروب القمار ميسراً.
وقال ابن عباس: "الميسر: القمار".
وقال عطاء: "حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز".
وكانت المخاطرة في أول الإسلام مباحة، حتى خاطرَ أبو بكر المشركين، حتى نزلت {ألَمْ، غُلِبَتِ الرُّومُ} فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: "زد في المخاطرة وامدد في الأجَل"، ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار، وحرم القمار مطلقاً، إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب والإبل والنصال، واستثنى ذلك لأن فيه رياضة للخيل وتدريباً لها على الركض، وفيها قوة واستظهار على العدو، وقال تعالى:(1/96)
{وَأَعِدُّو لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخيل} يقتضي جواز السبق بها، لما فيه من القوة على العدو، وكذلك الرمي.
وظاهر تحريم الميسر - وهو القمار- يمنع مخاطرة، يتوهم فيها إخفاق البعض وإنجاح البعض، وهو معنى القمار بعينه، وظاهره يمنع القرعة في العبيد، يعتقهم المريض ثم يموت، لما فيه من القمار في إنجاح البعض وإخفاق البعض، لولا ما فيه من الخبر الصحيح، الذي خص هذا العموم لأجله..
{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:220]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
2)…الإجتهاد
3)…النكاح
قوله تعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الَيَتَامَى قُلْ إصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ } [220]:
واليتيم: هو المنفرد عن أحد أبويه، فقد يكون يتيماً من جهة الأم مع بقاء أبيه، وقد يكون يتيماً من جهة الأب مع بقاء الأم، والإطلاق أظهر في اليتم من قبل الأب.
وظواهر القرآن في أحكام اليتامى، محمولة على الفاقدين لآبائهم وهم صغار.
ولا يحمل ذلك على البالغ، إلا على وجه المجاز عند قرب العهد بالبلوغ، واليتيم في الأصل إسم للمنفرد، ولذلك سميت المرأة المنفردة عن الزوج يتيمة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، قال الشاعر:
* إن القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى *
وتسمى الرابية يتيمة لانفرادها عما حواليها من الأرض.
ويقولون: الدرة اليتيمة لأنها كانت مفردة لا نظير لها.(1/97)
قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {إنَّ الّذيِنَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمَاً إنّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارَاً}، كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء فنزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ}..
{وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ} أي أخرجكم وضيق عليكم، ولكن وسع ويسر فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.
وقال عليه السلام: "إبتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة".
وتوفرت الأخبار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة به.
وقد جوزت الآية ضروباً من الأحكام:
أحدها: قوله تعالى: {قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}، فيه الدلالة على جواز خلط ماله بماله، وجوز التصرف فيه بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه إلى غيره مضاربة، وفيه دلالة على جواز الإجتهاد في أحكام الحوادث، لأن الإصلاح الذي تتضمنه الآية إنما يعلم من طريق الإجتهاد، وغالب الظن.
فإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في أفراد تصرفات في مال اليتيم ونفسه، ومتعلق كل واحد منهم في تجويز ما جوزه ظاهر القرآن في ابتغاء المصلحة.
وقال أبو حنيفة: لولي الطفل أن يشتري ماله لنفسه بأكثر من ثمن مثله، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن، والذي لا يجوز يقول: لم يذكر فيه المصرف بل قال: {إصْلاحٌ لَهُمْ} من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر، وعندنا الجد يجوز له ذلك، والأب في حق ولده الذي ماتت والدته، يتصرف على هذا الوجه، ولا متعلق في الآية من، حيث العموم أصلاً، إذ ليس للمصرف ذكر يعم أو يحصر.
ويقول أبو حنيفة: إذا كان الإصلاح خيراً فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه.
والشافعي لا يرى التزويج أصلاً، إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ.(1/98)
وأحمد يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح، ووجه قول الشافعي ما ذكرناه، والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي لا بحكم هذه الآية.
وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن، فهذه المذاهب نشأت من هذه الآية..
فإن ثبت كون التزويج إصلاحاً، فظاهر الآية يقتضي جوازه، ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدين والدنيا، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات، وله أن ينفق عليه من ماله، وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه له لما فيه من الإصلاح.
نعم، ليس في ظاهر الآية ذكر من يجوز له التصرف ولا يجوز، ويجوز أن يكون معنى قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى}، أي يسألك القوام عن اليتامى الكافلين لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه غير الكافل والقيم، وما يشترط فيه من الأوصاف..
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة:221]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ} [221]:
وقد روي عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال: "إن الله تعالى حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم شيئاً من الشرك أكثر من أن يقول: "عيسى ربنا"..
وأما الباقون فإنهم جوزوه تعلقاً بقوله تعالى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحصناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قبلكم}.(1/99)
ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {وَلاَ تَنْكِحوا المُشْرِكاتِ}، فإن ظاهر لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.
وقال: {لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والمُشْرِكِيِنَ مُنْفَكِّينَ}
ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، إلا بدليل يقتضي الإفراد تعظيماً على خلاف ظاهر اللفظ كقوله:
{مَنْ كَانَ عَدُوّاً للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}.
{وإذ أَخذْنا مِنَ النّبِيّيِنَ ميثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}
إلا أن ذلك خلاف الوضع الأصلي، ولأن إسم الشرك عموم وليس بنص. وقوله: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ الذيِنَ أُوتوا الكِتَابَ} بعد قوله {والمُحْصَنَات مِنَ المُؤمِنَاتِ} نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما ليس بمحتمل.
وليس من التأويل قول القائل: أراد بقوله:
{والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا.
وكقوله تعالى: {وَإنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ لمنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ}.
وقوله: {مِنْ أهْلِ الكِتَابِ أُمّةٌ قَائمَةٌ} الآية.
فإن الله تعالى قال: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ}، ثم قال: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
والقسم الثاني على هذا الرأي هو القسم الأول بعينه.
ولأنه لا يشكل على أحد جواز التزوج بمن أسلمت وصارت من أعيان المسلمين.
قالوا: فقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ يَدعُونَ إلىَ النّارِ}، [221] فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار.
والجواب عنه أن ذلك علة لقوله تعالى: {وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}، لأن المشرك يدعو إلى النار.(1/100)
وهذه العلة تطرد عندنا في جميع الكفار، فإن المسلم خير من الكافر مطلقاً، وهذا بين.
فإن زعموا أن قوله تعالى:
{لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}.
وقوله: {لاَ تَتّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يأْلُونَكُمْ خَبَالاً}.
وقوله تعالى: {لاَ يَتخِذُ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِيِنَ أَوْلِيَاءَ}.
صريح في تحريم النكاح، الذي هو سبب الإتحاد والوصلة والسكن والرحمة، وكيف يجوز أن يحصل لنا مع الكفار ما قاله الله تعالى:
{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}؟
والجواب: أن ذلك منع من موادة ومخالطة، ترجع إلى المحاباة في أمر الدين، وما أوجب الله على المسلمين من قتالهم والتغليظ عليهم دون التودد إليهم، في حفظ ذمتهم وعصمتهم، ومبايعتهم ومشاراتهم والإنفاق عليهم، إذا كانوا مملوكين، إلى غير ذلك مما يخالف الشرع، ويورث المودة.
وقد قيل: إن الآية نزلت في مشركي العرب المحاربين، الذين كانوا لرسول الله أعداء وللمؤمنين، فنهوا عن نكاحهن، حتى لا يملن بهم إلى مودة أهاليهن من المشركين، فيؤدي ذلك إلى التقصير منهم في قتالهم دون أهل الذمة.
والمراد به غير الذين أمرنا بترك قتالهم، إلا أن أصحاب الشافعي يتعلقون بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ}، في تحريم الأمة الكتابية مطلقاً، في حالتي وجود طوْل الحرة وعدمها.
فقيل لهم: فقد قال: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذيِنَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وذلك يعارض هذا؟
فأجابوا بأن سياق الآية يدل على الإختصاص بالحرة لأنه قال:
{والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذيِنَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.(1/101)
ثم قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنََّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ}.
وكل ذلك مخصوص بالحرة، غير متصور في الأمة بحال.
ولأنه تعالى قال بعده: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَولاً أَنْ يَنْكِحَ المُحصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ المُؤْمِنَاتِ}.
فلو كان إسم المحصنات يتناول الإماء لما قال:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فدل أن المحصنة المذكورة ها هنا هي الحرة، فلا تعلق للمخالف بالآية.
ولهم أن يقولوا على ما تعلقنا به من عموم لفظ المشركة: إن الآية ظاهرها الحرة، فإنه تعالى قال: {ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكةٍ} ولو كانت المشركة عامة في الجميع، لما صح هذا القول.
فعلم أن الآية سيقت لبيان تحريم المشركات الحرائر، ثم المشركات الإماء معلومات من طريق الفحوى والأولى.
وظن قوم أن قوله تعالى: {ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}، يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود الطول، لأن الله تعالى أمر المؤمنين بتزويج الأمة المؤمنة، بدلاً من الحرة المشركة التي تعجبهم لوجدان الطول إليها، وواجد الطول إلى الحرة المشركة، هو واجده إلى الحرة المسلمة.
وهذا غلط من الكلام فإنه ليس في قوله: {ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خيرٌ مِنْ مُشْرِكة} ذكر نكاح الإماء في تلك الحال، وأنه لا خلاف في أن نكاح الإماء مكروه مع القدرة على طول الحرة، وإنما ذلك تنفير عن نكاح الحرة المشركة، فإن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الإماء، فقال: {ولأمةٌ مؤْمِنَةٌ خيرٌ منْ مُشْرِكَةٍ}، فإذا نفرتم عن نكاح الأمة المسلمة فإن المشركة أولى بأن تكرهوا نكاحها.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/102)
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة:222]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحيضِ} الآية [222]:
قد يكون إسماً للحيض نفسه.
ويجوز أيضاً أن يكون موضع الحيض كالمقيل والمبيت، وهو موضع القيلولة والبيتوتة.
ودل اللفظ على أن المراد بالمحيض ها هنا الحيض، لأن الجواب ورد بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذَىً}، وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه.
ويحتمل أن يقال: قوله {فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ في المَحيض}، هو موضع الحيض، لأن الإعتزال في المحيض لا يتحقق له معنى إذا أراد به نفس الدم.
وقد كان اليهود يتجنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن ومجالستهن في الحيض، فنسخ الإسلام ذلك، فسأل المسلمون عن الوطء، وقالوا: ألا نطأهن يا رسول الله؟ يعني أنه إذا لم نجتنب سائر الأعضاء منهن، فلا نجتنب موضع الحيض؟
فاستثنى الله تعالى موضع الحيض بقوله: {قٌلْ هُوَ أَذَىً}، أي موضع الأذى، وإلا فنفس الدم مجتنب ولا يقرب، وقد عرفوا نجاسته، فإن النجاسة مجتنبة، وذلك يقتضي كون التحريم مختصاً بموضع الأذى، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
وعبر عن الموضع بالأذى، مع أن الأذى ليس عبارة عن نفس النجاسة، بل هو كناية عن العيافة في حق متوخي النظافة.
وأبو حنيفة يحرم ما تحت الإزار، ويحتج بأن قوله تعالى: {فَاعْتَزِلوا النسَاءَ في المَحِيضِ}، دال على حظر ما فوق الإزار وما تحته، غير أنه قام الدليل فيما فوق الإزار في الإباحة، وبقي ما دونه على حكم العموم.(1/103)
وهذا غير صحيح، فإنهم إنما سألوا بناء على ما علموا من استباحة مخالطتها في المأكل والمشرب والفراش، وإنما سألوا عن الوطء فقط، فلا يجوز أن تكون الآية دالة على الإعتزال المطلق، مع ما ذكرناه
وإنما معنى الآية: قل هو أذى فاعتزلوا إتيان النساء في المحيض، أو وطء النساء في المحيض، فهو مضمر محذوف دل عليه ما بعده وهو قوله تعالى:
{وَلاَ تَقْرَبُوُهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ}.
فمد التحريم إلى غاية التحليل، فذكر بعد الغاية الإتيان، فدل أن المحرم قبله هو الإتيان فقط.
ويدل عليه حديث حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس، أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت، ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت، فسئل النبي عليه السلام عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً}، فقال صلى الله عليه وسلم: "جامعوهن في البيوت وافعلوا كل شيء إلا النكاح"..
وروي عن عائشة أن النبي عليه السلام قال لها: ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، فقال: ليست حيضتك في يدك"..
وذلك يدل على كل عضو ليس فيه حيض، فهذا يدل على معنى الآية..
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ}.
تنازع أهل العلم في معناه:
فقال قوم: هو انقطاع الدم، فيجوز وطؤها بعد انقطاع الدم، من غير فرق بين أقل الحيض وأكثره.
ومنهم من حرم قبل الغسل، من غير فرق بين أقل الحيض أو أكثره، وهو قول الشافعي.
وأبو حنيفة أباحه قبل الغسل، إذا انقطع الدم على الأكثر، وحرم إذا انقطع على ما دون الأكثر، مع وجوب الغسل عليها، مع الحكم بطهارتها.
أما من أتاح الوطء مطلقاً، فإنه يتعلق بقوله تعالى: {حَتّى يَطْهُرْنَ}، ومعلوم أنها طاهرة وأنما أراد به: حتى يطهرن من العارض وهو الحيض.(1/104)
ويقال: طهرت من الحيض والنفاس "إذا زال الحيض والنفاس، ولذلك يقال زمان الطهر وزمان الحيض"، وإنما هو زمان طهر المرأة وإن لم تغتسل للأكثر.
وإذا لم تكن حائضاً فهي طاهرة، وليس بين كونها حائضاً وطاهرة درجة ثالثة، فقد طهرت إذا.
فهذا قول ظاهر إلا أن قوله: {فإذَا تَطَهّرْنَ}، يخالف هذا المذهب ظاهرة.
وكذلك قراءة التثقيل في قوله {حتى يطهرن}. وفيه احتمال. وهو أن يكون معنى قوله: {فإذا تَطَهَّرْنَ}، أي إذا حل لهن التطهر بالماء والتيمم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا غابت الشمس أفطر الصائم" أي حل له أن يفطر.
وقال: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل"، أي حل له أن يحل.
ويقال للمطلقة إذا انقضت عدتها، إنها قد حلت للأزواج، ومعناه: أنه حل لها أن تتزوج.
وقال النبي عليه السلام لفاطمة بنت قيس: "إذا حللت فآذنيني"
وإذا احتمل ذلك، لم تزل الغاية عن حقيقتها بحظر الوطء بعدها فهذا أمر محتمل.
إلا أن الذي ينصر مذهب الشافعي يقول: إن الله تعالى قال:
{قُلْ هُوَ أَذىً فاعْتَزِلُوا النسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ}.
فيقتضي ذلك حتى يطهرن من الأذى وهو العيافة، وذلك لا يحصل بنفس انقطاع الدم قبل الإغتسال، ولذلك يسن لها أن تتبع بفرصة من مسك أثر الدم لإزالة بقية العيافة.
فالذي يستحب هذا القدر، كيف يرى زوال الأذى بمجرد انقطاع الدم، ثم لما قال تعالى:
{فإذا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} قال:
{إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَوّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهرِين}، وذلك يدل دلالة ظاهرة على تعلق قوله: {فإذا تطهّرْنَ} بقوله: {يُحِبُّ المُتَطَهِّرِين}.
وإنما يحب الله تعالى المتطهرين باختيارهم لا غير، فليكن قوله: {فإذَا تطهّرْنَ} محمولاً على التطهر بالإختيار وهو فعل، ويكون قوله أخيراً، بياناً لما تقدم، وهذا على مذهب الشافعي، فأما أبو حنيفة، فإن بعض الأصوليين من أصحابه يقول:(1/105)
إنا نعمل بالقراءتين، فنحمل القراءة المشددة قي قوله: {حَتّى يَطْهُرْنَ} على انقطاع الدم على ما دون الأكثر، فإن عند ذلك لا يحل الوطء قبل الغسل، والقراءة المخففة في قوله {حتّى يَطْهُرْنَ} على انقطاع الدم على الأكثر.
وهذا قول بعيد، وأقل ما فيه إخراج قوله تعالى: {فإذَا تَطَهّرْنَ} عن كونه حقيقة في الإغتسال، إذا حمل على انقطاع الدم على الأكثر، وحمله على حقيقته في الإغتسال، إذا حمل على انقطاع الدم على الأكثر، وحمله على حقيقته في الإغتسال، إذا كان انقطاع الدم على ما دون الأكثر، وذلك بعيد جداً.
ولأن الآية لو كانت متناولة للحالتين، كان تقدير الكلام: حتى يغتسلن" في آية "ولا يغتسلن" في آية أخرى، أو قراءة أخرى، ويكون ذكر المحيط متناولاً لهما جميعاً، ولا يكون فيه بيان المقصود، فيكون مجملاً غير مفيد للبيان.
ولأنه إذا كانت قراءة التشديد حقيقة في الإغتسال، وقد حملوها على انقطاع الدم فيما دون الأكثر، فيجب أن يتوقف الحل فيه على الإغتسال، وقد قالوا:
"إذا دخل وقت الصلاة وإن لم تغتسل حل للزوج وطؤها".
فجعلوا وجوب الصلاة والصوم مجوزاً للوطء، ولم يجعلوا وجوب الغسل مجوزاً.
فإن حملوا قراءة التشديد على الغسل، لزمهم أن يوقفوا الحل على الغسل، فلا هم عملوا بقراءة التخفيف ولا بقراءة التشديد، وإن موهوا باعتذارات في وجوب الصلاة، فلا أثر لها في إخراج قراءة التشديد عن كونها حقيقة، ومقصودهم مراعاة القراءتين، في إلحاق إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز..
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة:223]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم أَنّى شِئْتُمْ} [223]:(1/106)
فالحرث المزدرع، وهو في هذا الموضع كتاية عن الجماع، وتسمى النساء حرثاً لأنهن مزدرع الأولاد.
وقال أكثر الفقهاء: {فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُم}، يدل على أن المراد به موضع الحرث.
واشتهر عن مالك إباحة ذلك.
وقوله {أَنّى شِئْتُمْ} يحتمل كيف شئتم، ويحتمل أين شئتم فلفظ {أنى} يحتملهما جميعاً.
وروي عن جابر أن اليهود قالوا للمسلمين: "من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول"، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤكُمْ حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج".
ومالك يحتج بقوله تعالى: {وَالّذيِنَ هُمْ لِفُرُوجهِمْ حَافِظُون إلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ}، وأن عموم ذلك يقتضي إباحة وطئهن في الموضع الذي جوزنا وطأهن فيه.
قيل قوله: {إلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ} دال على الإباحة المطلقة لا على موضع الإباحة، كما لم يدل على وقت الإباحة في الحائض وغيرها.
ومما تعلق به من حرم الوطء أن قوله تعالى: {قُلْ هوَ أذَىً}، تعليل تحريم وطء الحائض، بما يقتضي تحريم الوطء في الذي ينازعنا فيه فإنه موضع الأذى.
وهذا المعنى كان يقتضي تحريم وطء المستحاضة، لولا الحرج في تحريم وطئها، لطول أمد الإستحاضة.
ومعنى الأذى ليس يستقل بتحريم الوطء، لولا إيماء الشرع إليه. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قولنا: "ليس هذا موضع الحرث "، لا يظهر دلالته على تحريم الوطء فيه، كالوطء فيما دون الفرج، ولكن دليل التحريم مأخوذ من غير ذلك قي قوله تعالى:
{فإذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} مع قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}.
إذ يدل على أن في المأتي اختصاصاً، وأنه مقصور على موضع الولد.
وروي عن محمد بن كقب القرظي، أنه كان لا يرى بذلك بأساً ويتأول فيه قوله تعالى:(1/107)
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ} ولو لم يبح مثله من الأزواج، لما صح ذلك.
وليس المباح من الموضع الآخر مثاله، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح.
وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعاً، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى.
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:224]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [224] فيه معنيان:
أحدهما: أن يتخذ يمينه حجة مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا طلبت منه المعاونة على البر والتقوى والإصلاح قال: قد حلفت، فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما ندب إلى فعله، أو أمر به من البر والتقوى والإصلاح، فلا جرم قال الشافعي:
الأيمان لا تحرم ما أحل الله، ولا تحل ما حرمه الله عن فعل، وإن الذي حل لكونه صلاحاً، لا يصير حراماً باليمين، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك، فليفعل وليدع يمينه.
ودل عليه قوله تعالى:
{وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمُ والسعَة أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى} إلى قوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ}.
قال ابن سيرين: حلف أبو بكر رضي الله عنه، في يتيمين كانا في حجره، وكانا فيمن خاض في أمر عائشة، أحدهما مسطح وقد شهد بدراً، وقد أشهد الله تعالى أن لا يصلهما ولا يصيبان منه خيراً، فنزلت هذه الآية.:
وفي الخبر: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير".
وهو معنى قوله تعالى: {ولاَ تجْعَلُوا اللهَ عُرضةً لأَيْمَانِكُمْ}.(1/108)
والوجه الثاني في التأويل: أن يكون معنى قوله: {عُرْضَةً لأيمانكم}، يريد به كثرة الحلف، وهو نوع من الجرأة على الله تعالى، والإبتذال لإسمه في كل حق وباطل، ومن أكثر من ذكر شيء، فقد جعله عرضة، كقول القائل:
"قد جعلتني عرضة للومك".
وذم الله تعالى مكثر الحلف بقوله تعالى:
{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ}.
والمعنى: لا تعرضوا إسم الله تعالى، ولا تبتذلوه في كل شيء، لأن تبروا إذا حلفتم، وتتقوا المأثم فيها، إذا قلت أيمانكم، لأن كثرتها تبعد عن البر والتقوى، وتقرب من المأثم والجرأة على الله تعالى، وكأن المعنى: إن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة عليها، لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فكونوا بررة أتقياء، كقوله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}.
فأفادت الآية المعنيين، ومتضمنهما النهي عن ابتذال إسم الله سبحانه واعتراضه باليمين في كل شيء، حقاً كان أو باطلاً،والنهي أيضاً عن جعل اليمين مانعة من البر والتقوى والإصلاح.
ودل ذلك على أن اليمين يجوز أن يجعل سبباً للكفارة كما قاله الشافعي لأن إسم الله المعظم، صار متعرضاً للإبتذال بوصف الحنث، ووصف الحنث راجع إلى اليمين، فكانت اليمين سبباً، وليست اليمين عبادة لا يمكن جعلها سبباً للكفارة.
فإن الإكثار من العبادات مندوب إليه، والإكثار من اليمين منهى عنه.
والإكثار من العبادات تعظيم الله تعالى، والإكثار من اليمين تعريض الإسم للإبتذال.
فصح على هذا المعنى جعل اليمين سبباً، على خلاف ما رآه أبو حنيفة، وجاز لأجله تقديم الكفارة على الحنث، وجاز لأجله فهم إيجاب الكفارة في اليمين، على فعل الغير وعلى فعل نفسه، وعلى ما يجب فعله، وعلى ما لا يجب، وهو أصل الشافعي في الأيمان..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/109)
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة:225]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ} [225]:
اعلم أن اللغو مذكور ففي القرآن على وجوه، والمراد به معاني مختلفة على حسب اختلاف الأحوال التي خرج الكلام عليها.
فقال الله تعالى: {لاَ تَسْمَعُ فيهَا لاَغِيَةً} يعني كلمة فاحشة قبيحة.
{وَلاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ولاَ تَأْثِيمَاً} على هذا المعنى، وقال:
{وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ}. يعني الكفر والكلام القبيح.
وقال: {وَالْغَوا فيِهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ}. يعني الكلام الذي لا يفيد شيئاً ليشتغل السامعون عنه بذلك، وقال:
{وَإذَا مَرُّوا بِاللّغْوِ مَرُّوا كِرَاماَ}. يعني بالباطل.
ويقال: لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.
وقد روي في لغو اليمين معان عن السلف:
فروي عن ابن عباس أنه: هو في الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك، ولا يكون كذلك.
وروي عن مجاهد وإبراهيم، قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بمَا عَقَدْتُمُ الأَيْمَانَ}.
أنه يحلف على الشيء وأنه يعلم، وهذا في معنى قوله: {بمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وقالت عائشة: "هو قول الرجل: لا والله، بلى والله".
وكثرت أقاويل السلف فيه، وأقربها قول سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه.
وذلك يقرب من أحد تأويلي قوله عز وجل: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيمَانِكُمْ}.
وقد ظن قوم أن المراد به، المؤاخذة في الآخرة، فتجب الكفارة في الدنيا، وليس على ما ظنوه، فإنه تعالى قال في موضع آخر:(1/110)
{لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ باللّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخذكم بِمَا عَقَدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكفّارَتُهُ}.
فذلك يدل على أن المؤاخذة المذكورة في القسم الثاني، هي المتيقنة في القسم الأول.
وظن أبو حنيفة، أن قوله عقدتم، يدل على ما يتصور عقد العزم عليه من الأفعال، حتى يخرج منه اليمين على الماضي، وذلك إن صح له، فيخرج منه الأيمان على فعل الغير، وحنث النسيان وغيرهما، فالأقرب في معانيه، ما قالته عائشة وهو مذهب الشافعي..
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة:226]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح (الإيلاء)
قوله تعالى: {للّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [226]:
ليس في نظم القرآن ما يدل على الجماع، ولا على الحلف على مدة معلومة، وإنما قال: {للّذيِنَ يُؤْلُونَ.. تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أشهرٍ}.
واختلفت تصرفات العلماء في ذلك.
فمنهم من جرى على العموم، ومنهم من خص.
فممن خص ذلك علي وابن عباس، صارا إلى أنه لو حلف لا يقربها لأجل الرضاع، لم يكن مؤلياً، وإنما يكون مؤلياً إذا كان على وجه الغضب.
ومنهم من لم يفصل بين اليمين المانعة من الجماع، والكلام والإتفاق، ولا بين الرضا والغضب، وهو قول ابن سيرين.
والأكثرون على أنه لا يعتبر قصد المضارة، حتى لو آلى في حالة رضاها، كان به مؤلياً.
والأولون يقولون: ما قصد حقها ولا مضارتها.
وفي قوله: {غَفُورٌ رحِيمٌ}، ما يدل على اعتبار قصد الاضرار.
فالأكثرون اعتبروا اليمين على ترك الجماع.
وقال الشافعي: إذا آلى أربعة أشهر ومضت المدة لم يكن مؤلياً.
وأبو حنيفة يوقع به الطلاق، وإن لم يبق الإيلاء بعده، لأنه رأى أن قوله تعالى: {تَرَبصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يدل على ما قاله.(1/111)
ولكن الشافعي يقول: قوله: {للّذِينَ يُؤْلُونَ.. تَرَبُّصُ}، يدل على أن مدة الأربعة أشهر حق له خالص، فلا يفوت به حق له، ولا يتوجه عليه مطالبة، أنه أجل مضروب له.
قوله تعالى: {فَإنْ فَاءُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيِمٌ} [226]:
والفىء في اللغة الرجوع، قال الله تعالى:
{حَتّى تَفِىءَ إلىَ أَمْرِ اللهِ}.
أي ترجع إلى أمر الله.
وعند ذلك قد يظن الظان: أن ظاهر اللفظ، يدل على أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار، ثم قال: قد فئت إليك، وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين، أن يكون قد فاء إليها، سواء كان قادراً على الجماع أو عاجزاً.
وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا أمكنه الوصول إليها، لم يكن فيؤه إلا الجماع.
وأبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض، أو بينه وبين زوجته المؤلى منها، مسيرة أربعة أشهر وهي رتقاء أو صغيرة، أو هو مجبوب أنه إذا فاء إليها بلسانه، ومضت المدة والعذر قائم، فذلك في صحيح.
والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه، ووجه قوله: أنه إذا قال القائل: والله لا أجامع فلانة، فلا يكون حانثاً بقوله أجامعك، وإنما يكون حانثاً بما يكون منه مخالفاً، وإنما يكون مخالفاً بما يكون به حانثاً، ثم لا يكون حانثاً بمجرد القول، وكذلك لا يكون قد فاء بمجرد قوله: وإنما هو وعد الفيئة، إذ لو كان قد فاء حقاً لما احتاج بعده إلى تحقيق مقتضى قوله بالجماع، وهذا بين.
نعم إختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى.
ففي قول: لا إيلاء له.
وفي قول: يصح إيلاؤه ويفىء باللسان.
والأول أصح وأقرب إلى مقتضى الكتاب، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين. والفيء بالقول لا يسقطه، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث، بقي حكم الإيلاء.
{ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:227]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق(1/112)
قوله عز وجل: {وإنْ عَزَمُوا الطّلاَقَ فَإنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [227]:
وذلك يقتضي أن لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة على ما قاله قوم، لأن مضي المدة لا يكون عزيمة على الطلاق، وإنما عزيمة الطلاق ما يتوقف على قصده.
فأما حكم الله تعالى الحاصل بمضي المدة، فلا يصح العزم عليه، فلا يقال: عزموا على مضي الشهر، أو غروب الشمس، أو طلوعها.
ومن فوائد هذه الآية: دلالة عمومها على صحة إيلاء الكافر والمسلم، سواء كان الإيلاء بعتق، أو طلاق، أو صدقة، أو حج، أو يمين بالله.
وأبو حنيفة يقول: لا يصح من الكافر ما كان بالتزام صدقة أو حج، ويصح ما كان بطلاق، أو عتاق، أو حلف بالله، وإن لم يلزمه بالحلف بالله عز وجل شيء، وصحح الإيلاء ممن لا يلتزم بالوقاع شيئاً، يتوقى الوقاع لأجل ذلك الأمر، مع أنه لو آلى بطلاق زوجته، أو عتاق عبده، فمات العبد قبل مضي المدة، بطل الإيلاء، لأنه لا يخشى التزاماً، فكذلك قياس قوله أن لا يصح منه الإيلاء إذا حلف بالله، لأنه لا كفارة عليه بالمخالفة.
واحتج محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث، بأن قال:
إنه لما حكم الله تعالى للمولى بأحد حكمين، من فيء أو عزيمة للطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث، لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق، لأنه إن حنث فلا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء، لم يكن مؤلياً، وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكره الله تعالى، وذلك خلاف الكتاب.
وهذا غير صحيح لأن الله تعالى إنما أبقى حكم الإيلاء إذا بقيت المضارة، وإنما تبقى المضارة إذا كان يتوقع التزام أمر بالوقاع، فشرط بقاء الإيلاء بقاء حكمه، فإذا قدمه زال هذا المعنى، كما يزول بموت العبد المحلوف على عتقه، أو المرأة المحلوف على طلاقها، وليس يقتضي ذلك مخالفة الكتاب بل يطابق معناه إذا تأمل..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/113)
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة:228]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ} [228]:
قال قائلون: لما وعظها بترك الكتمان، دل على وجوب قبول قولها فبنى عليه وقوع الطلاق عليها بقولها إذا قالت: حضت، وقد علق الطلاق على حيضها.
وهذا عندنا لا يقوى، فإنه ليس النهي عن الكتمان دالاً على أن قولها حجة على الزوج في قطع نكاحها، كما لا يدل على وقوع الطلاق على ضرتها، كيف وقوله تعالى: {يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ} ليس يظهر في معنى الحيض لأن الدم إنما يكون حيضاً إذا سال، ولا يكون حيضاً في الرحم، لأن الحيض حكم يتعلق بالدم الخارج، فما دام الرحم فلا حكم له.
نعم يجوز أن يقال: إن كل دم سائل لا يكون حيضاً، وإنما يكون حيضاً بالعادة والوقت وبراءة الرحم من الحمل، فهي إذا قالت: حضت ثلاث حيض، وهذه الأمور التي يقف عليها الحيض من قبلها، فالقول قولها: وإنما التصديق متعلق بحيض قد وجد ودم قد سال.(1/114)
وبالجملة قوله: {وَلاَ يَحِل لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ}، ليس يظهر في الحيض، وإنما تظهر دلالته على الحمل، وهو مما يعرف بغير قولها، وإذا علق الطلاق فى حملها فقالت: أنا حامل، يقع الطلاق ما لم تستبرىء ويظهر حملها،ويجوز أن يكون معنى ذلك منعها من التزوج، ومنعها من إهلاك الولد وإجهاض الجنين، وهذا لا يبعد فهمه من الآية، فالمعتمد فيه الإجماع.
وقوله تعالى: {إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [228]:
وليس ذلك شرطاً في النهي عن الكتمان، وإنما هو على وجه التأكيد وهو كقوله تعالى:
{وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤمنونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ}.
وقول مريم عليها السلام: {إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّا}.
وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} الآية [228]:
اعلم أن الله تعالى سماه بعلاً، وذلك يدل على بقاء الزوجية، ولكن قال بردهن، وذلك يدل على وجود سبب يزول به النكاح.
ولا يبعد أن يقال: زال النكاح، وله الإستدراك، كما يزول الملك في زمن الخيار على قول، وله الإستدراك.
ودلت هذه الآية على جواز إطلاق العموم في المسميات، ثم يعطف عليه بحكم يختص به بعض ما انتظمه العموم، فلا يمنع ذلك اعتبار عموم فيما شمله، في غير ما يختص به المعطوف، لأن قوله: {والمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ}، عام في المطلقات ثلاثاً،وفيما دونها لا خلاف فيه.
ثم قوله: وبعولتهن: حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث، ولم يوجب ذلك الإقتصار بحكم قوله: {والمطلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروءٍ} على ما دون الثلاث.. ونظيره من القرآن.
1)…النكاح (المهر)
2)…النفقات
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وللرِجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [228]:
يقتضي وجوب حقوق لها في التحصن والنفقة والمهر.(1/115)
وقوله: {وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} يقتضي أنه مفضل عليها وذكر الله تعالى بيان ذلك في قوله: {الرِّجَالُ قَوّامُونَ عَلىَ النساءِ بما فَضّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبما أنفَقوا منْ أموالهِمْ}.
فأخبر أنه جعل قيماً عليها بما أنفق من ماله، وفيه دليل على أنه: إذا أعسر بالنفقة لم يكن قيماً عليها، وإذا لم يكن قيماً عليها فهي كلحم على وضم فلا بد لها من قوّام، ولم يشرع النكاح إلا لتحصينها وحاجتها إلى القوام، فإذا زال هذا المعنى، فالأصل أن لا يثبت الرق على الحرة.
والشافعي يقول: لكونه قواماً عليها، يمنعها من الحج وصوم التطوع.
واعلم أن قوله تعالى: {يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنَّ ثلاثةَ قُروءٍ} تطرق إليه التخصيص في مواضع: منها في الأمة، ومنها في الآيسة والصغيرة، ومنها في الحامل في قوله:
{وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعنْ حَمْلَهُنَّ}، {والّلائي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ.. الآية}.
ومنه ما قبل الدخول بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدَّهِنَّ} خص منه ما قبل الدخول، وخص منه المطلق ثلاثاً.
1)…الطلاق
قوله تعالى: {والمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [228]:
واختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلماء السلف في الثلاثة:
فقال قوم: الثلاثة من الحيض، فما لم تغتسل المرأة من الحيض فزوجها أحق بها.
وقالت عائشة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها.
فالثلاثة إذاً من الأطهار.
وأما إسم الأقراء فيتناول الحيض والطهر جميعاً.
واختلفوا في كونه حقيقة فيهما، أو مشتركاً اشتراكاً لا يظهر رجحان أحد المعنيين على الآخر.
وقال قوم: هو حقيقة في الحيض ومجاز في الطهر، وذلك بحسب النظر في موضع الإشتقاق، واختلف فيه:
فمنهم من قال: القرء من الوقت، وعلى ذلك شواهد من اللغة.(1/116)
وقال آخرون: هو من الجمع والتأليف، وعلى ذلك شواهد.
فإن كانت حقيقته الوقت، فقد ظن بعض أصحاب أبي حنيفة أن الحيض أولى به، لأن الوقت في الأصل إنما كان وقتاً لما يحدث فيه، والحيض هو الحادث، وليس الطهر شيئاً أكبر من عدم الحيض، وزوال العارض، والرجوع إلى ما كان في الأصل، فكان الحيض أولى بمعنى الإسم.
وهذا غير صحيح، فإن الحيض والطهر وصفان يعتوران على المرأة، ولكل واحد منهما وقت معلوم أقله وأكثره.
وهم يقولون: لكن الطهر إنما يعلم بغيره لا بنفسه، فإن الطهر لا نهاية لأكثره إذا هو عدم الحيض، وإنما يعلم بوجود الحيض.
قالوا: وإن كان القرء إسماً للضم والجمع، فهو أولى بالدم المجتمع.
ولا يتيقن كونه حالة الطهر، إذ لا يتعلق به حكم، وليس يبين لنا أن الدم يجتمع في حالة الطهر، بل يجوز أن يجتمع في حالة الحيض ويسيل فيه، فلا مستند لهذا القول.
وزعموا أن حد الحقيقة وجد في الحيض، لأن إسم القرء لا ينتفي عنه أصلاً، ولا يتحقق ذلك في الطهر، لأنه يوجد الطهر ولا يسمى قرءاً بحال مثل طهر الآيسة والصغيرة، فيظهر أن الطهر سمي قرءاً لمجاورته للحيض، فالحيض بذلك أولى.
وادعوا تطرق المجاز إلى قولنا من حيث اللغة من وجهين، ومن وجه ثالث، وهو أن مقتضى قولنا الاكتفاء بقرءين وبعض الثالث، وإطلاق إسم الجمع على شيئين وبعض الثالث مجاز على خلاف الحقيقة، وإنما يعلم ذلك بدليل مثل حمل أشهر الحج على شهرين وبعض الثالث، وإذا جعل للقرء بدل، وهو الأشهر، لا جرم كانت الأشهر ثلاثة تامة من غير نقصان ولا حطيطة، فليكن الطهر كذلك.
والذي توجه لأصحاب الشافعي على هذه الكلمات: أن الذي ذكره هؤلاء من مواضع الإشتقاق، لا يصح التعويل عليه في هذا الباب، فإنه لو قدر التصريح بمحال الإشتقاق على ما قالوه، لم ينتظم الكلام.(1/117)
وإذا كان الإسم مشتقاً من شيء، فيجب أن يكون بحيث لوصرح بموضع الإشتقاق يستقيم معنى الكلام، مثل قول القائل في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانيِ}.
والزاني مشتق من الزنا، فلو ذكر موضع الإشتقاق وعلق عليه الحد، يستقيم معنى الكلام.
وها هنا: إن كان اشتقاق القرء من الوقت، فإذا ذكر الوقت في نفسه، أو الضم بلفظ الثلاث، لم يكن الكلام مستقيم النظم، فإنه لو قال:
"والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، أو ثلاثة اجتماعات"، ولم يضف الوقت إلى شيء، والإجتماع شيء، لم يصح معنى الكلام في إرادة الحيض والطهر جميعاً..
نعم إنما يستقيم النظر إلى موضع الإشتقاق من وجه آخر، وهو أن يجعل القرء مشتقاً من الإنتقال من حال إلى حال، فعل هذا يستقيم الكلام، إذا ذكر موضع الإشتقاق، فإنه إذا قيل: معنى الكلام: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أدوار، أو ثلاثة انتقالات، فهي متصفة بحالتين فقط.
فتارة تنتقل من طهر إلى حيض.
وتارة تنتقل من حيض إلى طهر.
فيستقيم معنى الكلام في دلالته على الحيض والطهر جميعاً، فيصير الإسم مشتركاً.
أو يقال: إذا ثبت أن القرء هو الإنتقال، فخروجها من حيض إلى طهر غير مراد بالآية أصلاً، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقاً سنياً مأموراً به.
وقيل: إنه ليس طلاقاً على الوجه المأمور به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذاً من الإنتقال.
فإذا كان الطلاق في الطهر سبباً، فتقديرالكلام عدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها:(1/118)
هي الإنتقال من الطهرالذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الإنتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءاً، لأن اللغة لا تدل عليه، لكن عرفنا بدليل آخر، أن الله تعالى لم يرد من حيض إلى طهر، واللفظ دل على الإنتقال، والإنتقال محصور في الحيض والطهر، فإذا خرج أحدهما عن كونه مراداً، بقي الآخر، وهو الإنتقال من الطهر إلى الحيض مراداَ، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات: أولها: الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة، إذا كان الطلاق في حالة الطهر، فلا يكون ذلك حملاً على المجاز بوجه ما، وهذا نظر دقيق في غاية الإتجاه لمذهب الشافعي.
وأكثر ما يرد على هذا الكلام وجوه:
منها: أن ذلك خلاف ما قالته عامة العلماء، من أن القرء طهر أو حيض، وذلك إحداث قول ثالث.
وهذا لا وجه له، فإن القرء حقيقة في الإنتقال، ثم اختلف العلماء في المراد من الإنتقال: فإنه متردد في اللغة بين الحيض والطهر، فأما أن يكون القرء إسماً لنفس الطهر، أو إسماً لنفس الحيض حقيقة فلا، والدليل على موضع الإشتقاق قولهم: قرأ النجم: إذا طلع، وقرأ النجم إذا أفل، بمعنى تبدل الأحوال عليه.
نعم وضع اللغة يقضي أن يكون انتقالها من الطهر إلىالحيض قرءاً ومن الحيض إلى الطهر قرءاً ثانياً، ومن الطهر الثاني إلى الحيض الثاني قرءاً ثالثاً، وتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثالثة، غير أن تحريم الطلاق في خاصة الحيض دل على أن ذلك الإنتقال - وهو من الحيض إلى الطهر - ليس مراداً بالآية.
ويمكن أن يذكر في ذلك شيء لا يبعد من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الإنتقال من الطهر إلى الحيض، إنما جعل قرءاً لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب، فحيضتها علم على براءة رحمها، والإنتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل من أعقاب حيضتها، وإذا تمادى أمد الحمل، وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمدح العرب بحبل نسائهم في حالة الطهر، ومدحت عائشة رسول الله بقول تأبط شراً:(1/119)
* ومبرأ من كل غبر حيضة * وفساد مرضعة وداء مغيل *
تعني أن أمة لم تحمل به في الحيضة الثانية.
ومن أجل ذلك كان الإستبراء بحيضة، لأن المسبية لا تعرف حبلها فتستبرىء بحيضة، فإذا حاضت علمت براءة رحمها، إلا أن الإحتياط في العدة أكثر، فلم يكتف بدلالة واحدة دون الدلالات الثلاثة،فيحصل من مجموعها ما يقرب من اليقين، أو ما يتضاعف به الظن ويقوى، وإذا تقرر أن الأمر كذلك فالإنتقال من الطهر إلى الحيض، جعل قرءاً معتبراً لهذا المعنى.
فإن قالوا: فإذا كان الإنتقال من الطهر إلى الحيض جعل قرءاً، لدلالة ذلك الإنتقال من على براءة الرحم، فذلك الإنتقال لم يدل على براءة الرحم لأجل الطهر، وإنما دلالته للحيض، فالحيض هو الأصل في الدلالة ومتى كان هو الأصل في البراءة والدلالة عليها، فهوأولى بأن يجعل أصلاً في العدة من الطهر، فإن الطهر يقارن الحمل، فكيف يقع به الاستبراء؟ وإنما يقع الاستبراء بما ينافيه وهو الحيض، فيكون دلالة على براءة رحمها من الحمل.
وربما قرروا ذلك فقالوا: إن الحيضة الثانية اعتبرت احتياطاً، لأن في التكرار زيادة دلالة على البراءة.
فلا جرم؟ قيل إن الإستيراد يكتفي فيه بحيضة واحدة، ويعتبر في العدة الكاملة زيادة عدد، لزيادة الدلالة على قدر رتبة العدة، فإذا تعذر ذلك، وقيل: الثلاثة ها هنا مثل الواحدة في الإستبراء، فليكن العدد المعتبر في العدة الكاملة من جنس ما اعتبر في الاستبراء، وليكن العدد عدداً يزيد في الدلالة من جنس الأصل، والطهر لا دلالة فيه، فاعتبار العدد من الطهر لا معنى له، فعدد الثلاثة يجب أن يوجد من الحيض، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة فليقل: يعتبر تمام دلالة هذه الثالثة، كما دلت الحيضتان من قبل، فاعتبار العدد من الطهر الذي لا دلالة لأصله مما وجه له.(1/120)
وربما قالوا: الحمل إذا ظهر كان أولى من الحيض، لأن الوضع أقوى من الحيض، فتفاوت ما بين الحيض والطهر، كتفاوت ما بين الحيض والحمل، ثم الحمل أصلاً فليكن الحيض أصلا.
الجواب: أن الذي قالوه ليس كلاماً في مقتضى اللفظ، وإنما هو قياس في معاني الفقه، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في اللفظ، وهو أن الله تعالى إذا قال: يتربصن ثلاثة انتقالات، وعرفنا أنه لم يرد به الإنتقالات كلها من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض، فإن ذلك يزيد على الثلاثة، فعرفنا أنه إنما عنى به الإنتقال الذي هو من الطهر إلى الحيض.
فهذا ما فهمناه من اللفظ، وجاز مع ذلك أن يقترن بالعدة قصدان وراء براءة الرحم، كالإختلاف بالحرية والرق، ووجوبها إلى سن اليأس، في حق التي انقطع حيضتها لعلة، وغير ذلك من المسائل، فإذا ثبت ذلك لم يرد عليه كل ما قالوه.
ودل على ما قلناه، أن الله تعالى قال: {فَطَلقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} وقال صلّى الله عليه وسلم لعمر حين طلق ابنة امرأته وهي حائض: مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم يجامعها وليدعها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
وذلك إشارة إلى الطهر فدل أن العدة الطهر، وأمر بإحصاء العدة عقيب الطهر، فليكن المحصي بقية الطهر.
وأبو حنيفة لا يرى ذلك أصلاً، ولا يحصي عقيب الطلاق شيئاً.
وقوله تعالى: {لعدتهن} لا يجوز أن يريد به عدة ماضية قبل الطلاق، كما يقال: "صوموا لرؤيته" أي لرؤية ماضية...
فإن قيل: الطلاق ليس بعدة بالإتفاق، ولا يخطر ببال عاقل أن يقول: قوله عليه السلام لعمر: "حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق فتلك العدة"، معناه: فتلك العدة الماضية أعني الحيضة الماضية، أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء، فإذا كان الطلاق في الطهر والإنتقال منه إلى الحيض، فتقدير الكلام:
إذا طلقتم النساء يتربصن بعد الطلاق السنى البدعي ثلاثة انتقالات:(1/121)
أولها: الإنتقال مما سن الطلاق فيه، وذلك لا يكون إلا الطهر، وهذا بين ظاهر في تحقيق مذهب الشافعي من معنى الآية.
فإن قيل: العدة وأحكامها ثابتة في حالتي الطهر والحيض، فما معنى قوله تعالى لعدتهن؟
قيل: العدة مأخوذة من العد، فكأنه تعالى قال: فطلقوهن لِزَمن بعد ذلك من العدة، وذلك الطهر، فإن عدد الثلاث مأخوذ منه وهذا بين.
قالوا: فالمرأة قبل الدخول يجوز طلاقها في الحيض، فكيف يصح مطلق الآية على هذا التأويل؟
الجواب: أن معنى الكلام: إذا طلقتم النساء ذوات العدة، فطلقوهن لعدتهن.
قالوا: فإذا طلقها في طهر جامعها فيه، فبقية الطهر محسوبة، وإن لم يكن الطلاق سنياً.
الجواب: أن ذلك مخصوص من هذا العموم بدليل، وذلك لا ينافي دلالة اللفظ على ما تعلقنا به، وعلى أن في حق التي جومعت في طهرها، وإنما خرج الطلاق عن كونه سبباً لوجود ما يحتمل خروج الطهر به، عن أن يكون عدة تحصى بأن يبين حملها، حتى لو كانت آيسة لم يحرم طلاقها في طهر جامعها فيه.
ثم قوله تعالى: {يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُروُءٍ}، وإن كان عاماً في حق المنكوحة الحرة، والمنكوحة الأمة، ولكن الإجماع انعقد على أن عدة الأمة المنكوحة على النصف فتركناه لذلك.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة:229]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق (الخُلْع)(1/122)
وقوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيما افْتَدَتْ بِهِ} [229], لا يدل على طلقتين, لا تعرضاً ولا تصريحاً, حتى يكون قوله: {فإنْ طلّقَهَا} مرتباً عليه.
وقوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فيما افْتَدَتْ بِه}، مسوق لبيان جواز بذل العوض, لا لبيان عدد الطلاق والمقابل للعوض.
وقوله تعالى: {الطلاق مرَّتانِ} يدل على عدد الطلاق الذي يثبت فيه حق الرجعة.
وقوله {فإن طلّقَها}, بيان تمام ذلك العدد, الذي لا يقترن به الاستدراك.
ثم جواز الافتداء يستوى فيه الواحد والعدد, وذلك بين بأول الخاطر، وليس فيه شبهة على متأمل.
1)…الطلاق (نشوز) (خُلْع)
قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ}, الآية [229].
وقد قال تعالى في آية أخرى.
{وَإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهن قِنْطَاراً فَلاَ تأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}.
فهذا يمنع أخذ شيء منه دون رضاها, إذا كان النشوز منه.. وقال في آية أخرى:
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مّما آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئَاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} فقيد بحالة خوف الشقاق..
وقال في موضع آخر:
{لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِسَاءَ كُرْهَاً وَلاَ تَعْضُلوهنَّ لتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلاَّ أَنْ يَأتِيَنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ}..
ومعنى الفاحشة, يحتمل أن يكون نشوزاً من قبلها, أو زناً يخرج صدره, ويحمله على المخاصمة.
وذكر الله تعالى في موضع آخر, إباحة أخذ المهر في قوله تعالى:
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدَقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءِ مِنْهُ نَفْسَاً فَكُلُوهُ هَنيِئاً مَرِيئاً}.
وقال تعالى:(1/123)
{وإنْ طَلّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَو يَعْفُو الّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكَاحِ}.
قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسَاً} محكم تعضده الأصول, وهو أنه إذا جاز له أخذ المال منها برضاها في غير الخلع, فهو في حال الخلع جائز.
وقال بعض السلف: إنه لا يجوز إلا في حالة الضرورة وخوف الشقاق وهو باطل, فإن الغرض من ذكر حال الشقاق, بيان الخلع في غالب الحال, وإلا فعموم قوله تعالى: {فإنْ طِبن لَكُمْ عَنْ شيْءٍ مِنْهُ نَفْسَاً}, مع ظهور العلة فيه, وهو كون المبذول حقاً لها, ولها أن تهب من شاءت أولى بالإعتبار.
وكذلك يشهد له قوله عليه السلام:
"لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه".
واختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أم طلاق؟
فالذي لا يراه طلاقاً يقول:
قد قال تعالى: {الطّلاَقُ مَرتَّانِ}.
ثم قال: {فإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يَقيِما حُدُودُ اللهِ}.
ثم قال بعد ذلك: {فإن طلّقَهَا}, فلو كان الخلع طلاقاً, لكان الخلع بعد ذكر طلقتين ثالثاً, وكان قوله: {فإن طلّقَهَا} بعد ذلك, دالاً على الطلاق الرابع.
وهذا غلط, فإن قوله {الطّلاقُ مرَّتانِ}, أفاد حكم الإثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع, وأثبت معهما الرجعة بقوله: {فإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ}, ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع, فعاد الخلع إلى الثنتين المقدم ذكرهما.
أو المراد بذلك بيان الطلاق المطلق, والطلاق بعوض, والطلاق الثلاث بعوض كان أو بغير عوض, فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.
وظن ظانون أن في الآية ما يدل على أن المختلعة يلحقها الطلاق, فإنه قال: {فإنْ خِفْتُم}, وذلك بيان الطلاق المقدم ذكره بعوض، ثم قال:
{فإنْ طَلّقَهَا فَلاَ تحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيْرَهُ}.
فتكون الثالثة حاصلة بعد الخلع.(1/124)
ويدل على أنَّ الثالثة بعد الخلع قوله تعالى في نسق التلاوة:
{فإنْ طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [230], عطفاً على ما تقدم ذكره في قوله:
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مّما أتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [229].
فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة, بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف, لترك إقامة حدود الله تعالى, لأنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة.
فدل ذلك على أن هذه الثالثة مذكورة بعد الخلع.
وزعموا أن قوله تعالى: {فإنْ طلّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ}، يبعد أن يرجع إلى قوله: {الطّلاقُ مرتَّانِ}, لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله: {فإنْ طلّقَهَا}، على قوله: {الطلاق مرتان}, بل الأقرب عوده إلى ما يليه كما في الاستثناء, بلفظ التخصيص أنه عائد إلى ما يليه ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة, كما أن قوله تعالى:
{وَرَبَائِبُكُمْ الّلاَتي فيِ حُجُورِكُم مِنْ نِسَائِكُمُ الّلاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}.
صار مقصوراً على ما يليه, غير عائد إلى ما تقدمه, حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.
وذكروا أن هذا أبعد من ذلك, فإن عطفه على ما يليه وما تقدمه, أقرب من إخراج ما يليه بالكلية وترك العطف عليه.
وهذا الذي توهمه هؤلاء باطل, فإن قوله: {فإنْ طَلَقهَا}, ليس يدل على الثالث, إلا بتقدير عطفه على عدد مذكور قبله.
1)…الطلاق
قوله تعالى: {الطّلاَقُ مَرَّتَانِ} [229]:
فرأى الشافعي أنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق، ويدل عليه ما ذكره عقيبه من قوله:
{فَإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ}.(1/125)
وظن قوم ممن يرى جمع الطلقات في قرء واحد بدعة، أن قوله تعالى: {الطّلاَقُ مَرَّتَانِ}، يقتضي التفريق، لأنه لو طلق إثنتين معاً، لما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وأن من دفع إلى رجل درهمين، فلا يقال إنه أعطاء مرتين حتى يفرق الدفع.
ويقال لهذا القائل: لو كان المراد به بيان ما ذكره، لم يكن هذا النظم المذكور دالاً، لأنه ليس التبديع عنده من جهة جمع فعل الطلاق، فإنه إن طلقها مرتين في قرء واحد عنده فهو حرام،وإن كان قد طلق مرتين حقيقة، فيحرم عنده أعداد الطلقات في قرء واحد، تعدد الإيقاع أو اتحد، وليس في قوله: {الطّلاقُ مَرّتَانِ} ما ينبيء عن ميقات تحريم المرات وحلها، فليس في اللفظ بيان ما ذكروه.
نعم، إذا كان الطلاق الواحد يدل على إسقاط الملك ولا يسقط به، فيحسن أن يقال: إنما يسقط لمرتين، إذا كان يسقط بعدد منه، وليس كإعطاء درهمين معاً، فإن الدراهم الثاني لا يتعلق بالأول في رجوعهما إلى فائدة واحدة، ومعنى واحد، حتى يقال ذلك المعنى لا يثبت بمرة واحدة، بل يثبت بمرتين، أما الطلاق فإسقاط ملك النكاح، فإذا لم يسقط ملك النكاح بطلقة واحدة، فالطلقتان منه في حالة واحدة، كالطلقتين في ساعتين، ومثله قوله تعالى:
{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}.
لا أن ذلك في حالتين منفصلتين، بعد تخلل فاصل بين الآخر الأول والثاني، فإن نعيم الآخرة متصل، لا انقطاع له ولا انفصال فيه.
ويحتمل أن الله تعالى ذكر بيان الرخصة على خلاف القياس، فقال: {الطلاق مرتان} أي: لكم أن تطلقوا مرتين وتراجعوا بعدهما، فإن طلقتم الثالثة فلا رجعة، إلا أن تنكح زوجاً غيره، وهذا لا يقتضي كون مخالفة الرخصة بدعة، ولما كانت هذه الرخصة قي إثبات الرجعة مع صريح إسقاط الملك فيما غلب فيه التحريم، وجعل مبعضه مكملاً، وفاسده صحيحاً، فصحيحه وصريحه في إسقاط الرجعة، كيف لا يكون باتاً للملك، وقاطعاً للرجعة، بديهة في قياس الطلاق؟(1/126)
نعم كرر الله تعالى الرجعة في مواضع فقال:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّة} إلى قوله: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَاً}.
وليس في هذا دليل على أنه إذا أخذ بما هو الأصل في إسقاط ملك هو له أن لا يجوز.
وربما احتج بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ}.
وظاهره يقتضي تحريم الثلاث، لما فيه من تحريم ما أحل الله لنا من الطيبات.
وهذا جهل، فإن الله تعالى إنما نهانا عن تحريم طيبات أحلها لنا، مع بقاء سبب الحل، كما كانت العادة جارية به في الجاهلية، من البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام.
فأما إذا كان الحل عارضاً لأجل الملك، فما دام الملك قائماً فله الحل، فإذا زال الملك، زال الحل، كما يزول الإنتفاع بالبيع في العبد والجارية والثوب.
كيف والحل في حق الأجنبية، مع أن الأصل في الأبضاع التحريم عجب، فأما رفع ملك ثبت له، وحصول تحريم في ضمن ذلك، بالرجوع إلى الأصل في تحريم الأجنبيات، حيث لا ملك، فلا تتناوله هذه الآية.
ومن اعتقد تناول هذه الآية لتحريم البيع والعتق وسائر الإزالات ثم خص بدليل، فهو جاهل جداً لمعاني الكلام.
وما ذكره مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، والليث ابن سعد، والحسن بن صالح، أن طلاق العدة السني، أن يطلقها واحدة، ولا يطلقها في تلك العدة أخرى، فإنه لا حاجة إليها في قطع النكاح، إنما الحاجة إلى الطلقة الأولى، وهي تبين عند انقضاء العدة من غير حاجة إلى الثانية، فأي معنى للثالثة؟
وهذا لازم على أبي حنيفة، إذا سلك مسلك النظر في مراعاة الحاجة إلى قطع النكاح.
نعم إذا راجعها فله أن يطلقها الثانية، أما الطلاق الثاني في القرء الثاني في عدم الحاجة، كالطلاق الثاني في القرء الأول. هذا حسن على قياس أصولهم.(1/127)
فإن قال من يذب عن أبي حنيفة: إن ظاهر قوله مرتين، يبيح في القرءين، فيبيح في القرء الواحد، فاعتبار الأقراء من أي أصل تلقوه وليس في إيقاع الثانية في القرء الثاني فائدة أصلاً، فلا هو يقطع النفقة ولا أنه يقطع سبباً من الأسباب، إلا أن يقول جاهل إنه يقطع الميراث، إن كان في حالة الصحة ومات فجأة، وهذا جهل عظيم في إباحة اعتقاد الطلاق لهذا القدر من الغرْم، وجوزوا الطلاق الأول من غير حاجة في حق غير المدخول بها، وفيه قطع للنكاح، ولم يجوزوا الطلقتين، مع أن الثانية لا حاجة إليها في قطع هذا النكاح، وليس في إيقاعها إلا توقع التدرج به إلى منع التزوج بها ابتداء، فإذا لم يحرم قطع هذا النكاح من غير حاجة، فالنكاح الآخر لأن لا يحرم قطعه أولى، والنكاح الآخر يجوز قطعه بالطلاق الثالث في القرء الثالث من غير حاجة إليه، فأي مستند لهم في اعتبار صورة الاقراء، وغاية ما ذكروه مستنداً لاعتبار الاقراء ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض.. القصة.. إلى أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء.
وهذا الذي قالوه فيه نظر، فإنه روي في بعض الأخبار عن سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام، أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم قال: إن شاء طلق وإن شاء أمسك، من غير ذكر هذه الزيادة.(1/128)
ويجوز أن يقال: إن الزيادة من الثقة مقبولة، مع أنه قيل: إذا لم تنقل الزيادة نقل الأصل، فذلك يوجب ضعفاً ووهياً... وأحسن الأحوال للمخالف أن يقبل منهم هذه الزيادة، وهي موافقة لأصلنا، فإنا نقول على مذهب لنا صحيح، إنه إذا طلق امرأته في الحيض. وندبناه إلى الرجعة فراجعها، فإذا طهرت بعد ذلك، فيكره له طلاقها لأن ذلك يوجب أن يكون قد راجع للطلاق فقط، لا لغرض آخر، ويكره أن تكون الرجعة للطلاق فقط فلا جرم قيل يمسكها إلى أن تحيض مرة أخرى وتطهر، وهذا وفق مذهبنا ومقتضى قولنا.
ومستند أبي حنيفة في إيجاب الفصل بين تطليقتين، هو هذا الخبر الذي يروونه وبينا وجه الكلام عليه، مع أنه نقل عن أبي حنيفة، أنه إذا طلقها ثم راجعها في ذلك الطهر، جاز له إيقاع طلقة أخرى في ذلك الطهر بعينه، يقدر كأن الطلاق لاقاها في الحيض، فإذا طهرت لم لا يجوز أن يطلقها طلقة أخرى وقد تحللت الرجعة؟.
وأبو بكر الرازي ذكر أن أبا حنيفة ذكر هذه المسألة في الأصول، ومنعه من إيقاع التطليقة الثانية في ذلك الطهر وإن راجعها، حتى يفصل بينهما بحيضة.
قال الرازي: وهذا هو الصحيح عندنا، والرواية الأخرى غير معمول بها.
ومما جعلوه مستنداً لقولهم في اعتبار الأقراء ما رواه عطاء الخراساني عن الحسن قال: حدثنا عبدالله بن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم إنه أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرئين الباقيين، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال لابن عمر:
"ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء"، وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها وقال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك، فقلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً أكان لي أن أراجعها؟
"قال لا: كانت تبين فتكون معصية"، وهذا يرويه عطاء الخراساني وهو ضعيف جداً..(1/129)
نعم تواترت الأخبار في سائر أخبار ابن عمر، حين ذكر الطهر الذي هو وقت لإيقاع طلاق السنة: "ثم طلقها إن شئت"، ولم يخصص ثلاثاً مما دونها كان ذلك طلاقها الإثنين أو الثلاث معاً، وليس لهم أن يقولوا: إن مطلق قوله "طلق" مخصوص بالأقل، كلفظه لوكيله: طلق، لأن ذلك إنما يكون حيث لا تكون الطلقات مملوكة له، فأما إذا كانت مملوكة له، فمطلق اللفظ يتناول الجنس الذي يملكه.
وقوله تعالى: {الطّلاقُ مَرّتَانِ} خص منه الزوجان إذا كانا مملوكين، واختلفوا فيما إذا رق أحدهما:
فالشافعي يعتبر الطلاق بالرجال.
وأبو حنيفة يعتبر عدده بالنساء.
والبتي يقول: من أي جانب جاء الرق انتقص عدد الطلاق.
وذكر بعض الروافض، أن الثلاث لا يقعن إذا جمع بينهن، وإنما يرد إلى واحد.
والحجاج بن أرطأة كان على هذا المذهب فيما نقله أبو يوسف عنه.
وقال محمد بن إسحاق بن محمد: ترد إلى واحدة.
وزعموا أن قول الله تعالى: {الطّلاقُ مَرّتانِ} لبيان الطلاق المشروع، وحصر المشروع في المذكور وقال:
{إذا طَلّقْتُمْ النِّسَاء فَطَلِّقُّوهُنَّ} فإن الطلاق لا يقع إلا على هذا الوجه، ورأوا أن هذه التصرف البديع في التصرفات لما شرع على وجه، لم يثبت إلا على ما شرع، ولم يشرع إلا مفرقاً، فلا يثبت إلا مفرقاً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر لما قال:
أرأيت لو طلقتها ثلاثة؟... إذا عصيت ربك وبانت امرأتك يقضي على هذا الكلام ويستأصله.
ولأن الطلقات مملوكة له جميعاً فإن سبب الملك النكاح، والنكاح بالإضافة إلى الثاني والثالث واحد.
وكيف لا، والأصل أن يزول بدفعه، ولكن حكم بالعدد منه نظراً للمالك ورخصة، فإذا جمع عاد إلى الأصل فوقع.
وصح أن ركانة طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أردت إلا واحدة، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، ولو كان لا يقع الثلاث لم يكن لهذا معنى.(1/130)
واحتج من معنى وقوع الثلاث لما رواه عكرمة عن ابن عباس قال: "طلق ركانة بن عبدربه امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ أطلقتها ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت.. قال: فراجعها..
وروي ابن جريج عن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء، قال لابن عباس:
"ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى بكر، وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟.. قال قال".
وذكر علماء الحديث أن هذين الحديثين منكران.
وذكروا عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة.
أي أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة، هذا الذي يطلقون ثلاثاً، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة.
قوله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإِحْسَانٍ} [229]:
وظاهر الفاء الدال على التعقيب أن يكون الإمساك عقيب الطلاق، والإمساك إنما هو الرجعة لأنها ضد حكم الطلاق، لأن حكم الطلاق الفرقة بعد انقضاء العدة، فسمى الله تعالى الرجعة إمساكاً لبقاء الرجعة لها بعد مضي الثلاث حِيضَ، وارتفاع حكم البينونة المتعلقة بانقضاء العدة.
وإنما أباح الله تعالى إمساكاً على وصف، وهو أن يكون بمعروف، وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل، ولا يقصد به الإضرار بها على ما ذكره في قوله:
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارَاً لِتَعْتدُّوا}.
فإنه إنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة، ومتى راجع بغير معروف, كان عاصياً، والرجعة صحيحة.(1/131)
وظن ظانون أن قوله تعالى: {فإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ}، يتناول ما يكون متمسكاً به، والجماع أقوى مقاصد النكاح، فكان إمساكاً بالمعروف فتحصل به الرجعة وهذا الظن غلط فإن قوله: {فَإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ}، ماكان بالقول، فإن قابله بقوله: {أو تَسْرِيحٌ بإِحْسَانٍ}، ولا طلاق إلا بالقول، وكذلك لا إمساك إلا بالقول، ويدل عليه أنه قال في موضع آخر:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بمَعرُوفٍ وَأشْهَدُوا ذَوي عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
ولا يقول عاقل إنه يتناول الجماع، ليشهد عليه ذوي عدل، إلا أن يقر بالوطء، ويشهد على الإقرار، وذلك خلاف المشروع، لأن المشروع الشهادة على نفس الرجعة، لا على الإقرار بها.
وقوله تعالى: {أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ}، فقد قيل فيه قولان:
أن المراد به الثالثة..
ورووا عن أبي رزين أنه قال رجل: يا رسول الله، أسمع الله تعالى يقول: {الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟
فقال: أو تسريح بإحسان، وهذا الخبر غير ثابت من طريق النقل..
وقال الضحاك والسدي إنه بتركها حتى تنقضي عدتها، ويظهر هذا المعنى في موضع آخر في قوله:
{وَإذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُن فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُن بمَعْرُوفٍ} [231].
والمراد التسريح بترك الرجعة إذ يبعد أن يقول: طلقوا واحدة أخرى وقال:
{فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُن فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعّرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بمَعْروفٍ}.
ولم يرد به إيقاعاً مستقبلاً، وإنما أراد به تركها حتى تنقضي عدتها..
نعم, الثالثة مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى:
{فَإنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/132)
{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة:230]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
{فَإنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [230].
فالثالثة مذكورة في صلة هذا الخطاب, مفيدة للبينونة الموجبة التحريم إلا بعد زوج, ووجب حمل قوله تعالى: {أو تَسْرِيِحٌ بِإحْسَانِ} على فائدة مجددة, وهي وقوع البنونة بالثنتين عند انقضاء العدة.
وعلى أن المقصد من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم, ونسخ ما كان جائزاً من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور, فلو كان قوله: {أو تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ} هو الثالثة, لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث, إذ لو اقتصر عليه, لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها, إلا بعد زوج, وإنما علم التحريم بقوله: {فإنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, فوجب أن لا يكون معنى قوله: {أو تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} الثالثة, ولو كان قوله: {أو تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} بمعنى الثالثة, كان قوله عقيب ذلك: {فإنْ طلّقَهَا} الرابعة, لأن الفاء للتعقيب, قد اقتضى طلاقاً مستقبلاً بعدما تقدم ذكره.
فثبت بذلك أن قوله {أو تَسْريحٌ بِإحْسَانٍ}, وهو تركها حتى تنقضي عدتها.(1/133)
وهذا صحيح عندنا, إلا أنه إذا لم يكن التسريح المذكور في القرآن بمعنى الطلاق, فلا يكون فيه دلالة على كون لفظ السراح صريحاً على ما قاله أصحابنا, لأن الله تعالى ما أراد به بيان اللفظ, وإنما أراد به تخلية سبيلها, حتى تبين بالطلاق المتقدم بعد انقضاء العدة, من غير اعتبار لفظ آخر, فليطلب لكون السراح صريحاً مأخذ آخر على هذا الرأي..
قوله تعالى: {حَتّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيْرَهُ}، تبعد دلالته على الوطء مضافاً إليها حتى يقال: إن المراد به حتى تطأ زوجاً غيره.
وإنما المراد به حتى تجتمع بزوج غيره, والإجتماع يحتمل الوطء, ويحتمل غيره, ودل خبر رفاعة على اعتبار الوطء, ولم يخالف فيه غير سعيد بن المسيب, فإنه قال: يكفي النكاح.
ولئن قيل: ترك دلالة الغاية المذكورة لمجرد خبر رفاعة بعيد.
فيقال: وما بين الله تفصيل الغاية, فإنه قال:
{فَلاَ تحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غيره}. فذكر الوطء شرطاً, ويجوز أن يكون وراء هذا الشرط شرط آخر, ويجوز أن لا يكون, مثل قوله:
{وَلاَ جُنُبَاً إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا}.
ويجوز أن تغتسل وتتوقف الإستباحة على شرط آخر.
وذكر شرط وبيان توقف الحكم عليه, لا يمنع اعتبار شرط آخر، والدليل عليه أنه قال: {فإن طَلّقَهَا}، فاعتبر الطلاق وحل المحل ثابت قبله, وقال: {فَإنْ طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [230] وانقضاء العدة معتبر أيضاً.(1/134)
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:231]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق (العِدّة)
قوله تعالى: {وإذا طَلّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمسكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ} الآية [231]:
أجمع العلماء على أن المراد ببلوغ الأجل مقاربة البلوغ, ولذكر بلوغ الأجل - والمراد به مقاربته دون انقضائه - نظائر كثيرة من القرآن واللغة, قال الله تعالى: {إذا طَلَقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقوهُنَّ لِعِدَّتهِنّ}.
ومعناه: إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة.
وقال تعالى:
{فإذا قَرَأتْ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ باللهِ}.
ومعناه: إذا أردت قراءته.
وقال: {وإذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}.
وليس المراد به العدل بعد القول, لكن قبله يعزم على أن لا يقول إلا عدلا, فعلى هذا ذكر بلوغ الأجل, والمراد به مقاربته دون وجود نهايته.
وإنما ذكر مقاربته البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف - وإن كان ذلك عليه سائر أحوال بقاء النكاح - لأنه وصل به التسريح وهو انقضاء العدة وجمعهما في الأمر, ومعلوم أن التسريح له حالة واحدة لا تدوم, فخص حالة بلوغ الأجل بذلك, لينتظم المعروف الأمرين جميعاً.
وقوله: {فإمساكٌ بِمَعْرُوف}: إباحة الإمساك بمعروف, فهو القيام بما يجب لها من حق على زوجها.
والتسريح بالإحسان أن لا يقصد مضارتها لتطويل العدة عليها بالمراجعة, وتبين ذلك بقوله عقيب ذلك:(1/135)
{وَلاَ يُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدوُا}.
1)…الطلاق (النفقة)
{وَلاَ يُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدوُا} [231].
ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة.
فإذا ثبت ذلك فالشافعي يقول:
"إن عجز عن نفقة امرأته فليس يمسكها بمعروف, فيجب عليه أن يسرحها بإحسان, فإن الله تعالى إنما خيره بين شيئين لا ثالث لهما, فإذا عجز عن أحدهما تعين الثاني" ا هـ.
فظن بعض الجهلة, أن العاجز ممسك بمعروف, إذا لم يكلف الانفاق في هذه الحالة, وهذا جهل وحمق, فإن العاجز إنما لم يكلف ما عجز عنه, ونحن لا نكلفه النفقة, إلا أنا نقول:
إذا عجز عن الإمساك بالمعروف, فالتسريح بالإحسان مقدور.
نعم إذا قدر على نفقة المعسرين فلينفق مما آتاه الله.
ويدل عليه أن العلماء قالوا: إذا عجز عن الانفاق على عبده أو أمته يقال له: بع عندك أو أمتك, لا على معنى أنا نكلف العاجز, ولكن إن عجز عن النفقة, فلم يعجز عن البيع.
وإمساك العبد بالمعروف, ليس منصوصاً عليه, وإنما هو مفهوم من النكاح, فالنكاح بذلك أولى.
قوله: {وَلاَ يُمسِكُوهُنَّ ضِراراً}.
بيان النهي عن تطويل العدة عليها بالمراجعة, إذا قارب انقضاء العدة راجعها, فأمر الله تعالى بالإمساك بالمعروف, ونهاه عن مضارتها بتطويل العدة عليها.
وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [231].
يدل على أن الرجعة تنعقد على هذا الوجه, ويكون بذلك ظالماً، ولو لم يثبت التطويل به ما كان ظالماً, وكانت رجعته لغواً لا حكم لها.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَتّخِذُوا آياتِ اللهُ هُزُواً} [231].
فروي عن أبي الدرداء أنه كان الرجل يطلق امرأته ثم يرجع فيقول:
كنت لاغياً, ويعتق, ويرجع, ويقول: كنت لاغياً, فأنزل الله تعالى:
{ولا تتّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزْوَاً}.
وروى عن أبوهريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ثلاث جدهن جد وهو لهن جد: الطلاق, والنكاح, والرجعة".(1/136)
وإنما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, تفسيراً لكتاب الله تعالى.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:232]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح (العضل)
قوله تعالى: {وإذا طَلّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلاً تَعْضُلوهُنَّ أنْ يَنكِحْنَ أزْوَاجَهُنَّ} [232].
فذكر أصحاب الشافعي أن بلوغ الأجل هاهنا حقيقة الانفصال.
وقوله: {فلا تَعْضُلوهُنَّ}, خطاب للأولياء, ونهيهم عن الامتناع من تزويجها.
وذكر أصحاب أبي حنيفة, أن معنى هذه الآية لا يتحقق عندكم، فإن الولي, إذا كان هو المزوج والمتصرف فلا يقال: لا تمنعوا فلاناً من أن يبيع وأنتم البائعون, فلو لم يكن إلى المرأة النكاح لما صح أن يقول: "فَلاَ تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ النِّكاحِ أنْ يَنْكِحْنَ", وهو لا يمنعها إنما يمنع نفسه.
وقوله {ينكحن} فعل مضاف اليهن, وإذا نهاه عن البيع, وجب أن لا يكون له حق بما نهى عنه من منع المرأة, فتقدير الكلام: ليس للولي منع المرأة من النكاح, إذا تراضوا بينهم بالمعروف وهو الكفؤ, وإنما نهى الله تعالى عن العضل, إذا تراضوا بينهم بالمعروف.
ومما استشهدوا به أيضاً قوله تعالى:
{فَلا تحِلُّ لهُ مِنْ بعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}.
ولم يذكر الولي.
والذي ذكره هؤلاء غلط, وذلك أن الله سبحانه إنما قال:
{حتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه}.(1/137)
وقوله: {أنْ يَنْكحْنَ أزْوَاجَهُنَّ}, بناء على العادة الجميلة المندوب إليها في الشرع, وهي تفويضهن النكاح إلى الأولياء, بعد الرضا بالأزواج, واختيارهم, لا مباشرة المرأة عقد النكاح دون الاولياء, فإن ذلك خرم للمروءة, وهتك للستر, وفتح لأبواب التهمة, وشناعة في العرف.
وذكر آخرون أن الآية بنظمها, دالة على أن الولي غير مراد بالآية, فإنه قال في أول الآية:
{وإذا طَلّقتُمُ النساءَ فَبَلَغْنَّ أجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلوهُنّ}.
وقوله: {فلا تعضلوهن} خطاب لمن طلق, فمعنى ذلك عضلها عن الآزواج بتطويل العدة عليها.
وغاية ما يرد على هذا: أن ذلك يخرج قوله {فإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ} عن البلوغ حقيقة.
والأول يجيب عن هذا, أن حمل البلوغ على مقاربة البلوغ, لا يلحق اللفظ بالمستكره والبعيد في مجاري كلام البلغاء.
أما قول القائل: {إذا طلّقْتُم النِّساءَ فبلَغْنَ أجلَهُنّ فَلا تَعضُلُوهُنّ} يا أولياء, فيقطع نظام الكلام, ويضمر ما لم يجر له ذكر بوجه, فهو ركيك من الكلام, مستكره في التأويل.
فقيل لهم: إن الذي قلتموه فهمناه من قوله قبل هذا:
{وإذا طلّقْتُم النِّساءَ فبلَغْنَ أجلهُنَّ فأمسِكوهُنّ بِمعروفٍ أوْ سرِّحوهُنّ بمَعْرُوفٍ ولا تُمسِكوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا}. فكيف يعيد عين ذلك بلفظ هو كناية عن القرب من ذكره باللفظ الصريح من غير فائدة, وهذا بين جداً.
ويدلك على ذلك ما رواه شريك عن سماك, عن ابن أخي معقل ابن يسار, عن معقل, أن أخت معقل كانت تحت رجل فطلقها, ثم أراد أن يراجعها, فأبى عليه معقل فنزلت هذه الآية.
وروى عن الحسن هذه القصة, وأن الآية نزلت فيها, وأن النبي عليه السلام دعا معقلاً وأمره بتزويجها إياه.
وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل, لما في سنده من الرجل المجهول الذي يروى عنه سماك, وحديث الحسن مرسل, ولكنه مشهور, والمرسل عندهم حجة.(1/138)
والقاضي إسماعيل بن إسحاق يرويه في أحكام القرآن عن الحسن قال: "حدثني معقل بن يسار, الحديث." ثم يقول: "ثم تركها حتى انفضت عدتها" ويروى ذلك بأسانيد شتى..
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة:233]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الرّضاع
قوله تعالى: {وَالْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَينِ} الآية [233].
إلى قوله: {وَعَلى المَوْلودِ لَهُ رِزقُهُنَّ وكِسْوَتَهُنَّ بالمعْروفِ} [233].
وذلك يدل على جواز استئجار الأم على إرضاع ولدها, سواء كانت مطلقة أو مزوجة.
وعندنا الأم إذا امتنعت من إرضاع ولدها إلا بأجرة ومؤونة, فيجوز لها ذلك, والأب يستأجرها.
وإذا رضيت الأم بما ترضى به الأجنبية, فلا تضار والدة بولدها في انزاعه منها, فلا يكون للزوج انتزاع الولد منها, إذا رضيت بأن ترضعه بأجرة مثلها, وهي الرزق والكسوة بالمعروف, وإن لم يرض.(1/139)
ولما قال: {والوالداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ} جعلن أحق بحضانة الولد, وذلك يدل على أن الأصل في الحضانة الأم, لأن حاجة الولد بعد الرضاع إلى من يحضنه, كحاجته إلى من يرضعه, فإذا كانت في حالة الرضاع أحق به, وأن كانت المرضعة غيرها, علمنا أن في كونه عند الأم حقاً لها وللولد جميعاً, وهوأن الأم أرفق وأحنى عليه, فإذا بلغ سن التمييز - وهو السن الذي يؤمر بالصلاة فيه, وذلك يدل على التمييز والعقل - فيخير بين أبويه, فإن في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات, وذلك يستوى فيه الغلام والجارية, خلافاً لأبي حنيفة, فإنه جعل الأم أولى بالجارية إلى الحيض والبلوغ, لحاجتها - بخلاف الغلام - إلى آداب النساء, وهذا بعيد, فإن الحاجة إلى الوظائف والفرائض الدينية أصلية, وآداب النساء قريبة, وليست الحاجة إليها ضرورية, وهي قليلة يمكن تحصليها في مدة يسيرة, ومع ذلك فهيبة الأب تكفها عن المساوىء, وليس للنساء مثل هيبة الرجال, وفي المسألة أخبار لا تتعلق بمعاني القرآن, فتركنا ذكرها..
1)…المواريث
2)…النفقات
3)…الرّضاع
قوله تعالى: {لا تُضارَّ والِدةٌ بَوَلَدِها وَلا مَوْلودٌ لهُ بَوَلَدِهِ وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذلكَ} [233].
وظن ظانون أن قوله: {وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذلكَ} من النفقة, فإنها على الوارث.
وليس ذلك مذهباً لأبي حنيفة, فإنه لا يعلقها على الإرث, وإنما يعلقها على الرحم والمحرمية مع الإرث, ولا نعلم في العلماء من يعلق على الإرث, سوى ما ذكر عن أحمد, فإنه طرد ظاهر الإرث حتى قال: الجد من قبل الأم لا نفقة عليه مع وجود ابن العم, وطرد ذلك في النساء والرجال والحجب بالأشخاص والأوصاف.
وذلك في غاية البعد عن الأوضاع الشرعية, ومع هذا فلا دلالة للقرآن عليه, فإن قوله تعالى: {وعلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلكَ}, يمكن أن يحمل على أقرب مذكور, وهو نفي المضارة.(1/140)
وعن ابن عباس والشعبي: وعلى الوارث أن لا يضار في تفسير هذه الآية.
ولما أراد النفقة بعد ذلك قال: {وإنْ أرَدْتُم أن تَسْتَرْضِعوا أوْلاَكُم} ذكر الولادة, ورد الأمر في النفقة إليها.
وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق رحمه الله في كتاب "معاني القرآن":
أما أبوحنيفة فإنه قال: تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذي رحم محرم, مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج, وابن عم صغير محتاج وهو وارثه, أن النفقة تجب على الخال لإبن أخته الذي لا يرثه, وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث, ثم قال:
وقالوا قولاً ليس في كتاب الله تعالى, ولا نعلم أحداً قاله, ثم قال هذا الرجل: وإذا ولد الولد وأبوه ميت, فعلى أمه أن ترضعه لأن الله تعالى جعلها المرضعة, فلا يسقط عن الأم ماكان واجباً عليها بسقوطه عن الأب بالموت.
فلم ير هذا الرجل ما وجب عليها بإزاء ما وجب لها, فإذا لم يكن ما وجب لهم, لم يجب ما يقابله.
ولا خلاف أنه إذا انقطع لبنها بمرض أو غيره, فلا شيء عليها، وإن أمكنها أن تسترضع, ولا عليها نفقة بعد الرضاع, وكذلك قبله لا فرق.
ومالك لا يوجب النفقة إلا على الأب للابن, وعلى الأبن للأب, ولا يوجبها للجد على ابن الأبن..
قوله تعالى: {فإنْ أرادَا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما} [233], يدل على الفطام قبل الحولين, وقد يدل على الفطام أيضاً بعد الحولين, لأن الفاء للتعقيب, فوجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما بعد الحولين.
وإذا ثبت ذلك, فتخصيص تحريم الرضاع بمدة الحولين, لا بد من تأصل مستندة, مع أن الليث بن سعد صار إلى أن إرضاع الكبير, يوجب تحريم الرضاع, وانفرد به من بين العلماء.
وروي عن عائشة مثل ذلك.
وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي عليه السلام قال لسهلة بنت سهيل - وهي امرأة أبي حذيفة -:
"أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك".(1/141)
وتمام هذا الحديث, أن سهلة بنت سهيل قالت: "يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي", فقال النبي عليه السلام: "أرضعيه".
وقد روى مسروق في مقابلته عن عائشة, أن رسول الله دخل عليها وعندها رجل فقالت: يا رسول الله, إنه أخي من الرضاعة, فقال عليه السلام:
"انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة".
وهذا يقتضي اختصاص الرضاع بالحالة التي يسد اللبن مجاعته, ويكتفي في غذائه به.
وقد روي عن أبي موسى أنه كان يرى رضاع الكبير, وروي عنه ما يدل على رجوعه, وهو ما روى أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته إلى المدينة فوضعت وتورم ثديها, فجعل يمجه ويصبه, فدخل في بطنه جرعة منه, فسأل أبا موسى فقال: بانت منك وائت ابن مسعود فأخبره, ففعل, فأقبل بالأعرابي إلى الإشعري وقال: أرضيعاً ترى هذا الأشمط؟
"إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللجم والعظم", فقال أبو موسى الأشعري: لا تسألوني ما دام هذا بين أظهركم.
وقوله: "لا تسألوني", يدل على أنه رجع عن ذلك.
وروى جابر عن رسول الله أنه قال: "لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال".
وفي حديث أخر: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم".
فإذا ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم, فالشافعي يقدر أثر الرضاع بالحولين.
وأبو حنيفة يزيد ستة أشهر ويقول: ما يحرم بعد الحولين يحرم - فطم أو لم يفطم, إلى ستة أشهر.
وقال زفر: ما دام يجتزى باللبن ولم يفطم, فهو رضاع, وإن أتى عليه ثلاث سنين.
وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة واستمر فطمه, فليس بعده رضاع.
فأما الشافعي فإنه يرى: كأن التقدير بستة أشهر, كالتقدير بسنة, والتقدير بشهر, وذلك تحكم لا مستند له, وهو مثل تقدير أبي حنيفة في بلوغ الغلام بثمان عشرة سنة, وقوله:
لا يدفع المال إلى الذي لم يؤنس رشده, إلا بعد خمس وعشرين سنة, وكل ذلك تحكم.
ولا مستند في مثل ذلك إلا التوقيف, والتوقيف قوله تعالى:(1/142)
{والْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُن حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لَمِنْ أرادَ أن يُتِم الرضاعَةَ}.
ونص على أن الحولين إتمام الرضاعة, ولفظ الإتمام, يمنع إمكان الزيادة عليه في الحكم المتعلق بما قبل التمام.
نعم, قد قال صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد تم حجة".
ومعناه تمام الإدراك الذي لا يلحقه إمكان فوت.
وهذا المعنى تمام متعلق بالوقوف, فإذا ظهر لنا هذا المستند, فالتقدير لستة أشهر بعده, لا وجه له.
وقد روى جابر أن النبي عليه السلام قال:
"لا رضاع بعد الحولين".
وفي رواية: "لا رضاع بعد فصال".
والأصل كتاب الله تعالى الدال تمام الرضاع في الحولين.
وقوله تعالى: {فإنْ أراد فِصالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشاوُرٍ} يدل على فوائد, منها:
جواز الاجتهاد في الأحكام, بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما, لا على الحقيقة واليقين.
وفيه دليل على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما, وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر, لقوله: {فإنْ أرادَا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وتَشاوُرٍ فلا جُناحَ عَلَيهِما}.
وروي عن قتادة قال: كان الرضاع واجباً في الحولين، وكان يحرم الفطام قبله, ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من هذه المدة, بقوله تعالى: {فإن أرادَا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنهُما وتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما}.
أن يفطما قبل الحولين وبعدهما..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة:234]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق (العِدّة)(1/143)
قوله تعالى: {يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْراً} [234]:
نسخ ذلك قوله تعالى: {مَتاعاً إلى الحَوْلِ غَيرَ إخراجِ}، وفي ذلك الوقت, كانت الوصية للأزواج واجبة, وهي النفقة إلى الحول, ثم أبدلت الوصية بالميراث, إما ربعاً في حالة, أو ثمناً في حالة.
وقوله: {مَتاعاً إلى الحَوْلِ} نسختها العدة أربعة أشهر وعشراً.
ولا خلاف أن هذه الآية خاصة في غير الحامل.
واختلفوا في الحامل المتوفي عنها زوجها على ثلاث مذاهب:
فقال على رضي الله عنه, وإحدى الروايتين عن ابن عباس: عدتها آخر الأجلين.
وقال عمر وابنه, وزيد بن ثابت, وأبو هريرة في آخرين: عدتها أن تضع حملها.
وقال الحسن: عدتها أن تضع حملها, وتطهر من نفاسها, ولا تتزوج وهي ترى الدم.
فأما علي رضي الله عنه: فإنه ذهب إلى أن قوله: {أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْراً} يوجب الشهور.
وقوله: {وأوْلاتُ الأحْمالِ أجَلُهُن أنْ يَضَعْنَّ حَمْلَهُنَّ} يوجب انقضاء العدة بوضع الحمل.
فجمع بين الآيتين في إثبات حكمهما في المتوفي عنها زوجها, وجعل انفضاء عدتها آخر الأجلين, من وضع الحمل أو مضي الشهور.
وقال ابن مسعود: من شاء باهلته, إن قوله تعالى:{وأولاتِ الأحمْال أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد قوله: {أرْبَعَةَ أشهُرٍ وعَشْراً}.
فاتفق الجميع على أن قوله: {وأولاتُ الأحمْالِ} عام في المطلقة والمتوفى عنها زوجها, وإن كان مذكوراً بعد ذكر الطلاق, لاعتبار الجميع الحمل في انقضاء العدة.
قالوا جميعاً: إن مضي الشهور لا تنقضي به عدتها إذا كانت حاملاً, حتى تضع حملها, فلا تعتبر الشهور معه, ولم يختلفوا في أن عدة الطلاق تنقضي بوضع الحمل, من غير ضم الأقراء إليها, وقد كان جائزاً أن يكون الحمل والأقراء مجموعين عدة لها, بأن لا تنقضي عدتها بوضع الحمل, حتى تحيض ثلاث حيض, فكذلك يجب أن تكون عدة الحامل المتوافي عنها زوجها في الحمل, غير مضموم اليه الشهور.(1/144)
وقال الأصم: إن الآيات في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق المرأة والأمة, فعدة الحرة والأمة سواء.
وهذا مذهب له وجه من حيث التوقيف, فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة, وقد استوت الحرة والأمة في النكاح, إلا أن الذي نصف, تلقاه من وجوب العدة باعتبار الحرمة, وحرمة الأمة دون حرمة الجرة, وهذا فيه ضعف, لاستواء المسلمة والكافرة الحرة في العدة ولأن العدة وجبت لحق الزوج, وحق الزوج بالإضافة إلى الحرة والأمة واحد, وهذا بين, فإن صح الخبر في قوله صلى الله عليه وسلم:
"طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان فهو متعلق, وإلا فالمتعلق ضعيف".
واختلف السلف في المتوفي عنها زوجها إذا لم تعلم بموته وبلغها الخبر.
فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء وجابر بن زيد: إن عدتها من يوم يموت, وكذلك الطلاق من يوم طلق, وهو قول فقهاء الأمصار.
وقال علي رضي الله عنه والحسن البصري:
يوم يأتيها الخبر في الموت, وفي الطلاق من يوم طلق.
وقوله تعالى: {والّذينَ يُتَوفّوْنَ} يدل على أنه يتعلق بالموت, وكذلك قوله: {والمُطَلّقاتُ} يدل على أن العدة متعلقة بالطلاق.
والذي ذهب اليه من اعتبر بلوغ الخبر، أن عدة الوفاة لحق الزوج, وإنما يتحقق ذلك إذا علمت واعتزلت وتركت الزينة عن اختيار, فإذا لم تعلم, فلا يتحقق هذا المعنى, وهذا بين, إلا أنها لو علمت موت الزوج, فلم تجتنب الزينة, انقضت عدتها، فعلم أن المعتبر في ذلك تقضي الوقت.
فأما السكنى فللمطلقة لقوله تعالى:
{أسكِنوُهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}.
والمتوفى عنها زوجها لم يذكر في القرآن سكناها.
وقد اختلف قول الشافعي, فيما إذا مات عنها زوجها وهي في منزل: فالذي عليه الأكثرون أنها لا تخرج.
ونقل عن الشافعي, فيما إذا مات عنها زوجها وهي في منزل: فالذي عليه ألأكثرون أنها لا تخرج.
ونقل عن الشافعي أنه قال: تخرج وتسكن أي منزل شاءت, إنما الاحداد في الزينة.(1/145)
وقد ورد في الخبر عن أخت أبي سعيد الخدري, أنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة وفاة زوجها أن ترجع الىأهلها من نبي عذرة, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله".
وليس في لفظ العدة في كتاب الله ما يدل على الإحداد, إلا أن الإحداد وجب بالسنة..
قوله تعالى: {ولا جناحَ عَلَيْكُم فيما عَرَضْتُم بِه مِن خُطْبةِ النِّساءِ}:
فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها, من غير إفصاح به.
وفيه دليل على نفي الحد بالتعريض بالقذف, فإن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح, فكذلك لا يحصل التعريض بالقذف كالتصريح, وإذا خالف الله تعالى بين حكمهما, بأن به تفاوت ذنبه ما بين التعريض والتصريح, والحدود مما يسقط بالشبهات, فهي في حكم السقوط والنفي آكد من النكاح, فإذا لم يساو التعريض في النكاح والتصريح, وهو آكد في باب الثبوت من الحد, كان أولى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بلفظ التعريض, لم يقع بينهما عقد النكاح, وكان تعريضه بالعقد مخالفاً للتصريح, فالحد أولى أن لا يثبت به, ومعلوم أن المراد بالتعريض قد يحصل في الخطبة, ولكنه دون التصريح فافترقا, وكذلك في القذف، وقد أمكن أن يكون التعريض بالقذف لا للمقذوف, ولكن لشخص آخر متصل به, وذلك الشخص لا يدري حاله.
وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطبة فاطمة بنت قيس وهي في العدة وقال:
"لا تفوتينا نفسك" وإنما كان يريد خطبتها لأسامة بن زيد, وفي ذلك رد على مالك في إيجابه الحد بالتعريض بالقذف, والاحتجاج بالتعريض بالخطبة على مالك، وهو لطيف..
وفي قوله تعالى: {ولا تَعْزِموا عُقدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجلَهُ} [235].
دليل على تحريم نكاح المعتدة.(1/146)
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة:235]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أنّكُمْ سَتَذْكُرونهُنَّ} [235] يعني بالتزويج, لرغبتكم فيهن, ولخوف أن لا يسبقكم إليهن غيركم, فأباح لهم التوصل إلى المراد بذلك التعريض دون الإفصاح.
وذلك يدل على جوازالتوصل إلى الأشياء من الوجوه المباحة, وإن كانت محظورة من وجوه أخر, نحو ما أشار الله تعالى إليه في ثمر خيبر، على ما بينه الفقهاء في كتبهم.
ولا خلاف بين الفقهاء: أن من عقد على أمرأة نكاحاً وهي في عدة غيره, أن النكاح فاسد.
وبلغ عمر, أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف وهي في عدتها, فأرسل اليهما وفرق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحها أبداً، وجعل الصداق في بيت المال, وفشا ذلك في الناس, فبلغ علياً رضي الله عنه ذلك فقال: "يرحم الله أمير المؤمنين, ما بال الصداق في بيت المال, إنهما إن جهلا فيجب على الإمام أن يردهما إلى السنة", فقيل له: "فما تقول فيه أنت".. فقال: "لها الصداق بما استحل به من فرجها, ويفرق بينهما, وتكمل عدتها من الأول, ثم تكمل عدتها من الآخر, ثم يكون خاطباً" فبلغ ذلك عمر فخطب الناس فقال:
"يا أيها الناس, ردوا الجهالات إلى السنة".
وقال مالك والأوزاعي والليث بن سعد: لا تحل له أبداً.
قال مالك والليث: ولا بملك اليمين, مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها.(1/147)
وفي اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على انتفاء الحد, دليل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد, إلا أنه مع الجهل بالتحريم, متفق عليه, ومع العلم به, مختلف فيه..
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة:236]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {لا جُناحَ عَلَيْكُم إنْ طَلّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضوا لهُنّ فَرِيضَةً} [236]:
تقدير الآية: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة.
وقد نزلت الآية في رجل من الأنصار, تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً, وطلقها قبل أن يمسها.
وكما دل على ذلك سبب النزول دل السياق عليه, فإنه تعالى قال معطوفاً عليه:
{وإنْ طَلّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُم لهُنَّ فرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ}.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة:237]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
2)…المهور
3)…المتعة
{وإنْ طَلّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُم لهُنَّ فرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [237]:(1/148)
فلو كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا، لما عطف عليها المفروض لها، فعلم أن معناه: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة, فيكون أو بمعنى الواو.
وقال تعالى في مثله:
{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أوْ كَفُوراً}.
وقال: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُم مِنَ الغائِطِ}.
معناه: وجاء أحد منكم من الغائط وكنتم مرضى أو مسافرين.
وهذا موجود في اللغة, وهو في النفي أظهر من دخولها عليه بمعنى الواو, مثل ما قدمناه من قوله:
{ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أوْ كَفوراً}.
وقوله: {وَعلى الّذينَ هادُوا حَرّمْنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِم شُحومَهُما إلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورَهُما أوٍ الحَوَايا أوْ ما اخْتَلَطَ بَعَظْمٍ}, "أو" في هذه المواضع هي بمعنى الواو..
وقوله تعالى: {لا جُناحَ عَلَيْكُم إنْ طَلّقْتُمُ النِساءَ ما لَمْ تَمسُّوهُنّ أو تَفْرضُوا لهنَّ فَرِيضَةً}. لما دخلت على المنفي كانت بمعنى الواو, فيشترط وجود المعنيين, لوجوب المتعة على هذا التقدير.
وفي عموم قوله: {ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}, دليل على جواز الطلاق في حالة الحيض قبل الدخول.
وقد زعم قوم أن المتعة ندب, وهو قول مالك, وذكروا أن قوله تعالى: {حَقّاً عَلى المُتّقينَ}, يدل على أنه ليس بأمر جزم فإن التقوى لا تدرى.
و لا شك أن عموم الأمر بالامتاع في قوله: {ومتعوهن}.
وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: {وللْمُطَلّقاتِ مَتاعٌ} يظهر في الوجوب, وقوله {للمُتقِينَ} تأكيد لإيجابها, لأن كل أحد يجب عليه أن يتقي الله تعالى في الإشراك به ومعاصيه, وقد قال الله تعالى في القرآن: {هُدَىً لِلمُتّقِين}.
ومالك يقول: إن الأصل أن لا يجب للمطلقة شيء, إذا عاد البضع سليماً إليها, كما لا يجب للبائع شيء, إذا رجع المبيع سليماً اليه.(1/149)
فقياس ذلك نفي المتعة, وهذا ضعيف, فإن هذا القياس, كان لمنع وجوب عوض البضع وهو المهر للمفوضة, وليس فيه ما ينفي المتعة التي وجبت في مقابلة الأذى الحاصل بالطلاق, وليس في قياس الأصول ما يدفع ذلك بوجه, وهذا يقتضي أن لا يكون للمملوكة متعة, إذا طلقت قبل الفرض والمس, لأن المتعة تكون للسيد, وهو لا يستحق مالاً في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق, ولا أعلم أحداً قال ذلك سوى الأوزاعي والثورى, فإنهما زعما أن لا متعة في هذه الحالة.
وذكر أصحاب أبي حنيفة, ان مهر المثل مستحق بالعقد, والمتعة هي بعض مهر المثل, فتجب لها, كما يجب نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول.
وقال محمد بن الحسن: لو رهنها بمهر المثل رهناً, وطلقها قبل الدخول, كان رهناً بالمتعة, ومحبوساً بها, إن هلك هلك بها.
وذلك بعيد, مع الاتفاق على سقوط مهر المثل بالطلاق قبل الدخول وليست المتعة بدلاً عن البضع, فإن المعتبر به حال الرجل ينص كتاب الله تعالى:
{عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقَتّرِ قَدَرُهُ} [236].
فدل ذلك على أنها ليست بدلاً عن البضع.
كيف؟ والمتعة وجبت في حالة سقوط حقه عن بضعها, والمهر في مقابلة استحقاقه بعضها, فبينهما تضاد في الحقيقة, لأن أحدهما يدل لاجتماعهما, والآخر لافتراقهما.
وسبب المتعة أذية حصلت بالطلاق, وهو أيضاً في طريق النظر مشكل, فإن الزوج إذا جاز له أن يطلقها فإنما أسقط حقاً لنفسه, فمن أين يجب عليه مال لها من جهة أنها لا تريد فراقه؟
ولو وجب لها شيء, فإنما يجب لأنه فوت عليها حقها, وذلك يمنع كون الطلاق مباحاً.
وعلى أنه لو كانت المتعة صداقاً, أو عوضاً عن صداق, لما صح الترغيب في المتعة التي تستحق المهر بالمسيس, والترغيب في الأحوال كلها في الامتاع واحد.(1/150)
وذلك يؤكد قول مالك في أن محل المتع كلها واحد, كما أن محل الصدق واحد, فالمتعة قي الأحوال كلها بعد الفراق, والصداق قبله, فدل مجموع ذلك على أن تعرية النكاح عن المهر ممكنة, وفي ذلك سقوط قول الذين زعموا أن المتعة عوض عن الصداقة أو عن البضع.
نعم, لا خلاف أن المطلقة قبل الدخول, لا تستحق المتعة على وجه الوجوب, إذا وجب لها نصف المهر المسمى, فذلك يوهم كون المتعة قائمة مقام المهر, لأنها وجبت حيث لا فرض, ولم تجب عند من أوجبها, حيث ثبت نصف المفروض.
ويجاب عنه, بأن العلة فيه, أنه لما رجع البضع اليها مع نصف المفروض, حصل به التسلي, فزال معنى التأذي بالفراق, فلم تجب المتعة لعدم سببها, وهو التأذي بالفراق.
وأما قوله تعالى: {وللْمُطَلّقاتِ مَتاعٌ بالمَعْرُوفِ} عام في حق المطلقات.
واختلف قول الشافعي رحمه الله في حق المطلقة للدخول بها, وظاهر العموم لا يقتضي التردد, إلا أنه ربما قيل: إن المطلقة بعد المس، استحقت المهر في مقابلة وطء تقدم, فلم يرجع البضع اليها سليماً، حتى يكون ذلك مانعاً من التأذي بالفراق الذي هو سبب المتعة.
ويقال في معارضة ذلك: إن المهر كان في مقابلة وطئات العمر، وقد عاد اليها ذلك مع كمال المهر, فيتردد ويتفاوت النظر, فلا جرم, اختلف قول الشافعي فيه.
فأما تقدير المتعة فإن الله تعالى يقول: {ومَتِّعوهُنَّ على المُوسِعِ قَدْرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بالمَعْرُوفِ}.
وذلك يقتضي بظاهره اعتبار حال الرجل, وذلك يختلف باختلاف الأزمنة.
وذكر بعض علمائنا, أن حالها معتبر مع ذلك ايضاً, ولو اعتبرنا حال الرجل وحده, لزم منه أنه لو تزوج بامرأتين, إحداهما شريفة والأخرى دنية, ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما, أن يكونا متساويين في المتعة, فيجب للشريفة مثل ما يجب للدنية, والله تعالى يقول: {وللمُطَلّقاتِ مَتَاعٌ بالمَعْرُوفِ} وليس ذلك من المعروف, بل هو في العرف منكر.(1/151)
ويلزم منه: أن الموسر العظيم اليسار، إذا تزوج امرأة دنية فهو مثلها, وبيانه: أنه لو دخل بها، وجب لها مهر مثلها إن لم يسم لها شيئاً, ولو طلقها قبل الدخول, لزمته المتعة على قدر حاله, فيكون ذلك أضعاف مهر مثلها, فتستحق قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول, وذلك يقتضي أن لا يزاد على قدر المهر الواجب بأعلى غايات الابتذال وهو الوطء.
1)…الطلاق
2)…الصلاة
ثم قوله تعالى: {وإنْ طَلّقْتُموهُنَّ مَنْ قَبْلِ أنْ تَمَسّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لهُنّ فَرِيضَةً} [237].
المراد بالفرض هاهنا, تقدير المهر وتسميته في العقد, وإنما فهم منه الفرض في العقد, لأنه ذكر المطلقة التي لم يسم لها فرضاً بقوله تعالى:
{إنْ طَلّقْتُم النساءَ ما لَمْ تمَسّوهُنّ أوْ تَفْرضوا لهُنَّ فريضةً}, وذلك يفتضي أن يعقب بذكر من فرض لها في العقد وطلقت.
فأما المفروض لها بعد العقد, إذا طلقت قبل الدخول:
فقال أبو حنيفة: ليس لها مهر مثلها.
ومالك والشافعي وأبو يوسف: يجعلون لها نصف الفرض.
ويجعل أبوحنيفة المفروض بعد العقد, كالذي لم يفرض, ويوجب المتعة, وليس له في ذلك مستند ومرجع, فإن المفروض بعد العقد, إذا ألحق بالعقد, فلم لا يلحقه في حكم التشطير؟ واختلاف زمان الفرض لا يغير حقيقة المفروض.
وقوله تعالى: {فَنِصْفُ ما فَرَضْتُم} يتناول - بطريق العموم - ما بعد العقد.
ولو توهم متوهم, أن فيما قبله ما يمنع من هذا العموم, فليس كذلك, فإن ما قبله عدم الفرض مطلقاً, وما بعده إثبات الفرص, وإثبات الفرض يعم الأحوال.
ولو كان النص على المفروض عند العقد, كنا نلحق به المفروض بعد العقد بطريق الاعتبار, مثل إلحاق الشيء, بمثل ما في معناه..
قوله تعالى: {وإنْ طَلّقْتُموهُنَّ مِنْ قَبلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُم لهُنَّ فرِيضةً}, يقوي أحد قولي الشافعي, وأن مجرد الخلوة لا تقرر المهر..(1/152)
قوله تعالى: {إلاّ أنْ يَعْفُونَ} [237] معناه: الزوجات يكون عفوها ان تترك الصداق, وهو النصف الذي جعله الله تعالى من بعد الطلاق, بقوله: {فَنِصفُ ما فَرَضْتم}.
وقد يكون الصداق عقاراً وعيناً معينة, فلا يصح العفو فيه, ولكن معنى العفو, هو تركها الصداق عليه على الوجه الجائز في عقود التمليكات, بأن تملكه إياه بغير عوض.
والعفو التسهيل: يقال: جاء الأمر عفواً, أي سهلاً سمحاً من غير تعويق.
فقال الشافعي: "في هذا دلالة على جواز هبة المشاع فيما ينقسم وفيما لا ينقسم, لإباحة الله تعالى تمليك نصف المفروض الثابت بعد الطلاق". ولم يفرق بين ما كان منها عيناً أو ديناً, وما يحتمل القسمة وما لا يحتملها, فوجب اتباع موجب الآية في جواز هبة المشاع.
نعم: العفو كناية عن التمليك فتقديره: إلا أن يهبن نصف المهر ويتركنه على الأزواج, فكان اللفظ عاماً في جميع ما كان صداقاً.
نعم يجوز أن يقال إنه لم يتعرض الشرع لشروط الهبة كالقبض وغيره, فإن ذلك ليس مقصوداً بالذكر, وإنما المقصود منه أن كل ما دخل تحت الصداق يصح منه هبة نصفه وتركه على الزوج, فلئن لم يتعرض كتاب الله تعالى لشروط العفو, فدلالته على أن ما دخل تحت الصداق يجب أن يدخل تحت العفو قائمة.
قوله: {أوْ يَعفْو الّذي بيدِهِ عُقدَةُ النِّكاح} فقد اختلف السلف فيه.
فقال علي وجبير بن مطعم, وابن المسيب وقتادة: هو الزوج.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأصح قولي الشافعي.
وقال مالك: هو الأب في حق البكر, وهو رواية عن ابن عباس.
ولا شك بأن قوله: {بيدِهِ عُقدَةُ النِّكاحِ}، محتمل للوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما, فينظر في أقرب الوجهين إلى معاني الشرع والأصول المحكمة, التي ترد المتشابهات إليها, وقد قال تعالى:
{وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلةً فإن طِبنَ لَكُمْ عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فكُلوهُ هَنيئاً مَرِيئاً}.
فذكر تركه الصداق عليها, وتركها الصداق عليه.(1/153)
فاللائق بالبيان هاهنا أيضاً: أنه إذا ذكر العفو من أحد الزوجين, ذكر من الزوج الآخر, وقال تعالى:
{وإنْ أرَدْتُم استِبْدالَ زوْجٍ مكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُم إحداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تأخُذوا مِنهُ شَيْئاً}.
وقال: {وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أنْ تأخُذوا مِما أتَيْتُموهُنَّ شَيئاً}.
وكل ذلك منع للزوج من انتزاع شيء منها، إلا أن تترك هي عليه, أو يترك هو عليها, ما استحق استرجاعه منها قبل الدخول.
ولأن قوله: {أوْ يَعْفو الّذي بيدِهِ عُقدَةُ النِّكاحِ}, يقتضي كون العقد موجوداً في يد من هو في يده, فأما عقد غير موجود, فليس في يد أحد.
نعم بعد الطلاق, ليس العقد الذي كان بيد الزوج في الحال، ولكنه كان بيد الزوج, والذي كان من العقد ليس هو بيد الزوج, ولكنه كان عند وجوده بيد الزوج, ولأنه قال:
{وَلا تَنْسَوْا الفَضْلَ بَيْنَكُم} [237] فندب إلى الفضل.
وقال: {وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ للِتّقْوَى} [237], وليس في هبة مال الغير إفضال منه إلى غيره.
والمرأة لم يكن منها إفضال ولا تقوى, في هبة مال الغير بغير إذن مالكه..
ولأن الصداق تارة يكون عيناً, وتارة يكون ديناً, وليس للولي في هبة مالها المعين المشار اليه دخل.
فهذه الأنواع تدل على صحة قولنا: إن المراد به الزوج, هذا ما يتعلق باللفظ.
وأما ما يتعلق بقياس الأصول فبين, غير أن أقوى ما يرد عليه, أنا إذا تنازعنا معنى اللفظ, وقوله {بيدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ}, يبعد أن يراد به الزوج وقد طلق قبل المس, وإنما يظهر ذلك الولي الذي بيده أن يعقد النكاح, وقال تعالى:
{وَلا تَعْزِموا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ} [235].(1/154)
ويجاب عنه بأن قوله: {بيدِه عُقْدَةُ النِّكاحِ}, يبعد فهم الولي منه, بالإضافة ألى عقد كان, فإن إلى الولي أن يعقد عقداً آخر غير الأول, وبيده أن يعقد عقداً غير موجود, وليس بيده عقدة معدومة, وثبوت الولاية له في أن يعقد عقداً آخر, لا يقتضي جواز عقده في نكاح مضى, وليس بيده ما قد مضى, ولا كان الذي مضى بيده عقدته عند وجوده, وهذا ظاهر كما ترى.
نعم هو أولى بالزوج, لأن الله تعالى أراج أن يميز المرأة عن الزوج بوصف يختص به الزوج, وهو أن بيده عقدة النكاح, فكان ذلك كناية عن الأزواج على وجه مستحسن, وكان المعنى فيه: أن الله تعالى رغب الزوجة في العفو, لأن الزوج لم ينل منها شيئاً يقوم مقام ما أوجبه على نفسه, فذكر ما يتعلق بأحد النصفين, ثم عاد وذكر النصف الآخر فقال:
{أوْ يَعفُو الذي بيدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ}.
رغب الزوج في أن يثبت على ما ساقه اليها وقد ابتذلها بالطلاق, وقطع طمعها في وصلته, ولذلك قال:
{وَلا يحِلُّ لَكُمْ أنْ تأخذوا مِمّا أتَيْتُموهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أنْ يخَافا ألاَّ يُقِيما حُدودَ اللهِ} [229].
فإن قيل: فقد قال الله تعالى:
{وإن طلّقْتُموهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تمَسُّوهُنَّ} الآية.
وذلك بيان الحكم في الأزواج, ثم قال:
{فَنِصْفُ ما فَرَضْتُم إلاَّ أَن يَعفْونَ أو يَعفو الذي بيدِهِ عُقْدةَ النِّكاحِ}.
وقد ذكر بلفظ المغايبة عادلاً عن المخاطبة, ولو كان المراد به الزوج, لقال: إلا أن تعفون أو يعفو, ليكون جارياً على نسق التلاوة, وموجب سابق الخطاب.
ويجاب عنه: بأن الله تعالى أراد أن يبين بطريق الكناية, صفة تتميز بها المرأة عن الرجل, فعدل عن المخاطبة إلى قوله: {أو يَعْفو الذي ببدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ}.(1/155)
فإن قيل: لما قال تعالى: {فنِصْفُ ما فَرَضْتُم إلا أنْ يَعفونَ أو يَعْفُو}, اقتضى ذلك من حيث الظاهر, أن يكون عفوهن وعفو الذي بيده عقدة النكاح, راجعاً إلى النصف المذكور, وهذا يدل على بعد حمل المطلق على الزوج.
ويجاب عنه: بأن قوله: {فَنِصْفُ ما فَرضْتم}, تعرض لأحد النصفين, فلا يبعد أن يتعرض للنصف الآخر, ليكون حكم العفو في جميع الصداق مذكوراً.
فإن قيل قوله: {إلاَّ أنْ يَعْفونَ} يرجع إلى حق وجب لها عليه, فيصح منها العفو عن ذلك بأن تتركه عليه، فأما إذا سقط النصف الآخر، فلم يجب له عليها حق حتى يعفو عنه.
نعم له أن يهب لها شيئاً من ماله, وذلك الذي يهبه ليس صداقاً ولا من جملته, فلا يتحقق معنى العفو فيه, وإنما هو على معنى الهبة, والعفو إنما يتحقق في شيء مستحق لها عليه.
فيجاب عنه: بأنه يتحقق معنى العفو, بأن يكون قد سلم الصداق اليها, فلما طلقها رجع عليها بنصفه, فإذا عفا فمعناه: ترك حقه عليها, وإن كان بطريق الهبة.
وقد بينا أن الصداق تارة يكون عيناً, وتارة يكون ديناً, ولا يتحقق معنى العفو فيه, إلا أن يجعل العفو كناية عن الهبة بضرب من المجاز.
وأقوى كلام لمن يحمل على الولي, أن العفو منهما يجب أن يرجع إلى النصف المذكور, لا إلى النصف الذي لم يجر له ذكر, وقد ذكرنا الكلام عليه.
والذي وجه عليهم من قوله تعالى {وأنْ تَعْفُوا أقرَبُ للتّقْوَى} [237], وأن ذلك إنما يتحقق في الذي يسقط حق نفسه لا حق غيره, فهو أقوى كلام عليهم, في أن المراد به الزوج.
ولكن ربما يقولون: عنى به الذي بيده عقدة النكاح والنساء, ولأن الذي بيده عقدة النكاح أفرد ذكره, ولو كان هو المعنى لقال: "وأن تعفوا أنتم أقرب للتقوى".
ولو عنى به جميع النساء لقال: وأن تعفون, فلما قال: {وأن تَعْفُوا} جمع بينهما, وإذا جمع النساء مع الرجال, كان جمعهم على التذكير.(1/156)
وهذا غلط عظيم, فإنه إذا ذكر الجميع وغلب لفظ التذكير لأجل إرادة الولي, لزم منه أن يكون العفو أقرب للتقوى في حق الولي, كما كان أقرب للتقوى في حق الزوج والمرأة, وذلك محال.
قوله تعالى: {حافِظُوا على الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى}[237]:
يدل على تأكيد الأمر في الصلاة الوسطى.
ويدل على المفروضات المعهودات في اليوم والليلة, فإن دخول الألف واللام عليها إشارة إلى معهود.
فأما الوسطى, فلا تبين إلا إذا بانت الأولى والأخرى.
وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: هي الظهر, لأنه عليه السلام, كان يصلي في الهجير, فلا يكون وراءه إلا القليل, وذلك أن الناس في قائلتهم وفي تجارتهم, فلما كانت أثقل الصلوات على الصحابة أنزل الله ذلك.
وقال زيد بن ثابت: إنما سماها الله الوسطى, لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
ولا شك أن ما من صلاة من الصلوات الخمس بعينها, إلا وقبلها صلاتان وبعدها صلاتان.
وقال عمر وابن عباس: هي العصر, وفي بعض مصاحف الصحابة: تعبير العصر: إما تفسيراً, وإما قراءة منسوخة.
وفي بعض الأخبار عن علي رضي الله عنه أنه قال: قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى قربت الشمس أن تغيب, فقال النبي عليه السلام:
"اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى ناراً".
وقال علي رضي الله عنه: "كنا نرى أنها صلاة الفجر".
وعن ابن عباس عن النبي عليه السلام مثل ذلك.
وذكروا أن العصر سميت الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة النهار، وصلاتين من صلاة الليل.
وقيل: إن أول الصلوات كان وجوب الفجر, وآخرها العشاء, فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب.
ومن قال الوسطى هي الظهر, قال: لأنها وسطى صلاة النهار من الفجر والعصر.
ومن قال الصبح, فقد قال ابن عباس: لأنها تصلي في سواد من الليل, وبياض من النهار, فجعلها وسطى في الوقت.(1/157)
والرواية عن ابن عباس في ذلك صحيحة, لم يختلف الثقاة فيها, فلذلك اختار الشافعي أن الوسطى هي صلاة الصبح, وإفرادها مبين, في قوله {أقِمِ الصَّلاةَ} - إلى قوله: {وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفجْرِ كانَ مَشْهودا}.
واعلم أن الوسطى إنما تقدر في العدد الوتر, فإنك إذا أخذت واحدة بقيت أربعة: اثنتان قبلها واثنتان بعدها, وذلك يقتضي إخراج الوتر من الواجبات, لأنها تكون ستا مع الوتر, فلا تكون الواحدة منها وسطى في الإيجاب, إلا أن يقال إنها الظهر, لأنها بين صلاتي نهار, الفجر والعصر، فيقدر العدد الوتر لصلوات النهار, وذلك ضعيف جداً.
فإن قوله: {حافِظوا عَلى الصَّلَوات} انصرف إلى الصلوات الخمس المعهودة بجملتها, فتبعيضها خلاف المفروض قطعاً.
وقد قيل إنها وسطى الصلوات المكتوبات, وليس الوتر من المكتوبات لأنه يسمى واجباً، وهذا أيضاً ضعيف, لأن الاختلاف في التسمية كان لتمييز المختلف فيه بين العلماء, من المتفق عليه, ولا يجوز أن يكون ذلك معتبراً عند الله في إخراج الوتر عن جملة الواجبات, لاختلاف يقع بين العلماء في عبارة, فيضعوا سمة للمختلف فيه, وأخرى للمتفق عليه.
وأقرب ما قيل في دفع ذلك: أن وجوب الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات, لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله زادكم صلاة وهي الوتر".
وإنما سميت وسطى بعد الوتر, وهذا لأنه ادعاء نسخ للذي ورد في القرآن من معنى الوسطى, بالاحتمال المجرد, وذلك لا وجه له.
قوله: {وَقُومُوا للهِ قانِتِينَ}.
إعلم أن القنوت في أصل اللغة هو الدوام على الشيء, قال ابن عباس: قوموا لله قانتين: أي مطيعين.
وقال ابن عمر: القنوت هو طول القيام, وقرأ {أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللّيْلِ} وقال صلى الله عليه وسلم:
"أفضل الصلاة طول القنوت" يعني القيام.(1/158)
وقال مجاهد: القنوت هو السكوت, والقنوت الطاعة, ومن حيث كان أصل القنوت الدوام على الشيء، جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتاً. وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة, أو أطال الخنوع والسكوت, كل هؤلاء فاعلون للقنوت..
وروى أن النبي عليه السلام قنت شهراً, يدعو فيه على حي من أحياء العرب - أراد به إطالة قيام الدعاء.
وروي عن أبي عمرو الشيباني قال:
"كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى: {وقُوموا للهِ قانِتينَ} فأمرنا بالسكوت".
فأبان أن ذلك يقتضي النهي عن الكلام في الصلاة, وكذلك قال زيد ابن أرقم.
وقد ورد القنوت في القرآن لا بمعنى السكوت في قوله:
{ومَن يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسولَهُ} والمراد به الخشوع والطاعة.
وقال في موضع آخر: {وأطِعْنَ اللهَ وَرَسولَهُ}.
وقال في قصة مريم: {اقْنُتي لِرَبِّكِ}.
ورد التفسير عن مجاهد, أنها كانت تقوم حتى تتورم قدماها.
والشافعي يرى أن الأمر بالسكوت إنما يتناول العالم بالصلاة, فأما الساهي عن الشيء, فلا يتناوله الأمر, وهذا مما لا يشك فيه محصل.
وروى الشافعي حديث ذي اليدين, أن أبا هريرة قا ل: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صلاتي العشاء الظهر أو العصر.
وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة, لأن ابن مسعود لما قدم من أرض الحبشة, كان الكلام محرماً, لأنه سلم على النبي عليه السلام فلم يرد عليه, وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة.
فإن قال قائل: قد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضاً, وقد كان قال صلى الله عليه وسلم:
"التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" فلم لم يسبحوا؟
فيقال: لعله في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولانه ورد في الخبر أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم, صلى ركعتين, ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد, فوضع يديه عليها, إحداهما على الأخرى, يعرف الغضب في وجهه, وخرج سرعان الناس فقالوا:
أقصرت الصلاة؟(1/159)
فقام رجل طويل اليدين - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين - فقال: يا رسول الله, أنسيت أم قصرت الصلاة؟
فأقبل على القوم فقال: أصدق ذو اليدين؟..فقالوا: نعم, فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي السهو".
فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام, ولم يمنعه ذلك من البناء, ولم يسبحوا, لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت.
وقال بعض المخالفين: قول أبي هريرة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو منهم كما روي عن البراء ابن سبرة أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف, وأنتم اليوم بنو عبد الله, ونحن اليوم بنو عبد الله"، وإنما عنى به أنه قال لقومه.
وهذا بعيد, فإنه لا يجوز أن يقول "صلى بنا", وهو إذا ذاك كافراً ليس أهلاً للصلاة, ويكون ذلك كذباً, وفي حديث البراء هو كان في حملة القوم, وسمع من رسول الله ما سمع.
{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:239]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكْباناً} [239]:
لما ذكر الله تعالى وجوب الصلاة بشروطها وحدودها, وأمر بالقنوت والصمت وملازمة الخشوع وترك العمل, قا ل:
{فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكباناً}, أرخص في جواز ترك بعض الشروط, تعظيماً لأمرها, وتأكيداً لوجوبها.
وقد روي عن ابن عمر في صلاة الخوف أنه قال:
إن كان خوفاً أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم, أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
قال نافع: لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وإذا ثبت جواز ترك الشروط, ففيه دليل على أن الصلاة لا تفسد، خلافاً لأبي حنيفة.(1/160)
وفي الآية أيضاً دليل على أن الماشي يصلي في القتال على حسب حاله, لأنه تعالى قال: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكْباناً}.
مالك يقول: الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة, والأمر بالقنوت لا فرق فيه بين كلام وكلام..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [البقرة:243]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذينَ خَرَجوا مِنْ ديِارِهِمْ } الآية [243]:
قد قيل إنهم فروا من الطاعون.
وقيل إنهم فروا من القتال.
وقد كره قوم الفرار من الطاعون والوباء والأراضي السقيمة.
وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة, وفيها أنه رجع, وروى عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم أن الطاعون في أرض فلا تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه" فحمد عمر الله تعالى وانصرف.
وبالجملة, الفرار منه يجوز أن يكره, لما فيه من تخلية البلاد, ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها, ولا يتأتى لهم ذلك, ويتأذون بخلو البلاد عن المياسير, الذين كانوا أركاناً للبلاد, ومغوثة للمستضعفين.
وإذا كان الوباء بأرض فلا يدخلها, لئلا يلحقه الغموم والكرب في المقام, مع الوجل الذي لا يخلو منه الانسان, وذلك يشغله عن مهمات دينه ودنياه.
ولما عزم عمر على الرجوع فقال له أبو عبيدة:
أفراراً من قدر الله؟.. فقال له عمر:(1/161)
لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة, نفر من قدر الله إلى قدر الله, أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت بها وادياً له عدوتان, إحداهما خصبة والأخرى جدبة, أليس إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله, وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله؟..
ولا نعلم خلافاً, في أن الكفار أو قطاع الطريق, إذا ما قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين, فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم, وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد وى تنقص..
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:244]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (البيان)
قوله تعالى: {وقاتِلوا في سَبيلِ اللهِ واعْلَموا أنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [244]:
من قبيل ما تأخر بيانه إلى وقت الحاجة، لأن السبيل مجمل، وقد بينه في مواضع عدة..
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة:245]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصدقات
قوله: {مَنْ ذا الّذي يُقْرِضُ اللهَ قرضاً حَسَناً فيضاعفهُ لهُ أضعافاً كثيرةً} [245].
ترغيب في أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير، بألطف كلام وأبلغه.
وسماه قرضاً تأكيداً لاستحقاق الثواب به, إذا لا يكون قرضاً إلا والعوض مستحق به, فكأنه قال: أوجبت لكم عبادي العوض.
فجهلت اليهود أو تجاهلت وقالت:
"إن الله يستقرض منا فنحن إذاً أغنياء وهو فقير إلينا".
وعرف المسلمون معنى الكلام, ووثقوا بوعد الله وثوابه, فبادروا إلى الصدقات, فكان ذلك في التلطف والترغيب, بمثابة الرأفة والرحمة, وإن كانت الرحمة منا تدل على رقة وتحزن وتأثر يلحقه.
وكذلك القول في الغضب المضاف إلى الله تعالى.
والعجب من الجهال كيف لم يفهموا هذه الكنايات.(1/162)
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:247]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإمامة الكبرى
2)…الجهاد
قوله عز وجل: {إنّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لكُمْ طالوتَ مَلِكاً قالوا أنّى يكونُ لهُ المُلْكُ عَلَيْنا} الآية [247]:
يدل على أن الزعامة والإمامة ليست وراثة متعلقة بأهل بيت النبوة ولا الملك, وأن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب, ولا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس, وأنها مقدمة عليه.
فإن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته, وإن كانوا أشرف منه نسباً.
وذكر الجسم هاهنا, كناية عن فضل قوته, لاقتران فضل القوة بزيادة الجسم غالباً, ولم يرد به عظم الجسم بلا قوة, لأن ذلك لا حظ له في القتال, بل هو وبال على صاحبه إذا لم يكن به قوة فاضلة..
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:249](1/163)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول الفقه (الإستثناء)
2)…الأيمان
قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بيَدِهِ} [249].
وذكر أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة في أحكام القرآن: أن ذلك يدل على أن الشرب من النهر, إنما يكون بالكرع فيه, ووضع الشقه عليه, لأنه كان حظر الشرب منه إلا لمن اغترف غرفة بيده, وهذا يدل على أن الاغتراف منه ليس بشرب, وهو تصحيح لقول أبي حنيفة فيمن قال:
"إن شربت من ماء الفرات فعبدي حر", أنه محمول على أن يكرع فيه, فأما إذا اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث".
وهذا بعيد, فإن الله تعالى أراد ابتلاءهم بالنهر, ليتبين المحقق بنيته في الجهاد من المعذر, فمن شرب منه - أي من مائة - فأكثر, فقد عصى الله تعالى, ومن اغترف غرفة بيده أقنعته.
فهجموا على النهر بعد عطش شديد, فوقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب, فإن ذلك ضعف نيتهم في أنهم يجبنون عن لقاء العدو، وأطاع قوم قليل عددهم, فلم يزيدوا على الاغتراف ضابطين لأنفسهم, فأبانوا بذلك عن ضبطهم لأنفسهم, وصبرهم في الشدائد, وقوى الله بذلك قلوبهم.
وليس حكم اليمين مأخوذاً من هذا الجنس, بل هو مأخوذ من دلالة اللفظ, يدل عليه أن الآية حجة عليهم من وجه آخر, فإنه قال: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} {إلاَّمَنِ اغْترَفَ غُرْفَةً بيدِه}, فاستثنى المغترف من الشارب, ولو لم يكن اللفظ الأول دالاً عليه, لما صح الاستثناء منه إلا بتقدير, كونه استثناء منقطعاً, وظاهر الاستثناء يدل على خلافه.
1)…الجهاد
قوله تعالى: {لا إكْراهَ في الدِّينِ} [256]:
قال كثير من المفسرين: هو منسوخ بآية القتال.
وروي عن الحسن وقتادة, أنها خاصة في أهل الكتاب الذين يقرون على الجزية, دون مشركي العرب, فإنهم لا يقرون على الجزية, ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.(1/164)
وكل ذلك محتمل, يجوز أن يكون قد نزل قبل الأمر بالقتال, فلما لاح عنادهم, أُمِرَ المسلمون بقتالهم..
نعم, مشركو العرب والعجم, لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف, وكذلك المرتد..
فإن قال قائل: فما معنى إكراههم على الإسلام, وأن لا يقبل منهم الجزية؟ وكيف يتحقق إكراهه على الإسلام, وذلك لا ينفعه عند الله تعالى؟.. وما معنى الحمل على ما لا ينفع؟.. ولأي معنى فرق بين المشرك والكتابي في هذا المعنى, والعناد الداعي إلى القتال كان في حق أهل الكتاب أشد, وقد وصفهم الله تعالى بأنهم حرفوا وكتموا الحق من بعدعلمه, والمشركون كانوا أبعد من ذلك؟..
والجواب: أن الكفار أكرهوا على إظهار الإسلام, لا على الاعتقاد الذي لا يصح الإكراه عليه.
نعم, الدليل منصوب على تبديل الباطل بالحق, اعتقاداً بالقلب وإظهاراً باللسان.
لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الاسلام, اقتضت منهم إظهاره, والقتال لإظهار الاسلام, وكانت الحكمة في ذلك أن مجالسته المسلمين, وسماعه للقرآن, ومشاهدته لدلائل الرسول عليه السلام, مع ترادفها عليه تدعوه إلى الإسلام, وتوضح عنده فساد اعتقاده.
والحكمة الثانية, أن في نسلهم من يعتقد التوحيد, فلم يجز أن يقتلوا, مع العلم بأنه سيكون من أولادهم من يعتقد الاسلام والإيمان.
ولما أعلم الله تعالى نوحاً, أن قومه لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، لا جرم دعا عليهم بالهلاك والاستئصال.
ويجوز أن يكون اختلاف أحوال أهل الشرك, وأهل الكتاب في ذلك, أن الكتابي إذا خالطنا, ورأى توافق ما بين الشرائع, وصدق الإعلام والآيات, كان ذلك أدعى إلى ايمانه, فإن كتب الله يصدق بعضها بعضاً، فهذا هو السبب في الفرق بين الكتابي والمشرك, لا جرم إذا قبل الجزية, فلا يجوز إكرامه على الإسلام, وإذا أكره عليه لم يصح إسلامه, خلافاً لأبي حنيفة فإنه حكم بإسلامه, مع أن الردة لا يثبت حكمها حالة الإكراه.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/165)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [البقرة:258]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…جواز المُحاجة في الدين
قوله تعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذي حَاجَّ إبْراهِيمَ في رَبّهِ أنْ آتاهُ اللهُ المُلْكَ} [258]:
يدل على تسمية الكافر ملكاً, إذا آتاه الله الملك والعز والرفعة في الدنيا.
ويدل على جواز المحاجة في الدين, وأن لا فرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض الباطل.
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:259]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الكذب
2)…العصمة
قوله: {كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عامٍ} [259]:
يدل على أن قول هذا القائل, لم يكن كذباً, لأنه أخبر عما عنده, فكأنه قال: عندي أني لبثت يوماً أو بعض يوم.(1/166)
ومثله قول أصحاب الكهف: {لَبِثْنا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ}, وإنما لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين, ولم يكونوا كاذبين, لأنهم أخبروا بما عندهم, كأنهم قالوا: الذي عندنا, وفي ظنوننا, أنا لبثنا يوماً أو بعض يوم.
ونظيره قول النبي عليه السلام في قصة ذي اليدين: لم أقصر ولم أنس.
وفي الناس من يقول: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب منه, ولكن لا نؤاخذه به, وإلا فالكذب هو الإخبار عن الشيء, على خلاف ما هو به, وذلك لا يختلف بالعلم والجهل, وهذا بين في نظر الأصول, فعلى هذا يجوز أن يقال:
إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به, إذا لم يكن عن قصد, كما لا يعصمون عن السهو والنسيان, فهذا ما يتعلق بهذه الآية..
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [البقرة:267]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدَّيْن
2)…الزكاة
قوله تعالى: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ ما كَسَبْتُمْ} [267]:
يعم الفرض والنفل, من طريق الندب والوجوب, وإن كان الأمر أظهر في جهة الوجوب, إلا أن تقوم دلالة الندب.
فمن هذا الوجه يظهر أن يقال: هو أولى بالواجب.
ومن جهة أخرى, وهو أن في النفل أداء القليل والكثير والجيد والرديء.
وقوله: {وَلَسْتُمْ بآخِذيهِ}, يؤكد الاختصاص بالواجب, فإن هذا الكلام, إنما يذكر في الديون إذا اقتضاها طالبها, ولا يتسامح بالرديء عن الجيد, إلا على إغماض وتساهل.
والرد إلى الإغماض في اقتضاء الدين, يدل على أن ذلك وارد في قضاء دين الله تعالى, وأن الجنس الرديء, إذا لم يخف عليكم, فكيف يخفى علي؟..(1/167)
وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقوله: {وَممّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} [267] أن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره, وفي سائر الأصناف, ورأو ظاهر الأمر الوجوب, وهذا بعيد.
فإن المراد به, بيان الجهات التي تعلق حق الله تعالى بها, وليس ذكر مقدار ما وجب فيه الحق مقصوداً, ولا بيان مالاً زكاة فيه, ولذلك لم يتعرض للنصاب في كل ما يعتبر فيه النصاب شرعاً, ولم يذكر من جنس ما يكتسب ما تتعلق الزكاة به, وإن لم تتعلق الزكاة بكل ما يكتسب, وهذا بين في خروج الآية عن الدلالة على مقصودهم.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة:271]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله: {إنْ تُبْدوُا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [271].
فيه دلالة على أن إخفاء الصدقات مطلقاً أولى, وأنها حق الفقير, وأنه يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه, على ما هو أحد قولى الشافعي.
وعلى القول الآخر, ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا, هو التطوع بعد الفرض الذي إظهاره أولى, لئلا تلحقه تهمة, ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل, والجماعة في الفرض أولى, لأن إظهار الفرض أبعد عن التهمة.
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة:272]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قال الله تعالى:(1/168)
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيَ مَنْ يَشَاءُ} [272].
ظاهر السياق, تعلق الكلام بما تقدم من قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}.
وذكر بعد قوله {مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} [272], فدل المساق والمتقدم, على أن المراد به الصدقة عليهم, وإن لم يكونوا على دين الإسلام.
وروى سعيد بن جبير مرسلا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: "لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم".
وقال عليه السلام: تصدقوا على أهل الأديان.
وكره الناس أن يتصدقوا على المشركين, فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}.
ونظير ذلك قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً, وَيَتِيماً وَأَسِيراً}.
والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
ونظيره قوله: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الّذيِنَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ}.
وظواهر هذه الأيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة, إلا أن النبي عليه السلام, خص من ذلك الزكوات المفروضة.
واتفق العلماء أن زكوات الأموال, لا تصرف إليهم, لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:
"خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم"، والذي يتولاه رب المال بنفسه, لا يتناوله هذا الخير, إلا أنه في معناه, لأن الكل كان مأخوذاً من أرباب الأموال إلى زمان عثمان.
ورأى أبو حنيفة, أن غير زكاة المال يجوز صرفها إليهم, مثل صدقة الفطر, نظراً إلى عموم الآية, في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات.
ورأى الشافعي أن الصدقات الواجبة بجملتها مخصوصة منها, لقوله عليه السلام في صدقة الفطر:
"اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم".
وظاهر أن ذلك كان لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد, وهذا لا يتحقق في المشركين.
ودل أيضاً, وجوب اعتاق العبد المسلم في كفارة القتل, على أن المفروض من الصدقات لا يصرف إلى الكافر.(1/169)
ومعاذ كما يأخذ صدقات الأموال, فكان يأخذ صدقة الفطر أيضاً.
واللفظ شامل للجميع, وهو قوله عليه السلام له: "خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم".
على أن قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُم}, ليس ظاهراً في الصدقات وصرفها إلى الكفار, بل يحتمل أن يكون معناه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمِ} ابتداء, وقوله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيءٍ في سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إلَيْكُم وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}, للفقراء.
يعني: وما تنفقوا للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله, والمراد بالإنفاق فقراء المهاجرين.
{ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة:273]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفُّفِ} [273]
يدل على أن اسم الفقير يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة, ولا يمنع ذلك من إعطائه الزكاة.
وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم, وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, غير مرضى ولا عميان.
ولما قال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}, دل على أن للسيما أثراً في اعتبار حال من تظهر عليه, حتى لو رأينا ميتاً في دار الإسلام ميتاً وعليه زنار غير مجبوب, لا يدفن في مقابر المسلمين, ويقدم ذلك على حكم الدار على قول أكثر العلماء.
ومثله قوله: {وَلَتَعْرِفَنّهُمْ في لَحْنِ الْقَولِ}، فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي المتجمل, واتفق العلماء على ذلك, وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يحرم أخذ الصدقة.
وأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة.(1/170)
والشافعي اعتبر قوت سنة.
ومالك اعتبر ملك أربعين درهما.
والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:275]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الرِّبا)
قوله تعالى: {الّذيِنَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبَطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [275]
والربا في اللغة هو الزيادة.
وربما لا تعرف العرب بيع الدرهم بالدرهم نساء ربا, إلا أن الشرع أثبت زيادات جائزة, وحرم أنواعاً من الزيادة, فجوز الزيادة من جهة الجودة, ولم يجوز من جهة المدة.
وإذا اختلف الجنس, يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً نقداً, ولا يجوز متماثلا نسيئة.
وكل ذلك لا يقتضيه لفظ الربا, ولكن ذلك لا يمنع التعلق بعموم اللفظ, وعموم اللفظ يقتضي تحريم الزيادة مطلقاً, إلا ما خصه الشرع.
وقوله: {وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ}.
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه, إلا ما خصه دليل الشرع, فنحن نحتاج إلى البيان فيما لم يرد باللفظ, وما دل عليه اللفظ محرم مع غيره فلا بد من بيان في الذي ما أريد باللفظ, وفي تخصيص بعض ما أريد باللفظ.
والله تعالى حرم الربا, فمن الربا ما كانوا يعتادونه في الجاهلية من إقراض الدنانير والدراهم بزيادة.
والنوع الآخر تحريم الإسلام الدراهم في الدراهم والدنانير من غير زيادة.(1/171)
ورأى ابن عباس, أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله ربا النساء, لا ربا الفضل فإنه قال: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:278-280]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الرِّبا
{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [278].
وقال: {وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلىَ مَيْسَرَةٍ} [280].
وقال تعالى: {وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمونَ} [279].
وقال عليه السلام في خطبة الوداع: "كل ربا موضوع, ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون, قضى الله أن لا ربا, وإن العباس بن عبد المطلب موضوع, وإن كل دم كان في الجاهلية فإنه موضوع, وأول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل".
وإن كان الربا ينقسم أقساماً, فالذي في القرآن يدل على تحريم الزيادة, من غير نظر في جنس المال وما يقابله, ولا دلالة فيه على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال, لأن ذلك لا يعد زيادة في النسىء, ولا يقال: أكل الربا, من أجل ذلك جوز بعض العلماء - وهو مالك - الأجل في القرض, إلا أنا منعنا من ذلك, لا من جهة الآية, بل من جهة أخرى.
والذي كان في الجاهلية كان القرض بزيادة, وما كانوا يؤجلون إلا بزيادة في نفس النسىء.(1/172)
ونقل عن الشافعي, أن لفظ الربا لما كان غير معلوم, أورث احتمالا في البيع, والصحيح أن الربا غير مجمل, ولا البيع كما ذكرناه, فإن ما لا زيادة فيه, جاز على عموم حكم البيع.
نعم خص من الربا زيادة أبيحت, وخص من البيع بياعات نهى عنها, وعموم اللفظ معتبر فيما سوى المخصوص.
ورد الله تعالى على المشركين في قولهم: {ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا إتّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [275], وذلك أنهم زعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا, وبين الأرباح المكتسبة بضروب البياعات, من حيث غاب عنهم وجه المصلحة, وتحريم الزيادة على وجه دون وجه, فأبان الله تعالى أنه عز وجل إذا حرم الربا وأحل البيع, فلا بد أن يشتمل المنهى عنه على مفسدة, والمباح على مصلحة, وإن غابتا عن مرأى نظر العباد، فعلى هذا كل ما وجد فيه حد البيع, فيجوز أن يحتج فيه بعموم البيع.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ سَلَفَ} [275].
يدل على أن ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا, لا يتعقب بالفسخ, ويدل على أنه أراد غير المقبوض.
قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [278].
ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً, وإن كان معقوداً عليه قبل نزول آية التحريم, ولا يتعقب بالفسخ ماكان مقبوضاً.
وقال تعالى: {وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [279].(1/173)
وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه, فإذن رأس المال الذي لا ربا فيه, فاستدل بعض العلماء على ذلك, على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد أبطل العقد, كما إذا اشترى مسلم صيداً, ثم أحرم المشتري قبل القبض, أو البائع, بطل البيع, لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد, كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض, لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض, ولو كان مقبوضاً لم يؤثر, هذا مذهب أبي حنيفة, وهو قول لأصحاب الشافعي.
ويستدل به على أن هلاك المبيع في يد البائع, وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافاً لبعض السلف.
ويروي هذا الخلاف عن أحمد.
ويمكن أن يقال إن هذا الاستدلال, إنما يصح على رأي من يقول إن العقد في الربا في الأصل كان منْعقداً, حتى يقال: إن الذي انعقد من قبل بطل بالإسلام قبل القبض, فإذا منع انعقاد الربا في الأصل, لم يكن هذا الكلام صحيحاً.
وهذا لأن الربا كان محرماً في الأديان, وما كان تحريمه في شرعنا حتى يقال كان مباحاً من قبل.
وإنما حرم بعد العقد, ليصح الاستدلال بطريان المنافي من التحريم على فساد العقد من قبل القبض, وانبرامه بعض القبض.
فأما إذا قلنا إن العقد لم ينعقد من الأصل, والذي فعلوه في الشرك كان على عادة الجاهلية, لا بناء على شريعة, فلا يستقيم هذا الكلام, بل يقال: ما قبضوه منه, كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالنهب والسلب, فلا يتعرض له, فعلى هذا لا يصح الاستشهاد به على ما ذكروه من المسائل.
واشتمال شرائع من قبلنا من الأنبياء على تحريم الربا, كان مشهوراً ومذكوراً في كتاب الله, كما أخبر عن اليهود في قوله:
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}.
وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا:
{أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}؟
فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به.(1/174)
نعم, يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب, إذا ظهر عليها الإمام, لا يعترض عليها بالفسخ, وإن كانت معقودة على فساد.
وبالجملة, فإنه تخللت مدة طويلة بين نزول الآية وبين خطبة النبي عليه السلام بمكة, ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضاً من عقود الربا بمكة, قبل أن تفتح, ولم يميز بين ما كان منها قبل نزول الآية وما كان بعدها.
ويمكن أن يستدل به على أن الأنكحة التي جرت في الشرك، لا تتعقب بالنقض بعد انبرامها كما في البيع بعد الانبرام.
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة:280]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الرِّبا
2)…الدَّيْن
قوله تعالى: {وإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلىَ مَيْسَرَةٍ} [280] عام في الربا وغيره من الديون.
إلا أن الربا يكون في رأس المال, لأن الله تعالى جعل لهم رأس المال, فقال: {وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالكُمْ}... وفي غير الربا حكمه بين.
وكان شريح يرى حبس المعسر في غير الربا من الديون, ويرى أن الإنظار مخصوص بالربا.
فإن كان معتقداً لوجوب الزيادة على رأس المال في الربا, وأنه يجب فيه الإنظار بعد التوبة, فهذا خلاف الإجماع, وإن كان يقول في رأس المال يجب الإنظار فإنه واجب, وفي غيره من الديون الواجبة لا يجب الإنظار فهو غلط, فإنه لا فرق بينه وبين غيره من الديون, بحال, بعد أن جعل الله تعالى له رأس المال بعد التوبة.
نعم إن الله تعالى ذكر الإنظار بعد ذكر الربا, وذلك لا يمنع من التعلق بعمومه في الديون كلها.
وقوله: {فَنَظِرَةٌ إلىَ مَيْسَرَةٍ} مع قوله {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين, وجواز أخذ ماله بغير رضاه.(1/175)
ويد ل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان, كان ظالماً, فإن الله تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُم}, فجعل له المطالبة برأس ماله, وإذا كان له حق المطالبة, فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.
وقوله: {لا تَظْلِمونَ ولا تُظْلَمونَ}, يدل على أن من عليه رأس المال بالامتناع من أداء رأس المال إليه ظالم, كما أنه بطلب الزيادة ظالم, وأن الممتنع من أداء رأس المال اليه ظالم مستحق للعقوبة وهي الحبس..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/176)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:282]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدَّيْن
قوله تعالى: {يا أيُّها الّذينَ آمَنوا إذا تَدايَنْتُم بدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبوهُ} [282]:
فقد ذهب بعض علماء السلف: إلى وجوب الاشهاد فيما قل وجل, وفيما حل وأجل من الديون, واليه ذهب أبو داود وابنه أبو بكر, ورووا عن ابن عباس أنه قال لما قيل له إن الدين منسوخة فقا ل:
لا والله بل آية الدين محكمة ما فيها نسخ.
1)…الشهادات
2)…الدَّيْن(1/177)
قوله تعالى: {واسْتَشْهِدوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فإنْ لَمْ يَكونا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وامْرأتانِ} الآية [282]:
اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولاً بها عن أصل الشهادة, فإنه قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين.
فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين, إلا أنه جوز على خلاف الظاهر للإجماع, وشرط كون الرجل معهن, فلم يجعل لهن رتبة الاستقلال, فدل مجموع ذلك على أن شهادة النساء شرعت في المداينات التي كثر الله تعالى أسباب توثيقها, لكثرة جهات تحصيلها وعموم الباوى وتكررها, فجعل التوثيق:
تارة بالكتابة.
وتارة بالإشهاد.
وتارة بالرهن.
وتارة بالضمان.
فأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.
ولا يتوهم عاقل أن قوله: {إذا تَدايَنْتُمْ بدَيْنٍ} يشتمل على دين المهر مع البضع, وعلى الصلح عن دم العمد, فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين, بل هي شهادة على النكاح, ولو شهد على المهر فيقبل, نعم لا يصير النكاح تبعاً للمهر بحال.
نعم, ما ليس بمال إذا كان تبعاً للمال, مثل الأجل المذكور في المداينة, فيقبل فيه شهادة النساء مع الرجال, لأن الأجل يؤؤل إلى المآل.
فإن قال قائل: المهر في النكاح تابع للنكاح, ولا يجب إلا معه, فلم يثبت بشهادة النساء, وليس المهر من جملة المداينات المذكورة في الآية؟
قلنا: لأن المهر من حيث كان ديناً, سلك به مسلك الديون كلها في أنواع التوثيق, كالرهون والضمان وغيرهما, فألحق بقياس الأموال.
فإن قال قائل: العتق تعددت جهات تحصيله, وكذلك الطلاق, وتزيد جهاتها من الكنايات والصرائح والتعليق والتنجيز على جهات تحصيل الأموال, فلم لم يجعل ذلك ملحقاً بالأموال؟
فالجواب: أن الحاجة لا تتكرر إلى توثيق جهات الطلاق مسيس الحاجة إلى الوثائق في المداينات, ولذلك بالغ الشرع في إبانة جهات الوثائق فيها, وقال في الرجعة والطلاق:
{وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم}.(1/178)
قوله تعالى: {مِمّن تَرضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ}, يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام, فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة, فيرد شهادته لذلك.
وفيه دليل على جواز استعمال الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
ويدل قوله: {مِمّنْ تَرضَوْنَ مِنَ الشُّهداءِ} على أنه لا مبالاة يكون مسلماً فإنه قال: {مِمّنْ تَرْضَوْنَ}.
فقسم المسلمين إلى مرضيين وغير مرضيين, فلم تقبل شهادة غير مؤمنين.
وليس يعلم كونه مرضياً بمجرد الإسلام, وإنما يعلم بالنظر في أحواله.
ولا يعتبر بظاهر قوله: {أنا مسلم} فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته مثل قوله تعالى:
{ومِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحياةِ الدنيا ويُشْهِدُ اللهَ عَلى ما في قَلْبِهِ} إلى قوله: {والله ُ لا يُحِبُّ الفَسادَ}.
وقال: {وإذا رَأيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجْسامَهُمْ} الآية..
فكل ذلك دليل على ما قلناه.
وظاهر قوله: {مِنَ الشُّهَداءِ} يقتضي قبول شهادة الأب لابنه والولد لأبيه, لأن الشاهد مرضي ولو لم يكن مرضياً, وتطرقت التهمة إلى حاله باستيلاء الهوى عليه لامتنعت شهادته مطلقاً, ولأمكن أن يقال: إن الذي يشهد لولده كاذباً, يشهد للأجنبي لعَرَضٍ يتعجله من مال أو جاه أو غيره, فيشهد التابع لمتبوعه, والمرؤوس لرئيسه, إلى غير ذلك.
غير أنه لا ينظر إلى شيء من ذلك, خاصة إذا شهد لأحد ولديه على الآخر.
إلا أن العلماء أجمعوا على خلاف ذلك, إلا خلاف شاذ لا يعتد به يحكى عن عثمان البتى.
ولعل السبب فيه أن الذي بينه وبين الابن من الاتحاد في الذات, حتى يقال هو بعضه, يقتضي جعل شهادته له في معنى شهادته لنفسه, فإذا كانت فيه شبهة الشهادة لنفسه, كان مدعياً من تلك الجهة, والبينة على المدعي, ولا تسمع شهادته لنفسه فيما هو مدع فيه.
ولا شك أن هذا في غاية الجلاء مع المصير إلى تمييز أملاكهما التي هي محل الشهادة.(1/179)
ويجب على الابن الحد بوطء جارية أبيه, ولا يجعل الاتحاد بينهما شبهة في الحد, فكذلك لا يجعل شبهة في شهادته وإلحاقها بالدعوى..
نعم ظن أبو حنيفة أن شهادة الزوج لزوجته لا تقبل, لتواصل منافع الأملاك بينهما, وهي محل الشهادة, والذي يخالفه يقول:
ولكن ذلك التواصل يعرض للزوال, فليس كتواصل الولادة, فإذا ظهر التفاوت من وجه والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص, فما عدا المخصوص يبقى على الأصل.
وزاد أبو حنيفة على هذا وقال: كل شهادة ردت للتهمة فإنها لا تقبل أبداً, مثل شهادة الفاسق, إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح, ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت, ثم شهد بها بعد زوال الزوجية.
فجعل العلة مجرد التهمة في الذي تقدم من الشهادة, وزاد عليه فقال:
لا تقبل شهادة الأجير للمستأجر, وقبل شهادة من له الدين لمن عليه الدين, فلم ير الزوجية لعينها مانعة قبول الشهادة حتى إذا زالت قبلت, وقال: لو شهد العبد فردت شهادته ثم عتق فإعاد قبلت, وكذا الصبي لأن زوال الرق معلوم حقيقة, وزوال التهمة غير معلوم حقيقة, وزوال الزوجية معلوم حقيقة, غير أن الرد لم يكن لها وإنما كان للتهمة, ولا يعلم زوالها حقيقة, فجعلوا التهمة مانعة.
ولا شك أن التهمة في الشهادات كلها خاصة, هي تهمة المعصية, وتهمة المعصية شبهة في الحدود, فهلا ردت شهادته في الحدود مثلاً.
فعلم أن سبب رد الشهادة للولد ليس هو تهمة الكذب, ولكن ما بينهما من الاتحاد, مع خروج شهادته عن كونها شهادة لنفسه, حتى لا يكون من وجه مدعياً, وهذا المعنى بعيد عن التهمة, فلم يقتض رد شهادة أخرى, أو بحال ذلك على الإجماع ولا يقيد بخلاف البتى ولا يصح النقم فيه, فهذا تمام البيان في ذلك.
والحوالة على التعبد أولى لضعف المعنى, لولا أن الشافعي رد شهادة العدو على العدو مع العدالة, وقبل شهادته في حادثة أخرى, وإن كانت تسقط بالتهمة.(1/180)
ويمكن أن يقال: إن رد شهادة العدو على تعبد ثبت بخبر ورد فيه, فإن المعنى كيفما قدر ضعيف جداً.
وحاصل القول أن العدالة, وقلة الغفلة, هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى: {مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} - مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته واختصاره وظهور فوائده, وجميع ما ذكرناه من المعاني التي استنبطها السلف من مضمونه وتحريهم موافقته مع احتماله لجميع ذلك, يدل على أنه كلام الله تعالى ومن عنده, إذ ليس في وسع البشر إيراد لفظ على هذه الوجازة يتضمن هذه المعاني البديعة.
قوله تعالى: {أنْ تَضِلّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأخْرَى}.
يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يشهد على الآخر, وإن رأى الخط, إلا أن يكون ذاكراً لما يشهد به.
ثم قال: {ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وأقْوَمُ لِلشّهادَةِ وأدْنَى أن لا تَرْتابوا}.
فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به ليتذكر به كيفية الشهادة, وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها.
وفيه الدلالة على أن الشاهد إذا قال لا أذكر, ثم تذكر, يجوز له إقامة الشهادة.
ثم إن الله تعالى إنما ذكر في المداينات الحجج التي تستقل بإثبات المداينات, ولم يتعرض لما سواها, وقد ظن ظانون من أصحاب أبي حنيفة, أن إسقاط العدد المذكور في القرآن لا يجوز, وأن الذي جعله الشرع سبباً لا يجوز تعييره والنقصان منه, ولا يحط منه وصف الرضا وهو العدالة, ولا الواصف الآخر وهو العدد, ثم قال:
{ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وأقْوَمُ لِلشّهادَةِ وأدْنَى ألاَّ تَرْتابوا}.
وأبان أن أدنى ما يتعلق به مقصود الشرع, وأن القدر المقصود من الاحتياط والحجة المعتبرة هذا المذكور في القرآن, وذلك ينفي إيجاب الحكم بالشاهد واليمين, فإن اليمين دون الشهادة لا محالة, وقد أبان الله تعالى أن أدنى درجات الاحتياط هو المذكور, فلا يثبت بما دونه, وهذا حسن بين.
والذي يقبل الشاهد واليمين يقول:(1/181)
معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ أدْنَى ألاَّ تَرْتابوا} في الشهادة وحدها, لا فيها وفي غيرها, والشاهد واليمين جنسان مختلفان لا تعرض لهما في القرآن.
ويقول أصحاب الشافعي في قول: إن الحكم باليمين, غير أن الشاهد يقوى جانبه, ويصير هو بمثابة المدعى عليه الذي ظهر جانبه باليد, فعلى هذا لا يستقيم التعلق بالقرآن في تحقيق غرضهم..
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعوا}.
روي عن جماعة من المفسرين أن المراد به: إذا دعوا لإقامتها.
وعن قتادة: إذا دعوا إلى إثبات الشهادة في الكتاب, فأما عند الاثبات فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين, وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود, فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحال هي التي يجوز أن تراد بقوله: {وَلا يَأبَ الشُّهَداءُ إذا مَا دُعوا} لإثبات الشهادة, فأما إن ثبتت بشهادتهم, ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم, فهذا الدعاء هو لحضورهما عند الحاكم, ولا يحضر الحاكم عند الشاهدين, ليشهدا عنده وإنما على الشهود الحضور عند الحاكم.
فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب, والدعاء الثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده.
واللفظ يحتمل الأمرين جميعاً, ولا معنى لاختلاف المفسرين في معناه, إذا كان اللفظ يدل عليهما من طريق العموم.
واللفظ يحتمل الأمرين جميعاً, ولا معنى لاختلاف المفسرين في معناه, إذا كان اللفظ يدل عليهما من طريق العموم.(1/182)
وقوله: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ}, يجوز أن يكون متناولاً للأمرين جميعاً, وإن كان قوله: {أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّر إحْداهُما الأخْرَى}, يرجع جانب التحمل, ولكن ذكر بعض ما يتناوله اللفظ لا يمنع التعلق بعمومه فيما أمكن تعميمه فيه, على رأي الأصوليين, وإن خالفهم قوم في ذلك وادعوا التوقف, وليس ذلك بالبعيد عندنا على ما شرحناه في الأصول, مع أن اسم الشهداء لا يكون حقيقة, إلا في حالة إقامة الشهادة عند الحاكم, وإن كان ينطلق على غيره بطريق المجاز مثل قوله:
{واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ}.
فسماهم شهيدين وأمرنا باستشهادهما قبل أن يشهدا, وهو بمثابة قوله:
{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [230].
فسماه زوجاً قبل أن يتزوج.
وقوله: {ولا يَأبَ الشُّهداءُ إذا ما دُعوا}, الآية, يدل على أن إقامة الشهادة تجب حيث لا يجد المستشهد غيره, وهو فرض على الكفاية, كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى ودفنهم, متى قام به قوم سقط عن الباقين.
ومعنى الفرض على الكفاية, أنه لا يجوز للكل الامتناع منه لما فيه من إبطال الوثائق وضياع الحقوق, ولا يتعين فرضه على كل أحد، فإنه لا خلاف أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها, هذا أصل في فروض الكفايات الواجبة على الكافة, إلا أنهم إذا أدى بعضهم سقط عن الباقين, فإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان، فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتهما بقوله: {ولا يَأبَ الشُّهداءُ إذا ما دُعوا}.
1)…المعاملات
2)…الرهن
3)…الدَّيْن
قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ} [282] يدل على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره, فيقتضي ذلك قبول قول الراهن إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين, وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأكثر العلماء.(1/183)
ومالك يقول: القول قول المرتهن, فيما بينه وبين قيمة الرهن, ولا يصدق على أكثر من ذلك, وكأنه يرى أن الرهن وثمنه شاهد للمرتهن.
وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِل الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ} يرد عليه, فإن الذي عليه الحق هو الراهن..
فإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلاً عن الشهادة, والكتاب والشهادة دالة على صدق المشهود له, والرهن الذي هو بدله قام مقامه, إلى أن يبلغ قيمته, فإذا بلغ قيمته فلا وثيقه في الزيادة.
فإذا قال الراهن: رهنت بخمسين, والمرتهن يدعي مائة, وقيمة الشيء مائة فصاعداً, كان الرهن شاهداً له, وإذا كان دون ذلك الذي ادعاه صار في الفاضل على قدر قيمة الرهن مدعياً وعليه البينة؟
والجواب عنه: أن الرهن لا يدل على أن قيمته يجب أن تكون مقدار الدين, فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير, نعم لا ينقص الرهن غالباً عن مقدار الدين, فأما أن يطابقه فلا, وهذا القائل يقول: يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين, إلى أن يساوي قيمة الرهن, وليس العرف على ذلك, فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب, فلا حاصل لقولهم هذا بوجه ما.
قوله تعالى: {وَلا تَكْتُموا الشّهادَةَ} إلى قوله: {فإنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}, يدل على أنه لما عزم أنه لا يؤديها, وترك أداءها باللسان, رجع المأثم إلى الوجهين جميعاً, فقوله: {آثِمٌ قَلْبُهُ}, مجاز هو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد, وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني.
واعلم بعد ذلك أن الذي أمر الله تعالى به, من الشهادة والكتاب لمراعاة صلاح ذات البين, ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين, لئلا يسول له الشيطان الجحود بالباطل, وتجاوز ماحدته الشريعة له, أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق, ولأجله حرم الشارع البياعات المجهولة التي تؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين, وإيقاع التضاغن والتباين, ومثله ما حرمه الله تعالى من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله:(1/184)
{إنّما يُريدُ الشّيْطانَ أنْ يوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والْبَغْضَاءَ في الخَمْرِ والمَيْسَرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ اللهِ}.. الآية.
فمن تأدب بأدب الله تعالى في أوامره وزواجره, حاز صلاح الدنيا والدين, قال الله تعالى:
{وَلَوْ أنهُمْ فَعلوا ما يوعَظونَ بهِ لَكانَ خَيراً لهُمْ وأشَدَّ تَثْبيتاً, وإذاً لأتَيناهُمْ مِن لَدُنّا أجْراً عظيماً, ولهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقيماً}.
ويمكن أن يستدل بهذه الآيات على وجوب حفظ المال في التصرفات, ولأجله قال تعالى:
{وَلا تؤتوا السُّفَهاءَ أموالَكُمْ} الآية..
وقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذيراً, إنَّ المُبَذِّرينَ كانوا إخْوان الشّياطِينِ}.
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال:
"لا يحب الله إضاعة المال في غيره وجهه".
فربما حمله اختلال حاله, وكثرة عياله وأثقاله, على اقتحام أمور ذميمة تعود عليه بالوبال وذهاب الدين والدنيا..
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )
{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [البقرة:283]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشهادات
وقال تعالى: {وَلا تَكْتُموا الشّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فإنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [283].
وقال تعالى: {وأقِيمُوا الشّهادَةَ للهِ}.
وقال: {يا أيُّها الّذيِنَ أمَنوا كونوا قَوْامينَ بالقِسْطِ شُهَداءَ للهِ وَلَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ}.
وإذا كان عنهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط الفرض عنهما لما وصفناه.(1/185)
قوله تعالى: {ولا تَسْأمُوا أن تَكْتُبوهُ صَغيراً أوْ كبيراً إلى أجلِهِ} يعني القليل الذي يعتاد تأجيله, ومعلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق, إذا لا يعتاد المداينة بمثله إلى أجل.
وقوله {إلى أجلهِ} يعني إلى محل أجله, فيدل ذلك على أنه يكتب الأجل في الكتاب ومحله, كما يكتب أصل الدين.
ويستدل به على أنه يكتب صفة الدين ونقده وجودته ومقداره, لأن الأجل بعض أوصافه, فحكم سائر أوصافه بمنزلته..
قوله تعالى: {ذَلِكُمُ أقْسَطُ عِنْدَ اللهَ وأقْوَمُ لِلشّهادَةَ}.
فيه بيان الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب واستشهاد الشهود, والوثيقة والاحتياط للمتداينين عند الحاجة ورفع الخلاف, وبين الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب, وأخبر بأن ذلك أنفى للريب, وأبقى للحق, وأدعى إلى رفع النزاع, وأنه إذا لم يكتب فيرتاب الشاهد, فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الاختلاط والاحتياط, غير مراع شرائط الاحتياط, فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها فيضيع حق الطالب.
ويستدل بذلك على أن الشهادة لا تصح إلا مع القطع واليقين, وأنه لا يجوز إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه, لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة.
ويستدل به أيضاً على أن هذا الاستشهاد والكتاب, إذا كان الاحتياط في المداينات فهي للاحتياط للنكاح, حتى لا يستشهد بمن ليس بمرضي من فاسق, ومجلود في قذف, وكافر وعبد, خلافاً لمن زعم أن تلك الشهادة ليست للاحتياط, ومعلوم أن الشهادة في موضع الندب, إذا كانت للاحتياط, ففي موضع الوجوب أولى أن تكون للاحتياط..
قوله تعالى: {إلاَّ أنْ تَكونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُديِرونها بَيْنَكُم} [282], فرخص في ترك الكتاب في التجارة الحاضرة رفعاً للحرج.
ودل ظاهر قوله: {وأشْهِدوا إذا تَبايَعْتُمْ}, على أن الشهادة عامة في التجارات كلها.
وقد نسخ ذلك بقوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [283], وقد بينا ذلك فيما سلف.(1/186)
قوله تعالى {وَلا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهيدٌ} قال ابن عباس: معناه أن يجيء الرجل الى الكاتب فيقول: إني على حاجة, فيقول له: إنك قد أمرت أن تجيب, فلا يُضار بمثل هذا القول.
وقال الحسن: {ولا يُضارَّ كاتبٌ ولا شهيدٌ} أي لا يكتب ما لم يؤمر به ويزيد في الشهادة.
وقرأ الحسن وقتاده وعطاء: {..لا يُضار} بكسر الراء..
وقرأ ابن مسعود ومجاهد: {لا يُضارَّ} بفتح الراء, فكانت إحدى الراويتين نهياً لصاحب الحق عن مضارة صاحب الحق, وكلاهما مستعمل, ومن مضارة الشاهد القاعد عن الشهادة إذا لم يكن سواه، فكذلك على الكاتب إذا لم يجد غيره..
قوله تعالى في التجارة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ألاَّ تَكْتُبوها} وفرقة بينها وبين المؤجل يُوهم بظاهره, أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه وأن الجناح يلحقهم إذا لم يكتبوها, ويبعد أن يقال في ترك المندوب إن عليه جناحاً, ففي التجارة الحاضرة إن كان ترك الشهادة دليلاً على كون الشهادة مندوباً اليها, فتارك المندوب لا جناح عليه.
وقوله: {إلاَّ أنْ تَكونَ تجارَةً حاضِرَةً تُديرونها بَيْنَكُمْ فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ألاَّ تَكْتَبوها} [282] يدل على أن في غيرها عليهم جناحاً.
ويقال في الجواب عن هذا: الجناح يطلق على الضرورة, فكأنه تعالى قال: لا ضرر عليهم في حياطة الأموال, لأن كل واحد تسلم ما استحق عليه بإزاء تسليم الآخر، ومتى لحقه ضرر وأفضى الأمر إلى منازعة ومشاجرة, فربما تداعى إلى الإثم واللجاج, فأراد بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُناحٌ ألاَّ تَكْتُبوها}, أي ليس عليكم ذلك أيضاً..
قوله تعالى: {وإنْ تَفْعَلواْ فإنهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [282].
عطفاً على ذكر المضارة, يدل على أن مضارة الطالب الكاتب والشهيد، ومضارتهما له فسق, بقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهيه عنها.
1)…الرهن
2)…الشهادات
وقوله تعالى: {وإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ولَمْ تجِدوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبوضةٌ} [283]:(1/187)
استدل به مجاهد على أن الرهن لا يكون إلا في السفر.
وأما كافة العلماء فجوزوه في الحضر والسفر, لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعاً عند يهودي بالمدينة, وأخذ منه شعيراً لأهله, غير أن ذكر السفر بناء على غالب الأحوال, في عدم وجود الكاتب والشهيد فيها, فينوب الرهن منا بهما, لا أن الرهن مفيد فائدة الشهادة والكتاب من كل وجه, فإن الذي يختص بالرهن, إعداد المرهون لاستيفاء الحق منه عند ضيق الطالب, فهو وثيقة لجانب الاستيفاء بإبانة محل الاستيفاء، كالضمان فإنه وثيقة بتحديد محل الاستيفاء عند عسر استيفائه من المضمون عنه, إلا أن خاصية الرهن إنما تظهر عند ازدحام الغرماء, وخاصة الضمان حاصلة في غير هذه الحالة.
فإذا تقرر ذلك, فهذا الرهن الذي له خاصية الشهادة عند عدم الشهادة, فإن الرهن إذا كان مقبوضاً, لا يتأتى للراهن الامتناع من توفية حق المرتهن, فإنه يأخذ المرهون بحقه.
وإن ادعى الراهن على المرتهن الملك في المرهون, فالمرتهن يكفيه في دفع دعواه أن يقول: لا يلزمني تسليم هذا اليك.
وإذا قال ذلك ذلك وحلف عليه, بطل عن الراهن في العين عند المحل, وكان للمرتهن بيعه وأخذ الحق من ثمنه, وهذا الكلام ظاهر كما ترى, فصار الرهن مفيداً مثل مقصود الشهادة والكتاب, وإن كان له خاصية يتفرد بها, فلأجل ما فيه فائدة الشهادة أمر الله فيه بالقبض, وخصه بالسفر, لأنه يغلب فيه عدم الكتاب والشهود.
وقوله: {فَرِهانٌ مَقبوضَةٌ}، يدل على اعتبار القبض الذي به يحصل معنى الوثيقة الحاصلة بالشهادة, فإن المرهون إذا كان في يد الراهن فلا يتأتى فيه معنى الشهادة.
ويتلقى من الآية وجوب الإقباض, وكون القبض شرطاً في الرهن لأن معنى الوثيقة ليس يحصل إلا به.
ويمكن أن يستدل به على أن المقصود الأصلي في الرهن توثيق الدين لاستيفاء الحق منه, فإنه خص بالسفر لهذا المقصود لما لا سواه مما يتأتى في السفر والحضر, ومع الشهود وعدم الشهود والكتاب.(1/188)
وفيه دليل على أنه لا يجوز للراهن استرجاع المرهون من يد المرتهن, لما فيه من بطلان المعنى الذي به يقوم الرهن مقام الشهادة والكتاب, ولأجله جعل بدلاً عنهما, وما شرع في الأصل إلا على هذا الوجه, فكان هذا الوجه هو المقصود الأصلي بالرهن.
والذين يخالفون هذا الرأي من أصحاب الشافعي يقولون:
إن المقصود بآية المداينات توثق الحقوق عن الضياع والتقوى من جهة وجوبه لا من جهة الاستيفاء, ولذلك لم يتعرض للضمان, فإن الضمان لا يفيد التوثيق من جهة الوجوب على معنى أن الشهادة إذا لم تكن, ربما يجحد الحق فيذهب وجوبه, وكذا الكتاب والرهن في هذا المعنى يفيد مع الجحود الذي به يفوت وجوب الحق, والضمان لا يفيد شيئاً من هذا المعنى فلا جرم لم يتعرض له هاهنا, وتعرض للرهن الذي يفيد فائدة الشهادة في هذه الجهة, إذا تعذر الوصول إلى الشهادة بالسفر, لأن السفر في الرهن أصل, ولكن بالسفر يحصل العذر في الشهادة والكتاب فشرع الرهن.
وأما خاصية الرهن التي لا توجد في غير الرهن من الوثائق فهي استيفاء الدين من العين, فجاز رهن المتاع نظراً إلى الخاصية, وجاز الانتفاع بالمرهون في مدة الرهن نظراً اليها, فهذا تمام البيان في ذلك.
نعم هاهنا شيء, وهو أنه إذا كان خاصية الرهن استيفاء الحق منه عند مزاحمة الغرماء, فيتخلص بالرهن عن مزاحمتهم, فمن أجل ذلك قال مالك:
إذا كان لرجل على رجل دين فباع من له الدين ممن عليه الدين شيئاً, وجعل الدين عليه رهناً قال: يجوز على ما رواه ابن القاسم عنه, لأنه يخلص به عن مزاحمة الغرماء فإنه حائز ما عليه.
وقال غيره من العلماء: لا يجوز، لأنه لا يتحقق إقباضه, والقبض شرط لزوم الرهن, ولأنه لا بد من أن يستوفي الحق منه عند المحل ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين.
ولأن الدين مملوك ثابت بالإضافة إلى من له الدين إنما هو ثابت بالإضافة إلى من له الدين.(1/189)
ولا خلاف عند العلماء أن تعديل المرهون جائز عند الأجنبي.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز حتى يقبضه المرتهن, وكأنه رأى ابتداء القبض تعبداً, ورأى التعبد في مباشرته القبض, وهو لعله لا يجوز التوكيل فيه, وهذا بعيد.
ولابن أبي ليلى أن يقول: إذا لم يجز جعل المبيع المحبوس على يدي عدل, لم يخرج عن ضمان البائع, ولم يصح أن يكون العدل وكيلاً للمشتري في قبضه, فكذلك يجب أن لا يخرج من قبض الراهن بوضعه على يدي عدل.
وهذا غلط, فإنه إذا صار العدل وكيلاً للمشتري في القبض, بطل حق البائع وسقط بالكلية, وخرج من ضمانه, وتم البيع للمشتري, فلا يبقى للبائع علقه, وفي كون العدل وكيلاً للمرتهن تحقيق معنى الرهن, فكان العدل قابضاً للمرتهن وهو قابض للمشتري, كما كان قابضاً للمرتهن, فلا فرق من حيث المعنى بينهما.
نعم البائع إذا وضع المبيع عند عدل بقي محبوساً, ولم يكن العدل وكيل المشتري, لأن في كونه وكيلاً له إبطال الحبس, وفي كون العدل وكيلاً للمرتهن تحقيق الحبس فوضح الجواب من هذا الوجه.
واستخرج الشافعي من كون الرهن وثيقة أنه غير مضمون, فإن الوثيقة يزداد بها الدين وكادة, لا أنه يتعرض بها الدين لعرض السقوط, فسقوط الدين بهلاك الوثيقة, يوقع خللاً في معنى الوثيقة.
وهم يقولون: وما وقع الخلل في معنى الوثيقة, فإن الدين لا يسقط عند من يخالفه, ولكن كان الرهن وثيقة للاستيفاء, وقد حصل بهلاكه الاستيفاء حتى قالوا:
إذا رهن برأس مال السلم, فتلف قبل التفوق, صار رأس المال مستوفى حتى لا يضر الافتراق, ويجب تسليم المسلم فيه عند المحل, فلم يكن ذلك مخالفاً معنى الوثيقة, بل كان محققاً معنى الوثيقة.(1/190)
والشافعي يقول: قد خالف مقصود الوثيقة, فإن الوثيقة ما عقدت له حتى يفوت الحق على هذا الوجه, ولا أن يقدر هذا القبض من غير أن يكون المقبوض ملكاً للقابض مقصوداً للمرتهن, فقد فات المقصود من هذا الوجه أن يقدر هذا القبض من غير أن يكون المقبوض ملكاً للقابض فصح ما قلناه عن الشافعي.
واستدل الشافعي بما رواه ابن أبي ذؤيب, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه, له غنمه وعليه غرمه".
قال الشافعي: ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
وذكر أبو بكر الرازي أن أبا بكر بن أبي شيبة قال: قوله صلى الله عليه وسلم: له غنمه وعليه غرمه, من كلام سعيد بن المسيب.
وروى مالك وابن أبي ذؤيب ويونس عن ابن شهاب, عن ابن المسيب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يغلق.
قال يونس بن يزيد قال ابن شهاب, وكان ابن المسيب يقول: "الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه", فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد بن المسيب لا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "لا يغلق الرهن", ذكر قوم أن معناه: أنهم كانوا يرهنون في الجاهلية ويقولون: إن جئتك بالمال وقت كذا وكذا وإلا فهو لك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن.
تأوله على ذلك مالك وسفيان وطاووس وإبراهيم النخعي, وإلا فيبعد أن يقال: إذا ضاع قد غلق الرهن, ولم يبق الرهن, وإنما يقال: ضاع.
نعم الشافعي يحمل قوله "لا يغلق الرهن", أي لا يصير محتبساً بيد المرتهن, معطل المنافع كالمغلوق, ولكن الراهن ينتفع به فله غنمه وعليه غرمه.
ومعنى الغرم, أنه يلزمه حكم تلفه, فإنما تلف على الراهن حتى يجب عليه الدين, أو إبدال مرهون آخر إذا كان قد شرط الرهن في العقد.
وهم يقولون على الراهن غرمه, حال بقائه, حتى لا يملك المرتهن بعد الأجل الرهن, وإنما الدين على الراهن كما كان من قبل.(1/191)
وله غنمه أي زيادته, فإذا زادت قيمته فالزيادة للراهن وإذا نقصت فعلى الراهن تكلف الزيادة إلى تمام الدين.
وزعموا أن ذلك يدل على أن الشرط الذي لا يوافق الرهن إذا ذكر في العقد, لا يفسد العقد بل يفسد الشرط, وهذا الذي ذكروه, وتقدير حكاية لا يدل اللفظ عليها, وقد عرفنا أن تقدير الحكايات لتنزيل الألفاظ عليها لا يجوز, والشافعي يحكم بفساد الرهن باشتراط الملك للمرتهن عند انقضاء الأجل, وأبو حنيفة يخالف في ذلك..
1)…الدَّيْن
2)…الرهن
وروي عن أبي سعيد الخدري والشعبي والحسن, أن الاشهاد في آية المداينة منسوخ بقوله تعالى: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤدِّ الّذي اؤتمِنَ أمانَتَهُ} [283].
فاختلف الأقوال على ما ترى, فنقول وبالله التوفيق.
إن قوله تعالى: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}, لم يتبين تأخر نزولها عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالاشهاد, بل وردا معاً, ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معاً جميعاً في حالة واحدة, فدل ذلك على أن الأمر بالاشهاد ندب لا واجب, والذي يزيده وضوحاً أنه قال: {فإنْ أمِنَ بَعضُكُم بَعْضاً}, ومعلوم أن هذا الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم, لا على وجه الحقيقة, وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع, فإنها لو كانت لحق الشرع ما قال: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً}.
ولا ثقة بأمن العباد, إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة.
فالشهادة متى شرعت في النكاح, لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضاً, فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة, ولأن الله تعالى جعل لتوثيق الديون طرقاً:
منها: الكتاب.
ومنها: الرهن.
ومنها: الإشهاد.
ولا خلاف بين علماء الأمصار، أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب, فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد.(1/192)
وما زال الناس يتبايعون سفراً وحضراً, وبراً وبحراً, وسهلاً وجبلاً من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير, ولو وجب الإشهاد لما تركوا النكير على تاركه.
ومعلوم أن الإنسان في غير البيع والشراء, قد يأتمن الرجل على ماله لا يحرم عليه, ولو باعه شيئاً وأسلفه الثمن, يجوز إذا ائتمنه على ثمنه.
فإذا ملك الانسان الثمن بالبيع, فسواء ائتمن عليه المشترى أو اختلفا بعد استيفائه منه, فالكل واحد, وذلك يدل على أن الأمر بالإشهاد ندب.
وقد ظن بعض الناس أن قوله تعالى: {إذا تَدايَنْتُم بدَينٍ إلى أجّلٍ مُسَمّى} دليل على جواز التأجيل في القروض على ما قاله مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر عقود المداينات, وهذا غلط منه, لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون, وإنما فيها الأمر بالإشهاد, إذا كان ديناً مؤجلاً, ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.
قوله: {ولا يَأبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كما عَلّمَهُ الله} [282]:
ظن ظانون أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان, أن يكتب, وكان لا يجوز له أن يمتنع, حتى نسخه قوله تعالى: {ولا يُضارَّ كاتِبٌ وَلا شَهيدٌ}.
وهذا بعيد, فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائناً من كان, وإنما كان ذلك على وجه آخر, وهو أنه من علم ذلك بينه لهما, وليس عليه أن يكتبه, ولكن يبينه لهم حتى يكتباه أو يكتبه لهما أجيراً أو متبرع بإملاء من يعلمه, كما لو استفتيناه في صوم أو صلاة تطوعاً أو فرضاً, فعليه بيان الشريعة في ذلك, فهذا مثله, ولو كانت الكتابة واجبة, لما صح الاستئجار عليها, لأن الإجارة على فعل الواجبات باطلة, ولم يختلف العلماء في جواز الإجارة على كتب كتاب الوثيقة.
قوله تعالى: {ولا يَأبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كما عَلّمَهُ الله}: [282]:(1/193)
نهى الكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله به, وهذا النهي على الوجوب, إذ المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع, كما لا يصلي النفل بغير طهارة وستر, لا لوجوب النفل, ولكن لأنها إذا أديت فلا يجوز أداؤها إلا بشروطها.
قوله عز وجل {وَلْيُمْلِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ}: عند الحكم بما أقر به على نفسه.
وقوله تعالى: {وَلْيَتّقِ اللهَ رَبُّهُ وَلا يَبْخَس منهُ شَيْئاً} فيه دلالة على أن من أقر لغيره بشيء, فالقول فيه قوله, لأن البخس هو النقص, فلما وعظه في ترك البخس, دل على أنه إذا بخس كان قوله مقبولاً.
وهو مثل قوله: {وَلا يَحِلُّ لهُنَّ أن يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ في أرْحامِهِنَّ}, لما وعظهن في الكتمان, دل على أن المرجع في ذلك إلى قولهن..
ومثله قوله: {وَلا تَكْتُموا الشّهادَةَ وَمَنْ يكْتُمْها فإنّه آثِمٌ قَلْبُهُ}, فدل على أنهم متى كتموها, كان القول قولهم فيها.
وكذلك وعظه الذي عليه الحق في تركه البخس, دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" فجعل القول قول المدعى عليه دون المدعي, وأوجب عليه اليمين, وهو معنى قوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} في إيجاب الرجوع إلى قوله:
وقوله تعالى: {فإنْ كانَ الّذي علَيهِ الحَقُّ سَفِيهاً أوْ لا يسْتَطَيعُ أنْ يُمْلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالْعَدلِ} [282]:
اعلم أنه تعالى ذكر السفيه في مواضع من كتابه في أمر الدين والدنيا:
فأما في أمر الدين, فمثل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفُهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمْ الّتي كانوا عَلَيْها}.
وقال: {وإذا قِيلَ لهُمْ آمِنوا كما آمَنَ النّاسُ قالوا أنؤمِنُ كما أمَنَ السُّفُهاءُ} الآية.
وإنما ذلك في أمر الدين.
وقال في نوع آخر: {وَلا تُؤتوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمْ الّتي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً}.(1/194)
فهذا وإن كان خطاب غير السفهاء, ولكن المراد بقوله: أموالكم أي أموالهم, ولذلك قال: {وارْزُقوهُمْ فيها واكْسُوهُمْ}.
فعلم به أن المراد بقوله "أموالكم", الأموال التي أضيفت اليكم ولاية لا ملكاً.
وذلك يدل دلالة ظاهرة, على أن على السفيه في أمواله ولاية, وأن أمر أمواله مفوض إلى وليه, حتى إنه يرزقه منه ويكسوه, فقال: أموالكم, وأراد به أموالكم من حيث نفاذ التصرف, وأموالهم من حيث الملك.
ومثله قوله تعالى: {فَتُوبوا إلى بارِئِكُمْ فاقْتُلوا أنْفُسَكُمْ} أي ليقتل بعضكم بعضاً.
وقال في موضع آخر {فإذا دَخَلْتُمْ بُيوتاً فَسَلِّموا عَلى أنْفُسِكُم تحِيّةً مِنْ عِندِ اللهِ مُبارَكَةً طَيّبةً} أي يسلم بعضكم على بعض.
وأصل السفه في الدين والدنيا واحد، وهو الخفة والجهل بموضع الحط والأمر الذي قصد له, فالسفيه في الدين والسفيه في رأيه هو الجاهل فيه, ومنه قول الشاعر:
* تخاف أن تسفه أحلامنا * ونخمل الدهر مع الخامل *
والبذيء اللسان يسمى سفيهاً, لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة.
وجمع الله تعالى بين السفيه والضعيف, والضعيف هاهنا عند المفسرين هو العاجز عن الإملاء, إما بعيّة أو خرسه أو جهله بأداء الكلام.
فليملل وليه من يقوم مقامه, وليس في ذلك تصريح بأن إقرار الولي عليه مقبول.
وفي هذه الآية دليل ظاهر على أن الحجر ثابت على السفيه, ولا فيه بيان معنى السفه الذي يقتضي الحجر على الحر الثابت شرعاً، بل قوله تعالى:
{إذا تَدايَنْتُمْ بدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكتُبوهُ ولْيَكتُبْ بَيْنَكُم كاتِبٌ}, إلى قوله: {فإنْ كانَ الّذي علَيهِ الحَقُّ سفيهاً أو ضَعيفاً}, يدل على أن المداينة جرت معه, فإنه قال: إذا تداينتم, ثم قال: فإن لم يستطع بعض المتداينين أن يكتبوا فليكتب الولي بالعدل, وليس الضعف اسماً للمحجور عليه, فإنه يتناول الخرف والأخرس والعيي..(1/195)
نعم قوله تعالى: {وَلا تُؤتوا السُّفُهاءَ أمْوالَكُمْ} يدل على ذلك، على ما سنبينه في سورة النساء.
فأما قوله سفيهاً أو ضعيفاً بعد أن ابتدأ الآية, فقد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف, فأجاز تصرف هؤلاء كلهم, فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد, ذكر من لا يكمل لذلك, إما لجهل بالشروط أو ضعف عقل, لا يحسن معه الإملاء.
فإن لم يوجد نقصان عقله حجر عليه, إما لصغره أو لخوف وكبر سن, لأن قوله {ضعيفاً} يحتمل الأمرين جميعاً.
وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو لمرض أو لكبر سن, فثقل لسانه عن الإملاء, وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه بخرس وليّ, عند أحد من العلماء, مثل ما يثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه.
نعم يبقى أن يقال إن قوله: {إذا تَدايَنْتُمْ بدَيْنٍ}, يقتضي كون المداينة جارية مع السفيه والضعيف وغيرهما.
ولا شك أن السفيه لا يمنعه السفه من الإملاء إذا لم يكن مولياً عليه, فإن منعه من الإملاء, فهو الضعيف الذي لا يستطيع أن يمل, فما معنى ذكر السفه هاهنا؟ فيقال: معناه أن السفيه لخفة عقله لا يستطيع الشرائط إلا أن يشار اليه ويعرف الشرائط فيه.
وبالجملة لفظ السفيه مشترك, يشتمل على معان مختلفة, فيجوز إطلاقه على الصبي والمجنون والكافر وبذيء اللسان والمنافق, وهؤلاء لا يستحقون الحجر.
نعم لما قال الله عز وجل: {وَلا تؤتُوا السُّفَهاءَ أموالَكُم}, عرفنا أن المراد به سفه يتعلق بالمال, وسيأتي بيانه إن شاء الله..
قوله: {واسْتَشْهِدوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ}, ظن ظانون أن ذلك يتناول الأحرار والعبيد, لأن العبيد من رجالنا وأهل ديننا.
فقيل لهم: قد قال: {إذا تَدايَنْتُمْ} وساق الخطاب إلى قوله: {مِنْ رِجالِكُمْ}, وظاهر الخطاب تناوله للذين يتداينون, والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة.(1/196)
ولعلهم يقولون إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها, وفيه من اختلاف الأصوليين ما لا يخفى.
وأقوى ما قيل في رد شهادة العبيد من دلالة كتاب الله تعالى, أن الله تعالى جعل الشهادة منصباً, وجعل الشاهد قواماً بالقسط لإحياء حقوق المسلمين, فقال: {كونوا قَوّامينَ بالْقِسْطِ}.
وإنما يبين معنى كونه ناهضاً به, إذا دعى إليها وأجاب ووجبت عليه الإجابة, كما قال تعالى: {ولا يَأبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعوا}.
ولا يتصور استقلال العبد بهذا المعنى, لكونه ممنوعاً من الخروج إلى القاضي, وتصحيح دعوى المدعى, ولأجل ذلك لم يجعل أهلاً للولاية في حق أولاده, لأنها تستدعي القيام بالنظر, ولا يتأتى ذلك مع قيام الرق, فلم يثبت له المنصب.
والمرأة في معنى الاستقلال, لما كانت دون الرجل, أثر ذلك في شهادتها وولايتها جميعاً, ولكن لا يسلب الأمران عنها.
ولأجل ذلك لم يكن العبد مساوياً للحر في الجمعة حتى لا تنعقد به, فإنها تستدعي أسباباً لا تتهيأ للعبد.
ولأن الشهادة منصب أخذ على الشاهد فيه تخير ضروب من الوقار وحفظ الحرمة, حتى يتخير من الحرف أعلاها وأولاها, ومن الأفعال أرْتبها وأحسنها, ولا تخير من العبد أصلاً, فإن السيد يصرفه كيف شاء, في دنيات الأعمال وعليتها, فليس يؤهل لمنصب لا يستقل به, ولذلك لم يكن ولياً ولا حاكماً.
وقد جمع الله تعالى بين درجة الشاهد والحاكم فقال: {كونوا قَوّامينَ بالْقِسْطِ شُهَداءَ للهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقيراً فاللهُ أوْلى بِهِما فَلا تَتّبِعوا الهَوى أنْ تَعْدِلوا وإن تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا}.
فجعل الحاكم شاهداً لله تعالى, ولم يجعل العبد أهلاً له, لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة اليه, ولا يتأتى ذلك من العبد أصلاً, فكذلك منصب الشهود.(1/197)
وقد جعل الله تعالى للعبد المملوك نهاية المثل في عدم القدرة فقال: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مْملوكاً لا يقْدِرُ عَلى شَيءٍ}.
وكيف يكون بهذه المثابة من يقدر على تنفيذ قوله في الغير في الدماء والفروج؟ ولم يثبت له قوله نافذ في حكم ما, إلا فيما لا طريق اليه إلا من جهته, كالإسلام والطلاق, فإن الحجر عليه فيه يؤذن بامتناع الطلاق رأساً, وفيه مفسدة وارعة عن النكاح, وكذا الإقرار بالدم عند بعض العلماء, فإنه لا طريق إلى الخلاص عن المظلمة إلا من هذه الجهة.
فأما الشهادة فلا تدعو الضرورة فيها إلى العبيد لقيام الحر بها دونهم, فهذا تمام هذا المعنى.
فأما الشهادة فلا تدعو الضرورة فيها إلى العبيد الحر بها دونهم, فهذا تمام هذا المعنى.
وفيه معنى آخر, وهو أن قبول قول زيد على عمرو, بعيد عن قياس الأصول, إلا أن الشرع رأى ذلك لمصلحة إحياء الحقوق وخوفاً من ضياعها, ولأجل ذلك كانت الشهادة من فروض الكفايات كالجهاد، فإذا لم يكن من أهل الخطاب بالجهاد, ولو حضر وقاتل لم يسهم له وجب ألا يكون من أهل الخطاب بالشهادة, ومتى شهد لم تقبل شهادته, ولم يكن له حكم الشهود, كما لم يثبت له حكم المجاهد, وإن شهد القتال في استحقاق السهم.
ولما أثر نقص لأنوثة في منصب الولاية, سلب استقلال المرأة بالشهادة إلا أن يكون معها رجل.
فإثبات استقلال العبيد بالشهادة إيفاء رتبتهم على رتبة النساء, فإن كان كذلك, فلتكن رتبتهم موفية على رتبتهن في الولاية, والأمر بالعكس من ذلك, وذلك يدل على سقوط رتبة الشهادة في حق العبيد.
نعم يقبل خبر العبيد على الانفراد وخبر النسوة كمثل, لأن طريق قبول الخبر شيء, وطريق قبول الشهادة شيء، فليس يتعلق بالخبر دعوى واستحضار لأداء الشهادة, ويتعلق ذلك بالشهادة.
فالذي يروي الخبر, يخبر عما علمه, سواء استشهد أو لم يستشهد، وليس يتعلق قبوله بحاكم ومجلس حكم, وإنما سبيله إخبار عن شيء شاهده إن كان قد شاهده.(1/198)
وأما الشهادة, فسبيلها سبيل إيجاب حق على ممتنع باستحضار واستدعاء، ولا يتأتى ذلك للعبد على ما بيناه من قبل.
وقد نقل عن علي رضي الله عنه إجازة شهادة الصبيان, وذلك لم يثبت عنه, مع أن قوله {مِنْ رِجالِكُمْ} لا يتناوله.
ولا يقبل خبره أيضاً, ولا يلزم بخبره حكم, فإن عدالته غير ثابتة, ولا أنه بالمعاصي يأثم, فلا عبرة بقوله.
وكيف يوثق بقول من يعلم أنه لو كذب فلا يؤاخذ بالكذب، ولا تبعة عليه في الآخرة؟
ودلت الآية على أن الأعمى من أهل الشهادة فإنه من رجالنا, ولكن إذا علم يقيناً, مثل ما روى ابن عباس قال:
مثل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع.
وذلك يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به, لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطىء.
نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها, لأن الإقدام على الوطء جائز بغالب الظن, قلو زفت اليه امرأة وقيل هذه امرأتك, وهو لا يعرفها جاز له وطؤها.
ويحل له قبول هدية جاره بقول الرسول.
ولو أخبر مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب, لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه, لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة, وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن, ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت له الشهادة بعد العمى, ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه, كالغيبة والموت في المشهود عليه, فهذا مذهب هؤلاء.
والذي يمنع أداء الأعمى فيما يحمل بصيراً لا وجه لقوله على ما يجب بعد أن كان الأعمى مرضياً عدلاً.
وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض, كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقة الصوت, لأنه رأى أن الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين, ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان, وهو ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.(1/199)
ومقتضى عموم كتاب الله تعالى, تجويز شهادة البدوي على القروي, لأنه قد يكون عدلاً مرضياً وهو من رجالنا وأهل ديننا, وكونه بدوياً ككونه من أهل بلد آخر.
وفي السلف من لا يجوز ذلك, وهو رواية ابن وهب عن مالك, ومذهب أحمد.
والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول, تسوي بين القروي والبدوي, مثل قوله: {وأشْهَدوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُم}.
{واسْتَشْهِدوا شَهِيدَيْنِ - إلى قوله - مّمِنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} [282].
واختلاف الأماكن أيّ أثر له؟
وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية".
وليس فيه فرق بين القروي في الحضر أو في السفر, ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله.
وروى عكرمة عن ابن عباس, أنه شهد أعرابي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال, فأمر بلالاً أن ينادي في الناس فيصوموا غداً.
فقبل شهادة الأعرابي وأمر الناس بالصيام.
وجائز أن يكون خبر أبي هريرة في وقت كان الشرك والنفاق والتساهل في أمر الدين غالباً على أهل البادية, كما قال الله تعالى:
{وَمِنَ الأعْرابِ مَنْ يَتّخِذُ ما يُنفِقُ مَغْرَماً و يَتَرَبّصُ بكُمُ الدّوائِرَ عَلَيْهِمْ}.
فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب.
وقد وصف الله تعالى قوماً آخرين من الأعراب فقال:
{وَمِنَ الأعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ويَتّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِندَ اللهِ وصَلَواتِ الرَّسولِ} الآية, فمن كانت هذه صفته فبعيد أن لا تقبل شهادته, مع قبولها على البدوي الآخر المماثل له, وقبولها على القروي في السفر.
الأحكام الواردة في سورة ( البقرة )(1/200)
{ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:284]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
2)…رفع الحرج
3)…أصول فقه (النسخ, التكليف بما لا يُطاق)
4)…العقوبات (الحدود والقصاص)
قوله تعالى: {وإنْ تُبْدوا ما في أنْفُسِكُم أوْ تُخفوهُ يُحاسِبْكُمُ بهِ اللهُ} [284]:
ظن قوم أنها منسوخة بقوله: {لا يُكَلّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها} [286].
وقال آخرون: لا يجوز تقدير نسخها لأنه خبر ولا نسخ الخبر، وهذا بعيد.
فإن قوله: {يُحاسِبْكُمُ بهِ اللهُ}, يحتمل أن يكون معناه: إن شاء أن يحاسبكم, إذا لم ينسخ, فيكون في قوله يحاسبكم إضمار وتقييد وقد قيل لا يجوز أن يكون ناسخه قوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَها} فإن ذلك واجب لا يجوز ورود الشرع بخلافه, وهذا على قول من لا يجوز تكليفه ما لا يطاق, على أن قوله: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها}، يمنع تكليف ما لا يطاق, فإن قوله: {إنْ تُبْدوا ما في أَنْفُسِكُمْ أوُ تُخفوهُ} ليس نصاً فيما لا يطاق, بل هو في أعمال القلب: مثل الشك, أوالنفاق, وكتمان الشهادة, وكتمان الحقوق, وقد قال الله تعالى في موضع آخر:
{وَلكِنْ يؤاخِذُكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ}.
وقال تعالى: {إنِ الّذينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الّذينّ آمَنوا}. الآية..
وقال تعالى: {في قُلوبهِمْ مَرَضٌ} - أي شك - نعم ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعلموا به".(1/201)
وقد حمله العلماء على ما يلزمه من الأحكام مثل الطلاق, والعتاق, والبيع, التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به, والذي ذكره في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة.
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها} يمنع تكليف الزمن القيام للصلاة, وربما يؤخذ منه, وإن كان قادراً على الفعل غير أنه يلحقه حرج عظيم, فلا يجب عليه فعله, لأن الله تعالى لم يقل: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها, طاقتها, ولكن قال: {إلا وُسْعَها}.
وأخبر أنه لا يكلف الله أحداً إلا ما اتسعت له قدرته وإمكانه, دون ما تضيق عليه وتعنيت.
وقال الله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لأعْنَتَكُمْ}.
وقال في نعت النبي صلى الله عليه وسلم: {عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُمْ}..
قوله تعالى: {لا تؤاخِذنْا إنْ نَسِينا} يقتضي رفع المؤاخذة بالمنسي.
والمؤاخذة منقسمة إلى مؤاخذة في حكم الآخرة, وهو الإثم والعقاب.
وإلى مؤاخذة في حكم الدنيا, وهو إثبات التبعات والغرامات, والظاهر نفي حكم جميع ذلك.
وقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان", يقتضي رفع الخطإ مطلقاً ورفع حكمه, فلا جرم قال الشافعي في المنهيات كلها, الفعل المنسي كلا فعل, فإذا تكلم ساهياً, أو سلم ساهياً, أو أتى بالفعل الكثير ساهياً, فلا تبطل صلاته أصلاًً..
قوله تعالى: {لها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ}.
استدل به على أن من قتل غيره بمثقل وتخنيق وتغريق, فعليه ضمانه قصاصاً أو دية, خلافاً لمن جعل ديته على العاقلة, وذلك يخالف الظاهر.
ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب, لا يقتضي سقوطه عن شريكه.
ويدل على وجوب الحد على المرأة العاقلة, إذا مكنت مجنوناً من نفسها.
قوله تعالى: {وَلا تحْمِلْ عَليْنا إصْراً كما حَمَلْتَهُ عَلى الّذينَ مِنْ قَبْلِنا}.
يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره الحنيفية السهلة السمحة, وهذا بين.(1/202)
قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بهِ} [286]:
يحتمل نفي ما يثقل من التكاليف, نحو قتل النفس الذي كلف بنو إسرائيل.
ويجوز أن يعبر عما يثقل, بأنه لا يطيقه كقولك: ما أطيق الكلام، وما أستطيع أن أرى فلاناً, ولا يريد نفي القدرة.
وقال تعالى: {وكانوا لا يَسْتَطيعونَ سَمْعاً}:
والمراد بجميع ذلك استثقاله فقط.
ويجوز أن يراد به نفي القدرة رأساً على الفعل والترك جميعاً, فهذا تمام ما حضرنا من معاني القرآن في سورة البقرة.(1/203)
الأحكام الواردة في سورة ( آل عمران )
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [آل عمران:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (المحكم والمتشابه)
2)…أصول فقه (التأويل)
قوله تعالى: {هُوَ الّذي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ} [7].
فجعل الله آيات الكتاب منقسمة إلى المحكم والمتشابه, وسمى المحكمات أم الكتاب, وذلك يقتضي رد المتشابهات اليها, فإن الأم لا يظهر لها معنى هاهنا, سوى أنها الأصل لما سواها, ويفهم منها معاني المتشابهات, وذلك يقتضي كون المتشابه محتملاً لمعاني مختلفة, يتعرف مراد الله منها بردها إلى المحكمات, وإن كان كثير منها يستدل بالأدلة العقلية على معرفة المراد منها.
ويمكن أن يقال: سميت المحكمات أمّاً: لأنها أنفع لعباد الله تعالى, وأفضل من المتشابهات, كما سميت فاتحة الكتاب أم الكتاب, وسميت مكة أم القرى.
ويحتمل أن يقال: سمّي المحكمات أم الكتاب لأنه يلوح معناها, فيستنبط منها الفوائد, ويقاس عليها فسماها أم الكتاب, أي الأم والأصل من الكتاب.
فعلى المحمل الأول, إذا قلنا معنى أم الكتاب أن المتشابهات مردودة إلى المحكمات, ومعتبرة بها, ومقيسة عليها, فالمتشابهات هي التي تحتمل معاني مختلفة, فيتعرف مراد الله منها بالمحكمات.(2/1)
وإذا لم يقل ذلك, فالمتشابهات يجوز أن يعنى بها ما لم يعلم معناه من آيات الساعة وغيرها, وحروف التهجي التي ظن قوم أنها أودعت معاني لا يعلمها إلا الله, وإن كان ذلك فاسداً عندنا.
والمتعلق بالأحكام أن تأويل ما يتعلق بأحكام الشرع واجب, وما لا يتعلق به فلا يجب ويجوز.
وقد ظن قوم أنه لا يجوز لأنه تعالى قال:
{فَأمّا الّذينَ في قُلوبِهمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} [7].
وقد جعل قوم تمام الكلام عند قوله: {والرّاسِخونَ في العِلْمِ} [7] وجعل الواو في قوله: {والرّاسِخونَ} للجمع.
ومنهم من جعل تمام للكلام عند قوله: {إلاّ اللهُ}, وأن معناه {وَما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاّ اللهُ} يعني تأويل المتشابهات, والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين: {آمَنّا به كُلٌ مِنْ عِندِ رَبِّنا}، بما نصب من الدلائل في المحكم, ومكن من رده اليه, فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا: آمنا بالجميع, كل من عند ربنا, وما لم يحط علمنا به من الخفايا مما في شرعه المصالح, فعلمنا عند ربنا.
ومن الناس من حرم تأويل المتشابهات ورأى أن معنى قوله في المحكمات: {هُنَّ أمُّ الكِتابِ} أي فواتح السور, أو هي الأوامر والنواهي ومجامع التكاليف التي هي عماد الدين, كما أن عماد الباب أم الباب, واستدل بقوله: {وَما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ اللهُ}.
وقال قوم: {والراسِخونَ في العِلْمِ} لا يجوز أن يكون مضموماً إلى قوله: {إلاّ اللهُ} لأنها لو كانت للجمع لقال: ويقولون آمنا به, ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر.
والذين خالفوا هذا الرأي ذكروا أنَّ مثل هذا شائع, وقد وجد مثله في القرآن, وهو قوله في شأن قسم الفيء.
{ما أفاءَ اللهُ على رسولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسولِ} إلى قوله {شَديدُ العِقابِ}.
ثم تلاه بالتفصيل, وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال:
{لِلْفُقَراءِ المُهاجرينَ}، إلى قوله: {والّذينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ}.(2/2)
وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفيء كالأولين, والواو فيه للجمع ثم قال: {يَقولونَ رَبّنا اغْفِر لَنا ولإخْوانِنا}.
كذلك قوله: {والرّاسِخونَ في العِلْمِ}، يقولون معناه: والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين: "ربنا آمنا"، فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في خبره.
ولأنهم إذا منعوا تأويل المتشابه, ووجب اتباع الظاهر, تناقضت الظواهر ووقعت الأحكام العقلية والسمعية, وهؤلاء الذين ينظرون إلى هذا الظاهر, أو لا ينظرون إلى ظاهر الواو في دلالته على الجمع المذكور ولم يحلوا ذلك على الابتداء وقطع المعطوف عليه, وذلك خلاف ظاهر دلالة الواو وهذا بين.
فأما قوله تعالى: {فأمّا الّذينَ في قُلوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعونَ ما تَشابهَ مِنْهُ, ابْتغاءَ الفِتْنَةِ}, فمثل ما روي عن الربيع بن أنس, أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا:
أليس هو كلمة الله وروح منه؛؟
فقال: بلى.
فقالوا: حسناً, أي أنا لا نسمع منك بعد هذا قولك إنه عبد الله, بعد أن قلت إنه روح الله, فنزل قوله تعالى:
{فأمّا الّذِينَ في قُلوبهِمْ زَيْغٌ فيتّبِعونَ ما تشابهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتْنةِ وابْتِغاءَ تأويلهِ}.
ثم أنزل تعالى: {إنَّ مثلَ عيسى عِندَ اللهِ كمثلِ آدَمَ خلقهُ مِنْ تُرابٍ}, الآية.
وقال: {هُوَ الّذي أنْزَلَ عليْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنَّ أمُّ الكِتابِ}.
معناه: إن كون عيسى عبد الله, محكم على معنى أن التأويل لا يتطرق إلى الآيات الدالة على أن عيسى عبد الله.
وقوله: "كلمة الله" يحتمل أن يكون معناه: أنه الذي بشر به في كتب الأنبياء المتقدمين, ومثله قوله تعالى: {ذَلكَ عِيسى ابنُ مرْيمَ قوْلَ الحقِّ الّذي فيهِ يَمْترُونَ} الآية.
فسماه كلمة وقولاً من حيث قدم البشارة به.(2/3)
وسمى روحه, لأنه خلق من غير ذكر, بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيْب مريم فقال:
{فنفخْنا فيهِ مِنْ روحِنا}, فأضاف الروح إلى نفسه تشريفاً له كبيت الله, وأرض الله, وسماء الله.
وقد سمى القرآن روحاً, لأنه يحيي به من الضلال, وسمى عيسى روحاً, لأنه كان يحيي به الناس في أمور دينهم, فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة, وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال, فهذا مثال المحكم والمتشابه, الذي يجب أن يرد معناه إلى معنى المحكم.
قوله تعالى: {وَيقْتُلونَ الّذينَ يأمُرونَ بالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} الآية [21], يدل على جواز الأمر بالمعروف مع خوف القتل.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } [آل عمران:23]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء
قوله تعالى: {ألمْ تَرَ إلى الّذينَ أوتوا نَصيباً مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [23].
فيه دلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته، لأنه دعا ألى كتاب الله تعالى.
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التقيّة
قال عليه السلام: "أنا بريءٌ من مُسلم معَ مُشرِك، فقيل: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تراءى نارهما".(2/4)
قوله تعالى: {تَتّقوا مِنْهُم تُقَاةُ} [28]. يدل على أن إظهار الموافقة في الاعتقاد وغيره جائز للتقية، وفي نفي الولاية، دليل على قطع الولاية بينهما في المال والنفس جميعاً.
الأحكام الواردة في سورة ( آل عمران )
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الموالاة
قوله تعالى: {لا يَتّخِذُ المؤمِنونَ الكافِرينَ أولياءَ مِن دونِ المؤمِنينَ} الآية [28].
يدل على أنه لا يجوز أن يتخذ منهم أولياء وأن يلاطفوا, ومثله من كتاب الله:
{لا تَتّخِذوا بِطانَةً مِنْ دونِكُمْ لا يَألونَكُمْ خَبالاً}.
وقال: {لا تجِدُ قَوْماً يؤمِنونَ باللهِ والّيومِ الآخِرِ}.
وقال: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالمينَ}.
وقال:{فَلا تَقْعُدُواْ مَعَهُم حتّى يخوضوا في حديِثٍ غَيْرِهِ إنّكُمْ إذاً مِثْلُهُمْ}.
وقال: {ولا تَرْكَنوا إلى الّذينَ ظَلَموا فَتَمَسّكُمُ النّارُ}.
وقال: {فأعْرضْ عَمّنْ تَولّى عَن ذِكْرِنا, ولَمْ يُرِدْ إلاَ الحياةَ الدُّنيا}.
وقال: {وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ}.
وقال: {يا أيها النّبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ}.
وقال: {يا أيها الّذين آمَنوا لا تَتّخِذوا اليَهودَ والنّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهُم أوْلِياءُ بَعْضٍ}.
وقال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِه أزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فيهِ}.
فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم, عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا.(2/5)
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإبل بني المصطلق, وقد عَبست بأبوالها من السمن, فتقنع بثوبه ومضى يقول: يقول الله عز وجل:
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بهِ أزْواجاً مِنْهُمْ}.
وقال تعالى: {يا أيها الّذينَ آمَنوا لا تَتخِذوا عَدُويّ وعَدُوَّكُم أوْلِياءَ تُلقونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدَّةِ}.
{ ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران:44]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإستهام (القرعة)
قوله تعالى: {إذْ يُلقونَ أقْلامَهُمْ أيهُمُ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [44].
يمكن أن يستدل به على جواز القرعة في إعتاق في مرضه إذا مات ولا مال له غيرهم, وفيه نظر, فإن ذلك كان إقراعاً فيما يثبت بتراضيهم, وكانت القرعة طلباً للرضا، ورفعاً لطلب الاختصاص بطريق الحكم, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة, وكذلك كان حكم كفالة مريم عليها السلام, وغير جائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.
{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران:61]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصية
2)…الإبن
قوله تعالى: {فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُم} [61].(2/6)
واعلم أن في هذا دلالة على أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة, وقال الله تعالى: {نَدْعُ أبناءَنا وأبْناءَكُم}, ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بنون غيرهما, وقال للحسن:
"إن ابني هذا سيد".
وقال فيه حين بال وهو صغير:
"لا ترزموا ابني هذا".
وهما من ذريته أيضاً, كما جعل الله عيسى من ذرية إبراهيم بقوله:
{ومِن ذُرِّيّتِهِ داوُدَ, وسُلَيْمانَ, وأيَوبَ, ويوسُفَ، وموسَى, وهارُونَ, وكذلكَ نَجْزِي المُحْسِنينَ, وزَكَرِيّا ويحيى وعيسى}, وأنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له.
وقال كثير من العلماء: إن هذا مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهما, لقوله عليه السلام:
"كل سببٍ يَنْقَطِعُ يومَ القِيامةِ إلاَّ سَبَبي ونَسي".
وقد قال بعض أصحابنا: فمن أوصى لولد فلان, ولم يكن لصلبه ولد, وله ولد ابن, وولد ابنة, أن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة, وهو قول الشافعي, وإلا فإذا استولد الهاشمي جارية حبشية كان الولد متشرفاً بأبيه.
الأحكام الواردة في سورة ( آل عمران )
{ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران:64]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أهل الكتاب
2)…أصول فقه (الاستحسان)
3)…الإمامة الكبرى
قوله تعالى: {إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ, ألاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ ولا نُشْرِكَ بهِ شَيْئاً, ولا يَتّخِذَ بعضُنا بَعْضاً أرْباباً مِنْ دونِ اللهِ} [64].(2/7)
معناه: ألا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى, وهو نظير قوله تعالى: {اتّخَذوا أحْبارَهُم ورُهْبانهُمْ أرْباباً مِن دونِ اللهِ} معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم, في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله تعالى ولم يحله, وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد, الذي لا يستند إلى دليل شرعي, مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة.
وفيه رد على الرافض الذين يقولون: يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي, وأنه يحل ما حرمه الله, من غير أن يبين مستنداً من الشريعة.
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران:75]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشهادات
قوله تعالى: {ويَقُولونَ على اللهِ الكَذِبَ وَهُم يَعْلَمون} [75] يدل على أن الكافر لا يجعل أهلاً لقبول شهادته لأنه تعالى وصفه بأنه كذاب.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَائِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران:77]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الأموال)
قوله تعالى: {يَشْترونَ بِعَهْدِ اللهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قليلاً} [77].
يدل على أن المال لا يصير حلالاً له إذا قضى القاضي بحكم الظاهر.
الأحكام الواردة في سورة ( آل عمران )(2/8)
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران:93]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
2)…الأيمان والنذور
3)…المباح
قوله تعالى: {كُلُّ الطّعامِ كانَ حلاً لبني إسرائيلَ إلاّ ما حَرَّمَ إسْرائيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أن تُنَزَّلَ التّوْراةُ} [93].
وهذا يدل على جواز إطلاق الله تعالى للأنبياء تحريم ما أرادوا تحريمه, ويعصمهم عن الزلل في اختياراتهم, ويدل على جواز النسخ أيضاً، وظاهر ذلك أنه حرمه بنفسه, لا أنه حرم عليه بالوحي, فإن الله تعالى أضاف التحريم اليه, ولم يكن ذلك بالاجتهاد في النظر في أدلة الشرع, فإن الذي كان حلالاً من قبل نصاً لا يتصور الاجتهاد المأخوذ من أصول الشرع في تحريمه, والاجتهاد طلب أدلة الشرع والنظر في معانيها, وقد كان ذلك حلالاً من جهة الشرع, فعلم أنه صار محرماً بعد الإباحة بتحريم يعقوب على نفسه لا بالاجتهاد, بل كان مأذوناً له في أن يحرم ما شاء على نفسه, ولم يحرمها الله تعالى, وربما يدل ذلك على أن الذي كان من يعقوب انتسخ ثانياً من جهة الشريعة, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم مارية على نفسه, ولم يحرمها الله تعالى.
وربما يدل ذلك على أن الذي كان من يعقوب انتسخ بهذا.
ويجوز أن يقال: ومع تحريم مارية ليس نسخاً لغيرها.
ويمكن أن يقال: مطلق قوله تعالى: {لِمَ تُحرِّمُ ما أحلَ اللهُ لكَ} يقتضي أن لا يختص بالشافعي.
وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى فجعلها مخصوصاً لموضع النص.
وأبو حنيفة رأى ذلك أصلاً في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين.(2/9)
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران:96-97]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحرم المكي
2)…القصاص
قوله تعالى: {إنَّ أوَّلَ بيْتٍ وُضعَ لِلنّاس} - إلى قوله - {وَمنْ دَخلهُ كانَ آمِناً} [96, 97].
قوله: {فيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إبراهيمَ}.
والآية في ذلك أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله عز وجل, ليكون ذلك آية ودلالة على توحيد الله, وصدق نبوة إبراهيم.
ومن الآية فيه: إمحاق الأحجار في موضع الرمي.
وامتناع الطير من العلو عليه, وإنما يطير حوله لا فوقه.
وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته - وقد كانت العادة جارية بذلك - ومن جملة ذلك: هلاك أصحاب الفيل.
فقال الشافعي: لما ذكر الله تعالى أن فيها آيات بينات جعل من جملتها: "أن من دخله كان آمناً", وأن كان من الآيات في أن الله تعالى جعل لذلك الموضع هيبة ووقاراً وعظمة في نفوس المفسدين المتمردين, كما قال تعالى:
{فلْيعْبُدوا رَبَّ هذا البيْت, الذي أطْعَمََهُمْ مِنْ جوعٍ} بأن يجبي اليه ثمرات كل شيء وهو بواد غير ذي زرع, {وأمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
وقال: {أوَلَمْ نُمَكِّنْ لهُمْ حَرَماً آمِناً}.
فقوله: {كانَ آمِناً}: مرتباً على ذكر الآيات, ظاهر في كونه خبراً عن شيء كان, وذلك لا يدل على أن من عصى الله تعالى, والتزم حد الله تعظيماً لأمر الله وإجلالاً لدينه, فهرب مما وجب, وصاحب الشرع يحرم عليه الالتجاء إلى الحرم, فإنه أمر تسليم النفس لحق الله تعالى, أنه يكون آمناً.(2/10)
وهذا ليس بتأويل, إنما هو دليل مأخوذ من ظاهر الخبر, وهو قوله "كان" ومن ظاهر السياق في ذكر الآيات وعد كونه آمناً في جملتها.
فإذا قيل: معناه لا تقتلوا أنتم, فليس بينظم ذلك في سياق الآية, سيما وهو يضطر إلى الخروج بقطع المير عنه, فهو خائف صباحاً ومساء، فكونه آمناً يخالف ذلك.
ويدل على ذلك أن القائل إذا قال: من دخل هذا الموضع كان آمناً, ثم لزمته حدود النفس وعقوبات على الأطراف, فإذا قيل: إنها تستوفى منه, لم يتحقق معنى الأمن مع ذلك, وعد إطلاق لفظ الأمن على كل داخل, مع إيجاب هذه العقوبات عليه مستلزماً.
فإذا تقرر ذلك, فكيف تترك العمومات في القصاص والزواجر لهذا الكلام الوارد في معرض الآيات بلفظ الخبر؟
وهل جاز الحبس في الحرم الملتجىء اليه في دين عليه إلا لعموم قوله عليه السلام:
"لي الواجد يحل عرضه وعقوبته".
وهل وجب القصاص في النفس وغيرها, إلا على وجه واحد بقوله تعالى:
{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيها أنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ والعَيْنَ بالْعَينِ} الاية.
أولا يعلمون أنه إذا قطعت أطرافه لم تكن أمنة, ولا الداخل آمناً, فإن قطع الطرف يخشى منه هلاك النفس؟
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران:97]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {وللهِ عَلى النّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ استَطاعَ إليهِ} الآية [97]:
والاستطاعة وردت مطلقة, وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, بالزاد والراحلة, لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها, فإن المريض, والخائف, والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة, والزمن, وكل من تعذر عليه والوصول, فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج, وإن كان واجداً للزاد والراحلة.(2/11)
فدل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الاستطاعة الزاد والراحلة"، إبانة أن من أمكنه المشي إلى البيت ولم يجد زاداً أو راحلة, لا يلزمه الحج, فبين النبي صلى الله عليه وسلم, أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي, وأن من لا يمكنه الوصول اليه إلا بالمشي الذي يشق عليه ويعسر, فلا حج عليه, وذلك تنبيه عل ىأن كل من لا يصل إلى البيت إلا بمشقة شديدة, فقد سقط عنه الحج, وقد قال الله تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّينِ مِنْ حَرَج}.
والمرأة لما كانت كلحم على وضم, وكان ما يتوق - من خروجها دون محرم ونسوة ثقات - من الضرر على نفسها, أعظم من ضرر المشي في حق القادر عليه, فعلم بسقوط فرض المشي لما فيه من المشقة, سقوط ما فوقه, وهذا بالغ حداً.
نعم هذا الذي قلناه من المنصوص عليه، ودلالته في سقوط الحج, لضرر يعود إلى من عليه الحج, مع أنه قد ورد في منع وجوب الحج على المرأة, وعلى الزمن الذي لا يستطيع ركوب الراحلة إلا بمشقة شديدة أخبار خاصة.
وقد يمتنع وجوب الحج لضرر يرجع إلى الغير, إلى الحاج, كأن يكون عليه دين, أو يكون أجيراً، والمرأة إذا أرادت حجة الإسلام وهي منكوحة.
والاستطاعة تنعدم بهذه الجهات والأسباب, إذا امتنعت الاستطاعة، لضرر يرجع إلى الماشي, فلأن تمتنع بحق الغير أولى, فإن الماشي إن تكلف المشقة ربح الثواب, وأما من له الحق فإنه يتضرر من غير نفع يحصل له في مقابلته, وذلك يدل على أن الأمر فيه أعظم.
مع أنه يمكن أن يذكر فيه معنى آخر, وهو أن الحج قد ثبت بالدليل أنه على التراخي, وهذه الحقوق على الفور, والحج لا يفوت, وهذه الحقوق تفوت, والحج حق الله, وهذه الحقوق للآدمي, فربما يجري فيها زيادة مضايقة لحاجة الآدمي, وليس الشروع في هذه المعاني من مقصودنا إنما مقصودنا: اقتباس هذه الأحكام من هذه الآية الواردة في معنى الاستطاعة.
وهاهنا نوع آخر من الكلام, وهو أن الذين لا استطاعة لهم من المكلفين قسمان:(2/12)
أحدهما: إذا تكلف المشقة وحج وقع عن فرض حجة الاسلام.
والآخر: إذا حج لم تقع عن حجة الاسلام.
فالقسم الأول كالمرأة إذا سافرت دون محرم أو نسوة ثقات, أو تكلف الماشي المشي, أو المريض تكلف المشقة.
والقسم الآخر كالعبد يحج دون إذن مولاه, فإنه لا يقع عن حجة الإسلام, حتى إذا عتق وجبت حجة الإسلام.
مع أن القسمين على سواء في سقوط خطاب الأداء فيهما.
وقد خالف في العبد قوم من السلف, وحكى الرازي هذا المذهب عن الشافعي, وهو منه غلط, ولم يختلف قول الشافعي في هذا المعنى، ولا عن أصحابه وجه على ما رواه عنه الرازي.
والفارق بين القسمين: إن كان من وصل إلى البيت ولزمه الحج, كالفقير والمريض الذي سهل عليه ذلك العذر من العمل, أو بسقط صاحب الحق, مثل المديون والأجير والزوج, أو لصاحبه المحرم مثل المرأة, فيلزمهم الحج, فإذا حجوا بأنفسهم وقع الموقع, فإنه يعلم بوجوب الحج عليهم عند حضور البيت, أو رصا من له الحق أن امتناع الأداء عارض, وأن الوجوب لولا العارض ثابت, وإذا أدى الحج, فليس في منع الاعتداد به عن حجة الاسلام إضرار بالغريم, فلا حج عليه.
فدل أن المانع في الخطاب, وأن الخطاب قاصر عنه لنقص فيه, بالإضافة إلى الحج, فلا جرم لا يقع عن حجة الاسلام بحال.
فإن قال قائل: ولو وقع السؤال عن هذا وقيل: العبد إذا كان حاضراً في المسجد الحرام وأذن له السيد, فلم لا يلزمه الحج؟
قلنا هذا سؤال على الإجماع, وربما لا يعلل ذلك, ولكن إذا ثبت هذا الحكم بالإجماع, استدللنا به على أنه لا يعتد بحجة في حال الرق على حجة الاسلام, ولعل المعنى فيه: أن الرق ضرب على الكافر في الأصل, ولم يكن حج الكافر معتداً به, ولما ضرب عليه الرق, ضرب عليه ضرباً مؤبداً، فلم يكن في حالة الكفر أهلاً لأداء عبادة الحج, ولما ضرب الرق المؤبد عليه, تقاصر عنه الخطاب أبداً, فلم يدخل تحت خطاب الحج بوجه.(2/13)
وأما الفقر فعارض لا يدوم, والمرض كمثل, وقد سبق الخطاب, وكذا المنكوحة, فهذا هو السبب فيه.
نعم العبد لا جمعة عليه, ولإذا أداها سقط الفرض, لأن عليه الظهر, والجمعة قائمة مقامه, وليس عليه شيء يقوم الحج مقامه, وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أيما صبي حج ثم أدرك, فعليه أن يحج حجة أخرى, وأيما أعرابي حج ثم هاجر, فعليه أن يحج حجة أخرى, وأيما عبد حج ثم أعتق, فعليه أن يحج حجة أخرى".
وهذا إذا صح أغنى عن تكلف كل معنى.
وظاهر قوله: {وللهِ عَلى النّاسِ حجُّ البَيْتِ} الاكتفاء بحجة واحدة.
الأحكام الواردة في سورة ( آل عمران )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإكراه
2)…التقوى
قوله تعالى: {اتّقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية [102]:
قد قيل إنه منسوخ, لأن حقه تعالى يقتضي القيام بحقوق الله في حالة الأمن والخوف وترك التقية فيها, ثم نسخ حالة التقية بقوله: {ما استَطَعتم}
فيقال لهذا القائل: هو عند الإكراه مستطيع, فيقول: إذا عظمت المشقة يحسن أن يقال: هو غير مستطيع كما قال تعالى: {وكانوا لا يَسْتَطيعونَ سَمْعا}, ويقال لهم: ما معنى حق تقاته إلا امتثال أمر الله تعالى على نحو ما أمر؟ وإلا فقد تعالى الله عن الغرض في عبادتنا, وإنما يتقي معاصي الله خوفاً من عقوبته لترك الأمر, فلا بد من تأمل الأمر, فكل من امتثل أمر الله تعالى فقد أتقاه حق تقاته, فعلى هذا لا نسخ فيه.(2/14)
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران:103]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحق واحد
2)…الاختلاف
قوله تعالى: {واعْتَصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعاً ولا تَفَرَّقوا} [103]
وحبل الله في عهده في قول, والقرآن في قول آخر, وكل ذلك صحيح.
وقوله: {ولا تَفَرَّقوا}: يجوز أن يراد به التفرق في أصول الدين, مثل قوله تعالى:
{وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقيماً فاتَّبِعوهُ وَلا تَتّبِعوا السُبلَ فَتَفرَّقَ بكُمْ عَنْ سَبيلِهِ}.
ويجوز أن يكون معناه: "ولا تفرقوا" متابعين للهوى والأغراض المختلفة, وكونوا في دين الله إخواناً, فيكون ذلك منعاً لهم عن التقاطع والتدابر, ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى:
{واذكُرو نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتم أعداء فألّفَ بينَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتمْ بنِعْمَتِهِ إخْواناً} [103].
وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع, فإن ذلك ليس اختلافاً, إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع, وليس اختلاف حكم الحائض والطاهرة في الصوم والصلاة, واختلاف حكم المقيم والمسافر في الإتمام والقصر, اختلافاً من حيث إن الواجب على كل واحد منهم, غير الواجب على الآخر, والاختلاف إذاً هو كالاختلاف في الصناعات والحرف وأصغار الاشياء, ومراسم الناس في أنها سبب الانتظام, وإنما منع الله اختلافاً هو سبب الفساد فهذا حكم مسائل الاجتهاد, فإن الاختلاف فيها سبب لاستخراح الغوامض ودقائق معاني الشرع, فاعلمه.(2/15)
وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث, وهم مع ذلك متواصلون, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك:
"اختلاف أمتي رحمة".
{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2)…الجهاد
3)…الصّيال
4)…البدع
قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمّةٌ يَدْعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهونَ عَنِ المُنْكَرِ} [104]:
وذلك يدل على أنه فرض لكنه فرض على الكفاية.
ولعل قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُم أمّةٌ} يدل على ذلك فإنه يقتضي بظاهرة أنه إذا قام به البعض, سقط عن الباقين, فإنه قال: {وَلْتَكُن مِنْكُمْ أمّة}.
أي إن جميعكم ربما لا يمكنهم ذلك, فليتول قوم منكم حتى يكون المعروف مأتياً والمنكر مرفوضاً, وقد أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف في مواضع في كتابه لا حاجة بنا إلى ذكرها, ووردت في ذلك أخبار أوفاها ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى:
{وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المؤمِنينَ اقْتَتَلوا فأصْلِحوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأخّرى فقاتِلوا الّتي تَبْغَى حَتّى تَفىءَ إلى أمْرِ اللهِ}.
وقال: {لُعِنَ الّذينَ كَفروا مِن بَني إسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُد} - إلى قوله - {كانوا لا يَتَناهونَ عَنْ مُنْكرٍ فَعَلُوه}.
وقد قال الله تعالى:
{يا أيها الّذينَ آمنوا عَلَيْكُم أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيتْم} الآية.(2/16)
وليس ذلك ناسخاً لوجوب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولكنه إذا أمكنه إزالته بلسانه فليفعله, وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة والقتل فليفعله, وإن انتهى بدون القتل لم يجز بالقتل وهذا يتلقى من قوله تعالى:
{فَقاتِلوا الّتي تَبْغِي حَتّى تَفيءَ إلى أمْرِ اللهِ}.
وعليه بنى العلماء: أنه إذا دفع الصائل على النفس, أو على المال عن نفسه, أو عن ماله, أو مال غيره, أو نفس غيره, فله ذلك ولا شيء عليه, ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر, فيجب عليه أن يدفعه عنه, إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به , ولو قصد ماله, فيجوز له أن يتركه عليه ولا يدفعه, وفي الصيال على النفس خلاف.
ولو كان في يد الغاصب مال غيره وسعك أن تبيعه, ويقتله إن لم يقف, وكذلك في السارق إذا أخذ المتاع فيجوز ابتياعه, والسارق الذي ينقب البيوت كمثل, حتى قال العلماء: لو فرضنا قوماً من أصحاب المكوس والضرائب والأموال الذين في أيديهم أموال الناس, وهم ممتنعون من إيصالها إلى الملاك, ولا ينفعهم الردع بالكلام والملام والتخويف بالله, فيجوز قتلهم من غير إنذار, لأنهم لا يقبلون ذلك من أحد لقوله تعالى:
{لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ} يعني: لم يقبل منكم ولا يقدر على منعه من الظلم, فعليك نفسك.
وقال تعالى في ذكر أصحاب السبت.
{أنجَيْنا الّذينَ يَنْهَوْنَ عنِ السوءِ وأخْذْنا الذينَ ظَلَموا}.
فدل ذلك على أن من لم ينه عن الظلم, جعل راضياً به حتى وجب تعذيبه, وقد نسب قتل الأنبياء المتقدمين, إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود, الذين كانوا من موالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم.(2/17)
وبنى الشافعي عليه: أن فعل الفاعل, إذا كان في نفسه قبيحاً ومفسدة فيجوز دفع الفاعل عنه لما يأتي على نفسه, ولا ضمان على قاتله, مثل أن يصول مجنون أو بهيمة على مال لرجل أو نفسه, فيجوز للمصول عليه ولغيره قتله, ولا ضمان عليه, وهو من قبيل النهي عن المنكر, وليس معنى النهي تكليف الفعل, ولكنه دفع الفاعل عن الفعل القبيح والظلم والتشنيع.
وأبو حنيفة يخالف في ذلك, لأنه يرى أن القاتل ليس ظالماً بفعله, ويقال له إنه ليس ظالماً بفعله, إلا لأن الفعل غير قبيح ولا مفسدة, ولكن لجهل الفاعل, ولو علمه كان به ظالماً ولحقه الذم واللوم والسفه, وهذا بين.
ومن جملة ذلك: أنه إذا كان في بلد الإسلام من يضلل الناس بشبهة وبدعة, فأنه يجب إزالته بما أمكن, لأنه نهي عن المنكر, ومن لم يكن داعياً للناس إلى ذلك, وإنما يذعن إلى الحق, فإقامة الدلائل على صحة قول أهل لحق وتبيين فساد شبهه, ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه, ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام, فإن خرج داعياً إلى مقالته مقاتلاً عليها, فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله.
الأحكام الواردة في سورة ( آل عمران )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [آل عمران:118]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد (أهل الذّمة)
قوله تعالى: {يا أيها الذينَ آمنو لا تَتّخِذوا بِطانَةً مِن دونِكُم لا يَألونَكُم خَبالاً} [الآية 118]:
فيه دلالة, على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين من العمالات والكتابة.(2/18)
ولما استكتب أبو موسى رجلاً من أهل الذمة, كتب اليه عمر يعنفه ويلومه ويتلو عليه هذه الآية.
وقيل لعمر: إن هاهنا رجل من أهل الحيرة لم ير رجل أحفظ منه ولا أخط بقلم, فإن رأيت أن تتخذه كاتباً، قال:
"قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين".
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران:159]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول الفقه (الإجتهاد)
قوله تعالى: {وشاوِرْهُم في الأمْرِ} [159]:
يدل على جواز الاجتهاد في الأمور، والأخذ بالمظنون مع إمكان الوحي، فإن الله تعالى أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [آل عمران:161]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد (الغُلول)
قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَبيٍ أن يَغُلّ، ومَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} الآية [161]:
وفيها دليل على أن الغلول فيما قلّ وكثر، من أصناف الأموال، وأن الأموال الواصلة الينا من الكفار مشتركاً فيما بين الغانمين، إلا فيما استثنى من الأطعمة لأخبار اختصت بها.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1](2/19)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…صلة الرحم
قوله تعالى:
{واتّقوا اللهَ الّذي تَساءلونَ بهِ والأرْحامَ} الآية [1].
يدل على تأكيد الأمر في صلة الرحم, والمنع من قطيعتها, وهي اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره, وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة, ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام, مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة, ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام, فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند, وهم يرون ذلك نسخاً, سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة, وقد جوزها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات.
{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (اليتامى)
وقال تعالى: {وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُمْ} الآية [2]:
روى عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم, فجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله, فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:
{وَيَسْألونَكَ عَنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لهُمْ خَيرٌ وإن تُخالِطوهُم فإخْوانُكُم}.
وإنما قال الحسن ذلك لأن تعالى قال:
{وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُم} إلى قوله {وَلا تأكُلوا أمْوالهُم إلى أمْوالِكُمْ}, وكل ذلك بعد البلوغ لا يتقرر, والمعنى بقوله:(2/20)
{وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُمْ}, أي أموالهم للأكل والشرب واللباس والثياب والمفارش والمساكن, فلما نزل ذلك, عزل أولياء اليتامى طعامهم من طعام اليتامى, وملابسهم من ملابس اليتامى, فجعل يفضل له من طعامه, فيحبس له حتى يأكله أو يفسد, فاشتد ذلك عليهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم, فنزل قوله تعالى:
{وَيَسْألونَكَ عَنِ اليَتامى قُلْ إصْلاحٌ لهُمْ خَيرٌ وإن تُخالطُوهُم فإخوانُكُمْ} الآية.
ويجوز أن يكون قول الله تعالى: {وآتُوا اليَتامى أمْوالهُم} عنى به البالغ, وسمّي يتيماً لقرب عهده بالبلوغ, ولذلك قال: {وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُم}.
والظاهر منه أنهم يؤتون أموالهم إيتاء لا بمعنى الإطعام والكسوة, ولكنه بمعنى تسليطه عليه, ونهى الولي عن إمساك ماله بعد البلوغ عنه, ولكن لم يشترط الرشد هاهنا, وشرط إيناس الرشد والابتلاء في قوله:
{وابْتَلُوا اليَتامَى حَتّى إذا بَلَغوا النِّكاحَ فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فادْفَعوا إلَيْهِمْ أمْوالهُمْ}, فكان ذلك مطلقاً وهذا مقيد.
وذكر الرازي في أحكام القرآن: أنه لما لم يُقيّد الرشد في موضع, وقُيِّد في موضع, وجب استعمالهما والجمع بينهما فأقول:
إذا بلغ خمساً وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد, وجب دفع المال اليه, وإن كان دون ذلك لم يجب عملاً بالآيتين, وهذا في غاية البعد, فإنه تعالى قال:
{وابْتَلُوا اليَتامَى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ}, ذلك يقتضي اعتياد إيناس الرشد عقيب بلوغ النكاح من غير تطاول المدة.
وقوله تعالى: {وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُمْ}, يقتضي مثل ذلك, فإن اسم اليتيم إنما يطلق على قبل البلوغ حقيقة, وعلى قرب العهد بالبلوغ مجازاً, فإما أن يقال: إنه يتناول ابن خمس وعشرين سنة فصاعداً إلى مائة, وهو جهل عظيم.(2/21)
والعجيب أن أبا حنيفة إنما أطلق الحجر, لأنه قال قد بلغ أشده وصار يصلح أن يكون جداً, فإذا صار يصلح أن يكون جداً, فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم, وباسم اليتم, وهل ذلك إلا في غاية البعد.
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [النساء:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ ورُباعَ} الآية [3].
واختلف أقاويل المفسرين في معناه:
فروي الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها - في قول الله تعالى:
{وإنْ خِفْتُمْ ألاََّ تُقْسِطُوا في اليَتامَى فانْكِحوا ما طابَ لَكُم ْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ ورُباعَ} قالت:
يا ابن اختي: هي اليتيمة تكون في حجر وليها, تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها, فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها, فيعطيها مثل ما يعطيها غيره, فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة - رضي الله عنها -:
وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية, فأنزل الله:
{وَما يُتْلى عَلَيْكُم في الكِتابِ في يَتامَى النِّساءِ}.. إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكُحوهُنَّ}.
قالت: والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الاولى التي فيها: {وإنْ خِفْتُم ألاَّ تُقْسِطوا في}..(2/22)
وقوله في الآية الأخرى: {وتَرْغَبونَ أنْ تَنْكِحوهُنَّ}, رغبة أحدكم عن يتيمته التي هي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال, فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء, إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن, وهذا ما أورده البخاري في صحيحه, وفيه دلالة على أن اليتيمة يجوز تزويجها.
وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع غيرهذا التأويل, وهو أن معنى الآية: "كما خفتم في حق اليتامى فخافوا في حق النساء الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن".
وروي عن مجاهد: {وإنْ خِفْتُم ألاَّ تُقْسِطوا}, أي تحرجتم من أكل أموالهم, فتحرجوا من الزنا وانكحوا نكاحاً طيباً مثنى وثلاث ورباع.
والمشكل أن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية في ذلك, وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توفيقاً, ولا يمكن أن يحمل على الجد, لأنه لا يجوز له نكاحها, فعلم أن المراد له ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء.
ويمكن أن يحمل على البالغة لأن عائشة رضي الله عنها قالت:
ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ في النِّساءِ -إلى قوله - في يَتامَى النِّساءِ}.
والصغار لا يسمين نساء.
فإن قيل: قوله: {وإنْ خِفْتُمْ أنْ لا تقسِطُوا في اليَتامَى} حقيقة في الصغيرة بدليل عليه السلام: "لا يتم بعد حلم", واسم النساء يتناول الصغيرة في قوله:
{فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ}.
{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤكُمْ مِنَ النِّساءِ}.
{وأمّهاتُ نِسائِكُمْ}.
ويقال في الجواب عنه:
إن اسم النساء في قبيل الإناث, كاسم الرجال في قبيل الذكور, وإسم الرجل لا يتناول الصغير, فإسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة والصغائر, وفي الإناث التي وقع الاستشهاد بها, يمكن أن يكون اللفظ لغير الصغيرة, ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدلالة الإجماع.(2/23)
وقول القائل: اسم اليتيم لا يتناول ما بعد البلوغ, فهو مسلم من حيث الحقيقة, غير أنه يطلق مجازاً, بدليل أنه ذكر النساء, ولا يمكن تعطيل لفظ النساء الذي هو حقيقة في البالغات.
فإن قيل: فالبالغة يجوز التزوج بها بدون مهر المثل برضاها, فأي معنى لذلك الجواب؟
يقال إن معناه أن يستضعفها الولي ويستولى على مالها, وهي لا تقدر على مقاومته, ولذلك قال:
{إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلَدانِ}.
ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة, ولم يكن في كتاب الله دلالة على جواز تزويج الصغيرة, لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز, وهو مذهب الأصم, لأن نكاح الصغيرة يتخير بتفويت من غير تعجيل مصلحة, على ما قررناه في تصانيفنا في مسائل الخلاف, وإذا ثبت ذلك فلا يجوز ذلك تلقياً من القياس ولا توقيفاً.
وقد قال قائلون: بل في كتاب الله ما يدل على جواز تزويج الصغيرة, فإن الله تعالى يقول:
{واللاّئي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِساءِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتهُنَّ ثلاثَةَ أشْهُرٍ واللاَئي لَمْ يَحِضْنَ}.
فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض, والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح, وهذا لا دافع له إلا أن يقال:
النكاح في حق الصغيرة, إن لم يتصور, فالوطأ الموجب للعدة متصور, وليس في القرآن ذكر الطلاق في حق الصغيرة, إنما فيه ذكر العدة, والعدة تجب بالوطء, والوطء متصور في النكاح الفاسد, وعلى حكم الشبهة في حق الأمة تزوجها مولاها وهي صغيرة فتوطأ.
والاعتماد على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين, زوجها أبوها أبو بكر.
وربما لا يقولون: لا يحتج بما كان في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى الولاء.(2/24)
وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجح موهوم, ولا يتحقق ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا لا يتوقع فوات مصلحة الصغيرة من نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ, وأرادت التفرغ إلى نفسها ولم ترد زوجاً فالتوقع قائم.
ويمكن أن يقال:
إن نكاح الصغيرة ليس بعيداً عن المصلحة, ولذلك اطردت به العادة واستمرت عليه العامة, فإن المقصود منه الألفة, فإذا ألفيت المرأة صغيرة لم تمارس الرجال ولم تعرف الهوى, ترسخت المودة بينهما, فقد قيل في المثل:
ما الحب إلا للحبيب الأول..
والشاعر يقول:
* عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى * فصادف قلباً فارغاً فتمكنا *
قوله تعالى: {مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ} الآية [3]:
ظن قوم أن الواو تقتضي الجميع, فحل جميع هذا العدد الذي يخرج منه الاثنان والثلاث والأربع إلى تسع.
وقال جمهور العلماء: المراد به إباحة الثنتين إن شاء, والثلاث إن شاء, والأربع إن شاء, وأنه مخير في أن يجمع من هذه الأعداد ما شاء, فتقدير الكلام: تخيروا في هذه الأعداد.
فإن قيل: فلفظ التخيير قد عدم هاهنا, وإنما ذكر لفظ الجمع, ولم يكن كقوله:
{فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتهِمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة}.
قيل: ذلك لأن الله تعالى إنما أراد به بيان الأصلح لعباده, بالإضافة إلى أحوالهم, فإن أمكنه أن يعدل في الأربع نكح الأربع, وإلا نكح الثلاث, وإلا نكح المثنى, فإن خاف ألا يعدل فواحدة, فتقديره: ثلاث ورباع في حالة.
وهذا يرد عليه أن في أي وقت قدرتموه, فقد جاز له نكاح الأربع, فلا معنى لتقدير ذلك.
وقد قيل: الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل, كأنه قال: ثلاث بدلاً من مثنى, ورباع بدلاً من ثلاث, لا على الجمع بين الأعداد.(2/25)
ومن قال هذا قا ل: لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى, ولا الرباع لصاحب الثلاث, فأفاد بذكر الواو إباحة الأربع لكل واحد ممن دخل في الخطاب, وأيضاً فإن المثنى دخل في الثلاث, والثلاث دخل في الرباع, إذا لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر على وجه الجمع فيكون تسعة, هذا كقوله:
{قُلْ أئنّكُمْ لَتَكْفُرونَ بالّذي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ وتجْعَلونَ لَهُ أنْدَاداً} إلى قوله {قَدَّرَ فيها أقْواتها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ}.
والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بدءاً, ثم قال: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَينِ}.
ولو أن ذلك كذلك, لصارت الأيام كلها ثمانية, وقد علم أن ذلك ليس كذلك.
لقوله تعالى: {خَلَقَ السّماواتِ والأرْضَ في سِتّةِ أيّامٍ}.
فذلك المثنى داخل في الثلاث, والثلاث في الرباع, فيكون الجميع أربعاً, وهذا ما عليه جمهور العلماء.
ثم هذا العدد في الأحرار دون العبيد, فإن سياق الكلام يدل عليه, وهو قوله: {فانْكِحُوا ما طابَ لَكُم}, والعبد لا يملك النكاح بنفسه, لتوقف نكاحه على إذن مولاه, ولأن الأصل امتناع النكاح في حق العبد, لمنافاة الرق الاستقلال بالملك, غير أن الشرع أباح له لمكان الحاجة, فكان الأصل الاقتصار على الواحد, غير أنه جعل مشطراً, والزيادة عليه تعنت على أصل المنع.
قوله تعالى: {فإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدةً} الآية [3].
فالمراد به العدل في القسم بينهن كما قال تعالى في آية أخرى:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنّ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ}.
والمراد به ميل القلب, والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف ألا يفعل لإظهار الميل بالفعل, فيجب عليه الاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانية العدل.
ثم قال: {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} الآية [3].(2/26)
فدل ذلك على أن لا عدد في ملك اليمين, ولا وجوب القسم والعدل فيهن, فإنه تعالى قال:
{فإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلوا فَواحِدَةً}.
يزول له الخوف من الميل, {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ}.
فإنه لا يجب فيهن العدل.
وظن قوم أن المراد به العطف على قوله: {فانْكَحُوا} وتقديره: فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم, وهذا يدل عند هذا القائل على أنه يجوز التزويج بأربع إماء, كما جاز التزويج بأربع حرائر.
وهذا فيه نظر, لأن العطف رجع إلى أقرب مذكور, والمذكور آخر قوله تعالى:
{فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلوا فَواحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم}.
وذلك يقتضي أن يكون الذي يعدل اليه خيفة الحيفة وترك العدل, لا يجب فيه مراعاة العدل, وذلك ملك اليمين.
فإن قيل: الضمير المتقدم هو النكاح, وقوله: {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ}, لا يستقل بنفسه, فلا بد من عطف على ضمير متقدم, ولا متقدم إلا النكاح.
وإذا قلتم المراد به: {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} لم يستقم إثبات ضمير الفعل المتقدم في هذا المحل, فإنه لا نكاح في ذلك اليمين.
والجواب عنه: أن العطف على ما ذكره أخيراً من تحريم إظهار الميل, وأنه إذا كان يخلص بواحدة أو بملك يمين, ويدل على ذلك أنه لو رجع ذلك إلى نكاح الإماء كان تقدير الكلام: فانكحوا ما طاب لكم من النساء, أو انكحوا ما ملكت أيمانكم, وذلك يقتضي الجمع بينهما, والجمع ممتنع محرم جميعاً.
وليس يمكن أن يقال: إنه قال: {فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ}, ولم تدخل فيه الإماء, ثم قال: {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} على البدل من النساء, فإن ذلك مكروه بالإجماع, وقد بين الله خلافه في موضع آخر فقال:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكَحَ المُحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ}.
وأبان اشتراط خوف العنت, فيكون مبيناً حكم نكاح الأمة هاهنا, وذلك بعيد من القول.(2/27)
والدليل على ذلك أيضاً: أن ظاهر قوله تعالى: {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} إضافة جمع إلى جمع, وذلك يقتضي توزيع الآحاد على الآحاد, فتقدير قوله: {أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} أي ما ملكت يمين كل واحد منكم, ولا يتصور ذلك في ملك النكاح, فدل على أن الضمير هو الوطء لا العقد.
نعم ورد مثله في موضع آخر وهو قوله:
{وَمَنْ لّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المؤمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ}.
ولكن خالفنا ظاهر إضافة الجمع إلى الجمع وقلنا: المراد به نكاح ملك يمين الغير, ودل عليه قوله تعالى:
{فانْكِحوهُنَّ بإذْنِ أهلِهِنَّ}.
ولما بين نكاحهن قال: {وآتوهُنَّ أجُورَهُنَّ بالمعْرُوفِ}.
وهاهنا قال:
{أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم} ثم قال: {وآتوا النِّساءَ صَدُقاتهنَّ نحْلَةً}, ولم يتعرض لصداق الأمة, ولو جرى ذكر نكاحها لذكر الصداق, كما ذكر حق النساء.
قوله تعالى: {ذَلكَ أدْنَى ألاَّ تَعُولُوا} الآية [3].
أي تميلوا.
وقد قيل معناه ألا تميلوا, وأصل العول مجاوزة الحد, فالعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة, وعال إذا حاد, وعال يعيل إذا افتقر, وقال أيضاً: إذا تبختر.
قال الشافعي رضي الله عنه:
وهذا يدل أن على الرجل مئونة امرأته, فقيل له: معنى قوله: أن لا تعولوا - أي لا تميلوا - وهو الميل الذي نهى الله عنه وأمر بضده في حق النساء.
والشافعي يقول: إذا كثر عيال الرجل يقال هو معيل, وقد عال يعول, ويقال: هو يعول جمعاً, فقيل له: في ذكر الآية الواحدة, وملك اليمين, والنفقة واجبة في جميع ذلك؟
فقال: نفقة ملك هو متمكن من دفعها بالبيع والتزويج من غير خسران, ويصعب عليه مفارقة أم أولاده.
فقيل له: فقد يتزوج الرجل بالمرأة الواحدة وعليه نفقتها؟
قال: هو أدنى ألا يقال فيه كثر العيال.
والشافعي رضي الله عنه حجة في اللغة.(2/28)
وقد روي عن زيد بن أسلم في قول الله تعالى: {ذَلكَ أدْنَى ألاَّ تعُولُوا} قال:
يقول: ذلك أدنى ألا يكثر من تعولون.
وقال أبو زيد فيه: ذلك أقل لنفقتك, للواحدة أقل من ثنتين وثلاث وأربع, وجاريتك أهون عليك من العيال.
ويدل على ما قاله الشافعي: أنه لو كان المراد به الميل, فإذا كثر عدد النساء أم قل فلا يختلف الميل, وإنما يختلف القيام بحقوقهن, فإنهن إذا كثرن تكاثرت الحقوق عليه.
أما إظهار ميل الطبع ونفاره, فلا يختلف بكثرة العدد وقلته.
وهذا يدل على أن المراد بقوله: {ذَلكَ أدْنَى ألاّ تعُولُوا} ما قاله.
وقد تجاوز بعض من صنف أحكام القرآن حد الإنصاف عند حكاية كلام الشافعي, وكفاه جهله بقدر الشافعي جواباً له.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
2)…المعاملات (البيوع)
قوله تعالى: {وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً} الآية [4]:
والنحلة هاهنا الفريضة, وهو مثل ما ذكره الله تعالى عقيب ذكر المواريث {فريضَةً مِنَ اللهِ}.
والخطاب يدل على الأزواج, ونهيهم عن منع الصداق عنهم, وعلى الولي الذي يأخذ المهر ولا يعطيها, مع أن ما تقدم من قوله: {فانكِحوا} يدل على أنه خطاب للأزواج.
وإذا كان خطاباً للأزواج فيجوز أن يقال سمي نحلة, والنحلة في الأصل العطية, وإنما سماه عطية, لأن الزوج لا يملك من بدله شيئاً, فكان ذلك ترغيباً في إبفاء صداقها وسياقة مهرها اليها على قدر مئونة, ظاناً أن ذلك منه نحلة, ولا تعطوهن المهور كارهين, ظانين أن ذلك غرامة, ولكن لتكون أنفسهم طيبة به.
قوله تعالى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مَرِيئاً} [4]:(2/29)
وذلك يدل على أن للمرأة هبة الصداق من زوجها, بكراً كانت أو ثيباً, خلافاً لمالك, فإنه منع من هبة البكر الصداق من زوجها, وجعل ذلك الولي, مع أن الملك لها, وذلك في غاية البعد.
قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنيِئاً مَرِيئاَ}, ليس المقصود صورة الأكل, وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان, وهو المعنى بقوله تعالى في الآية التي بعدها:
{إنَّ الّذينَ يأكُلُونَ أمْوالَ اليَتامَى ظُلْماً}.
وليس المراد نفس الأكل, إلا أن الأكل لما كان أو في أنواع التمتع بالمال, عُبر عن التصرفات بالأكل, فهذا ما سبق إلى الفهم, وعلم أن الأكل بصورته ليس معنياً.
ومثله قوله تعالى: {إذا نُودِيَ للصَلاةِ مِنْ يَومِ الجُمعةِ فاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ}.
يعلم أن صورة البيع ليست مقصودة, وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى, مثل النكاح وغيره, ولكن ذلك البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى, فيكون معنى سابقاً إلى الفهم, ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة.
وقوله تعالى: {وآتُوا النساءَ صَدَقاتهِنَّ نحْلَةً} مع قوله: {فإنْ طِبنَ لَكُم عَن شيءٍ مِنْهُ}، يدل على أنه أراد: فإن طبن قبل أن تؤتوهن صدقاتهن نحلة, وذلك الإبراء, فدل ذلك على أن من وهب لإنسان ديناً له عليه أن البراءة قد وقعت بيفس الهبة.
وقوله تعالى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ}, يدل على عموم الحكم في البكر والثيب.
{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
2)…السَّفَه
قوله تعالى: {ولا تُؤتوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُم} الآية [5]:(2/30)
قال ابن عباس: الآية مجراة على حقيقتها, والمراد منها النهي عن دفع المال إلى الصبيان والنسوان, وتسليطهم على مال نفسه حتى يستنفذوه في أسرع مدة فيبقون عالة، وهو يبقى عائلاً مستضعفاً.
وقال ابن عباس: السفيه من ولدك وعيالك.
وقال: المرأة من أسفه السفهاء.
وفيه تنبيه عن النهي عن تضييع الأموال.
نعم الهبة على الأولاد والنسوان جائزة, ولكن لا بأن يجعل المال في أيديهم, ولكن بأن ينصب فيما عليهم في الموهوب منهم, وقد نهى الله تعالى عن التبذير, ومن التبذير تسليم المال إلى من ينفقه في غير وجهه.
والأولى أن يسلم ذلك إلى نائبه, أو يكون في يده, وهو وليه.
وإنما حكمهم على هذا التأويل قوله تعالى: {أمْوالَكُم} وقوله تعالى: {وارْزُقوهُم فيها} أي منها.
وقد قيل: معناه أموالهم, وفيه على دفع مال السفيه اليه, فمعناه لا تؤتوهم أموالهم, وإنما أضافها اليهم, كما قال: {ولا تَقْتُلوا أنْفُسَكُم} يعني بعضكم بعضاً.
وقال: {فإذا دَخَلْتُم بُيوتاً فَسَلِّموا عَلى أنْفُسِكُم}.
يريد من يكون فيها, وذكروا أن هذا التأويل أولى, فإن السفه صفة ذم, وهذا يعترض عليه, فإن السفه في الأصل الخفة, وليس ذلك صفة ذم ولا مفيداً لعصيان, والمعنيان مختلفان.
{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } [النساء:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
2)…اليتامى
3)…أصول فقه (الأهلية)(2/31)
قوله تعالى: {وابْتَلُوا اليَتامَى حتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُم مِنهُم رُشْداً فادْفَعُوا إلَيْهِم أمْوالهُم} الآية [6].
واعلم أن كثيراً من العلماء جوزوا إذن الولي للصبي في التجارات وتسليم المال اليه, حتى يتصرف وتبدو بياعاته وتصرفاته, وليس في العلماء من يقول إنه إذا اختبر الصبي فوجد رشيداً ارتفع عنه الولاية, وأنه يجب دفع ماله اليه, وإطلاق يده في التصرف, وذلك يدل على أن الابتلاء في الصبي ليس يفيد العلم برشده, فكذلك قال الله تعالى:
{وابْتَلَوا اليَتامَى حتّى إذ بَلَغُوا النِّكاحَ فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً}.
فدل ذلك على أن الابتلاء قبل البلوغ لا بدفع المال اليه, ولا بأن يبقى بعقله ورأيه, حتى يزعم بكونه رشيداً, فإنه لو كان كذلك ما توقف وجوب دفع المال على بلوغ النكاح, بل دل على أن الابتلاء قبل البلوغ في أمر الدين والدنيا, بأن يربيه على الخيرات والطاعات, ويندبه إلى المراشد وتأمل التصرفات والتجارات, حتى يكون نشوة على الخيرات, فإذا بلغ النكاح نفعه ما تقدم من التدريب, ويحصل به إيناس الرشد, وهو إحساس الرشد, مثل قوله تعالى: {إني آنَسْتُ ناراً}.
يعني أحسستها وأبصرتها, وذلك يدل على أن الذي يجري في الصبى غير موثوق به شرعاً, إنما توطئة وتمهيداً لزمان البلوغ الذي يؤثق فيه بإيناس الرشد, فهذا تحقيق لمذهب الشافعي رضي الله عنه, ويرد على من خالفه, ثم قال الشافعي:
ولما قال تعالى: {فإنْ آنَسْتُمْ مِنهُمْ رُشدْاً}, وهو يقتضي صلاح الدين والدنيا, والفاسق غير رشيد ولا مأمون, وهذا لأن التبذير يتولد من غلبة الهوى, والهوى منشأ الفسق, ولا يؤمن من الفاسق صرف المال إلى المحصور المنكور, وذلك تبذير وإن قل, فإنه لا يكتسب به محمدة في الدنيا والآخرة, والكثير في الطاعات ليس بتبذير, على ما عرف من أقوال السلف رضوان الله عليهم أجمعين, فهذا معنى الآية.(2/32)
قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فقيراً فَلْيَأكُلْ بالمَعْروفِ} الآية [6]:
توهم متوهمون من السلف بحكم هذه الآية, أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدراً لا ينتهي إلى حد السرف, وذلك خلافاً ما أمر الله تعالى به في قوله:
{لا تَأكُلوا أمْوالَكُم بَيْنَكُم بالباطِلِ إلاَّ أنْ تَكونَ تِجارةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم}.
ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم.
فقوله: {فَمَن كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ}، يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم فمعناه:
ولا تأكلو أموال اليتيم مع أموالكم, بل اقتصروا على أكل أموالكم, وقد دل عليه قوله تعالى: {ولا تَأكُلوا أمْوالَهُم إلى أمْوالَكُم إنّه كانَ حُوباً كَبِيراً}.
وبان بقوله تعالى: {وَمَن كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ, ومَن كانَ فقيراً فَلْيأكُل بالمَعْروُفِ}, الاقتصار على البلغة حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم, فهذا تمام معنى هذه الآية, فقد وجدنا آيات محكمات بمنع أكل مال الغير بغير رضاه, سيما في حق اليتيم, ووجدنا هذه الآية محتملة للمعاني, فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين.
وقد جوز أبو حنيفة للوصي أن يعمل في مال الصبي مضاربة, فيأخذ منه مقدار ربحه, وإذا جاز ذلك, فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه، فيأخذ أجر المثل بل هو أولى, فإن أجر المثل معلوم في وضع الشرع, ومقدار أجرة عمله مأخوذ من العادة, وأما الربح فهو نتيجة الشرط وليس أجرة عمله, وهو على قدر الشرط, وأي قدر شرطه العامل الوصي لنفسه من الربح, فهو متحكم فيه, وإنما الشرط للعامل من جهة رب المال, وإلا فالواجب أجر المثل في القرائض الفاسد, وهاهنا إذا لم يكن أجر المثل مع أنه أقرب, فالتحكم بالتقدير من جهة العامل كيف يحتمل, والربح أبعد عن الاستحقاق, فإن الربح زيادة على عين مال اليتيم, والزيادة تبع المزيد عليه, وليس للوصي في مال اليتيم حق.(2/33)
وأما الأجرة: ففي مقابلة العمل, والعمل حق للوصي, وأنه من منفعة فهو أولى ببذلها, فلا وجه لمذهب أبي حنيفة, والعمومات التي ذكرناها من قبل في إبطال التصرف في مال اليتيم بطريق القراض وغيره.
فإن قال من ينصر مذهب السلف, إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين, فهلا كان للوصي كذلك, إذا عمل لليتيم ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟
قيل له: اعلم أن أحداً من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصى, بخلاف القاضي, فذلك فارق بين المسألتين.
وبعد: فالذي يفصل بينهما من طريق المعنى يقول:
إن الرزق ليس كأجرة الشيء, وإنما هو شيء جعله الله تعالى لكل من قام بشيء من أمور الإسلام, فللمقابلة بينهم من مال الله تعالى, وللفقهاء سهم, مع أنهم لم يعملوا شيئاً يستحقون عليه الأجرة, لأن اشتغالهم بالفتوى وتفقيه الناس, فرض لا يؤخذ عليه أجر, وكذلك الخلفاء لهم سهم من مال الله تعالى, وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس والصفى وسهم من الغنيمة, وما كان يأخذ الأجرة على شيء يقوم به من أمر الدين, وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى:
{قُلْ ما سَألْتُكُم مِن أجْرٍ فَهُوَ لَكُم}.
{قُل ما أسْألُكُم عَلَيهِ مِنْ أجْرٍ}.
فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء, لا يأخذون من مال واحد معين, وإنما يأخذون من مال الله الذي لا يتعين له مالك, وقد جعل الله ذلك المال الضائع حقاً لأصناف بأوصاف, والقضاة من جملتهم, والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه, وعمله مجهول وأجرته مجهولة, وذلك بعيد عن الاستحقاق.
واعلم أن الاحتياط الذي أمر الله به في حق اليتامى, وأن لا يدفع اليهم أموالهم إلا بعد إيناس الرشد, يدل لا محالة بطريق الأولى على أن الأولياء من الأوصياء, والأقارب والحكام, لا بد وأن يكونوا عدولاً ذوو رشد.(2/34)
والفاسق المتهم من الآباء, والمرتشي من الحكام والأوصياء, والأمناء غير المأمونين, لا يجوز جعلهم أولياء وحكاماً, ويدل على ذلك أن الحاكم إذا فسق انعزل.
قوله تعالى: {فإذا دَفَعْتُم إليْهِمْ أمْوالهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِم}.
يؤذن بالاحياط القاطع للدعوى الباطلة, كما أمر بالاحتياط في المداينات قطعاً للمنازعة, لا جرم قال الشافعي رضي الله عنه:
لو ادعى تسليم المال إلى الصبي بعد البلوغ وأنكر الصبي, لم يصدق إلا بينة.
نعم المودع يصدق في الرد دون بينة, لمصلحة تعلقه بالوديعة, في أنه لا يرضى المودع بالإشهاد على ردها, لما فيه من إشهار أمرها, والودائع تعرض في خفية, ولأن المودع ائتمنه فرضي بقوله واعتقد أمانته.
وأما الائتمان من جهة الصبي فلم يجز أصلاً, وفي هذا المعنى نظر فإن الوصي في معنى النائب عن الصبي, فكذلك كان نائباً عنه في التصرفات, فيجوز أن يكون نائباً عنه في الحفظ حكماً, وإن لم توجد الاستنابة من جهة الصبي خاصة الآن, فإن نيابته عن الصبي ظاهرة, وكذلك إذا ادعى تلف المال.
قيل: ولولا النيابة كان ضامناً للمال, لأنه ممسك مال غيره دون استنابة.
ومما يتعلق به الشافعي رضي الله عنه, أن الله تعالى إنما أمر بالإشهاد، لأن دعواه مردودة في الرد دون البينة.
ويمكن أن يقال: فائدته ظهور أمانته وبعده عن التهمة, وقطع دعوى الصبي بالباطل, وسقوط اليمين عن الوصي.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللقطة في حديث عياض بن حمار المجاشعي, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مَن وجَد لقطةً فلْيُشهِد ذوي عدلٍ ولا يَكْتُم ولا يغِيب".
فأمره بالإشهاد ليظهر أمانته وتزول الشبهة عنه.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )(2/35)
{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [النساء:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
قال تعالى: {لِلرِّجالِ نَصيِبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ} إلى قوله {نَصيباً مَفْرُوضاً} [7].
لا شك في كونه مجملاً في بيان المقدار، غير أن الذين لا يحجبون شخصاً بشخص في بعض الأحوال، مثل الأخ بالجد عند قوم، والذين يورثون بالرحم، يحتجون بعموم هذه الآية ويقولون: إن ما فيها من الإجمال في المقدار، لا يمنع الاحتجاج بعمومها في حق الأقارب، وهو عندهم مثل قوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أمْوالهِمْ صَدَقَةً تُطَهُّرُهُم}.
وأنه يحتج به في غير موضع الإجمال، وهو إبانة أصل الأمر بحسن الفعل، وهذا بيّن.
فيقال في حق العمة مثلاً والخالة والخال: إن لهم نصيباً مما ترك الأقربون، وإنهم في هذا المعنى يقدمون على الأجانب.
نعم ذكر قتادة أن الآية وردت على سبب، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذلك لا يمنع التعلق بعموم الآية، لإمكان أنهم كانوا يورثون الذكور من ذوي الأرحام وغيرهم من الأقارب، فأبطل الله تعالى ما كانوا عليه في الجاهلية وهذا مما يعترفون بكونه عاماً.
وفيه دلالة على جعل القرابة مطلقة للميراث، إلا أنه لم يجعل لهم إلا النصيب المفروض لا المال المطلق، وليس في الآية ذلك النصيب المفروض.
نعم في الآية نصيب مجمل لا جرم يفهم منه أن لهم نصيباً مجملاً.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث(2/36)
قوله تعالى: {وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أوْلُوا القُرْبَى واليتَامَى} الآية [8]:
فيه أقاويل مختلفة للسلف, فنقل عن ابن عباس, أنها محكمة ليست بمنسوخة.
وقال سعيد بن المسيب: هي منسوخة بالميراث.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنها محكمة ليست بمنسوخة, وهي في قسمة المواريث فيرضخ لهم, فإن كان المال عقاراً أو فيه تقصير لا يقبل الرضخ, اعتذر اليهم, فهو قوله تعالى: {وقُولوا لهُم قَولاً مَعْرُوفاً}.
والقول الثالث عن ابن عباس: أنها في وصية الميت لهؤلاء, وهي منسوخة بالميراث, فكأن الموصي أمر به في الشيء الذي يوصي فيه, ودل عليه قوله تعالى:
{وَلْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ}.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصية
2)…اليتامى
قوله تعالى:
{وَلْيَخْشَ الّذيِنَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [9].
قال: يقول له من حضر: اتق الله وصلهم وبرهم وأعطهم، ولا حاجة إلى تقدير النسخ، بل أمكن أن يحمل على الندب.
والذين قالوا: إنها منسوخة لعلهم قالوا: ظاهر قولهم {فارْزُقوهُم مِنْهُ} الوجوب، ولا وجوب هاهنا، فبقي أنه منسوخ، وليس ذلك من النسخ في شيء إنما هو حمل اللفظ على بعض مقتضياته، وإنما النسخ أن يثبت أن ذلك كان من قبل على ما الآن عليه، ثم نسخ.
قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الّذيِنَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [9].(2/37)
اختلف السلف في تأويله، فقال قوم منهم ابن عباس: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره: أوصِ لفلان ولفلان، فيأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه لليتامى والمساكين، وندب له أن يزيد على الثلث، وهذا كان قبل أن تكون الوصية محصورة في الثلث، فيحثه من حضره على أن يوصي بأكثر المال لأقاربه اليتامى والمساكين، فقال الله تعالى: لا تأمروه بما لا تفعلوه لو حضركم الموت.
وفيه بيان أن المستحب له إذا كان ورثته ضعفاء وهو قليل المال، أن لا يوصي بشيء، أو يوصي بأقل من الثلث، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد لما رده إلى الثلث فقال:
"والثلث كثير" الحديث.
فأبان له أن استغناء الورثة بفضلها، أولى من استغناء غيرهم.
وقال مقسم، معناه ضد ذلك، وهو أن يقول الرجل للذي حضره الموت: أمسك عليك مالك، ولوكانوا ذوي قرابته لأحب أن يوصي لهم.
فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحث على الوصية، وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها.
وقال الحسن: هو الرجل يكون عند الميت فيقول: أوصِ بأكثر من الثلث من مالك، وهو الأوجه، إلا أن يكون ذلك في وقت كانت الوصية بأكثر من الثلث لازماً، فأما إذا توقفت على إجازة الورثة، فلا نهي عليه.
وعن ابن عباس رواية أخرى، أنه في ولاية مال اليتيم وحفظه والاحتياط في التصرف فيه، وهذه المعاني بجملتها يجوز أن تكون معنية بالآية، إذ لا تناقض فيها، ويجمعها مراعاة المصلحة للورثة واليتامى والموصى..
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [النساء:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث(2/38)
قال تعالى: {لِلرِّجالِ نَصيِبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ} إلى قوله {نَصيباً مَفْرُوضاً} [7].
لا شك في كونه مجملاً في بيان المقدار، غير أن الذين لا يحجبون شخصاً بشخص في بعض الأحوال، مثل الأخ بالجد عند قوم، والذين يورثون بالرحم، يحتجون بعموم هذه الآية ويقولون: إن ما فيها من الإجمال في المقدار، لا يمنع الاحتجاج بعمومها في حق الأقارب، وهو عندهم مثل قوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أمْوالهِمْ صَدَقَةً تُطَهُّرُهُم}.
وأنه يحتج به في غير موضع الإجمال، وهو إبانة أصل الأمر بحسن الفعل، وهذا بيّن.
فيقال في حق العمة مثلاً والخالة والخال: إن لهم نصيباً مما ترك الأقربون، وإنهم في هذا المعنى يقدمون على الأجانب.
نعم ذكر قتادة أن الآية وردت على سبب، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذلك لا يمنع التعلق بعموم الآية، لإمكان أنهم كانوا يورثون الذكور من ذوي الأرحام وغيرهم من الأقارب، فأبطل الله تعالى ما كانوا عليه في الجاهلية وهذا مما يعترفون بكونه عاماً.
وفيه دلالة على جعل القرابة مطلقة للميراث، إلا أنه لم يجعل لهم إلا النصيب المفروض لا المال المطلق، وليس في الآية ذلك النصيب المفروض.
نعم في الآية نصيب مجمل لا جرم يفهم منه أن لهم نصيباً مجملاً.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
قوله تعالى: {وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أوْلُوا القُرْبَى واليتَامَى} الآية [8]:
فيه أقاويل مختلفة للسلف, فنقل عن ابن عباس, أنها محكمة ليست بمنسوخة.
وقال سعيد بن المسيب: هي منسوخة بالميراث.(2/39)
وروى عكرمة عن ابن عباس أنها محكمة ليست بمنسوخة, وهي في قسمة المواريث فيرضخ لهم, فإن كان المال عقاراً أو فيه تقصير لا يقبل الرضخ, اعتذر اليهم, فهو قوله تعالى: {وقُولوا لهُم قَولاً مَعْرُوفاً}.
والقول الثالث عن ابن عباس: أنها في وصية الميت لهؤلاء, وهي منسوخة بالميراث, فكأن الموصي أمر به في الشيء الذي يوصي فيه, ودل عليه قوله تعالى:
{وَلْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ}.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصية
2)…اليتامى
قوله تعالى:
{وَلْيَخْشَ الّذيِنَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [9].
قال: يقول له من حضر: اتق الله وصلهم وبرهم وأعطهم، ولا حاجة إلى تقدير النسخ، بل أمكن أن يحمل على الندب.
والذين قالوا: إنها منسوخة لعلهم قالوا: ظاهر قولهم {فارْزُقوهُم مِنْهُ} الوجوب، ولا وجوب هاهنا، فبقي أنه منسوخ، وليس ذلك من النسخ في شيء إنما هو حمل اللفظ على بعض مقتضياته، وإنما النسخ أن يثبت أن ذلك كان من قبل على ما الآن عليه، ثم نسخ.
قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الّذيِنَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [9].
اختلف السلف في تأويله، فقال قوم منهم ابن عباس: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره: أوصِ لفلان ولفلان، فيأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه لليتامى والمساكين، وندب له أن يزيد على الثلث، وهذا كان قبل أن تكون الوصية محصورة في الثلث، فيحثه من حضره على أن يوصي بأكثر المال لأقاربه اليتامى والمساكين، فقال الله تعالى: لا تأمروه بما لا تفعلوه لو حضركم الموت.(2/40)
وفيه بيان أن المستحب له إذا كان ورثته ضعفاء وهو قليل المال، أن لا يوصي بشيء، أو يوصي بأقل من الثلث، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد لما رده إلى الثلث فقال:
"والثلث كثير" الحديث.
فأبان له أن استغناء الورثة بفضلها، أولى من استغناء غيرهم.
وقال مقسم، معناه ضد ذلك، وهو أن يقول الرجل للذي حضره الموت: أمسك عليك مالك، ولوكانوا ذوي قرابته لأحب أن يوصي لهم.
فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحث على الوصية، وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها.
وقال الحسن: هو الرجل يكون عند الميت فيقول: أوصِ بأكثر من الثلث من مالك، وهو الأوجه، إلا أن يكون ذلك في وقت كانت الوصية بأكثر من الثلث لازماً، فأما إذا توقفت على إجازة الورثة، فلا نهي عليه.
وعن ابن عباس رواية أخرى، أنه في ولاية مال اليتيم وحفظه والاحتياط في التصرف فيه، وهذه المعاني بجملتها يجوز أن تكون معنية بالآية، إذ لا تناقض فيها، ويجمعها مراعاة المصلحة للورثة واليتامى والموصى..
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اليتامى
قوله تعالى: {إنَّ الذِينَ يأكُلُونَ أمْوالَ اليَتَامَى ظُلْماً} الآية [10]:
الآية محكمة لا نسخ فيها, لأن الظلم ما أبيح قط, وإنما المنسوخ أنه تعالى لما قال:
{ولا تأكُلوا أمْوالهُم إلى أمْوالِكُم إنّه كانَ حُوْباً كَبيراً}، تحرج كثير من المسلمين عن طعام اليتيم, فعزلوه حتى نزل قوله: {وإنْ تُخالِطوهُم فإخْوَانُكُم}, مع أن ذلك أيضاً ليس منسوخاً فإن قوله:(2/41)
{وَلا تأكُلوا أمْوالهُم إلى أمْوالِكُم}, إنما عنى به غير هذه الحالة, فهو تخصيص عموم الآية, والنسخ راجع إلى رفع ما قد ثبت قبل بما يخالفه, ولم يثبت أن مخالطة الأيتام كانت محرمة ثم إنها رفعت, فهذا معنى الكلام.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:11]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ في أوْلادِكُمْ} الآية [11]:
اعلم أن الناس في الجاهلية كانوا يخصصون الذكور المقاتلين على الخيل والذابين عن الحرم بالميراث, وما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث, وقد ورد في بعض الآثار, أن الأمر كان على ذلك في صدر الإسلام, إلى أن نسخته هذه الآية, ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك, بل ثبت خلافه, فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع, حين جاءت امرأة بابنتها من سعد فقالت: يا رسول الله:
هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك يوم أحد وقد استوفى عمهما مالهما, وإن المرأة لا تنكح إلا ولها مال, فنزلت هذه الآية.
وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس, والأول أصح عند أهل النقل, فاسترجع رسول الله صلىالله عليه وسلم الميراث من العم, ولو كان ثابتاً من قبل في شرعنا ما استرجعه.(2/42)
ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس, ويذب عن الحريم.
واعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب:
منها: الحلف والتبني والمعاقدة:
ومنه قوله: {والّذينَ عَقَدَتْ أيمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم}.
وقال آخرون: ما كان الميراث ثابتاً قط بالمعاقدة, والذي في القرآن من قوله: {والّذينَ عَقَدَتْ أيمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم} من الموالاة والنصرة والمعافاة والمشورة.
نعم هذا الخيال إنما نشأ من شيء, وهو أن الله تعالى قال:
{وأولُوا الأرْحامَ بَعضُهُم أوْلى ببَعْضٍ في كِتابِ اللهِ مِنَ المؤمِنينَ والمُهاجرينَ إلاَّ أن تَفْعَلوا إلى أوْلِيائِكُم مَعْروفاً}.
فظنوا أن الآية دلت على ثبوت الميراث بوجه آخر, وليس الأمر كذلك, فإن المراد بذلك: وأولوا الأرحام أولى من المؤمنين, فإن المؤمنين ورثة, إذ المراد ذوو الأرحام.
وقوله: {إلاَّ أن تَفعَلوا إلى أولِيائِكُم مَعروفاً} الوصية, وإلا فلا ثبوت للميراث بالمعاقدة من جهة النص, والآثار متعارضة, والذي في القرآن:
{والّذينَ آمَنوا ولَم يُهاجِروا مالَكُم مِن وَلايَتهِم مِن شيءٍ}.
إنما عنى به في الميراث بالإسلام, إذا لم تكن قرابة, فإن الشافعي رضي الله عنه, يرى المسلمين ورثة في ذلك الوقت, ما كان الاسلام كافياً في هذا المعنى دون المهاجرة مع الإسلام, وإلا فلا وجه لدعوى من يدعي أن المحالفة المجردة, أو الهجرة المجردة, مورثة مع وجود الهجرة في حق ذوي الأرحام والعصبات, إذ جائز أن يكون قوله: {فآتوهُم نَصِيبهُم} أي: آتوهم نصيبهم من الوصية, ولعله كانت الوصية واجبة لهؤلاء, ثم نسخت الوصية, والأول أظهر.
وأبو حنيفة يرى التوريث بالحلف والمعاقدة, ويقول: إن حكمها ما نسخ, ولكن جعلت الرحم أولى منها.(2/43)
فهو يرى أن الأسباب التي يورث بها شتى, فمنها الاسلام, ومنها المعاقدة والتواخي في الدين, والاتحاد في الديوان, وفوقها الولاء, وفوقها الزوجية, وكان الرجل إذا مات اعتدت امرأته سنة كاملة في بيته, ينفق عليها من تركته, وهو قوله:
{والّذينَ يُتَوفّوْنَ مِنكُم} - إلى قوله {مَتاعاً إلى الحَوْلِ} ثم نسخ ذلك بالربع والثمن.
وقوله: {يُوصِيكُمُ اللهُ في أولادِكُم}, نسخ به وجوب الميراث للذين ذكر ميراثهم في كتاب الله تعالى, والأقربون الذين ليسوا بوارثين, فأبان دخولهم تحت اللفظ تعيناً, ولكن اللفظ عموم في حقهم, فلم يتبين قطعاً وجوب الوصية لأولئك النفر، الذين لم يبين الله ميراثهم, فلا نسخ من هذا الوجه, وإنما هو تخصيص عموم.
والدليل عليه أن كل الميراث لهؤلاء المذكورين, وما قال الشرع للعصبة كل الميراث وللبنتين الثلثان, بل كان يقال: للوصية قسط واجب, فما يفضل عنها فهو لكذا, ولم يتبين وجوب الوصية في هذه الآية بل قال: {مِن بَعدِ وصِيّة يُوصَى بها أوْ دَين}, وربما كان الدين أو لم يكن, وربما كانت الوصية أو لم تكن, فهذا تمام ما يتعلق بهذا النوع.
قوله تعالى: {يوصيكُمُ اللهُ في أولادِكُم}، حقيقة في أولاد الصلب فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز, وإذا حلف لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث, فإذا أوصى لولد فلان, لم يدخل فيه ولد ولده, وأبو حنيفة يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب, ومعلوم أن حقائق الألفاظ لم تتغير بما قالوه.
وقوله: {للذَّكرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ}: ليس فيه تقدير ميراث كل واحد منهم ومبلغ ما يستحقه, بل فيه أن ما كان من قليل أو كثير فبين الأولاد على هذه النسبة, وذلك يتناول ما فضل عن أصحاب الفرائض, وما يأخذون من جميع المال إذا لم يكن صاحب فرض.(2/44)
وإذا لم يكن في ميراثهم تحديد, فالذي يصل اليهم هو تمام حقهم قل أو كثر, وذلك يقتضي تقديم أصحاب الفرائض, فإنه لو لم يفعل ذلك لم يكمل لهم حقهم, وإذا قدم وفضل شيء, فقد استوفى العصبة تمام حقه, فهذا وجه البداية بأصحاب الفروض.
قوله تعالى: {فإنْ كُنَّ نساءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا ما تَرَكَ وإن كانَت واحِدةً فَلَها النِّصفُ} [11]:
ولم يبين حكم الاثنتين, فنقل عن ابن عباس أن الآية نص قاطع في أن لا يزاد منه بسبب الثلثين شيء، فإن قوله: {فَوْقَ اثْنَتَينِ} تقييد نصاً, ونفي لما دون هذا العدد.
قال قائلون من العلماء: إن بيان الاثنتين كان ظاهراً في كتاب الله تعالى, وإنما احتاج إلى بيان أن الثنتين فصاعداً لا يزيد حقهم على الثلثين, فكان قوله: {فَوْقَ اثْنَتَينِ} لنفي المزيد.
ووجه دلالة الآية على بيان حكم الاثنتين, أن الله تعالى لما أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث, فإذا كان لها مع الذكرالثلث, فلأن لا تنقص من الثلث مع البنت أولى, ولو جعلنا للبنتين النصف, نقصت حصة الواحدة من الثلث.
ويمكن أن يعترض على هذا فيقال: إنما استحقت الثلث مع الذكر, لا لأن المأخوذ ثلث التركة التامة, بل لأنها عصبة بأخيها, والمال بينهما أثلاث, ولا يأخذان إلا ما بقي ما حالة, وكل المال في حالة.. أما البنت فتأخذ مقداراً من جملة التركة من غير نقصان من نصف الجملة, وذلك مقيد بشرط, فإذا لم يوجد الشرط لم يثبت القدر.
ويدل عليه أنه لو قال قائل: الابن ربما أخذ أقل من نصف التركة, والبنت لا تأخذ أقل من نصف جميع التركة, فيقال: لأن الابن عصبة فيأخذ ما بقي, والبنت صاحبة الفرض, وهذا بيّن.
ومما ذكره العلماء في ذلك, أن الله تعالى قال: {لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَينِ} فلو ترك بنتاً وابناً, كان للابن سهمان ثلثا المال, وهو حظ الأنثيين, وهذا مثل الأول.(2/45)
والاعتراض عليه كما مضى, فإن الابن لا يستحق ثلثي جميع التركة, بل يستحق بالعصوبة أي قدر, وتلك العصوبة تشمل الذكر والأنثى, والمال بينهما على نسبة التفاوت.
وأقوى ما قيل فيه, أن الله تعالى جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال: {فَإن كانَتا اثْنَتَين فلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَك}، ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت, فدل أن بيان الاثنتين مقدر في كتاب الله تعالى.
واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد البنات, ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات, لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان ذلك, ولم يذكر بيان البنتين في ميراث البنات, لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان ذلك, فاشتملت الآيتان على بيان نفي المزيد عند زيادة العدد, وعلى بيان ميراث البنتين, وهذا غاية البيان.
واستدلوا أيضاً على ذلك بما روي عن ابن مسعود, أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت, وبنت ابن, وأخت, بأن للبنت النصف, ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين, والباقي للأخت, فإذا كان للبنت مع ابنة الابن من التركة الثلثان, فالبنتان أحق بذلك وأقرب, لأنهما أقرب من بنت الابن, وإن أمكن أن يعترض على هذا, فإن الذي لبنت الابن فرض آخر, وليس من ميراث البنت في شيء, وإنما الكلام في أن النصف إذا كان للواحد, فهل يزداد ذلك لسبب وجود بنت اخرى, أو يتقاسمان ذلك النصف, فأما السدس فلا تعلق له بفريضة البنت أصلاً, وإنما اتفق أن المبلغين صارا إلى مقدار الثلثين.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركة سعد بن الربيع, للبنتين الثلثين وللزوجة الثمن, والباقي لأخته وقضى بذلك في ابنتي ثابت بن قيس بن شماس.
والآية ليست نصاً في نفي ما دون الثلثين عما دون الثلاث من البنات, بل محتملة ما ذكرناه.(2/46)
وقد قيل: قوله "فوق" صلة وتأكيد, كأنه قال: "فإن كنَّ نساء اثنتين" ومثله: {فاضرِبوا فوقَ الأعْناقِ}, وهذا تأويل بعيد, وما ذكرناه أولاً هو الصحيح, ومما دلت الآية عليه أنه لما لم يبين مقدار ميراث البنتين, عرفنا من قوله تعالى في حق الأخ {وهُوَ يَرِثها إنْ لم يكُن لها ولَد}، أن الأخ لما جعل عصبة حائزاً للميراث مطلقاً, فالإبن بذلك أولى.
وجملة القول فيه أن الله تعالى لما بين كيف يقتسم الذكور والإناث, لم يحد ميراثهم بحد, لأنهم يرثون المال مرة جميعه, ومرة ما فضل عن فرض ذوي السهام, ولو حد لهم حداً, لضاربوا ذوي السهام إذا ضاق المال عن حمل السهام, ولأزيدوا عليه إذا انفردوا, وتحرجوا عن حكم من يرث بالتعصيب إلى حكم من يرث بالفرض, فهذا بيان معنى التعصيب في ميراث.
قوله تعالى: {ولأبَويْهِ لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا ترَكَ إن كانَ لهُ وَلَدٌ} [11]:
فظاهره يقتضي ان يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد, ذكراً كان أو أنثى, فيقتضي ذلك إلى إنه إذا كان الولد بنتاً فلها النصف, ولا تستحق أكثر من النصف لقوله: {وإن كانَتْ واحدَةً فَلَها النِّصْفُ}.
فوجب بحكم الظاهر أن يعطي الأب السدس لقوله: {ولأبويهِ لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ}, ويبقى السدس يستحقه الأب بحكم التعصيب.
فاجتمع للأب الاستحقاق من جهتين: التعصيب والفرض.
وإن كان الولد ذكراً, فللأبوين السدسان بحكم النص, والباقي للابن لأنه أقرب العصبات من الأب, فخرجت منه مسألة البنت والأبوين, وما ذكره الفرضيون من الجمع للأب بين الفرض والتعصيب.(2/47)
وقال عز وجل: {فإنْ لَم يَكُنْ لَهُ ولدٌ وَوَرِثهُ أبَواهُ فلأمِّهِ الثُلثُ}, ولم يذكر نصيب الأب, فاقتضى ظاهر اللفظ أن للأب الثلثين, إذ ليس هناك مستحق غيره, وقد أثبت لهما أولاً, فاقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله: {وَوَرِثَهُ أبَواهُ}, دون تفصيل نصيب الأم, فلما ذكر نصيب الأم, دل على أن للأب الثلثين, وهو الباقي بحكم العصوبة, وبين الله تعالى ميراث الأم مع الأب, وفرض لغيرها من الورثة عند الأنفراد مثل البنت والأخت وغيرهما من أصحاب الفروض, كالزوج والزوجة.
والحكمة فيه: أنه عز وجل أراد أن يبين حجبها بمن لا يرث في قوله: {ولأبَوَيْهِ} إلى قوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخوةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ}، فلو ذكر ميراثها منفردة, لاحتمل أنها لا يحجبها من لا يرث مثل الأخوة مع الأب, فأزال هذا الإشكال, وأفاد هذه الفائدة, حتى لا يتوهم أن الذي لا يرث بحاجب الأشخاص, كالأخوة الذين يحجبون بالأوصاف مثل القتل والرق والكفر, فهذا بيان هذا المعنى.
ثم قال تعالى: {فإنْ كانَ لهُ إخوةٌ فلأمُّه السُّدُسُ}، وقد حجبها جماهير العلماء بأخوين, وانفرد ابن عباس, فاعتبر في حجبها من الثلث إلى السدس, ولا شك أن ظاهر قوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوةٌ} , يقتضي أن ما دون ذلك وضعت العرب له اسم التثنية, وقد غايرت العرب بين المنزلتين, أعني منزلة التثنية والجمع في ظاهر إطلاق اللفظ.
وليس الكلام في أن معنى الجمع هل يتحقق في الإثنتين أم لا, فإن المعنى بذلك أن لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين حقيقة في الإثنين فإنه مشتق من الاجتماع والضم, ويتحقق ذلك في الإثنتين تحققه في الثلاثة، وإنما الكلام في لفظ الأخوة هل يظهر إطلاقه على موضع الأخوان؟(2/48)
ويجوز أن تفترق منازل الجموع في إطلاق ألفاظ, مثل قول القائل عشرة دراهم ومائة درهم, وقد لا تفترق, فيكون التعبير عن الإثنتين مثل التعبير عن الثلاثة, من غير أن ترتيب المنازل من التثنية والواحد أن الجمع مثل قولك: قمنا لنفسه وأخرى معه, ولنفسه وآخرين معه من غير فصل.
فإذا تقرر ذلك, فليس في قول القائل إن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين أخذاً من موضع الاشتقاق وهو الجمع, جواب عن احتجاج ابن عباس بظاهر كتاب الله عز وجل في إطلاق الأخوة في موضع الأخوين, وهذا بيّن.
نعم, قد يطلق لفظ الأخوة على الأخوين معدولاً به عن الأصل, كما يطلق لفظ الجمع في موضع الواحد, ويعبر عن الواحد بلفظ الاثنين مثل قوله: {نحْنُ قَسَمْنا}, والتعبير عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى: {ألْقِيا في جَهَنّمَ كُلَّ} وهو يريد الواحد, إلا أن كل ذلك خلاف الأصل والوضع, وليس الكلام فيه.
وليس يبقى بعد النزول عن الظاهر إلا أن يقال: النص وإن ورد في الثلاث, فلا يمتنع الاثنتين به بطريق الاعتبار.
ووجه الاعتبار أن الله تعالى الحق الاثنين بالثلاث فيما يتعلق بميراث الأخوة في استحقاق الثلثين, وفيما يتعلق بميراث البنات, وغاير بين الواحدة والثنتين, فيدل ذلك على أن حكم الاثنتين أقرب إلى الثلاث منه إلى الواحد.
ولابن عباس أن يعترض على هذا الكلام من أوجه:
أن الله تعالى شرط في حجب الامهات عدداً فقال: {إنْ كَانَ لَهُ إخْوةٌ}، وذلك يقتضي التقييد الذي لا يجوز تركه وإلغاؤه, فإذا حصل بالاثنين بطل فحوى الكلام في التقييد.
ولو قال للواحد: فإن كان له أربعة إخوة فلأمه السدس, كان الكلام ركيكاً, وأن عدد الأربعة لا يتعلق به حكم, فالتقييد بالثلاث مثل ذلك على رأي من لا يجعل لهذا القيد أثراً.(2/49)
الوجه الثاني: أن الأصل في حق كل مستحق للميراث, أن لا يسقط ولا ينتقض إلا بتوقيف قاطع, والأم مستحقة بقرابتها, فما لم يثبت قاطع في حجبها لا يسقط حقها, فإذا شهد الظاهر للثلاثة وجب الرجوع إلى الأصل, فكان الذي لا يحجب الأم بالاثنتين متعلق بالظاهر, ومتعلق بالأصل في ميراث الأم.
الوجه الثالث: أن مساواة الأخوين للثلاث في حكم من أحكام الميراث, لا يقتضي مساواتهما لهم في كل حكم, فإن الزوجة الواحدة تساوي للعدد في الميراث, والجدة الواحدة تساوي الجدات في نصيب الجدات, وبنت الابن مع البنت الواحدة حكمها حكم الجماعة, فإنه لا يفرق بين بنت الابن الواحدة وبين الجماعة من بنات الابن, وكذلك في الأخوات من الأب مع الأخت من الأب والأم, فليس لذلك قانون مطرد.
وغاية الأمر فيه أن يقال في حق الأخوة والأخوات وما في منزلتهم الأمر كذلك.
وإذا لم يختلف مقدار ميراثهم في الاثنتين والجماعة, لم يختلف مقدار قولهم في الحجب في حق الاثنتين والعدد, وفي حق الزوجان لا يختلف ميراثهن بالواحدة والعدد, إلا أنه لا يظهر حكم ميراثهن في حجب حرمان أو إسقاط, فكأن الشرع يقول لنا، كمال قوة الأخوة في الميراث, يقتضي حجب الأم, الثلث إلى السدس, وكمال قوتهم بكمال حقوقهم في الميراث, وفي ذلك يستوي الاثنان والجماعة.
ولما كانت قوة قرابة أولاد الميت وأولاد أولاده, أوفى من قوة قرابة أولاد أب الميت, لا جرم أصل ميراث الأولاد دون كماله كان كافياً في حجب الأم, مثل البنت الواحدة وبنت الابن الواحدة, وإن كان ميراث الثنتين أوفى.
وإنما يظهر أثر ذلك في معنى آخر, وهو أن قوة قرابتي الاولاد إذا لم تكف في حرمان أولاد الابن, فكمال قوة بنات الصلب في الميراث تكفي في إسقاط أولاد الابن.(2/50)
وكذلك كمال ميراث الأخوات من الأب والأم كاف في إسقاط أولاد الأب فقط, فإذا قلنا لا يقع حجب الأم بالأخت الواحدة, وإنما يقع بكمال قوتهم من الميراث, فذلك يقتضي التسوية بين الاثنين والثلاث, وهذا بيّن ظاهر, وهو نظر دقيق في نصرة قول جماهير العلماء.
ويمكن أن يقال إن العدد الكثير من الصحابة لم يتفقوا على مخالفة الظاهر إلا بتوقيف.
أما هذا المعنى الذي قلناه فدقيق, لبعد اجتماع الجم الغفير على ذلك, وترك الظاهر بسببه، فيظهر تقدير توقيف, وإن لم ينقل, يعلم أنهم به تركوا الظاهر, والعلم عند الله.
فهذا وجه منقول عن كافة الصحابة في مخالفة الظاهر.
الوجه الآخر: ما نقل عن قتادة أنه قال: إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب, لأنه يقوم بنكاحهم, ويلزمه المؤن بسببهم لتحقيق إربهم, فأما الأخوة من الأم, فخارجون عن ذلك ولا يحجبون مع الأب, فخالف به مطلق قوله تعالى: {فإنْ كَانَ لَهُ إخوةٌ فَلأمِهِ السُّدُسُ}.
وليس لقوله هذا وجه, فإن الذي يلتزم من المؤن ليس يلتزمه عوضاً عن الميراث, بل يلتزمه بحكم الأبوة, ولا تعلق لذلك بالميراث, فلو كان الإبن كافراً, فعلى الأب نفقته أيضاً ولا يحجب الأم.
الوجه الثالث في مخالفة الظاهر: ما نقل عن ابن عباس, أن الأخوة مع الأب لا يحجبون الأم, إلا عن قدر يأخذونه هم، فإذا فرضنا أخوين وأبوين, فللأم السدس, وللأخوين السدس الذي حجبت عنه الأم, والباقي للأب, وذلك خلاف الظاهر, فإنه تعالى قال: {وَوَرَثَهُ أَبَواهُ فَلأمِّهِ الثُلُثُ فإن كانَ لهُ إخْوةٌ فَلأمِّه السُّدُسُ}.
وتقديره: فإن كان له إخوة مع الأب, ويبعد أن يكون للأخوين مع الأب ميراث.(2/51)
وهو يقول: ليس ذلك ميراثاً من الأخ, وإنما الأم قد حجبت بالأخوة, فيرجع إليهم لا إلى الأب, فيقال: فإذا حجبوا بالأب, فليس لهم من الميراث شيء, ولا لها الثلث, فيقول الأب: أنا أسقطهم من الميراث, وهم أسقطوا, فيجعل كأن السدس لم يكن لك, فأنا المستحق لذلك بحكم العصوبة, وهذا في غاية الوضوح, فهذه هي المذاهب المنتزعة من الظاهر.
وصار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس, لأن كتاب الله في الأخوة, وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق.
ومقتضى أقوالهم أن لا يدخلن مع الأخوة في لفظ الأخوة, فإن لفظ الأخوة بمطلقة لا يتناول الأخوات (مع البنات) كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات, وذلك يقتضي أن لا تحجب الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس, وهو خلاف إجماع المسلمين, وإذا كن مرادات بالآية مع الأخوة, كن مرادات على الإنفراد.
ولو كان ذلك لقوة الذكورة, لأستوى الأخ الواحد والعدد, لأن ميراث الأخوة يستوي فيه الواحد والعدد, فهذا تمام المذاهب في الأوجه المنتزعة من الآية.
بقيت هاهنا مسألة واحدة دقيقة, وهي أنه إذا كان في الفريضة زوج وأم, وأخ وأخت لأم, فلا خلاف بين الصحابة أن للزوج النصف, وللأم السدس, وللأخ وللأخت من الأم الثلث, وقد تمت الفريضة.
أما عامة الصحابة, فلأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس, فاستقام لهم ذلك هاهنا.
وأما ابن عباس, فلأنه لا يرى العول, ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة, وهو لا يرى ذلك, وإذا قيل له: فلم كانت الأم بالنقصان أولى من الأخوين؟ لم يجد كلاماً ظاهراً عليه.
وفيه دليل ظاهر على ما قاله أهل الإجماع من العلماء, وتخطئة ابن عباس في قوله.(2/52)
ثم أبان الله تعالى ميراث الزوج والزوجة وحجبها بالولد من الربع إلى الثمن, ومن النصف إلى الربع, وميراثهما على نسبة ميراث العصبات: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}, إلا أن ميراث العصبات لا يتعذر, وهذا مقدر, وميراث العصبات يشترك فيه الذكور والإناث, وهاهنا لا يتصور الشركة.
إذا عرفنا ذلك, فأعلم أن كل من يحجبه الإبن يحجبه ابن الابن بالاجماع من الزوج والزوجة والإخوة, وذلك إما أن يدل على أن اسم الولد يتناول ابن الابن, أو يتلقى من الإجماع.
وإذا تبين ذلك, فقول الله عز وجل في ميراث الأزواج والأمهات {إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} مطلق, ولكن جمهور العلماء خصوا الحجب بمن يرث, فأما من لا يرث كالكافر والمملوك, فلا يحجب ولا يرث.
وصار ابن مسعود أن من لا يرث من هؤلاء يحجب حجب النقصان, ولا يحجب حجب الحرمان, وذكرنا فرقة بين الحجبين في مسائل الروايا, وهو فرق حسن, وصورته أن الأب الكافر لا يحجب عنده ابن نفسه عن ميراث جده, وأنه بمنزلة المعدوم في ذلك, فأعتبر أصحابنا حجب النقصان به, وذكرنا فرقة بينهما.
وكافة العلماء يقولون إن الله تعالى إنما شرع الحجب لأن الذي ينقص من نصيبه يرجع إلى الحاجب في الأغلب, فقوة ميراثه تقتضي ذلك وأما الكافر فلا يتصور هذا في حقه, فكان كالمعدوم, وسره يرجع إلى أن الوراثة خلافة, إلا أن بعض الخلفاء أولى ببعض, فمن حجب حجب الحرمان, أخذ نصيب المحروم, ومن حجب حجب النقصان, أخذ نصيبه غالبا, وهذا بيّن.(2/53)
لما ذكر الله الولد, وأجمع العلماء على أن إبن الإبن مثل الإبن, فعرفنا به أن المعتبر الميراث لا اسم الولد, وإذا تبين ذلك, فلا خلاف في الإبن والبنت وإبن الابن وبنت الإبن, أن الميراث بينهم {للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} لا بحكم الظاهر, فإن مطلق لفظ أولاده لا يتناول أولاد أولاده, وولد ولده ليس ولده تحقيقاً، فإنه لو كان إسم الولد حقيقة فيه بالإضافة إلى الجد, ما كان حقيقة الأب بالإضافة إلى الأب, فإن الجهة الواحدة إذا كان الإسم حقيقة فيها, لم يكن حقيقة في جهة أخرى تغايرها من طريق العموم, وإنما يكون على وجه الاستقراء بذلك الإشتراك, وذلك يقتضي الإجمال عند الإطلاق, وإذ تبين ذلك وعرف, لم يدخل ولد الإبن إلا بطريق الإجماع, فإذا ثبت ذلك, فإذا ترك بنتاً وابنة ابن, فللبنت النصف بالتسمية, ولإبنة الإبن السدس, وما بقي للعصبة, فاستحقاق ابنة الابن للسدس ليس مأخوذاً من التسمية, وإنما أخذ من الإجماع.
فإذا ترك اثنتين وابنة ابن وابن ابن ابن فكمثل.
وقال ابن مسعود: إذا أخذ البنات الثلثين, فليس لبنات الإبن شيء, وإن كان معهن ذكر, وكذلك في الأخوات من الأب ذكر, درجتهن بعد فرض الأخوات من الأب والأم الثلثين، وأنه لو كان بدلهن عم وابن عم, كان لا تأخذ ابنة الابن شيئاً, فكذلك مع الولد الذكر.
وأما جماهير العلماء فإنهم يقولون إن بنات الإبن لا يأخذن فرض البنات, وإنما يأخذن بجهة أخرى وهي جهة العصب, وإنما كان يمتنع ذلك لو أخذن في هذا الوقت بذلك الفرض الذي أخذ به غيرهن من البنات, فأما إذا أخذن بوجه غير ذلك فليس هو من أولئك في شيء, فيجعل ما بقي من المال بعد الثلثين كأنه جملة مال لا فريضة فيه مسماة لأحد, فيكون للذكر مثل حظ الانثيين.(2/54)
ونشأ منه أنا إذا جعلنا هذا المال كأنه لا فريضة فيه لأحد أصلاً, فإذا كان في الفريضة بنات ابن وذكر أسفل منهن, فلا بد وأن يعصبهن, فإنه لو لم يعصبهن أخذن بالفرض, ونحن قدرنا المال كأن لا فرض فيه أصلاً بحال, فإذا قدرنا ذلك, فلو فضلت العليا من بنات البنين على من هو أسفل منها من بني البنين في الثلث الذي يبقى, لم تكن الفريضة قد مضت.
فإن قيل: كيف جاز أن ترث بنت الابن بسبب ابن الابن, ولولا مكانه لم يرث شيئاً؟ قيل: كما أنا إذا فرضنا إبنا وعشر بنات أخذن أكثر من الثلثين, ولو كن منفردات لم يأخذن, فصار لهن بسبب التعصيب أكثر مما لهن عند الإنفراد, وربما كان التعصيب سبباً للسقوط في بعض المواضع.
فإن قيل: فإذا فرض اثنتين وبنت ابن وأخت فلم لا يجعل الثلث الباقي بعد فرض البنتين لبنت الابن, وتجعل عصبة كما جعلتم الأخت عصبة, فإن بنوة الميت أولى بالميراث من بني أبي الميت, وعندكم أن الباقي بعد فرض البنتين للأخت, ولم لا يجعل لها العصوبة هاهنا على قياس حالها عند الإنفراد كما جعل للأخت المعصوبة؟
ووجه الجواب عنه أنا بإعطائنا بنات الصلب الثلثين, قضينا حق الإناث من أولاد الصلب من الميراث, فلو أخذت بنت الإبن لأخذت ببنوة الميت.
فإن قلتم: الذي أخذ به البنات بالفرض, فهلا أثبتم العصوبة هاهنا وهي جهة أخرى؟
فالجواب عنه أن العصوبة إنما تثبت إذا كانت الجهة في الأصل مخالفة لجهة ميراث البنت, فيعدل من الفرض إلى العصوبة لغرض حفظ الجهة, أما إذا كانت الجهة واحدة وقد قضى من الميراث حقها, فلا وجه لإثبات الميراث لها ثابتاً بجهة العصوبة.
نعم إذا كان هناك ابن ابن فليس ميراث الذكر من جنس ميراث الإناث، وكذلك لو كانت ابنة وابن ابن, فالباقي لابن الابن, لا بطريق أنه تكملة الثلثين, ولو كان يدل ذلك ابنة ابن, فلها تكملة الثلثين, فيدل ذلك على اختلاف الجهة.(2/55)
ويدل على ذلك أنا إذا فرضنا أختاً لأب وأم وأختاً لأب, فلولد الأب السدس تكملة الثلثين, ولو كان أولاد الأب والأم اثنتين, فلا شيء لأولاد الأب إلا أن يكون معهن ذكر يعصب, وهو نظير مسألتنا, سوى أن الأسفل في الدرجة لا يعصب الأخوات للأم لوجه آخر, فهذا تمام البيان في ذلك.
وقال ابن مسعود: في البنت وبنت الإبن وابن الإبن, أن للبنت النصف, والباقي بين الذكر والأنثى على التفاوت, كفرائض أولاد الصلب, إلا أنه قال: ما لم يزد نصيب بنات الابن على السدس, فلا نُعطيهن أكثر من السدس, وجعل لهن الأضر من المقاسمة, أو سدس جميع المال.
فلم يعتبر الفرض على حدة هذه الحالة, ولا التعصيب على حدة, لكنه اعتبر القسمة في منع الزيادة على القسمة, فاعتبر المقاسمة في النقصان وهو بعيد لا وجه له.
وإذا نحن بينا ميراث الأمهات والزوجات والأزواج ومن يحجبهن فيتعلق بما إليه, انتهى الكلام أن الله تعالى قال: {وَوَرِثَةُ أَبَواهُ فَلأمِّهِ الثُلُثُ}، فاقتضى ذلك أن للأم الثلث والباقي للأب, إذا لم يكن ثم إخوة ولا أولاد ميت, فعلى هذا قال ابن عباس في زوج وأبوين: إن للأم الثلث الكامل, فيكون ميراثها, زائداً على ميراث الأب.
وكذلك قال في زوجة وأبوين.
وتابعه ابن سيرين في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين, لئلا يكون تفضيلاً للأم على الأب.(2/56)
واعلم أن الاستدلال بالقرآن في مخالفة ابن عباس ممكن هين, وذلك أن الله تعالى جعل الميراث بين الأبوين أثلاثاً, مثل ما بين الإبن والبنت في قوله: {لِلذّكرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}, وجعل بين الأخ والأخت أثلاثاً, فإذا سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما, وأخذا نصيبهما, كان الباقي بين الإبن والبنتين على ما كان قبل دخولهما, وكذلك بين الأخ والأخت, يجب أن يكون على هذه النسبة, فاعلم أن ذلك إنما يكون إذا كان الابن يأخذ بالعصوبة, فأما إذا كان يأخذ بالفرض فهو والأم سواء, فإنه إذا كان في الفرض أبوان وابن, فللأبوين السدسان والباقي للابن, لأنه لا عصوبة للأب أصلاً مع الابن, وإنما يأخذ بالفرض, فكان الذكر والأنثى في هذا المعنى سواء كأولاد الأم.
وهذا يرد عليه الزوج والزوجة, لأنه جعل بينهما على نسبة التفاوت, مع أنهما يأخذان بالفرض المحض, وعلى أن الأب إذا كان يأخذ بالتعصيب في زوج وأبوين, فالعصب مانع, فلا نظر إلى التفصيل, وغاية ما يقال فيه أن عصوبة الأب غير متمحضة, بل هي عصوبة مشوبة بجهة الولادة, ولذلك يجمع له بين الفرض والتعصيب, فيجوز أن يكون جهة العصوبة بالابن الذي هو أولى العصبات, وأما تعطيل جهة الولادة فلا, وإذا لم يعطل جهة الولادة حال كونه عصبة, ولم تتمحض عصوبته, تعلق به على كل حال أن لا تفضل الأم على الأب مع تساويهما في الولاية, بل يراعي في حق الأب جهة الولادة وجهة العصوبة جميعا, وذلك يقتضي تفضيله عليها, فهذا منتهى الممكن في نصرة مذهب جماهير العلماء.
ونظر ابن عباس جلي جداً, وينشأ منه أن الجم الغفير إذا خالفوا النظر الجلي فلا يخالفون إلا بالتوقيف.
ويمكن أن يقال في مقابلته: وابن عباس إذ أظهر الخلاف, كان من الواجب أن يحتج عليه بذلك التوقيف, ولم يثبت ذلك فهو مشكل والعلم عند الله تعالى.(2/57)
وحاصل نظر الجمهور يرجع إلى أنه إذا وجب أن يبدأ بالزوجة أو الزوج, ويعطي كل واحد منهما نصيبه, فزال الفرض المنصوص لهما بالزوج والزوجة, لأن المنصوص لهما إذا لم يكن زوج ولا زوجة, فإذا أعطيناهما حقهما نظرنا إلى ما يبقى بعد ذلك, فيجعل بمنزلة جملة المال الذي لا فرض فيه لأحد الأبوين, فيقسم بينهما, فيعطي الأم ثلثه, ويعطي الأب ما بقي, لأن النقيصة لما دخلت عليهما من قبل الزوج أو الزوجة, وجب أن تكون داخلة عليهما على قدر حصصهما إذا لم يكن الأب في هذا الموضع بمنزلة العصبة الذين تبدأ بأهل الفرض, ثم يعطون ما بقي لأن أولئك غير مسمين, والأبوان إذا كاناهما الوارثان ففرض كل واحد منهما معلوم, فلما دخل عليهما فرض الزوج والزوجة دخل على كل واحد منهما بقدر حصته.
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [النساء:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
2)…الإجماع
قوله تعالى: {وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [12]:
قرىء: يورث بفتح الراء والتخفيف على ما لم يسم فاعله.(2/58)
وقرىء: بكسر الراء والتخفيف وقد سمي فاعله.
فمن كسر, نصب كلالة على المفعول به, وجعلها اسماً للورثة, وجعل الفاعل للتوريث هو الرجل الميت, وجعل كان يعني وقع وحدث, فلا يحتاج إلى خبر.
ومن قرأ بفتح الراء, نصب كلالة على الحال من الضمير في يورث, وهو ضمير الرجل, وجعل الكلالة اسماً للميت, وجعل كان يعني حدث.
ويحتمل أن يجعل كلالة خبراً لكان.
فلم يختلف العلماء في أن الكلالة اسم لمن لا ولد له, واختلفوا في أنه هل هو إسم لمن لا ولد له؟ فقال قائلون: هو إسم لمن لا ولد له, فبنوا عليه أن أولاد الأم لا يرثون مع الأب, لأن الكلالة اسم لمن لا ولد له, فأما من له والد, فليس خارجاً من الكلالة.
واعلم أن هذا يتصل به مسألة أخرى, وهو أن الله تعالى يقول: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الكَلالَةِ} الآية, فجعل للأخوات من الأب والأم الثلثين, وللواحدة النصف, وذلك لا يتصور مع البنت والأب, وسمى الله تعالى ذلك كلالة فقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُم في الكَلاَلَةِ}, فأطلق اسم الكلالة, ولا بد وأن يكون المعنى هاهنا: ليس له ولد ولا والد, فإن المذكور من الميراث لا يتصور إلا عند فقد والوالد والولد, ويدل على أن الكلالة اسم لمن لا والد له ولا ولد.(2/59)
قوله تعالى: {ولأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَللأُمِّهِ الثُلُثُ}, يقتضي أن يكون ذلك الباقي للأب, ثم قال: {فإنْ كَانَ لَهُ إخْوةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}, فلم يجعل للإخوة ميراثاً مع الأب, كما لم يورثهم مع الإبن, والإبنة أيضاً ليست بكلالة كالإبن, فلا جرم أولاد الأم يسقطن بها, لأنه تعالى شرط في توريث أولاد الأم أن يكون الميت كلالة, أو الوارث كلالة, فإن ترك بنتاً أو ابنتين وإخوة وأخوات لأم فالبنت ليست بكلالة, فإن ترك بنتاً أو ابنتين وإخوة وإخوات لأم فالبنت ليست بكلالة, فلا يستحق الأخوات الثلث.
واختلف أهل اللغة في اشتقاق الكلالة:
فمنهم من قال: هو من قوله: كلت الرحم إذا تباعدت, ولحت إذا قربت, يقال هو ابن عمي لحا, أي هو ابن أخي, وهو ابن عمي كلالة, أي من عشيرتي, قال الشاعر:
* ورثتم قناة الملك لا عن كلالة * عن ابني منافٍ عبد شمس وهاشم *
يعني ورثتموها بالآباء لا بالإخوة والعمومة.
ويمكن أن يكون مأخوذاً من الكلال وهو الإعياء, ومنه قولهم: مشى حتى كل: أي بعدت المسافة فطال سيره حتى كل, وكلَّ البعير إذ طال الطريق حتى أعيا، وكلَّ السيف إذا طال الضرب به, وكلت الرحم إذا ضعفت فطال نسبه, فتكون الكلالة من بعد النسب وبعد القرابة.
وقيل: أخذ من الإكليل المحيط بالرأس.
وروي عن عمر في الكلالة بعد النسب وبعد القرابة روايتان مختلفتان, فتارة لا يجعل الوالد كلالة, وتارة كان يجعله كلالة.
وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر لما سأله عن الكلالة إلى آية الصيف.
ولا شك أن عمر لا يخفى عليه معنى الكلالة من جهة اللغة, وذلك يدل على أن معنى الكلالة شرعاً غير مفهوم من الإسم لغة, ولذلك لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة, ووكله إلى استنباطه.(2/60)
وفي ذلك دليل على جواز تفويض الإجماع إلى آراء المستنبطين, كما فوضها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي عمر.
وفيه دلالة على بطلان قول من يقول: لا يجوز استنباط معاني القرآن, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ", فإن ذلك إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قال فيه بما سنح في وهمه, وخطر على باله, من غير استدلال عليه بالأصول, وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفقة فهو ممدوح.
بقيت هاهنا دقيقة أخرى وهي خاتمة النظر، وذلك أن الجد من حيث كان أصل النسب خارج عن الكلالة كالأب والابن, وعليه بنى العلماء سقوط أولاد الأم به, لأن الله تعالى شرط في ميراثهم عدم الولد والوالد, وفقد الأصل والفرع, ولا يتحقق ذلك مع الجد, وموضع اشتقاق الكلالة يقتضيه أيضاً.
ولآجل ذلك قلنا إن آية الصيف تدل أيضاً على أن الجد خارج, فإن الله تعالى شرط في وراثة الأخت نصف التركة أن تكون كلالة, فلا جرم لا ترث النصف مع الجد ولا الأخ يرثها مع الجد بل يقاسمها, والله تعالى أنما شرط الكلالة في استحقاق النصف فقط وذلك مشروط بعدم الجد.
ويدل عليه أن الكلالة لا تتناول البنت, والأخت ترث مع البنت, إلا أنها لا ترث على الوجه المذكور في آية الصيف وهو النصف, وإنما ترث الباقي من نصيب البنت, فهذا تمام معنى آية الكلالة, وقد وردت في آية الصيف عدة أخبار تركنا ذكرها للاستغناء عنها في فهم معنى الآية.
ومما استنبطه العلماء من آية الكلالة بعد فهم معناها مسألة المشركة, وقد اختلف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فروي عن علي إسقاط أولاد الأب والأم, وروي عن زيد التشريك.(2/61)
ولا شك أن ظاهر قوله تعالى: {فإنْ كانوا أكثرَ مِن ذلكَ فهُمْ شُرَكاءَ في الثلُثِ}, يتناول أولاد الأم جملة, وقوله: {فإنْ كانَتا اثْنَتَينِ فَلَهُما الثُلثانِ مّما تَرَكَ}, يتناولهم من جهة الأب لا من جهة الأم, فتعين الجمع بين الاثنتين, فمتى أمكن التوريث بقرابة الأبوة, وجبت مراعاتها لقوله تعالى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أختٌ فلَها نِصفُ ما ترَكَ وهُوَ يَرِثُها إن لم يكن لها ولدٌ}، معناه يرثها بقرابة الأبوة, وإن لم يكن التوريث بقرابة الأبوة, وجب اتباع ظاهر قوله: {فَهُم شرَكاءَ في الثُلثِ}, فأخذنا حكم التشريك والتعصيب من الآيتين الواردتين في حق الكلالة, وذلك بيّن.
نعم إذا فرضنا زوجاً وأماً, وأخاً من أم, وإخوة من أب وأم, فلولد الأم السدس, والسدس الباقي بين أولاد الأب والأم, لأن قوله تعالى: {وإن كانوا إخوَةً رِجالاً ونِساءً فلِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأتْثَيَينِ}، ينفي التوريث بالفرض ما أمكن التوريث بالعصوبة, فإذا أمكن توريث بالعصوبة, وجب اتباع الآية الأخرى.
ومن يخالف هذا المذهب يقول: إنما جعل الله تعالى الإخوة شركاء في الثلث مبنياً على قوله تعالى: {فلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ}, ولا يتصور استحقاق السدس هاهنا, فتقدير الآية: للواحد السدس وللإثنين الثلث, ولا يتصور ذلك في ولد الأب والأم, فعند ذلك يضعف التعليق بالظاهر من حيث الاسم, ويبقى التعليق من حيث المعنى, وهو أنه لما جعلت قرابة الأمومة مورثة, وقد وجدت العلة المورثة في حق الأب والأم, فينجر الكلام عند ذلك إلى طريق المعنى.
وإذا ثبت الاستنباط من الكلام في مسألة المشركة, فالأخت مع البيت عصبة عند جماهير العلماء.(2/62)
وقيل لابن عباس وابن الزبير: إن علياً وعبد الله وزيداً يجعلون الأخوات مع البنات عصبة, فقال: "أنتم أعلم أم الله؟", يقول الله عز وجل: {إنِ امْرؤ هَلكَ ليسَ لهُ ولدٌ وله أختٌ فلَها نِصفُ ما ترَكَ}, فجعل لها النصف عند عدم الولد, فكيف تجعلون لها مع الولد النصف؟
وعامة العلماء يرون معنى الآية: إن امرؤ هلك ليس له ولد ذكر, ولذلك قال: {وهُوَ يَرِثُها} يعني الأخ, ولا شك أن الأخ يرث مع البنت.
ومثله قوله تعالى: {ولأبَويهِ لكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ ممَا ترَكَ إن كانَ لهُ ولَدٌ}, ومعناه عند الجميع: إن كان له ولد ذكر.
ولا خلاف بين الصدر الأول ومن بعدهم من الفقهاء, أنه لو ترك ابنة وأبوين, أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي السدسان والباقي للأب, ولو ترك ابنة وأبا فللبنت النصف وللأب النصف, وقد أخذ في هاتين المسألتين مع الولد أكثر من السدس.
والسر في ذلك أن الذي تأخذه الأخت بعد أصحاب الفرائض, ليس هو النصف الذي كان مفروضاً لها, إذا لم يكن ولد, فإن ذلك فرض, وهذا مأخوذ بالتعصيب, لأنها عصبة فتأخذ الباقي, فتارة يكون الباقي نصفاً, وتارة أقل من ذلك, وربما ترك الميت ابنتين فصاعداً فتأخذ الأخت ما بقي بعد الثلثين, وربما كان مع الأخت أخواتها, فيأخذون جميع ما يبقى, فعلم به أن الذي تأخذه الأخت في هذا الموضع, إنما تأخذه بمعنى غير المعنى الذي كان فرض لها مع البنت.
فإن كان المعنى الذي تأخذ به في هذا الموضع غير ذلك المعنى, لم يدخل أحد المعنيين على الآخر, وكان لكل واحد منهما معنى حكم على جهته.
نعم بنت الإبن لا تستحق الباقي بعد بنتي الصلب, لأن الجهة واحدة في البنت وبنت الابن, وأما الجهة فمختلفة هاهنا.
وليس يمكن إسقاط أولاد الإبن, مع مشابهتهم لأولاد الصلب في تعصيب الأخت وغيره, وإعطاء الأبعد, وليس يمكن الترتيت في الفرض, فدعت الضرورة الى تعصيبهن, هذا تمام ما يقال في هذا الباب.(2/63)
فإن قال قائل: فهلا قلّتم لابنة الابن ما يبقى بعد بنتي الصلب؟ وإن بنت الابن في ذلك أولى من ابن ابن العم البعيد, فإنها تدلي ببنوة الميت, وابن العم يدلي ببنوة جد الميت, وشتان ما بينهما, فإن قلتم: لا شيء لها, علم أن ذا الفرض لا يصير عصبة, مخافة صرف المال إلى من هو أبعد منه في القرابة, فكذلك الإلزام في الأخت من الأب مع الأختين للأب والأم, فإنه لا يصرف اليها الباقي بعد الثلثين بحكم العصوبة, تقديماً لقرابتها على قرابة ابن العم, وهذا سؤال حسن.
والجواب عنه: أن السبب في ذلك أن الله تعالى شرع فرض البنات جملة واحدة, سواء كن بنات صلبة أو بنات ابنه, فجعل غاية حقهن الثلثين, جعل غاية حق الأخوات سواء كن لأم وأب أولأب الثلثين, ودل عليه مطلق قوله تعالى: {ليسَ لهُ ولَدٌ وله أختٌ فلَها نِصفُ ما تَركَ} إلى قوله: {فإن كانَتا اثْنَتَينِ فَلَهُما الثلُثانِ ممّا ترَكَ} الآية, فوقعت الفريضة لهم جملة، لأنهم جميعاً ولد الميت أو ولد أبى الميت, فإذا كان ذلك كمال حقهم من التركة, يقع الكلام منهم بعضهم مع بعض في البداية ببعضهم على بعض, فإذا استوفى الأخوات للأب وللأم حصصهم, كان الباقي للعصبة لأنهم يقولون لأولاد الأب: سواء علينا كنتم لأب وأم, أم كنتم لأب وقد استوفى فرض الأخوات, فليس لكن بعده شيء؟ وإن كان هناك أخ لأب سقط كلام العصبة, لأن الإخوة يقولون: أنتم لا حق لكم مع أخ لأب بوجه, فإنه ذكر عصبة لا يأخذ ما يأخذه بفرض الإناث.
السؤال: على هذا من أوجه:
أحدها: أنه إن صار نصيب الأخوات من الأب مستوفى في فريضة الأخوات للأب والأم وليس يبقى بعد ذلك لهن حق في الميراث, فلم تأخذ الأخت للأب مع أخيها, وهلا قال لها الأخ: قد صارت حصتك مستوفاة في ميراث الأخت للأب والأم, فلا حق لك أصلاً بوجه من الوجوه, فلا جرم صار ابن مسعود إلى أن الباقي للأخ دون الأخت.(2/64)
وأبى ذلك غيره حتى قال زيد بن ثابت: هذا من قضاء أهل الجاهلية, أي إنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث.
إلا أن ابن مسعود يقول: أنا أورث الإناث, ولكن نصيبهم مستوفى في ميراث أولاد الأب والأم, فهذا تمام هذا القول في الاعتراض.
الوجه الثاني في الاعتراض, أن قول القائل إن ميراث أولاد الأب صار مستوفى لا وجه له, فإن حقهم لا يصير مستوفى لغيرهم, وكل من يحجب شخصاً, لا يقال صار ميراثه مستوفى للحاجب, بل يقال: لا ميراث للمحجوب مع الحاجب, فإذا تقرر ذلك فالثلثان لأولاد الأب والأم وبنات الابن معهن, ويبقى النظر بعد ذلك في أنهم حجبوا بمن فوقهم, فلم يحرمون من دونهم مثل مسألتنا سواء؟
الوجه الثالث: أنه لو جاز أن يقال هذا, جاز أن يقال: إن ميراث أولاد الأب شبيه بميراث أولاد الميت في الثلثين والنصف, وتعصيب الأخ للأخت, فيمكن أن يقال من أجل ذلك إنه ميراث الولادة, إلا أنه ولادة أب الميت, ولذلك تشابه الميراث, فإذا أخذت البنات الثلثين, صار حق الأولاد مستوفى على أبلغ الوجوه وهو ولادة الميت, وميراث أولاد أبي الميت من جنس ذلك بلا شك, فيصرف الفاضل إلى العصبة.
الجواب عن السؤال الأول: أن الأخت إنما تأخذ مع أخيها بجهة أخرى غير الجهة التي يستحق بها الأخوات الفرض, كما تأخذ بنت الابن مع ابن الابن ما يبقى, وإن وجد بنتا الابن.
فإن قلت: فلم يعصبها أخوها كما يعصب ابن الابن أخته؟ ولعل المعنى فيه أنها تقول نحن استوينا في القرب, وإنما لك فضل بالذكورة، فالمال بيننا على تلك النسبة, إذ يبعد أن يأخذه الأبعد في الدرجة بحكم البنوة, أو من في درجتها وهي لا تأخذ.
أو يقال: إن قوة عصوبة الابن اقتضت فعصبت أخته, وقد بعدت تلك القوة إلى أولاد الأب وإن تقاصرت عنه في بعض الوجوه, فكان التعصيب لهذا المعنى, وإذا ثبت التعصيب اختلفت الجهة, فلم يكن توفية ميراث الأخوات بالفرض مانعاً جهة أخرى يستحق بها الميراث, وهذا بيّن.(2/65)
والجواب عن الفصل الثاني, وهو قولهم إن ميراث أولاد الأب لا يصير مستوفى, فإنهم محجوبون, وإنما ذلك حق أولاد الأب والأم, فالأمر كذلك على بعض الوجوه, غير أن الذي قلنا إنه ليس لأولاد الأب الإناث أكثر من هذا القدر الصحيح, والذي قالوه ثالثاً إنه ليس لأولاد الأب إلا ما يشبه ميراث الأولاد, فهو الكلام الواقع, وما ذكروه من تشابه الميراثين فكمثل, ولكن مع هذا إذا فرضنا بنتاً وأختاً, لم نقل إن الأخت تأخذ مكملة الثلثين, مثل ما يقال في الأخت من الأب مع الأخت من الأب والأم, وذلك يدل على وجه على افتراق الميراثين.
واعلم أن هذا كله تعلل, والأصل فيه التوقيف, وهو ما روي هزيل ابن شرحبيل أن أبا موسى الأشعري سئل عن رجل ترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه, فقال: لبنته النصف, وما بقي فللأخت من الأب والأم, وقال: ائت ابن مسعود فسيقول مثل ما قلت, فسأل ابن مسعود عن ذلك وأخبره بما قال أبو موسى, فقال ابن مسعود: وكيف أقول ما قال أبو موسى وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للابنة النصف, ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين, وما بقي فللأخت من الأب والأم.
وروى أبو حسان عن الأسود بن يزيد الكوفي, أن معاذ بن جبل وهو على اليمن ورث مال رجل توفي وترك ابنته وأخته, فجعل للابنة النصف ولأخته النصف, ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي يومئذ.
وروى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال: كان ابن الزبير يقول في بنت وأخت: المال للبنت, فقلت له: إن معاذاً قضى فينا باليمن للبنت النصف وللأخت النصف الباقي, فقال ابن الزبير، فأنت رسولي إلى ابن عتبة - وكان قاضية على الكوفة - مرة فليأخذ بذلك, فترك ابن الزبير قوله لما جاءه ما لم يمكن دفعه.
فصل(2/66)
اعلم أن الله تعالى قال في ميراث الإخوة: {وهوَ يرِثهَا إنْ لمْ يكنْ لها ولَدٌ}, فجعل الأخ عصبة, ولم يفصل بين الأخ من الأب والأم, والأخ من الأب, وجعل للأخت مطلقاً النصف, وللأختين الثلثين, سواء كن من الأب أو من الأب والأم, ولم يفرد قرابة الأمومة, لا في حق الأخ ولا في حق الأخت, ولو انفردت قرابة الأمومة عن قرابة الأبوة, لكان للأخت من الأب والأم الثلثان: النصف بقرابة الأبوة, والسدس بقرابة الأمومة, وذلك كل المال, فإذا ثبت ذلك, علم به اتحاد القرابتين في حقه في استحقاق مقدار المال, ورجعت زيادة قرابة الأمومة إلى تأكيد قرابة الأبوة, حتى تقدم على ولد الأب, وتنزل زيادة قرابة الأمومة, منزلة زيادة درجة العصبات مثل الابن وابن الابن.
فإذا تبين ذلك, فإذا فرضنا ابني عم, أحدهما أخ لأم, لم تتحد قرابة الأمومة ببنوة العم, بل لمن اجتمعت فيه القرابتان, السدس بقرابة الأمومة, والباقي بينه وبين ابن عمه, وقال عمر وابن مسعود: المال للأخ من الأم.
ولم يختلفوا في الأخوين لأم, أحدهما ابن عم, أن لهما الثلث بنسب الأم, وما بقي فلابن العم خاصة.
وفي المسألة الأولى شبهوا بأخوة الأم, وأنها تتحد بأخوة الأب.
وهذا بعيد, فإن الجهة هناك واحدة, واختلف الجهة فيما نحن فيه, والأصل نفي الاتحاد بين الجهتين وتوفير مقتضى كل علة عليها, إلا ما كان مستثنى في حق الإخوة, والنافي منفي عن أصله.
إذا ثبت الحكم في هذه المسائل فقد قال تعالى: {مِن بعدِ وصِيّةٍ يوصى بها أوْ دَيْنٍ}, قدم الوصية على الدين في ثلاثة مواضع.(2/67)
نعم أفاد بقوله: "أو" نفي اعتبار جمع الأمرين, فإنه لو قال: "من بعد وصية ودين" بالعطف, لا أحتمل أن يقال: يعتبر وجود الأمرين, وإذا قال: "أو دين"، علم به أن اجتماعهما لا يعتبر, ومثله قوله تعالى: {ولا تطِعْ مِنهُم آثماً أوْ كَفوراً}, أي لا تطعهما ولا كل واحد منهما, ومثله قول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين, هو أما بمجالستهما أو مجالسة أحدهما, فإذا قال: جالس الحسن وابن سيرين, احتمل أن يكون قد أمر بمجالستهما مجتمعين ومنفردين.
يبقى أن يقال: إنه تعالى قدم الدين على الوصية.
فيقال: إن المراد به اسثناؤهما من جملة الميراث, وهما بالإضافة إلى التركة واحد, فإنهما مقدمان على حق الورثة, وليس يظهر أثر التقديم بالإضافة إلى الورثة, وإنما تتفاوت الوصية والدين في أنفسهما عند قطع النظر عن حق الورثة, وليس في الآية تعرض لذلك, وهذا بين, وكأنه تعالى ذكر الوصية قبل الدين, لأن الوصية أغلب وأكثر من الدين, فإنه قد يموت كثير ولا دين عليه, ولا يموت الانسان غالباً إلا و يكون قد أوصى بوصية, ولأن قضاء الدين من التركة كان مشهوراً, ولعل الحاجة إلى بيان الوصية كان أكثر وأظهر, وعن علي رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية وأنتم تقرءونها من بعد وصية يوصى بها أو دين.(2/68)
واعلم أن قوله تعالى: {مِن بعدِ وصيةٍ يوصى بها أو دَيْنٍ}, لا يقتضي اختصاص الوصية ببعض المال, كما لا يقتضي ذلك في الدين, إذ ظاهره العموم, إلا أن الخبر الصحيح ورد عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبيه, قال: مرض أبي مرضاً شديداً أشفى منه, فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا كلاله, أفأتصدق بالثلثين؟ قال: لا, قال: فالشطر؟ قال: لا, قال, فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير, إنك أن تترك ورثتك أغنياء, خير من أن تدعهم يتكففون وجوه الناس, وإنك إن تنفق نفقة إلا أجرت فيها, حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك, فقلت: يا رسول الله, أتخلف عن هجرتي؟ قال: لن تخلف بعدي, فتعمل عملاً تريد به وجه الله تعالى, إلا تزداد رفعة ودرجة, لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضرُّ بك أقوام آخرون, ثم قال: اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
فدل الخبر على أن الزيادة على الثلث غير جائزة, فإن النقصان عن الثلث مستحب.
ودل به على أنه إذا كان قليل الحال وورثته فقراء, فالمستحب أن لا يوصي أصلاً.
وفيه دليل على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث, لأن سعداً قال: أتصدق بجميع مالي؟ فقال: لا, إلا أن يرده إلى الثلث.
وقول سعد: أتخلف عن هجرتي؟.. معناه أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين عن أن يقيموا بعد النفر أكثر من الثلاث, وهاجر سعد مع النبي صلى الله عليه وسلم وتخلف بعده, حتى نفع الله به أقواماً وضرَّ به آخرين, وفتح الله على يديه بلاد العجم وأزال ملك الأكاسرة.
وإذ قال تعالى: {مِن بعدِ وصِيّة يوصى بها أوْ دين}، فيدل ظاهرة على أن كل من كان عليه ما يسمى ديناً, فلا يأخذ الوارث تركته.(2/69)
ومساق ذلك أن دين الزكاة يؤخذ من ماله بعد الموت, وكذلك الحج, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه دين الله وجعله أحق الديون.
ومن الجهالات قول الرازي إن ذلك دين الله, فلا يفهم من مطلق اسم الدين, فإن الاختلاف في المضاف اليه لا في اسم الدين.
ولو قال قائل دين الآدمي ينطلق عليه اسم الدين لأنه مضاف إلى الآدمي, كان مثل ذلك.
ومطلق قوله "يوصي", لا فصل فيه بين الوصية للوارث والاجنبي, إلا أن الأخبار قيدت بالوصية للأجنبي على ما رواه الفقهاء في كتبهم, ودل الإجماع أيضاً عليه.
ومطلق قوله تعالى: {مِن بعدِ وصيّةٍ}, يقتضي التسوية بين مقدار الثلث وما فوقه, إلا أنه إذا كان هناك وارث معين استثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنك لا تدع ورثتك أغنياء" الحديث.
فإذا لم يكن وارث معين بقي عند أبي حنيفة على موجب العموم, إلا أن الشافعي رضي الله عنه يقول: قوله: {يوصى بها أوْ دَيْنٍ}، ما ورد إلا في موضع الوراثة, ولم يرد مطقاً, كيف يمكن الاستدلال بعمومه, وهذا قاطع في منع الاستدلال بعموم الآية في الوصية, وإذا لم يمكن ذلك، يبقى لنا أن الأصل امتناع إضافة التصرف إلى ما بعد الموت إلا بقدر ما استثنى, وقد شرحنا ذلك في مسائل الخلاف, وإنما مقصودنا بهذا الكتاب البحث عن معاني كتاب الله.
قوله تعالى في مساق الوصية: {غَيرَ مُضارٍ}, أي غير مضار بالوصية, وذلك بأن يوصي بأكثر من الثلث.
وقوله تعالى: {غَيرَ مُضارٍ}, يمتنع التعلق بعموم آية الوصية فيما يقع التنازع فيه, فإنه لا يدري أنه من قبيل المضارة أم لا, فيمتنع التعلق بعمومه لمكان الاستثناء المبهم, وهذا بين في منع التعلق بالعموم في الوصية.(2/70)
ومما يتعلق بمعاني الآية أن عموم قوله تعالى: {يوصِيكُم اللهُ في أولادِكُم}, مع ذكر الزوجة والإخوة والأخوات, يدل على ميراث القاتل والرقيق والكافر, غير أن الأخبار الخاصة منعت منه, وإذا صار مضمون الخبر مقدماً , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يتوارث أهل ملتين شتى".
ولم يختلف الناس في أن الكافر لا يرث المسلم.
نعم, نقل عن معاوية أنه ورث المسلم من قريبة الكافر.
وقيل هو قول معاذ.
وإذا كان قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" قاضياً على عموم الآية في حق الكافر الأصلي والمسلم, قضى عليه في حق المرتد حتى لا يرثه المسلم.
وقال ابن شبرمة وأبو يوسف, ومحمد بن الحسن, والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين.
وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في الردة فهو فيء, وما كان مكتسباً في حال الإسلام, ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون إذا قتل على الردة عند أبي حنيفة, ولا يورث عنه ما اكتسبه في الإسلام.
وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد, فلا يفصلون بين الأمرين, ومطلق قوله عليه والسلام:
"لا وراثة بين أهل ملتين شتى", يدل على بطلان أقوالهم.
ثم انتزاع معاني الفرائض من آيات المواريث.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [النساء:15-16]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (الزنا)
قوله تعالى: {واللاّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِنِ نِسائِكُم} الآية [15]:(2/71)
الأكثرون على أن الآية منسوخة بما نزل في سورة النور: {الزَّانِيةُ والزَّاني} الآية.
والسبيل الذي جعله تعالى لهن: الرحم والجلد.
وقوله: {واللّذانِ يأتِيانها منكُم فآذُوهما}، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت, وكان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير والضرب بالنعال, فنزلت: {الزَّانِيةُ والزَّاني} الآية.
واعلم أن الآية إن كانت ناسخة فليس فيها فرق بين الثيب والبكر, وذلك يدل على أنه كان حكماً عاماً في البكر والثيب.
وورد في الأخبار الصحيحة عن عبادة بن الصامت في هذه الآية: {واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نسائِكُم}, قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي, فكان إذا نزل عليه الوحي تربّد لونه, وكرب له, وصرفنا أبصارنا عنه فلم ننظر اليه, فلما سُرِّي عنه قال: "خذوا عني".
قال: قلنا: نعم يا رسول الله, قال: قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب الرجم, والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة.
وقال الحسن: كان أول حدود النساء كن يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور: {الزَّانِيةُ والزَّاني}.. الآية, قال عبادة: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر مثل الحديث الأول.
وروي عن الحسن وعطاء أن المراد بقوله تعالى "فآذوهما" الرجل والمرأة.
وقال السدي: البكر من الرجال والنساء.
وعن مجاهد: أنه أراد الرجلين الزانيين, وأراد بالأول المرأتين الزانيتين.
وذكروا أن الظاهر يدل عليه, فإنه قال تعالى أولاً:
{واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائِكُم}, فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة من النساء.
وقال: {واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم} فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالرجال, فالأول فاحشة بين النساء, والثاني فاحشة بين الرجال.
فعلى هذا المذكور من سورة النور ليس نسخاً للأول من الفاحشين, إذ لا يتعلق الجلد بها, وفي تعلقه بالفاحشة الثانية اختلاف قول بين العلماء.(2/72)
ولا شك أن موجب الفاحشة وهو الحبس في البيت, منسوخ كيفما قدر الأمر, فأما الفاحشة الثانية فموجبها الإيذاء, وذلك ثابت الحكم غير منسوخ على قول بعض العلماء, وتأويل السدي أقرب إلى الظاهر, وقول غيره يحتمل, فيمكن أن تكون الآيتان نزلتا معاً, فأفردت المرأة بالحبس, وجمعا جميعاً في الأذى, وتكون فائدة إفرادها بالذكر, إفرادها بالحبس إلى أن تموت, وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل, وقرنت المرأة بالرجل في ذكر الأذى لاشتراكهما.
ويجوز أن تكون المرأة من قبل مشاركة الرجل في الأذى, ثم زيد في حدها الإمساك في البيت.
واعلم أن قوله: {يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائكُم}, الظاهر كونه مقدماً على قوله: {واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم}.
فإن قوله: {يأتِيانها} كناية لا بد له من مظهر متقدم مذكور في الخطاب, أو معهود معلوم عند المخاطب, فالظاهر رجوع الكناية إلى ما تقدم ذكره من الفاحشة, فيقتضي ذلك أن يكون حبس المرأة متقدماً, ثم تعذر زيادة الأذى على الحبس إن كان المراد بقوله: {واللّذانِ يأتِيانها} الرجل والمرأة, مع أن إضافة الفاحشة إلى المرأة, يبعد إضافتها ثانية اليها, إلا بتقدير أمر جديد, والأذى يشتمل على الحبس وما سواه, وليس فيه دلالة مصرحة بالزيادة ليعتقد مضموناً إلى ما تقدم.
والظاهر أن قوله: {واللّذانِ} كناية عن الرجلين, لا عن الرجل والمرأة, لتقدم بيان فاحشة المرأة.
قيل لهؤلاء وقد قال الله تعالى: {ما ترَكَ على ظهْرِها مِن دابّةٍ} من غير أن يتقدم ذكر المكنى عنه بالهاء.
وقال: {إنّا أنزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ} فيجوز في قوله: {واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم}.
فأجابوا: إن المفهوم من ذكر الإنزال: القرآن, ومن قوله على ظهرها من دابة: الأرض, فاكتفى بقرينة الحال عن ذكرها صريحاً.
وقال السدي: إن قوله {فأمسِكوهُنَّ في البُيوتِ}: في الثيبين, وقوله: {واللّذانِ يأتِيانها مِنكُمَ}: في البكرين.
وكيفما قدر فلا بد من شيء منسوخ في الآية.(2/73)
والصحيح أنه نسخ بقوله عليه السلام: "خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلاً" الحديث.
ويجب أن يكون قوله: {الزَّانِيةُ والزَّاني} نازلاً بعد قوله عليه السلام: "جعل الله لهن سبيلاً", فإنه لو نزل قبل هذا الخبر, ما كان لقوله عليه السلام: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً" معنى, وذلك يدل على نسخ الكتاب بالسنة.
وعلى هذا إذا نزلت آية النور بعد خبر عبادة, فإنما يكون متضمناً بعض حكم زنا البكر, من غير تعرض لزنا الثيب, ومن غير تعرض لنفي سنة, وذلك في القلب منه شيء.
وكيف ترك الأمر العظيم الأهم من زنا الثيب ورجمه بقول: الزانية والزاني, فيأتي بالألف والام الدالين على استغراق الجنس, ويقول بعد ذلك: {ولا تأخُذكُم بهِما رَأفَةٌ في دينِ اللهِ}, وذلك لأجل المبالغة, فيتعرض لمزيد تغليظ عليهم ليس من جنس الحد, ويقول في تمام التغليظ: {ولْيَشْهَد عَذابَهما طائِفةٌ مِنَ المؤمِنِينَ}.
فيظهر من مجموع هذه المبالغة في التغليظ أنه لو كان ثم حد آخر أوفى منه, لكان أولى بأن يتعرض له, فيظهر بذلك الاحتمال الآخر وهو أن قوله: {فآذوهُما}, {وأمْسِكوهُنَّ}, لم ينسخه خبر عبادة, وإنما نسخه الذي في النور, فكان ذلك شاملاً للبكر والثيب جميعاً على وجه واحد, فإن الثيب أكثر من يصدر منهم الزنا, فكيف لا يتعرض لهن.
يبقى أن يقال: فما معنى قوله عليه السلام: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً" والسبيل كان سابقاً؟
فيقال: إن ذلك من أخبار الآحاد, فلا يعترض به على هذا الأمر المقطوع به الذي قلناه.
أو يقال: قوله: "قد جعل الله لهن سبيلاً", بيان حكم الله تعالى, وحكم الله تعالى يجوز أن يرد في دفعتين, فإذا ورد ثانياً, كان تتمة السبيل الذي أطلقه كتاب الله تعالى.
وفيه شيء آخر من الإشكال, وذلك أن الله تعالى يقول في الآية الأولى:
{فأمْسِكوهُنَّ في البُيوتِ حتّى يَتَوَفَاهُنَّ الموتُ} الآية [15].(2/74)
ويقول في الآية الثانية: {فَآذوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعرِضُوا عَنْهُما } الآية [16].
فإن كان الذي وجب على الرجلين, أو على الرجل والمرأة على اختلاف المعنيين, عين الحبس, فإذا عُزر المَعزر منه, وجب الإعراض عنه, تاب أو لم يتب بقوله:
{فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضوا عَنْهُما}, فإنه ذلك يقتضي عقاباً دائماً يسقطه التوبة والصلاح والإخلاص, ويكون ذلك الحبس, فيقتضي ذلك أن يكون الأيذاء عبارة عن الحبس أيضاً, كما كان في الأولى, إلا أن الله تعالى عبر عنهما بعبارتين مختلفتين.
فهذا تمام ما تيسر تقريره هاهنا, مع ما فيه من الإشكال.
وقد أنكرت الخوارج الرجم, لأجل أن الذي في سورة النور لا يحتمل أن يكون في وقت اختلاف حد البكر والثيب كما قررناه, وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون تمام الحد هو القدر المذكور في سورة النور في حق البكر والثيب جميعاً, فإذا كان كذلك, فشرع الرجم نسخ لهذه الآية, ونسخ القرآن بأخبار لا يجوز بوجه.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً *وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [النساء:17-19](2/75)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التوبة
قوله تعالى: {إنما التّوبَةُ على }.. إلى قوله: {لا يحل لَكُم أنْ تَرِثوا النِّساءَ كَرْهاً}.
بيان الوقت الذي تقبل فيه التوبة، ليس متعلقاً بأحكام التوبة في الدنيا، فأراد أن يبين حكمها في الآخرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [النساء:19]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
2)…الطلاق
قوله تعالى: {لا يحِلُّ لَكُم أنْ تَرِثوا النساءَ كرْهاً} الآية [19]:
ذكر ابن عباس في هذه الآية أنه إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها, إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاءوا زوجوها, وإن شاءوا لم يزوجوها, فنزلت هذه الآية في ذلك, فكانوا يورثون وارثه المال, وكان من الطاعة منهم أن يلقي أقرب الناس اليه عليها ثوباً فيرث نكاحها, فمات ابن عامر, زوج كبشة بنت عامر, فجاء ابن عامر من غيرها, فألقى عليها ثوباً فلم يقربها ولم ينفق عليها, فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى:
{لا يحِلُّ لَكُم أن ترِثُوا النِّساء كَرْهاً}.
وقوله: {ولا تَعْضُلوهُنَّ لِتَذهَبوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ}.
أمر للأزواج بتخلية سبيلها, إذا لم يكن فيها حاجة, فلا يضرّ بها في إمساكها حتى تضجر, فتفتدى ببعض مالها.
كذا فسره ابن عباس.
وقال الحسن: هو نهي لولي الزوج الميت أن يمنعها من التزويج على ما كان عليه أمر الجاهلية.
وقوله تعالى: {إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ}.(2/76)
يحتمل زناها الذي يجوز للرجل من أجله أن يهجرها ويزجرها, ويجوز أن يكون نشوزها, فهذا معنى الآية, وشرحنا أحكام الخلع في سورة البقرة.
وذكر عطاء الخراساني أن الرجل كان إذا أصابت امرأته فاحشة, أخذ ما ساق اليها وأخرجها, فنسخ ذلك.
وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: {لا يِحِلُّ لَكُم أن تَرِثوا النِّساءَ كَرْهاً}: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد, فكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة امرأته حتى يطلقها, ويشترط عليها ألا تنكح من أراد حتى تفتدى منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك.
قال زيد: وأما قوله: {إلاَّ أنْ يَأتِينَ بفاحِشّةٍ مُبَيّنَةٍ}, فإنه كان في الزنا ثلاثة أنحاء وقال:
{ولا تَقْرَبوا الزِّنا إنّه كانَ فاحِشَةٍ}، فلم ينته الناس.
ثم نزل: {واللاّتي يأتِينَ الفاحِشَةُ مِنْ نِسائِكُم} إلى قوله: {أو يجْعَلَ اللهُ لهُنَّ سبيلاً}.
كانت المرأة الثيب إذا زنت فشهد عليها أربعة, عضلت فلم يتزوجها أحد, فهي التي قال الله عز وجل:
{وَلا تَعْضُلوهُنَّ إلاَّ أن يَأتِينَ بفاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ}.
قال زيد: ثم نزلت.
{وَاللّذانِ يأتِيانها مِنكُم فآذوهُما}, فهذين البكرين اللذين لم يتزوجا, فآذوهما أن يعرفا بذنبهما فيقال: يا زان, يا زانية, حتى يرى منهما توبة, حتى نزل السبيل فقال:
{الزَّانِيةُ والزَّاني فاجلِدوا كُلَّ واحدٍ مِنهُما مائةَ جلْدَة}, فهذا للبكرين, فقال زيد: وكان للثيب الرجم.
وفي الذي ذكره زيد جواب عن قول القائل: إن قوله: "فآذوهما" يجب أن يكون الحبس, فإن التعزير إذا أقيم وجب الإعراض عنه, فإنه قال:
معنى الإيذاء له أن يعرف بالفاحشة تعبيراً فيقال: يا زانِ, يا زانية, إلى أن يتوبا فيسقط التعيير.
قوله تعالى: {وعاشِروهُنَّ بالمَعْرُوفِ}.(2/77)
معناه مثل معنى قوله: {فإمساكٌ بمَعْروُفٍ}, وذلك توفية حقها من المهر والنفقة, وأن لا يعبس في وجهها بغير ذنب, وأن يكون مطلقاً في القول, لا فظاً ولا غليظاً, ولا مظهر ميلاً إلى غيرها.
قوله تعالى: {فإن كَرِهتُموهُنَّ فَعَسى أن تَكْرَهوا شَيْئاً ويجْعَل اللهُ فيهِ خيراً كثيراً}.
بيان استحباب الإمساك بالمعروف, وإن كان على خلاف هوى النفس.
وفيه دليل على أن الطلاق مكروه.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [النساء:21]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله: {وقَدْ أفْضَى بعضُكُم إلى بَعْضٍ} [الآية [21]:
يستدل به من أوجب المهر بالخلوة.
وقال قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أنْ تَمسّوُهُنّ} يعم المخلو بها وغيرها.
وقوله: {وَقَد أفْضَى}, يدل في حق المخلو بها وغيرها, والإفضاء حمله القراء على الوطء.
وقيل: أصله مأخوذ من الفضاء, وهو المكان الذي ليس فيه بناء جاجز عن إدراك ما فيه، فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء.
ويقال في تقدير ذلك الأصل: أن لا يأخذ شيئاً منها بعد أن ملكت, إلا أن الإجماع حصل في حق غير المخلو بها.
ويقال في الجواب عنه: بل الأصل أن المعوض متى عاد سليماً اليها, فيرد كمال العوض إلى الزوج, إلا فيما استثنى من الوطأة الواحدة, أو الموت, أو بقاء نصف المهر عليها عند الطلاق, والكلام يتقاوم ويخرج عن معنى أحكام القرآن.
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } [النساء:22]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
2)…القتل (الكفارة)
3)…الحدود (الزنا)(2/78)
قوله تعالى: {ولا تَنْكَحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ إلاّ ما قَد سَلَفَ} الآية [22]:
اعلم أن النكاح في أصل اللغة الجمع والضم, وهذا المعنى في الوطء أظهر, غير أنه في عرف الشرع للعقد, حتى إذا قال لامرأة أجنبية: إن نكحتك فعبدي حر وامرأتي طالق, تعلق الحنث بالعقد لا بالوطء دون العقد, ولا يجوز عند كثير من الأصوليين, ان يكون اللفظ محمولاً على الحقيقة وعلى المجاز جميعاً, فيراد المعنيان.
فإذا ثبت ذلك, فالتي عقد الأب عليها, مراد الآية إجماعاً, ودل عليه نظيره: {وحَلائِلُ أبنائكُم الذينَ مِنْ أصْلابِكُم} الآية [23].
وسيقت الآيات بعدها لتحريم العقد, وقال: {ولا تَنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم}.
ولا يجوز أن يريد به الوطء دون النكاح, فإن ذلك محرم لا بهذه العلة, بل الزنا محرم على الإطلاق, وإنما يكون قد حرم ما كان تحريمه لأجل نكاح الأب, وهو عقد نكاح الابن, وهذا لا يشك فيه عاقل.
ودل على ذلك أيضاً قوله: {ورَبائِبُكُم اللاّتي في حُجورِكُم مِن نِسائكُم اللاّتي دخَلْتم بهِنَّ} الآية [23]. معناه: دخلتم بهن من نسائكم, ولا يكون ذلك إلا في النكاح.
وليس يخفى على عاقل, أن تحريم منكوحة الأب على الابن, ليس للتغليظ على الابن بحرام صدر من الأب, بل هو لتعظيم الأب في منكوحة بمثابة أم لابنه, وامرأة ابنه بمثابة بنت له, فإذا كان ذلك بطريق الكرامة والمحرمية, فلا يقتضي الزنا المجرد ذلك.
وذكر الرازي أن الله تعالى غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة, وبإيجاب الجلد أخرى, فمن التغليظ إيجاب التحريم, وذكر هذا المعنى في شرح معنى هذه الآية, وذلك غلط فاحش منه, فإنه لا يتوهم التغليظ على الابن في زنا الأب, مع أن المزنية غير محرمة على الزاني, فهذا تمام هذا المعنى.
ثم إن الرازي قال:(2/79)
زعم الشافعي أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ, كان قاتل العمد أولى بذلك, إن كان حكم العمد أعظم من حكم الخطإ, ألا ترى أن الوطء لا يختلف حكمه أن يكون بزنا أو بغير الزنا, فيما يتعلق به من فساد الحج والصوم؟ فكذلك ما نحن فيه.
وهذا الذي ذكره غاية الجهل, فإن الشافعي لما قال ذلك في حكم الكفارة التي محلها القتل, الذي هو محظور غير مستحق, ولذلك لا تجب في القتل المباح, وأما المحرمية فإنها كرامة ونعمة, وتعلقت في الأصل بالنكاح الصحيح, قال الشافعي:
الكفارة في الأصل وجبت لمعنى كرامة في الآدمي, وثبتت في النكاح, وأثبتت في حق الابن بسبب نكاح الأب, إنما أثبتت لمعنى, كان الزنا أولى بذلك المعنى.
فالذي ذكره يدل على أنه لم يفهم معنى كلام الشافعي رضي الله عنه, ولم يميزبين محل ومحل, ولكل مقام مقال, ولتفهم معاني كتاب الله رجال, وليس هو منهم, وعلى هذا فساد العبادات, فإن فسادها للجنايات على العبادة, والزنا في هذا المعنى مثل الوطء بالنكاح.
وقد اعترف بعض من ادعى الإنصاف منه, أن الممحرمية لا تثبت بطريقة التغليظ, فإن هذا النمط من الكلام باطل, فتكلف في الزنا جهة رأى أنه يقتضي الكرامة من تلك الجهة, وتلك الجهة باطلة قطعاً ولسنا لنذكرها.
وذكر الشافعي مناظره بينه وبين مسترشد طلب الحق منه في هذه المسألة, فأوردها الرازي متعجباً منها ومنبهاً على ضعف كلام الشافعي فيها, ولا شيء أدل على جهل الرازي, وقلة معرفته بمعاني الكلام من سياقته لهذه المناظرة, واعتراضاته عليها, ونحن نبين كلام الشافعي رضي الله عنه:(2/80)
اعلم أن كلام الشافعي دل أولاً, على أن الله تعالى ما أثبت المحرمية في زوجة الأب كان الوطء أو لم يكن في حق الابن إلا كرامة ونعمة, ولا يتهيأ لعاقل أن يقول إن الشرع يجعل زوجة الانسان محرماً لابنه حتى يجوز له أن يخلو بها, ويسافر معها, ويراها بمثابة أمه من الرضاعة والنسب بطريق العقوبة, وإذا تقرر ذلك قال الشافعي رضي الله عنه:
فقال لي قائل: لم قلت: إن الحرام لا يحرم الحلال؟
قلت: قال الله تعالى: {ولا تَنْكَحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ}.
وقال: {وأمّهاتُ نِسائِكُم} إلى قوله {دخَلتُم بهِنَّ}, أفلست تجد التنزيل إنما يحرم من سمى بالنكاح أو الدخول في النكاح؟
قال: بلى.
قلت: أفيجوز أن يكون الله تعالى حرم بالحلال شيئاً, وحرمه بالحرام, والحرام ضد الحلال؟ والنكاح مندوب اليه, مأمور به, وحرم الزنا فقال: {وَلا تَقْرَبوا الزِّنا إنّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلا}.
فهذا تمهيد الدلالة من إمامنا الشافعي رضي الله عنه, وأشار بها إلى أن الشارع حرم زوجة الأب من غير دخول مثلاً على الابن, وإذا ثبت ذلك, فإذا أردنا فهم المعنى منه لنلحق به ما سواه, لم يكن فهم معنى التغليظ, وإنما يفهم منه معنى الكرامة, والكرامة إنما تليق بسبب مباح أو مندوب اليه, فلا يتصور فهم معنى الكرامة في إثبات المحرمية, وحليلة الأب والابن وأم المرأة, ثم يقاس عليه الزنا الذي لا يليق به الكرامة, فإنهما ضدان, فلا يتعرف من أحدهما ضد مقتضاه في الآخر بطريق الاعتبار والقياس, وهذا في نظر أهل الأصول والتحقيق من الضروريات, قال هذا الجاهل - أعني الرازي: -
تلا الشافعي آيتين, وليس فيهما أن التحريم لا يقع بغيرهما, كما لا ينفي الحلال إيجاب التحريم بالوطء, بملك اليمين وبسط القول فيه ومعناه هذا, ولم يعلم هذا الجاهل معنى كلام الشافعي رضي الله عنه, فاعترض عليه بما قاله, وعجب الناس من ذلك وقال:
في هذه المناظرة أعجوبة لمن تأمل, فكان كما قال القائل:(2/81)
* وكم من عائب قولاً صحيحاً * وآفته من الفهم السقيم *
ويعلم الله تعالى, أن الذي حمله لا يلتبس على من شذا من التحقيق طرفاً, غير أن فرط التعصب يعمي عين البصيرة بالمرة, وظن الجاهل أن الشافعي رضي الله عنه, رأى القياس ممتنعاً في الضدين مطلقاً, وأنه لم ير قياس الشيء على خلافه, وقال:
المتضادان قد يجتمعان في وجوه, وكفاه جهلاً وخزياً أنه لم يفهم هذا الكلام الذي ذكره الشافعي على وضوحه.
ثم كلام الشافعي, قال له: أجد جماعاً وجماعاً, فلعل السائل ظن أن هذا الكلام الحكيم معلق على صورة الجماع, مثل الغسل وفساد العبادات, فقال الشافعي:
هذا جماع لو فعلت حمدت عليه, وذلك لو فعلت رجمت به, فرده إلى المعنى الأول.
أي إن العاقل لا يفهم من تحريم زوجة الأب بنفس العقد على تقدير أنها كرامة, ولا من تحريم حليلة الابن مذكوراً بلفظ الحليلة مثل تلك الكرامة, فيما هو محظور محض, سماه الله تعالى مقتاً وفاحشة, وقال: {وَساءَ سَبيلاً}.
وقال له السائل: هل توضحه بأكثر من هذا؟
قال: نعم, أفنجعل الحلال الذي هو نعمة, قياساً على الحرام الذي هو نقمة؟
والعجب أن الرازي ذكر هذا وقال:
هذا تكرار المعنى الأول, ولم يفهم مقصوده مع هذا الإيضاح, ثم ألزم وطء الحائض, والوطء في النكاح الفاسد, والجارية المجوسية, وأن الوطء في هذه المواضع بمنزلة نفس النكاح, مع أن ذلك مزجور عنه محرم, وهذا لا يخفي وجه الجواب عنه, لما تشتمل عليه هذه الوطئات من معنى الحرمة واقتضائها للكرامة في أمر النسب والعدة.
وتمام الجواب عنه مذكور في مسائل الخلاف, غير أن مقصودنا الآن فهم معنى الآية التي سيقت لبيان مجرد العقد في حق الابن, وصار العقد المجرد مراداً به بالإجماع, كيف يمكن أن يفهم منه الزنا؟
ثم حكى زيادة على ما قلناه للشافعي رضي الله عنه, ووجد في كتبه, استشهادات من المسائل بعيدة, وجواب الشافعي عنها, وكذب الجاهل في تلك الزيادات.(2/82)
والمنقول عن الشافعي رضي الله عنه في كتبه, هذا الذي ذكرناه من القواطع الأصولية, التي يتلقاها العقل والشرع بالقبول والاتباع.
والعجب أنه كما لم يفهم كلام الشافعي, لم يفهم كلام السائل أيضاً, حيث قال: "أجد جماعاً وجماعاً".
قال: السائل قصد بذلك أن يتبين أن المعنى إذا لم يتضح فاسد وجه فيه الشبه, فقال: "أجد جماعاً وجماعاً" والشافعي أبان الفرق بينهما بالمعنى الذي ذكره, فلا هو اهتدى إلى وجه الشبه, ولا إلى وجه الحجة.
وإنما كان الذي ناظره محمد بن الحسن.
ثم قال هذا الجاهل بفرط جهله: وسرور الشافعي بمناظرة مثله, يدل على أنهما كانا كالمتقاربين في المناظرة, وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدي والغبي العامي, لما أثبت مناظرته إياه في كتابه, ولو كلم به المبتدئون من أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذه الحجاج, وضعف السائل والمسئول فيه.
هذا لفظ الرازي نقلته على وجهه من كتابه الذي سماه أحكام القرآن.
والذي ذكره من الوقيعة في إمامنا الشافعي رضي الله عنه, يكفيه في الجواب عنه جهله بقدر الشافعي أولاً, وجهله بكلامه الذي حكيناه وشرحناه, ولله يوم يخسر فيه المبطلون.
ولو أن المحققين يعلمون أن في إيضاحنا لجهله بمعنى كلام الشافعي أتم انتصار منه, لتجاوزنا ذلك إلى ما سواه.
ومما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن قال:
كيف يتهيأ لعاقل أن يفهم من قوله تعالى:
{وَلا تَنْكحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ} أن من قبل امرأة بشهوة, حرم على ابنه التزوج بها تلقياً من قوله: {ولا تَنْكِحوا مَا نَكَحَ آباؤكُم}.
أترى ذلك من قبيل ما يسمى نكاحاً على تقدير عرف الشرع, أو عرف اللغة وموجبها؟
ولو نظر إلى فرجها فكذلك, ولو نظر إلى سائر بدنها فلا, ولو نظرت إلى فرج رجل, حرم على ابنه أن ينكحها تلقياً من قوله: {ولا تنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم}, أو تلقياً من قوله: {وأمّهاتُ نِسائِكُم} أو من قوله: {وحلائِلُ أبناؤكُم}.(2/83)
أليس ترك هذا القول خيراً من نصرته مع ما فيه من المخازي؟
وظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه, أن اللمس بشهوة في ملك اليمين وفي النكاح, لا يوجب تحريم ما يتعلق تحريمه بالوطء.
قوله: {إلاَّ ما قَد سَلَفَ}: فيه نظر, فإنه قال: {ولا تنْكحوا} ثم قال: {إلاَّ ما قَد سَلَفَ}.
وظاهر ذلك أن الذي سلف كان نكاحاً, إلا أن قوله: {إنّه كانَ فاحِشةً ومَقْتاً وساءَ سَبيلاً} يرده فمعنى قوله {إلاَّ ما قَد سَلَفَ}, أي إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به.
فعلى هذا قوله: {إلاَّ ما قَد سَلَفَ}, استثناء منقطع كقولهم: لا تلق إلا ما لقيت, يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه.
وقوله تعالى: {إنّه كانَ فاحِشةً}.
يعني بعد النهي, وإلا فقبل النهي ليس بفاحشة, لا قبل المبعث ولا بعده, فعلى هذا قوله: {إلاَّ ما قد سَلَفَ}, يعني فإنه يسلم منه بتركه والتوبة منه.
نعم, في هذه الآية دلالة ظاهرة للشافعي رضي الله عنه, في أن من تزوج امرأة ابنه, ثم وطئها مع العلم بالنهي والتحريم إنه زانٍ, لأنه تعالى قال:
{إنّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقتاً وساءَ سَبيلاً}.
كما قال: {ولا تَقْرَبوا الزِّنا إنّه كان فاحِشةً وساءَ سبيلاً}.
فذكر في نكاح امرأة الأب مثل ذلك.
فإن قيل: إنه إذا كان عندكم النكاح بمعنى العقد، والعقد لم ينعقد, فليس ثم زنا, فما معنى قوله: {فاحِشةً وَمقْتاً وساءَ سَبيلاً} والفاحشة عندكم ترجع إلى العقد, وليس في ذلك ما يوجب الحد؟ وهذا سؤال القوم.
والجواب عنه: أنه لما جعل العقد فاحشة, لم يكن فاحشة لعينه, وإنما كان فاحشة لحكمه ومقصوده, فلولا أن مقصوده أعظم وجوه الفواحش, وليس فيه شبهة, ما جعل الذريعة اليه فاحشة ومقتاً, وهذا في غاية الوضوح فاعلمه.(2/84)
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء:23]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح (المحرمات)
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أمّهاتِكُم} الآية [23]:
حرم الله تعالى من النسب سبعاً ومن الصهر سبعاً ثم قال:
{كِتابَ اللهِ عليْكُم وأحِلَّ لكُم ما وراء ذلِكُم}.
واللفظ ليس حقيقة في أمهات الأمهات, وأمهات الآباء, والأجداد, والتحريم شامل, نعم اسم الأمهات ينطلق عليهن عرفاً, فلا جرم اكتفى بإطلاق العرف عن ذكرهن.
والدليل على أن اسم الامهات ليس حقيقة في الجدات والأجداد, أن الصحابة لم يفهموا من ميراث الأبوين ميراث الجدات والأجداد, حتى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستنبطه أهل الإجماع بدقيق النظر, وروى لهم الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة بالسدس, واختلفوا في الجد مع الأخ, ولم يجهلوا معنى الاسم, وكان الإجماع انعقد على تحريم الجدات وهو الأصل.
فإن ثبت ذلك, فقد حرم الله تعالى بعد الأمهات الأخوات, وذكر بنات الأخوات, وبنات الأخ, لأن اسم الأخ لا يتناول ابن الأخ مجازاً ولا حقيقة.(2/85)
واعلم أن الله تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب, فحرم أولاً أصول الانسان عليه وفصوله, وفصول أصوله الأولى بلا نهاية, وحرم فصول فصوله بلا نهاية, وحرم أول فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية, وهو أولاد الإخوة والأخوات, وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح, وهو أولاد الجد وأبو الجد, فإن التحريم مقصور, وابنة الخال, على أول فصل, فابنة العم, وابنة العمة, وابنة الخالة حلال, ثم قال: و{أمّهاتِكُم اللاّتي أرْضَعْنَكُم}.
فحرم من الرضاع ما حرم من النسب, غير أن في الرضاع لم يذكر بنات الأخ والعمات والخالات من الرضاعة, ودل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
وقال تعالى: {وأمّهاتُ نِسائِكُم}.
وقد حرم الله تعالى الأم من الرضاعة, من غير تعرض لما به يحصل الرضاع من مقدار الرضاع ومدته, فالتعلق بهذه الآية في إثبات التحريم بالرضعة الواحدة تعلق بالعموم, الذي سيق لغرض آخر غير غرض التعميم, إلا أن صيغة العموم وقعت صلة في الكلام زائدة, ليتوصل بها إلى غرض آخر يستنكره في سياقته, للتعريج على ذكر تفصيل ما يتعلق به حرمة الرضاع, وفي مثله يقول الشافعي رضي الله عنه.
الكلام يجمل في غير مقصودة ويفصل في مقصوده.
وفي الأصوليين من يخالف ذلك.
وقد شرحنا ذلك في تصانيفنا في الأصول, واليد العليا لمن يذب عن مذهب الشافعي رضي الله عنه ذلك, وهو منع الاستدلال بهذا الجنس من العموم.
وذكر الرازي في هذا المقام, أن أخبار آحاد النصوص لا يجوز أن يخصص بها هذا العموم, فضلاً عن منع التعلق به, وفيما قدمناه ما يبين فساد قوله.
واختلف الناس في لبن الفحل, وهو أن يتزوج المرأة فتلد منه ولداً ويدر لها لبناً بعد ولادتها منه, فترضع منه صبياً.
فأكثر العلماء على أن لبن هذا الفحل, يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل, وإن كانوا من غيرها, ومن لا يعتبرلا يوجب تحريماً بينه وبين أولاده من غيرها.(2/86)
فمن قال بلبن الفحل ابن عباس.
وقال ابن سيرين: كرهه قوم, ولم ير به قوم بأساً, ومن كرهه كان أفقه.
وهو قول القاسم بن محمد, وعليه الفقهاء المعتبرون مثل الشافعي, ومالك, والثوري, والأوزاعي, والليث, وأبي حنيفة وأصحابه جميعاً.
وخالف سعيد بن المسيب, وإبراهيم النخعي, وأبو سلمة بن عبد الرحمن, وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئاً من قبل الرجل.
وقوله تعالى: {وأمّهاتِكُم اللاَّتي أرْضَعْنَكُم}, يدل على أن الفحل أب, لأن اللبن منسوب اليه, فإنه در بسبب ولده وهذا ضعيف فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعاً, واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل, وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه, وإذا حصل الولد, خلق الله للبن, من غير أن يكون اللبن مضافاً إلى الرجل بوجه ما, ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن, وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب", يقتضي التحريم من الرضاع, ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل, مثل ظهور نسبة الماء اليه, والرضاع منها, لا جرم الأصل فيه حديث الزهري وهشام ابن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها, أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة, بعد أن نزل الحجاب, قالت: فأبيت أن آذن له, فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته, فقال: ليلج عليك, فإنه عمك تربت يمينك, وقال: أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها.. وهذا أيضاً خبر واحد.
ويحتمل أن يكون أفلح مع أبي بكر رضيعي لبان, فلذلك قال: "ليلج عليك فإنه عمك", وإلا فلم يثبت أنه كان الرضاع قبل التزويج أو بعده, أو كانت امرأة أبي قعيس ولدت منه, فإن قدرت هذه الأمور, فيجوز أن يقدر به ما قال المخالف.(2/87)
وبالجملة, القول فيه مشكل والعلم عند الله تعالى, ولكن العمل عليه والاحتياط في التحريم أولى, مع أن قوله: {وأحِلَّ لَكُم ما وراءَ ذَلِكُم}, يقوي قول المخالف فاعلمه.
قول تعالى: {وأمّهات نِسائِكُم وربائِبُكُم اللاَّتي في حُجورِكُم مِن نِسائِكُم اللاَّتي دَخَلْتم بِهنَّ} الآية [23]:
اعلم أن السلف اختلفوا في اشتراط الدخول في أمهات النساء.
فروي عن عليّ اشتراط ذلك, مثل ما في الربائب, وروي عن جابر مثل ذلك, وهو قول مجاهد وابن الزبير.
وأكثر العلماء على خلاف ذلك في الفرق بين الربائب وأمهات النساء.
فأما من جمع بينهما يقول:
الشرط إذا تعقب جملاً رجع على الجميع , كالشرط والاستثناء بالمشيئة, وذلك ما قررناه في الأصول, وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة يسلمون الشرط والاستثناء بالمشيئة, ورجوعهما إلى الجميع, فوجب عليهما أن يفرقوا على كل حال.
فكان الفرق أن قوله تعالى: {وربائِبُكُم اللاَّتي في حُجورِكُم}, ثم قال: {مِن نِسائِكُم اللاَّتي دَخَلْتم بهِنَّ}، فنعت الربائب بنعت لا يتقرر ذلك النعت في أمهات النساء, ثم ذكر إضافة, فالظاهر أن الإضافة وهي قوله: {مِن نِسائِكُم} لصاحبة الصفة, وكانت كالصفة الثانية, فلم يظهر رد النعت الثاني إلى أمهات الثاني, وقبله وصف لا يتصور فيهن, بل الثاني يتبع الأول.
ولو قال ظاهراً: "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، أو هم أن أمهات النساء من النساء, وذلك وصف للربائب, لا وصف أمهات النساء فتقرير اللفظ بنات نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
والمخالف يقول: بل تقديره من حيث العطف: "وأمهات نسائكم وبنات نسائكم" وذلك يقتضي الجمع, فكأنه قال:
"وأمهاتهن وبناتهن"، فانصرف الثاني إلى ما انصرف الأول اليه، فتقديره: وأمهات نسائكم, وبنات نسائكم اللاتي في حجوركم, ونساؤكم ممن قد دخلتم بهن.(2/88)
ويجاب عنه بأن الأسماء المتحدث عنها المذكورة, هي التي يصرف النعت اليها دون الأسماء المضاف اليها, إلا أن يتبين أن النعوت للأسماء المضاف اليها بنص, أو بضرب من الدليل يقوم مقامه, فإنك إذا قلت: لعلي بن محمد بن أبي الحسن عليّ ألف درهم, تكون الكنية لعلي دون محمد, وتقول زيد بن عبد الله الفقيه قال: ظاهر أن الفقيه هو الاسم المتحدث عنه.
فحاصل القول, أن الحكم إنما ورد في أمهات النساء وفي الربائب, وكانت الإضافة من النساء اللاتي دخلتم بهن لا تليق بأمهات النساء, وهي تليق بالربائب, جعل الشرط فيه فيهن, وقام مقام النعت, وكان جعل ذلك للنساء اللاتي أضيف الأمهات اليهن, إذ الأمهات والربائب جميعاً دون الربائب ليس بمنصوص, ولم يجر فيه ما وصفتم من قولكم: وبنات نسائكم ونسائكم ممن قد دخلتم بهن, فإن ذلك بإضمار أمور يخرج بها اللفظ عن ظاهره.
وبالجملة لو جعل قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتي في حُجُورِكُم} تمام الكلام, ويجعل {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاّتي دَخَلْتُم بِهِنَّ}, فيخرج الربائب اللاتي قد أجمعوا عليها من اللبن, فيكون تقديره: "وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن".
ولا شك أن كلام المخالف ليس ينقطع بذلك,إلا أنه يقال:
ساق الله تعالى محرمات عدة مبهمة, وليس فيها تقييد, وجعل في آخرها تقييداً, فالأصل اتباع العموم وترك المشكوك فيه, والاحتياط للتحريم يقتضي ذلك فاعلمه.
وفي الناس من خص التحريم بالتي توصف بكونها ربيبة, وقال:
إذ لم تكن في حجر الزوج, وكانت في بلد آخر, وفارق الأم بعد الدخول, فله أن يتزوج بها, وهذا قول علي رضي الله عنه, على ما يرويه عنه مالك بن أوس, فإن صح هذا عنه فيقال:(2/89)
يجوز أن يكون الله تعالى قد أجرى ذلك على الغالب, من غير أن تكون هذه الصفة شرطاً في التحريم, إلا أن علياً يقول: فإن كان كذلك وثبت, فلم اعتبرتم هذا الوصف في قطع الشرط المذكور بعده عن الأول, وإنما قطعتموه بتخلل هذا الوصف في قطع الربائب, وفيه إبانة إتصال الوصف الثاني بالأول.
واعلم أن قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أَمّهَاتُكُم} لم يستوعب المحرمات بالنسب والرضاع جميعاً, فإنا بينا أن الآية ما تناولت الجدات من قبل الأم والأب حقيقة, ولا خالات الأب والجد وعماتهم, ولا خالات الأم وعماتهن.
وفي الرضاع لم يذكر بنات الأخ, وبنات الأخت, والخالات والعمات من الرضاعة, وكل ذلك مفوض إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يقال ذكر من ذكر, والسكوت عما سكت عنه لوجه صحيح, بل هو على ما شاء الله وأراده, لمصلحة خفية لم يطلع عليها, تولى بيان البعض وسكت عن البعض:
وإذا ثبت ذلك فقوله: {حُرِّمَتَ عَلَيْكُم أُمّهَاتكُم وَبَنَاتُكُم وَأخَوّاتُكُم} الآية يقتضي تحريمهن مطلقاً بملك اليمين وذلك النكاح, فإن الله تعالى أبان تحريم الاستمتاع, وحرم النكاح, لأنه طريق إلى الاستمتاع, وإذا ثبت ذلك وتقرر فقوله: {حُرِّمَتَ عَلَيْكُم أُمّهَاتكُم} إلى قوله: {وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}, يقتضي تحريم الاستمتاع, إلا أن تحريم الاستمتاع بمنع النكاح ولا يمنع ملك اليمين, فنتيجته تحريم وطء المذكورين بملك اليمين, الذين لا يعتقون بالشراء.
واعلم أنه لا خلاف في تحريم وطء الأمهات, والأخوات من النسب, والرضاع بملك اليمين, وأن السبع اللواتي حرمن بالنسب, واللواتي حرمن بالنسب والصهر, حرم وطؤهن في ملك اليمين, ولا خلاف في تحريم الجمع بين وطء الأم والبنت بملك اليمين, وإذا دخل بالأم, حرمت البنت أبداً بملك اليمين, وحليلة الأب والابن محرمتان بِملك اليمين.
وإذا ثبت ذلك وتقرر فالله تعالى يقول:(2/90)
{وَحَلاَئَلُ أَبْنَائِكُم الّذيِنَ مِنْ أَصْلاَبِكُم}.
وإنما أنزلت الآية على ما قاله عطاء بن أبي رباح في النبي صلى الله عيه وسلم تزوج امرأة زيد فنزلت:
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُم أبناؤكُم}.
و {ومَا كَانَّ مُحَمدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم}
وكان يقال له: زيد بن محمد.
وسميت زوجة الإنسان حليلته, لأنها تحل معه في فراش واحد.
وقيل: لأنه يحل منها الجماع بعقد النكاح.
والأمة, وإن استباح فرجها بالملك, لا تسمى حليلة, ولا تحرم على الأب ما لم يطأها, وعقد نكاح الابن عليها يحرمها على أبيه تحريماً مؤبداً.
وإذا تعلق التحريم بإسم الحليلة, اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء, فشرط الوطء زيادة, لا يقتضيها اللفظ, وإذا ثبت ذلك فموطوءة الأب بملك اليمين أو بالشبهة, لا تسمى حليلة من حيث الإطلاق, ولكن اقتضى الإجماع إلحاقها بها.
وقوله تعالى: {الّذيِنَ مِنْ أَصْلاَبِكُم}.
نفي للأدعياء, ولكنه لا ينفي الرضاع, والتحريم به ثابت, وليس الإسم بحقيقته متناولاً للوطء بملك اليمين, وهو بحقيقته متناول لنفس النكاح, فإن اسم الحليلة حقيقة في نفس ملك النكاح.
وقوله: {وأن تَجْمَعوا بينَ الأخْتَينِ}.
معناه تحريم الجمع على الوجه الذي حرم الأفراد من المحرمات, وفي الذي تقدم حرم الاستمتاع.
فتقدير الكلام: ولا تجمعوا بين الأختين في الوطء, وذلك يعم الوطء في النكاح وملك اليمين, إلا أن ذلك في النكاح يمنع أصل النكاح, ولا يمنع ملك اليمين, فإذا ثبت ذلك وتقرر, نشأ منه أن الجمع بين الأختين في النكاح لا يجوز, ونشأ منه تحريم وطء الأختين بملك اليمين.
وفي هذا على الخصوص نقل خلاف عن السلف, ثم زال الاختلاف.(2/91)
وإذا تبين أن المنصوص على تحريمه جمع مضاف اليه, حتى يقال هو الذي يمسكهما ويطؤهما, فإذا زال النكاح, زال هذا المعنى من كل وجه, ولم يكن إمساك المعتدة مضافاً اليه, فيقتضي هذا أن لا يكون النهي عن الجمع متناً, ولا من نكح الأخت في عدة الأخت, وإذا تبين ذلك, بقيت على مقتضى قوله تعالى: {وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم} وهذا بين حسن, فكان الأصل الإباحة, ثم طرأ مانع, زال المانع فرجع إلى الأصل.
قوله تعالى: {إلاَّ ما قّد سَلَف}.
يحتمل أن يكون معناه معنى قوله: {إلاَّ ما قّد سَلَف} في قوله: {وَلا تَنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما قد سَلَفَ}, ويحتمل معنى زائداً, وهو جواز ما سلف, وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية, كان النكاح صحيحاً, وإذا جرى في الإسلام, خير بين الأختين, على ما قاله الشافعي رضي الله عنه, من غير إجراء عقود الكفار, على موجب الإسلام ومقتضى الشرع, فهذا تحقيق القول في محتملات هذا للفظ, فلا جرم, قال الشافعي رضي الله عنه:
إذا أسلم الكافر عن أختين, خير بينهما, سواء جمعهما في عقد واحد أو في عقدين.
وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد, وتعين الأولى إن فرق.
والشافعي لما رأى قوله تعالى: {إلاَّ ما قّد سَلَفَ} غير نص في مقصوده, أراد أن يستدل بالنص, فاستدل بحديث فيروز الديلمي والحارث ابن قيس.
والعجب أن الرازي قال في أحكام القرآن:
لما لم يجز أن يبتدىء المسلم عقداً على أختين, لم يجز أن يبقى له عقد على الأختين, وإن لم يكونا أختين في حال العقد, كما إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة, واستوى حكم الابتداء والانتهاء.
ونقلنا هذا الكلام بلفظه, وذكر بعده كلمات يسيرة, ثم نقل احتجاج الشافعي رضي الله عنه, بحديث فيروز الديلمي, والحارث بن قيس وقال:(2/92)
يحتمل أن يكون العقد قد كان قبل نزول التحريم, فكان صحيحاً إلى أن طرأ التحريم, فلزمه اختيار أربع منهن ومفارقة سائرهن, كرجل له امرأتان, فطلق إحداهما ثلاثاً, فيقال له: اختر أيتهما شئت, لأن العقد كان صحيحاً إلى أن طرأ التحريم.
ووجه على نفسه سؤالاً فقال:
إن قال قائل: لو كان ذلك يختلف, لسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
فأجاب بأن قال: قيل له:
يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك, فاكتفى بعلمه عن مسألته.
نقلنا هذا الفصل بلفظه, متعجبين من جهله بسياقه بكلاميه, وأنه كيف تناقض أول كلامه وآخره مع تفاوت ما بين الأول والآخر, وفي النوع الواحد من الكلام.
كيف لم يتصور عين التناقض, وذكر في التأويل أنه يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم, فكان صحيحاً إلى أن طرأ عليه التحريم؟ فلم يجعل طريان التحريم مانعاً اختيار الأربع, لأن العقد في الأول كان صحيحاً على الجميع, ثم قال قبله كلمات: لما لم يجز أن يبتدىء المسلم عقداً على أختين, لم يجز أن يبقى له عقد على أختين, وإن لم يكونا أختين في حالة العقد, كرحل تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة واحدة.
فليت شعري, نكاح الرضيعتين في الأول كان صحيحاً حتى بطل الجميع بطريان الرضاع, أم نكاح فيروز الديلمي لما كان صحيحاً في الأول, لم يبطل بما طرأ من الإسلام, وكيف يتصور الجمع بينهما؟ وكيف يتم له هذا القياس, وقد جعل الطارىء من التحريم كالمقارن بدليل الرضاع..؟
وتأويل خبر الديلمي ينقض هذا القياس, فإن النكاح لما كان صحيحاً عنده لم ينقض, وفي الرضاع كان صحيحاً ونقض.
وكيف يتصدى للتصنيف في الدين من هذا مبلغ علمه ومقدار فهمه, فيرسل الكلام إرسالاً من غير أن يتحقق ما يقول, ويحصل على نفسه ما يورده, ثم يتعرض للطعن فيمن لو عمر عمر نوح, ما اهتدى إلى مبادىء نظره في الحقائق؟ فنسأل الله تعالى التوفيق, ونسأله النجاة من عمى البصيرة واتباع الهوى.(2/93)
واعلم أن المنصوص على تحريمه في كتاب الله تعالى, هو الجمع بين الأختين, وقد وردت آثار متواترة في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها, رواه علي وابن عباس وابن عمر وأبو موسى وجابر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة, وعليه الإجماع, إلا ما نقل عن طائفة من الخوارج, فإنهم زعموا أن قوله: {وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم} لا يدفع بأخبار الآحاد, وذلك متهم بناء على أن أخبار الآحاد لا يخص بها عموم الكتاب.
والأخبار في تحريم الجمع بين العمتين والخالتين, إن كانت مقرونة في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان الآية, فتخصيص, وإن تقدم الخبر فقوله: {وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم}, منزل على موجب الخصوص, وإن تراخى فنسخ, وللناس في نسخ الكتاب بأخبار الآحاد كلام, والصحيح جوازه.
ومع أن قوله: {وأحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم}، ليس نصاً أصلاً, وإذا لم يثبت التاريخ, فالمطلق منهم محمول على المقيد, على قول الشافعي رضي الله عنه, وهو قول أكثر الأصوليين.
وعند قوم منهم يتعارضان, وهو قول كثير من المحققين, والتعارض هاهنا سبب التحريم, فإن تعارض المبيح والمحرم يقتضي التحريم لا محالة.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:24]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ} [24]:
الآية عطف على المحرمات.
ثم قال: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم}.(2/94)
والمراد به أن ذوات الأزواج محرمات على غير الأزواج.
قوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم}، في تأويل علي وابن عباس, في رواية وابن عمر, والآية في ذوات الأزواج من النساء, أبيح وطؤهن بملك اليمين, وحصلت الفرقة بالسبى, وورد ذلك في سبايا أوطاس، وكان لهن أزواج في المشركين, فتحرج المسلمون من غشيانهن, وأنزل الله تعالى: {والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم}، أي هن لكم.
وتأوله ابن مسعود, وأبي بن كعب, وأنس بن مالك, وجابر وابن عباس في رواية عكرمة: أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهن, وأنهن إذا ملكن حل وطؤهن, وكانوا يقولون: بيع السيد أمته المزوجة من أجنبي, موجب للفرقة بينها وبين زوجها.
وظن هؤلاء أن الآية عامة, ولا نظر إلى خصوص النسب, والصحيح أن ذلك مختص بالسبي الوارد على نكاح غير محترم, وأن تصرف الرجل في ملكه بالبيع, لا يبطل حقاً لغيره على وجه اللزوم, إذا لم يكن بين إثباتهما تناقض, وليس نكاح المتزوج مانعاً لملك اليمين, ولو كان مناقضاً لم يجز ابتداء النكاح, فهذا سبب الاختصاص.
وإنما رفع الله نكاح الأزواج الحربييّن, ليخلص الملك للمسلمين, وإنما يخلص الملك بانقطاع حق الزوج في المحل, وإنما ينقطع حق الزوج بسقوط حرمته, فهذا هو السبب وهو ظاهر.
وفيه سر آخر, وهو أن انقطاع نكاح الحربي لميكن لإثبات الحل في حق السابي, ولكنه لتصفية الملك له, لذلك لو كانت السبية أخته من الرضاعة, أو كانت مجوسية, انقطع النكاح, فإنه لو لم ينقطع, لم يصف له الملك, ولم تنقطع الرحمة والعلقة, وكان الملك ناقصاً, ولذلك تنقطع الإجارات والديون والعلق كلها, فهذا هو السبب فيه.
وأبو حنيفة لا يرى للسبي أثراً, ويقول: انقطاع النكاح باختلاف الدار, فإذا سبي الزوجان معاً, لم ينقطع النكاح.
والذي ذكره بعيد من أوجه:(2/95)
منها: أن المنقول في سبايا أوطاس أنهن كن ستة الآف رجل وامرأة, فكيف يمكن أن يقال لم يكن فيهم امرأة معها زوجها, وأنه امتد الأمر حتى اختلفت الدار؟
والوجه الثاني: أن الله تعالى يقول: {والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم}، فأحال على ملك اليمين لا على اختلاف الدار, وجعل ملك اليمين هو المؤثر, فيتعلق به من حيث العموم والتعليل جميعاً، إلا ما خصه الدليل.
وهاهنا سؤال: وهو أن يقال: قال: {والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم}, فإن كان النكاح قد ارتفع فليست محصنة.
قيل: المقصود بذلك رفع الحرج, بسبب أنها ذات زوج, وإبانة أنا لا نمسك بعصم الكوافر, وعلق الحربيين حتى لا يتحرج بذلك السبب, فمعناه: واللواتي كن ذوات الأزواج إذا سبيتموهن, فحكمه كذا.
وتمام البيان في ذلك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال في رواية أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض", ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثراً, حتى يقال إنّ المسبية مملوكة, ولكنها كانت زوجة زال نكاحها, فتعتد عدة الإماء, إلا ما نقل عن الحسن بن صالح, فإنه قال:
عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب.
وكافة العلماء رأوا استبراءها, واستبراء التي لا زوج لها واحد في أن الجميع بحيضة.
فإذا ثبت ذلك, فذلك يدل على أنه عند السبي لم يعتبر عصمة الكافر وحرمته, حتى لم يجب عقدة النكاح أيضاً, من حيث أن إيجاب عدة النكاح تعويق ينشأ من عصمة الكافر وحرمته, ولا حرمة الكافر حتى يتعوق بسببه حق المسلم في الملك.
ولو أن المرأة هاجرت إلى دار الإسلام, أو أسلمت وانفسخ النكاح, فإنما يوجب عدة النكاح, فدل أن جواز الوظء المجرد للاستبراء لمكان زوال النكاح لملك اليمين, لا باختلاف الدار, وهذا في غاية الظهور لأصحاب الشافعي رحمة الله عليهم وعليه.
قوله تعالى: {وأُحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم}:(2/96)
يحتمل ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم, ويحتمل ما عدا المحرمات, وهو الأظهر.
قوله تعالى: {وأنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم}.
خطاب للأزواج كلهم, فكأنه قال: تبتغون بأموالكم, فمقتضاه ابتغاء كل واحد بمال نفسه.
وظن بعض الجهال أن المراد بذلك, أن كل واحد منهم يصدقها ما يسمى أموالاً, وظاهره يقتضي أكثر من العشرة, وحكاية هذا الكلام كافية في الرد على قائله, كيف وقد قال تعالى:
{وإن طَلّقْتُموهُنَّ مِن قَبلِ أن تمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتم لهُنَّ فَرِيضَةً فنِصْفُ ما فَرَضْتُم}؟ وذلك يقتضي إيجاب نصف المفروض قليلاً كان أو كثيراً.
قوله تعالى: {أنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم}.
يمنع كون عتق الأمة صداقاً لها, خلافاً لأحمد, لدلالة الآية على كون المهر مالاً, وليس في العتق تسليم مال, وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال اليها, فإن الذي كان يملكه المولى من عبده, لم ينتقل اليها, وإنما يسقط.
فإذاً, لم يسلم الزوج اليها شيئاً, ولم تستحق عليه شيئاً, وإنما أتلف به ملكه فلم يكن مهراً, وهذا بين.
وقد جوز الشافعي رضي الله عنه جعل منفعة الحر صداقاً, ولا خلاف في منفعة العبيد, وإنما يجعل صداقاً, لأنها تستحق عليه تلك المنفعة وهي مال, ووردت فيه أخبار وهي نصوص, والشروع فيها خروج عن معاني القرآن, والذي ورد في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتق صفية, وجعل عتقها صداقاً, لا يعارض استدلالنا بالقرآن, لإمكان أنه كان مخصوصاً له, فإن نكاحه جاز بلا مهر, فليس يعارض ذلك استدلالنا بلفظ هو نص في حق الأمة, وقال أيضاً:
{وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مَرِيئاً}.
وذلك يدل على أن العتق لا يكون صداقاً من وجوه:
منها أنه قال تعالى: {وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً}، وذلك أمر يقتضي الإيجاب, وإعطاء العتق لا يصح.(2/97)
والثاني قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مريئاً}, وذلك محال في العتق, ومتصور في المنفعة.
قوله تعالى: {مُحْصِنينَ غَيرَ مُسافِحينَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: الإحصان بعقد النكاح, فتقدير الكلام: اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح, لا على وجه السفاح, فيكون للآية على هذا الوجه عموم.
ويحتمل أن يقال: محصنين أي الإحصان صفة لهن, ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه: الإحصان مجمل يتردد بين معاني جمة, فيفتقر إلى البيان.
والوجه الأول أولى, لأنه متى أمكن جَرْي الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى, ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن, وذلك خلاف الاجماع.
ويدل عليه أيضاً, أن الله تعالى ذكر نظيره في الإحصان في حق الإماء فقال:
{وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْروفِ مُحْصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذاتِ أخْذانٍ}.
ثم قال: {فإذا أحْصِنَّ} معناه فإذا تزوجن.
وقال: {فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْروفِ مُحْصناتٍ}.
فتقدير الكلام على هذا: {وأُحِلَّ لَكُم ما وراءَ ذلِكُم أن تبتغوا بأمْوالِكُم} غير زنا, وهذا كلام ظاهر المعنى, ومقتضاه: إطلاق لفظ الإباحة, على وجه التعميم, وفيه إخبار عن كونها محصنة.
والإحصان في الأصل هو المنع, فقد يطلق على العقد, لأن صاحبه يمنع نفسه من الحرام, ويطلق على الإسلام.
قال الله تعالى: {فإذا أحْصِنّ}, روي في بعض الأخبار: إذا أسلمن, وإن كان له معنى آخر ذكرناه.
وقال تعالى: {والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ}: ذوات الأزواج, وسميت محصنة لأن النكاح يحصنها من السفاح.
وفي الخبر: من تزوج فقد حصن ثلثي دينه.
وتقول الفقهاء: الإحصان معتبر في الرجم.
ويقولون: هو معتبر في حد القاذف, وتختلف معانيهما والأحكام المعتبرة فيهما.(2/98)
وسمي الزنا سفاحاً لأنه سفح الماء وهو صبه, يقال: سفح دمه, وسفح الجبل أسفله, لأنه موضع مصب الماء, وسافح الرجل إذا زنى, لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب, ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح.
ويسمى الزاني مسافحاً, لأنه ليس يتعلق به حكم ثابت مستمر, وهو نسب أو عدة أو مهر, ويفهم من ذلك أن لا نسب ولا فراش, ولأجل ذلك لم يثبت الشافعي رضي الله عنه التحريم والعتق في المخلوقة من ماء الزنا, واقتضى ذلك أيضاً أن لا يثبت في حقها النسب, لأنها مسافحة, كما أنه مسافح, ولكن انفصال الولد منها محسوس, فلا يمكن تضييع حق الولد مع أن فيه خلافاً لبعض أهل العلم, أخذاً بلفظ المسافحة, وتحقيق الفرق بين جانبه وجانبها في النسب, ذكرناه على الاستقصاء في مجموعاتنا في الخلاف.
قوله تعالى: {فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنَّ فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ فرِيضَةً}.
ذكر الله تعالى ذلك بعد قوله تعالى: {أنْ تَبْتَغوا بأمْوالِكُم}، وذلك يقتضي بيان حكم الدخول في النكاح المذكور أولاً, وأنه لا يجوز حط شيء، وحبس قدر ما من المهر, بأي سبب طارىء.
ولو لم يقدر ذلك, لم يفهم من قوله تعالى: {فَما اسْتَمْتَعْتمْ به مِنْهُنَّ} معنى بوجه ما, فإن الله تعالى أمر بإبتغاء البضع بالأموال قبل الاستمتاع, فذكر الاستمتاع ينبغي أن يكون سبباً لأمر ما, وليس هو إلا تقدير الصداق المذكور أولاً, حتى لا يتوهم سقوط شيء منه لعارض.
وظن ظانون أن هذه الآية وردت في نكاح المتعة, وأن المهر فيه يتعلق بالدخول لا بنفس العفد ولا ميراث فيه.
ونقل عن ابن عباس أنه تأول قوله: {فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنّ} إلى أجل مسمى {فَآتوهُنَّ أجورَهُنّ}.
وروي عنه انه رجع عن ذلك لأخبار كثيرة وردت في النهي عن متعة النساء, وتحريم لحوم الحمر الأهلية, ومن رواة الحديث على.(2/99)
وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخه قوله تعالى: {إذا طَلّقْتم النِّساءَ}, وأشار به إلى أنه لا نكاح إلا له طلاق, وإلا له عدة, وإلا فيه ميراث, والله تعالى يقول:
{والّذينَ هُم لِفُروجِهِم حافِظونَ إلاَّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانهِمْ}.
والذي ذكره هؤلاء في معنى قوله تعالى: {فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنَّ} الآية, لا يحتمل ما ذكره هذا القائل الذي حمله على نكاح المتعة, فإن الأجر بمعنى المهر, قال تعالى:
{وَلا جناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحوهُنَّ إذا آتَيْتُموهُنَّ أجورَهُنَّ}.
فلما ذكر النكاح علم أنه إراد به الصداق.
وقال تعالى: {وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمعْروفِ مُحصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ}.
فدل على أن محصنات ومحصنين عنى به التزويج, لأن محصنات ذكر مع النكاح, لقوله تعالى: {فانْكِحوهُنَّ بإذنِ أهْلِهِنَّ وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمعْروف مُحصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ}.
قوله تعالى: {ولا جُناحَ عَلَيْكُم فيما تراضَيْتُم بهِ مِنْ بَعْدِ الفَريضَةِ}.
معناه جواز الإبراء عن بعض الصداق أو هبة بعضه, وتقدير الكلام:
أن تبتغوا بأموالكم محصنين - أي متزوجين - بهن, فإذا استمتعتم بهن فآتوهن أجورهن, ولا تنقصوا شيئاً, وإن جرى فراق أو سبب، إلا أن تكون قد حطت شيئاً من الصداق, فالحق لها, والمحطوط لا يجب توفيره عليها إذا استمتع.
واستدل قوم بذلك على جوازالزيادة, وذلك غلط, فإن الآية ما وردت في موضع الزيادة, فإنه لما قال تعالى: {فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ فَريضّةً}, اقتضى جواز إعطاء ما فرض لها أولاً, فقوله: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُم} يرجع إلى الرخصة في ترك الإيتاء, بعد الأمر بالإيتاء في غير موضع الرخصة, وهذا بين لا شك فيه.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {فيما تَراضَيْتُم}, والإبراء لا يتوقف على تراضيهما.(2/100)
الجواب: أن الإبراء وإن كان على المذهب الصحيح, لا يتوقف على تراضيهما, فالهبة موقوفة على ذلك, والإبراء في أحد الوجهين لأصحابنا وإن لم يقف, فالمعلوم العرف أن ذلك يجري بتراضيهما, والمقصود بقوله: {فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ}, طيبة قلبها, وأن لا ينقص من أجرها شيئاً، والإبراء يصدر منها.
وقال: {فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ}, إلا إذا طابت نفسها, وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال: {وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً فإن طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مرِيئاً}.
فهذا المشكل من هذه الآية, يعرف من المبين المحكم في الآية الأخرى.
ويدل عليه أن الله تعالى يقول:
{وإنْ طَلّقْتُموهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تمَسُّوهُنَّ وقَد فَرَضْتم لهُنَّ فَريضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتم}.
فجعل عند الطلاق شطر المفروض, وإذا تبين ذلك, فهذا الذي زيد, إن كان صداقاً كان مفروضاً, فإذا طلقها وقد فرض لها, فيجب أن يشطر ذلك, فإن الله حكم بتشطير نصف المفروض.
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النساء:25]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
2)…القتل
قوله تعالى: {ومَن لَم يَسْتَطِعْ مِنكُم طَوْلاً أن يَنْكِحَ المُحصَناتِ} الآية [25]:(2/101)
اعلم أن التعرض لإحدى الصفتين المتضادتين, والنزول عن كلام مطلق, يدل قطعاً على أن التقييد المذكور مقصود, لتعلق الحكم عليه, وأنه يجوز إلغاؤه, نعم قد يجوز أن يذكر أحد الحالتين, والمسكوت عنه أولى بالحكم المذكور من المنطوق به, فيتعرض لإحدى الحالتين تنبيهاً على ما هو أول بالحكم من المذكور, ولو أطلق الحكم لأمكن استثناء المذكور: بيانه أنه تعالى, قال:
{وَلا تقْتلُوا أوْلادَكُم خَشْيَةَ إمْلاقٍ} إلى قوله {إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئاً كَبيراً}.
والقتل محرم عند زوال هذه الحالة لأنه لو قال: "ولا تقتلوا أولادكم" مطلقاً، أو قال: "ولا تقتلوا أولادكم حال غناكم", لأمكن أن يتوهم جواز ذلك حالة الشقاق والإملاق, لئلا يشقى المولود له في تربيته فقال: {وَلا تَقْتُلوهُنَّ خَشْيَةَ إمْلاقٍ} لعذر الإملاق, {نحْنُ نَرْزُقُهُم وإياكُم}, فهذا يسمى التنبيه.
ومثله قوله تعالى: {لا تَأكُلوا أضْعافاً مُضاعفة}, فحرم الربا، وإن كان له فيه النفع الكثير, فإذا لم يجوز لغرض عظيم, فتحريمه لما دونه أولى.
وقال: {ومَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ لا بُرهانَ لَهُ بهِ}, ليس أنه يتصور أن يقوم عليه برهان, ولكن المشركين قالوا لا نترك ديننا ودين آبائنا, فذم التقليد واتباع السلف وترك البرهان والإعراض عن الدليل.
ففي أمثال ذلك يجوز تخصيص إحدى الحالتين, تنبيهاً على ما هو الأولى بالحكم المذكور من الحالة الأخرى.
أما هاهنا فإنما تعرض لحالة الضرورة في جواز النكاح, فلا يقال حال عدم الحاجة أولى بجواز نكاح الأمة, والأمة في هذا المعنى أوفى من الحرة, فإذا تبين ذلك, فذكر حالة الحاجة تنبيه على جعل الحاجة علة الإباحة, فإذا لم توجد الحاجة تحرم, فإن الذي يفهم من ثبوت الحاجة, وأن ثبوته كان لأجلها, يعلم انتفاؤه عند عدم الحاجة, وهذا مقطوع به.(2/102)
وإنما ذكرنا هذه الأمثلة, وأجبنا عليها لأن الرازي لم ير لهذه الآية دلالة على ضد المذكور عند عدم الحاجة, ورأى أن ذكر الحاجة في إباحة النكاح, تنزل منزلة ذكر الإملاق والحاجة في تحريم القتل, ولم يجعل لهما مفهوماً, وقد غلط من وجهين:
أحدهما: أن كل ما استشهد به له مفهوم وفحوى, ولكنه من قبيل مفهوم الموافقة والتنبيه بالمذكور على مثله في غير المذكور, والقسم الآخر مفهوم المخالفة, وهو التنبيه بالمذكور على خلافه الذي لم يذكر, وهذان قسمان يعرفان لمحال الخطاب, ومواضع الكلام, ومواقع العلل والمعاني.
والرازي ظن أن الأدلة في القسمين على ما عدا المذكور, فأبان من نفسه جهله بنوعي المفهوم وقال: وبينا ذلك في أصول الفقه, فظلم نفسه بالتصدي للتصنيف في الأصول, قبل معرفة هذه الأمور الجلية, كما ظلم نفسه بالتصنيف في معاني القرآن وأحكامه, قبل إحكام معانيه.
فإذا ثبت ذلك, فيبقى هاهنا نظر, وهو أنه إن قال قائل: قد وردت ألفاظ عامة في النكاح مثل قوله تعالى: {فانْكِحوا ما طابَ لَكُم مِنَ النِّساءِ} إلى قوله {أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُكُم}, وادعى هذا المحتج به أن معناه: أو نكاح ما ملكت أيمانكم, وهذا غلط, فإن معناه: {فإنْ خِفْتم ألاّ تَعْدِلوا فَواحِدَةً}, لا يخشى فيه الجور, أو ما ملكت أيمانكم, فإن العدل في العدد فيه غير واجب أصلاً, بل يبقى لهم التعلق بالعموم.
وتعلق أيضاً بقوله: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ المؤمِنات، والمُحْصَناتُ مِنَ الّذينَ أوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُم} وقوله: {وأَنْكِحوا الأيامَى مِنْكُم}.
فزاد أن الاحتجاج بالعموم يقاوم الاحتجاج بالمفهوم, وهذا ركيك من القول, فإن ما احتجوا به من العمومات سيق للحرائر, ودل عليه سياق الآيات: {وآتوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً}.
وقوله: {والمُحصَناتُ مِنَ النِّساءِ}, عنى به الحرائر, فإنه تعالى قال بعده بكلمات وتخلل فاصل:(2/103)
{وَمَنْ لَم يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَولاّ أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمانُكُم مِن فَتَياتِكُم المؤمِناتِ}.
فدل أن المراد بالمحصنة في الآية الحرة, فإن الإحصان يطلق بمعنى الإسلام, ولا يحتمل هاهنا مع قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ المؤمِناتِ}, مع قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ الّذينَ أوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُم}.
فذكروا أن المراد به التزويج, ولا يحتمل ها هنا, فإن المحصنات من النساء يعني المتزوجات في أقسام المحرمات, فإذا بطل ذلك, فلا يحتمل إلا معنى الحرة.
وقد أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالمحصنات هاهنا الحرائر, ودل السياق عليه في ذكر نكاح الأمة, نعم قال تعالى:
{ومَنْ لَمْ يَسْتَطع مِنْكم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحَصّناتِ المُؤمِنَاتِ} ولم يقل: "واللواتي أوتين الكتاب من قبلكم", فوقع الشرط في المؤمنات دون الكتابيات, فلا جرم, قال قائلون من أصحابنا: لو قدر على نكاح الكتابية دون نكاح المسلمة, فجائز له نكاح الأمة.
ويلزم عليه على مذهب الشافعي رضي الله عنه جواز إدخال الأمة على الحرة الكتابية.
وفيه خلل من وجه آخر, وهو استواء نكاح الكتابية والمسلمة في الأحكام كلها, وإذا كانت القدرة على نكاح المسلمة مانعة نكاح الأمة, فإذا لم يمتنع نكاح الأمة بالقدرة على نكاح الحرة الكتابية, فالقدرة على نكاح المسلمة كذلك, فإن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.
وفيه أيضاً بطلان فهم معنى ارقاق الولد, وأن ذلك مانع, وأن هذا موجود في نكاح الحرة الكتابية, فهذا تمام هذا النوع.
والأصح أنه لا فرق بينهما, وأن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.
الوجه الآخر في الجواب: أن هذه العمومات ما قصد بها تفصيل شرائط النكاح, من الشهادة والولاية, والخلو عن العدة, وإنما قصد بها الندب إلى أصل النكاح, فأما الشرائط فلا ذكر لها, والذي يطلق القول العام, لا يخطر له الشرط في نكاح الأمة.(2/104)
فأما إذا قال: {ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم} الآية, مع قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشَيَ الْعَنَتَ مِنْكُم}, فلا بد وأن يكون قاصداً إبانة شرط, ولم يقصد به نزولاً عن كلام عام, وإبانة وجه خاص, كان قوله هجراً ركيكاً, فقصد التفرقة بين الحالتين ضروري في هذا الكلام, والتعرض للشرائط لا يظهر في العمومات التي ذكروها.
فليفهم الفاهم هذا, فإنه مقطوع به, ولا يهتدي إليه إلا الموفقون المتعمقون في العلم.
ومما يعارضون به ما قلناه, أنه تعالى قال: {ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}... قالوا:
وذلك يجوز نكاح الأمة مع القدرة على مهر المشركة, والقادر على مهر المشركة, قادر على مثله في حق المسلمة, وهذا ركيك جداً.
فإن المراد به: أنهم كانوا لا يعافون عن نكاح المشركات, ويعافون من نكاح الإماء خيفة إرقاق الولد, فأبان الله تعالى أن الأمة مع إفضاء نكاحها إلى رق الولد, خير من المشركة التي لا يجوز نكاحها قط, والأمة يجوز نكاحها في بعض الأحوال, فهذا تمام الرد على هؤلاء في محاولة المعارضة.
وحكى القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي عن السلف مذاهبهم في هذه الآية وفق مذهبنا ثم قال:
وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا: لا بأس أن يتزوج الحر المسلم الأمة, مع وجود الطول إلى حرة, من غير خشية العنت, ثم قال:
هذا قول تجاوز فساده فساد ما يحتمل التأويل, لآنه لا محظور في كتاب الله تعالى إلا على الجهة التي أبيحت, ثم وجّه على نفسه سؤالاً فقال:
يمكن أن يقول ذلك على الاختيار لا على التحريم.
فأجاب أنه قد بين موضع الاختيار لهم من موضع الحظر بقوله تعالى: {وأَنْ تَصْبِروا خَيْرٌ لَكُم}, فكان هذا موضع الاختيار, ولو كان الأول على الاختيار لهم لم يحتاجوا إلى اختيار ثان، فحيث جاز, وهو عند خوف العنت ذكر موضع الاختيار, فعند عدم الخوف, يستحيل أن يبقى الأمر على ذلك الاختيار.
والذي ذكره كلام صحيح.(2/105)
وحكى الرازي هذا من كلامه أول كلامه, في أنه لايحتمل التأويل ثم قال:
وقد اختلف السلف فيه ولو كان فيه نص ما اختلفوا, نقل عن علي مثل ذلك, ولم يثبت ذلك الذي صح.
ونقل إسماعيل القاضي عن علي أنه قال:
لا ينبغي للحر أن يتزوج الأمة وهو يجد طولا ينكح به الحرة, فإن فعل فرق بينهما وعزر.
وعن ابن عباس أنه قال:
من ملك ثلثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الأمة.
ثم الاحتجاج بالنص على وجهين:
منه ما يستوي في درك معناه الخاص والعام, ويعلم ذلك بأوائل الأفهام, فهذا لا يختلف فيه, وما لا يعلم إلا بالارتياء والبحث, فهذا يجوز أن يختلف فيه, وما نحن فيه من هذا القبيل, فإذا ثبت ذلك.
ثم حكي عن داود الأصبهاني في حق إسماعيل شيئاً, وذكرما يدل على تهجينهما وسوء اعتقاده فيها, وليس ذلك ببعيد منه, فإنه كان مكفرهما, لمخالفتهما له في الاعتزال ومذهب أهل البدعة والقدر, وقد شحن كتابه المصنف في أحكام القرآن بالرد على أهل السنة, وتسميتهم مرجئة ومجبرة, ويتجمل بالاعتزال ويتظاهر به, عليه وعليهم ما يستحقون.
وذكر وجهاً آخر فقال: إن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة, لأن الضرورة ما يخاف فيها فساد النفس أو فساد عضو, وليس في عدم الطول ذلك, لذلك لم يجز هذا العذر نكاح الأمة الكتابية عند الشافعي رضي الله عنه, ولا نكاح المشركة بالاتفاق, فإذا ثبت ذلك, استوى وجود هذا العذر وعدمه.
وهذا يدل على جهله بأوضاع الأصول وقواعد الأحكام, فإن الذي جوز لمكان الحاجة, ينقسم أقساماً ويترتب على أبحاث مختلفة.
فمنها ما يعتبر فيه غاية الحاجة.
ومنها ما يعتبر فيه دون ذلك, كالتيمم عند عدم الماء.
ومنها ما يعتبر فيه مظنه الحاجة لا صورتها.(2/106)
ومنها ما يعتبر فيه ضرر ظاهر, وإن لم يفض إلى هلاك نفس أو فساد عضو, كالقيام في الصلاة, والصيام في المرض, والجمع بين الصلاتين, فيجوز أن يجعل خوف العنت داخلاً في أقسام الحاجات, وإن كان الأمر في الكتابية الأمة والمجوسية أعظم من ذلك, فلا يحل بهذا النسب.
ثم مراتب تلك الحاجات مختلفة تعلم بالأدلة الشرعية, فليس فيما ذكره ما يرفع التعلق بالعموم من هذه الآية.
وحكى عن أبي يوسف القاضي أنه قال:
تأويل الآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً}، لعدم الحرة في ملكه, وقال: وجود الطول هو كون الحرة تحته.
فلزمه على هذا, أن من ليس عنده حرة, فهو غير مستطيع للطول إليها, فالطول عنده هو وطء الحرة.
وهذا التأويل في غاية الضعف فإنه لما قال: {ومَنْ لَمْ يْسْتَطِع}, فيقتضي أن يكون غير مستطيع أمراً, والذي لا حرة تحته, قادر على نكاح الحرة ووطئها إذا نكح.
فإن قال: هو عاجز في الحال قبل النكاح, فلا يخفى أن في مثل ذلك لا يقال هو غير مستطع للوطء, وإنما الطول الفضل والغنى, قال الله تعالى:
{اسْتَأذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُم}.
وعلى أن الذي الحرة عنده لا ينكح الأمة.
وإن كان عاجزاً عن وطئها كالغائبة والصغيرة والرتقاء, فلا حاصل لهذا التأويل بوجه، فكيف يتوهم ذلك وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشي العَنَتَ مِنّكُم}.
والقادر على نكاح الحرة, كيف يخشى العنت إذا عشقها وصار مفتتناً بها؟ فيقال في الجواب عنه:
فإذا عندك لا يعتبر الخوف من هذا الوجه, فلا وجه لاعتباره.
نعم هاهنا دقيقة, وهي: أن الحرة إذا كانت في نكاح الحر عندنا, فلا تحل له الأمة, سواء خاف العنت أو لم يخف, وسواء قدر على الحرة أم لم يقدر, كغيبتها أو رتقها, فليس يحرم نكاح الأمة هاهنا لوجود الطول, أو لأمن العنت, بل لعين نكاح الحرة.
وكان الشافعي رضي الله عنه يقول: الظاهر من وجود النكاح الطول والأمن, فلا مبالاة بنكاح نادر لا يفضي إلى ذلك بل يحسم الباب.(2/107)
نعم الغيبة عن ماله جعلت عدماً شرعاً في أصل آخر, وهو جواز أخذ الصدقة, فيلقى ذلك من ذلك الأصل, فلم يمكن اعتبار غيبة المال بالنادر الذي لا ينظر إليه.
وهاهنا مذهب لمالك وهو أنه يقول: إذا كانت الحرة معه وهو غير واجد للطول في حق أخرى, ويخشى لعشقه أن يزني بالأمة, فله التزوج بالأمة والحرة في حيازته.
فقيل لهم: فإذا قلتم مع وجود الحرة يتزوج بالأمة, فقدرته على طول أخرى لا يزيد على هذه الحرة, فوجود هذه الحرة إذا لم يمنع, فالقدرة على مثلها في الابتداء لم يمنع, وكيف ينتظم ذلك وأبو حنيفة لما قال: وجود الحرة يمنع والقدرة لا تمنع, كان ذلك أمثل من قول مالك في هذا.
وقد حكى ابن وهب عن مالك, أنه لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة, والحرة على الأمة, والحرة بالخيار.
وقال ابن القاسم في الأمة تنكح على الحرة, أرى أن يفرق بينهما, ثم رجع فقال:
تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاء فارقت.
فوجه إسماعيل المالكي على نفسه هذا السؤال، وأراد أن يفصل بين جرة موجودة معه, وبين القدرة على حرة, فإن الوجود لا يمنع, والقدرة تمنع فقال:
إن الذي عنده حرة قد تزوجها, فليس له بعد الامتحان أنه يخاف العنف, وإن عشق الجارية لا يندفع بنكاح الحرة, والذي يريد أن يتزوج وهو يجد, الطول فهو شاك, فلعله إذا تزوج حرة زال خوف العنت وأنس بها, فنحن اعتبرنا عدم الطول عند خوف العنت, فما لم يقع الأمن, فهو شاك لا يدري أيخاف أم لا, فإذا وقع وهو متيقن أنه قد خاف, فهو الموضع الذي قد أبيح؟
وهذا في غاية الركاكة, وحاصله أن القدرة مانعة للنكاح الذي اعتبرت مانعة لأجله, وإن نكح حرة وهو قادر فلا ينكح, وإن نكح حرة وخرج عن كونه قادراً فله نكاح الأمة, وجعل القدرة مانعة, من غير أن يكون المنع لأجل المقدور عليه وهو النكاح, وهذا في غاية البعد.
قوله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكُم المُؤْمِنَاتِ}.(2/108)
يدل على اعتبار الإيمان على الوجه الذي تقدم ذكره في أول الآية, وكيفية الاستدلال بها.
ومن الجهالات العظيمة قول الرازي: إن قوله تعالى: {والمُحْصَناتُ مِنَ الذيِنَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم}، يتناول الإماء والكتابيات, مع أنه تعالى ذكر ذلك ثم قال: {ومَنْ لَمْ يَستَطِع مِنْكُم طَوْلاً أن ينكِحَ المُحصَنَاتِ المؤمِناتِ فمِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُم من فَتَياتِكُم المُؤمِنَاتِ}.
فأبان أن إطلاق المحصنة ما تناول الأمة المؤمنة, أفتراها متناولة للكافرة؟ وذلك في غاية الركاكة.
نعم هاهنا شيء, وهو أنه إن قال قائل: قد أبان الله تعالى أقسام المحرمات بالرضاع وبالنسب ثم قال: {وأُحلَّ لكُم ما وَرَاءَ ذَلِكُم}: فأشبه أن يكون ما بعده تعرض لبيان ما يكره من الأنكحة وما لا يكره, مع الإجزاء, ليكون كتاب الله تعالى مستوعباً للقسمين, فأبان بعد قوله:
{وأُحلَّ لكُم ما وراءَ ذلِكُم أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوالِكُم محصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحيِنَ}.
وقال بعده:
{ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤمِنَاتِ} لإبانة المكروه من النكاح.
ولذلك قال:
{مُحصَنَاتٍ غَيرَ مُسَافِحَاتٍ ولاَ مُتّخِذاتِ أَخْدَانٍ}.
وقال: {المُحْصَنات المؤمناتِ}.
ولو نكح غير مؤمنة يجوز, لأن القصد بيان المكروه لا بيان المحرم.
والجواب عنه, أن المقصود بالأول بيان حكم المحرمات اللواتي لا تحل بحال, وذكر بعده ما يجوز أن يباح في بعض الأحوال, وذكر بعده ما يحرم لفقد شرط في العقد, لا لتحريم في المحل, فلم يقل المحل محرم, ولكنه أبان عن شرط العقد.
ودل على بطلان هذا التأويل قوله تعالى:
{وأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُم}.
ودل عليه أيضاً قوله:
{والمُحصَناتُ مِنَ الذِينَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم}, مع أن نكاحها مكروه, فهذا يدل على بطلان التأويل قطعاً.(2/109)
إذا تمهد هذا الأصل, فيبقى بعده النظر في أن الشافعي رضي الله عنه يجوز للعبد نكاح الأمة مع الحرة, وقوله تعالى: {ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً}، عام في الجميع.
فقال الشافعي رضي الله عنه: لا طول للعبد.
فقيل له: إذا كانت الحرة تحته فهو مستطيع؟
فقال: النكاح لا يسمى طولاً, فإنما جعلنا نكاح الحرة في حق الحرة مانعاً لا بحكم الآية, لا سيما ومساق الآية يدل على الاختصاص, فإنه تعالى قال: {فَانْكَحُوهُنَّ بإذنِ أَهْلِهِنَّ} فاعتبر إذن أهلهن ولم يتعرض لإذن المولى في حق المتزوج, فدل أن الآية للأحرار.
فكأنا نتعلق بالعموم في قوله: {وأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم وإمَائِكُم} الآية, إلا فيما استثنى, والاستثناء بالشرط وقع في حق الحرة, فبقي العبد على الأصل في العموم, وهذا واضح فاعلمه.
ولما لم يكن اللفظ متناولاً لنكاح الأمة عند إدخال الحرة على الأمة, لا جرم قال الشافعي رضي الله عنه:
إن الله تعالى جوز نكاح الأمة لخوف العنت, ولم يكن هذا الخوف نسخاً محرماً من الابضاع في شيء من أصول الشرع, فكان هذا خاصاً في هذا الحكم, فلم يكن لنا أن نتوسع في الاعتبار, فإذا صار هذا المعنى مانعاً ابتداء النكاح, فلا يمكن أن يجعل على خصوصه, وخروجه عن أصول الشرع, قاطعاً دوام النكاح الذي هو أثبت من الابتداء, بل يقتصر على ما ورد, ولا يتعدى, كما اقتصرنا على الحر ولم نتعده, وليس يتبين لنا أن العبد مثل الحر في هذا المعنى الدقيق المتعلق بالتفصيل، ويترقى الكلام في هذا التفصيل والتصرف في غوامض هذه المراتب إلى اعلى الغايات في الدقة, والمتأمل يعرف به بعد غور الشافعي, ولطف نظره في مغمضات الأصول ومآخذ الأحكام, والله تعالى يوفقنا للوقوف على معاني كلامه.
قوله تعالى: {فانْكِحُوهُنَّ بإذنِ أَهْلهِنَّ}: دليل على اشتراط الإذن في نكاحها, والرازي يسلم ذلك.(2/110)
واحتج بأن جعله شرطاً, وترك لأجله العمومات في نكاح العبد والحر, وما أسرع ما نسي سابق قوله: فإن تخصيص الإباحة بحال وشرط لا يدل على نفي ما عداه, ثم قال: ما نعلم أحداً استدل به قبل الشافعي, ثم قال: ولو كان هذا دليلاً لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل, مع كثرة ما اختلفوا فيه, ثم على قرب العهد بهذا الكلام استدل بمثله, وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم الأحوال أنه قال:
إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر.
فإن احتج من يجوز التزويج بها بإذن سيده بقول تعالى: {فانْكِحوهُنَّ بإذنِ أهْلِهِنَّ} وأن اللفظ بعمومه يدل عليه, والشافعي رضي الله عنه يقول بموجب الآية, فإنه لا يجوز نكاحها إلا بإذنها, وليس فيه أن الإذن المجرد كفى عما ليس فيه بإسقاط سائر الشرائط عند وجود الإذن.
قوله تعالى: {وآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ بالمعرُوفِ}.
يدل على وجوب المهر لها في عموم الأحوال.
وقوله: "بالمعروف", يمنع الغلو في المهر والتقصير.
فأضاف الأجور إليهن لوجوبه بسبب نكاحهن, وتقديره: فانكحوهن بإذن أهلهن, وآتوهن أجورهن بإذن أهلهن, فإنه كلام مفيد بنفسه لا حاجة إلى تعليقه على غيره, فتم الكلام بنفسه.
وروى عن مالك أن الأمة تستحق المهر, وهذا بعيد, فإنها لو كانت قابضة للمهر إلى نفسها, لكانت مستحقة للأجرة إذا أجرها السيد.
وربما قال: النكاح حقها, ولذلك لا يجوز تزويجها من مجبوب, وإذا زوجت فلها الخيار إذا علمت, وربما يقال: لا ينعقد العقد.
وليس نكاح الأمة نقل الملك إلى غيره, بل هو إثبات الحق في منافع بضعها للزوج على وجه لم يكن, فلذلك لم يجز النكاح بلفظ التمليك عند أكثر العلماء, وهذا كلام له وجه.(2/111)
إلا أن المهر لا تملكه المرأة, لأجل أنها لا تملك شيئاً؛ والعبد إذا خالع زوجته فلا يملك البدل عندنا؛ وإنما ذلك للسيد, لأن للسيد حقاً في منافع بضع العبد؛ ولكنه لما لم يملكه العبد, كان السيد أحق به.
ولعل مالكاً يقول أيضاً في الأمة إذا وطئت بالشبهة, أن المهر يكون لها, وهذا مبني على أن العبد هل يتصور أن يكون له ملك مستقل به, والمسألة فرع ذلك الأصل.
ثم إن إسماعيل بن إسحاق المالكي قال: زعم بعض العراقيين أنه إذا زوج أمته من عبده فلا مهر, وهذا خلاف الكتاب والسنة, وأطنب فيه.
وأجاب الرازي عن ذلك: بأنا نوجب المهر, ولكنه يسقط بعد الوجوب لئلا يكون استباحة البضع بغير بدل, ثم يسقط في الثاني حتى يستحقه المولى, لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها, ولا يثبت للمولى على عبده ديناً, وهو مثل قول بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه في وجوب القصاص على الأب ثم سقوطه.
والذي ذكره الرازي لا يقطع تشغيب إسماعيل, فإنه إنما شنع بأمر فقال:
أفيجوز أن يكون الصداق فَرضاً من فرض الله تعالى لحرمة البضع حتى لا يتبذل دون الصداق ثم يغشى النساء من غير مهر؟
والرازي إن قال له: يجب بنفس العقد فلا يقول: إنه يجب عندنا لغشيان شيء.
ولا شك أن الوطء يعري عن المهر في حق الأمة المزوجة, وفيه بشاعة, فإن الغشيان كيف خلا عن وجوب المهر, وعلى أن إيجاب المهر في هذا العقد فيه إشكال, فإن المهر لو وجب لوجب لشخص على شخص, فمن الذي أوجب له وعلى من وجب؟
فإن قلت: وجب للسيد على العبد, فهذا محال أن يثبت له دين على عبده.
وإن قلت: وجب لا على أحد, فمحال.(2/112)
وكما أن العقد يقتضي الإيجاب, فالملك يقتضي الإسقاط, وليس له إيجابه ضرورة الإسقاط, كما يقال: إن إثبات الملك للابن ضرورة العتق, فإن العتق لا يتصور بدون الملك, فأما إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته, بل يمكن أن يقال: لا يجب المهر أصلاً بوجه من الوجوه, فإنه لو وجب لوجب للسيد, وهذا بيّن في نفسه, وهو الصحيح من مذهبنا.
وأما استبعاد إسماعيل بن اسحاق, فلا وجه له, لأن الله تعالى أوجب المهر إذا أمكن إيجابه, وقد دل الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلاً, وإذا لم يملك ولا بد من مالك, والسيد استحال أن يكون مالكاً, فامتنع لذلك, فيكون الكلام عائداً إلى أصل آخر, وهو أن العبد هل يملك أم لا؟ ويخرج عن مقصودنا.
قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيرَ مُسَافِحَاتٍ}.
قد مضى بشرحه, وبينا أن معناه أن يكون العقد عليها بنكاح صحيح, وأن لا يكون الوطء على وجه الزنا: لأن الإحصان هو النكاح, والسفاح هو الزنا.
{ولاَ مُتّخِذاتِ أَخْدانٍ}: يعني لا يكون وطؤها على حسب ما كان عليه عادة الجاهلية في اتخاذ الأخدان.
قال ابن عباس: كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما بطن وخفي منه.
والخدن هو الصديق للمرأة زنا بها سراً, فنهى الله عز وجل عن الفواحش ما ظهر منها ومن بطن, وحرم الوطء إلا على ملك نكاح أو ملك يمين, ويقرب منه نهي النبي عليه السلام: عن مهر البغي, فإنه يرجع إلى أنه أوجب المهر لحرمة الوطء وحرمة سبب الوطء, وأما البغي فلا مهر لها.
قوله تعالى: {فَإذَا أُحصِنَ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}.
فقال قوم: "فإذا حصن" بالضم يدل على التزويج, ويفهم منه أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت حتى تتزوج, وهو قول ابن عباس.(2/113)
ومن قرأ بالفتح حمله على الإسلام, وأن عليها الحد إذا أسلمت وهو قول أكثر العلماء في معنى الآية, ولاعبرة بالمعنيين في إيجاب الحد, فإن الحد واجب على الآمة الكافرة إذا زنت, ودلت الأخبار عليه, وعلى التسوية بين الحرة والآمة في هذا المعنى.
فإذا ثبت ذلك فإن قال قائل: فما فائدة ذكر الإحصان بمعنى الإسلام والنكاح ولا أثر لهما؟
قيل: أما الإسلام, فإنما ذكر على أحد المعنيين, لأنهن كن يحسبن البغاء مباحاً, واتخاذ الخدن مباحاً, وإذا جرى ذلك على اعتقاد الإباحة فلا حد.
وقوله: إذا أسلمن, يعني أن بالإسلام كن يعرفن تحريم ذلك, وقبل الإسلام ما كن يعرفن ذلك.
الوجه الآخر؛ إن حمل قوله "أحصن" على النكاح, فإنما ذكر النكاح حتى لا يتوهم أنه يريد عقوبتها بالنكاح؛ كما أراد في حق الحرة إذا تزوجت؛ فأبان الله تعالى أنها وإن تزوجت وهي مسلمة, فعليها مثل ما كان من قبل؛ ثم ذكر الله تعالى الإحصان في حق الإماء وقال:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}, ولم يرد به الرجم, إذا لا نصف له؛ فإذا لم يرد الرجم, فلا يمكن أن يكون الإحصان في الحرة بمعنى النكاح؛ لأن الحرة إذا أحصنت بالنكاح فعليها الرجم؛ فيكون المراد بالمحصنة هاهنا الحرة؛ فالإحصان في حق الأمة بمعنى النكاح؛ وفي حق الحرة بمعنى الحرية, فاختلف معنى الإحصان باختلاف محاله.
إذا ثبت ذلك فالله تعالى يقول: {فَإذَا أُحْصِنَ} الآية, ذكر حكم الأمة والحرة, وفهمت الأمة منه أن العبد والحر مثلهما في معناهما, كما قال:
{إنَّ الّذيِنَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ}.
والأحرار المؤمنون الغافلون كمثلهن, لأن المعنى في الكل واحد, وهذا من أجلى مراتب الأقيسة.
والشافعي رضي الله عنه أورد هذا المثال في باب القياس, عند ذكر مراتب الاقيسة.
ومثله قوله عليه السلام:
"من أعتق شركاً له عبد عليه الباقي".(2/114)
وبالجملة: إذا ظهر مقصود الشرع في المسكوت عنه والمنطوق به, استوى الكل في الاعتبار.
قوله تعالى: {فانْكِحُوهُنَّ بِإذنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
يدل على جواز عطف الواجب على الندب, لأن النكاح ندب وإيتاء المهر واجب.
وقال تعالى: {فانْكِحُوا ما طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ}.
ثم قال: {وآتُوا النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}.
ويصح عطف الندب على الواجب أيضاً, كقوله تعالى:
{إنَّ الله َ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ}, فالعدل واجب والإحسان ندب.
وقال الشافعي رضي الله عنه في قوله: {فَكاتِبوُهُم إنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً وآتُوهُم} الكتابة ندب والإيتاء واجب.
وقال أبو حنيفة في قوله تعالى: {وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمّرَةَ للهِ}, الحج واجب, والعمرة ندب, إلى غيره من الأمثلة.
قوله تعالى: {ذلك لمن خشى العنت منكم }.
بينا معناه, وأنه حرم ذلك لئلا يكون إرقاقاً للولد.
وهذا يصلح أن يفهم منه معنى التحريم, فيفهم مثل هذا الحكم في مثل هذا المحل, فمقتضاه أن لا يحرم على العبد ولا ينقطع الدوام, وهو نظر دقيق بينا وجهه من قبل, فإذا أراد أبو حنيفة حمله على معنى الاستحباب, كان متحكماً, ونحن متعلقون بالأصل والظاهر.
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [النساء:26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…امتناع خلو واقعة من حكم الله
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم} الآية [26].
يدل على أنه يبين لنا ما بنا حاجة إلى معرفته، إما بنصّ أو بدلالة نص، وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى، فإنه لو خلت لم يكن مريداً، إلا أن يبين لنا، ومنه قال تعالى:
{ما فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيء}.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )(2/115)
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [النساء:26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
قوله تعالى: {ويَهْدِيَكُم سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} الآية [26].
معناه في بيان مالكم فيه الصلاح كما بينه لنا، وإن اختلفت العبارات في أنفسها، إلا أنها مع اختلافها متفقة في باب المصالح.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء:29]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
2)…القتل
قوله تعالى: {لاَ تَأكُلُوا أمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطلِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم}.
اعلم أن في الناس من ظن أن غير التجارة من الهبات والصدقات, داخل تحت قوله بالباطل, إلا أنه ينسخ بالإجماع, أو بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُم جُناحَ أَنْ تَأكُلُوا من بُيُوتِكُم أَوْ بُيُوت آبَائِكُم}, وهذا نقل عن ابن عباس, والحسن.
والذي هو الحق, أنه لا يفهم من أكل بالباطل, تحريم الهبات التي يبتغي بها الأغراض الصحيحة, وإنما حرم الله تعالى أكل المال بالباطل, والباطل الذي لا يفضي إلى غرض صحيح, مثل أكل المال بالقمار والخمر والاغرار, قال الله تعالى:
{ولا تَأكُلُوا أَمْوَالَكَم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إلىَ الحُكّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ}.
فالنهي مقيد بوصف, وهو أن تأكله بالباطل.
وقد تضمن ذلك: أكل أبدال العقود الفاسدة, كأثمان البياعات الفاسدة, وكل شيء ما أباحه الله تعالى, فأما الذي أباحه الله تعالى من العقود, فلا مدخل فيه.(2/116)
ثم إن الله تعالى قال: {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}, فظاهره يقتضي إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض, والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح, قال الله تعالى:
{هَلْ أَدُلُّكُم عَلىَ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}.
فسمى الايمان تحارة على وجه المجاز, تشبيهاً بالتجارات التي يقصد بها الأرباح.
وقال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}, كما سمى بذل النفوس لجهاد الكفار يقصد بها الأرباح, قال الله تعالى:
{إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسهُمْ وأَمْوالَهُم} الآية:
وقال تعالى: {ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَراهُ مَالَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق, وَلَبِئْسَ مَا شَروْا بِهِ أَنْفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}.
فسمى ذلك بيعاً وشراء على وجه المجاز, تشبيهاً بعقود الأشربة والبياعات, التي يحصل بها الأعواض.
كذلك سمى الإيمان بالله تجارة لما يستحقون به من جزيل الثواب.
واستدل أصحاب أبي حنيفة ومالك بهذه الآية على نفي خيار المجلس, فإن الله تعالى قد أباح كل ما اشتري بعد وقوع التجارة عن تراض, وما يقع من ذلك بإيجاب الخيار, خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة, ونظير ذلك استدلالهم بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالعُقُودِ}.
فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه, وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه, فألزمه الوفاء به, وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به, وذلك خلاف مقتضى الآية.
وقال تعالى: {إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَلاَ تَكْتُبُوها وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُم}.
ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ وثيقة الرهن, وذلك مأمور به عند عقد البيع قبل التفرق, لأن قوله تعالى:
{إذَا تَدَايَنْتُم بِدَينٍ إلى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوه}.(2/117)
فأمر بالكتابة عند عقد المداينة, وأمر بالكتابة بالعدل, وأمر الذي قد أثبت الدين عليه بقوله.
{وَلْيُمْلِلِِ الّذِي عَلَيهِ الحَقُّ وَلْيَتّقِ اللهَ رَبَهُ ولاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}.
فلو لم يكن عقد المداينة موجباً للحق عليه قبل الافتراق لما قال: {وَلْيُمْلِلِِ الّذِي عَلَيهِ الحَقُّ}، ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه, لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته, وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله: {ولّيُملِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ}, دليل على نفي الخيار وإيجاب الثبات.
ثم قال: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} تحصيناً للمال, وقطعاً لتوقع الجحود, ومبالغة في الاحتياط.
وقال تعالى: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إلَى أجَلِهِ ذَلِكُم أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وأَقُومُ لِلشّهادةِ، وأدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}.
فلو كان لهما الخيار قبل التفرق لم يكن في الشهادة احتياط, ولا كان أقوم للشهادة إذا لم يمكن إقامة الشهادة بثبوت المال.
ثم قال تعالى: {إذا تَبَايَعْتُم}, وإذا: كلمة تدل على الوقت, فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة, فأمر برهن مقبوضة في السفر, بدلاً من الاحتياط بالاشهاد في الحضر, وفي إثبات الخيار وإبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد.
فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة, والتبايع من غير تعوض للافتراق أن لا خيار, إذ كان إثبات الخيار مانعاً معنى الاشهاد والرهن, فهذا كلام الرازي بأحكام القرآن حكيناه بلفظه.(2/118)
والجواب عنه: أن الله تعالى وتقدس, أمر بالإشهاد والكتابة بناء على غالب الحال في أن الشهود يطلعون على الافتراق والبيع جميعاً, وليس للبيع مما يدوم غالباً أو يتمادى زمانه, حتى يجري الإشهاد على أحدهما دون الآخر, فأراد الله تعالى بيان الوثائق على ما جرت به العادة من البيع, ويدل على ذلك, أن قبل القبض لا ينبرم العقد في البيع وفي الصرف, وإذا تفرق المتبايعان بطل الصرف, وإذا هلك المبيع قبل القبض بطل البيع, فتبطل الوثائق جملة, وذلك لم يمنع الإرشاد إلى الوثائق في البياعات والمداينات, وكذلك بالقول في خيار الرؤية فيما لم يره في خيار الشرط, فلا حاصل لما قاله هؤلاء فاعلمه.
ووراء ذلك تعلق الرازي بفنون, يقع الجواب عنها في مسائل الخلاف, لا تعلق لها بمعاني القرآن, وذلك عادته, فإنه إذا انتهى إلى مسألة مختلف فيها, بين أبي حنيفة وغيره, يستقصي الكلام فيها فيما يتعلق بالخبر والقياس, ويخرج بها عن مقصود الكتاب.
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُم} الآية, معناه:
لا يقتل بعضكم بعضاً, وهو نظير قوله تعالى:
{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُم فِيهِ}.
أي حتى يقتلوا بعضكم, ومجازه أنهم كالشخص الواحد, والمؤمنون كالبينان يشد بعضه بعضاً .
ويحتمل أن يقال: ولا تقتلوا أنفسكم في الحرص على الدنيا وطلب المال, بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف.
ويحتمل "ولا تقتلوا أنفسكم" في حال ضجر أو غضب.
{ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [النساء:30]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلكَ عُدْواناً وَظُلماً}.(2/119)
الوعيد في ذلك يجوز أن يرجع إلى أكل المال بالباطل, وقتل النفس بغير حق, ويجوز أن يرجع إلى كل ما نهى الله عنه فيما تقدم, وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم, ليخرج منه فعل السهو والغلط, وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما, حسن في الكلام, كما يقال: "ألفى قولها كذباً وميناً", وحسن العطف لاختلاف اللفظين, يقال بعداً وسحقاً, وحسن لاختلاف اللفظ.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [النساء:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء
قوله تعالى: {ولاَ تَتَمنّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بهِ بَعْضَكُم عَلَى بَعْضٍ}, الآية [32].
ورد في تفسيره عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله, تغزوا الرجال ولا نغزوا وتذكر الرجال ولا نذكر, فأنزل الله تعالى: {ولاَ تَتَمَنّوْا}, الآية.
ونزل: {إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِمَاتِ}.
وروى قتادة عن الحسن:
"لا يتمنى أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال".
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئاً ولا الصبي, فلما جاء الإسلام, وجعل للمرأة النصف من نصيب الذكر, قال النساء:
"لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال, وقلن: إنا لنرجوا أن نفضل عليهم في الآخرة"، فنزل قول الله تعالى:
{للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ}.
فللمرأة الجزاء على الحسنة عشر أمثالها كما للرجال.(2/120)
قال: {واسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ}, ونهى الله أن تتمنى المرأة ما فضل الله بعضهم على بعض, لأن الله تعالى أعلم بصالحهم منهم, فوضع القسمة منهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم.
وبالجملة: التمني إذا لم يفض إلى حسد في ابتغاء زوال نعمة الغير أو تباغض, فلا نهي عنه, فإن الواحد منا يود أن يكون إماماً وسيداً في الدين والدنيا, ولا نهي عنه, وإن علم قطعاً أنه لا يكون.
وورد في الخبر أن الشهيد يقال له: تمن, فيقول:
اتمنى أن أرجع إلى الدنيا, وأقتل في سبيل الله
ورسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يتمنى إيمان أبي طالب وأبي لهب وصناديد قريش, مع علمه بأنه لا يكون, وكان يقول: "واشوقاه إلى أخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني".
وذلك كله يدل على أن التمني لا ينهي عنه إذا لم يكن داعية الحسد والتباغض, والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل, ومنه النهي عن الخطبة على خطبة أخيه, لأنه داعية الحسد والمقت.
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } [النساء:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
قوله تعالى: {ولِكُل جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُون}, الآية [33]:
قال ابن عباس ومجاهد: المولى هاهنا العصبة.
وقال السدي: الورثة.
وأصل المولى: من ولي الشيء يليه, وهو إيصال الولاية في التصرف, والمولى لفظ مشترك يطلق على وجوه, فيسمى المعتِق مولى والمعتَق كمثل, ويقال: المولى الأسفل والأعلى, لاتصال كل واحد منهما بصاحبه, ويسمى الناصر المولى.
{وأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلىَ لَهُم}.
ويسمى ابن العم مولى, والجار مولى.(2/121)
وقد بسط المتكلمون من أهل السنة أقوالهم في هذا في الرد على الإمامية, عند احتجاجهم بقوله عليه السلام:
"من كنت مولاه فعلي مولاه", فمعنى الولاء ههنا العصبة, لقوله عليه السلام:
"ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر".
وقوله "فلأولى عصبة ذكر" يدل على أن المراد بقوله: {ولِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِي مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُون} هم العصبات.
ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل, على قول أكثر العلماء, لأن المفهوم في حق العتق, أنه المنعم على المعتق, وكالموجد له, فاستحق ميراثه لهذا المعنى.
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد: أن المولى الأسفل, يرث من الأعلى واحتج فيه بما روي: أن رجلاً أعتق عبداً له, فمات المُعْتِق ولم يترك إلا المُعْتَق, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المُعْتَق.
قال الطحاوي: ولا معارض لهذا الحديث, فوجب القول به, ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق, على تقدير أنه كالموجد له, فهو شبيه بالأب, والمولى الأسفل شبيه بالابن, وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث.
والأصل أن الاتصال يعم.
وفي الخبر: "ومولى القوم منهم".
والذي خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا:
الميراث يستدعي القرابة ولا قرابة, غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق, فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة, وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل.
وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائماً مقدمه, وليس المعتق صالحاً لأن يقوم مقام معتقه, وإنما المعتق قد أنعم عليه، فقابله الشرع بأن جعله أحق لمولاه المعتق, ولا يوجد هذا في المولى الأسفل, فظهر الفرق بينهما.
قوله تعالى: {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} الآية [33].
قال ابن عباس في ذلك: كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذي رحمه بالأخوة التي جعلها الله تعالى بينهم بالإسلام فلما نزلت:(2/122)
{ولِكُل جَعَلْنَا مَوَالي مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُون} نسخت, ثم قرأ: {والّذيِنَ عَاقَدتْ أَيْمَانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم} من النصر والرفادة والوصاية, وقد ذهب الميراث.
وعن ابن عباس: {والّذيِنَ عَاقَدَتْ أَيْمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُمْ}، فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر, فأنزل الله تعالى:
{وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهَاجِرِينَ إلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُم مَعْرُوفاً}
يقول: "إلا أن توصوا".
وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {والّذيِنَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم} قال:
كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه.
وعاقد الصديق أبو بكر رضي الله عنه رجلاً, فورثه لما مات.
وقال سعيد بن المسيب:
هذا في الذين كانوا يتبنون رجالاً ويورثوهم, فأنزل الله تعالى فيهم, أن يجعل لهم من الوصية, ورد الميراث إلى المولى من ذوي الرحم والعصبة.
وإذا ثبت هذا فأبو حنيفة, وأبو يوسف, وزفر, ومحمد, صاروا إلى أن الميراث بالمعاقدة, لم ينفسخ عند فقد الأقربين والمولى, بل يتعلق بها الميراث عند عدم الرحم والولاء, فإن الله تعالى جعل ذوي الأرحام أولى, فإذا لم يكونوا بقي على حكم الآية, وهذا بعيد, فإن الذي في الآية:
{ولكُل جَعَلَنَا مَواليَ مِمّا تَركَ الوالِدَانِ والأقْرَبُونَ والّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم}.
فأثبت الميراث بالمعاقدة عند وجودها, وعلى أن قوله: {فآتُوهُم نَصِيبَهُم}, ليس نصاً في الميراث, بل معناه: من النصرة والمعونة والرفاد.(2/123)
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } [النساء:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء
قوله تعالى: {والّلاتي تَخَافُونَ نُشُوزهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} الآية [34].
أمر الله تعالى بمراعاة الترتيب في استيفاء الحق من الممتنع على هذا الوجه, فإن لم يتأت إلا بالضرب والايجاع فيجوز, ولكن الضرب هو القدر الذي يصلحها له ويجعلها على توفية حقه.
وليس له أن يضرب ضرباً يتوقع منه الهلاك, فإن المقصود الصلاح لا غيره, فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان, وكذلك القول في ضرب المؤدب لتعليم غُلامه القرآن والأدب, ولأجله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لصاحب الحق يد ولسان".
وقال: "مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته".
يعني قوله: "يحل عرضه" أن يقول: يا ظالم يا معتدي.
وعنى بعقوبته: طلب حبسه.
نعم: الصائل على مال الإنسان له دفعه عن ماله, وإن لم يتأت إلا بالقتل, لأن المال يخلص له عند ذلك, وهاهنا إذا نشزت, فليس في هلاكها استيفاء الحق بل فيه تفويته, فإنما رخص في ضرب مصلح وهذا بين.
قوله تعالى: {فإنْ أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيِلاً}.
قال أبو عبيدة, معناه: لا تعللوا عليهن بالذنوب.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )(2/124)
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } [النساء:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح (النشوز)
2)…أحكام النساء
3)…النفقات
قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلىَ النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ} الآية [34].
ورد في الخبر, أن رجلاً لطم امرأته لنشوزها عنه فجرحها, فاستعدت عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصاص, فأنزل الله تعالى:
{ولا تَعْجَل بِالقُرْآنِ مِنْ قَبلِ أَنْ يُقْضَى إليكَ وَحيُهُ}.
ثم أنزل: {الرِّجَالُ قوَّامُونَ على النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ}.
وقيل: ما كان الضرب على النشوز مشروعاً ثم شرع.
ودلت الآية على أن الزوج يقوم بتدبير المرأة, وتأديبها, وإمساكها في بيتها, ومنعها من البروز, وأن عليها طاعته وقبول أمره, ما لم تكن معصية.
وقوله تعالى: {بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}, يدل على أن الزوج جعل قوّاماً عليها, حابساً لها على نفسه, ومانعاً من البروز لأجل ما أنفق عليها من المال.
نعم بين الله تعالى أمر النفقة في مواضع في كتابه في قوله:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(2/125)
ولكن في هذه الآية ذكر علة النفقة, فلا جرم, فهم العلماء منهما أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها, حتى زال الحبس في الدار على المذاهب كلها, ولها فسخ النكاح على مذهب الشافعي رضي الله عنه, لأنه إذا خرج عن كونه قواماً عليها, وحابساً لها, فقد أخل غرض التحصين بالنكاح, فإن الغرض من النكاح تحصينها, وإلا فهن حبائل الشيطان وعرضة الآفات, فإذا لم يكن قواماً عليها, كان لها فسخ العقد, لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح, وفيه دلالة ظاهرة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح, عند الإعسار بالنفقة والكسوة.
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } [النساء:35]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
2)…الخلع
قوله تعالى: {وإنْ خِفْتُم شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} الآية: [35].
اختلف الناس في المخاطبين بهذا الخطاب.
فقال سعيد بن جبير: "إنه السلطان الذي يترافعان إليه".
وقال السدي: الرجل والمرأة.
قال الشافعي رضي الله عنه:(2/126)
والذي يشبه ظاهر هذه الآية, أنه فيما عم الزوجين معاً حتى يشتبه فيه حالاتهما, وذلك أني وجدت الله تعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا, وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, وسن في نشوز المرأة بالضرب, وأذن في خوفها أن لا يقيما حدود الله بالخلع, وذلك شبيه أن يكون برضا المرأة, وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئاً, إذا أراد استبدال زوج مكان زوج, فلم أمن فيمن خفنا الشقاق بينهما الحكمين, دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج, فإذا كان كذلك بعث حكماً من أهله, وحكماً من أهلها, ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين, ويوكلهما الزوجان بأن يجْمعا أو يُفرقا إذا رأيا ذلك, ووجدنا حديثاً بإسناده عن عليّ يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين, وهذا مذهب أبي حنيفة, وهو أصح المذاهب للشافعي, وإن حكى عن الشافعي فيه قول آخر على موافقة مذهب مالك, وهو أن الحكمين ينفردان دون رضا الزوجين إذا رأيا ذلك ن وهو بعيد, فإن إقرار الزوج بالظلم لا ينافي النكاح, ولا ظلم المرأة مناف لذلك, والظلم إذا ظهر من أي جانب كان, وجب دفعه بطريقة, فأما أن يكون ظهور ظلم الظالم بينهما للحكمين طريقاً إلى دفع النكاح دون رضا الزوجين فلا, وليس يزيد ظهور ذلك ظلماً على إقرار الزوج أو الزوجة بالظلم.
نعم قد يقول القائل: إذا استمرت الوحشة, فلا وجه لتبقية الخصومة ناشبة بينهما, فاشتباه الحال في ذلك, كاشتباه الحال في المتتابعين إذا تخالفا.
وهذا بعيد, فإنهما إذا تخالفا فلا يتصور بقاء العقد على نعت الإختلاف ليكون العقد على وضعين متضادين, وهاهنا لا شيء يوجب منع بقاء العقد, وخللاً في معنى العقد, إنما يظهر من أحدهما ظلم فيدفعه الحاكم فأما فسخ النكاح فلا, وليس كالإيلاء, فإن هناك رجع النعت إلى المقصود وهو الإستمتاع.(2/127)
وبالجملة إن كان للقول الآخر وجه, فمن حيث وقوع الخلل في السكن المقصود بالنكاح, لاستمرار الخصومة بينهما, وذلك يقتضي أن يكون هذا قريباً من الإيلاء, وقد قال مالك:
وللحكمين أن يخالعانها دون رضاها, وهذا بعيد, فإن الحكم لا يملك ذلك، فكيف يملكه الحكمان؟..
نعم سميا حكمين - وإن كان الوكيل لا يسمى حكماً - لأنه أشبه فعلهما, فهما يجتهدان ويتحريان الصلاح في إنفاذ القضايا بالعدل, إذا وكلا بذلك من جهة الزوجين, وما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز ولكن برضا الزوجين لا دون رضاهما, والله تعالى إذا رأيناه يقول:
{فَإنْ خِفْتُم أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيما افْتَدَتْ بِهِ}.
فكيف يفهم منه جواز الخلع دون رضا الزوجين, وقد حظر الشرع أخذ شيء منها دون شربطة الخوف.
ودلت الآيات المطلقة, على أن لا يحل أكل المال إلا أن يكون تجارة عن تراض منكم.
ودل قول الرسول صلى الله عليه وسلم, على أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه.
وفي رواية: بطيبة من نفسه.
قوله تعالى: {واعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ} الآية: [36]:
يدل على أن من أتى بطاعة لغير الله, لا تقع عن جهة القربة, لأنه أشرك به شيئاً, وترك الإخلاص, ولأجله قال علماؤنا:
من توضأ أو اغتسل لتبرد أو تنظيف, لم يكن له أن يصلي به, لأنه أشرك به شيئاً.
فإذا خرج الفعل عن كونه لله, فلم يكن قربة, ولذلك قلنا:
إذا أحس بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره, لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه لله خالصاً, ثم قال تعالى:
{وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانا}.
فأوجب الله تعالى طاعة الوالدين في غير معصية الخالق, ولا يعني بطاعة الوالدين أن يكون لهما صرف منافع بدنه بعد البلوغ إلى ما شاء, وتكليفهما أفعالاً, وإنما هو على ما ذكره الله تعالى:
{إما يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا} الآية..(2/128)
وليس للوالدين منع الولد من الأسفار للتجارة والزيارة وطلب الفوائد.
نعم يكره له أن يجاهد دون إذنهما, فإن في ذلك تغريراً بالمهجة.
ومن تعظيم الوالدين أن لا يقتله الولد, إلا إذا كان محارباً كافراً.
ثم ذكر الجار ذي القربى, وهو الجار الذي له حق القرابة, والجار الجنب, للبعيد منك نسباً, إذا كان مؤمناً, فيجتمع حق الجوار والإيمان, وورد في حق الجار أخبار عدة.
والصاحب بالجنب: قيل هو الرفيق في السفر, وقيل هو الجار الملاصق, وخصه الله تعالى بالذكر تأكيداً لحقه على الجار غير الملاصق.
والجار لفظ مجمل يتردد بين معاني, فقد يقال لأهل المحلة جيران, ولأهل الدرب جيران, وجعل الله تعالى الإجتماع في مدينة جواراً قال الله تعالى:
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ والذيِنَ فيِ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ فيِ المَديِنَةِ} إلى قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلا}.
فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة, وقد يكون بمعنى حسن العشرة, وكف الأذى والمحاماة دونه.
وابن السبيل: هو المسافر ينزل عندك فتكرمه وتضيفه.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ}: هو الإحسان إليه بالإنفاق, وكسوته ومراعاته بالمعروف.
هذا هو الأصل, فجمعت الآية أموراً منها الندب, ومنها الواجب.
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء:37]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…البخل
قوله تعالى: {الذيِنَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناسَ بالبُخلِ} [37]:
البخل المذموم في الشرع الإمتناع من أداء ما أوجب الله تعالى, وهو مثل قوله:(2/129)
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بمَا آتَاهُمُ اللهُ من فَضْلِهِ هُوَ خَيْرَاً لهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ}.
ونزلت الآية في اليهود, الذين بخلوا بالمال, فلم يعطوا منه حق الله تعالى, ومنعوا الأنصار من أداء حق الله, وخوفوهم بالفقر, ومنعوا العلم, وكتموا ما علموا من صفة النبي محمد صلىالله عليه وسلم, والمباهاة, بل يقول:
كان ذلك من فضل الله, وما كان من قوتي ولا من عندي, فيتحدث بالنعم على وجه الشكر, كما قال تعالى:
{وأَما بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}..
وقال عليه السلام: "انا سيد ولد آدم ولا فخر, وأنا أفصح العرب ولا فخر".
فأراد بذكره التحدث بنعم الله تعالى, وأن يبلغ أمته من منزلته عند الله, ما يجب على أمته أن يعرفوه, وليعطوه من التعظيم حقه طاعة الله تعالى.
وقال عليه السلام: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس ابن متى".
وقد كان عليه السلام خيراً منه, ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الإفتخار.
وقال الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بمَنْ اتقَى}.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "احثوا في وجوه المداحين التراب".
وذلك لئلا تزهو النفس وتترف, فأن النفس إذا ما مالت إلى شيء لطلب حظها, تولد منها قوة الهوى وضعف اليقين.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } [النساء:38]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الرياء
قوله تعالى: {الذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ رِئاءَ الناسِ..} [38]:
معناه: الكفار الذين يبخلون بالأموال لوجه الله, وينفقون رثاء وسمعة, في غير مرضاة الله.(2/130)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } [النساء:43]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السُّكر
2)…الطهارة
3)…الصيّام
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [43]:
إختلف العلماء في المراد بالسكر بالآية.
فقال قائلون: هو السكران الذي لا يعلم حقيقته, وهذا معتل من وجه: فإن الذي لا يعقل كيف ينهى.
فقيل في ذلك: أراد به النهي عن التعرض للسكر, إذا كان عليهم فرض الصلاة, والنهي على أن يعيدوها, وهذا بعيد من وجه, وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب, ينافي دوامه, وهذا حسن في إبطال هذا القول, إلا أن يقال:
إن ذلك نهي عن السكر, وإزالة العقل بشرب القدر المسكر, حالة وجوب الصلاة, وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية, كأنه تعالى قال: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، أي في حالة سكركم, فلا وجه للتأويل.
الوجه الآخر: قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه, بل هو فاهم للخطاب, وهذا بعيد, فإنه إن كان كذلك, فلا يكون منهياً عن فعل الصلاة, بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه.
ومن أجل ذلك قال الحسن, وقتادة, في هذه الآية: فإنها منسوخة الحكم.(2/131)
وعلى الجملة, اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي الله عنه: وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة, فتقديره: لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى, فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق, وتلويث المسجد, ولذلك قال: {حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}, يعني أن السكران ربما نزق, فتكلم بما لا يجوز له, كما قال علي:
إذا سكر هذى, وإذا هذى افترى.
فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة.
وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول, ومن أجله عطف عليه قوله تعالى: {وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِري سَبِيل}، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول:
بل المراد به الصلاة, ولذلك قال: {حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون} والذي ذكرتم يعلم ذلك.
فيقال: هذا في ضرب المثل, كالذي يقول للغضبان: اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول, إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول: بل المراد به أيضاً, إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله: إلا عابري سبيل, على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء, فإنه يتيمم ويصلي, فيتعين إضمار عدم الماء فيه, وإذا عدم الماء في الحضر, كان كذلك.
وأحسبه يقول: بنى على الغالب, في أن الماء لا يعدم في الحضر, فيقال: فالذي يتيمم ليس جنباً عندكم حتى يصلي صلوات التيمم، وأحسبه يمنع هذا أيضاً ويكابر, فيقال له:
إن تيمم الجنب, قد ذكره الله تعالى بعد هذا, بل فصل فقال:
{وإنْ كُنْتمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَموا صَعِيداً طَيِّباً}.
وكيف يذكر المسافر والسفر, ثم يذكر بعده من غير فصل؟ وهذا واضح في بطلان قوله:(2/132)
وأما إذا أراد التيمم، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم, فذكر المرض وذكر السفر, وذكر المجيء من الغائط, وعدم الماء مطلقاً في أي موضع كان, فكيف عنى بعابر السبيل المسافر هاهنا, ولم يذكر عدم الماء, وهو الشرط لا السفر؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه, ولأن الله تعالى قال: {حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، فأحال المنع على عدم العلم بالقول, والسكران الطافح في سكره, المغشى عليه, تمتنع الصلاة عليه, لأنه لا يعلم ما يقول, بل لأنه محدث غير طاهر, ولا ساجد ولا راكع ولا ناوٍ, فدل أن الإمتناع إنما نشأ من القول فقط, وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق, ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم, لأن النائم لا يصلي, ولا يتصور منه الصلاة مع النوم, ولا طهارة مع النوم.
وبالجملة, كل ما اعترضنا به على الفصل الأول, فهو متوجه هاهنا فاعلم.
فإن قيل: سبب نزول هذه الآية, ما روي عن علي رضي الله عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوماً فشربوا من الخمر, فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ: "قل يا أيها الكافرون" فالتبس عليه فأنزل الله تعالى:
{لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكارَى}.
والجواب أن المراد به ما قلناه, فإنه إذن التبس عليه, وتلا بداخل المسجد, حتى تكلم بما لا يجوز, وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعاً, والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد, عرفوا أن كثيراً من السلف حملوا الآية على ما قلناه, وإن كان منهم من خالف.
قال: ومذاهب السلف مستقصاة في كتب الائمة, وليس ذكرها متعلقاً بغرضنا, إلا أن منهم من تعلق بما روي عن جسرة بنت دجاجة أنها قالت: "سمعت عائشة رضي الله عنها تقول:(2/133)
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد, فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد, ثم دخل ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل لهم رخصة, فخرج إليهم بعد فقال: وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب".
قال: فأمرهم بتوجيه البيوت الشارعة في المسجد, صيانة للمسجد عن اجتياز الجنب, لأنه لو أراد القعود, لم يكن لقوله "وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد الحائض ولا جنب" معنى, لأنه القعود منهم بعد دخول المسجد, لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه, فدل أنه إنما أمر بتوجيه البيوت, لئلا يضطروا عند الجنابة إلى الإجتياز في المسجد, إذا لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد.
والإعتراض على هذا, أن الخبر لا يجوز أن يثبت, فإن الغالب من أحوالهم المنقولة, أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم, ولأن المنع من المرور لو كان المقصود, ولم يتأت لهم الإغتسال في بيوتهم, لقال لهم: إتخذوا أبواباً تجتازون منها للإغتسال.
ويدل عليه أنه لو كان باب رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأفضى إلى المسجد وأبواب حجر نسائه, وباب أبي بكر, وباب عليَّ, وقال:
"سدوا هذه الخوخات غير خوخة أبي بكر وعليَّ".
وعلى أن الذي ذكره هذا القائل, تسليم منه لجواز ذلك من قبل, ويدعى نسخاً لا يصح وقوع النسخ به.
قوله تعالى: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ}.
قوله: "إن كنتم مرضى" يمنع من التوضوء, وأن يكون من امساس الماء خطر الهلاك أو فساد عضو، وليس المراد به مطلق المرض إجماعاً, وقد أطلق الله المرض في مواضع من كتابه, وباطنه رخصاً مختلفة, والمراد به الأمراض المختلفة, لا نوع واحد من المرض, فقال تعالى في موضع {وَمَنْ كَانَ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَر}.
والمراد ما يظهر أثره في منع الصوم.(2/134)
وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أًوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}.
وعنى به نوعاً آخر.
وهاهنا عنى بالمرض, القروح التي تمنع إيصال الماء إلى الاعضاء، ويخشى منه فساد عضو وهلاك الجملة, أو طول الضنا على ما اختلف العلماء فيه.
ثم قال تعالى: {أوْ عَلىَ سفرٍ}, وبناء على الغالب, ولايشترط فيه السفر الطويل, بل ما يسمى سفراً, فإن عموم كتاب الله تعالى يدل عليه.
وفي اللفظ أيضاً خلاف, والفرق بينهما عند من فرق مأخوذ من السنة, وورد في تيمم المجروح أخبار ذكرها الفقهاء في كتبهم, وهي صحيحة, دالة على أنه يتيمم.
قوله تعالى:
{أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ}, اعلم أولاً أنه روي عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها, أن النبي صلى الله عليه وسلم, "قبل بعض نسائه, ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ".
وروى إبراهيم التيمي عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ, ربما فعله بي".
وعن شبابة مولى عائشة رضي الله عنها قالت: ربما يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو خارج إلى الصلاة, فيقبلني ثم يأتي المسجد, فيصلي ولا يتوضأ.
كل ذلك رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق بأسانيده المتصلة في كتاب أحكام القرآن.
وروى بإسناده عن الشعبي قال: قال علي: اللمس الجماع ولكنه كنى عنه.
وروى بإسناده عن عاصم الأحوال, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: الملامسة والمباشرة الجماع.
وروى بإسناده عن عاصم الأحوال, عن بكر بن عبدالله قال: قال ابن عباس:
أن الله حي كريم يكنى عما شاء, وإن الماشرة والرفث والتغشي والافضاء والمسيس عنى به الجماع.
قال: والتغشي قوله: {فَلَما تَغْشَاهَا}.
والإفضاء: قوله {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلىَ بَعْضٍ}.(2/135)
وروى بإسناده عن سعيد بن جبير, قال: كنا على باب ابن عباس واختلفنا في الملامسة باليد, ومن كان عربياً قال الجماع, فخرج ابن عباس فقال: فيم يختصمون؟ قالوا في الملامسة, فمن كان عربياً قال الجماع, ومن كان مولى قال اللمس باليد، فقال: هو من فريق الموالي إن الله حكيم يكني ما شاء, فكنى الجماع ملامسة, وكنى الجماع مباشرة.
وأكثر القاضي إسماعيل في هذه الرواية, وأسندها كلها عن الصحابة والتابعين.
واعلم أنه روي في مقابلة ذلك بأسانيد صحيحة عن عبدالله بن عمر أنه قال: قبلة الرجل أمرأته وجسها بيده من الملامسة, ومنها الوضوء.
وحديث القبلة منكر:
قال إسماعيل بن إسحاق: حديث حبيب بن أبي ثابت في القبلة عرضه على نصر بن علي وعيسى بن شاذان, فعجبوا منه وأنكروه.
وهو مما يعتد به على حبيب بن أبي ثابت, ومن يحس أمره يقول: أراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم, فغلط بهذا, فهذا غاية ما قاله:
والذي يحمل الملامسة على الجماع يقول: إن الله تعالى ذكر الأحداث كلها بألفاظ هي كناية, فإنه ذكر الغائط وهو كناية, فيظهر أن يكون هذا أيضاً كناية عن الجماع.
وهذا يجاب عنه بأن الغائط كناية مشهورة غالبة في عرف الإستعمال حتى لا يعرف من المتعارف سواه, والكناية في الجنابة الجماع, فالجماع كناية عن اللفظ الأصلي الذي يستحي عن ذكره, مثل الغائط كناية عن الفضلة المستقذرة, فالله تعالى لم يكن عن سبب الجنابة باللفظ الأصلي الموضوع للكناية, وإنما ذكر الملامسة, وما اشتهر في العرف أن يكنى بها عن سبب الجنابة, فلو أراد الكناية, لذكر اللفظ الموضوع للكناية, وهذا بين ظاهر لا غبار عليه.
ومن وجه آخر: وهو أنه ذكر الغائط وهو سبب الوضوء دون الغسل, فيظهر أن يكون قرينه سبب الوضوء, لأنه تعالى أفرد الجنابة فقال:
{وَلاَ جُنُبَاً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتى تَغْتَسِلُوا}.
وذكر في موضع: "فاطهروا" وهو يعني الغسل.(2/136)
والمخالف يقول: ذكر الله تعالى الجنابة ولم يذكر سببها, ثم ذكر بعد ذلك سبب الحدث, وهو المجيء من الغائط, فيشبه أن يكون قد ذكر سبب الجنابة, والسبب الأصلي في الحدث خروج الغائط, والأصلي في الجنابة الجماع, فيشبه أن يكون قد جمع الله بينهما.
ومن وجه آخر, وهو أن الله تعالى وتقدس, قد بين حكم طهارة الجنب والمحدث عند وجود الماء, فيشبه أن يتبين طهارتهما من عدمه, ولا يكون ذلك إلا بحمل الملامسة على الجنابة, ليكون قد بين أحوالهما عند عدم الماء ووجوده, فأما عند وجوده, فهو أنه ذكر السكر الناقض للطهارة والجنابة, ثم ذكر عند عدم الماء حكم المحدث, فيشبه أن يكون قد ذكر حكم الجنب أيضاً.
هذا ما ذكروه وهو ضعيف جداً, فإن الله تعالى ذكر حكم السكران لا لإيجاب الطهارة, ولكن للمنع من دخول المسجد, كما ذكرناه, وذكر الجنب على هذا الوجه, فلم يكن فيه تعرض للطهارتين, إذا لم يذكر ما يحتاج فيه إلى الطهارتين, فإن دخول المسجد لا يحتاج فيه إلى الطهارتين, إنما يحتاج فيه إلى إحداهما, فلما فرغ من بيان دخول المسجد قال:
{وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطهرُوا, وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ}.
تعرض للتيمم في حق المحدث, لبيان حكم طهارته بعد الفراغ من أمر المسجد, فلم يكن الحكم الثاني متعلقاً بالأول.
والدليل على ذلك, اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب.
فقال بعضهم: لا يصلي ولا يتيمم حتى يجد الماء, لأن التيمم إنما ذكره الله تعالى مع ما يكون منه الوضوء, ولم يذكر في موضع الجنابة.(2/137)
وذهب قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن الجنب يتيمم للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهم أن يقولوا: يجوز أن يكون ذلك في القرآن ولكنه يستدرك بالإجتهاد والنظر, مثل ما بينا وجهه, وليس كل ما في القرآن يكون جلياً يدركه كل واحد, ولذلك لم يفهم كثير من الناس أن الجنب يصح صومه إذا أصبح جنباً, حتى احتج ابن عباس بقوله تعالى:
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله {حتى يَتَبَينَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ, ثُمَّ أَتِموا الصِّيَامَ إلىَ الليْلِ}.
فإباحة المباشرة إلى الصبح تقتضي وقوع الغسل بعد الصبح, وهذا لم يفهمه غيره, وهو في القرآن تحقيقاً.
واستدل بالقرآن في أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, إلى غير ذلك من احتجاجات غامضة بالقرآن, فيجوز أن يكون هذا أيضاً في القرآن ولكنه لا يعرف قبل اعمال الفكر وإجالة الإجتهاد, وهذا بيِّنْ.
وبالجملة, هذا أقرب من أن يقال: إن الله تعالى ذكر طهارة الجنب والمحدث عند وجود الماء, ثم يذكر طهارة المحدث عند عدمه ولا يذكر طهارة الجنب, مع أن الإشكال في تيمم الجنب أعظم, فإن فيه تسوية بين المحدث والجنب في الطهارة عند عدم الماء, مع افتراقهما عند وجوده.
وقد ذكر محمد بن مسلمة في الآية التي تقارب هذه في سورة المائدة تقديماً وتأخيراً, يقتضي اشتمال كتاب الله تعالى على تيمم الجنب.
وإذا قررنا ذلك زال هذا الخيال.
فقال محمد بن مسلمة قال الله تعالى: {يَا أَيُهَا الذِينَ آمَنُوا إذا قمتُمْ إلىَ الصَّلاَةِ}، الآية, فإنما نسقها وسياقتها فيما يرى, والله أعلم: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من نوم, أو وجاء أحد منكم من الغائط, أو لامستم النساء, فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق, إلى قوله: إلى الكعبين, وإن كنتم جنباً فاطهروا, يعني بالماء.(2/138)
وقد فسره في موضع آخر: حتى تغتسلوا, وإن كنتم مرضى أو على سفر, ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً, ليكون ذاكراً للطهارتين عند عدم الماء ووجوده, وفي القرآن تأخير وتقديم في قوله:
{وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذينَ يستَنْبطونهُ منهم} إلى قوله: {إلا قليلاً}.
وقال الله تعالى:
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدَاً}
فعلى هذا, لولا فضل الله عليهم لاتبعوا الشيطان إلا قليلا, يرجع إلى ما قال قبلها مما أمرهم أن يردوه إلى الرسول, وإلى أولي الأمر منهم وأخبرهم أنه يعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا, فكان الاستثناء إلى هاهنا.
ويكثر في القرآن التقديم والتأخير في النسق.
وروى مالك عن زيد بن أسلم, مما دل على التقديم والتأخير, فقال: قوله تعالى:
{إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ}: معناه من المضاجع, فالنوم بسبب الحدث, والغائط وملامسة النساء: سببان آخران للوضوء, مثل القيام من المضاجع, فهذه أسباب ثلاثة.
وقوله: {وأَرْجُلَكُمْ}, نسق الوجه واليدين, ومنصوب على ما تقدم من الفعل الواقع عليه في قوله: {فاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} فأضمر ذلك, فقوله: {وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطهرُوا}, له موجب آخر غير المذكور, فلا يجوز أن يذكر غسل الوجه واليدين موجباً للغائط المذكور بعده, فليكن المرجب مقدماً على الموجب, وهذا بين, ولأنا لو لم نقدر هذا, عددنا السفر والمرض حدثاً, والغائط ولمس النساء, وليس المرض والسفر حدثاً, ولا هماً من أسباب الحدث.(2/139)
الإعتراض عليه أن المخالف يقول: لا يمكن أن تحمل الآية على وجه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير, فإنه تعالى قال {إذَا قُمْتُم إلى الصَّلاَةِ} محدثين, من غير أن يذكر سبب الحدث, ذكر الطهارة الصغرى, ثم قال مطلقاً: {وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطهرُوا}، من غير أن يكون ذاكراً لسبب الجنابة, ثم قال: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ}، فذكر السبب بعد ذكر المسبب, وأراد أن يتعرض للسببين الأصليين اللذين يحصل بهما الحدثان, فقال: {أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}.
والسبب الأصلي للجنابة الجماع, والحدث خروج الخارج من السبيلين والنوم وزوال العقل حدث, بناء على توهم خروج الخارج, فرجع إليه, وفي حق الرجل, السبب الأصلي الجماع, وخروج المنى ملحق به, فهذا لا يحتاج إلى تقديم وتأخير, بل يكون الكتاب مبيناً حكم الطهارتين عند وجوب السبب المطلق, ومبيناً تفصيل السببين على الوجه الأصلي, وهذا حسن بين.
ويدل على أنه لا حاجة إلى التقديم والتأخير, أنه إذا أمكن التقديم والتأخير في آية الطهارة المذكورة في سورة المائدة, فلا يمكن ذلك في قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً}.
ثم قال:{وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ}.
وليس الذي تقدم هاهنا مما سن به نسق الخطاب في التقديم والتأخير, ولأجل ذلك روى الأعمش عن أبي وائل, قال: كنت جالساً مع أبي موسى وعبدالله بن مسعود فقال أبو موسى:
أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً, يتيمم ثم يصلي؟
فقال عبدالله: لا يتيمم, وإن لم يجد الماء شهراً, ثم ذكر له حديث عمار فرجع عنه, وذكر أنه لم يرجع, وقال: إن عمر لم يقنعه قول عمار, وذكر أنه لو رخصنا لهم في ذلك, استثقلوا الإغتسال عند وجود الماء وقنعوا بالتيمم.(2/140)
وهذا يدل على أنهم لو يروا في كتاب الله تعالى تيمم الجنب, ولم يرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عماراً, لكنه كما أرشد عمر إلى الآية السيف مع ما فيها من الإشكال.
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } [النساء:58]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأمانة
قوله تعالى: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أهْلِهَا} الآية [58].
فيه دليل على وجوب رد الأمانة إذا طلبها مالكها, وقبل الطلب لا يخفى وجوب الرد، فإن في وجوب ردها قبل الطلب بطلان جواز الإمساك, وفيه بطلان مقصود الائتمان, وهو الحفظ المقصود للمالك وهذا عام في حق الجميع, وإن كان قوله تعالى من بعد: {وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الناسِ أَنْ تَحْكِمُوا بِالْعَدْلِ}, مخصوصاً بالحكام, غير أن خصوص الآخر لا يرفع التعلق بعموم الأول على رأي كثير من الأصوليين وإن كان فيهم من يخالف مخالفة لها وجه حسن.
وقد روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال:
"لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت".
ومثله قوله تعالى في قصة داود:
{فَاحْكُمْ بَيْنَ الناسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتبِعِ الهَوَىَ} الآية.
وقال تعالى:
{إنا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ هُدىً ونُورٌ} إلى قوله: {فَلاَ تخشُوا الناسَ واخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتي ثمَنَاَ قَلِيلاً}.
فأمر الحكام بهذه الخلال الثلاثة وأخذها عليهم.
أن لا يتبعوا الهوى.
وأن يخشوه ولا يخشوا الناس.
وأن لا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )(2/141)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء:59]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
2)…طاعة أولي الأمر
قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأَمْرِ منكم} آية [59].
يحتمل أن يراد به الفقهاء والعلماء.
ويحتمل أن يراد به الأمراء, وهو الأظهر, لما تقدم من ذكر العدل في قوله: {وإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.
وقوله: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فيِ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلىَ اللهِ والرَّسول}: يدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء, لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم, وأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله, وسنة نبيه عليه السلام, وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة.
وزعم قوم, أن المراد بأولي الأمر, علي والائمة المعصومين, ولو كان كذلك ما كان لقوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ والرَّسُولِ} معنى, بل قال ردوه إلى الإمام وإلى أولي الأمر, فإن قوله هذا هو المحكم على الكتاب والسنة عند هؤلاء, لأنه تعالى أمرهم بطاعة أولي الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يكن علي إماماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس هذا من أحكام القرآن المتعلقة بالفقه, وإنما بيان ذلك في أصول الإمامة.
ووجوب طاعة الرسول, ليس متلقى من أدلة الفقه، وإنما هو مدلول المعجزة فقط.
{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } [النساء:86]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التحية(2/142)
قوله تعالى:
{وإذَا حُييتُمْ بِتَحِيةٍ فَحَيوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية [86].
ذكر الرازي أن في هذه الآية دلالة أن من ملك غيره شيئاً بغير بدل فأراد الرجوع فيه, فله ذلك, ما لم يثبت منه, وإذا وهب لغير ذي رحم, فله الرجوع ما لم يثبت, ومتى أثبت فلا رجوع له فيها.
وهذا الإستنباط ركيك جداً, فإن في التحية ليس يرد تلك التحية, ولا إن ردها متصور, ولا أنه يمكن الرجوع فيها, وإنما قوله: {أَوْرُدُّوهَا} أي ردوا مثلها؛ فإن التحية في قضية العرف طلب الجواب فإذا لم يجب, كان إيحاشاً, وأما الهبة فإنها تبرع, فلو اقتضت عوضاً خرجت عن كونها تبرعاً, بل كان معاوضاً, وليس جواب التحية بأحسن منها, أو مثلاً مخرجاً للتحية عن موضعها.
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [النساء:88]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الهجرة
قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ في المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية: [88].
هؤلاء كانوا أسلموا بمكة ولم يهاجروا, وكانوا يعينون المشركين على المسلمين تقية وتحبباً إليهم.
قال الله تعالى: {فَلاَ تَتخِذُوا مِنْهُمْ أًوْلِيَاءَ حَتى يُهَاجِرُوا فيِ سَبِيِلِ اللهِ}.
يعني يسلموا ويهاجروا, لأن الهجرة تتبع الإسلام, وهو كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وِلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتى يُهَاجِرُوا} وكل ذلك كان حالة كانت الهجرة فرضاً.
وقال عليه السلام : "أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين، وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك, قيل: لم يا رسول الله؟ قال: لأبرأ آثارهما".
ثم نسخ فرض الهجرة.
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية, وإذا استنفرتم فانفروا".(2/143)
قال عليه السلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء:90]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {إلاَّ الذيِنَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ} الآية [90].
قال أبو عبيد: يصلون يعني ينسبون إليهم, والإنتساب يكون بالخلف تارة, وبالرحم والولاء, وجائز أن يدخل في عهدهم على حسب ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش في الموادعة, فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, ودخلت بنو كنانة في عهد قريش ثم نسخت العقود بقوله تعالى:
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين فَسِيحُوا فيِ الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إلى قوله: {ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}.
وقال: {إلاَّ الذيِنَ يَصِلُونَ إلىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}, أي لكم مثل ما لهم, فإذا عقد الإمام عقد هدنة مع قوم من الكفار, فكل من يدخل في خبرهم من مناسيبهم بالحلف والرحم والولاء, داخل في عهدهم.
نعم, نسخ العهد مع المشركين بإعزاز الله الدين, وأمر المسلمين, بأن لا يقبلوا منهم إلا السيف أو الإسلام, بقوله تعالى:
{فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم}.(2/144)
فنسخ به الصلح والهدنة, وتقريرهم على الكفر, وأمر المسلمين بقتالهم, حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, إن كانوا أهل كتاب, أو السيف أو الإسلام, إن لم يكونوا من أهل الكتاب.
فالمنسوخ ذلك العهد.. فإذا دعت حاجة الزمان إلى مهادنة الكفار من غير جزية يردونها إليه, فكل من انتسب إلى المعاهدين صار منهم واشتمل الأمان عليهم.
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:92]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القتل (الكفارة)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إلاَّ خَطَأً..} الآية [92].
معناه ما كان له ذلك في حكم الله تعالى.
واختلف الناس في معنى إلا, فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن, كأنه قال: لكن قد يقتله خطأ, فإذا قتله فحكمه كيت وكيت, والاستثناء المنقطع ذكروا له شواهد في أشعار العرب, مثل قول النابغة: إلا الأواري, وغيره, وقد شرحناه في أصول الفقه.(2/145)
وقال آخرون: هو استثناء صحيح, وفائدته أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال, وهو أن يرى عليه لبسة المشركين والإنحياز إليهم فيظنه مشركاً, وقتله في هذا الوقت على هذا الوجه جائز, كما روى الزهري عن عروة بن الزبير, أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو, وتحاملوا عليه بأسيافهم, فطفق حذيفة يقول:
إنه أبي, فلا يفهموا قوله حتى قتلوه, فقال عنه ذلك, يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين, وبلغت رسول الله صلىالله عليه وسلم, فزاد حذيفة عنده خيراً.
فأما قول من قال: إنه منقطع من كل وجه, وليس فيه معنى الاستثناء بوجه ما فهو بعيد, فإنه مكابرة النص, وإلا لا بد أن يتحقق معناه على بعض الوجوه, إما مجازاً وإما حقيقة, فأما إبطال وجه المجاز والحقيقة فتعطيل لا تأويل.
والذي ذكره من المعنى الثاني يقتضي أن يكون قتله مباحاً من جهة الله تعالى إذا ظنه مشركاً, وإذا ظنه مشركاً فهو يتعمد قتله ولا يراه خطأ, وإذا قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لمُؤمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إلاَّ خَطَأً} يقتضي أن يقال إنما يباح إذا وجد بشرط, وشرط الإباحة أن يكون خطأ, وإذا أبيح له على شرط, فلا بد وأن يعلم وجود الشرط حتى تصح الإباحة, ولا يتصور أن يعلم أنه خطأ, فإنه لو علمه خطأ علم التحريم, فدل أن القتل ليس مباحاً في هذه الحالة, فإنه لو كان مباحاً كان مباحاً على شرط, والشرط يجب أن يعلمه من أبيح له, ولأن من يجوز له دفعه عن نفسه, فكيف يكون مباحاً له؟ ودفعه جائز, والذي أباحه الله تعالى, هو الذي إذا علم المرء حقيقة الحال كان مباحاً, ويكون مباحاً لمصلحة في النفس, وقتل المسلم المعصوم ليس من مصلحة حال, فليس مباحاً إذن, فأقرب قول فيه أن يقال:(2/146)
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مَؤْمِنَاً}، إقتضى تأثيم قاتله لاقتضاء النهي عن ذلك, فقوله إلا خطأ دفع المأثم عن قاتله, فإنما دخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم, وأخرج منه قاتل الخطأ بالاستثناء, فالاستثناء مستعمل في حقيقة على هذا الوجه, فإنه يرجع إلى المأثم الذي هو يتضمن القتل.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنأ خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلمَةُ إلىَ أَهْلِهِ}.
ورأى العلماء إيجاب تحرير الرقبة المؤمنة, والإيمان معتبرها هنا, لا لأن ذكر الإيمان ينفي من طريق الفحوى غيره من حيث الإسم, ولكن مقاردير العبادات لا تعرف بالرأي والقياس, فليس يمكن أن يقال: إن الرقبة المؤمنة إذا حررت, فأي قدر يتعلق به من الثواب, وعلى أي درجة هو من القربة, وأن ذلك القدر هل هو مقدم إليه, أم يحصل الاجزاء بغيره مما دونه؟ فلما لم يتصور إحاطة ظن المستنبطين به, لا جرم وجب الإقتصار على المذكور, ومنع إلحاق ما دونه به.
ومعلوم أن اعتاق الكافر دون اعتاق المؤمن, فليس لنا أن نقيسه عليه, فيتعين اتباع مورد النص وموضع الإسم, وهذا حسن بين.
والذي قيل فيه، إن معناه: أنه عجز شخص بقتله عن طاعة الله تعالى, فتعين عليه تحرير رقبة مثله, معنى ضعيف, فإنما نشترط صفة الإيمان في اعتاق الرقبة عن المقتول الكافر, فلا حاصل لهذا المعنى, وهذا بين في منع قياس الكافر على المؤمن.
ولو ورد النص في تحرير المؤمن بقتل المؤمن, ما جاز لنا أن نقيس الكافر عليه, ولا جاز أن نقول إذا قتل عليه مسلم كافراً, فيجب عليه إعتاق المؤمن, بل أمكن أن يقال يجزى الكافر عن الكافر, ولكن الله تعالى نص عليه في قوله:
{وإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فَدِيَةٌ مُسَلمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.(2/147)
إلا أنه إذا ثبت ذلك, فيظهر منه أن اعتبار الظهار واليمين بالقتل في هذا الحكم من طريق القياس بعيد, فإن الكفارات وضعت على أوضاع مختلفة: مثلاً: التحرير في اليمين والظهار والقتل واحد, فوجب من كل واحد من هذا الأجناس, الرقبة على الصفة التي وجدت في الآخر من السلامة من العيب.
ثم الأصل أن يكون البدل قائماً مقام الأصل, ومع هذا جعل بدل الرقبة في اليمين صيام ثلاثة أيام, وجعل في القتل والظهار صيام شهرين متتابعين, وقياس التفاوت في البدل, وقد استوت أوصاف البدل في الكفارات كلها, وقد جعل الله تعالى صوم ستين يوماً معدلاً بإطعام ستين مسكيناً, وجعل في اليمين صيام ثلاثة أيام معدلاً بإطعام عشرة مساكين, فكيف يتأتى الاعتبار مع اختلاف هذه الأوضاع؟
وعند ذلك اعتمد الشافعي في اشتراط الإيمان في تحرير الرقبة في كفارة الظهار, على حديث الأمة الخرساء وهو مشهور, وإن كان في القياس وجه يمكن تمشيته.
وقد ذكرنا في كتب الخلاف, أن الله تعالى ذكر صيام الشهرين المتتابعين, ثم قال: {توْبةً مِنَ الله}, ولم يكن من الخاطىء ما يقتضي التوبة, وقد قال تعالى: {تَوْبةً مِنَ اللهِ}، مع أن التوبة حقيقتها الندم.
ويقال في الجواب عنه توبة من الله: أي عدم المؤاخذة في ترك التحفظ والتصون, مع إمكان عده من حملة الذنوب.
ثم قال تعالى: {وَدِيةٌ مُسَلمَةٌ إلى أَهْلِهِ}, فإنها في الآية إيجاب الدية مطلقاً, وليس فيه إيجابها على العاقلة أو على القاتل, وإنما أخذ ذلك من السنة, ولا شك أن إيجاب المساواة على العاقلة خلاف قياس الأصول من الغرامات وضمان المتلفات، والذي أوجب على العاقلة, لم يجب تغليظاً, ولا أن وزر القاتل عليهم, ولكنه مواساة محضة.(2/148)
واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة لازمة, وإنما هي إلى اختيار من في الديوان, وأما الناشىء من القرابة فيه لازم لا يزول, وما كل نصرة تعتبر, فإن الزوج ينصر زوجته ولا يتحمل عقلها, والمؤمنون ينصر بعضهم بعضاً, والأصل عدم التحمل إلا حيث أثبت التحمل وقد أثبت التحمل في نصرة الأقارب, فلا يجوز طرح وصف القرابة وإلغاؤها.
ثم اعلم أن الله تبارك وتعالى, أطلق الدية ولم يبين مقدارها, فلا نعلم مقدارها إلا من حيث بيان آخر, ولا يفهم من إيجاب أصل الدية إبانة التفاوت بين العمد والخطأ وشبه العمد, ولا بين الكافر والمسلم, ولا أصل المساواة, وإنما المساواة والتفاوت صفات وكيفيات, تعلم من بيان آخر, ولا نعلم منه التسوية بين الحر وغيره في مقدار الدية ولا التفاوت, فهذا بين يعرف بمبادىء النظر.
وقد غلط الرازي فيه من وجوه عدة, وعثر عثرات متتابعة وظن أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في قتل المعاهد: {وديةٌ مُسَلمةٌ إلى أَهْلِهِ} أن المراد به مثل دية المسلم في المقدار, ولم يعلم أن هذا الكلام لا تعلق له بالمقدار, فإنه لو اقتصر على ذكر دية المسلم, لم يفهم منه المقدار، وضم مثله إليه في المعاهد, كيف يكون بياناً للمقدار؟ وإذا قال القائل: من أتلف دماً فعليه ضمانه, ومن أتلف ثوباً فعليه ضمانه, ومن أتلف بهيمة فعليه ضمانها, لا يفهم منه المساواة في المقدار ولا التفاوت, وإنما ذلك معلوم من بيان آخر, وهذا لا ريب فيه.
نعم ذكر الله تعالى تحرير الرقبة في ثلاثة مواضع, ولم يذكر الدية في قوله: {فإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}, فاحتمل أن يقال الدية تجب وتكون لبيت المال, ولكن الله تعالى إنما ذكر في الموضعين الدية المسلمة إلى أهله, فإذا لم يكن له وارث مسلم ولنه مسلم, فإذا قتل فلا دية لأهله, فلم يذكر الدية لأهله لذلك.
وذكر ذاكرون تأويلاً آخر فقالوا قوله:(2/149)
{فإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍ لكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.
إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة, لأنه من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة, قال الله تعالى:
{والذيِنَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ ولاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتى يُهَاجِرُوا}.
فلم يكن لمن لم يهاجر ورثة من المسلمين يستحقون ميراثه, فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله:
{وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ}.
والشافعي رضي الله عنه يقول: إذا قتل مسلماً في دار الحرب في الغارة والحرب, أو في دار السلام إلا أنه في الحرب والغارة, فعليه كفارة ولا دية في ظاهر المذهب.
ولا شك أن ذلك بعيد عن قياس الأصول, لأن الجهل بصفة الشيء لا يسقط ضمانه إذا كان مضموناً, ومن أجله صار صائرون إلى وجوب الضمان, وذكروا أن السكوت عن ذكر الضمان لا يسقط الضمان, فإن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنَاً خَطَأً}, يتناول كل مؤمن لبيان أنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله, فإن أهله كفار, فأراد أن يتبين به أن أهله لا يستحقون من ديته شيئاً, وأنه ليس لأهله أن يصدقوا فإنه لا حق لهم في ديته.
وهذا بين ليكون جمعاً بين دلالة السكوت ودلالة العموم.
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القتل
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِدَاً فَجَزَاؤهُ جَهَنَمُ خَالِدَا فيها}.
ظن أصحاب أبي حنيفة, أن الله تعالى نص على حكم الخطأ، وأوجب التحرير فيه في ثلاثة مواضع, ثم قال من بعدها من غير فصل: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنَاً مُتَعَمِدَاً فَجزَاؤُهُ جَهنَمُ}, فإيجاب الكفارة فيها خلاف الظاهر.(2/150)
والجواب عنه: أن الله تعالى ذكر في الخطأ تمام ما أوجب فيه, ثم أبان للعمد مزية على الخطأ وذكر تلك المزية, وذلك لا ينفي إيجاب فيه, وجب في الخطأ, كما لا ينفي إيجاب الدية وإن وجبت في الخطأ, وإنما أوجب الله تعالى الكفارة في الخطأ, تعظيماً لأمر الدم في مقابلته بالكفارة, وشرع في العمد مزية, فلا ينبغي أن تكون المزية مسقطه ما قد وجب في الخطأ, ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: إذا وجبت الكفارة في الخطأ, فلأن تجب في العمد أولى.
وقال إذا شرع السجود في السهو, فلأن يشرع في العمد أولى.
وقد قال تعالى في الخطأ {تَوْبَةً مِنَ اللهِ}، معناه أنه إنما أوجبه الله عليكم ليتقبل الله توبتكم فيما أنتم منسوبون به إلى التقصير.
وقيل: معنى التوبة التوسعة, وهي توسعة من الله ورحمة, كما قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُم}.
وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلىَ النبيِ والمُهاجِرِينَ}: أي وسع الله على النبي والمهاجرين والأنصار وخفف عنهم: فهذا تمام البيان في هذه الآية.
قول الله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}: ومعلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان, فالحيض لا يقطع التتابع في صوم الشهرين، وليس إذا انقطع التتابع لمدى لا يمكن الإحتراز عنه ما دل على أنه ينقطع, لما لا يمكن الإحتراز منه.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء:94]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القتل
2)…الزنديق
قوله عز وجل:(2/151)
{يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبيِلِ اللهِ فَتَبَينوا وَلاََ تَقُولُوا لَمن أَلْقَى إلَيْكُم السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً} الآية [94].
روي أن سبب نزول الآية, أن سرية للنبي صلى الله عليه وسلم, لقيت رجلاً ومعه غنيمات له, فقال:
السلام عليكم, لا إله إلا الله, محمد رسول الله, فقتله رجل من القوم, فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:
لم قتلته وقد أسلم؟
فقال: إنما قالها متعوذاً.
فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وحمل رسول الله صلىالله عليه وسلم دينه إلى أهله ورد عليهم غنيماته.
وهذا مما يحتج في قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام, لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام.
ومقتضى الطلاق, أن من قال لا إله إلا الله, محمد رسول الله, أو قال إني مسلم, يحكم له بحكم الإسلام, لأن قوله تعالى:
{لمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً}، إنما معناه لمن استسلم, فأظهر الإنقياد لما دعى إليه من الإسلام, فإذا قرىء السلام وهو إظهار تحية الإسلام, فلا جرم قال علماؤنا:
إنما نحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي سائر اعتقاده, فإذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم لم يصر مسلماً, لأنهم كلهم يقولون نحن مسلمون, فهو كما قال أنا على الدين الحق.
نعم, المشركون قالوا: لا نقول نحن مسلمون, فحالهم في هذا خلاف حال اليهود والنصارى, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وإنما عنى به المشركين, لأن اليهود والنصارى يطلقون قول لا إله إلا الله ولا يتمانعون منه, وإن لزمهم الشرك في التفصيل.
فقول: لا إله إلا الله, إنما كان على إسلام مشركي العرب, لأنهم كانوا لا يعترفون به إلا استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم, وقد بين الله تعالى ذلك فقال:(2/152)
{إنهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهَ يَسْتَكْبِرُون}.
واليهود والنصارى يوافقون على إطلاق هذه الكلمة, وإنما يخالفون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, فمتى أظهر مظهر منهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم, فهو مسلم, حتى قال قائلون من أصحابنا: وإن هو قال محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحكم بإسلامه, لإمكان أن يكون من العيسوية, حتى يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكافة.
وقال قائلون: ولا بذلك أيضاً يصير مسلماً, لأن فيهم من يقول محمد رسول الله إلى كافة الناس, ولكنه سيبعث وما بعث بعد.
وإذا تبين ذلك, فما لم يقل أنا بريء من اليهودية والنصرانية, لا يصير مسلماً.
ومن أجل هذه الإعتبارات والشرائط, صار من صار إلى أن توبة الزنديق لا تقبل, لأنا لم نعرف في حقه علماً يظهر به مخالفة مقتضى اعتقاده, لأن دينه الذي يعتقده أن يدخل مع كل قوم فيما يهوونه, وأن كل دين على اختلاف الأديان كلها ينجر باطنه إلى المخازي التي يعتقدونها, فلم يظهر لنا منه ما يخالف مقتضى اعتقاده, فكان كاليهودي إذا قال لا إله إلا الله.
وهذا دقيق حسن, وقد شرحنا هذه المسألة من الأصول ومسائل الخلاف.
واعلم أن في الآية إشكالاً, من حيث إن الله تعالى قال:
{إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلاَ تَقُولُوا لَمنْ أَلْقَى إليكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً}.
1)…الإيمان والكفر
قوله تعالى: {إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلاَ تَقُولُوا لَمنْ أَلْقَى إليكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً}. الآية [94].(2/153)
وذلك يمنع جزم الحكم بإسلامه, والتشكك من أمره, من غير أن يحكم له بالكفر ولا الإيمان, كالذي يخبر بالخبر ولا يعلم صدقة من كذبه, فلا يجوز لنا تكذيبه, وليس ترك تكذيبه مما يقتضي تصديقه, كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية: ليس فيه إثبات الإيمان ولا الكفر إنما فيه الأمر بالتثبت حتى يتبين حاله, إلا أن الآثار التي ذكرناها قد أوجبت الحكم بإسلامه, فإنه عليه السلام قال: أقتلت مسلماً؟ أو قتلته بعد ما أسلم.
وفيه أيضاً سرٌّ آخر, وهو أنا ربما نقول إنا لا نعلم إسلامه الذي هو إسلام حقيقة عند الله تعالى, وربما غلب على ظننا كذبه, ولكن تجرى عليه أحكام الإسلام.
{ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } [النساء:95]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضرَرِ} الآية [95].
يدل على أن كثرة الجزاء على قدر شرف العمل, وأن الذي لا يجاهد لا يثاب ثواب المجاهدين, إلا أن يعلم الله تعالى من نيته أنه لو كان الجهاد لجاهد, فإنه يستحق الأجر على قدر نيته, لقوله تعالى: {غَيْرُ أُولي الضرَرِ}.
وفيه رد على المعتزلة, لأنهم يمنعون التسوية بين أولي الضرر والمجاهد على فاسد أصولهم, ونص القرآن يبطل قولهم.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )(2/154)
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [النساء:101]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
2)…الجهاد
قوله تعالى: {وإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الذِينَ كَفَرُوا} الآية [101].
فأباح القصر بشرطين: الضرب في الأرض, والخوف.
وظن ظانون أن المراد بالقصر هاهنا، القصر في صفة الصلاة, بترك الركوع والسجود إلى الايماء, وترك القيام إلى الركوب.
والرازي اختار هذا وقال: الذي حمله على أن القصر عزيمة عندهم, وأن فريضة الصلاة في حق المسافر ما نزلت إلا ركعتين فلا قصر, ولا يقال في العزيمة لا جناح, ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر, كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك, فلا جرم اختار الأول.
واحتج عليه بأن الله تعالى قيد القصر بشرطين, والذي يعتبر فيه الشرطان إنما هو صلاة الخوف.
والذي ذكره فاسد من وجهين:
أحدهما: أن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان, فأنه لو لم يضرب في الأرض, ولم يوجد السفر, بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا, فتجوز صلاة الخوف, فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله.
فإن حملنا على قصر الصفة, لم يشترط فيه الضرب في الأرض.
وإن حملنا على قصر الركعات, لم يعتبر فيه الخوف فسقط ترجيحه أحد الحملين على الآخر, باعتبار الشرطين فيه.
الثاني: أن في الأخبار ما يدل على أن المراد بكتاب الله تعالى ما قلناه, وهو ما روي عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف نقصر وقد أَمِنّا؟ وقال الله تعالى:(2/155)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جنَاحٌ أَنْ تَقْصرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتمْ} الآية, فقال: عجبت مما عجبت, فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".
وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نقصر وقد أمنّا؟ دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات, ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلاً يساوي الذكر.
وإذا قالوا لم يشرع الله في السفر إلا ركعتين, فليست الأربعة مشروعة, وإذا لم تكن الأربعة مشروعة ما دام السفر, فلم صح الاقتداء بالمقيم, وإذا اقتدي به, فلم لزمته الأربع؟ وقد قالوا: لو اقتدى به في التشهد لزمهُ الأربع, ومالك يشترط إدراك ركعة.
فإن قيل لنا: وعندكم, لم لزمته الأربع؟
قيل: إن نوى الأربع, فليلزمه الأربع, وإن لم ينو فلا, فهو صحيح على أصلنا.
فأما عندهم فاختلاف الصلاتين يمنع القدوة, وهذا بيّن.
ولا فرق بين سفر الحج والغزو, وسفر التجارة.
وابن مسعود يقول: لا نقصر إلا في حج أو جهاد.
وعطاء يقول: لا أرى القصر إلا في سبيل من سبل الله عز وجل.
وقول الله تعالى: {وإذَا ضَرَبْتُمْ فيِ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} يعم كل سفر.
وقال مالك: إذا خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها, أو خرج لمشاهدة بلده متنزهاً ومتلذذاً، لم يقصر.
وقال الشافعي رضي الله عنه: لا قصر في سفر المعصية.
وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة.
وقوله {ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ} مطلق, وقوله: يمسح المسافر ثلاثة أيام مطلق, غير أن الإطلاق يقيد بالمعنى المهفوم من الرخص.
ولعل أبا حنيفة يرى القصر عزيمة فيقول: صلاة غير المقيم لم تشرع إلا كذلك, فإذا لم تشرع في غير حالة الإقامة إلا كذلك, لم تكن شرعت لإعانته على ما هو بصدده.
إلا أن هذا الكلام باطل بالوجوه التي قدمناها.(2/156)
والإشكال أنه ليس في كتاب الله تعالى تقييد المدة, ويعتبر في السفر مسيرة ثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخاً, على ما اختلف العلماء وبينا سببه فيما تقدم فلا نعيده.
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء:102]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ وَخُذوا حِذْركم} الآية [102]:
فيه إباحة وضع السلاح، لما فيه من المشقة اللاصقة به في حمل السلاح في حالة المرض والوحل والطين، فيجوز أن يؤخذ منه أن من توحل ووقع في الطين وضاق عليه وقت الصلاة، فيجوز له أن يصلي بالإيماء، كما يجوز له في حالة المرض إذا لم يمكنه السجود، لأن الله تعالى سوى بين المرض والمطر.
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وإذَا كُنْتَ فيهمْ فَأقمْتَ لهُمُ الصَّلاةَ} الآية [102].(2/157)
مذهب الشافعي رضي الله عنه في صلاة الخوف, أن العدو إذا كان في غير وجه القبلة, جعل الإمام القوم صفين, وصلى بطائفة ركعة, وطائفة وجاه العدو, فإذا سجد سجدوا معه، وإذا قام قاموا معه ونووا مفارقته، وأتموا الصلاة لأنفسهم, وأطال الإمام القيام حتى تحصر الطائفة الأخرى بعد انصراف الطائفة الأولى إلى وجاه, وصلى الإمام بالطائفة الأخرى ركعة وتشهد وسلم, وقضى القوم بقية صلاتهم.
وإن كان العدو في جهة القبلة, أحرم بهم جميعاً وحرسه صف وسجد مع القيام صف, وباقي الصلاة على ما تقدم.
والفرق بين كون العدو في جهة القبلة, وكونه في جهة أخرى, أن العدو إذا كان في غير جهة القبلة, فإنما يحرم بطائفة واحدة, وإذا كانوا في جهة واحدة أحرم بهم.
وللناس اختلافات كثيرة في صلاة الخوف, وأبو حنيفة من بينهم يقول: يركع الإمام ويسجد وينصرفون وهم في الصلاة, ويجيء القوم الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم ينصرفون, ويجيء الأولون فيقضون بقية صلاتهم.
فأثبتوا ترددات كثيرة في الصلاة من غير حاجة, والله تعالى يقول:
{وإذَا كُنْتَ فيهمْ فَأقمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَليْأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} الآية [102].
فظن أن السجود يجري على حقيقته.
ولكن لما لم يقل إنهم ينصرفون كرة أخرى, حمل الشافعي قوله: فإذا سجدتم يعني فإذا صليتم, فالذي ذكره الشافعي رضي الله عنه, ليس فيه إلا أن المأموم يقطع نية القدرة, وذلك نية بعد.
وعلى ما قاله أبو حنيفة تجري ترددات في خلال الصلاة, وهي خارقة نظام الصلاة من غير حاجة, ومعلوم أن قطع نية القدوة أمثل من احتمال ترددات لا لحاجة في خلال الصلاة.(2/158)
وأبو حنيفة قد قال في الذي سبقه الحدث, إنه يتردد وصلاته صحيحة, وذلك أيضاً خلاف الأصول, فلا جرم قال أبو يوسف: الذي كان من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف, لا يجوز مثله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنما كان مختصاً به لئلا يفوت الناس الجماعة معه, لأنه رأى أشياء تخرم نظام الصلاة, فأما نحن, فلا يحتمل ما يخالف نظام الصلاة, وإنما قصارى ما يفعله المأموم قطع نية القدوة فقط, وذلك غير ممنوع شرعاً.
وإذا كان الخوف أشج من ذلك, وكان التحام القتال, فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مسستقبلي القبلة ومستدبريها, وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه, بل يرخرون الصلاة, وإن قاتلوا في الصلاة قالوا فدت الصلاة.
وحكي عن الشافعي رضي الله عنه: إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته.
وليس في القرآن تعرض لذلك على الخصوص, وإنما فيه:
"فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة".
وهم يحملون ذلك على قصر الأوصاف, وقصر الأوصاف عند الخوف, يشتمل على حالة التحام القتال.
نعم, صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, صلى صلاة الخوف في مواضع, على اختلاف في الصفات, ولم يصلِّ يوم الخندق أربع صلوات حتى مضى هوى من الليل ثم قال:
"ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى".
فقضاهن على الترتيب, ولم يكن مشتغلاً بالقتال حالة الحفر, ولا كان الكفار ثم, وإنما كانوا يستعدون لهم, والدليل على أنه لم يجر قتال إلا مناوشة في طرف مع بعضهم, وقوله تعالى:
{وكفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ}.
وذلك يدل على أنه لم يجر قتال, فعلم أن ذلك كان مخصوصاً منسوخاً, ويعلم ضرورة أن الأفعال في القتال, مثل الأفعال من المشي والحركات ثم الجيئة والذهاب في خلال صلاة الخوف عندهم لا تنافي صحة الصلاة على ما هو مذهبهم, فالقتال من أي وجه كان منافياً.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )(2/159)
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [النساء:103]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {فإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقعوداً} الآية [103].
واعلم أن الله تعالى ذكر لفظ الذكر في غير هذا الموضع، وأراد به الصلاة في قوله تعالى:
{الّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وعلىَ جُنُوبهم}.
فروي أن عبدالله بن مسعود، رأى الناس يضجون في المسجد فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: أليس الله تعالى يقول: اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم؟ قال: إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة، إن لم تستطع قائماً فقاعداً، وإلا فعلى جنبك.
وقال الحسن في قوله تعالى: {الّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وَعَلىَ جُنُوبهِمْ}.
هذه رخصة من الله تعالى للمريض أن يصلي قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه.
والمراد نفس الصلاة، لأن الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة، فسماها الله تعالى ذكراً لذلك، وسماها ركوعاً، وكل ذلك تعبير عن الصلاة بما تشتمل عليه الصلاة.
فأما الذكر الذي في قوله عز وجل: {فإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ} فيحتمل أن يكون معناه ذكر الله تعالى بالقلب وباللسان وهو الظاهر، فإنه تعالى ذكر ذلك بعد الفراغ من الصلاة، فقال: {فإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ}.
وقوله تعالى: {فإذَا اطْمَأنَنْتُم}، معناه فإذا رجعتم إلى أوطانكم، فعودوا إلى إتمام الصلاة ودعوا القصر، فإنه زال الخوف والسفر، فارجعوا إلى إتمام الأركان إن كان القصر قصراً في الأوصاف.(2/160)
قال الله تعالى: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمنينَ كتَاباً مَوْقُوتاً}.
قال عبدالله بن مسعود: موقوت: منجم، كلما مضى نجم دخل نجم آخر، وقال زيد بن أسلم مثل ذلك، فنزلت الآية على أن الصلاة مفروضة في أوقات معلومة على نوب مضبوطة، غير أن هذه دلالة حملية، وأشار إلى تفاصيلها في مواضع أخر من كتابه، من غير تحديد أوائلها وأواخرها، وبين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مقاديرها فيما ذكره الله تعالى في الكتاب في أوقات الصلوات، فمن جملة تلك الآيات.
قوله تعالى: {أَقمْ الصَّلاَةَ لدُلُوكِ الشّمْسِ إلىَ غَسَقِ اللّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ}.
وروي عن ابن عباس أنه قال:
دلوك الشمس، زوالها عن بطن السماء لصلاة الظهر، إلى غسق الليل، وهو صلاة المغرب.
وروي عن ابن عمر مثل ذلك في دلوكها أنه زوالها.
وقال ابن مسعود: دلوكها: زوالها.
وروي عنه وعن ابن عباس في رواية أخرى، أن دلوكها غروبها.
واللفظ يحتمل المعنيين.
والدلوك في الأصل الميل، فدلوك الشمس ميلها، وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب، فقال الرازي:
إذا عنى بالدلوك أول الوقت، وغسق الليل نهايته، لأنه تعالى قال: إلى غسق الليل وإلى غاية.
ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل، لأن بينهما وقت العصر، فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك هاهنا هو الغروب، وغسق الليل اجتماع الظلمة، لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهايته.
والإعتراض على ما ذكر أن يقال:(2/161)
إنه لو كان على ما ذكره، ما كان في كتاب الله إشارة إلى صلاة الظهر والعصر، والظهر أول ما نزل من الصلوات، والعصر الصلاة الوسطى عند الأكثرين، فكيف يجوز أن لا يقع التعرض لهما، ويقع التعرض لصلاة الليل أولاً إلى صلاة الفجر ويغفل صلاتي النهار مع أن الميل في الشمس غير غروب الشمس، فإن الشمس تميل قبل أن تغرب، فلا يقال: مالت الشمس بمعنى غربت، إلا أن يقال: مالت للغروب، فإنه يقال للشمس وقت الظهر: إنها مائلة، ولا يقال لها بعدما غربت مائلة.
يبقى أن يقال: إن الله تعالى قال: {إلَى غَسَقِ اللّيلِ}، ولا يتصل أول الظهر بغسق الليل، فيقال: ليس كذلك، فإن ما بين زوال الشمس المعبر عنه بالدلوك، إلى غسق الليل، وقت لصلوات عدة وهي الظهر، والعصر، والمغرب، فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل، لا يخرج أن يكون وقتاً لصلاة، فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب، فأبان الله تعالى أن بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت لصلوات عدة، فيدخل فيها الظهر والعصر والمغرب، ويحتمل أن يدخل فيه العتمة أيضاً، لأن الغاية قد تدخل في الحكم، كقوله: {وأَيْدِيَكُمْ إلىَ المَرَافقِ}, وقوله: {حَتّى تَغْتَسَلُوا}, والغسل داخل في شرط الإباحة.
وإذا حمل الدلوك على الزوال, إشتملت الآية على خمس صلوات, فالأربعة من الزوال إلى غسق الليل, والخامسة قرآن الفجر.
ولما كان بين الصبح والظهر وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة, أبان الله تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتاً للصلاة مفعولة فيه.
وأفرد الفرد بالذكر, إذ كان بينه وبين الصلوات المفروضة وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة, وقال تعالى في بيان المواقيت أيضاً على نحو ما سلف.
{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ}.
وروي عن عمر وعن الحسن في قوله طرفي النهار.
الصبح والظهر والعصر.
وزلفاً من الليل: المغرب والعشاء.
فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس.(2/162)
وروى يونس عن الحسن: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ} قال: المغرب والعشاء.
فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس.
وعن الحسن في رواية: أقم الصلاة طرفي النهار, قال: هو الفجر والعصر.
وعن ابن عباس: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة.
{فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُون}: المغرب والعشاء, {وحِينَ تُصْبِحُون}: الفجر, {وَعَشِيّاَ}: العصر, {وحِينَ تُظْهِرُون}, الظهر.
وعن الحسن مثله.
وعن ابن عباس: {وَسَبِّحْ بحَمْدِ رّبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقبْلَ غُرُوبها وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النّهارِ لَعّلكَ تَرْضَى}.
قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فيِ ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ}: تحريض على الجهاد, ونهي عن الونا والضعف.
وذكر العلة فيه فقال: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} أي إن الألم الذي ينالكم محتمل في مقابلة عظيم الثواب عند الله تعالى, ذلك ليعلم أن المشاق في التكاليف محتملة, لما يرجى فيها من ثواب الله تعالى.
{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [النساء:105]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء
قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً}.
سبب نزولها مذكور في التفاسير، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد، إلا بعد أن يعلم أنه محق.
قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بمَا أَرَاكَ اللهُ}، يحتمل الوحي والإجتهاد جميعاً، وفيه دليل على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يجب الحكم عليه بها، لأن الله تعالى نفى الحكم عن اليهودي بوجود السرقة عنده، إذ كان جائزاً أن يكون هو الآخذ، وذلك مذكور في التفاسير.(2/163)
وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام، حين جعل الصاع في رجل أخيه، ثم أخذ الصاع، واحتبسه عنده، فإنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز، وكانوا يسترقون السارق، فاحتبسه عنده، وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولا يسترقه، ولا قال إنه سارق، وإنما قال ذلك رجل عنده ظنه سارقاً.
وقد نهى الله تعالى عن الحكم بالظن والهوى، بقوله تعالى: {اجتنبوا كَثِيراً مِنَ الظّنِّ إنَّ بَعْضَ الظّنِّ إثْمٌ}.
وقال عليه السلام: "إياكم والظن فإنه أكذب الحديث".
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء:115]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإجماع
2)…الأتّباع
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ منْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى}، زيادة تغليظ في الزجر عنه، وتقبيح حاله، وتبين للوعيد فيه، إذا كان معانداً بعد ظهور الآيات الدالة على صدق الرسول عليه السلام.
وقرن اتباع سبيل المؤمنين بمعاينة رسول الله فيما ذكر من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة على ما قررناه في تصانيفنا في الأصول، وبينا ما يرد عليه من الإعتراض ومنع الاحتجاج.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [النساء:119]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…تغير خلق الله
قوله تعالى: {فَلْيُبتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنّهُمْ فليُغيرُنَّ خَلْقَ اللهِ}.
فيه ثلاثة أوجه:(2/164)
أحدها: عن ابن عباس رواية: "فليغيرن خلق الله", أي يغيرن دين الله بتحريم الحلال, وتحليل الحرام, ومثله قوله تعالى:
{لاَ تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذَلكَ الدِّينُ القَيِّمُ}.
وروي عن ابن عباس وأنس أنه الخصاء.
وروي عن الحسن أنه الوشم.
وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً بإخصاء الدابة.
وعن طاووس وعروة مثله.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء:125]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
قوله {واتّبَعَ ملّةَ إبْرَاهيمَ حَنِيفاَ}.
ظاهر في وجوب اتباع ملة إبراهيم، إذا لم يظهر لنا ناسخ من شرعنا، وفيه دليل على أنه ليس للعباد تحريم ما أحله الله تعالى باليمين.
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } [النساء:127]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء
قوله تعالى: {ويَسْتَفْتُونَكَ فيِ النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فيهِنَّ} الآية، وقد ذكرنا معناها.
الأحكام الواردة في سورة ( النساء )
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء:128](2/165)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
2)…الطلاق
قوله تعالى: {وإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا}, فأباح الله تعالى الصلح, فروي عن علي وابن عباس, أنهما أجازا لهما أن يصلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها, أن يجعلها لغيرها.
وقال عمر: ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: حسبت سودة أن يطلقها رسول الله فقالت: يا رسول الله, لا تطلقني وأمسكني واجعل النوبة لعائشة ففعل, فنزلت هذه الآية.
ونزلت أيضاً في المرأة تكون عند الرجل, فيزيد طلاقها ويتزوج غيرها, فتقول أمسكني ولا تطلقني, ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسم, فذلك قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} - إلى قوله - {والصُّلْحُ خَيْرٌ}.
فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء, إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب القسم لها بالكون عندها, إذا لم يكن عنده إلا واحدة.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [المائدة:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (العقود)
2)…الأيمان والنذور
3)…الصيد
4)…الذبائح
5)…الحج
قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود} الآية [1]:
اعلم أن العقود في الشرع منقسمة إلى ما يجب الوفاء به، وإلى ما لا يجب، وإلى ما لا يجوز.
فأما ما لا يجوز مثل عقود الجاهلية على النصرة على الباطل في قولهم: دمي دمك، ولا مالي مالك، وأنا أجبرك، فيعاهده على أن ينصره على الباطل، ويمنع حفاً توجه عليه، فهذا لا يجب الوفاء به.(2/166)
والوجه الآخر: ما يتخير في الوفاء به.
والوجه الثالث: ما يجب الوفاء به، والذي يجب الوفاء به، هو الذي يتضمن تحقيق حق أوْجب اله تعالى الوفاء به.
فإذا انقسمت العقود إلى باطل وصحيح، فربما يقول القائل: الأصل اتباع الشروط والعقود، نظراً إلى مطلق اللفظ، والقائل الآخر يقول: إنما يجب علينا اتباع عقود شرعية ورد الشرع بها، ولذلك قال عليه السلام: "ما بال أقوام يشترطون ما ليس في كتاب الله تعالى؟ كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل".
ولا شك أن الذي ورد الشرع به محصور مضبوط، والذي يمكن اشتراطه مما يهجس في النفس، فمما لا نهاية له، فلا يمكن أن يقال إن الأصل وجوب الوفاء بكل ما يهجس في النفس، فيعقد عليه، بل الشرع ضبط لنا ما يجب الوفاء به، والباقي مردود، فهو كقول القائل: إفعلوا الخير، لا يجوز أن يحتج به في وجوب كل خير، فإن ما لا يجب فعله من الخيرات لا نهاية له، فالمخصوص مجهول على ذلك، وكذلك المخصوص من الشروط، فإن الباطل من الشروط لا نهاية له، وإنما الجائز منها محصور، فعلى هذا لا يجوز التعلق بعموم قوله عليه السلام:
"المؤمنون عند شروطهم".
ولا بمطلق قوله:
{أوفوا بالعقود}.
فهذا هو المختار فيه.
والذي هو عقد أو يسمى عقداً، ينقسم إلى ما كان على المستقبل, وإلى ما كان على الماضي.
أما ما على المستقبل: مثل قول القائل: والله لأفعلن.
وأما على الماضي: كقول القائل: والله لقد كان كذا، ويقال في مثله: إنه عقد اليمين عليه، لا على معنى أنه عزم على فعل شيء، فإن اليمين يعقد على فعل الغير من غير أن يصح العزم عليه، وإنما معناه أنه يظهر المحلوف عليه، ويحيل إلى غيره تحقيقه، فينظر ما يكون من عاقبة يمينه، وفي الماضي إظهار الصدق قائم، وقصد تحقيق القول قائم، فيقال عقد اليمين، أي قصد تحقيق قوله وتصديق نفسه، فهو عقد من هذا الوجه.
يبقى أن يقال هو في علم الله تعالى غير منعقد.(2/167)
فيقال هو في علم الله تعالى، وإن لم يقصد تحقيق ما حلف لعلمه به، ففي المستقبل ربما لا يتصور منه العقد، ولكن يحيل العقد، وربما ظن الصدق في الماضي، فيقصد تحقيق قوله بعقد اليمين، فسمي عقداً من هذا الوجه.
واعلم أنه قد تبين بما قدمناه، أن كل عهد وعقد لا يجب الوفاء به، فمطلق قوله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، محمول على القيد في قوله:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
وإنما عنى به العقد مع الله سبحانه فيما أمر الله تعالى عباده بالوفاء به وإلا فكل يمين على منع النفس من مباح أو واجب، فذلك مما لا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير".
نعم، إختلف أصحاب الشافعي فيما إذا نذر قربة من غير أن يستنجح بها طلبة، أو يستدفع بها بلية.
فمنهم من أوجب لأنها داخلة تحت قوله تعالى: {وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ}.
ومنهم من لم ير ذلك، لأنه ليس إلى العباد إيجاب ما لم يوجبه الله تعالى عليهم، فإن الذي وجب، إنما وجب لعلم الشرع أنه داعي إلى المستحسنات العقلية، وناهي عن المستقبحات العقلية، ولا يجوز ذلك فيما يوجبه العبد على نفسه.
والقول الآخر يقول: إن العبد إذا باشر السبب الموجب، أوجبه الله تعالى عليه، فيكون من العبد مباشرة السبب الوحيد، وكون السبب موجباً عرف بالشرع، فوجب بإيجاب الشرع، لا بغيره، وهذا بيّن.
ولعل الأظهر اندراج ذلك تحت العموم، ولا خلاف أن المباح نذره لا يوجب شيئاً، لأنه لا يتوهم كونه داعياً إلى المستحسنات العقلية، ولا أن له في الوجوب أصلاً يتوهم، كون هذا داخلاً تحته، وهذا بيّن لا غبار عليه.
ولما حلف الصديق على ما كان فعله خيراً من تركه، قيل له:
{وَلاَ يأتَلِ أوُلُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى}.(2/168)
فحنث الصديق عن نفسه، وكفر عن يمينه.
قوله تعالى: {أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} الآية [1]:
قيل في الأنعام: إنها الإبل والبقر والغنم، وقيل يقع الانعام على هذه الأصناف الثلاثة، وعلى الظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه أحد من يعمه الوطء.
والذي يدل على تناوله للجميع، استثناؤه الصيد منها، بقوله في نسق الآية: {غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
ويدل على أن الحافر ليس داخلاً في الأنعام قوله تعالى:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
ثم عطف عليه قوله تعالى: {وَالخَيْلَ والبِغَالَ والحَمِيرَ}.
فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام، دل على ذلك على أنها ليست منها.
وذكر ذاكرون دقيقة فقالوا:
لما قال تعالى: {يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقودِ}، أذن ذلك بأن الإباحة مجازاة على الوفاء بالعقود، فإن الكفار محظور عليهم ذبح البهائم، فإن ذبح البهائم إنما عرفت إباحته بالسمع، والسمع إنما عرف بنبوته صلى الله عليه وسلم، فإذا تثبت ذلك، فلا يباح ذبح البهائم للكفار، وإن كانوا أهل الكتاب، وهذا بعيد.
فإنه لو لم يكن مباحاً لهم، لما جاز للمسلمين تناول ذبائحهم.
ويمكن أن يجاب عنه بأنه محرم أن يذبحوا، ولكن إذا ذبحوا على تسمية الكتاب حل للمسلم.
وبالجملة، هذا طريق المعتزلة.
وعندنا لا يحرم قبل السمع شيء، ولا يحل أيضاً، فإن الحكم حكم الله تعالى، فلا تعلق له بما تقدم على هذا الطريق، فاعلمه.
قوله تعالى: {إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ}.
يحتمل أن يكون فيما قد حصل تحريمه قبل ذلك، فالباقي على الإباحة؟ إلا ما خصه الدليل، فيكون عاماً محتجاً به.(2/169)
ويحتمل أن يكون المراد بقوله {إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ}: إلا ما يريد أن يحرمه، فيكون مؤذناً بورود بيان من بعد، إلا أن ذلك لا يقتضي التخصيص، ولا يتحقق فيه معنى الاستثناء، إذا لم يكن محرماً في الحال.
ويحتمل أن يريد به إلا ما قد حرم عليكم مطلقاً، وسيرد بيانه.
فعلى هذا يكون القدر المخصوص منه مجملاً لجهالة المخصوص.
أو يجوز أن يكون الكل قد ورد دفعة واحدة, فيذكر الكلام مطلقاً إلا ما سيرد تفصيله، ويسوق الكلام إلى غايته، ويكون ذلك كمطلق يعقبه خصوص، ويسوق الكلام إلى آخره.
نعم، قوله {إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ}، لا يتناول محل الصيد، فإنه لو استثنى ذلك سقط حكم الاستثناء الثماني، وهو قوله {غَيْرَ مُحِلّي الصَّيْدِ}, وصار بمثابة قوله {إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ}، وهو تحريم الصيد على المحرم، وذلك تعسف في التأويل، ويوجب ذلك أيضاً أن يكون الاستثناء من إباحة الأنعام مقصوراً على الصيد، وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثنى من الاباحة، فهذا تأويل لا وجه له.
وقوله {غَيْرَ مُحِلّي الصَّيْدِ}، لا يخلو إما أن يكون مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله تعالى: {إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} إلا محلي الصيد وأنتم حرم، فلو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور، إن كان قوله تعالى {إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} سوى الصيد مما قدمناه، ويستثنى تحريمه في الثاني، وأن يكون معناه: أوفوا غير محلي الصيد، وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.(2/170)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
2)…الحج
3)…الصيد
قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَحِلوا شَعَائرَ اللهِ} الآية [2]: روي عن ابن عباس أنها مناسك الحج، فعلى هذا تشتمل على الصفا والمروة والبدن وغيرها.
وقيل معالم الله تعالى وأحكامه: شعائره، فإن شعائره مأخوذة من الأعلام، ومنه مشاعر البدن وهي الحواس، وهي أيضاً المواضع التي أشعرت بالعلامات, ومنه قول القائل: شعرت به: أي علمته, لا يشعرون: أي لا يعلمون، ومنه الشاعر، لأنه شعر بفطنته بما لا يشعر به غيره، فالشعائر العلامات.
فقوله تعالى: {لاَ تُحِلوا شَعَائِرَ اللهِ}, إشتمل على جميع معالم دين الله، وهو ما أعلمنا الله تعالى من فرائض دينه وعلاماتها أن لا تتجاوز واحدة ولا تقصر فيما دونها، وهذا أشمل التأويلات.
والهدي: ما يتقرب به من الذبائح والصدقات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "المبكر للجمعة كالمهدى بدنه.."، إلى أن قال - "كالمهدى بيضة ".
فسماها هدياً، فتسمية البيضة هدياً - لا محمل له، إلا أنه أراد بالهدي الصدقة، ولذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هدياً، فعليه أن يتصدق به.(2/171)
إلا أن الإطلاق ينصرف إلى أحد الأصناف من الإبل والغنم, وسوقها إلى الحرم، وذبحها فيه، وهذا شيء تلقى من عرف الشرع من قوله: {فإنْ أُحْصرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ}, أراد به الشاة..
وقد قال تعالى: {يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيَاً بَالِغَ الكَعْبَةِ}.
وقد قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىَ الحَجَّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيَ}.
وأقله عند الفقهاء شاة، فإذا أطلق الهدي، تناول ذبح أحد هذه الآصناف الثلاثة في الحرم.
فقوله تعالى: {وَلاَ الهَدْيَ} أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم، وإحلاله: استباحته لغير ما سيق له من الفدية.
وفيه دلالة على المنع من الإنتفاع بالهدي بصرفه إلى جهة أخرى، ويدل على تحريم الأكل من الهدي نذراً كان أو واجباً، من إحصار أو جزاء صيد، ويمنع الأكل من هدي المتعة والقران، على ما هو مذهب الشافعي، وخالفه فيه أبو حنيفة.
وفيه تنبيه على أصل آخر، وهو أن الشافعي يقول:
إذا كان مطلق الهدي يتناول الأصناف الثلاثة على خلاف ما يقتضيه حق الوضع، فهو لعرف الشرع وتقييده المطلق من الهدي بالأصناف، فإذا كان كذلك فلم نجد في عرف الشرع، إلا أن لفظ الهدي تكرر في الكتاب في مواضع، فاقتضى ذلك كون الهدي صريحاً في التقييد بالأصناف الثلاثة، وإن تناول من حيث اللغة ما سواه، كذلك لفظ الفراق والسراح من حيث تكررا في الكتاب والسنة، صارا صريحين في معنى الطلاق، وإن كان اللفظين محتملين لما سواه، وهذا بيّن ظاهر.
قوله تعالى: {وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامَ}، عنى به الأشهر الحرم ثلاثة متوالية وواحدة مفرد، المفرد رجب، والمتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وذلك منسوخ بجواز قتل الكفار في أي وقت كان.(2/172)
وقوله: {وَلاَ القَلاَئدَ}، نهى عن استباحة الهدي وصرفه إلى جهة أخرى، ونهى عن التعرض للقلائد: وهي أن المحرمين كانوا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحا شجر الحرم، وكان قد حرم إذ ذاك ما هذا وصفه، فنسخ ذلك في الآدمي، وقرر في البهائم على ما كان.
وإذا كان كذلك، فلا يجوز استباحته، ويجوز التصدق به، ولكن إذا فعل ذلك، فمجرد فعله لا نقول إنه حرم، ولكن لا بد من النية، وليس في الآية تعرض لها.
قوله {لاَ تُحِلُّوا شَعَائَر اللهِ}: نسخها قوله:
{فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
و {إن جَاؤكَ فاحكُم بينَهُم بما أنزَلَ اللهُ}.
وقوله: {وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ}.
معناه أن الكفار كانوا إذا قلدوا أنفسهم قلادة من شعر منعته من الناس، وكان الكفار على هذه السنة، فأمر المسلمون أن لا يتعرضوا لهم، ولا يتعرض للكفار الذين يؤمون البيت، ثم أنزل الله تعالى بعد هذا: {إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامهمْ هَذَا}.
وقال:
{مَا كَانَ للمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجدَ اللهِ شَاهِديِنَ عَلىَ أَنْفُسهمْ بالْكُفْرِ}
قوله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً منْ رَبهِّمْ}. الآية [2]، وهو التجارة.
{ورِضْوَاناً}: وهو الحج.
وذلك يدل على ان الذي يقصد الحج لا يلزمه الإحرام، إلا إذا أراد الحج، فإن الله تعالى يقول: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً منْ رَبِّهمْ وَرِضْوَاناً}, وهو قول للشافعي، ثم قال:
{وَاذَا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا}.
هذا إطلاق وإباحة لما كان قد حرم من قبل.
قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ} الآية [2].
معناه: أي لا يكسبنكم شنآن قوم، أي البغض، أن تتعدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم ..
قال صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".(2/173)
وفيه دليل على أنه إنما يجوز مقابلة الظالم بما يجوز أن يكون عقوبة له وقد أذن فيه، فأما بالجنايات والمحظورات فلا يجوز معاقبته.
ذكروا أن سبب نزول الآية، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، فمر بهم ناس من المشركين من أهل نجد يريدون العمرة، فقالوا: إنا نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فنزلت هذه الأية: {وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ}.
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
2)…العتق
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيْتَةُ} الآية [3]:
بيناه من قبل، وكذلك الدم، وكذلك لحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وكل ذلك شرحناه في سورة البقرة.
والمنخنقة كمثل.
والموقوذة: المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت، ومنه المقتول بالبندقة، كذلك فسّره ابن عمرو عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض فأصيب فآكل.؟
فقال: "إذا رميت بالمعراض وذكرت إسم الله تعالى فأصاب فخرق فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل".
وعن عدي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال:
"ما أصاب بحده فخرق فكل، وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل".(2/174)
فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة، وإن لم يكن مقدوراً على ذكاته، وذلك يدل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم.
لا جرم قال الشافعي في قول: إن أخذ الكلب الصيد فقتله ضغطاً، فإنه لا يحل ما أصاب بعرض المعراض.
قوله تعالى: {والمُتَرَدِّيَة}: هي الساقطة من أعلى جبل فتموت.
وهذا الإشكال فيه، إن حصل ذلك بغير فعل الآدمي فهو ميتة، وما رداه الواحد منا، فلا يحل أيضاً، فإنه ليس ذكاة شرعية.
قوله تعالى: {وما أكل السّبعُ}: يعني وما أكل السبع منه حتى يموت، ومعلوم أن الباقي لم يأكله السبع وهو المحرم، ولكن العرب يسمون ما قتله السبع وأكل منه: أكيلة السبع، فيسمون الباقي منه أكيلة السبع وهو فريسته.
فكل ما تقدم ذكره في الآية مما نهى عنه أريد به الموت، فالميتة أصل في التحريم وما عداها، من الموقوذة، والمتردية، وأكيلة السبع ملحقة بها، وإن لم يمت الحيوان حتف أنفه.
قوله تعالى: {إلاَّ مَا ذَكّيْتُمْ}.
على صورة الاستثناء، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع المذكور قبله، لأن الميتة لا يرجع إليها الاستثناء، وكذلك الدم ولحم الخنزير، وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وكذلك قوله: {مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ}, فإنه محمول على المذبوح على أسماء الأصنام، فلا يقال في مثله: إلا ما ذكيتم، فلا رجوع إلى الاستثناء إلا ما قبل المنخنقة، فبقي ما قيل المنخنقة على حكم العموم، ومن قوله المنخنقة إلى موضع الاستثناء، أمكن رد الاستثناء إليه.
فيقال: المنخنقة أو الموقوذة محرمة، إلا ما أدرك زكاته وفيه حياة مستقرة، فإنه يحل بالذكاة.
يبقى أن يقال: إنما يباح ما يباح، أو يحرم ما يحرم بعد الموت، فإذا خنق شاة ثم خلاها وفيها حياة مستقرة، ثم ذبحت بعد ذلك، فلا تسمى منخنقة، وإنما تسمى مذكاة، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق فقط، فعلى هذا يحتمل أن يقال: إلا ما ذكيتم، استثناء منقطع بمنزلة قوله: لكن ما ذكيتم، كقوله تعالى:(2/175)
{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌُ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُها إلاَّ قومَ يونس}.
وليس في الكلام المتقدم على الاستثناء ما يقتضي الاستثناء، فإن تقدير الكلام: فهلا كانت القرية آمنت فنفعها ايمانها: أي لينفعها ايمانها عند الله وفي الدنيا، فلا تعلن له بقوم إلا قوم يونس، فإنه ليس رفعاً لشيء مما تقدم، ومعناه: لكن قوم يونس لما آمنوا.
وكذلك قوله تعالى:
{طَهَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقََى, إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يخْشَى}.
وليس قوله: إلا تذكرة لمن يخشى، رفعاً لشيء من قوله: لتشقى، ولكن معناه: لكن تذكرة لمن يخشى.
ومثله قوله تعالى:
{إلاَّ الّذِينَ ظَلَمُوا}.
على بعض الأقوال، وكذلك قوله:
{لا يَخَافَ لَدَي المُرْسَلُونَ إلا مَنْ ظَلَمَ}.
ومثله:
{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلا المَوْتَةَ الأُولَى}.
ويمكن أن يقال إنه استثنى على بعض الوجوه، وتقديره: حرمنا كل ما قتلتموه، وحرمنا الميتات كلها إلا السمك والجراد، وحرمنا كل دم إلا الكبد والطحال.
فعلى هذا التقدير يستقيم الاستثناء، إلا ما زكيتم، مطلق مصروف إلى ما جعل ذكاة شرعاً، وإلا فالعرب لا تفصل في الذكاة بين الموقوذة والمنخنقة، والذكاة بالحديد.
ولا تعرف العرب من الذكاة قطع الحلقوم واللثة وحالة خاصة، فظاهر الحال أنه محال على بيان مقدم.
قوله تعالى: {وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ}: إنما ذكره عقيب ما تقدم، ومعنى استقسام: طلب علم ما قسم له بالأزلام، وإلزام انفسهم ما يأمرهم به القداح بقسم اليمين.
والاستقسام بالأزلام، أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أوغير ذلك من الحاجات، أجال القداح وهي الأزلام وهي ثلاثة أضرب:
منها نهاني ربي.
ومنها ما نهاني ربي.
ومنها غفل لا كتابة عليه.
فإذا خرج الغفل أجال القداح ثانية.(2/176)
وهذا إنما نها الله تعالى عنه فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ما يصيبها غداً، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر.
فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الاقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل، أن ما قاله الشافعي بناء على الأخبار الصحيحة، ليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرع، فيجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علماً على حصول العتق قطعاً للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا، فذلك يدل في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج الاقراع علماً على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج العتق علماً على العتق قطعاً فظهر افتراق البابين.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [المائدة:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِل لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطّيِّبَاتُ} الآية [4].
ذكروا في الطيبات قولين:
أحدهما: أنها بمعنى الحلال، وذلك أن ضد الطيب وهو الخبيث، والخبيث حرام، فإذا الطيب هو الحلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فيشبه الحلال في انتفاء المضرة منها جميعاً.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيِّبَاتِ}, يعني الحلال.
وقال: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَيِّبَاتِ ويُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} وهي المحرمات.(2/177)
وهذا فيه بعد من وجه، فإنه إن كان الطيب بمعنى الحلال، فتقديره: يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم الحلال، فيكون معناه، إعادة العبارة عما سألوا عنه من غير زيادة بيان، فيكون بمثابة من يقول: يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم ما أحل لكم، وهو لا يليق بيان صاحب الشريعة.
وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيِّبَاتِ} ليس المراد به الحلال فقط.
وكذلك قوله: {يُحِلُّ لَهُمْ الطّيِّباتِ}.
ومعنى الجميع ما يستطاب من المأكولات، ليس أنه التعبير عن نفس الشيء.
وأبان بذلك أنه على مناقضة اليهود الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {فَبِظُلمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ}.
فقال مخبراً عن هذا الدين، إن هذا الدين يحل لهم الطيبات، ويتضمن التسهيل، ودفع الإصر والأغلال التي كانت على المتقدمين.
وهذا حسن بين في إبانة معنى الآية، على خلاف ما قالوه من المعنى الآخر، ولما كان كذلك قال الشافعي:
أبان الله تعالى أنه أحل الطيبات، والطباع فيما يستطاب من الأشياء واستخبائها مختلفة، فوجب اعتبار حال فريق من الفرق الذين بعث الرسول إليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى أمم مختلفة لهمم والأخلاق والطباع، ولا يمكن اعتبار استطابة الأمم على اختلافها، فجعلت العرب الذين هم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلاً، وجعل من عداهم تبعاً لهم، فكل ما تستطيبه العرب هو حلال، كالثعلب والضب، وما لا فلا.
فبين الشافعي علة حل لحم الضب، فإن الضب مستطاب عند العرب وإن كان لا تشتهيه نفوس العجم.
فهذا تمام ما أردنا بيانه من هذا المعنى.
1)…الصيد
قوله تعالى: {وَمَا عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مَكَلِّبِينَ}:(2/178)
اعلم أن في ظاهر الآية وقفة للمتأمل، فإن الله تعالى قال: يسئلونك ماذا أحل لهم - ثم قال في الجواب - قل أحل لكم الطيبات وما علمتم، ... فيقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متناولاً للمعلم من الجوارح المتكلبين، وذلك ليس مذهباً لنا ولا لأحد، فإن الذي يبيح لحم الكلب إن صح ذلك عن مالك، فلا يخصص الإباحة بالمعلم، فقل هذا في الكلام حذف وتقديره: قل أحل لكم الطيبات - ومن جملته - صيد ما علمتم من الجوارح.
ويدل عليه ما روي عن عدي بن حاتم قال: لما سألت رسول الله عن صيد الكلب، لم يدر ما يقول حتى نزلت: {وَمَا عَلّمتُم مِن الجَوَارحِ مُكَلّبِينَ}.
وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن، ما يدل على أن الآية تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير, وذلك يوجب إباحة سائر الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والإنتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل، وهذا في غاية البعد عن الحق.
فإن قول الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} لم يتناول السؤال عن وجوه الانتفاع بالأعيان في البياعات والهبات والإجارات، فإنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه ذكر الطيبات وما علمتم من الجوارح، ثم يقول في مساق ذلك: {فَكُلُوا مّما أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، ولا يتعرض لسائر وجوه الإنتفاع، من البيع والهبة.
يدل على ذلك أن السؤال إنما يتناول الأكل فقط، والجواب كان عن ذلك، وكيف ينتظم في الكلام أن يسأل عما ينتفع به من الأشياء، فيذكر في خلال ذلك الكلب بمعنى البيع، وصيد الكلب بمعنى الأكل، وليس جواز البيع في المعلم لكونه معلماً، فإن غير المعلم مثله من كلب الحراثة والحراسة وغيرهما؟
وقوله: {وَمَا عَلمْتُم مِنَ الجَوارِحِ}: يقتضي بمطلقة جواز تناول كل ما اصطاده الكلب المعلم لمالكه، وإن لم يجرحه، وهو قول الشافعي.(2/179)
وقوله تعالى مكلبين مع قوله من الجوارح، يتناول الكلب والفهد والصقر، لأن إسم الجوارح يقع على الجميع.
وروي عن علي في بعض السواد أنه قال: لا يصلح ما قتله البزاة، وذلك خلاف الإجماع، وإسم الجوارح يقع على كل ما يجرح أو يجترح، أو إن عنى به الكواسب للصيد على أهلها، كالكلاب وسباع الطيور والتي تصطاده وغيرها، وأحدها جارح، وبه سميت الجارحة لأنه يكتسب بها، وقال تعالى:
ومنه قوله: {أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيِّئَاتِ}.
وذلك يدل على جواز الإصطياد لكل ما علم الإصيطاد من سائر ذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، وقيل في الطير إنها تجرح أو تخلب، وإذا ثبت ذلك فقوله "مكلبين" أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكليب هو التضرية، يقال كلب يكلب إذا ضرى بالناس، ولا تخصيص في ذلك للكلاب دون غيرها من الجوارح.
وإذا كانت التضرية شاملة وثبت ذلك، فقد صار كثير من الصحابة أي أن الإمساك على المالك المذكور في الآية في قوله: {فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، هو الإنقياد للمالك في الإضراء والارعواء، فإذا لم تهرب منه بعد الإصطياد واحدة فلا يحرم أصلاً، وإن أكل منه.
وأبو حنيفة وأصحابه، شرطوا ترك الأكل في الكلب والفهد، ولم يشترطوه في الطيور.
والشافعي مال إلى هذا الفرق في قوله, وسوى في ترك الأكل بينهما، وهو القياس.
وإذا تبين ذلك فقوله تعالى: {فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إن كان المراد به ترك الأكل، ما كان قوله: { وَمَا عَلّمْتُم مِنَ الجَوَارِحَ مُكَلّبِينَ} متناولاً للبازي، ولأجل ذلك قال علي: لا يحل صيد البازي أصلاً، فإنه لا يتحقق تعليمه على ترك الأكل.(2/180)
واعلم أن الظاهر يقتضي أن يكون المراد بقوله: {فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}: أي كلوا مما اصطدن بأمركم وإرسالكم، وكان الإصطياد صادراً عن إعزائكم، ولذلك ذكر الجوارح مطلقاً ولم يتهيأ لعاقل أن يقول: إن ترك الأكل دليل على أن الكلب قصد الإمساك للمالك، فإنه لا وقوف على نية الكلب، ولا أن كلباً في العالم ينوي الأخذ للمالك دون نفسه، بل قصده لنفسه تحقيقاً.
وقيل: الصيد هو الذكاة، وترك الأكل شرط بعد الموت، ويبعد أن يكون ما بعد الموت شرطاً في الذبح.
نعم، إنا نشترط معرفة غاية الإنقياد للمالك ومخالفة عادته القديمة، وذلك بأن لا يقدم دون إرسال الصيد، وإن أوقفه وقف، وكأن الذي شرط ترك الأكل, شرط ذلك ليبين به مخالفة عادته وطبعه.
وإذا ثبت ذلك, صح من هذه الجهة, أن قوله تعالى: {فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, ليس أنه أراد به نية الكلب في الإمساك للمالك.
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [المائدة:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الذبائح
2)…المطعومات
3)…الحج
قوله تعالى: {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطّيِّبَاتُ}.
معنى الطيبات ما مضى.
وقوله اليوم، يجوز أن يكون اليوم الذي نزلت فيه الآية، ويجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، و {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
قيل : إنه يوم عرفة في حجة الوداع.(2/181)
واعلم أنه ليس المقصود من ذكر اليوم ها هنا صورة اليوم، وإنما المراد به الزمان، كما يقال أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيام أبي بكر وعمر، وهو من قبيل ما يكون معنى الزمان منه أعم من اللفظ سابقاً إلى الفهم. مثله قوله تعالى:
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ}.
ولم يرد به صورة اليوم، وإنما عنى به الزمان، حتى إنه لو فرَّ من الزحف ليلاً كان آثماً.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…العدل
قوله تعالى: {كُونُوا قَوَامِينَ} - إلى قوله - {لاَ يَجرِمَنّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا}, الآية [8]: دل صدر الآية على وجوب القيام لله تعالى بالحق، وكل ما يلزمنا القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله تعالى: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}, أي بالعدل، ويحتمل أن تكون هذه الشهادة لأمر الله تعالى أنه حق، ودل سياق الآية عليه.
قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا}:
أبان به بأن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليهم، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتل والأسر، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمرنا بذلك، فليس لنا أن نقابلهم بمثله قصداً لإيصال الغم والحزن إليهم، وإليه أشار عبدالله بن رواحة في القصة المشهورة بقوله:
"حبي له وبغضي لكم لا يمنعني من أن أعدل فيكم".(2/182)
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة:13]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التحريف
قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ}:
تحريفهم إياه بسوء التأويل، لا أنه مكابرة لفظ صريح شائع مستفيض، كما تأولت المبتدعة كثيراً من المتشابهات، على ما تعتقده من مذاهبها، دون إعطاء التدين حقه، فأما مكاتمة ما قد علموه على اشتهار، فمكابرة ومعاندة، فلا يصح وقوعه على سبيل التواطؤ منهم، كما لا يصح التواطؤ من المسلمين على تغيير شيء من ألفاظ القرآن إلى غيره، ولو جاز ذلك لجاز اختراعهم لأخبار لا أصل لها، وفي ذلك إبطال العلم بموجب أخبار التواتر، ورفع قواعد المعجزات، وذلك محال بالضرورة.
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [المائدة:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجنايات
قوله تعالى: {لَئنْ بَسَطتَ إليَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أنَا بِبَاسِطٍ يَدَيَّ إلَيكَ لأَقتُلَكَ}.
قد قيل: معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به، لا أنه يدفعه عن نفسه إذا قصد قتله.
وقد قيل: إنه قتله غيلة، بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها.
وقيل: إنه كان من مذهبهم، أن من أراد قتل غيره لم يكن للمقصود دفعة ولا قتله، بل يتركه ولا يدفعه، وذلك مما يجوز ورود التعبدية، إلا أن في شرعنا يجوز له دفعه إجماعاً.(2/183)
وفي وجوب ذلك عليه خلاف، فالأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر، وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه للدفع، وتأولوا عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "كيف بك يا أبا ذر إذا كان في المدينة قتل؟ فقال: ألبس سلاحي، فقال: شاركت القوم إذاً، قال: فقلت: كيف أصنع؟ فقال: إن خشيت أن أن يبهرك شعاع السيف فالق ناحية ثوبك على وجهك لئلا تبوء بإثمه وإثمك".
والمراد بهذا الحديث عند المتأملين، ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة، فأما قتل من استحق القتل، فمعلوم أن الشرع لم يرده بذلك.
وبالجملة لو جاز الامساك عنه حتى يقتل من أراد قتله، لوجب مثله في المحظورات كلها، فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفساق والظلمة.
والذي يخالف ذلك يقول: ذلك إذا كان الأمر بالمعروف غير مؤد إلى قتل وشهر سلاح، فأما إذا كان يؤدي إلى ذلك فلا، ويفوض المقتول أمره إلى الله عز وجل، إذا كان يعلم أنه لو كان وجه دفعه بأسهل شيء من غير أن يخشى على نفسه فلا يجوز، فأما إذا كان الأمر عل الخطّر واحتمال أن يقتلا جميعاً، فهو موضع الاحتمال وترديد القول.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [المائدة:31]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التوبة (من القتل)
2)…القياس
3)…الحرابة
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ}:(2/184)
فيه بيان أن كل ندم ليس بتوبة، وأن ابن آدم القاتل لم يندم على وجه القربة إلى الله تعالى وخوف عقابه، وإنما كان ندمه من حيث اتقى جانب أبويه وذويه، واستوحش منهم، ولم يهنه ما فعله في دنياه، وانتبذ بعيداً عنهم، فندم لذلك، ولو ندم على وجه التوبة لأوشك أن يقبل الله تعالى منه ذلك.
وقد قيل: يجوز ألا يقبل الله توبة من شاء، فإن قبول التوبة عند أهل السنة ليس واجباً على الله تعالى بقضية العقل، وإنما المشيئة لله تعالى في قبول توبة من شاء، فيجوز أن يقال إن قابيل ممن لم يسأل الله تعالى قبول توبته، وإن وجدت منه التوبة حقيقة.
{ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحرابة
قوله تعالى: {مِنْ أَجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلى بَنِي إسْرَائِيلَ}, الآية [32]:
فيها إبانة عن المعنى الذي لأجله كتب على بني إسرائيل ما كتب مما ذكره الله تعالى في الآية، وتقديره، وكأنما قتل الناس جميعاً: أي إنا شرعنا القصاص، لأنا لو لم نشرعه كان فيه هلاك الناس جميعاً.
وفيه دليل على إثبات القياس وتعليق الأحكام، على المعاني التي جعلت عِلَلاً لها.
وفيها دليل على إهلاك الساعي في الأرض بالفساد.
وقوله: {وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنّمَا}: أي نجاها من القتل بالعفو، أو زجر عن قتلها، أو مكن من الاقتصاص من القاتل.
وفيه دليل على وجوب معاونة الوالي على ما جعله الله له من التسليط والبسطة في دم القاتل.(2/185)
{ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحرابة
قوله تعالى: {إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
وذلك مجاز، إلا أنه ذكر ذلك تشبيهاً بالمحارب حقيقة، لأنه خرج في صورة المحاربة، وأريد بهذا التشبيه تعظيم الأمر كما قال:
{ذَلِكَ بِأَنّهُم شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ}.
ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يتأثر به صاحبه، وقال: {يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}.
ومعنى المحادة، أن يسير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة، وذلك يستحيل على الله، إذ ليس في مكان فيشاق أن يحاد.
وتجوز المباينة عليه والمفارقة، وذلك منه عن وجه المبالغة في إظهار المخالفة، وكان يجوز أن يسمى كل عاص بهذا الاسم، ولكن لم يرد ذلك.
ويجوز أن يكون معناه يُحاربون أولياء الله ورسوله وهذا أولى، فإن الذي يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر، وقاطع الطريق ليس بكافر، وكأنه يريد بهذه الاضافة تعظيم المخالفة، وإكبار قدر المعصية، وقد ورد في التهديد ألفاظ تشاكل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اليسير من الرياء شرك".
"من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة".
وقوله عليه السلام لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام:
"أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم".
وإنما حملنا على هذا التأويل، علمنا بأن الآية وردت في حق قطاع الطريق من المسلمين، ولذلك قال الله تعالى: {إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم}.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )(2/186)
{ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود
قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
يدل على أن إقامة الحد لا تكون كفارة لذنوبه، وقد قال في كفارة القتل {تَوْبَةً مِنَ اللهِ}، وذلك أن الكفارة يأتي بها المكفر على طوع ورغبة، فتقترن بها التوبة غالباً، أما الحد، فإنما يقال عليه قهراً، دون استسلامه، فليس يظهر معنى الندم فيه، فعلى هذا ليست الكفارة في عينها توبة ولا الحد، وإنما التوبة الندم، غير أن الكفارة تقترن بها التوبة غالباً، فسميت توبة بخلاف الحدود.
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود
قوله تعالى: {إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم} الآية.
استثناء لم يأت من قبل القدرة عليهم، فيقتضي إخراجهم من جملة من وجب عليهم الحد، لأن الإستثناء حقيقة ذلك, مثل قوله تعالى:
{إلاّ آلَ لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهُم أَجمَعِين إلاّ امْرَأَتَهُ}.
فأخرج آل لوط من المهلكين، وأخرج المرأة في الإستثناء من الإستثناء من جملة المنجين.
وقال تعالى: {فَسَجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُم أَجْمَعونَ إلاّ إبْلِيسَ} فأخرجه من جملة الساجدين.
نعم، قد قال في السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصلَحَ فَإنَّ اللهَ يَتوبُ عَلَيْهِ}.(2/187)
ولم يسقط حد السرقة، لأنه لم يقع الاستثناء من جملة من أوجب عليهم الحدود، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم، وفي آيتي المحاربين ذكر استثناء يوجب اخراجهم من الجملة.
وقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ}، يصلح أن يكون كلاماً مبتدأ مستقلاً بنفسه، من غير أن يفتقر إلى تضمين غيره، فلم نجعله مضمناً لغيره إلا بدلالة.
وقوله: {إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم}, مفتقر في صحة إلى ما قبله, فوجب تعليقه عليه.
ثم إذا استقل الاستثناء باقتضاء اسقاط ما اختص بقطع الطريق, لم يحتج إلى تعليقه بغيره, فلا جرم كان ما يتعلق بالمذهب, أن ما يتعلق بحق الآدمي قصاصاً كان أو غرماً, لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
ولما كان قوله: {يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسعَونَ في الأَرْضِ فَسَاداً}, على ما في الصحراء أو البلد, استوى حكم قطع الطريق في البلد والمصر جميعاً, ومن فرق فإنما يفرق لا بحكم اللفظ, بل بمعنى يتوهمه فارقاً وهو غالط فيه.
ولما ثبت للشافعي أن الحكم ليس متعلقاً بمجرد الفساد في الأرض, ولا بمجرد قطع الطريق, لكن تفاوت العقوبات على حسب تفاوت الجرائم, فالردء المعاون في قطع الطريق, لا يلزمه عقوبة من باشر القتل وأخذ المال, وتقدير الكلام: يقتلوا إن قتلوا, أو يصلبوا ان قتلوا وأخذوا المال, فليس لمن لم يفعل من ذلك شيئاً أن يدخل في جملتهم.
1)…الحرابة
قال تعالى في حق الكفار:
{قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَا قَد سَلَف}.
وقال في المحاربين:
{إلاّ الّذينَ تَابُوا من قبلِ أن تقدِروا علَيهِم، فاعلمُوا أن اللهَ غفورٌ رحِيم}.
والذي ذكرمن أن الآية نزلت في شأن العرنيين لا يحصلون ما يقولون، لأن العرنيين شملت أعينهم مع قطع أيديهم وأرجلهم، وتركوا في الحرة حتى ماتوا، ويستحيل نزول الآية بالأمر بقطع من قطع، وقتل من قتل.(2/188)
وقال ابن سيرين: كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية.
والذين اعترفوا باختصاص الآية بقطاع الطريق من المسلمين، إختلفوا في أشياء أخر وراء ما ذكرناه.
فقال قائلون من العلماء بما رووه عن ابن عباس:
يقتلوا إن قتلوا.
أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال.
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال فقط.
أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، فلم يثبتوا تخييرا، وهو مذهب الشافعي.
واختلفت الروايات عن أبي حنيفة.
ففي رواية أنه إذا حارب فقتل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب.
فإن هو قتل ولم يأخذ المال نفي، وهذا يقارب الأول، إلا في زيادة قطع اليد والرجل مضموماً إلى الصلب والقتل.
وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال، قيل إن الإمام فيه بالخيار.
إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه.
وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله.
وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ولم يصلبه.
فإن أخذ مالاً ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف.
وإن لم يأخذ مالاً ولم يقتل، عزر ونفي من الأرض، ونفيه حبسه.
وفي رواية أخرى: أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيراً، وهو قول الحسن في رواية وسعيد بن جبير.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن اقتصروا على القتل قتلوا، وإن اقتصروا على أخذ المال، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وإن إخذوا المال وقتلوا، فأبو حنيفة يقول: الإمام يتخير في أربع جهات:
إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم.
وإن شاء قطع وصلب.
وإن شاء صلب.
وإن شاء قتل وترك القطع.
وقال آخرون: بل يخير الإمام في هذه الأحكام بمجرد خروجهم، وهو قول ابن المسيب ومجاهد والحسن، وهو قول مالك.
فسوى مالك بين أن يقتلوا أو لا يقتلوا، أو يأخذوا المال أو لا يأخذوا، وخير الامام إن شاء قتل، وإن شاء قطع خلافاً، وإن شاء نفي، ونفيه حبسه، فهذا ما ذكره.(2/189)
ووافق في أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا، لم يجز للإمام أن ينفيه، ويترك قطع يده ورجله.
وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال، لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل والصلب.
ولو كان الأمر على ما قالوه في التخيير، لكان التخيير ثابتاً إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، فكأنه يرى التخيير في إجراء حكم القاتل على غير القاتل، وإجراء حكم القطع على غير آخذ المال.
أما إسقاط حكم القطع عن آخذ المال أو القتل عن القاتل، فلا سبيل إليه أصلا.
فالتخيير الثابت شرعاً، وهو أن يتخير بين أنواع، كالتخيير في حق المشركين، يتخير بين أنواع، فمنها الأخف، ومنها الأغلظ، فأما أن يقال: إن عقوبة المجرم لا تسقط عنه، ولكن غيره يلحق به، فهذا ليس من التخيير في شيء.
نعم، اعتقد مالك أن مجرم قطع الطريق كالقتل، قال: ولذلك قال الله تعالى:
{مَنْ قَتَلَ نَفساً بِغَيْرِ نَفْسِ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً}، فدل أن الفساد في الأرض بمثابة قتل النفس.
والذي ذكره واعتقده فاسد، فإن ما ذكره لا يوجب إجراء حكم الساعي بالفساد، على ما ذكر مجرى الساعي بالفساد، إذا ضم إلى سعيه في الأرض بالفساد القتل وأخذ المال، وقد وجد من القاتل وآخذ المال ما لم يوجد من الذي لم يقتل.. من قطع الطريق والفساد في الأرض والزيادة فلم سوى بينهما؟
ولو استوى حكمهما، لم يجز إسقاط القتل عنه، كما لم يجز إسقاطه عمن قتل، وإسقاط القطع عمن أخذ المال، وهذا لا جواب عنه.
فإن قيل: القاتل لا يختص، قلنا غلطتم، فإن لقطع الطريق أثراً في تغليظ جريمته، حتى لا تسقط بعفو المستحق، ويزداد بقطع الطريق قطع اليد والرجل معه، فلم يسقط.(2/190)
نعم إذا تابوا من قبل أن نقدر عليهم، سقط ما يتعلق بقطع الطريق, وبقي ما تعلق بحق الآدمي، ولأن المراد بقوله: {أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ}, أي فساد يجوز القتل معه، أو قتله في حالة إظهار الفساد على وجه الدفع، وإنما الكلام في الذي صار في يد الإمام، فقوله: {أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ}, محمول على هذا، وإلا فلو كان الفساد في الأرض عديل القتل، ما جاز إسقاط القتل بالنفي، كما لا يجوز إذا قتل أن يقتصر في حقه على النفي.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التوبة
2)…الرِّدِّة
{إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}.
ومعلوم أن الكفار لا يختلف حظهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما تسقط قبل القدرة، فالمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة، والمذكور في الآية من لم يستحق القتل.
وفي الآية نفي من لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، فعلمنا أن الآية حكمها جار في أهل الملة.
والمرتد لا تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل، ولا يصلب أيضاً، فدل ذلك على أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد.
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [المائدة:38]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…حَدّ السرقة
قوله تعالى: {والسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
واعلم أن السرقة في العرف واللغة, اختزال شيء على سبيل الخفية ومسارقة الأعين, وقد ورد في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته".(2/191)
قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها وسجودها.
إلا أنه ليس سارقاً من حيث موضع الإشتقاق, فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالباً.
قوله تعالى: {والسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
ولم يختلف العلماء في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمنى، فهي إذاً مراد الله تعالى بقوله: {فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
واعلم أن قوله {والسّارِقُ والسّارِقَةُ} عند قوم يتعلق به في إيجاب قطع من شمله اسم سارق، إلا من خصه الدليل وهو عموم، وعندهم في كل مقدار إلا ما خصه الدليل.
وأبى ذلك آخرون، فإنه لما قال سارق، ولم يقل سارق ماذا، والإنسان يقول: سرقت كلام فلان، وسرقت علمه وحديثه، وقال عليه الصلاة والسلام:
"إن أسوأ الناس سرقة من سرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها وسجودها".
فذكروا أن اسم السارق لا يمكن أن يعلق عليه القطع، لاعتبارنا فيه شروطاً لا يدل لفظ السارق عليها، ولزمهم على هذا أن لا يتعلق بعموم لفظ البيع والنكاح والإجارة إلى غير ذلك، لاعتبار شروط فيها لا يدل اللفظ عليها.
وقد قال غيرهم: بل يتعلق به وبأمثاله نظراً إلى عموم اللفظ، نعم سرقة الكلام والعلم لا تفهم في المتعارف من إطلاق اسم السرقة، وإنما الكلام في المتعارف، كما لا يفهم من إطلاق الزنا زنا القرد والبهائم، ولما قال عليه الصلاة والسلام أسوأ السراق حالاً من سرق من صلاته، لم يفهم الناس وهم أهل اللغة معناه، حتى فسر رسول الله معناه وما أراده، لأنه لم يكن من تعارف أهل اللغة، ولو قال: "أسوأ السراق من سرق مال فلان"، لما احتاجوا إلى المراجعة، ولما قالوا: كيف يسرق مال فلان؟(2/192)
نعم هذا الجنس إنما يمتنع التعلق به إذا كان مخصوصاً بمخصوص مجمل، فأما إذا لم يكن المخصوص مجملا، فيجوز التعلق به، والمخصوص المجمل طاريء على اللفظ العام، فلا بد من بيان مثله ها هنا حتى يمتنع التعلق به، وإلا فالتعلق به جائز، وهذا مما بسطنا القول فيه في الأصول بوجوه أخر ذكرناها هناك، فليوجد من ثم.
وإذا تبين أن المخصص في حكم العارض، فإذا أختلفنا في مقدار، فالذي يأخذ بالأقل ويوجب القطع فيه أسعد حالاً، لأنه يستند فيه إلى عموم اللفظ، إلا فيما يستيقن خصوصه به، وكذلك إذا حصل الخلاف في النباش أو الفواكه الرطبة، إلى غير ذلك مما يختلف فيه.
والمتفق عليه في موضع القطع مفصل الكوع، واسم اليد مطلقاً يتعارف به ذلك، قال تعالى:
{إذَا أَخرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}.
وقال لموسى: {أَدْخِلْ يَدَكَ في جَيبِكَ}.
ويمتنع أن يدخل بها إلى المرفق، ولو كان اسم اليد متناولاً للعضو إلى المنكب، لكان يقال: قطع بعض يد السارق، وهذا خلاف العرف، وقد شرحنا هذا من قبل، والمعتمد فيه الإجماع.
والشافعي حمل مطلق اليد في التيمم على اليد إلى المرفق كما في الوضوء، لا لأن اسم اليد يشمل ذلك من حيث اللغة، ولكن لأن التوقيف ورد بذلك، ولأن التيمم بدل في اليد، والظاهر أنه يجري على ما أجري الأصل عليه، وإن كان بين البدل والأصل خلاف في الرأس والرجل، إذا شرع في اليد يظهر على أنه شرع على نحو ما شرع له الأصل.
وهذا وإن كان لا يظهر على ما يجب، فالتوقيف أقوى معتصم.
واعلم أن آية السرقة ليس فيها تعرض لدفعات السرقة، وإنما فيه التعرض للدفعة الأولى، وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى على مذهب الإمام الشافعي، والرجل اليسرى في الكرة الثانية على المذاهب كلها متلقى من السنة لا من الكتاب فاعلمه، وليس في الكتاب إلا بيان الكرة الأولى.(2/193)
نعم في كتاب الله تعالى بيان موجبات جرائم قطاع الطريق على اختلاف جرائمهم على ما ذكره ابن عباس، فإن تلك العقوبات المختلفة تعلقت بجرائم مختلفة في الكرة الأولى، لأن الله تعالى بين ما تعلق بالأولى، وبين ما يتعلق بالكرة الثانية بعد الفراغ من الأولى.
نعم، لم يتعرض للدفعة الثانية، لأنه يندر من السارق بعد قطع يده أن يرجع وهو ناقص إلى السرقة التي يحتاج فيها إلى ملابسة الإغرار، وسرعة الحركة، والمخاطرة بالمهجة، وشدة العدو، والذي يده ناقصة لا يتأتى منه ذلك، فأبان الله تعالى جزاء السارق، ولم يتعرض للكرة الثانية، وتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لها.
والسارق من بيت المال لا قطع عليه في ظاهر مذهب الشافعي، وهو مذهب الجماعة، لأن له فيه نصيباً، وإليه أشار علي رضي الله عنه لما أتى برجل قد سرق مغفراً من الخمس، فلم ير عليه قطعاً، قال: لأن له فيه نصيباً، وفي وجه القطع تعلقاً بعموم الآية وبلفظ السرقة.
ويتعلق بعموم كتاب الله تعالى والإيماء إلى التعليل في إيجاب القطع على ذوي الأرحام، بسرقة أموال أقاربهم خلافاً لأبي حنيفة.
وإذا سرق فقطعت يده، ثم عاد وسرق ذلك الشيء نفسه قطعت رجله عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، ولا يتعلق به من جهة العموم، فإن الذي دل عليه العموم قطع اليد، والواجب في الكرة الثانية قطع الرجل، لم يتعلق به من حيث التعليل، وأن الثاني إذا كان مثل الأول، وتعلق به ما تعلق بالأول، أو مثل ما تعلق بالأول، فيكون الاحتجاج بالعلة، لا بالإسم، فليعرف العارف هذه المراتب ما يصح الاحتجاج منه بالعموم, وما يحتج فيه بالمفهوم من الاسم.(2/194)
واعلم أن الذي يجب على السارق من القطع، يجب جزاء على الفعل أو زجراً، فالشرع اعتنى ببيانه وإيضاح حكمه، ولم يتعرض للضمان الذي لا يرجع إلى الفعل، ولا يتعلق به، وإنما هو بدل عن المحل، كما أوجب على الزاني الجلد، ولم يتعرض للمهر، وأوجب على قاطع الطريق القتل، ولم يتعرض للدية من بعد التوبة في قوله: {إلاَّ الّذِين تَابُوا مِنْ قَبلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم}, لأن ذلك حوالة على بيان آخر.
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة:42]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الرشوة)
قوله تعالى: {سمّاعُونَ لِلكّذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ} الآية [42].
أصل السحت الاستئصال, يقال أسحته إسحاتاً إذا استأصله واذهبه.
قال الله تعالى: {فَيُسحِتَكُم بِعَذَابٍ}: أي يستأصلكم, ويقال اسحت ماله إذا أفسده، فسمى الحرام سحتاً لأنه لا بركه لأهله فيه، ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال، فأخذ الرشوة على الحكم غاية المحظور من الرشوة، فإنه يجب عليه إظهار الحق فيأخذ الرشوة، ومن أجله منع الشافعي الصلح على الإنكار، لأن الذي ينكر إذا جعل القول قوله، فكأنه بما يبذله من المال يبغي رفع الظلم عن نفسه، فكان كالرشوة على فعل واجب أو رفع ظلمه.
ومن هذا القبيل أن يستشفع به إلى السلطان من يتقيء شر السلطان، فيستشفع له على رشوة يأخذها منه.
ويقرب من هذا أخذ القاضي الهدية، إذا كان لا يهدى إليه من قبل.
فالارتشاء على الحكم، هو الذي ورد فيه اللعن على الراشي والمرتشى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/195)
والرشوة هي التي دعت اليهود إلى كتمان ما أنزل الله تعالى من نعوت نبينا على الانبياء المرسلين، فإنهم آثروا حظهم من الدنيا على اتباعه، فكتموا ما أنزل الله تعالى من نعوته، بعد أن كانوا أغروا به من آبائهم وأبنائهم، وجحدوا بألسنتهم ما استيقنته أنفسهم ظلماً وعتواً، فأدّاهم شؤم الارتشاء إلى الكفر بما أنزل الله تعالى، فصاروا إلى محاربة الله ورسوله وعذاب الأبد.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة:42]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…العتاق (الإستثناء)
3)…أهل الذِّمة
قوله تعالى: {فإنْ جَاؤُوكَ فاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عنهُم} الآية [42]:
وقد اختلف العلماء فيه: فقال قائلون: يتخير الإمام في حقهم: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم.
وقال قائلون: التخيير منسوخ.
والقولان محكيان عن الشافعي.
وقال ابن عباس: آيتان نسختا من المائدة: آية القلائد، وقوله تعالى: {فاحكُم بينهُم أو أعرض عَنهم}.
أما القلائد، فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا، وأي شهر كانوا، وأما الأخرى فنسخت بقوله تعالى: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}.
ولا يقول ابن عباس إنه نسخ ذلك من طريق الرأي، فإن مدركه التوقيف والعلم بالتواريخ، إلا أنه يقال: يجوز أن يكون قد أخطأ وغلط في الذي ادّعاه من التوقيف، ولم يكن طريقة النسخ، وإذ قال الصحابي أو التابعي كذا منسوخ بكذا، فلا يقبل ذلك دون أن ينظر فيه.(2/196)
ويجوز أن يكون معنى قوله: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}: المنع من اتباع آرائهم فيما قد نسخ، ولا يمنع ذلك من جواز الإعراض عنهم، مثل منوب الجزية عليهم، فإنهم ماكانوا إذ ذاك داخلين في أحكام الإسلام، وإنما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة، أن لا يتعرض لهم ولا يؤاخذون بشيء من أحكام الإسلام، فتكون منهم ولهم، فلما أمر الله تعالى بأخذ الجزية منهم وإجراء أحكام المسلمين عليهم، أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى، فسيكون حكماً للآيتين جميعاً تاماً.
فإذا احتمل الأمرين، فليس قوله: أو أعرض عنهم، نصاً حتى يحتاج إلى طلب نسخه، فعلى هذا ينبغي أن يقال: يجب على الإمام أن يحكم بينهم.
ويحتمل أن يقال: من حيث إنهم لا يؤاخذون بأحكام الإسلام وتفاصيل الحلال والحرام، يجوز للامام أن لا يحكم بينهم أصلاً.
وروي عن ابن عباس ان الآية التي في المائدة قوله: {فاحْكُم بَيْنَهُم أَو أَعْرِضْ عَنْهُم}، إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة، وأن بني قريظة يدون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله تعالى الآية فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سوى، وأن بني قريظة والنضير ما كان لهم ذمة أصلاً، وقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الذمة لا يجوز ذلك فيهم، وبنو قريظة قتلوا عن آخرهم لما نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في أصحابنا من يفصل بين المعاهدة والذمي في هذا المعنى، فالأقرب أن يقال: إن الحكم في الجميع سواء.
وروي عن ابن عباس رواية أخرى.(2/197)
وعن الحسن وعن مجاهد والزهدي أن الآية وهي قوله: {وأن احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ولاَ تَتَبِع أَهْوَاءَهُم}، نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهم أيضاً لم يكونوا أهل ذمة، وإنما تحاكموا إليه طلباً للرخصة وزوال الرجم، فصار النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم، وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله تعالى، ورجم اليهوديين وقال: أنا أولى من أحيا سنة أماتوها، وهذا يدل دلالة تامة على جواز رجم اليهود خلافاً لأبي حنيفة، ويدل على أن أهل الذمة محمولون في عقودهم وقضاياهم على موجب أحكام المسلمين كالمسلمين، ويدل أيضاً على أن الخمر ليست بمضمونة على متلفها، ولا أنها مال من أموالهم، لأن إيجاب الضمان على متلفها حكم على موجب أهواء اليهود، وقد أمرنا بخلاف ذلك.
نعم، لا نتعرض لهم في خمورهم ولا في مناكحتهم الباطلة، وقد فتح عمر سواد العراق، وكان أهلها مجوساً، ولم يتعرض لمناكحتهم الواردة من قبل على بناتهم وأخواتهم، ولا فرّق بينهم.
وتحقيق القول فيه، أن إعراضنا عن ذلك مع علمنا بوجود المحرم لضرب من المصلحة، غير أن المصلحة منقسمة إلى مصلحة روعيت في حق مرتكبي المحرمات بمنعهم منها، وبزجرهم عنها، مثل النهي عن المنكرات في حق المسلمين، وهذا لم يشرع في حق أهل الذمة، فإذا عرفنا يقيناً أنهم في بيعهم يقولون ما يقولون، فلا يتعرض لهم لمصلحة تعود إلى أهل الإسلام من وجه ، وإلى أهل الذمة من وجه آخر.
فأما ما يرجع إلى أهل الإسلام فلا خفاء به.
وأما الذي يرجع إلى أهل الذمة، فهو أن البغية بعقد الذمة تقبيح سنن رشادهم، حتى إذا شاهدوا من آيات الله تعالى والأعلام على نبوة نبينا وخالطونا، انفتحت بصائرهم وقرب الأمر في استجابتهم، ولو لم يعقد لهم عقد الذمة، نفروا واستكبروا ولم يتحقق اللطف الذي يؤمن به قرب إجابتهم، فهذا هو السبب في تقريرنا إياهم وترك الإنكار عليهم، هذا إن عللنا.(2/198)
وإن لم نعلل قلنا: الأصل أن لا يقرون ويمنعون إلا حيث أرخص الشرع فيه، وقد أرخص في تدك النكير في نكاح المحارم وغيره من المحظورات، فهذا تمام هذا الفن.
فإذا ثبت ذلك، فقد كان في إبتداء الإسلام مخيراً في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ثم صار ذلك منسوخاً، ونفي الإعراض في غير ما تحاكموا إليه فيه، وقبل ذلك كان الإعراض جائزاً فيما تحاكموا إليه فيه، وقد قال أبو حنيفة: إذا ترافعوا إلينا وقد جرى النكاح في العدة، فلا يعترض عليهم في الدوام، ومعلوم أن أول النكاح في العدة لم يكن على نحو ما يجوز في الإسلام، إلا أنهم يرون مانع العدة مختصاً بالابتداء، وهو عذرهم في الشهادة، وهذا يقتضي أن ما جرى في الشرك مجري على مقتضى اعتقادهم، فإذا كان كذلك، فإذا تزوج خمساً دفعه وماتت الخامسة في الشرك يجب ألا يعترض على النكاح، لأن النكاح إنما امتنع دواماً لوجوب قطع البعض، فإذا ماتت الخامسة لم يبق مانع في الحال، غير أنكم جعلتم ما مضى مانعاً، فهلا كان هاهنا كذلك، وهذا لا جواب عنه.
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [المائدة:43]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (شرع من قبلنا)
قوله تعالى: {وكَيْفَ يُحَكمُونَكَ وعِندَهُم التّوْرَاةُ فِيهَا} الآية.
معناه فيما تحاكموا إليك في حد الزانيين، وأنهم لم يتحاكموا إليك طلباً لحكم الله تعالى، وإنما تحاكموا إليك لطلب الرخصة، وما أولئك بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم لنبوتك.
وقوله تعالى: {وعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْم اللهِ}، يدل على أن حكم التوارة فيما اختصوا فيه لم يكن منسوخاً، وأنه صار بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شريعة، ما لم ينسخ، لأنه لو نسخ لم يقل بعد النسخ إنه حكم الله.(2/199)
وقد استدل قوم على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وهذا لا وجه له، فإن قوله: فيها حكم الله، ليس يدل على أن كل ما فيها حكم الله، بل قد نسخ بعضها، وإنما يدل على أن فيها حكم الله ونحن نقول بذلك الحكم، وذلك الحكم هو الرحيم الذي اختصموا فيه إليه من جهة الزاني.
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة:45]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القصاص
قوله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِم فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ}.
استدل قوم به على قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، وهذا لو ثبت لهم أن شريعة من قبلنا تلزمنا وبعد فقوله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيهِم فِيها}، ليس فيه عموم، ولم يثبت أن كلم الله تعالى في حق الواحد من شريعة من مضى حكم في حق أهل شريعتنا كما ثبت ذلك بدليل قاطع في شريعتنا.
ومن وجه ثالث، وهو أنه لم يثبت عموم شريعة التوراة لأصناف الخلق، كما ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق كلهم.
الرابع أنه تعالى قال: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِم فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ}، فكان ذلك مكتوباً على أهل التوراة، وهم أهل ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة، كما للمسلمين أهل ذمة، لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يحل الفىء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعثاً إلى قومه، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل، إذ كانت دماؤهم تتكافأ، فهو مثل قول الواحد منا:
وما في الدنيا سوى المسلمين النفس بالنفس.
وتشير إلى قوم تعيين فتقول:
الحكم في هؤلاء، أن النفس بالنفس.(2/200)
فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال: إنهم فيما بينهم على هذا الوجه النفس بالنفس، وليس في كتاب الله تعالى ما يدل على أن النفس بالنفس مع خلاف الملة.
قوله تعالى: {والعَينَ بالعَيْنِ}، يدل على جريان القصاص في العين وضوئها، وتعلق ابن شبرمة بعموم قوله: {النّفْسَ بِالنّفْس والعَيْنَ بالعَيْنِ}، على أن اليمين تفقأ باليسرى، وكذلك بالعكس، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقالوا تؤخذ الثنية بالضرس، والضرس بالثنية لعموم قوله: السن بالسن.
والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا، وذلك بين لنا أن المراد بقوله تعالى: {العَيْنَ بِالعَيْنِ}، إستيفاء ما يماثله مما يقابله من الجاني، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره، كما لا يجوز أن يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة:48]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (الواجب)
قوله تعالى: {فاستَبِقُوا الخَيْراتِ}، يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا خلاف فيه في العبادات كلها، إلا في الصلاة في اول الوقت، فإن أبا حنيفة يرى الأفضل تأخيرها، وهو أفضل من تقديمها وعموم الآية دليل عليه.(2/201)
وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر.
وقال تعالى في هذا الموضوع كرة أخرى: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}، وذلك يجوز أن يكون تكرار، ويجوز أن يكون وراداً في قصة أخرى تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر في التفسير أن بني النضير وبني قريظة تحاكموا إليه في الدية، وكان بنو النضير أضعف وقريظة أشرف، وكانوا يجعلون دية القتيلين على التفاوت، لذلك قال: {واحذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليْكَ}.
أي لا يعدل على الحكم الذي أنزل الله تعالى عليه، إلى ما يهوون من الأحكام إطماعاً منهم في الدخول في الإسلام، وسياق الكلام إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه خطاب لليهود, لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه, وأخذوهم به, وإذا توجه على أغنيائهم سامحوا, فقيل لهم: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ}.
1)…شرع من قبلنا
قوله تعالى: {لِكُل جَعَلْنَا مِنْكُم شِرْعَةً ومِنْهَاجاً}، يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين.
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } [المائدة:49]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان(2/202)
قوله تعالى: {ولاَ تَتّبِعْ أَهْواءَهُم} ،يدل على بطلان قول من قوم الخمر بناء على أهواء الكفار، ولا يدل على أن الكفار لا يحلفون في بيعهم إذا أردنا تغليظ اليمين عليهم، لأنا في ذلك لا نتبع أهواءهم، لأن إتباع أهوائهم فيما ينفعهم وهذا يضرهم، فهو ضد إتباع أهوائهم، إنما المقصود به المبالغة في إنزجارهم عن اليمين الكاذبة، إحياء لحق امرىء مسلم.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة:50]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الموالاة
قوله تعالى: {لاَ تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أَوْلِيَاءَ}: يدل على قطع الموالاة شرعاً.
وقوله: {بَعْضُهُم أوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يدل على إثبات الشرع الموالاة بينهم، حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَولّهُمْ مِنْكُم فَإنّهُ مِنْهُم}: يمنع من إثبات الميراث للمسلم من المرتد.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة:54]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإمامة الكبرى(2/203)
2)…الرِّدِّة
قوله تعالى: {يَا أَيهَا الّذيِنَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُم عَنْ دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه} الآية [54].
فيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأن الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم ويحبونه، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله تعالى.
ولم يقاتل المرتدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هؤلاء الأئمة، فإنه لم يأت بقوم آخرين يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية، غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر، ومثله في دلالته على صحة إمامة أبي بكر.
قوله تعالى: {قُلْ لِلمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أولي بَأسٍ شَديدٍ} الآية.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دعاهم.
قلنا: قال الله تعالى لرسوله:
{فَقُلْ لَنْ تَخرُجُوا معِي أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعي عَدُوّاً}.
ولا يجوز أن يكون المراد به علياً، لأن الله تعالى قال: تقاتلونهم أو يسلمون، وعلي ما حارب قوماً في أيامه على أن يسلموا، ولم يحارب أحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام على أن يسلموا غير أبي بكر، فدلت الآية على صحة إمامته.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة:55]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
2)…الزكاة
قوله تعالى: {إنّمَا وَلِيّكُم اللهُ وَرَسُولُهُ} الآية: يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصرف بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة، ولا يبطل الصلاة.(2/204)
وقوله: {ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ}. يدل أيضاً على أن صدقة التطوع تسمى زكاة, فإن علياً تصدق بخاتمة تطوعاً في الركوع, وهو نظير قوله تعالى:
{وَمَا آتَيْتُم مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فأوُلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُون}، وقد انتظم النفل والفرض، فصار إسم الزكاة شاملاً للفرض والنفل، كاسم الصدقة، واسم الصلاة ينتظم الأمرين.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة:57]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الّذِينَ اتَخّذُوا دِينَكُم هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قبْلِكُم والكُفّارَ أَوْلِيَاءَ}.
وذلك نهي عن الاستنصار بالمشركين.
هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي.
وأبو حنيفة جوز الاستنصار بهم للمسلمين على المشركين، وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوا.
وقد روى عروة عن عائشة، أن رجلاً من المشركين لحق بالنبي يقاتل معه، فقال له: ارجع، أنا لا أستعين، بمشرك.
فعلل منع الاستعانة بالشرك.
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [المائدة:58]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وإذَا نَادَيْتُم إلَى الصّلاةِ}: دليل على أن الصلاة تجب بادعائه إليها.
ونحوه قوله تعالى: {إذَا نُوديَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْم الجُمعَةِ}.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )(2/205)
{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [المائدة:67]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (البيان)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}:
يدل على أنه عليه الصلاة والسلام بلغ جميع ما أمر به، ولم يكتم من ذلك شيئاً، لأن الله تعالى ضمن له العصمة، فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئاً مما أمره الله به، وفيه دليل على بطلان قول الروافض، أنه عليه الصلاة كم شيئاً مما أمره الله به وأوحي إليه، وكان بالناس حاجة إليه.
{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [المائدة:68]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…دلالة التوراة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُم عَلَى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التّوْرَاةَ وإلإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ} الآية.
وهذا يدل على أن البحث عن التوراة والإنجيل، يدل على أنه يدعو إلى معرفة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن الدين الحق بيِّن عن إقامة التوراة والإنجيل.
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [المائدة:78]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللّعْن(2/206)
قوله تعالى: {لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}: فيه دلالة على جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء، وأن شرف النسب لا يمنع من إطلاق اللعن في حقهم.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة:79]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
2)…الهجر
قوله تعالى: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}, الآية.
روى عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان يلقى الرجل الرجل فيقول له:
يا هذا تقِ الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائيلَ عَلى لِسَانِ داوُدَ وعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ} - إلى قوله - {فاتقون} ثم قال:
كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، أو ليضربن الله تعالى بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعنكم كما لعنهم.
وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين، وأمر بهجرانهم، وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود.
{ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } [المائدة:80]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الموالاة
{تَرَى كَثِيراً مِنهُم يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا}.(2/207)
والضمير في منهم راجع إلى اليهود، وقال آخرون هو راجع إلى أهل الكتاب على معاداة النبي عليه الصلاة والسلام ومحاربته، وأراد بالنبي موسى عليه السلام، أنهم غير مؤمنين إذا كانوا يتولون المشركين.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [المائدة:87]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
2)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم}.
فيه دليل على أن العبد لا يمكنه أن يحرم على نفسه ما أحله الله تعالى له بعقده وقصده.
وروى ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي، فأنزل الله تعالى:
{لاَ تُحَرِّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم}.
وروى قتادة أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا هموا بترك اللحم والنساء والإخصاء، فأنزل الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرمُوا طَيِّبَات مَا حَلَّ اللهُ لَكُم}.
وفيه دليل على أن ذلك منه لغو، وأبو حنيفة رأى أن ذلك صار محرماً عليه، وأنه إذا تناوله لزمته الكفارة، وهو بعيد.
وعند عامة العلماء: إذا حرم جارية على نفسه، لزمته الكفارة بمجرد التحريم عند الشافعي، من غير حاجة إلى وطئها، وليس ذلك لأنه تناول محرماً، فباين ذلك ما نحن فيه، فاعلمه.
ولو قدرنا تحريم الشيء عليه، فتناول المحرم لا يقتضي وجوب شيء عليه في الدنيا، مثل تناول الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: اليمين تعلقت الكفارة بها، لأنها تحرم المحلوف عليه، فوجبت الكفارة عند الحنث بتناول المحرم باليمين، ولا وجوب لها من قبل، ولكن هذا لا وجه له على تفصيل أصلهم، فإنهم قالوا:(2/208)
لو حرم الطعام على نفسه حنث بأكل جزء منه.
ولو قال: والله لا آكل هذا الرغيف، لم يحنث بأكل بعضه، وقدروا فيه الشرط والجزاء وارتباط أحدهما بالآخر، مثل قوله: إن أكلت هذا الرغيف فعبدي حر، فلا يحنث بأكل البعض منه، وذلك يدل على الحنث ليس متعلقاً بتناول المحرم، وإنما هو باعتبار مخالفة الشرط والجزاء، وهذا لا ريب فيه.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [المائدة:89]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم وَلَكِنْ يُؤَاخذُكُم بِمَا عقّدْتُم الأَيْمَانَ}، عقيب نهيه عن تحريم ما أحله الله تعالى.
قال ابن عباس: لم حرموا الطيبات من المأكل، حلفوا على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأبان أن الحلف لا يحرم شيئاً، وهو دليل الشافعي على أن التحريم لا يتعلق به تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو، كما لو قال استحللت شرب الخمر، فمقتضى الآية على هذا القول، ان الله تعالى جعل تحريم الحلال لغواً في أنه لا يحرم فقال:
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم}.
أي تحريم الحلال فيما اشتملت عليه أيمانكم، ولكن لما سبق منكم من عقد اليمين، فأنتم مؤاخذون بماعقدتم من الأيمان، وتلك المؤاخذة كفارة إطعام مساكين، فهذا معنى الآية وهو صحيح.(2/209)
فاللغو على هذا هو الذي لا يعتد به وهو تحريم الحلال.
وقال عطاء وقد سئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله.
وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لغو اليمين لا والله، بلى والله، موقوفاً عليها، فعلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأصل، وعلى ما روى عن عائشة، معنى قوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم}، تقديره من أيمانكم، فكأنَّ الأيْمان منفسمة إلى ما يتعلق به مؤاخذة، وإلى ما لا يتعلق به مؤاخذة في معنى الكفارة، وهذا مذهب الشافعي في الأيمان المستقبلة.
وأبو حنيفة يرى تعليق الكفارة بالأيمان المستقبلة كلها، فمعنى قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم}، يعني المؤاخذة في الأيمان على ما مضى، وإثبات المؤاخذة في الأيمان المستقبلة، غير أن الله تعالى قال في موضع آخر:
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم وَلَكِنْ يُؤَاخذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم}، فأثبت المؤاخذة بما كسبت قلوبنا، وجعل اللغو يقتضي أن المكتسب بالقلب هو الذي يجرد القصد إليه، والماضي العمومي لا كفارة فيه عندهم، فاليمين عندهم منقسمة إلى الماضي والمستقبل، والمؤاخذة من حيث الاسم ثابتة في الماضي والمستقبل في بعض المواقع، فعلى هذا يقولون:
اللغو المذكور في هذه الصورة، أن يحلف على الماضي وهو غير المعقود عليه، ونقيضه المعقود عليه، وهو ما يعزم على فعله، وإنما يعرف عزمه بقوله: لأفعلن ولا أفعل، وفي الماضي لا يتصور عقد العزم على شيء.
واللغو المذكور في سورة البقرة، أن يحلف على الماضي ظاناً أنه كذلك, ثم يتبين غلطة، فهذا لا إثم عليه فيه، وضده أن يحلف عامداً، فهو غموس تتعلق المؤاخذة به في الآخرة، فهذا معنى هذه الآية عندهم.(2/210)
وقال بعض أهل العلم: اللغو أن يحلف على معصية أن يفعلها، فينبغي له ألا يفعلها ولا كفارة فيه، وروي فيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليتركها فإن تركها كفارتها.
ولا شك أن الذي رآه الشافعي أولى، فإن الله تعالى ذكر اللغو في معرض إبراز العذر له، وجعل الكفارة في المعقود، والعقد ربط القلب بشيء وتجديد القصد إليه، فإذا كان كذلك، فينبغي أن يكون من يسقط الكفارة عنه، إنما يسقط تسبب نسيه أن يكون عذراً، تسقط به المؤاخذة في الدنيا والآخرة جميعاً، وفي الغموس لا عذر لصاحبه، وإن سقطت الكفارة، فليس لأن الغموس تقتضي التخفيف وترك المؤاخذة، بل تقتضي ضد ذلك.
والذي حملهم على ذلك قوله تعالى: {واحْفَظُوا أَيْمَانَكُم}, فذكروا أن حفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل، وهذا غلط، فإنه ليس حفط اليمين الامتناع من الحنث، مع أن الحنث مأمور به في كثير من المواضع، وقد قال الله تعالى:
{قَدْ فَرَضَ اللهُ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُم}.
وإنما المراد به الامتناع من اليمين، فلا يحلف ما استطاع، ويحفظ لسانه عن اليمين مطلقاً، فهذا معنى حفظ اليمين.
ويدل عليه أن اليمين قد يكون على فعل الغير، ولا يتأتى منه حفظ الغير، مثل قول القائل، لا تطلع الشمس غداً، ولا تمطر السماء غداً, أو لتمطرن السماء غداً, أو ليدخلن السلطان، إلى غير ذلك مما يعقد اليمين عليه، فعلم بطلان هذا القول.(2/211)
ولا شك أن الحق متميز في مسند الشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة عند من تأمل فحوى الكلام الدال على نصب اللغو سبباً للتخفيف ونفي المؤاخذة، تارة مطلقاً في الدارين، وتارة في حكم الكفارة، ولا ينبغي أن يحمل على محمل يقال إنه لا كفارة فيه مع تناهي الجريمة والوزر، وتناهي المؤاخذة عند الله تعالى، واقتضاء التسبب نهاية التغليظ، فكيف يجوز إطلاق نفي المؤاخذة بلفظ اللغو المشير إلى التخفيف في الموضع الذي يقول الله تعالى:
{إنَّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِم ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ في الآخِرَةِ ولاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ولاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أترون هذا من الذي يحسن أن يسمى باسم اللغو، الذي يقال فيه لا مؤاخذة في مثله.
وقوله عقدتم، قرىء بالتشديد، ومعناه عقد القول، وعقدتم بالتخفيف يحتمل العزيمة والقصد إلى اللفظ، وعقد اليمين قولاً، وإنما العزم فيما يؤكده الإنسان بقصده وعقده، فيظهر للناس منه تأكيد القول وإظهار تحقيقه.
هذا هو معناه، ولا يتحقق ذلك في قوله لا والله وبلى والله في حق من يكون عازماً عليه، وإنما يجرى في تضاعيف الكلام من غير ثبت وتحقيق.
وذكر إسماعيل بن إسحاق المالكي في كتابه المترجم بأحكام القرآن, في الرد على الشافعي، ما أذكره وأسوق كلامه وأبين جهده بكلام الشافعي, قال إسماعيل:
حكي عن الشافعي أن من حلف عامداً للكذب فقال: والله لقد كان كذا، وما كان، أو قال: والله ما كان، وقد كان، كفّر وقد أثم وأساء، حيث عقد الحلف بالله باطلاً.
فإن قال قائل: ما الحجة في أن يكفر وقد عقد الباطل؟ قيل: أقربهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".(2/212)
فقد أمره الله أن يعمد الحنث، يقول الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُم} الآية، نزلت في رجل حلف لا ينفع أخاه، فأمره الله تعالى أن ينفعه.
وقوله تعالى: {وإنّهُم لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً}, ثم جعل فيه الكفارة.
ومن حلف وهو يرى أنه صادق، ثم وجده كاذباً، فعليه الكفارة.
قال اسماعيل: فشبهه الشافعي بما لا يشبهه، لأن الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالذي هو خير وأن يكفر، إنما أمره أن يستأنف بعد اليمين شيئاً كان حلف عليه ألا يفعله، ولم يكن الرجل كاذباً حين حلف، فجعلت كفارة يمينه إذا فعل ما حلف عليه ألا يفعله، ما ذكر في القرآن، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء مضى، كاذب فيه، حالف عليه، فكيف يشبه هذا بهذا؟
ثم أردف هذا: بما لا ينطلق لسان محصل بذكره: بأن الذي استشهد به أمر فيه بأن يتعمد الحنث، فلنؤمر في الماضي بمثله، وهذا جهل مفرط منه، وإنما أوتي من قبل نظره إلى صورة الكلام، من غير أن عرف مقداره، وليس يبين في أكثر حجاج الشافعي مقاطع الحجاج على ما يعهده الجدليون، وإنما يرمز إلى المقصود رمزاً غير بانٍ كلامه على أفهام ضعفة العقول ومنقوصي الأذهان.
ونحن نذكر تقرير قول الشافعي، أنه رحمه الله أشار بقوله إلى أن الكفارة في المستقبل ما وجبت إلا باعتبار الخيانة، فإن الكفارة لا تكون جزاء على فعل مباح أو فعل واجب، وإنما هي جزاء على أمر مكروه منهي عنه.
فإذا ثبت ذلك، فمن حلف على ترك فعل مباح أو واجب في المستقبل، ثم فعل، فلا يمكن أن يقال إن الكفارة لأجل ذلك الفعل المباح، الذي ندبه الشرع إلى فعله، وإنما تجب الكفارة لأجل ما اتصفت به اليمين من صفة الحنث، فيقال صارت اليمين كاذبة، بدل ما يقال إن اليمين صادقة، فإذا كانت الكفارة لأجل صفة الحنث لا لأجل الفعل المباح، فوصف الحنث جناية على اليمين، وذلك في الماضي والمستقبل واحد.(2/213)
فقال اسماعيل في الذي شبه الشافعي به أمره، أن يستأنف بعد اليمين شيئاً كان حلف فيه أن لا يفعله، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبرٌ عن شيء قد مضى كاذب فيه، فلم يفهم المقصود، فجعل الفرق بينها الماضي والمستقبل، وقال يجب أن يؤمر بالحنث فيما مضى، كما أمر به في المستقبل، وهذا كلام من لا يحل له أن يتصدر للتصنيف في الدين، فضلاً عن أن يرد على الشافعي.
ثم قال: جعل الله الكفارة عن اليمين، فمن كفر فلا إثم عليه، فينبغي أن يكون هذا في قول الشافعي لا إثم عليه، فظن أن الكفارة هي التي ترفع الإثم، وقد بينا في مواضع أن التوبة هي الرافعة، وأن الكفارة تجب في قتل العمد والزنا في رمضان والقتل بالمثقل، وإن لم يرفع الوزر قبل التوبة بمجرد الكفارة، فاعلمه، وإنما الكفارة لأجل جبر صفة الحنث الحاصلة في الأيمان، والشافعي رحمه الله تعالى لما رأى الكفارة متعلقة بصفة الحنث الراجعة إلى اليمين، لا جرم رأى الكفارة متعلقة باليمين، ورآها سبباً فيها فقال: تقديم الكفارة على الحنث جائز، لأن اليمين سبب، فلذلك قال: {فَكَفّارتُهُ} وقال: {ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيمَانِكُم..}, وقوله: {ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُم}, معناه وذلك نتيجة أيمانكم, ومعقول أيمانكم، والمتعلق بها.. ولا فرق بين أن يقول: {ذَلِكَ كَفّارَةُ أيْمَانِكُم} وبين أن يقول: "ذلك حكم أيمانكم" إذا كانت الكفارة حكماً ولا حكم سواها.
قوله: {ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُم}، معناه ذلك حكم أيمانكم، ولو قال ذلك حكم أيمانكم، عرف منه أن اليمين سبب، وكذلك إذا قال: "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم".
وأبو حنيفة يقول: قوله {ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُم}، فيه اضمار الحنث ومعناه: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم، وهذا غلط منه، فإذا حنث عندهم فليست الكفارة كفارة اليمين، وإنما الكفارة كفارة الحنث في تناول المحرم، فلا تضاف الكفارة إلى اليمين عندهم أصلاً، سواء حنث أو لم يحنث.(2/214)
والذي يقال فيه من الاضمار صحيح، فإنه قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَريضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ}. ومعناه فافطروا فإنه إذا أفطر فعدة من أيام أخر، وهاهنا لو جرى الاضمار صح، فلا يستقيم ما ذكروه، فأما بعد الحنث، فلا تكون الكفارة كفارة اليمين على موجب أصلهم، وإنما يجوز أن يضاف الحكم إلى سببه، أو إلى سبب سببه، مثل القتل مضاف إلى الشرك عندنا، وعندهم هو مضاف لفظاً، وإن كان متعلقاً بالحرب، لأن الشرك يدعو إليه ويبعث عليه، فكان الشرك مولداً للحرب ومقتضياً له، فحسن إضافة الحكم إلى سبب السبب.
فأما اليمين عندهم، فليست السبب الكفارة ولا سبب السبب، فإن اليمين تضاد الحنث وتمنع منه، والحنث نقض اليمين، فكيف يعقل إضافة الكفارة إلى اليمين، وليست هي سبباً ولا سبب السبب.
والإضافة إما أن تكون بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز، فأما الحقيقة، فمثل قولنا زكاة المال، والمجاز مثل قولهم يقتل الكافر لكفره، وإن كان القتل عندهم للقتال، ولكن الكفر يدعو إليه، فلتكن الإضافة فيما نحن فيه جارية على احد الوجهين، فإذا لم يوجد وجه من الارتباط لا مجازاً ولا حقيقة، تطلب الإضافة من كل وجه، وهذا في غاية الوضوح.
قوله تعالى: {إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، وليس قيه تقدير شيء معلوم.
ورأى الشافعي أن لكل مسكين مداً من طعام.
ورأى أبو حنيفة مدين، وذلك ملتقى من التوقيف المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الشروع فيه من معاني القرآن.(2/215)
واختلف علماء السلف في التغذية والتعشية، وكذلك اختلف فيه الشافعي وأبو حنيفة، وظاهر قوله تعالى، فإطعام عشرة مساكين، يدل على جواز التغذية والتّعشية على ما قاله أبو حنيفة، إلا أن الشافعي يقول لما قال فإطعام، جعل المال طعمة، لا أنه جعل الإطعام الذي يتعقبه التطعم، ولذلك جاز التمليك وليس فيه فعل الإطعام، وإنما المراد به جعل المال طعمة لهم، وقربة بقوله {أَوْ كِسوَتُهُم} ومعناه أو مقدار كسوتهم، وفي الكسوة التمليك شرط، وكذلك في الطعام، وتمامه مستقصى في كتب الفقه.
وفي قوله: {إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، دلالة على أنه لو صرف إلى واحد جميع الطعام لا يجوز، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما أذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، والسبب في ذلك أن منهم من يراعي عند تعدد الفعل ظاهر التوقيف فيقول:
إذا دفع إليه أولاً، فبعد ذلك لو منعناه كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض، فإن اسم لمسكين يَعمه مع غيره، فأما إذا دفع إليه دفعة واحدة بطل معنى العدد، فكأنهم يقولون إذا تعدد الفعل، حسن أن يقال في الفعل الثاني، لا يمنع من الذي دفعه إليه أولاً، فإن اسم المسكين يناله، فهذا مأخذ قوم منهم.
واعتمد آخرون في إسقاط العدد، على إقامة تعدد الجوعة بتعدد الأيام مقام أعداد المساكين، والأمران باطلان، فإن فيهما طرح العدد، وذلك لا وجه له، والذي قالوه من أنكم منعتموه مع اشتمال اسم المسكين عليه، فلم يمنعه إلا لاعتبار العدد، فإن العدد منصوص عليه فلا سبيل إلى طرحه، والذي ذكروه من إقامة عدد الأيام مقام عدد المساكين، فتحكم ذكرنا في كتب الفقه فساده.(2/216)
واحتج أصحاب الشافعي في منع القيم في الكفارات، بأن الله عز وجل ذكر الطعام والكسوة والتحرير، فلو جازت القيمة، كان على تقدير أن المقصود منه حصول هذا القدر من المال للمساكين، ولو كان المقدار مقصوداً لما خير بين الإطعام والكسوة والتحرير، مع تفاوت قيمتها في الغالب من الأحوال، وهو مثل احتجاج بعض أصحابنا في منع القيم، بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيوان شاتين أو عشرين درهماً مع التفاوت غالباً، وإيجاب الصاع من التمر والزبيب والبر والشعير مع تفاوت قيمتها غالباً، وهذا أقوى الحجج في إبطال القيمة.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة:90]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأشربة (الخمر)
قوله تعالى: {إنّمَا الخَمرُ والمَيْسِر} الآية، فالخمر عند كافة العلماء محرمة،غير أن في الناس من يشك في بعض الأحيان، وأنها خمر أم لا.
ولا شك أن موضع الاشتقاق وهو التخمير أو المخامرة ، يقتضي كون الأشربة المسكرة خمراً، غير أنا لا نثبت اللغات بهذا الجنس من القياس، ورويت أخبار تدل على أن اسم الخمر لازمة لهذه الأشربة التي اختلف العلماء في تحريمها، والمشكل إشكال الاسم على أهل اللغة وأن ذلك لو سمي خمراً لم يشكل.
كيف وعامة أشربة المدينة من التجمل، لأن العنب لا يوجد بالمدينة، وكيف صار ذلك مشكلاً؟
وكيف يصور الاختلاف فيه ؟
فلعل اشتهار غير العيني بأسامي أخر، لتمييز نوع من نوع، أورث هذا الإشكال، ولم يكن للعنبي اسم آخر وغير العنبي.
فمنه ما يسمى الفضيخ.
ومنه ما يسمى المزر.
ومنه ما يسمى البتع.
ومنه ما يسمى نبيذاً، فصار هذا الإسم مشهوراً في التعارف.
وظن ظانون أن الاشتهار في بعض الأشربة يمنع من إطلاق اسم الخمر عليه.(2/217)
ورأى آخرون أن اسم الخمر عام، ثم اختص كل شراب باسم، كالفاكهة اسم عام، ثم يسمى كل واحد باسم خاص، وهم يجيبون عن ذلك ويقولون:
الفاكهة لم توضع مشهورة ببعضها دون بعض، ولكل واحد منها اسم خاص، فأما العنب فليس له اسم مشهور مذكور سوى الخمر، ولكل واحد مما سواه يدعى به، فانصرف المطلق إلى ما اشتهر به، وكان موضوعاً لذلك، وهذا في غاية الوضوح.
ويجاب عن هذا أن مزية الاشتهار لكونه مقصوداً للشرب غالباً وغيره، إنما يشرب عند اعواز العنب، والأصل الاعتماد على الآبار، مثل قول ابن عباس:
نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ، فأخبر ابن عباس ان الفضيخ خمر.
وروى حميد الطويل عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة، وأبي بن كعب، وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة، فمر بنا رجل فقال: إن الخمر قد حرمت، فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا: أهرق ما في إنائك يا أنس، ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله، وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ.
فاخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر.
وعند من يخالفنا شيء من ذلك ليس بمحرم قبل السكر، ولا هو مسمى بالخمر.
وروى ثابت عن أنس، قال: حرمت علينا الخمر يوم حرمت، ولا نجد خمور العنب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر.
وعندهم أنها ليست كالخمر، لا في الحكم ولا في الاسم.
وعن أنس بن مالك، أنه قال: حرمت الخمر وهي من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمر من ذلك فهو خمر.
ذكر في الحديث الآية أنه من التمر والبسر.
وذكر في هذا الحديث أنه من ستة أشياء.
وعندهم أن لا خمر منها، وروى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ان من الحنطة خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من الزبيب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً.
وورد في بعض الأخبار رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(2/218)
الخمر من هاتين الشجرتين، يعني النخلة والعنب، ومراده غالب ما يشرب من الخمر، وإلا فعندهم المثلث ليس من الخمر، وهو من العنب, ونبيذ التمر ليس بخمر.
وتواترت الأخبار أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قال اسماعيل بن إسحاق: الدليل على أن كل شيء أسكر فهو خمر قوله تعالى:
{وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأَعنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْه سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً}.
فكان السكر من العنب، مثل السكر من النخل، ثم نسخ ذلك، فإن سورة النحل مكية، إلا آيات في آخرها.
وقال تعالى: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبيِرٌ}.
فذمهما ولم يحرمهما على تأويل قوم، وحرم بعد ذلك السكر عند إرادة الصلاة، فاستوى في ذلك السكر من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال بعد ذلك: {إنّمَا الخَمرُ والمَيْسِرُ}، فجاء التحريم في هذه الآية.
قال: وجاء في الأخبار أنه كان للخمر أحوال ثلاثة، ووصفت الأحوال الثلاثة بهذه الآيات.
فلما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب موجباً نهياً عن الصلاة، وكانت إحدى حالات الخمر كذلك، كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية، وكانت هي الحالة الثالثة من حالات الخمر.
وهذا الذي ذكره ليس فيه كثير دلالة، وإنما غايةُ ما فيه أن السكر من الجميع سواء, فليكن القليل من الجميع سواء.
فيقال له لأن المعنى في تحريم السكر ظاهر، ولا معنى في تحريم القليل، وإنما هو تعبد، والتعبد مختص بما يسمى خمراً.
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة:91]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأشربة
{إنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوةَ والبَغْضَاءَ}.(2/219)
فهذا إشارة إلى سبب التحريم، وأنه كان إرادة قطع الشيطان، إنما يريد حالة ابتداء الشرب والإحتواء على قدح الخمر، ولا يريد ذلك حالة وقوع السكر، فبالسكر تقع العداوة والبغضاء، وبه وصل الشيطان إلى مراده، لا بالسكر بل قبل السكر.
فإن قلت: إن الشيطان يريد أن يشرب ليدعوه الشرب إلى السكر، فليس في ذلك دليل على أن ذلك يجب أن يكون محرماً.
مع أن الذي به تقع العداوة غير نفس الشرب، وحرم الميسر أيضاً لأن الرجل منهم كان يقامر في ماله وأهله فيقمر، فيبقى حزيناً سليباً، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء، مثل ما يوجب ذلك السكر من الخمر من العربدة والعداوة، وهذا موجود فيما يوجب السكر منه.
فأما القليل من الخمر، فليست هذه العلّة موجودة فيه، فهو محرم لعينه عند أبي حنيفة، ومحرم عند الشافعي، لأن قليلها يدعو إلى الكثير، وهذا المعنى وما يرد عليه من الاعتراض شرحناه في مسائل الفقه وأصول الفقه.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة:93]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية: [93].
قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.
لما حرمت الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر فقالوا:
كيف من مات منا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي عن علي رضي الله عنه، أن قوماً شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال، وأولوا هذه الآية، فأجمع عمرو على أنهم يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.(2/220)
{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة:94]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيد
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلَوَنّكُمُ اللهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ} الآية: [94].
اختلف في موضع من هاهنا فقال قائلون: إنها للتبعيض، أن يكون صيد البر دون صيد البحر، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال.
وقيل إنها للتمييز، مثل قوله تعالى:
{فاجْتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوْثَانِ}.
وقولك باب من حديد، وثوب من قطن.
{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [المائدة:95]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيد
قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}، استدل به قوم على أن العاق لا جزاء عليه، وهو بعيد جداً عن أصول الشرع.
نعم معنى ذلك {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}، بعد قوله عفا الله عما سلف، يعني قبل التحريم.(2/221)
قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، احتج به الرازي لأبي حنيفة، في أن المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه، جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل، يتصدق به، لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره، فلو أكل منه وأخذ مثله، فلا يكون ذائقاً وبال أمره، وهذا قول بعيد، فإن الصيد عنده ميتة، فإذا أكل الميتة، فمن أين يكون قد وصل إليه مال مثل ما خرج عن ملكه.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ}.
استدل به الرازي على أن على كل واحد من الجماعة جزاء كامل، فإنه تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ}، وكل واحد يسمى قاتلاً، ومثله قوله {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ}، فاقتضى ذلك إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين، وهذا بعيد، فإن كل واحد منهم ليس قائلاً حقيقة بل هم قتلة، وهم كشخص واحد، وهذا بيناه في مسائل الفقه.
وقد قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ ودِيّةٌ مَسْلّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}، وليس على كل واحد من المشركين دية كاملة، فاعلمه.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [المائدة:95]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيد
قوله تعالى: {لاَ تَقتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُم حُرُمٌ} الآية: [95].
يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة.(2/222)
ويحتمل دخول الحرم، يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال أبحر إذا أتى بحراً، وأعرق إذا أتى العراق، واتهم إذا أتى تهامة، والثالث الدخول في الشهر الحرام، كما قال الشاعر: قتل الخليفة محرماً.
والوجه الثالث على خلاف الإجماع، فلا يكون مراداً بالآية، فبقي الوجهان الأولان.
إذا تبين ذلك فقد قال تعالى: {لاَ تَقْتلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُم حُرُمٌ}, فدل مطلق الصيد على تحريم اصطياد كل ما يصطاد من بري أو بحري، لولا ما استثناه من البحري.
ولما قال لا تقتلوا، أمكن أن يكون تنبيهاً على أن ذبيحة المحرم ميتة، لأن الله تعالى سماها قتلاً، والمقتول لا يؤكل، وإنما المأكول هو الذي يذبح.
ويحتمل أن يقال: إن القتل والذبح في عرف اللغة واحد، فهذا إن كان فرقاً، فهو فرق مأخوذ من عرف الشرع، وليس يظهر من عرف الشرع هذا، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وكان كذلك محرماً، ويقال ذبيحة المجوسي وذبيحة الوثني.
نعم الذي يقطع منه الحلق واللبة، يُسمى في العرف والعادة مذبوحاً سواء كان مباحاً أو محرماً، والذي يرمى من بعيد ولا يذبح من المذبح المعتاد، يسمى مقتولاً، ويسمى ذلك الفعل قتلاً، قال الله تعالى:
{والمُنْخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمتَرَدِيّةُ والنّطِيحَةُ ومَا أَكَلَ السّبُعُ إلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}.
وكل ذلك محرم.
ومنه ما سمي مذبوحاً، ومنه ما سماه موقوذاً، فلا يتعلق بمجرد هذا الاسم، فلأجل ذلك اختلف قول الشافعي، وأبو حنيفة جعل ذلك أصلاً, فقال إذا قال: لله تعالى عليَّ أن أذبح ولدي، لزمه ذبح شاة.
وإذا قال: لله عليَّ أن أقتل، لا يلزمه شيء.
وإذا ثبت هذا، فأبو حنيفة يرى اتباع عموم تحريم الصيد، فأوجب الجزاء بقتل النمر والفهد والسباع المؤذية العادية لطباعها، إذا قتلها المحرم من غير صيال منها.(2/223)
وذكر القعنبي عن مالك: ورد في الخبر: والكلب العقور - والكلب العقور هو الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم بجبلته، مثل الأسد والنمر والذئب، والكلب العقور، وما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والهرة والثعلب، فلا يقتلهن المحرم، فإن قتل شيئاً من ذلك فداه.
واتفق العلماء على موجب ما ورد في الخبر، وروى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم:
الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور على اختلاف منهم، وفي بعضها هن فواسق" وروي عن أبي هريرة قال: الكلب العقور: الأسد.
ويشهد لتأويل أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على عتبة ابن أبي لهب، فقال: أكلك كلب الله فأكله الأسد.
وقيل إن الكلب العقور هو الذئب، ودل لهم ذكر العقور على أن العقر بصورته وقصده وغير معتبر، ولكنه إذا كان موصوفاً به كفى، فيدل ذلك من طريق التنبيه ضرورة على أن الصيد إذا صال على المحرم وقتله دفعاً عن نفسه فلا ضمان.
واستدل الشافعي به على أن لا ضمان في كل سبع عادي بطبعه، فإن ذكر العقور يدل على أن ما في طبعه من الضراوة قائماً مقام ما يظهر منه لكل سبع عادي، يجب أن يكون ما في طبعه من الضراوة قائماً مقام ما يظهر منه، فهذا صحيح على ما هو قول مالك، ويظهر الكلام فيه على أبي حنيفة، وذكرالرازي فصولاً في منع التعليل، كرهنا ذكرها لسقاطتها، ولكونها أقل مما يحتاج إلى ذكرها وتكلف الجواب عنها، فاعلمه.. إلا أن الإشكال في السباع التي لا تعدو ولا تضرى.
واعلم أن ما لا يعدو منها، فأكثرها مأكول اللحم عند الشافعي، كالضبع والثعلب، يبقى ذلك ما لا يسمى صيداً مثل الهرة الأهلية، وهي غير داخلة في عموم الآية.(2/224)
وبعد، فإنه تعالى لما قال: {أحِلَّ لَكُم صَيدُ البَحْرِ}، وقابله بصيد البر فقال: {وَحُرّمَ عَلَيْكُم صَيْدُ البَرِّ}، علم أنه إنما حرم للأكل، فانصرف إلى ما يؤكل بحال، ثم قال: ما دمتم حرماً، فمد التحريم إلى غاية، والذي هو محرم لعينه، لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرماً، ويجعل في مقابلته صيد البر، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم.
1)…الصيد
2)…الجنايات (على النفس)
3)…القصاص
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلُه مِنكُم مُتَعَمِّداً}.
اختلف الناس في ذلك، فمنهم من سوى بين العمد والخطأ وهم جمهور العلماء، ومنهم من خص ذلك بالعمد على ما ذكره الله في كتابه، وهو قول طاووس وعطاء وسالم وداود، والذين مالوا إلى موجب الجمهور، وذكروا أن فائدة ذكر المتعمد يظهر في نسق التلاوة في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}، وذلك يختص بالعمد دون الخطأ، لأن المخطىء لا يجوز أن يلحقه الوعيد، فخصص العمد بالذكر، وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه، وإذا صح مجمل التخصيص ساغ قياس الخطأ على العمد، والجامع بينهما أن بدل المتلف هو الجزاء, وهو مقدر بمثل الفائت، إما بقيمته من الدراهم أو الدنانير أو النعم، وأبدال المتلفات، يستوي العمد والخطأ كالديات وقيم المتلفات، وغاية ما في النسيان أن يقدر عذراً، والعذر لا يسقط الجزاء المتعلق بالجنابة، الدليل عليه الحلق للأذى، إلا أن هذا لا يستقيم على أصل الشافعي، فإنه فرق في اللبس بين العمد والنسيان، وكذلك في التطيب، ولأن الصوم يبعد جعله بدلاً من العين، وقد أوجب الله تعالى الصيام فقال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، إلا أن الشافعي يجوز إيجاب الصوم حقاً لله تعالى بطريق البدل، وقد عرف ذلك من أصله في وجوب الكفارة بقتل الآدمي.(2/225)
وبالجملة، وجوب الجزاء على الناس بقتل الصيد مسلك على أصل أبي حنيفة، فإنه لا يرى إثبات الكفارات بالقياس، والذي نحن فيه سبيله، سبيل الكفارات عنده، حتى إذا اشترك المحرمون عنده في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، بخلاف صيد الحرم، فإنه وجب بالجناية على الاحرام، وجناية كل واحد منهم كاملة، وذلك يخرج الجزاء عن كونه بدلاً، ومتى ثبت أنه جزاء على الفعل، كيف يجب على الخاطىء؟ سيما والكفارات عنده لا تثبت قياساً، ولما ورد النص في الكفارة بقتل الآدميين في الخطأ لم يجوز قياس قتل العمد عليه، سواء وجب القصاص في العمد أو لم يجب، مثل قتل الأب ابنه، والسيد عبده، فكيف أجازوا قياس الخاطىء على العامد هاهنا، وقد قال تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، ولا يمكن ذلك في حالة النسيان، وتكلف الرازي فروقاً بينهما، فقال: في العمد تولى الله بيان حكمه، وفي الخطأ تولى الله بيان حكمه، فلم يجز قياس منصوص على منصوص.
وهذا جهل مفرط، فإن الله تعالى بين حكم العمد فيما يتعلق بالآخرة، وسكت عن ذكر الكفارة، فإن كان السكوت عن ذكر الكفارة دليل على نفي المسكوت عنه، فهلا كان ذكر العمد دليلاً على نفي الحكم في المسكوت عنه وهو الخطأ، بل أولى، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جُهُنّمُ}، أبان اختصاص الجزاء بالعمد، وإن ذلك المذكور لا يتعلق بالخطأ، فإن قال ومن قتله منكم متعمداً، وجب أن يختص حكم الجزاء بالعمد ولا يشركه الخطأ، فاعلم، وذكر فرقاً آخر فقال: إن العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة، ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء أهدرنا، وذلك بعيد، وإبطال لحرمة الصيد.(2/226)
فيقال: إن القصاص الواجب للآدمي، لا يسد مسد الكفارة، وقد يجب القصاص، ولا كفارة مثل قتل الأب ابنه والسيد عبده، وقوله إنا لو لم يوجب الجزاء في الصيد أهدرنا، إنما كان يستقيم أن لو وجب الجزاء بدلاً عن الصيد، وعنده أنه ما وجب بدلاً، وإنما وجب عقوبة على الفعل، ولذلك يجب على المشتركين على كل واحد كمال الجزاء وهذا بين.
قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ} الآية:
اختلف في المراد بالمثل، فروي عن ابن عباس ان المثل نظيره في الخلقة، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بدنة، وهو مذهب الشافعي فيما له نظير من النعم، وما لا نظير له كالعصافير وغيرها، ففيه القيمة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف يرون أن المثل هو القيمة، ويشتري بالقيمة هدياً، وإن شاء طعاماً، وأعطى كل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً.
وظاهر القرآن يشهد للشافعي، فإن الذي يتعارفه الناس من المثل، المثل من حيث الخلقة، يقال فيمن أتلف طعاماً عليه المثل، وفيمن أتلف عبداً فعليه القيمة، فإن الطعام من حيث الخلقة، ولا مثل للصيد من جنسه، إلا أن الفرق أن المثل فيما نحن فيه، وإن روعي من حيث الخلقة فهو من غير جنس الصيد، مثل إيجابنا البدنة في النعامة، والكبش في الضبع، وهذا لا يمنع كونه مثلاً من حيث الخلقة. والمقصود، بيان أن المثل في المتعارف هو المثل من حيث الخلقة والصورة، فاعلمه.
ونحن نقول إن المماثلة في القصاص مرعية، ولا نعني بالمماثلة ما نعنيه في ذرات الأمثال، وإنما نعني المماثلة من وجه آخر، وذلك ليعلم أن المماثلة إذا أطلقت، فالمفهوم منها المماثلة من غير الصورة.(2/227)
فان قال قائل: القيمة مثل في المالية شرعاً، ولم يثبت في عرف الشرع أنه اسم للنظير من جنس آخر من النعم، وأن ذلك يسمى مثلاً، نعم القيمة مثل للشيء من حيث المعنى، والذي في ذوات الأمثال مثل من طريق الصورة والمعنى، أما البدنة في قتل النعامة فليست مثلاً للنعامة لا صورة ولا معنى، فإذا لم يكن كذلك فلا طريق أصلاً إلى ما قلناه.
والجواب أن المعتبر في ذلك فهم معنى كتاب الله تعالى وتتبع دلالته، فإذا قال تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ}، كان المثل من النعم، والمثل من النعم لا يجوز أن يكون بطريق القيمة، فإن العبد لا يكون مثلاً للعبد في الاطلاق وإن ساواه في القيمة.
نعم، إنا لا نطلق القول بالمماثلة بين الجنسين المختلفين، ولكن إذا قيل: مثل ما قتل من النعم، فلا يظهر منه إلا المماثلة بينهما من حيث الصورة، ومن أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيجاب البدنة في النعامة، أفيتوهم متوهم أن قيمة النعامة بدنة في زمن الصحابة وفي زمن التابعين، قيمتها في وقت من الأوقات، وهل سمعنا أن قيمة النعامة كانت عند المسلمين قيمة بدنة، قالوا القيمة معنية بهذا المثل فيما لا نظير له، فواجب أن يفهم من اللفظ في الكبير من الصيد ما فهم من الصغير، فإن اللفظ اشتمل عليها اشتمالاً واحداً، ومتى اعتبر النظير اختص اللفظ ببعض المسميات.
الجواب: أن الذي قالوه، وتحكم، فإن الآية نص في إيجاب المثل ومن النعم، فإذا قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ}, فمعناه بالمثل من النعم، والجزاء من النعم بطريق المماثلة، ولو اقتصر على قوله: {فَجَزَاءٌ مِثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ}, أو فجزاؤه من النعم، لم يمكن طرح النعم المذكور، وجعل القيمة أصلاً، وكذلك هاهنا.
وعلى هذا لا دلالة للآية على صفات الصيود، وإنما وجوب القيمة فيها متلقى من الاجماع.(2/228)
فإن قيل: سمى الله تعالى القيمة مثلاً في قوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم}.
قلنا: ليس المراد به القيمة، وإنما المراد به القصاص والمماثلة فيه، فإن وجوب ذلك موقوف على الاعتداء، لا على القيمة التي تجب، حيث يجوز له إتلاف مال الغير، ويجب شرط الضمان، فوصف الاعتداء في ضمان القيمة لغو من هذا الوجه، وإنما المراد به القصاص، وهذا بين جداً.
1)…الصيد (جزاء الصيد)
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ}.
ولو كان الواجب مثل ما ذكرتموه من البدنة في النعامة من غير اختلاف.
ومثل الكبش في الضبع، فليس ذلك مما يحتاج فيه إلى الارتياء والنظر ومعرفة الشكل، حتى يحتاج فيه إلى ذوي عدل، وإنما يحتاج إلى ذوي العدل فيما يختلف ويتفاوت فيه النظر ويضطرب فيه الرأي، ويدل عليه أنه ذكر الطعام والصيام وليس مثلاً وأدخل أو بينهما وبين النعم، فلا بد أن يكون ترتيب الآية: فجزاء مثل ما قتل من النعم أو من الطعام أو الصيام.. وتقديم ذكر النعم في التلاوه، لا يوجد تقديمه في المعنى، بل الكل كأنه مذكور معاً، فلا فرق على هذا بين هذا الترتيب الموجود من الآية، وبين أن يقول: فجزاء مثل ما قتل طعاماً أو صياماً ومن النعم هديا، ونظيره، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا يقتضي ذلك كون الطعام مقدماً على الكسوة، ولا الكسوة على العتق، بل الكل كأنه مذكور في لفظ واحد معاً، فكذلك قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم، موصول بقوله: يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة، أو كفاره طعام مساكين، لم يكن ذكر النعم تفسيراً للمثل.(2/229)
الجواب أن الذي قالوه غلط، فإن قوله: {يَحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم}، في اعتبار حال الصيد في صغره وكبره، موجب في أدنى النعم بدنة على قدرها، وفي الرفيعة على قدرها، وذلك يقتضي حكم ذوي العدل، وأما قولهم إن الله تعالى ذكر الطعام والصيام، قيل لا جرم لا يحسن في الاطلاق أن يقول: فجزاء مثل ما قتل من الطعام أو الصيام أو الصلاة، إن ورد الشرع بالصلاة، فإن الصوم لا يكون مثلاً للحيوان في الاطلاق، وكذلك الطعام، فيدل ذلك على أن قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم، يقتضي إيجاب المثل من النعم، أو الطعام إذا لم يرد المثل، أو عدل ذلك صياماً، فالمماثلة معتبره من جهة الخلقة والصورة في النعم، ولا يتحقق ذلك في الطعام والصيام.
قالوا قوله: فجزاء مثل ما قتل، كلام تام غير مفتقر إلى تضمينه بغيره، وهو قوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم.. أو كفاره طعام مساكين، يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل، فلم يجز أن يجعل المثل مضمناً بالنعم، مع استغناء الكلام عنه، لأن كل كلام له حكمه، غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه، ولأن قوله من النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة الحرم، فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم، هدياً إن أراد الهدي، والطعام إن أراد الطعام، فليس هو إذاً تفسير للمثل، كما أن الطعام والصيام ليسا المثل المذكور. والجواب أن قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل، أن قدر الاقتصار عليه كان مجملاً لا يكفي في البيان، فإن المثل يقع على وجوه مختلفة.(2/230)
وقوله: من النعم، بيان ذلك الإجمال لا محالة، ولا يجوز أن يقال من النعم يحكم به ذوا عدل غير مرتب على ما تقدم، وهذا معلوم ضرورة، وإنما كان يستقيم ما ذكروه، أن لو كان صدر الكلام مستقلاً بالبيان وفيه شيء آخر، وهو أنا لا نثبت المماثلة على الوجه الذي ذكروه وتوهموه، وإنما نقول: يقوم الهدي، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاماً، فلا مماثلة مع الهدي بوجه، وإنما المماثلة والمقابلة مع النعم، ثم يقوم النعم ويشتري به طعاماً، لأن الله تعالى ذكر المماثلة مع النعم، ولم يذكر المماثلة مع الصيد. نعم، أبو حنيفة يقول: يقوم الصيد دراهم، ثم يشتري بالدراهم طعاماً، فيطعم كل مسكين نصف صاع، فأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم، ثم يقول المثل كما في المثليات يقوم المثل، وتوجد قيمة المثل، فستكون قيمة المثل كقيمة الشيء، فإن المثل هو الأصل في الوجوب وهذا لا غبار عليه.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المائدة:96]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصيد (صيد المحرم)
2)…الحج
قوله: {وحُرِّم عَلَيْكُم صيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُم حُرُماً}:
استدل به قوم على أنه يكره للمحرم أكل صيد اصطاده حلال، والأكثرون من العلماء على إباحته، وقد روى أبو الزبير عن جابر قال: عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصطادوه أو يصاد لكم".
وفيه أخبار كثيرة، غير أن من حرم ذلك لعله تعلق بقوله تعالى:(2/231)
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُم صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُم حُرُماً}، وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه، لوقوع الإسم عليهما.
ومن أباحه ذهب إلى أن الحيوان إنما يسمى صيداً ما دام حياً، فأما اللحم فلا يسمى بهذا الإسم بعد الذبح إلا مجازاً، باعتبار استصحاب الإسم السابق.
وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحشي وهو محرم فرده، فرأى في وجهه الكراهة فقال: ليس بنا رد عليك ولكنا حرم.
وخالفه مالك، فرواه عن الزهري عن عبد بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي عليه السلام بالأبواء أو بودان حمار وحش، فرده عليه السلام عليه، وقال إنا ما نرده عليك إلا أنا حرم.
وقال أبو إدريس لمالك: إن سفيان يقول رجل حمار وحش، فقال: ذاك غلام، ذاك غلام.
ورواه: ابن جريج عن الزهري بإسناده كرواية مالك, وقال فيه: إنه أهدى له حمار وحش.
ورواه معمر عن الزهري مثل رواية مالك، وأنه أهدى له حمار وحش.
وروى الأعمش عن جندب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم، فرده وقال: لو أنا حرم لقبلناه منك.
ويحتمل أنه صيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندنا ما صيد له فلا يأكل منه، ويدل عليه ما رواه أبو معاوية عن ابن جريج عن خيار بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن محرم أتى بلحم أنأكل منه؟ فقال: اجتنبوا.
قال أبو معاوية: إن كان صيد قبل أن يحرم فيؤكل وإلا فلا وهو فيما صيد من أجله.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة:101]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(2/232)
1)…السؤال عمّا لم يقعْ
قوله تعالى: {يَا أَيِهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤْكُم}.
استدل به قوم على تحريم السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها، وهذا منه غلط، فإنه تفقه في الدين، وإنما الآية تنهى عن السؤال عن أشياء تتعلق بأسرار إذا كشف لهم عنها ساءهم ذلك، وربما أداهم إلى الكفر به دفعاً للخجل، مثل ما روي أن رجلاً قام فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، بعد أن قال عليه الصلاة والسلام: لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم عن حقيقته، وكان قد حذرهم السؤال، وكان الأولى بهم أن يستروا بستر الله تعالى.
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [المائدة:103]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِنْ بحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ}. الآية: [103].
يدل على تحريم قطع منافع الملك من غير نقل إلى غيره، ومن أجله منع الشافعي تعطيل منافع الرهن على خلاف ما قاله أبو حنيفة، ومن أجله منعت الكافر من شراء العبد المسلم في قول، لأن الشراء إذا لم يفد مقصوده من الإنقطاع كان نسبياً، ولأجله أوجب العلماء بيع العبد المسلم وتحت الكافر.
الأحكام الواردة في سورة ( المائدة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة:105]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قوله تعالى: {عَلَيْكُم أَنْفُسَكُم لاَ يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ}.(2/233)
ليس ينسخ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد روي عن قيس ابن أبي حازم أنه قال: سمعت أبا بكر رضي الله عنه على المنبر يقول: يا أيها الناس، إني أراكم تؤولون هذه الآية: {عَلَيْكُم أَنْفُسَكُم لاَ يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ}، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه".
فأبان ألا رخصة في هذه الآية في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال سعيد بن جبير: أراد به أهل الكتاب الذين يقرون بالجزية على كفرهم ولا يضرنا كفرهم، لأنا أعطيناهم الذمة على أن نخلهم وما يعتقدون، وما يعهدون لنا نقض عهد بإجبارهم على الإسلام، فهذا هو الذي لا يضرنا الإمساك عنه.
ويحتمل أن يكون معنى الآية: إذا لم يمكنه الانكار وخاف على نفسه إن أنكر.
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ } [المائدة:106]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصايا
2)…الشهادات
3)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {يَا أَيهَا الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُم إذَا حَضَرَ أَحَدَكُم المَوْتُ} الآية: [106].(2/234)
قال قائلون: المراد بالآية ظاهرها، وهي الشهادة على الوصية في السفر، وأجازوا بهذا شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر، ورووا ذلك عن أبي موسى، وهو قول أبي موسى وقول الأوزاعي, وجعلوا هذا الحكم مخصوصاً بالوصية عند حضور الموت، لوقوع الضرورة إليه، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات.
ويقوي ذلك أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها.
ومتضمن هذا القول، أن يكون على الشاهد يمين، وأن يتعين إمضاؤه الشهادة لمكان اليمين مع الارتياب، وأنه إذا ظهر لوث من جهة الشهود، صارت يمين الورثة معارضة لشهادة الشهود، وأعظم منه أنه قال:
{ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيرِكُم}.
وقال: {تَحبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ}.
وظاهر ذلك رجوع حكم اليمين إلى النوعين اللذين أثبت التخيير فيهما، فيكون المسلم الشاهد محلفاً على الشهادة على الوصية، وذلك بعيد.
وإذا ثبت ذلك فلا بد من أحد نوعين:
إما التأويل وإما إثبات النسخ.
أما التأويل فغاية ما قيل فيه وجهان:
أحدهما ما روي عن الحسن، أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره: إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فاستشهدوا ذوي عدل منكم، يعني من العشيرة، فإنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان، أو آخران من غيركم، يعني من غير قبيلتكم، إن سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فيحلفان بعد العصر، فإن ظهرأنهما شهدا بالزور، رُدّ ما شهدا به على الورثة، إذا حلف الآخران تجرح شهادة الأولين، وهو معنى قوله: {فَيُقْسِمّانِ بِاللهِ لشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}.
{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:107](2/235)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصايا
{فَيُقْسِمّانِ بِاللهِ لشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}.
فقيل قوله: {يَا أَيهَا الّذينَ آمَنُوا}، خطاب للمؤمنين، فقوله تعالى: "منكم أو من غيركم"، ضمير يقتضي انصرافاً إلى المذكور قبله، لا للعشيرة، فكيف يجعل ضميراً عنها ولم يجد لها فيما تقدم ذكر، وهذا بين، لأن اليمين لا يتوجه لا على الشاهد من القبيلة ولا من غيرها.
والتأويل الثاني: ما نقل عن الشافعي، فإنه قال:
نزلت الآية في مسلم حضره الموت وأوصى إلى نصرانيين، وسلم المال إليهما، والقصة مشهورة، وذلك لا يجوز أن يكون بطريق الشهادة، فإن الموصى إليه كيف يشهد على فعل نفسه، وعلى أنه رد على جميع ما عنده، ولم يكتم شيئاً.
وقد يسمى اليمين شهادة في قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمِ أَرْبَعُ شَهَادَات بِاللهِ}.
فقيل لهم: اليمين لا يختص بالعدل.
فأجابوا بأنه ذكر العدل إحتياطاً في الوصية، واتقاء لليمين الفاجرة.
فقيل لهم: فما معنى قوله:
{فَإنْ عُثِرَ عَلى أَنّهُمَا استَحَقّا إثماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}.
فأجابوا بأن معنى ذلك ما ذكر في سبب النزول، وهو أنه وجدوا جاما من فضة مخوصة بذهب عند رجل، وكان الجام من جملة التركة، فلما طولب الرجل به ذكر أنه إشتراه من تميم الداري وعدي بن ندا، فلما روجعا في ذلك قالا: كان قد جعله الموصى لنا أو باعه منا.
وإذا كان كذلك، حلف الوارث لا المدعي لملك الجام، فهو معنى قوله:
{فآخَرانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِِنَ الّذِينَ استَحقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيَقُسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَق مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعتَدَيْنَا}.
أي يحلفان أن الشيء لهما وما اعتديا، وهذا مجمل، فهذا وجه التأويل.(2/236)
فأما النوع الآخر وهو دعوى النسخ، والناسخ لا بد من بيانه على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراضي الناسخ، وهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزلت وأن فيها: {مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}, والكافر لا يجوز أن يكون مرضياً عند المسلمين.
وهذا لا يصلح أن يكون ناسخاً عندنا، فإنه في قصة غير قصة الوصية، وأمكن تخصيص الوصية به لمكان الحاجة والضرورة، لأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قاله ناسخ.
والنوع الثاني من الناسخ آبانه بعده عن الأصول في التفرقة في قبول الشهادة في السفر والحضر وتحليف الشاهد إلى غير ذلك من وجوه لا تخفى، وهذا الجنس لا يصلح ناسخاً، وإنما يؤيد به التأويل بعد وجود التأويل.
وفي الآية دليل للشافعي على أن يمين تتغلظ بالزمان والمكان.
واستدل الرازي به على قبول شهادة الكافر على الكافر، فقال: في ضمن شهادة الكافر على المسلم في الوصية قبولها على أهل ملته لا محالة، ثبت النسخ في بعض ذلك فبقي في البعض، وهذا ضعيف جداً، فإن الآية إذا تضمنت حكماً وقد نسخ المذكور بعينه، فلا يتصور تقدير فرع له لم ينسخ وتعذر بقاؤه وهذا لاخفاء ببطلانه، فلم يطنب فيه.(2/237)
الأحكام الواردة في سورة ( الأنعام )
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام:68]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الهجر
قوله تعالى: {وإذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا}, الآية: [68].
فأمر نبيه بالإعراض عن الذين يخوضون في آيات الله، وذلك يدل على وجوب إجتناب مجالس الملحدين، وسائر الكفرة، عند إظهارهم الشرك والكفر وما يستحيل على الله.
ونظيره قوله تعالى: {لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرَائِيلَ} إلى قوله تعالى:
{كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}.
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [الأنعام:70]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ}.
وقال: {وذَرِ الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُم لَعباً ولهواً} إلى قوله تعالى {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}.
قال قائلون: هي منسوخة بآيات القتال.
وقال آخرون: إنها ليست منسوخة لكنها على وجه التعزيز، كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقتُ وَحِيداً}.(3/1)
{ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [الأنعام:90]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…شرع من قبلنا
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُم اقْتَدهِ}.
يستدل به على وجوب اتباع شرائع الأنبياء وإلتزامها.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنعام )
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام:108]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…شرع من قبلنا
قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الّذِينَ يَدْعونَ مِنْ دُونِ اللهِ} الآية: [108].
يدُل على الكف عن سب السفهاء الذين يتسرعون إلى سبه على وجه المقابلة، لأنه بمنزلة البعث على المعصية.
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام:121]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَليه}.
حمله الشافعي على النهي عن الميتات، ويدل عليه ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: قال المشركون: تأكلون مما مات من قبلكم ولا تأكلون مما مات من قبل ربكم، فنزلت هذه الآية.
1)…الذبائح(3/2)
قال: {وإنَّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيائِهِمْ لِجَادِلُوكُم} في ذبائح المشركين، ولم تكن المناظرة في هذه المسألة ظاهرة فيما بينهم، وإنما كانت المجادلة في الميتة.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنعام )
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام:136]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الذبائح
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنَعَامِ نَصِيباً}. الآية: [136].
قال ابن عباس: كانوا يجعلون من حرثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم، فكان إذا خالط مما جعلون جزءاً لشركائهم ما جعلوه لله، رجعوا فيما جعلوه لله تعالى فجعلوه لشركائهم، وكانوا إذا أجدبوا أخذوا ما جعلوه لله تعالى لأنفسهم، فنزلت الآية.
{ وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأنعام:138]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السائبة والوصايا والحام
قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ}, الآية: [138].
أما الأنعام التي ذكرها أولاً، فهي ما جعلوه لأوثانهم، والأنعام التي ذكرت ثانياً، فالسائبة والوصيلة والحام.(3/3)
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [الأنعام:140]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القتل
قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً}, الآية: [140].
أراد به: قتلوهم سفهاً خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم، ولم يحسوا فيه الإملاق، فأبان عن تناقض آرائهم.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إذا أردت أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرمَّوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ}.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنعام )
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأنعام:141]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {وَهُوَ الّذِي أَنشَأ جَنّاتٍ معْرُوشَاتٍ}, الآية: [141].
استدل به من أوجب العشر في الخضروات، وأنه تعالى قال: {وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، والمذكور قبله الزيتون والرمان، والمذكور عقيب جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف.
ومن يخالف ذلك يقول: الظاهر منه الحبوب، فإن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليه، وإنما يطلق على ما سواه مجازاً فاعلمه.(3/4)
وأمكن أن يقال : إن المراد بقوله: {وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: حقه الانفاق منه على ذويه وأقربائه وعلى نفسه، وصرفه في المصارف الواجبة، فإن ذلك بمعنى العشر أو نصف العشر، ويدل على ذلك أن الله تعالى قال: {وَلاَ تُسرِفُوا إنّهُ لاَ يحِب المُسْرِفِينَ}، وإنما يقال ذلك فيما ليس مقدراً، بل هو مفوض إلى اختيار الإنسان واجتهاده، فعليه أن يراعي حد الاقتصاد والاجتهاد، فأما إذا كان الواجب محدوداً مقدراً فلا يقال فيه: ولا تسرفوا، وهذا هو الظاهر من الكلام، وليس فيه دليل على العشر من الخضروات.
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام:145]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المطعومات
قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلي مُحَرَّماً}, الآية: [145].
احتج به كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور في هذه الآية.
فمنها لحوم الحمر الأهلية، روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد، إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية، قال:
قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس، وقرأ: {قُلْ لا أَجِد فِيما أُوحيَ إليَّ مُحَرَّماً}. الآية.
وعن عائشة أنها كانت لا ترى بلحوم السباع والدم يكون في أعلى العروق بأساً، وقد قرأت هذه الآية:
{قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمََا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً} الآية.(3/5)
واعلم أن ظاهر الآية لا يمنع ن تحريم غير المذكور، إلا أنه لا يدل على أنه لا يحرم في الشرع الآن، ويجوز أن يكون قد تجدد بعده.
وقد قيل: {قُلْ لا أَجِد فِيما أُوحيَ إليَّ مُحَرماً}، مما كنتم تستبيحونه وتتناولونه ولا تعدونه من الخبائث إلا هذه الأمور، وإلا فقد اشتمل القرآن على أشياء محرمة كالمنخنقة والموقوذة، واشتمل الإجماع على تحريم أشياء كالقاذورات والخمر والآدمي، والأشياء التي أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها، وقد شرحنا ذلك في أصول الفقه، إلا أن ظهور الآية، لا يدفع قبل بيان التأويل، وعليه بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه أخذاً من هذه الآية، إلا ما دل عليه الدليل.
وبالجملة، الاتفاق على تحريم أشياء لا ذكر لها في الآية مع خصوص السبب الذي قاله المفسرون يقوي التأويل ويجوز قبول أخبار الآحاد فيه.
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام:146]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان
قوله تعالى: {وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَرمنَا كُل ذي ظُفرٍ وَمِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الحَوَايَا}. الآية: [146].
هذا يحتج به الشافعي، في أن من حلف لا يأكل الشحم، حنث بأكل شحم الظهور، لاستثناء الله تعالى ما على ظهورها من جملة الشحم.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنعام )(3/6)
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام:152]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…البلوغ
قوله تعالى: {ولاَ تَقرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالّتي هي أَحْسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ}:
إنما خص اليتيم بالذكر فيما أمرنا به من ذلك، لعجزه عن الإنتصار لنفسه، وتأكد الأطماع في ماله، فلا جرم أكد النهي عن أخذ ماله بتخصيصه بالذكر.
وقوله تعالى: {إلاّ بِالتّي هِيَ أَحسَنْ}: يدل على أن للوصي أن يدفع مال اليتيم مضاربة، وجعل المراد بلوغ الأشد، وذلك هو البلوغ, لأن الأشد والكمال لا يعرف إلا بوجود الحد الشرعي وهو البلوغ.
وأبو حنيفة يقول: بلوغ الأشد: بلوغ خمس وعشرين سنة، وهذا تحكم منه لا وجه له، ولا دليل عليه لا لغة ولا شرعاً.
{ وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (اللعن)
قوله تعالى: {وأَنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيماً فاتّبِعُوهُ ولاَ تَتّبِعُوا السُّبُلَّ فَتَفَرقَ بِكُمْ عَن سَبيلِهِ}. الآية: [153].
يدل على منع الارتياء، والنظر مع وجود النص ومنع من الاختلاف.
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [الأنعام:159](3/7)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…آداب (الألفة)
قوله: {إنَّ الّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً}, الآية: [159].
وإنما قال ذلك لأن بعض هؤلاء يكفر بعضاً، من حيث لم يكن من السنة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرفوا الكلم تعصُباً وهوى، فحذر الله تعالى من ذلك ودعا إلى الإجتماع والألفة.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنعام )
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام:161-162]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {قُل إنني هَدَاني ربي صِرَاطٍ مُستَقِمٍ} - إلى قوله تعالى - {ومَمَاتي لله ربِّ العَالَمِينّ}, الآية: [161، 162] استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله تعالى أمر نبيه به وأنزله في كتابه.
وروي عن علي رضي الله عنه أن النبي عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة قال:
"وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي - إلى قوله - وأنا من المسلمين".
وروي عن عائشة: أن النبي عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه ثم قال:
"سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وعلا جدك ولا إله غيرك".
والأول كان يقوله قبل أن ينزل: {وسَبِّح بِحَمدِ رَبّكَ حِينَ تًقُوم}، فلما نزل ذلك وأمر بالتسبيح عند القيام إلى الصلاة، ترك الأول على زعم أبي حنيفة.
وأصحاب الشافعي يقولون: الأمر بالتسبيح لا ينافي الذكر عند افتتاح الصلاة، ويجوز أن يقول عند القيام: سبحان الله وبحمده، وإذا قام من القراءتين، وكذلك قوله:(3/8)
{وسَبِّحْ بِحَمْد ربِّكَ حينَ تَقُومُ، ومِنَ اللّيلِ فَسَبِّحْهُ}, وذلك يدل على ما قلناه من أن ذلك التسبيح ليس ذكراً في الصلاة.
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [الأنعام:164]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…عدم تعدي التصرفات
قوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُل نَفْسٍ إلاّ عَلَيْهَا}, الآية: [164].
يحتج به في عدم نفوذ تصرف زيد على عمرو، إلا ما قام الدليل عليه.
1)…عدم تعدي المآثم
قوله تعالى: {ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}, الآية: [164]: يحتج به في ألاَّ يؤاخذ زيد بفعل عمرو، وأن كل مباشر لجريمته فعليه مغبتها.
الأحكام الواردة في سورة ( الأعراف )
{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…رفع الحرج
قوله تعالى: {فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}, الآية: [2]:
ظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه، أي لا يضيقن صدرك أن لا يؤمنوا به، فعليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به شيء من ايمانهم وكفرهم.
ومثله قوله:
{فَلَعَلّلكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}, الآية.
وقال:
{لَعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ألاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِين}.
{ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المباح(3/9)
قوله تعالى: {اتّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُم مِنْ رَبِّكُم}, الآية: [3].
معناه معلوم، ومن جملة ما أنزل الله تعالى المباحات، فعلى ذلك يلزم من ظاهره الأمر باتباع المباح، ويلزم منه دخول المباح تحت الأمر.
ولكن يجاب عنه بأن اعتقاد الإباحة في المباحات، وتمييزه عن المعاصي والمناهي واجب، وذلك هو معنى اتباع ما أنزل الله علينا.
واعلم أن الذي أنزله الله علينا ينقسم إلى ما يتعلق بالتلاوة، وإلى ما يتعلق بالأحكام دون التلاوة، والكل من عند الله حتى لا يتوهم متوهم منع نسخ القرآن بالسنة.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ } [الأعراف:11]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المباح
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم ثُمَّ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجدُوا لآدَمَ}, الآية: [11]:
فقوله: خلقناكم ثم صورنا كم ثم قلنا للملائكة، يقتضي أن يكون المراد بقوله خلقناكم آدم عليه السلام، ويجوز مثل ذلك، وهو التعبير بنا عن آدم، لأنه أصلنا، قال تعالى:
{وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُم الطُورَ}.
وقال تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كَنتُم مُؤْمِنِينَ}.
والمخاطبون بذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا الأنبياء.
وقال آخرون: إن ثم راجعة إلى صلة المخاطبة، فكأنه قال: ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة، وقد شرحنا هذا في الأصول عند ذكر معاني الحروف.
الأحكام الواردة في سورة ( الأعراف )
{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(3/10)
1)…أصول فقه (الوجوب)
قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ} الآية [12]: يدل بظاهره على اقتضاء الأمر الوجوب بمطلقه من غير قرينة، لأن الذم على ترك الأمر المطلق لاحق، وهو مذهب الفقهاء وقوله: {أَنْ لاَ تَسجُدَ}، لا، صلة مؤكدة، ومعناه ما دعاك إلى أن لا تسجد وما أحوجك؟
وقيل: في السجود لآدم وجهان:
أحدهما: التكرمة، ولذلك امتن عليه به.
والثاني: أنه جعله قبلة لهم.
والأول أصح.
قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}: ظاهره مذهب أهل السنة، وهو أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر، ووراء ذلك معاني ثلاثة:
أحدها: خيبتني، مثل قول الشاعر:
* ومن يغو لا يعدم عَلى الغي لائما *
أي من يخب، قال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي غياً، إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه، وهو أحَد معاني قوله تعالى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَهُ فَغَوىَ}: أي فسد عيشه في الجنة، ويقال: غوى الفصيل إذا لم يرو من لبن أمه.
ومعنى آخر: أغويتني أي حكمت بغوايتي، كقولك أضللتني أي حكمت بضلالتي، وقال: أغويتني أي أهلكتني.
{ ويَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأعراف:19]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (الوجوب)
قوله تعالى: {وَلاَ تقرَبا هذِهِ الشّجرَةَ فتكُونا مِنَ الظّالمِينَ} الآية: [19]. قرن قربهما الشجرة بالوعيد، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد, وظنا أنه نهى كراهة وبين به أو أمكن أنه أشير إلى شجرة بعينها، فظنا أن المراد به العين، وكأن المراد به الجنس، كقول النبي عليه السلام حين أخذ ذهباً وحريراً فقال:
"هذان حرامان على ذكور أمتي".
وقال في خبر آخر: هذان مهلكا أمتي.
وإنما أراد به الجنس لا العين.(3/11)
{ يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف:26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
قوله تعالى: {يا بَني آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُم لِبَاساً} الآية: [26].
اعلم أن ظاهره الإنعام بإنزال اللباس، ويجوز أن يكون عين اللباس على هيئته قد أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه وتاب عليه، ويجوز أن يكون قد أنزل ما يحصل منه اللباس من بزره، وقد ظن علي بن موسى القمي وأبو بكر الرازي، أن في ذلك دلالة على وجوب ستر العورة، وذلك أنه قال: {يواري سَوْءَاتِكُم}، فذلك إشارة إلى الوجوب، وليس فيه دلالة على ما ذكروه، بل فيه دلالة على الإنعام فقط.
واحتجوا عليه أيضاً بأن قوله تعالى:
{لاَ يَفتننّكُمُ الشّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبُويْكُم مِنَ الجَنَةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}.
وذلك يدل أيضاً على التحذير من زوال النعمة، كما نزل بآدم عليه السلام، هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك.
الأحكام الواردة في سورة ( الأعراف )
{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف:31]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
2)…الصلاة
قوله تعالى: {يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية: [31].
ظاهره الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، للفعل الذي يتعلق بالمسجد، تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف، ولا يدل ظاهر ذلك على وجوب الستر في الصلاة في المسجد أو خارج المسجد، فإن القدر الذي يستر العورة لا يسمى زينة وتجملاً.(3/12)
وكثير من المتكلمين في أحكام القرآن زادوا في ذلك دلالة على الوجوب للصلاة، لأن الذي أمرنا بذلك عند كل مسجد لم يكن لعين المسجد، وإنما كان للفعل الواقع في المسجد، والذي عظم المسجد لأجله الطواف والصلاة، أما الطواف فلا يعم كل مسجد, وفي القرآن عند كل مسجد، والاعتكاف لم يشرف المسجد لأجله، بل كان عبادة لأجل المسجد، فلم يبق إلا الفعل الذي يشرف به المسجد، ووجب تعظيم المسجد لأجله وهو الصلاة.
فإذا قيل: {خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلَّ مَسْجِدٍ}، عرف به أنه لم يجب للمسجد، وإنما وجب لما عظم المسجد لأجله وهو الصلاة، فمتى وجب الستر للصلاة كان شرطاً، إلا أن الدليل قام على الزيادة على قدر الستر، وأنها غير واجبة، فبقي مقدار الستر واجباً.
ومالك لا يوجب الستر شرطاً للصلاة، ويقول إن فقد الستر لا يبطل الصلاة، ويقول: قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلَّ مَسْجِدٍ}، روى الرواة أنه نزل في ستر الطواف والنهي عنه عرياناً، وهذا فيه نظر، فإنه تعالى قال: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، والطواف يختص بمسجد معين.
والثاني: أنه إن ورد على سبب خاص، لا يمتنع لأجله التعلق بعموم اللفظ.
ويرد على هذا، أن الذي ورد الستر فيه - لم يجعل الستر شرطاً - وهو الطواف، فكيف يجعل شرطاً لما سواه؟
ويجاب عنه بأن وجوب الستر لأجل الطواف ظاهر في كونه شرطاً له، وأنه يمتنع الاعتداد به دونه، ولكن قام الدليل في الطواف على خلاف الظاهر، وبقى ما عداه على ما يقتضيه الأصل.
وهذا يرد عليه، أن الأصل أن ما وجب لغيره يفهم منه أنه إذا أتى به دونه، كان تاركاً للواجب، فمن أين أنه لا تجب الصلاة دونه؟
والذي احتج به مالك، أن ستر العورة لم يجب للصلاة، فقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال:
قلت: يا رسول الله، عوارتنا ما نأتي منها وما نذر فقال:(3/13)
احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال فقلت: يا رسول الله، فإذا كان أحدنا خالياً، فقال: الله أحق أن يستحى منه.
فإذا لم يكن الستر من فروض الصلاة لم يكن وجوبها متعلقاً بالصلاة، فإذا لم يتعلق بها لزم منه جواز الصلاة دونه، وهذا ينعكس في الطهارة التي لم يكن وجوبها إلا للصلاة.
فعلى هذا، النهي عن الصلاة دون الستر، كالنهي عن الصلاة في البقعة المغضوبة.
الجواب أن الستر في غير الصلاة إنما يجب عند ظهوره للناس، فلو استخلى بنفسه، فيجوز أن يكشف فخذه، وإن كان في السوأتين خلاف، وإذا أراد الصلاة وجب ستر جميع ذلك، فذلك يدل على أن الستر وجب للصلاة.
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على فخذه منه شيء".
وعن عائشة أنها روت أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"لا يقبل الله صلاة امرأة إلا بخمار".
فنفى قبولها لمن بلغت الحيض، فصلتها مكشوفة الرأس، كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله: "لا يقبل الله الصلاة بغير طهور".
وقد روي عن مالك أنه قال فيمن صلى في ثوب نجس أو عارياً، إنه يعيد ما دام الوقت، وهذا يتعلق به عليه، ويدل على بطلان قوله انه لا تعلق له بالصلاة.
فهذا تمام هذا الكلام.
وذكر إسماعيل بن إسحاق في نصرة قول مالك، أن صلاة العريان جائزة، فلو كان الستر شرطاً لما جاز، كما لا يجوز صلاة الحائض، لأن الحيض ينافي الطهارة.
وهذا غلط فاحش، فإن صلاة الأمي جائزة، مع أن القراءة شرط للصلاة أو فرضها، وأن منافاة الحيض للصلاة لا لمكان عدم الطهارة، فإن الحيض ينافي الصوم أيضاً، وليس من شرطه الطهارة، لكنه محض تعبد.(3/14)
ومما نعلق به، أن الوضوء لما كان شرطاً وجب عليه أن ينوي الطهارة للصلاة، ولو كان الستر واجباً للصلاة، لوجب أن ينوي به الصلاة، وليس كالاستقبال، فإن الاستقبال الواجب يقترن بالصلاة بخلاف الستر، فنية الصلاة تشتمل على الاستقبال، وقد أجاب علماؤنا عنه بأن نية الصلاة تشتمل عليه، وهذا قررناه في مسائل الخلاف.
1)…المطعومات
قوله تعالى: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسرِفُوا} الآية: [31].
ظاهرة يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال، والإيجاب في بعضها، فأما الإيجاب، فمثل أن يضعف عن أداء الواجبات، فواجب عليه أن يأكل ما يزول معه الضرر، وظاهر هذا يقتضي الأكل والشرب في المأكولات والمشروبات إلا أن يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفاً فيما يأتيه من ذلك، فإنه أطلق الأكل والشرب على شرط أن لا يكون مسرفاً فيهما، والإسراف هو مجاوزة الحد، فتارة يتجاوز حد الحلال إلى الحرام، وتارة في الإنفاق والتمحيق، كما قال الله تعالى: {إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخوَانَ الشّيَاطِينَ}، والإسراف مذموم، ونقيضه الإقتار وهما مذمومان، والاقتصاد والتوسط هو المشروع، ومنه قيل دين الله تعالى بين المقصر والغالي وقد قال تعالى:
{والّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقتُروا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً}.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عَنْقِكَ وَلاَ تَبْسُطهْا كُلَّ البَسْطِ}.
ومن الإسراف في الأكل، والأكل فوق الشبع، وكل ذلك محظور.
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(3/15)
1)…حُرمة (الفواحش و الإثم و البغي والشرك)
قوله تعالى: {إنّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}, الآية: [33]:
اعلم أن الفواحش في اللغة، تقع على كل قبيح بولغ في نعْتِه بالقبح، ولذلك يقال قبيح فاحش.
وفي الآية مايمنع من إجرائه على الفواحش كلها، فإنه ذكر الإثم والبغي، فدل على أن المراد بالفواحش بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنا، ليصح أن يعطف عليه الإثم، والإثم لا يمكن حمله هاهنا على كل معصية صغيرة وكبيرة، فإن ذلك يمنع العطف، بل المراد به شرب الخمر، لقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبيِرٌ}، وأما البغي بغير الحق فهو التطاول على الناس.
وقد قيل: ذكر الفواحش، والمراد بها الكبائر، وذكر الأثم، والمراد به صغائرها، ثم عطف على الأمرين ما يدخل فيهما، وهو البغي بغير الحق، والمعنى به أن يتجاوز في طلب الأمر، الحدّ الذي يحسُنُ، فيوصف عنده أنه بغي، لأن الأصل في البغي الطلب، ثم جعل للطلب المذموم، فدخل في الآية كل أنواع الظلم والبغي على الناس، والانقياد بغير حق، ثم حرم اتباع ما لا دليل عليه، والقول بما لا نعلم صحته، فدخل في ذلك قبح التمسك بالمذاهب، وقبح اتباع ما لا يجب اتباعه، فجمعت الآية المحرمات، كما جمع ما قبلها المحللات في قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِه والطّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، مع ما فيه من تحريم الإسراف فيه، ولما حرم المحرمات نبه على اتباع الحجج والأدلة لكي يكون المكلف متحرزاً في أمر دينه ودنياه.
الأحكام الواردة في سورة ( الأعراف )
{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف:55]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدعاء(3/16)
قوله تعالى: {ادعُوا رَبّكُم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}: ظاهرها الندب إلى إحفاء الدعاء، فعلمنا ربنا كيف ندعوه، وروى أبو موسى الأشعري قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال:
"أيها الناس انكم لا تدعون أصمّاً ولا غائباً".
وروى سعد بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي".
واستدل أصحاب أبي حنيفة بذلك, على أن اخفاء آمين, أولى من الجهر بها, لأنها دعاء, والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَت دَعوَتُكُما}.
قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فسماهما الله تعالى داعيين.
والجواب عنه أن إخفاء الدعاء كان أفضل, لأنه أبعد عن الرياء.
وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة، فإشهارها اشهار شعار ظاهر، وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى إشهار القراءة المشتملة على الدعاء، والتأمين في آخرها، معناه: حقِّق اللهم ما سألناك.
وإذا كان الدعاء مما سن الجهر فيه، فالتأمين على الدعاء تابع له، وجار مجراه، وهذا بين.
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [الأعراف:145]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الفرائض
قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأحْسَنِهَا} الآية: [145].
قال بأحسن ما كنت فيه، وهو الفرائض، دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب، وكذلك قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الّذِينَ يَستَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف:199]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأدب (حسن الخلق)(3/17)
قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} الآية: [199].
أمر بمراعاة مكارم الأخلاق ومداراة الناس.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أثقل شيء في ميزان المرء يوم القيامة الخلق الحسن".
وروى ابن عمر أن رجلاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام: أي المؤمنين أفضل؟ فقال أحسنهم خُلقاً.
وروى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنكم لا تسعون الناس باموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
والعفو هو التسهيل والتيسير.
فالمعنى استعمال العفو، وقبول ما سهل من أخلاق الناس، وترك الاستقصاء عليهم في المعاملات، وقبول العذر ونحوه.
وقال ابن عباس في قوله: {خُذِ العَفْوَ}، قال: هو العفو من الأموال قبل أن ينزل فرض الزكاة، ومنه قوله: {فَمَنْ عُفي لَهُ مِنْ أخِيهِ شيءٌ} أي ترك له، والعفو عن الذنب ترك العقوبة عليه.
وقوله: وأمر بالعُرف: العُرف المعروف، وفي الخبر الصحيح عن أبي جري جابر بن سليم قال:
ركبت قعوداً ثم أتيت إلى المدينة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام، فقلت: إنا معشر البادية قوم فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها، فقال: ادن ثلاثاً، فدنوت، فقال: أعد عليّ، فأعدت، فقال:
اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً، وأن تلقى آخاك بوجه منبسط، وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء المستسقى، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن الله تعالى جاعل لك أجراً وعليه وزراً، ولا تسبن شيئاً مما خولك الله تعالى. قال أبو جري: فوالذي ذهب بنفسه ما سببت بعده شاة ولا بعيراً.
قوله تعالى: {وأَعرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}.
يجوز أن يكون في ترك مخاوضتهم في الباطل، ويجوز أن يكون قبل الأمر بالقتال.(3/18)
الأحكام الواردة في سورة ( الأعراف )
{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف:204]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وإذَا قُرِىءَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا}: الآية: [204].
قد اختلف الفقهاء في القراءة خلف الإمام.
فقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح: لا يقرأ فيما جهر ولا فيما أسر.
وقال مالك: يقرأ فيما أسر ولا يقرأ فيما جهر، وهو قول للشافعي، رواه المزني عنه.
وروى البويطي عنه، أنه يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فيما يسر فيه، ولا يقرأ فيما يجهر فيه إلا بفاتحة الكتاب.
وإذا ثبت ذلك، كأن هؤلاء الفقهاء اتفقوا على أن الانصات مأمور به، فإنا رأيناهم يأمرون بالإنصات فيما يجهر، ويتركون لأجله إما الفاتحة وإما السورة, أما أبو حنيفة ليس يترك القراءة خلف الإمام لغرض الاستماع فإنه يقول فيما أسر فيه الإمام لا يقرأ المأموم، ولأن عنده مقدار الواجب من القراءة آية حقيقة، وذلك يمكن قراءته بعد الإنصات وسماع قراءة الإمام، أو حال هوى الإمام إلى الركوع، ولم يقل أحد إنه يترك دعاء الاستفتاح لقوله: {وأنصِتُوا}، ولا يترك تكبيرات الصلاة لقوله: {أنصِتُوا}، ولا أن أحداً يفهم من هذا، أن الواحد منا إذا كان يقرأ القرآن، فلا يجوز لغيره أن يقعد معه ويقرأ، ولا يجوز في المجلس الواحد أن يقرأ جماعة، كل واحد منهم يقرأ لنفسه، فإذا لم يكن للآية تعلق ايمنع الناس من قراءة القرآن، لغرض استماع القرآن في غير الصلاة.
ولا للآية أيضاً دلالة على منع قراءة الأذكار، لغرض استماع القرآن في الصلاة، فمن أين دلت الآية على منع القراءة، لا لغرض الإستماع مع إسرار الإمام في الصلاة؟
وقد اعتقد كثير من الناس أن هذه الآية نصاً.(3/19)
وقال عبد الجبار بن أحمد في كتاب فوائد القرآن، وهو مشهور بانتحال مذهب الشافعي في الفروع: إن دلالة ظاهر الآية قوية، وصرح بهذه العبارة التي ذكرناها في الفروع.
وعندنا أن من فهم معنى الآية، وفهم الوجوه التي ذكرناها، لا يرى للآية تعلقاً بما نحن فيه، وللآية محامل:
منها أن الناس كانوا يكثرون اللغط والشغب في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمنعون الأحداث من سماعها تعنتاً وعناداً على ما حكى الله عن الكفار حيث قال:
{وقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسمَعُوا لِهَذا القُرآنِ والغَوا فيهِ لَعَلّكُم تَغْلِبُونَ}.
فأمر الله تعالى المسلمين حالة أداء الوحي، أن يكونوا على خلاف هذه الحالة، وأن يستمعوا، ومدح الله الجن على ذلك فقال:
{وإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَراً مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآن فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنذِرِينَ}.
ويدل على ذلك أن الله تعالى أمر بالاستماع، وأمرَ بالإنصات بعده، فلا يخفى على عاقل أن الإنصات للإستماع، وإنما يجب الاستماع متى وجب الإسماع والتبليغ، وإنما وجب ذلك فيما ذكرناه من تبليغ الوحي، فأما ما يقرؤه الإنسان لنفسه، فلا تعلق له بذلك.
نعم، يندب المأموم إلى أن لا يجهر بالقراءة خلف الإمام إذا جهر، حتى لا تثقل عليه القراءة، فهذا هو القدر المندوب إليه، وإذا لم يجب على الإمام الإسماع، وليس في الاستماع غرض لأجله يجب الإسماع، فمن أين يجب الاستماع لما لا يجب إسماعه؟
ولو قال قائل مطلقاً: لا يجب على المرء أن ينصت ويسمع قراءة القرآن، كان صدقاً، وإنما هذا الذي قالوه في الصلاة.
ولئن قال قائل: إن الإنصات لتبليغ الوحي لا يختص بالقرآن، وكذلك إن حمل حامل الآية على الخطبة، فالاستماع للخطبة لا يختص بالقرآن, فالذي ذكرتموه يختص بلا دليل.(3/20)
فيقال لهم: وأنتم أيضاً خصصتم بلا دليل، فإنه قال: وإذا قرىء القرآن، وليس يجب الاستماع في غير الصلاة، فالذي ذكرتموه يخصّصُ بلا دلالة.
وقال كثير من أصحاب الشافعي:
إن المأموم يتحرى وقت سكتة الإمام، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان في صلاته، فإن تعذر ذلك فيقرأ وقت قراءته سرّاً.
وقال آخرون منهم: معنى الانصات، لا يجهر بالقراءة منازعاً.
للإمام، وإذا أخفى ذلك لم يخرج عن الإنصات.
وقد قيل: المراد به السكوت، حتى لا يقرأ البتة إلا عند فراغ الإمام.
وقال هؤلاء: لأجل ذلك أمر المأموم بتأخير القراءة عن حال الجهر أو تقديمه، وذلك إجماع.
واعلم أن الذي يوجب تأخير القراءة، ليس يوجب بدليل الآية على وجوب استماع قراءة القرآن مطلقاً، فإن دلالة الآية في الصلاة وغيرها واحدة، وإنما يقول ذلك ليجمع بين سماع المتدبرين وإنصات المعتبرين وقراءة المصلين, وإذا لم تكن القراءة في حالة سكتة الإمام, فالقراءة أولى, كما يكبر ويقرأ دعاء الاستفتاح, ولا يترك المفروض من القراءة لمكان فضيلة الجماعة, فهذا هو التأويل الظاهر.
وبالجملة, لا يخفى على عاقل أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالإستماع والإنصات, فإنما أمر به ليكون داعياً إلى ترك باطل من اللهو والهزء وأشغال الدنيا, لا ليكون ذلك داعياً إلى ترك مفروض عند الله تعالى عز وجل, وهذا بين:
ويدل عليه ما روي عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه, فإذا قال بسم الله الرحمن الرحيم, قالوا مثل ما يقول, حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة, فلبث ما شاء الله أن يلبث, فنزل قوله تعالى:
{وإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فاستَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُم تُرْحَمُونَ}.
وهذا يدل على أن المعين بالإنصات, ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة:
في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيقول:(3/21)
كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله تعالى:
{وإذَا قُرِىءَ القُرآنُ فاستَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُم تُرْحَمُونَ}.
وعن مجاهد قال:
كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجاتهم فنزل قوله:
{وَأَنْصِتُوا لَعَلّكُم تُرْحَمُونَ}.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنفال )
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [الأنفال:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الغنائم
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}, الآية: [1].
اعلم أن النفل هو الزيادة في اللغة، على القدر المستحق، ومنه النوافل والنفل يكون من الإمام للسرايا التي تتقدم الجيش الأعظم، مثل أن يقول للسريّة: لكم الربع بعد الخمس.
أو يقول: من أصاب سهماً فهو له، على وجه الحث على القتال والتضرية على العدو.
أو يقول: من قتل قتيلاً فله سلبه.
فأما بعد إحراز الغنيمة، فلا يجوز له أن ينفل شيئاً من نصيب الجيش، ويجوز له أن ينفل من الخمس.
وقد اختلف في سبب نزول الآية، فقد روي عن سعد أنه قال:
أصبت يوم بدر سيفاً، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: نفلنيه: فقال: ضعه من حيث أخذت، فنزل قوله: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}, قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب خذ سيفك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}، الأنفال هي الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء، ثم أنزل الله تعالى: {واعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.(3/22)
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم، فأنزل الله تعالى:
{لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكلُوا مِمّا غَنِمتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً}.
ورووا عن عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل يوم بدر أنفالاً كثيرة مختلفة وقال: من أخذ شيئاً فهو له.
واختلفت الصحابة فقال بعضهم:
نحن حمينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا ردءاً لكم.
وقال قوم: نحن قاتلنا وأخذنا، فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه غير الخمس، وكان في ذلك تقوى وطاعة رسول الله، وصلاح ذات البين لقوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ والرَّسُولِ فَاتّقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنكُم}، فقال صلى الله عليه وسلم: ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم.
وبين الله تعالى، أن ذلك مما يظهر به إيمانهم، وأنه لا يجدون في أنفسهم حرجاً بما قضى به رسول الله تعالى، فهو معنى قوله: إن كنتم مؤمنين.
قال الرازي: وهذا غلط، وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين: "من قتل قتيلاً فله سلبه".
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ والرَّسُولِ}.
نزل بعد حيازة غنائم بدر، وما كانت الغنائم قبل ذلك تحل.
وهذا ليس بصحيح، لإمكان أن الله تعالى أحلها يوم بدر للمسلمين, ولكن لما اختلفوا انتزع منهم وجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما قاله في ذلك، أنه عليه الصلاة والسلام كيف يقول: من أخذ شيئاً فهو له ويخلف وعده.(3/23)
وهذا ليس بشيء، فإنه ما أخلف وعده، لإمكان أنه كان كذلك، ولكن ورد بعده الناسخ، لما اختلفوا، وإنما جعل لهم ذلك بشرط ألا يختلفوا، خلا خبر فيما قاله.
فإذا ثبت ذلك، فاعلم أن قوله: يسألونك عن الأنفال، ظاهر في أنهم سألوه عن مال معلوم، وأن الجواب في ذلك، أن ذلك لله والرسول، ومعلوم أن كل شيء فهو لله تعالى ملكاً حقاً، فلم يختلف العلماء أن المراد به استضياع كلام.
فتحصل من الجواب أن الأنفال للرسول.
وظاهر هذا القول يقتضي أمرين:
إما أن يكون ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وضعه حيث يريد، وإن لم يملكه حقيقة.
فعلى هذا الوجه اختلف العلماء، فقال بعضهم:
إن للرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفل ذلك على المجاهدين على ما يراه صلاحاً.
وقال بعضهم: بل ذلك ملك الرسول أو كالملك له، حتى يصرفه إلى من شاء.
وظاهر قوله: {فاتقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكم}، كالدلالة على أنه متى أراد وضع ذلك فيهم، تنازعوا واختلفوا، فأنزل الله تعالى ذلك، بعثاً لهم على الرضا بما يفعله من القسمة بينهم، وذلك دليل على أنه ليس بملك له ولا لهم وإلا كانوا في ذلك كغيرهم، وكان لا يكون لقوله تعالى: {فاتقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم} معنى، فإن أراد المريد بالملك أن له أن يتصرف فيه على ما يراه ويختاره فنعم، وإن أراد به الاستبداد والانتفاع به، فما ذكرناه كالمانع منه, وقيل لذلك نفل, لأن الغنائم لما لم تكن مباحة من قبل, كانت كأنها عطية زائدة من الله تعالى, فسميت أنفالاً لذلك.
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الأنفال:16]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد(3/24)
قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ}, الآية: [16].
روى أبو نضرة عن أبي سعيد، أن ذلك إنما كان يوم بدر، وقال أبو نضرة: لأنهم لو انحازوا يومئذ، لانحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم.
وهذا الذي قاله أبو نضرة فيه نظر، لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالخروج، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرجوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه.
فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم، وإنهم لو انحازوا انحازوا إلى المشركين، غلط لما بيناه.
وقد قيل: إنه لم يجز لهم الانحياز يومئذ، لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن الانحياز جائزاً لهم، قال الله تعالى:
{مَا كَانَ لأَهلِ المَدينَة وَمَنْ حَوْلَهم مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَن رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأنفُسِهِمْ عَنْ نَفسِهِ}.
فلم يكن لهم أن يسلموا نبيهم، وإن تكفل الله بنُصرته وعصمته من الناس، كما قال تعالى:
{واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ}.
فكان ذلك فرضاً عليهم، قلَّ أعداؤه أو كثروا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ومن كان ينحاز عن القتال، فإنما كان ينحاز إلى فئة، وما كان للمسلمين فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عمر: كنت في جيش، فخاض الناس خيضة، ورجعنا إلى المدينة فقلنا: نحن الفرارون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا فئتكم.
فلم يكن للمسلمين إذ ذاك أن ينحازوا، قل عدد العدو أو كثر، وقال تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا النّبِيُ حَرِّضِ المؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ}، ثم نسخ بقوله: {الآنَ خفَّفَ اللهُ عَنكُم}، وليس عند أصحاب الشافعي في ذلك تفصيل، فيجوز فرار الواحد من ثلاثة.(3/25)
وقال محمد: إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفاً، فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم، ولم يذكر عن أصحاب أبي حنيفة خلافاً فيه، واحتج بحديث الزهري عن عبدالله بن عبدالله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة، وفي بعضها ما يغلب قوم يبلغون اثني عشر ألفاً إذا اجتمعت كلمتهم.
وهذا ليس بيان حكم شرعي وإنما هو بيان حكم العرف.
وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله تعالى وحكم بغيرها؟ فقال مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفاً مثلك فلا يسعك التخلف، وإلا فأنت في سعة من التخلف.
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال:25]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الفتن
قوله تعالى: {واتّقُوا فِتنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً}, الآية: [25]:
عنى بذلك هرجاً يعم المصلح والمفسد.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنفال )
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الأنفال:39]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وقَاتِلُوهُم حَتّى لاَ تَكُونَ فِتنَةٌ} الآية: [39], معناه شرك.
وقيل حتى لا يفتن مؤمن عن دينه، ويدل على ذلك أن قتل الكفار لدفع الضرار لا جزاء على الكفر، وقد شرحناه من قبل.(3/26)
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأنفال:41]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الغنائم
2)…الجهاد
قوله تعالى: {واعلَمُوا أَنّما غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ}, الآية: [41].
وقال في آية أخرى: {فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً}.
قال ابن عباس ومجاهد: إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {قُلِ الأَنْفَالُ للهِ والرَّسُولِ}، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام، جعل ينفل ما أحرزوه بالقتال لمن شاء، ولم يكن لأحد فيه حق، إلا من جعله الرسول له، وذلك كان في يوم بدر، وقد روينا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقال:
إنك سألتني هذا السيف، وليس هو لي ولا لك، ثم نزل: {قُلِ الأَنْفَالُ للهِ و الرَّسُولِ}، فدعاه فقال:
إنك سألتني هذا السيف، وما كان لي ولا لك، وإن الله تعالى جعله لي وجعلته لك.
وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال:
لما كان يوم بدر، تعجل ناس من المسلمين، فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله عليه وسلم:
لم تبح الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم، كان النبي إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم، فتنزل نار من السماء فتأكلها، فأنزل الله تعالى:(3/27)
{لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُم فِيمَا أَخّذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً}، يقتضي بظاهره أن تكون الغنيمة للغانم فقط، وأن يكونوا مشتركين فيها على سواء، إلا أن قوله تعالى: {واعلَمُوا أَنّمَا غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ}، بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة، ثم بعده يخلص للقائمين بعد الصفي والسلب والعطايا المتقدمة، ولولا الأخبار المأثورة لكان الفارس كالراجل، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ.
واعلم أن الإتفاق حاصل على أن المراد بقوله: {غَنِمْتُم مِنْ شَيءٍ}: مال الكفار، إذا ظهر به المسلمون على وجه الغلبة، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع: وسمى الشرع الواصل إلينا من الكفار من الأقوال بإسمين:
أحدهما: الفيء، وهو الذي يصل إلينا من الكفار من غير حرب، كالجزية والخراج الحق.
ثم إن الله تعالى كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين، أضاف الفيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال:
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهلِ القُرَى}.
فاقتضى ظاهر الآية، أن يجعل بعد إخراج الخمس أربعة أخماس، والفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يختص الغانمون بأربعة أخماس الغنيمة، فإنه تعالى قال: {مَا غَنِمتُم مِنْ شَيءٍ}.
وقال: {فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً}.
فاقتضى ظاهره أن يكون كله له، خص منه البعض، بقي الثاني على مقتضى الإضافة، وهذا حسن بين.
ومن جملة الفيء, مال المرتد إذا قتل على الردة.
ومال الكافر غنيمة، إن كان وصوله إلينا بقهره وقتله، فإن مات من غير قتال، فوجدنا ماله فهو فيء.
وإذا ثبت القول في أربعة أخماس الفيء والغنيمة فنقول:
أما الخمس، فإن الذي لا خلاف فيه، أن لليتامى والمساكين وابن السبيل حقاً باقياً في خمس الغنيمة.
واختلف الناس بعد الثلاثة في قوله: {للهِ ولِلرَّسُولِ ولِذي القُرْبَى}.(3/28)
فأما قوله: {فَأَنَّ للهِ خُمسَهُ}، فأكثر العلماء على أنه استفتاح كلام، وأن لله تعالى الدنيا والآخرة.
وروى الطحاوي عن أبي العالية، أن سهم الله تعالى مصروف في نفقات الكعبة، والذي ذكره بعيد، فإنا إن أقررنا سهماً لله تعالى، أدى ذلك إلى أن يكون الخمس مقسوماً على ستة، فعلى هذا يجب أن نقول: فأن لله سدسه، ولأنه ليس بأن يجب صرفه إلى بيت الله تعالى بأولى من صرفه إلى أولياء الله.
نعم قد قال تعالى: {فَأنّ للهِ خُمسَهُ}، يعني كل ذلك الخمس يصرفه فيما شاء، وأراد لا أن له البعض دون البعض، ولا يجوز أن يعتقد من الإطلاق، كون مال الفيء مشتركاً بين الله وبين غيره.
وأما سهم الرسول، فقد كان له الخمس من خمس الغنيمة، فيصرفه في كفاية أولاده ونسائه، ويدخر من ذلك قوت سنة، وما يفضل يصرفه إلى الكراع والسلاح وغير ذلك من المصالح.
وقال الشعبي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من الغنائم لنفسه شيئاً قط، إلا الصفي من المغنم، وهو ما كان يتناوله من عبد أو أمة أو فرس.
حكى الطحاوي ذلك عن الشعبي, وذكر عنه أن سهمه من الغنيمة, كان كسهم رجل من المسلمين وراء ما خص به من الصفي.
والظاهر يدل على أن الخمس مشترك بين رسول الله وبينهم, ولا يمكن أن يقال إن الصفي من جملة ذلك, فإن الصفي كان يتناوله من جملة الغنيمة قبل القسمة, فهو حق, سوى هذا الخمس المذكور.
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضر الوقعة, ما لسائر من حضرها من أربعة أخماس الغنيمة.
واختلفوا في سهمه, فقال الطحاوي:
إن طائفة قالت: هو للخليفة بعده.
وقالت أخرى: يصرف في الحمل والعدة في سبيل الله.
وطائفة قالت: بل زال بموته.
ولا يدل الظاهر على أكثر من استحقاقه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يدل على مصرف من هذه المصارف بعده.(3/29)
وقد دل الدليل, على أن ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم المستقر في حالة حياته, لا يورث عنه, فلأن لا يورث عنه ما يتجدد من الغنيمة, ولا يوجد سبب ملكه أولى.
ولا دليل على قيام الإمام مقامه بعده, لأنه اختص به لمنصب النبوة, كما اختص بالصفي من المغنم, وأقرب شيء يتخيل فيه صرفه في الكراع والسلاح, بدلالة أنه عليه السلام كان يصرف الفاضل من الخمس في هذا الوجه.
والجواب: أنه كان يصرفه اختياراً لا استحقاقاً, ولو ثبت أنه كان يصرفه إلى هذا الوجه استحقاقاً, لقرب أن يقال: إن الأولى بهذا السهم هذا الوجه, فعلى هذا الأقرب, أنه يصرف خمس الخمس إلى الباقين، قياساً على الصدقة الواجب صرفها إلى الأصناف, إذا تعذر صنف وجب صرفه إلى الباقين.
فعلى هذا قال الشافعي: يقسم الخمس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة, وهذا مذهب الشافعي, فإنه قال:
إن لبني هاشم وبني عبد المطلب سهماً من الخمس.
وقال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة أسهم: على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وخالفه أبو يوسف.
وقال قائلون: هو لفقرائهم عوضاً عما حرموا من الصدقة.
وقال آخرون: هو للفقراء والأغنياء منهم.
ثم إن الذين أثبتوا لهم الاستحقاق اختلفوا:
فمنهم من قال: يقسم قسمة الغنيمة على التساوي.
ومنهم من قال: يقسم كقسمة المواريث, فإنه مال مستحق بالقرابة.
والظاهر تعلق الاستحقاق بالقرابة, إلا أن القرآن ورد بذكر ذي القربى, وقد صار بعض السلف لأجله, إلى أنه لجميع قريش, وثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط من ذلك من انتمى إليه بالقرابة مطلقاً, والمراد به الخصوص, وليس يتأتى تعليله بالقرابة المطلقة, لأن سعيد بن المسيب, روى عن جبير بن مطعم, أنه وعثمان جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمانه فيما قسمه من خمس الخمس بين بني هاشم وبني المطلب, فقالا:
يا رسول الله, قسمت لإخواننا بني المطلب وقرابتنا وقرابتهم واحدة, فقال:(3/30)
"إنما أرى هاشماً والمطلب شيئاً واحداً".
وروى أنه قال: "إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام".
فلم يعط لبني أمية ولا لبني نوفل شيئاً, وقرابتهم كقرابة بني المطلب, وهذا يدل على التخصيص.
فعلى هذا, رأى أبو حنيفة استحقاقهم بالنصرة في حياة رسول الله.
وقال آخرون: لا بل لا استحقاق لهم إلا بالفقر, إلا أن ذكر ذوي القربى مع أن الفقر مستقل, كذكر اليتامى, ولا يصرف إلى اليتامى إلا إذا كانوا فقراء, ولا فرق... ولا معنى لقول من يقول: إن اليتم عبارة عن الحاجة, فإن اليتم عبارة عن الحاجة إلى الكافل لا إلى المال, وليس في اسم اليتم ما يدل على عدم المال, ولعلهم يقولون:
إنما ذكر ذوي القربى مع أن الفقر شرط, حتى لا يتوهم متوهم, أنهم كما فارقوا الفقراء من المسلمين في أن لا تصرف الصدقات إليهم مع الفقر, فكذلك الخمس, فقطع الشرع هذا الاحتمال، وهذا محتمل, ويصرف إلى اليتامى مع أن الفقر شرط, والمقصود من ذكره أن الخمس يقسم على أربعة أسهم عند الشافعي, وعلى ثلاثة عند أبي حنيفة, ولا بد من الصرف إلى هذه الأجناس.
والمقصود من ذكرها مع اشتراط الفقر فيها, تعديد جهات الحاجات واستيعابها, فأما الأربعة أخماس, فظاهر القرآن يقتضي أنها لمن غنمه.
وقوله: {مَا غَنِمتُم}: يشتمل الرقاب والعقار, إلا أن الرقاب الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف, وفي الديار اختلف العلماء فيها وليس في كتاب الله تعالى تفضيل للفارس على الراجل, بل فيه أنهما على سواء.
وفي المأخوذ على جهة التلصص, اتفق العلماء على أنه لا تخميس, وظاهر القرآن يقتضي تخميس كل مغنوم, وذلك يستوي فيه هذا وما سواه.
وظاهر اللفظ أيضاً يقتضي التسوية فيه بين الصبي والبالغ, إلا أن الدليل قام على أن الصبي يرضخ له.(3/31)
واعلم أن ظاهر قوله: {واعْلَمُوا أن مَا غَنِمْتُم مِنْ شيءٍ}، ربما لا يظهر عند الناس في تعارف اللغة, أن من استولى على مثله فقد غنمه, وأنه يصرف خمسه إلى كذا وكذا، في أن الحرية تسلب عن المسترق, وإنما ظهر ذلك بعرف الشرع, وعرف الشرع دل على أن الغنيمة اسم للمأخوذ من الكفار بطريق القهر, ولا يدل على أخذ أنفسهم من حيث عرف اللغة, وفي الشرع, الإمام على التخيير بين الخلال التي بينها الفقهاء.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [الأنفال:45]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {إذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثيِراً}, الآية [45]:
الأمر بالثبات تقدم بيانه عند النهي عن القرار من الزحف، إلا على تفصيل ذكرناه، قوله: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثيِراً}: يحتمل الذكر بالقلب، وذلك بأحد وجهين:
إما بتذكر ما عند الله تعالى من ثواب المجاهدين، وتهوين أمر الدنيا في جنب ما عند الله تعالى.
والثاني: ذكر دلائله ونعمه وما يستحقه الله تعالى على عباده من بذل المهج في مرضاته، وأنهم وإن بلغوا الغاية في طاعته، فلا يبلغ كنه جلاله، وكل ذلك مما يعين على الصبر والثبات، ويستمد بها النصر من الله تعالى، والجرأة على العدو والاستهانة بهم.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنفال )
{ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال:46]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}, الآية: [46].
نهى عن الاختلاف المؤدي إلى الفشل وجرأة العدو.(3/32)
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأنفال:57]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {فَإمّا تَثَقَفَنّهُم في الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلفَهُم}.
أبان أن المقصود من التنكيل بالأسر، زجر من سواهم، ولأجله شرعت العقوبات، ولأجله أمر الصديق بالتنكيل بأهل الردة، وإحراق بعضهم بالنيران، ورمي بعضهم من رؤوس الجبال، وطرحهم في الآبار.
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } [الأنفال:58]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وإمّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانةً فَانبِذْ إلَيهِم عَلَى سَواءٍ}, الآية [58]:
أباح الله لرسوله إذا توقع من أعدائه غائلة من مكر، أن ينبذ إليهم على سواء، حتى لا يقول المبطل: إنك نقضت العهد بنصب الحرب، ولم ينبذ إلى أهل مكة عهودهم، بل غزاهم نبذاً، لأنهم كانوا نقضوا العهد، لمعاونة هذيل على خزاعة حلفاء النبي، ولذلك جاء أبو سفيان إلى المدينة يسأل تجديد العهد بينه وبين قريش، فلم يجبه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذلك، فلأجل ذلك لم يحتج إلى النبذ إليهم، إذ كانوا أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنفال )
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [الأنفال:60]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(3/33)
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قَوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ}, الآية [60]:
هو الأمر بالاستعداد للعدو، وبإعداد الكراع والسلاح قبل وقت القتال إرهاباً للعدو، والتقدم في ارتباط الخيل استعداداً لقتال المشركين، ومنه أخذ إعداد الأموال والخزائن لحاجة المسلمين إليها يوم القتال.
قوله تعالى: {وإنْ جَنَحُوا لِلسلمِ فاجْنَحْ لَهَا}, الآية [61]: منسوخ بقوله تعالى: {فاقتُلُوا المُشرِكِينَ}، و {وقَاتِلُوا الّذيِنَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ} وهو الظاهر.
فإن سورة براءة، آخر ما نزلت، فكان العهد بين رسول الله والمشركين قبل ذلك، وقد قال تعالى:
{فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السّلمِ وأَنتُمُ الأَعلَوْنَ}.
فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم، ولذلك قال بعض أصحابنا: إذا قدر بعض أهل الثغور على قتال العدو لم يجز مسالمتهم، قالوا: وإن قدروا بعد ذلك على قتالهم، نبذوا إليهم على سواء إن توقعوا منهم غائلة، وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بمال يبذلونه لهم، جاز لهم ذلك، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد كان صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمارالمدينة، حتى إنه لما شاور الأنصار، قالوا: هذا مما أمرك الله به أم الرأي والمكيدة؟ فقال: لا بل هو رأي، لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، فأردت أن أدفعه عنكم إلى يوم، فقال السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما:
والله يا رسول الله إنهم لم يطعموا فيها منا إلا بشراء أو قراء، ونحن كفار، فكيف وقد أعزنا الله تعالى بالإسلام، ولا نعطيهم إلا بالسيف، وشقا الصحيفة.(3/34)
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال:65-66]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ}, الآية... وقوله تعالى: {وعَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعفاً}.
وعلم الله عالى سابق أزلي، فمعناه أن الله تعالى بيّن أن الواحد في ابتداء الإسلام يفي بعشرة لأمور:
منها: النصرة منه تعالى.
ومنها: الصبر والقوة.
ومنها: قوة النية والبصيرة.
ثم بعد زمان نسخ ذلك لنقصان القوة في الدين، وضعف النية في محاربة المشركين.
فهذا معنى قوله: {وعَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعفاً}.
فقوله تعالى الآن، دخل في ضعف الناس لا في علم الله تعالى.
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال:67]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبيٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسرَى حَتّى يُثخِنَ في الأَرْضِ}, الآية: [67].(3/35)
وذلك يدل على أن العدول عن القتل إلى الأسر حرام على كل نبي، حتى يكثر القتل منه، فتحصل هيبته في القلوب، وتمتلىء النفوس منه رعباً، فإذا أثخن في الأرض بالإكثار من القتل، يجوز أن يكون له أسرى، فدل من هذا الوجه، أن الجهاد من تكليف سائر الأنبياء، فلذلك عمهم تعالى به.
وقال قائلون: كأن الله تعالى أمرهم بإكثار القتل بقوله: {فَاضرِبُوا فَوْقَ الأَعنَاقِ واضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَان}، لكي يعظم الرعب في قلوبهم، فيكفهم ذلك عن المحاربة، ويميل بهم إلى الإسلام والمسالمة... فأبى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، إلا أسر بعضهم رغبة في الفداء، فصار ذلك معصية منهم ومخالفة.
فإن قيل: أفكان النبي عليه الصلاة والسلام موافقاً لهم؟
قيل: بل كان صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإثخان، وبلغهم ذلك من الله تعالى، ولذلك كانواعصاة بترك الأمر.
فإن قيل: فلم أضاف الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال: ما كان لنبي أن يكون له أسرى؟
قيل: من الممكن أنهم أسروا الكفار ليسلموهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: لم توقف بعد الأسر في قتلهم، واستشار أصحابه، فأشار عمر بقتلهم، وأشار أبو بكر باستبقائهم؟ فالجواب: أن ذلك لتجويز تغيير التعبد بعد الأسر، وإن كان الواجب من قبل القتل.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنفال )
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الأنفال:68]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الغنائم
قوله تعالى: {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُم فِيمَا أخَذْتُم}, الآية [68]:(3/36)
حمله قوم على إسراع المسلمين في الغنائم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقد قيل: لولا تقدم دلالة القرآن على أن الصغائر مغفورة عند اجتناب الكبائر لمسهم العذاب، فعلى هذا ثبت كونهم عصاة، وإن كانت الصغائر مغفورة، فيصح أن يعاتبوا على ما فعلوه.
وقد قيل: معناه لولا أن الوعيد يتقدم العقاب، لمسكم فيما أخذتم، ولكن سبق الكتاب بأن لا مؤاخذة إلا بعد النهي.
وقد قال قائلون: يجوز أن يكون توقفه بعد الأسر في قتلهم، صغيرة ورد فيها العقاب.
ويقال: كيف يكون هذا صغيرة مع تقدم قوله: {فاضرِبُوا فَوْقَ الأَعنَاقِ}, وأنتم إن جعلتم ذلك صغيرة, لم تجعلوا قوله: {فاضرِبُوا فَوْقَ الأَعنَاقِ} وارداً بعد حرب بدر بل قبله، فإذا ثبت ذلك، فلا بد أن تكون مخالفة الأمر في ذلك كبيرة.
قيل: احتمل أنهم توهموا أن القتل لما كثر جاز العدول إلى الأسر.
{ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنفال:69]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الغنائم
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمّا غَنِمتُم حَلاَلاً طَيِّباً}, الآية [69]:
ليس فيه بيان أكله بعد القسمة أو قبلها, أو بعد الغلبة والإحراز بدار الإسلام.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الأنفال:72]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الهجرة(3/37)
قوله تعالى: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِمْ وأنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ}, الآية: [72].
يدل قوله: {والّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلاَيَتِهِم مِنْ شَيءٍ}: على وجوب الهجرة، إلا أنها كانت واجبة في وقت، وقد زال ذلك الوجوب بالفتح لقوله صلى الله عليه وسلم:
لا هجرة بعد الفتح.
وإنما كانت واجبة للخوف من الكفار، والخوف من الافتتان، ولتقوية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك زال بالفتح.
ويحتمل أن يكون المراد بالولاية الوراثة، لأنهم كانوا من قبل يتوارثون بالإسلام والهجرة، ونسخ ذلك بقوله تعالى:
{وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهُم أَوْلَى بِبَعضٍ في كِتَابِ اللهِ}.
ويحتمل أن تكون الموالاة في الدين.
وقوله تعالى: {مَا لَكُم مِنْ وَلاَيَتِهِم مِنْ شَيءٍ}، يدل على أن من ترك الهجرة، فقد خرج عن أن يكون ولياً لسائر المؤمنين، إلا أنه لو خرج عن الدين لما قال الله تعالى: {وإن اسْتَنْصَرُوكُم في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصرُ}.
قوله تعالى: {والّذِينَ كَفَرُوا بَعضُهُم أَوْلِيَاءُ بَعضٍ}, يدل على أنه أراد به الولاية في الدين، لأنه تعالى قال: {إلاّ تَفعَلُوهُ تَكُنْ فِتنَةٌ في الأَرَْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
الأحكام الواردة في سورة ( الأنفال )
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنفال:75]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المواريث
قوله تعالى: {وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهُم أَوْلَى بِبَعضٍ في كِتابِ اللهِ}, الآية: [75].
يحتمل التوريث بالرحم على قول ابن مسعود.(3/38)
ويحتمل أن يكون أولى ما بيّن الله تعالى في كتابه من آي المواريث، ويجعل هذه الآية كأنهما مجملة وتلك مفصلة، ولا يدل على أن بعضهم أولى ببعض في الميراث من حيث الظاهر، إلا أن يعلم الميراث بدليل.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {بَرَاءَة مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} , الآية: [1].
اعلم أن الإمام إذا استشعر من أهل العهد جناية، أو توقع منهم غائلة، كان له نبذ عهدهم إليهم، دفعاً لغائلتهم، حتى لا يؤتى من حيث لا يشعر، إلا أنه إنما يجوز ذلك بأن يجاهر بنبذ العهد إليهم، حتى لا يكتسبهم مغافصة، فيشبه الغدر، ويجوز أيضاً أن يعاهد المشركين إلى أن يرى فيه رأيه، كما عاهد أهل خيبر، وقال في العهد: أقركم ما أقركم الله ثم أجلاهم عمر، وكل ذلك جائز.
وإذا ثبت ذلك فقوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلىَ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشرِكِينَ}: يدل على أن عهداً قد تقدم بينهم، وأنه قد نقض.
{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } [التوبة:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
{فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر}، وإذا انتقض العهد فلم جاز الإمهال؟
فيقال: لا يبعد جواز الإمهال لما فيه من المصلحة في تدبر من أمهل في عاقبة أمره ومآل حاله، وأن ذلك يكون داعياً إلى الإسلام، وإنما لا يحسن الامهال لمن يتوقع الغوث، فأما من لا يخشى الغوث، فلا يقبح منه الامهال، ودل عليه قوله:
{واعلَمُوا أَنّكُم غَيْرُ مُعجِزِي اللهِ}.(3/39)
ومعناه: غير معجزيه، بتمكين نبيه منهم، ونصرته عليهم، أو نفاذ مراد الله تعالى فيهم بما شاء، وهو معنى قوله تعالى: {وأَنَّ اللهَ مُخزِي الكَافِرينَ}.
فكان المقصود من التسمح بهذه المدة، التوصل إلى هذه البغية، وهو رجاء الإسلام.
وإذا بان السبب الذي لأجله يجوز نبذ عهود الكفار إليهم، فقد قال ابن عباس: إن المشركين أخذوا في نقض عهودهم التي بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم, فأمر الله تعالى نبيه فيمن كان عهده أربعة أشهر، أن يقره إلى مضي هذه المدة، وذلك من يوم النحر إلى عشر من شهر ربيع الآخر، ومن كان له من العهد أكثر، أمر أن يحط إلى ذلك، ومن كان أقل، أمر أن يرجع به إلى هذا القدر، ومن لم يكن له عهد، أمر أن يجعل له خمسين ليلة من يوم النحر إلى إنسلاخ المحرم، إلا حي من بني كنانة، كان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، فأمر الله تعالى أن يتم عهدهم إلى مدتهم، وهو معنى قوله: {إلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشركينَ}.
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {يَوْمَ الحَجِّ الأَكبَرِ}، الظاهر أنه يوم عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: الحج عرفة.
ويجوز أن يكون يوم النحر، وورد في كل واحد منهما أثر، وتسميته الحج الأكبر يدل على أن العمرة أصغرهما.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )(3/40)
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
{إلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشركينَ} - إلى قوله - {فَأَتِموا إلَيهِمْ عَهدَهُم إلىَ مُدتِهِم}, الآية [4].
وذكر التبري وقطع العصمة وبعث علياً بذلك، لينادي فيهم مع قوله تعالى:
{إلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشرِكِينَ ثُم لَمْ يَنقُضُوكُم شَيئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيكُم أَحَداً فأتِموا إليهم عَهدَهم إلى مُدتِهِم}.
واعلم أن الذين تقدم ذكرهم، وقعت منهم مظاهرة أو مخابرة وخداع، يقتضي نقض العهد والاخلال به، ولذلك قال:
{كَيْفَ يَكُونُ لِلمُشرِكِينَ عَهدٌ عِندَ اللهِ وعِندَ رَسُولِهِ إلا الّذِينَ عَاهَدْتُم عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا استَقَامُوا لَكُم فاستَقِيمُوا لَهُم}, الآية: [7].
فلو كان ممن تقدم ذكرهم الاستقامة في العهد، لم يجز منه تعالى أن يتبرأ منهم وينقض عهدهم، فكل ذلك يدل على أنه قد كان تقدم منهم نقض العهد، إما ظاهراً وإما سراً.
وقال ابن عباس في سورة التوبة: إنها هي الفاضحة، فهذا القول منه يدل على أنهم نكثوا وأسروا به، فأظهر الله تعالى لنبيه ما أسروه بالبراءة منهم، ونبذ العهد إليهم.
وذكر في النقض وجه آخر، من حيث استبعد هؤلاء النقض من جميع المشركين سراً، فقال: سبب نقض العهد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحج لقابل، وأن الله تعالى أعلمه ذلك، وأنه لا يتفرغ إلى الحج إلا بعد العام القابل، لقرب أجله، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة في الطواف، والتعري بحضرته شرك وكفر، فاقتضى ذلك نقض العهد.(3/41)
وهذا باطل، فإنه لا يجوز من رسول الله صلى الله عليه وسلم النقض لهذه العلة، فإن من الممكن أن يخلى له البيت ساعة، ولا يمكن المشركين من الطواف في تلك الحالة، كما طاف في عمرة القضاء وأخلى له المشركون البيت.
والذي يتعلق بالأحكام من الآية أنه:
لا يجوز نبذ عهد الكفار إلى الكفار إلا بنقض ظاهر منهم، أو توقع نقض، أو إبهام في مدة العهد، مثل أن يقول: نقركم ما أقركم الله.
ثم الأمان فسد أو صح، لا يجوز نقضه بالاغتيال، بل بإظهار نبذ العهد إليهم.
فهذا ما يتعلق بالفقه من الآية، وما ذكر في الآية: {إلا الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُم شَيئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيكُم أَحَداً}, الآية: [4].
والمتعلق بالأحكام منه وراء ما ذكرناه، أن من كان بين المسلمين وبينهم عهد، فإذا ظاهروا علينا قوماً من الأعداء فهو نقض العهد، سواء ظاهروا سراً أو جهراً.
{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ}, الآية: [5].
وفيه سؤال: وهو أن النداء إنما كان يوم الحج الأكبر، والأشهر الحرم: ذو القعْدَة، وذو الحجة، والمحرم، وهذه الثلاثة سرد ورجب فرد، فإذا ثبت ذلك، فكيف يقول: {فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ}، وما بقي إلا أيام قلائل؟
وأجيب عن ذلك من وجوه:
منها: أنه لما كان آخر الأشهر الحرم المحرم، وكان بانقضائه تنقضي الأربعة أشهر، جاز أن يعلق قتال الكفار به.(3/42)
والوجه الثاني: أن المراد بالأشهر الحرم: الأربعة التي حرم الله تعالى فيها قتالهم وأمنهم فيها، وهي: من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر.
فقوله تعالى: {الأَشهُرُ الحُرُمُ}، هي التي حرم الله تعالى فيها القتل فقط، ولم يعن بالحرم الثلاثة السرد والواحد الفرد، وإنما أراد الأربعة المتوالية من وقت العهد إلى العاشر من ربيع الآخر، وهو قول الحسن.
وفيه شيء, وهو أن اسم الأشهر الحرم لا يتعارف منه غير المعهود، ولا يصير بسبب العهد الأشهر مسماة بالحرم، فلا جرم اختار كثير من العلماء القول الأول.
وقال الأصم: أريد بالآية من لا عهد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ المحرم، وهو مدة خمسين يوماً على ما ذكره ابن عباس.
قوله تعالى: {فاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم وَخُذُوهُم واحصُرُوهُم واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد}، يدل على جواز الأسر بدل القتل والتخيير بينهما، ويدل على جواز قتلهم، أو أسرهم، على وجه المكيدة، لقوله تعالى: {واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد}.
وقال ابن عباس في قوله: {لَستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِر} و {مَا أَنتَ عَلَيهِم بِجَبّار} وقوله: {فاعْفُ عَنهُمْ واصْفَحْ}, وقوله: {قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ}، قال: نسخ هذا كله بآية السيف وهو قوله تعالى: {اقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم}، الآية، وقوله: {قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بِاليَومِ الآخِرِ}, الآية.
وقال موسى بن غفلة: كان النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يكف عمن لا يقاتله، لقوله تعالى: {وأَلقَوْا إلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيهِم سَبِيلاً}، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ} - إلى قوله - {فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فاقتُلُوا المُشرِكِينَ}, الآية.(3/43)
وعموم ذلك يوجب قتل كافة المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، فإنه جعل المرد {فإنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَةَ}، إلا أن الأخبار وردت في أخذ الجزية.
ويجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتابين، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم.
واعلم أن مطلق قوله: {اقتُلُوا المُشرِكِينَ}، يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت في النهي عن المثلة، ومع هذا يجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه، لما قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، والحجارة، والرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق في ذلك بعموم الآية.
وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوماً من أهل الردة، بالإحراق بالنار، يجوز أن يكون ميلاً إلى هذا المذهب واعتماداً على عموم اللفظ.
قوله تعالى: {فإنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم}:
هذه الآية فيها تأمل، فإن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: {فإنْ تَابُوا}، والأصل، أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذا بين.
غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين ، فلا سبيل إلى إلغائهما، وصح أن الصدّيق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، لا من جحد وجوب الزكاة فقط، بل مَن قال لا أؤديها إليك.
فقال أبو بكر: "لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وإنما فعل ذلك، فهم العلماء منه قتال مانعي الزكاة، لأن الله تعالى شرط أموراً ثلاثة في ترك القتال، فلا بد من وجودها جميعاً، ودل قوله تعالى في موضع: {فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلوا سَبِيلَهُم}، وقال في موضع آخر:
{فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فإخوَانُكُم في الدِّينِ}.(3/44)
على أن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مُدخلاً في تخلية سبيلهم، كما أن للتوبة مُدخلاً في ذلك، وبذلك احتج أبو بكر رضي الله عنه في أن التوبة لا تكفى في تخلية سبيلهم والكف عن قتلهم، حتى ينضاف إليها فعل الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال إنه صلى الله عليه وسلم قال:
"فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
فلم تثبت العصمة بمجرد الإسلام، وذكر أن الزكاة من حقها.
وتعلق علي بذلك في قتال الفئة الباغية، وذهب إلى أن المشركين إذا أسلموا، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، حل قتالهم وقتلهم.
وقال بعضهم: إنما أراد بذلك الاعتراف بالصلاة والزكاة لا فعلهما، فمن جحد أحدهما فقتله مباح، وهذا يستأصل وجه التخصيص.
فإن قيل: فاذا تاب قبل وقت الصلاة والزكاة فلا قتل عليه، ولم يقم الصلاة ولا الزكاة جميعاً.
الجواب: أن التوبة إن كفت على هذا الرأي، فذكر الصلاة والزكاة لغو، وهو بمثابة من يقول: فإن تابوا ودخلو الدار ولبسوا الثوب.
نعم، فهمنا من جعلهما شرطاً خروج ما قبل حالة الوجوب، لأنه لا يجوز أن يجعلهما شرطاً، ولما وجبا ولزما.
فالظاهر ما قاله الصدِّيق، وهو جواز محاربتهم إذا امتنعوا من القيام بهما.
وقد كان كثير من الناس يعترفون بوجوب الزكاة، لكنهم كانوا يمتنعون من دفعها إليه، وأمر مع ذلك بمحاربتهم وقال: لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
فتبين بذلك أن الزكاة للامام فيها حق الأخذ، فمتى امتنعوا وانحازوا إلى فئة حل قتالهم وقتلهم، ما داموا مصرين على الامتناع، وكذلك إذا امتنعوا من الصلاة، وفعلها على وجه يظهر.
فإن قيل: فقد خص الله تعالى هذا بالمشركين وقتالهم، فمن أين أن هذا جائز في حق المؤمنين؟
والجواب: أنه إذا ثبت أن التوبة تسقط القتل، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تسقط القتل، فمقتضاه: أن المشرك إذا تاب ولم يصل ولم يزك وجب عليه القتل، وهذا ما نقوله.(3/45)
يبقى أن يقال: إن الآية أوجبت التسوية بين منع الصلاة ومنع الزكاة، والشافعي يخصص بالصلاة.
والجواب: أن عند الشافعي لا فرق بين البابين، إلا أن في الزكاة أخذها ممكن قهراً، وفي الصيام يمكن أن يحبس في موضع فيجعل ممسكاً، والركن الأعظم في الصوم الامساك، فأما الصلاة، فاستيفاؤها منه غير ممكن، فكان قتل تارك الصلاة من حيث تعذَّرَ استيفاؤها منه، بمثابة قتل تارك الزكاة إذا انحاز إلى فئة.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } [التوبة:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وإنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبلِغهُ مَأْمَنَهُ}, الآية: [6].
اعلم أن هذا لا دلالة فيه على أمان مشرك، ووجوب بذل الأمان فيمن يطلب الأمان، وذلك أن الله تعالى إنما ذكر ذلك وشرع الأمان لفائدة، وهي سماع الأدلة من كتاب الله تعالى، والكفار متى طلبوا تعرف التوحيد، والعدل وبطلان ما هم عليه وجب ذلك، وإذا وجب على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب على سائر الأمة، بل على سائر المجاهدين.
ولا يحل للمجاهد قتل الكافر مع طلبه التعرف للدين، والوقوف على الأدلة، لأنه لو حل قتله، لم يجز أن يجار وأن يؤمن، فلذلك لا يجوز أن يخلو المجاهدون من العلماء، لأنه لا يأمن أن يكون في الكفار من يلتمس ذلك، فإذا لم يجد من يحل شبهته، ويثبت له طريقة الحق، لم تجز مقاتلته.
فلو قالوا: إنا نريد الوقوف على طريق الحق وتمييزه عن الباطل، فأمهلونا ودعوا مقاتلتنا، لوجب ذلك، وكما يجب أن يكون في عسكر الإسلام من يستعد لقوة الدين بالسلاح والعدة، فكذلك يجب أن يكون فيهم من يستقل بقوة المناظرة وتعريف الأدلة.(3/46)
فقوله تعالى: {فأَجِرْهُ}، أمر دال على الوجوب، ولا وجوب إلا عند هذا الغرض، وليس هذا الغرض من الأمان المعروف في الشرع في شيء، فإن الامان هو الذي يحصل بسبب من المسلم موقوفاً على خيرته: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وفي الاستجارة لغرض الاستماع لكلام الله عز وجل، يجب الأمان، وتنكف السيوف عن رقبته، ويتحرس دمه متى طلب ذلك، سواء كان جرى منا الأمان أو لم يجر.
ثم قال تعالى: {حتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}, الآية: [6].
أي بعد السماع، لأنه لا فائدة في مقامه عندنا، والأمان الذي تعارفه الفقهاء، أن يؤمن كافراً لا يبغي به سماع كلام الله عز وجل، حتى إذا استمع أبلغه مأمنه، بل ينبغي به أمانه حتى يتجر ويتسوق ويقيم عندنا مدة لغرض لهذا المسلم، وذلك ليس ما نحن فيه بسبيل.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلاَّ الّذِين عَاهَدْتُم}, الآية.
يدل على أن من نفى أن يكون له عهد، إنما نفاه من حيث لم يستتم، بل غدر سراً أو جهراً، أو خيف منه الغدر، وذكر الشرك ذكر الباعث على الغدر ثم قال:
{إلاَّ الّذيِن عَاهَدتُم عِندَ الْمَسجِدِ الحَرَامِ}.
فإنه لم يظهر منهم غدر.
{فَمَا استَقَامُوا لَكُمْ فاستَقِيمُوا لَهُمْ}.
وهذا يدل على أن من نقض عهده فإنما نقضه لمكان الغدر وتوقع الجناية، وإلا فلو استوى المستثنى والمستثنى منه في الاستقامة والوفاء لاستويا في وجوب الوفاء.(3/47)
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
{كَيْفَ وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُم لاَ يَرْقُبُوا فِيكُم إلاًّ ولاَ ذِمّةً}.
فبين الله تعالى أن المعلوم من حالهم الغدر عند التمكن، وأنهم ينتهزون فرصة الاغتيال والمجاهرة بسر المكاشفة.
وبين أنهم في إظهار التمسك بالعهد منافقون لقوله: {يَرْضُونَكُمْ بِأَفَواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُم} وقوله: {إلاًّ}، يحتمل القرابة والعهد والجوار.
ويحتمل أن يكون من أسماء الله تعالى يحلف به، فأبان أنهم لا يثبتون على العهد واليمين.
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [التوبة:11]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {فَإنَ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَة وآتُوا الزَّكَاةَ فإخوَانُكُم في الدّينَ}, الآية: [11].
هذا فيه تأمل، فإنا إن جعلنا لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على مذهب الشافعي أثراً في تخلية سبيلهم، فليس لهما اختصاص أصلاً بكون مقيمهما أخاً لنا في الدين، فإن مجرد الإسلام كافٍ في هذا المعنى, ولا وجه له، إلا أن ذكرهما يدل على ما عداهما.
فإن الصلاة هي الوظيفة الكبرى المختصة بديننا وشرعنا.
والزكاة هي الوظيفة الشاقة على المكلفين؛ وما كانت لهم عادة بهما.
فأبان أن الدخول فيهما دخول فيما سواهما.
وأبان أنه وإن تمسك بالكفر دهراً طويلاً فإذا تاب صار في الحال بمثابة من كان معنا دهراً طويلاً على الإسلام، حتى يجب علينا نصرته وموالاته.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )(3/48)
{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } [التوبة:12-13]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وإنْ نَكَثُوا أَيمَانَهُم مِنْ بَعدِ عَهدِهِم وَطَعَنُوا في دِينِكُم}, الآية: [12].
يدل على أن المعاهد لا يقتل في عهده ما لم ينكث، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتالهم على وجودهما، فان النكث يقتضي ذلك بانفراده عقلاً وشرعاً.
فالمراد به على هذا الوجه التمييز في الجمع، وتقديره:
فإن نكثوا حل قتالهم وإن لم ينكثوا وطعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم.
وهذا يقوي مذهب الشافعي، فإن المعاهد إذا جاهر بسب الرسول وطعن في الدين فإنه يحل قتله وقتاله.. وأبو حنيفة رأى أن مجرد الطعن في الدين لا ينقض به العهد، ولا شك أن دلالة الآية قوية فيما قاله الشافعي.
فإن قيل: فلم قال: فقاتلوا أئمة الكفر؟ ولم خصصهم بذلك مع وجود القتال من جميعهم؟
الجواب: أن من المحتمل أن يكون المراد به أن المقدم على الطعن في الدين ونكث العهد صار أصلاً ورأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل، أو عنى به المقدمين والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال أتباعهم، وأبان أنهم لا يحترمون ولا يهابون.
وقد قيل: عنى به صناديد قريش، كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية ابن خلف.
وهذا بعيد: فإن الآية في سورة براءة، وحين نزلت وقرئت على الناس استؤصل شأفة قريش فلم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم.
قوله تعالى: {إنّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}
أي لا أيمان لهم يفون بها، ويثبتون عليها.(3/49)
قوله تعالى: {لَعَلّهُم يَنْتَهُون}.
أبان به أن الغرض من قتال الكفار يجب أن يكون طلب إسلامهم، فمن رجا منهم الإسلام وتطلب تعريف الحق يجب السعي في بيان ذلك، لأن قوله: {لعلّهُم يَنْتَهُون}، أي كي ينتهوا عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم، إما دفع ضررهم فينتهون عن قتالنا، وإما الانتهاء عن كفرهم باظهار الإسلام.
وقد قيل: قوله {أَئِمةَ الكُفْرِ}، نزل في اليهود الذين غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان، على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين، وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنهم بدءوا بالنكث والنقض، وقال بعده:
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُم من بعد عهدهم وَهَمُّوا} وكل ذلك محتمل.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [التوبة:16]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {وَلَمْ يَتّخِذوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}, الآية: [16].
يقتضي لزوم اتباع المؤمنين، وترك العدول عنهم، كما يلزم اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } [التوبة:17]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المساجد
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلمُشرِكِينَ أَنْ يَعمُرُوا مَسَاجِدَ}, الآية: [17].(3/50)
يدل على أن عمارة المسجد بالزيارة، والزيادة في بنائه، ودخوله محرم على الكفار، فكأنه قال:
إن بناء المسجد إنما يليق بالمسلم الذي يتوصل به إلى رضاء الله، فأما الكافر فإن عمله في ذلك محبط، ولم يؤمر بعمل محبط، وإنما أمر بعمل مقبول عند الله تعالى.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [التوبة:23]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…موالاة المُحاد
قوله تعالى: {لاَ تَتّخِذُوا آبَاءَكُم وإخوَانَكُم أَوْلِيَاءَ}, الآية: [23]:
يدل على أن حكم الله تعالى يغلب حكم القرب والنسب.
ويدل على أن تولي الكافر تعظيم، فلذلك أطلق تعالى فيمن يفعل ذلك أنه ظالم.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
2)…المساجد
قوله تعالى: {إنّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ}, الآية: [28].
صار بعض الناس إلى الحكم بنجاستهم حقيقة حتى نجسوا بملاقاتهم.
وقال آخرون: لم يرد تعالى نجاستهم حقيقة، وإنما أراد به جعله فاتحة لمنع قربهم من المسجد، كما تمنع من ذلك النجاسات، فمعناه: إنما المشركون كالشيء النجس، وتعليق منعهم أن يقربوا المسجد الحرام بكونهم أنجاساً، يقتضي أن يكون المراد به التشبيه لا التحقيق، والنجاسة من حقها صحة إزالتها بالماء وذلك لا يتأتى في الشرك.(3/51)
وقال الشافعي: يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة، ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة، والشافعي يعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام.
فأما الآية فظاهرها ألا يقربوا المسجد الحرام، إلا أن قوله تعالى: {فَلاَ يَقربُوا المَسجِدَ الحَرَامَ بَعدَ عَامِهِمْ هَذَا}، يدل على أن المراد به الحج، والتقييد بالعام يدل على أن المراد به الحج الذي لا يتأتى إلا في العام.
ويدل عليه أيضاَ قوله تعالى: {وإنْ خِفتُم عَيلَةً فَسَوَفَ يُغنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ}.
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة:29]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ وَلاَ بِاليَومِ الآخِرِ - إلى قوله - عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}, الآية: [29].
اعلم أن مطلق قوله {اقتُلُوا المُشرِكِينَ}.
وقوله عليه الصلاة والسلام:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله".
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتنةٌ ويَكُونَ الدّينُ كَلُّهُ للهِ}.
يدل كل ذلك على جواز قتل الكفار بأسرهم، ولو لم يكن إلا قوله تعالى: {اقتلوا المشركين}، لكان اللفظ عاماً في حق أهل الكتاب وغيرهم.
وقد قال قائلون: إن عموم لفظ المشركين مقصور على عبدة الأوثان، فإن قوله تعالى فرق في اللفظ بين المشركين، وأهل الكتاب، والمجوس, بقوله: {إن الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنّصَارَى والمَجُوسَ والّذِينَ أَشرَكُوا}.
فعطف المشركين على هذه الأصناف.(3/52)
وقال آخرون: لما كان معنى الشرك موجود في مقالات هؤلاء الفرق من النصارى المشركين بعبادة الله تعالى عبادة المسيح عليه السلام.
والمجوس أشركت من حيث جعلت لله تعالى نداً مغالباً، والصابئون هم عبدة الكواكب، فهم مشركون حقيقة، وقد انتظم اللفظ، فعلى هذا دل قوله "المشركون" على نفي أخذ الجزية من هؤلاء كلهم، العرب والعجم على ما يقوله الشافعي.
ولأجل ذلك توقف عُمرُ في أخذ الجزية من المجوس، وليسوا أهل الكتاب تحقيقاً، فإنه سلب الكتاب منهم كما نُقل عن عليّ، وإن صح هذا النقل عن علي، فليسوا أهل الكتاب في الحال، وكون آبائهم من أهل الكتاب لا يقتضي أمراً في حقهم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما نقله الرواة عنه "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب.
إذا تبين ذلك، فأخذ الجزية من أهل الكتاب بحكم تخصيص الشرع إياهم من بين المشركين، لا يدل على مثله في المجوس، إذ لا يتناولهم لفظ مطلق لفظ الكتاب، لقوله تعالى: {إنّمَا أُنْزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبلِنَا}.
فإن قيل: فقوله تعالى: {مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ}, يقتضي جواز أخذ الجزية منهم، ولا دلالة للفظ في حق غيرهم.
وقوله: {اقتُلُوا المُشرِكِينَ}، إنما ورد في مشركي العرب فإنه مرتب على قوله تعالى: {فإذَا انسَلَخَ الأشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ}.
وكذلك قوله: {وَقَاتِلُوا المُشرِكِينَ كَافَةً كَمَا يُقاتِلُونَكُم كَافَةً}.
وليس فيه دلالة على منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العجم، والظاهر لا يقتضي في ذلك مشركي العجم منعاً ولا إثباتاً.
نعم، الظاهر يقتضي جواز أخذ الجزية من كافة أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، وهذا هو الحق عندنا، وليس يظهر عن هذا السؤال جواب؟
نعم يمكن أن يقال: إن الأصل ألا تقبل الجزية من الكفار إلا فيما خُصَّ، وذلك خروج عن موجب الظاهر ويتعلق بنوع آخر.(3/53)
واعلم أن قوله تعالى: {قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنونَ باللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ - إلى قوله في سياق الآية - مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ}. توهم قوم أنه منصرف إلى جميع الكفار وهم أصناف:
فمنهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس ذلك صفة أهل الكتاب، فإنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر.
وقوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ}، صفة غير أهل الكتاب وكثير من الأحكام.
وقوله: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} هو وصف أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد.
وذكروا أن ظاهر هذا يقتضي أخذ الجزية من أصناف بالكفار، إلا ما قام دليل الإجماع في حق مشركي العرب، وهذا باطل، فإن الله تعالى قال: {قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنونَ باللهِ}، فوصف الذين يقاتلون بأوصاف، فلتكن الأوصاف راجعة إلى الضمير المذكور أوّلاً.
وقوله: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، وصف لهم.
{وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ} يرجع إليهم أيضاً.
وقوله: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ}، ينبغي أن يكون نَعتاً للذين.
فإذا لم يقولوا ذلك فقد نعت قوماً بنعت، وذكر بعده نعتاً لا لمنعوت متقدم، وذلك يستحيل قطعاً.
فلا جرم، رجع كل من يرجع إلى فهم، ونحصل إلى أن الآية نزلت في حق أهل الكتاب.
يبقى أن يقال: كيف وصفهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؟
قيل، يحتمل أن يقال: إنهم بمنزلة الذين لا يؤمنون في باب الذم, ومثله في مَنْ يوالي الكفار من المؤمنين, ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي.
ومعناه أنهم لو كانوا ينتفعون بالإيمان بالله, ما اتخذوهم أولياء.
وقد قيل: معناه أنهم لم يؤمنوا عن يقين ومعرفة.
وقد قيل: لا يؤمنون بذلك على ما يؤمن به المؤمنون.
وقد قيل: لم تكمل معرفتهم بالله تعالى.
قوله تعالى: {حَتّى يُعطُوا الجِزْيَةَ}.
فالجزية عطية مخصوصة.(3/54)
قيل سميت جزية لأنها جزاء على الكفر, وقيل اشتقاقها من الأجزاء بمعنى الكفاية, أي أنها تكفي من يوضع ذلك فيه من المسلمين, وتجزى عن الكافر في عصمته.
قوله تعالى: {وهُمْ صَاغِرُونَ}, الصغار هو النكال, وصف بذلك لأنه يصغر صاحبه, بأن يدفعوها عن قيام, والآخذ لها قاعد, ويعطيها بيده مشياً إلى الوالي الطالب.
وفائدة هذين الشرطين الفرق بين ما يوجد منهم مع كفرهم, وبين ما يوجد من المسلمين من الزكاة, فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له, فيقترن بالجزية الذل والذم, ومتى أخذت على هذا الوجه, كان أقرب إلى ألا يثبتوا على الكفر لما يتداخلهم من الأنفة والعار, وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر فهو أصلح في الحكمة, وأولى بوضع الشرع.
وعلى هذا, إذا قال القائل: كيف يجوز العدول عن استئصال الكفار وتطهير الأرض منهم إلى تعزيزهم في ديارنا ونصرتهم بأنفسنا وأموالنا مع عظيم كفرهم, ومع قوله تعالى: {تَكَادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ}, ثم يعصم ماله بقدر يسير, وهل هذا إلاّ كالرضا بكفرهم, وتمهيد أسبابه لهم.
فيقال في إبطال ذلك: إن قتل الكافر مؤيس من التوبة, وإذا ترك بشريطة الجزية فيلحقه من الذل ما يضجره ويحمله على الإسلام, هذا مع نفع يعود إلى المسلمين, ومع مخالطة الكافر للمسلمين الداعية له إلى تدبر أدلة الإسلام, وهذا المعنى لا فرق فيه بين طائفة وطائفة, إلا أنه يمكن أن يقال:
إن قتل من لا كتاب له أقرب إلى تعظيم أمر الدين, ولأن أهل الكتاب أقرب إلى تدبر معاني الكتاب لتقارب ما بين الأديان وتشاهدها على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم, فيجوز أن يكون الإصحاب بالجزية أقرب إلى إيمان أهل الكتاب منه إلى غير أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {تَكَادُ السّمواتُ يَتَفَطّرْنَ مِنهُ}, تعظيم فيما يتعلق بالآخرة, ورجوع وبال كفره عليه في الميعاد, ومع هذا فيمهل الشرع أسباباً هي داعية إلى صلاح حاله في ماله.(3/55)
وليس لقائل أن يقول: وإذا كان ذلك كذلك, فلم يرزقون ويحسن إليهم.
لأن نعمة الله تعالى لا تنافي استعظامه للكفر, فكذلك إقرارهم على المقام في بلادنا بأخذ الجزية لا تنافي استعظام كفره.
وإذا تقرر ذلك أمكن أن يقال:
الجزية عقوبة ليحصل بها زجره عن كفره.
والعقوبة منقسمة إلى ما يكون زجراً لمصلحة المعاقب, وإلى ما يكون جزاء.
فأما الجزاء فلم يشرع لمصلحة المعاقب, فعلى هذا لا نقول: يجب على الكفار الجزية متى اقتضت عصمة, فكأنها دفع القتل عنه ليتدبر قبح القبح فيسلم, فجرى مجرى العبادات, وما يجب فعله لا يعد من العقوبات.
فإن قيل: إنما يجب عليهم ما يحسن لا ما يقبح ويحرم, فكيف يحسن منه دفع الجزية, ومن الإمام أخذها, وإذا أخذناها منه على طريق عصمة دمه, فقد رضينا بمقامه على كفره, وهم متى أرادوا دفع الجزية فقد أرادوا مقامهم على الكفر, وذلك يوجب قبح الدفع والأخذ, ولو كانوا بالجزية حاقنين دماءهم كما بالإسلام, كانوا مخيرين بينهما, فلا يمكن أن يقال: إن الجزية واجبة تحقيقاً, ولكن يقال إن الجزية إضجار ومعاقبة ليرجع عن كفره؟
ويجاب عن هذا بأن يقال:
بأن الذي في الكافر من كفره, يقتضي إباحة دمه، لكن حرمة الكتاب تقتضي استبقاءه لما في استبقائه من توقع إسلامه, ولولا ذلك لكان القتل أولى به, وإذا كان كذلك فقد دفع الكافر إلى القتل, أو دفع الجزية, وفي دفعها إزالة القتل, فواجب عليه أن يفعل ذلك لإزالة الضرر العظيم.
فإن قيل: إن القتل امتنع ببذل الجزية لما في أخذ الجزية من توقع إسلامه, والمقصود ذلك, فيلزم على مساقه أن يكون ذلك محتوماً, ويجب علينا أخذ الجزية منه, ويمتنع قتله.
والجواب: أن الكافر إذا لم يعرف حُسنَ الإسلام, فقد دفعه الشرع إلى أحد أمرين.(3/56)
إما القتل, وإما الجزية, وهو يعلم أن الجزية أهون عليه من القتل, وفي الجزية حقن الدم, فيحسن بقضية العقل والشرائع كلها دفع الجزية, تحقيقاً لمقصود دفع شر القتل, ووجب بحكم شرعنا الجزية عليه, لما فيه من حسن توقع إسلامه, ودفع قتل يعجله إلى النار, ففي ذلك مصلحة للكافر بحكم دينه الذي هو عليه عند جهله بحسن الإسلام, وبحكم ديننا الذي به عرفنا حسن الإسلام, وتوقعه منه ببذل الجزية, إلا أنه إذا امتنع فلا يمكن تقريره في ديارنا على كره منه, لما فيه من غائلة هربه وترصده لأذية المسلمين, فوجب قتله لدفع الضرر, أما إذا توطن وتأهل وطلب منا الذمة اندفعت غائلته, فحسن بذل الجزية لهذا المعنى.
ومعلوم أن من أكره على دفع ماله بالقتل, وجب عليه دفع ماله لدفع شر القتل عن نفسه, فعلى هذا يجب على الذمي بذل الجزية لدفع شر القتل عن نفسه, ويحسن من المسلمين أخذها منهم, لما يتوقع في ذلك من إسلامه, وقد قيل: يحسن أخذ الجزية في مقابلة مساكنتهم لنا وذبنا عنهم.
فالكافر ليس يبذل على هذا القصد, ولكن يبذلها لدفع القتل, ووجه الوجوب عليه هذا.
فأما المسلم, فإنما يأخذها لحق المساكنة, ولأجل ذبنا عنهم, فقيل لهم: فإذا وجبت الجزية عليهم لهذا المعنى, فلا بد أن يكون الحقن مقصوداً, وإنما يكون الحقن مقصوداً, وتقريرهم في ديارنا مقصوداً معنياً, إذا كان البقاء على الكفر مراداً, فإن من ضرورة تقرير الكافر في ديارنا والتزام الذب عنه, الرضا بفعله, وارادة الكفر منه, فلا بد أن تكون الجزية عقوبة وزجراً عن الكفر, حتى تكون إرادة الزاجر كراهة المزجور عنه.
فأما إذا كانت الجزية عرضاً عن المساكنة أو عن الذب, كان الذب مقصوداً, ووجوب تعظيمه وصيانته والذب عنه, يقتضي إرادة الكفر لا محالة.(3/57)
وإن جعلت الجزية لدفع القتل, فدفع القتل واجب, كما أن الإسلام وجب لدفع العقاب, ودفع العقاب واجب, فإذا يجب أن يكون مخيراً بين الإسلام الذي يدفع به العقاب, وبين الجزية التي يدفع بها القتل, فعلى هذا يمكن أن يكون اختيار من اختار, كون الجزية في مقابلة الذب والساكنة ضعيفاً, وإنما المعتمد كون الجزية دافعة للقتل في حق الكافر, ونحن نأخذها لمنفعة المسلمين, وغرضنا منها توقع إسلامه, وفيه مصلحة له من هذه الجهة في دفع القتل عنه, ومنفعة للمسلمين من هذه الجهة لا يبعد وجوبها.
وعلى أنه يقال: متى قلنا إن الجزية تقتضي العصمة كالإسلام, فإنما نقول ذلك في أحكام الدنيا, وفي أحكام الدنيا كلمة الشهادتين مثل الجزية.
ونحن نقول: يجب على الكافر كلمة الشهادتين, ولا تنفعه الشهادة في إزالة العقاب, وإنما ينتفع بالتوبة والإيمان والمعرفة, وكذلك لا يحقن الدم, ويتبين كيف يحسن دفع الجزية وأخذها وكيف يقبح.
وأما مقدار الجزية, فليس في كتاب الله تعالى, وهو مأخوذ من السنة, ويجوز أن يكون للاجتهاد مدخل فيه على ما بيناه في الفقه.
والذي يدل عليه القرآن, أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين, فإنه تعالى قال:
{قَاتِلُوا...حَتّى}.
فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل, ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلاً لأنه لا مال له, وقد قال تعالى: {حَتّى يُعطُوا الجِزْيَةَ}, ولا يقال لمن لا يملك: حتى تعطي, والظاهر يقتضي أنه المفتدي بماله, وأن ذلك كالعقوبة, فلا تجب على السيد بسبب عبده.
واختلف العلماء فيمن دان من المشركين بدين أهل الكتاب بعد المنهب, وظاهر القرآن يقتضي القبول لأنهم من أهل الكتاب.
وكما ليس في القرآن بيان مقدار الجزية المؤداة, فليس فيه بيان مدة أداء الجزية, وتكررها بتكرر الحول, وإنما فيه بيان أن الجزية ينتهي بها وجوب المقاتلة, والظاهر يقتضي وجوبها مرة واحدة.(3/58)
وأبو حنيفة لا يرى تعدد وجوبها بتكرر الحول, بل يقول: إنهم يقاتلون إلى أن يؤدوا الجزية, إلا أنها تؤخذ منهم عند انفصال السنة, ولا ذكر لذلك في القرآن.
ويدل قوله: {حَتّى يُعطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُم صَاغِرُون}.
على أن بالإسلام يزول هذا المعنى, فلا جرم لا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون.
والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى, وإنما يقول: الجزية دين, وجب عليه بسبب سابق, وهو السكنى أو لدفع شر القتل, فصار كالديون كلها، فإذا ثبت للشافعي أنها دين, فإنها لا تسقط, وإذا كان وجوب الدية على نحو وجوب الديون, وفيها غرض, وهو دفع القتل, فهي طاعة مأمور بها, والذمي قد أطاع الله تعالى بدفعها, إلا أن ثواب طاعته محبط, كثواب الطاعات كلها, فهذا تمام ما أردنا بيانه.
وأبو حنيفة لا يرى الجزية واجبة على الذمي طاعة, بل يقول يقام عليه إضجاراً له واتعاباً, وذلك لا يكون طاعة في حقه, وإنما هي طاعة في حقنا, فأما في حق الدافع فلا, فهم إذا امتنعوا من الجزية وجب قتالهم, وإذا بذلوا الجزية امتنع قتالهم, إلا أن الجزية عندهم عقوبة زاجرة عن الكفر, بالإضافة إلى الذمي والذي يخالط المسلمين, فتوقع الإسلام منه يزيد على توقعه ممن لا يخالطونا, فهذا تمام هذا المعنى على المذاهب كلها.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
2)…الجهاد
قوله تعالى: {والّذِينَ يَكنِزُونَ الذّّهَبَ والفِضَّةَ}, الآية: [34].(3/59)
ذكر الأصم: أنه راجع إلى أهل الكتاب، لأنه مذكور بعد قوله:
{إنَّ كَثِيراً مِنَ الأحبَارِ والرُّهبَان لَيَأْكُلُونَ أَموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ}.
وغيره حمل ذلك على كل كافر، وذلك مدلول اللفظ، ومعطوف على المتقدم باللفظ العام, لأنه وصف لما تقدم، ولأنه مستقل، وإن لم يتعلق بما تقدم.
وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن قائلاً قال له وهو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟
فقال: كنا بالشام فقرأت هذه الآية، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب لا فينا.
فقلت: لا, بل فينا وفيهم.
وكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا ويقول كذا، فكتب إليّ عثمان بالإقبال إليه، فأقبلت، فلما قدمت المدينة، كثُرَ علي الناس حتى كأنهم لم يروني فآذوني، فشكوت إلى عثمان فقال: تنح قريباً، فتنحيت إلى منزلي هذا.
وأكثر العلماء على أن الوعيد على الكنز على من يمنع حق الله تعالى فيه، فما لم يؤد حق الله تعالى منه، فهو كنز كان على وجه الأرض أو تحته.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء يوم القيامة فيحمى ويكوى به جنبه وجبينه".
وقال: "من له مال فأدى زكاته فقد سلم".
ولا خلاف في جواز دفن المال المركى أو غير المزكى إذا أدى زكاته من موضع آخر.
وقد روي عن بعض السلف, أن المراد بالآية العدول عن الاكثار وجمع المال، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يجيء كنز أحدكم شجاع أقرع فإذا رأى صاحبه هرب منه فيطلبه فيقول: أنا كنزك".(3/60)
وعلى الجملة، المعقول من الآية تعليق الوعيد على من كنز ولم ينفق في سبيل الله، ولم يتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله، فلا بد أن يكون كذلك، فلا أثر لصفة الكنز، وليس في الآية بيان الواجب من غيره، ولكن من المعقول أن صورة الكنز كما لا تعتبر، فالامتناع من أداء ما ليس بواجب لا يعتبر أيضاً، وإذا لم يعتبر هذا ولا ذاك جملة، فليس إلا أن المراد منع الواجب من الزكاة وغيره، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع انفاقه في الواجبات عرفاً، فلذلك خص الوعيد به.
وإذا كان المقصود من ذكر الكنز أن صاحبه يمسكه ولا ينفق منه في سبيل الله تعالى، فظن قوم أن من صاغ الدراهم حلياً ولا يزكي منه فهو كانز.
وهذا استدلال بطريق المعنى، وإلا فاللفظ من حيث الظاهر لا يدل عليه أصلاً.
ويحتمل أيضاً من وجه آخر، وهو أن هذه الآية إنما نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصور يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون والحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال زائد على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت، وإلا فقد ثبت بالنقل المستفيض عن النبي عليه الصلاة والسلام ايجابه في مائتي درهم، خمسة دراهم، وفي عشرين دينار، نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان في الصحابة ذوو ثروة ونعمة وأموال جمة، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف.
أو يحتمل أن قوله: ولا ينفقونها، أي لا ينفقون منها تحذف من، وبينه في مواضع أخر من قوله تعالى: {خُذْ أَمَوالِهِم صَدَقَةً}.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {والّذِينَ يَكنِزُونَ الذهَبَ والفضَّةَ}، فكبر ذلك على المسلمين، فقال عمر:
أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية.
فقال عليه الصلاة والسلام:(3/61)
"إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم", فكبر عمر.
فأبان بهذا الحديث أن المراد به انفاق بعض المال لا جميعه، وأن قوله {الّذِينَ يَكنِزُونَ} المراد به منع الزكاة.
وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلاّ جيء به يوم القيامة وبكنزه فيكوى به جنبه وجبينه حتى يحكم الله تعالى بين عباده".
فأخبر في هذا الحديث، أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيرهما، إلى قوله تعالى: {فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُم}.
يعني أنه لم يؤدوا زكاته.
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي لا يؤدي زكاته يمثل له ماله يوم القيامة شجاع أقرع له ذبيبتان تلزمه أو يطوقه, فيقول أنا كنزك أنا كنزك", فأخبر أن المال الذي لا يزكى هو الكنز, فبان به أن الكنز اسم لما لا يؤدى زكاته في عرف الشرع, والوعيد انصرف إليه, فاعلمه.
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:36]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأحكام المتعلقة بالأشهر
قوله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشهُورِ عِندَ اللهِ اثنَا عَشَرَ شَهراً في كِتَابِ اللهِ}. الآية: [36].(3/62)
وظاهر ذلك يدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور والسنين، من عبادات وغيرها، بالأشهر العربية دون الشهور التي يعتبرها العجم والروم، وإن شهور الروم وإن لم تزد على اثني عشر، ولكنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص. وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، والذي ينقص لا يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب سير القمر في البروج, ثم قال تعالى: {مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
ولا خلاف أن هذه الأربعة الحرم لها ضرب من الاختصاص، وأنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وإذا خصها الله تعالى بأنها حرم، فلا بد أن يكون لهذا الاختصاص معنى، وليس يظهر ذلك المعنى في حكم سوى المقابلة، وقد نسخ ذلك, أو تحريم القتل، حتى إن الدية تتغلط بالأشهر الحرم، فهذا وجه التخصيص.
قوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم}، على قول ابن عباس هو راجع إلى الجميع، على قول بعضهم هو راجع إلى الأشهر الحرم خاصة، ومن يخصص بالأربعة يقول لأنها إليها أقرب ولها مزية تعظيم الظلم.
قوله تعالى: {يَوْمَ خَلَقَ السّمَواتِ والأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
فيه دليل على أن الله تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها، على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل الله ذلك على أنبيائه في الكتب المنزلة، وهو معنى قوله تعالى.
{إنَّ عدَّةَ الشهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَّ شَهْراً}.
وحكمها باق على ما كانت عليه، ثم نزلها عن مرتبتها تغير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر، وتأخير المقدم، في الإسم فيها، والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى فيها، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة:(3/63)
"أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
وإن الذي تجعله الجاهلية، من جعل المحرم صفراً وصفر محرماً، ليس يتغيرن ما وضعه الله تعالى.
والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهراً، ليس على ما توهموه، لأن الله تعالى لم يضع غير اثني عشر شهراً، فهذا وجه.
ويحتمل أن يكون قوله في كتاب الله، أن الله تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسماً، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر، قسماً منها، فيكون قطعها للفلك في ثلث مائة وخمس وستين يوماً وربع يوم، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام الثلاثين يوماً وكسر، وقسم الأزمنة أيضاً على سير القمر، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة، وعشرين يوماً ونصف، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وربع يوم، واختلفت سنة الشمس والقمر، مع اتفاق أعداد شهورها، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوماً بالتقريب، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوماً حكم، وكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفاً وخريفاً وربيعاً، فاقتضاهم ذلك أوضاعاً مختلفة، فوضعت الروم اثني عشر شهراً، بعضها ثمانية وعشرون، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف، وبعضها أحد وثلاثون، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهراً واحداً، وهو أبا زماه، فإنه خمسة وثلاثون، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهراً كاملاً، فتصير السنة ثلاثة عشر شهراً، فأما أشهر العرب، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون، وأبطل الله تعالى كبسه الفرس، وجعلها ثلاثة عشر شهراً في بعض السنة، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام، وصارت الشهور التي لها أسامي لا تؤدي الأسماء معانيها، لأنها تارة تكون في الصيف،(3/64)
وتارة تكون في الشتاء، وأراد الله تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف وتارة في الشتاء، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة، وفي التغليظ أخرى، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف.
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [التوبة:37]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…معنى النّسىءِ
قوله تعالى: {إنّمَا النّسيءُ زِيَادَةٌ في الكُفْرِ}, الآية: [37].
هو متعلق بما تقدم، وهو أن العرب كانت تجعل المحرم صفر وصفر المحرم في بعض السنين، على ما كانت تقضيه الكبسة التي كانت لهم, وأول من وضع ذلك من العرب ملك لهم يقال له القَلَمّس، واسمه حذيفة, وهو أول من أنسأ النسيء، أنسأ المحرم، فكان يحله عاماً ويحرمه عاماً، فكان إذا حرمه كان ثلاثاً حرماً متواليات، وهي التي يقال ثلاثة سرد، وهي العدة التي حرم الله تعالى في عهد ابراهيم، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطيء العدة، يقول قد أكملت الأربعة كما كانت، لأني لم أحل شهراً إلا وقد حرمت مكانه شهراً، لكنه ليس مسروراً, فحج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عاد المحرم إلى ما كان في الأصل، فأنزل الله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ}، فأخبر الله تعالى أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر، وأن الأشهر الحرم الثلاثة لا بد أن تكون متوالية، وأن صفر لا يقام مقامها، فهذا معنى هذه الآية.(3/65)
وقال قائلون في معنى هذه الآية إن روماً من بني كنانة وغيرها، كانوا يؤخرون الحج عن وقته في كل سنة شهراً، فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة، وفي السنة الثانية في صفر، فبين الله تعالى أن هذا الصنيع كفر.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {إلاَّ تَنْصُرُوه فَقَدْ نَصَرهُ اللهُ إذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُوا}, الآية: [40].
يستدل به على إضافة الفعل إلى غير فاعله، إذا كان منه تسبب، فإنه تعالى قال: {إذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُوا}، وما أخرجوه حقيقة بل أخافوه حتى اضطر إلى أن يخرج، وكان الصديق معه، فتارة كان يمشي بين يديه، وتارة يمشي خلفه، وقال يا رسول الله: إذا ذكرت الرصد مشيت بين يديك، وإذا ذكرت الطلب مشيت خلفك.
وظن جهال الإمامية أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: "لا تحزن"، يدل على جهل منه ونقيصة، وذلك يوجب مثله في قوله تعالى لموسى:
{فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ}.
وقوله في قصة إبراهيم:
{فَلَمّا رَأَى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِل إلَيْهِ نَكِرَهُم وَأَوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ}.(3/66)
فإذا لم يكن ذلك طعناً عليهم ووصفاً لهم بالنقص، فكذلك في أبي بكر، وليس حزنه من جهة الشدة والحيرة، بل لتجويزه وصول الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه، وما كان الخبر أتاه بأن الرسول كان معصوماً من القوم محروساً منهم، حتى قال له الرسول لا تحزن، فسكن إلى ذلك.
وقوله تعالى: {واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ}، نزل بعد الهجرة بسنين، فلا يوجب كون أبي بكر عالماً بعصمته، ولو علم أنه يسلم منهم بنفسه لم يأمن مضرةً بجراحة أو غيرها، وفي ذلك جواز الحزن والخوف عليه.
{ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [التوبة:41]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافَاً وثِقَالاً}, الآية: [41].
وقوله تعالى: {مَا لَكُم إذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا في سَبِيلِ اللهِ إثّاقَلتُم إلَى الأَرْضِ}, الآية: [38].
اختلفوا في عمومه، فمنهم من قال: إنه أراد به كل المؤمنين.
وعند أبي علي الجبائي الآية مخصوصة.
واختلف العلماء في وجوب هذا التغير:
فمنهم من قال: المراد به وجوب النفور إلى الرسول إذا دعا إلى الجهاد وأمر به، وهو الأصح.
ومنهم من قال: إن المراد به عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.(3/67)
وظاهرالآية يدل على أن ذلك على وجه الإستدعاء، فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين، فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، وإذا ثبت ذلك، فالاستدعاء والإستبقاء يبعد أن يكون موجباً شيئاً لم يجب من قبل، إلا أن الإمام إذا عين قوماً وندبهم إلى الجهاد، لم يكن لهم أن يتثاقلوا عنه، وله ولاية التعيين، ويصير بعينه فرضاً على من عينه لا لمكان الجهاد، ولكن طاعة الامام واجبة، وإذا لم يكن كذلك وكان من أهل الثغور كفاية، فالذي قاله أصحابنا أنه يجب على الامام أن يفرق في الجهات الأربعة قوماً في كل سنة، يظهر لهم النكاية في العدو، ويمنعهم ذلك من انتهاز فرصة الإحتشاد والاستعداد، وإذا حصلت الكفاية لقوم، سقط عن الباقين، فليس الجهاد على هذا الرأي فرضاً على كل واحد، وإنما هو فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:60]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {إنّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ والمَسَاكِين}, الآية: [60].
ظاهر الآية أن المسكين غير الفقير.
وقال قوم: هما واحد، إلا أنه ذكرهما باسمين لتأكيد الأمر فيه، وليس ذلك بصحيح.
وإذا ثبت دلك، فللشافعي وأبي حنيفة اختلاف في اللفظ في أيهما أعظم حاجة وأشد خصاصة، وليس يتعلق به كبير فائدة شرعية، وليس ببين أن يجعل المسكين صنفاً والفقير صنفاً، فيقال: يعطي الصنفان وهما فقيران إلا أن أحد الصنفين أشد فقراً من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما واحداً.(3/68)
ومطلق لفظ الفقر لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين، وترد في فقرائهم.
والذي يمكن أن يفهم من الآية، ومن السنة، أن الله تعالى أطلق الصدقات، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أصناف الصدقات، وما تجب فيه الزكاة، وما لا تجب، والذي لا تجب قد تجب فيه إذا اتجر.
وقد حكي عن زين العابدين أنه قال: إنه تعالى علم قدر ما يرتفع من الزكاة، وأنه بما تقع به الكفاية لهذه الأصناف فأوجبه لهم، وجعله حقاً لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم.
ولذلك قال قوم من العلماء: إن الزكاة تصير شركة للفقراء، وهو قول الشافعي.
وظاهر الآية يقتضي ذلك، لأن قوله: إنما الصدقات للفقراء كالتمليك وإنما لم يجعل تمليكاً حقيقة من حيث جعل لوصف لا لعين، وكل حق جعل لموصوف، فإنه لا يمكله إلا بالتسليم، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات، حتى لا يحرم صنف منهم.
واختلف العلماء في استيعاب هذه الأصناف: فمنهم من قال الفرض به بيان المصارف حتى لا يخرج عنهم، ثم الاختيار إلى من يقسم، وهو قول عمر وابن عباس وحذيفة وخلق من التابعين، كالحسن وابراهيم وغيرهما، حتى ادعى مالك الاجماع في ذلك.
وقال الشافعي وبعض أهل الظاهر: يتعين استيعاب الجميع إلا إذا عدم بعضهم، فيصرف نصيبه إلى الباقين.
فمن هذا الوجه، فارق إضافة الأموال إلى مستحقيها، وفارق الوصية إلى أقوام، فإنه إذا تعذر الوصول إلى بعض من أوصى له لا يصرف نصيبه إلى الباقين.
ورأى الشافعي أن استيعاب جهات الحاجات، يجوز أن يكون أعظم في القربة، ولا يجوز رفع المزية بلا دليل مع موافقة الظاهر له، وإذا تعذر البعض، فالأقرب إلى القربة الصرف إلى الباقين.(3/69)
فعلى هذا لا نقول: إن الصرف على الأصناف على نحو صرف الوصاية إلى الأصناف والأشخاص، وأن الإضافة إليهم بلام التمليك، ولكنا ندعي أن استيعاب جهات الحاجات في القربة أو في الصرف إلى واحد.
وإذا ثبت زيادة القربة في المنصوص عليه لم يجز الغاؤه، وهذا بين.
وقد شنع علي بن موسى القمي على الشافعي بأن قال:
إذا كان قدر الواجب نصف دينار، وكان هو القاسم لذلك، ووجد السهمان كيف يفرق ذلك فيهم، ولا يسد مسداً، فإنه ينقسم نصف دينار على ثمانية أصناف، ويصرف من كل صنف إلى ثلاثة، فيحتاج أن يقسمه على أربعة وعشرين سهماً، وأحد السهام المكاتبون، والمقصود إزالة الرق، وأي أثر لهذا القدر في إزالة الرق.
والذي ذكره جهالة تلزم عليه، إذا أوصى الموصي بها للأصناف.
ولأنه ليس الأمر مقصوراً عليه وحده، بل إذا كان بينه وبين غيره حصل الاستيعاب، حصل مقصود الأصناف منه ومن غيره، فلا معنى لهذا التشنيع.
ولا خلاف أن لا يجوز صرف الجميع إلى العاملين عليها، فإنه إنما يأخذ أجرته، فلو وضع فيه تناقض، فإنه يسعى للفقير، فكيف يأخذ الكل إلى نفسه، فهذا آخر فصول هذه الآية.
الفصل الآخر في الفقراء والمساكين، وقد ذكرهما الله تعالى باسمين، فقال بعضهم:
ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في هذه الصدقات بأشد من تأكيد غيرهم. ومنهم من قال: ذكرهما باسمين لكونهما صنفين، وهذا ما قدمناه.
ثم اختلفوا في معنى الفقير:
فمنهم من قال إنه المتعفف الساتر فقره عن الناس، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله:
{لِلفُقَراءِ الّّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ} ... إلى قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التّعَففِ}.
والمسكين الذي يسأل إذا احتاج، ويمسك إذا استغنى، ويتخاضع للمسألة، وذلك هو اختيار الأصم.
ومنهم من قال: الفقير هو الضعيف الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، ورووه عن ابن عباس، وهو قريب مما قدمناه.(3/70)
وقد قيل: الفقير هو الزمِن الذي لا يقدر على التكسب, والمسكين الصحيح.
وقد قيل: الفقير أشد حاجة, فإنه مأخوذ من كسر فقار الظهر, والمسكين دونه في الحاجة.
وقد وصف الله تعالى ملاك السفينة, بأنهم مساكين يعملون في البحر وأنه مأخوذ من السكون.
وبالجملة: الفقر في ظاهره أدل على الحاجة من المسكنة, لأن المسكين إنما يدل على حاله على الحاجة من حيث المعنى, وهو التخاضع الذي هو دليل الحاجة لا من حيث اللفظ, والفقر عبارة عن الحاجة.
ومن جعلهما صنفاً واحداً, قال لا فقير إلا ويحسن أن يسمى مسكيناً.
وللفقراء مراتب لا تنحصر في مرتين أو ثلاثة أو أربعة, والذي يعددها ينظر إلى العطف ومعناه, وذلك يقتضي الفرق بينهما, فيقال:
الفقير هو الشديد الحاجة مع التعفف, والمسكين هو المظهر لحاجته بالمسألة.
ولعل من جعل الفقير هو الزمِن, فلأن الزمانة تقعد عن الطلب, ومن جعل المسكين الصحيح فلتمكينه من الطلب.
واعلم أن مطلق الفقير ليس فيه شرط وتقييد, بل فيه دلالة جواز الصرف إلى ذوي القربى من بني هاشم وغيرهم, ولكن السنة وردت باعتبار شروط, منها أن يكون من بني هاشم, وروي عن أبي يوسف جواز صرف صدقة الهاشمي إلى الهاشمي.
ومن شرائطه ألا يكون كسوباً مقدار كفايته, فإنه عليه الصلاة والسلام قال:
"لا تحل الصدقة لغني, ولا لذي مرة سوي".
والظاهر يقتضي جواز ذلك, لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه, وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ومن شرائطه: أن يكون ممن لا تلزم المتصدق نفقته, ولكن هذا الوجه يحرم الزكاة للفقر لا للغرم أو غيره من الصفات.
واختلفوا فيما به يخرج عن كونه فقيراً, فقال قوم: بألا يملك نصاباً.
وقال قوم: إنه لا يتحدد ذلك, ويختلف باختلاف أحوال الناس, فمنهم من يكثر وجوه حرجه, فيعد فقيراً مع ملك نصب كثيرة, وربما احتاج في يوم إلى نصاب, فهذا يعد فقيراً, وهو أقرب إلى الظاهر, وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
واختلفوا في أنه هل يدفع له مقدار أم لا؟(3/71)
فقال بعضهم: لا يجوز أن يدفع اليه أكثر مما يصير به غنياً.
وقال آخرون: يجوز, وهو الأليق بالظاهر, فإنه تعالى جوز وضع الصدقة في الفقير ولم يفصل.
واختلفوا في هل استحقاق الصدقات كلها بالفقير والحاجة فقط, أو بذلك مع غيره.
فمنهم من قال بالوجه الأول, وزعم أن الله تعالى إنما ذكر الأصناف لاختلاف معنى الحاجة فيهم, فأكد ذلك وبينه, وإلا فالوجه الذي لأجله يجوز وضع الصدقة فيهم واحد, على ما قاله عليه الصلاة والسلام, وردها في فقرائهم.
فبين أن الاستحقاق بهذا الوجه الواحد.
وأما العاملون, فإنهم يأخذون من جهة الفقراء لا من جهة رب المال، إلا أنه لا يدفع إليهم إلا أُجرة سعيهم, فهم كالوكلاء للفقراء, ومنهم يأخذون هذا السهم. وكذلك الجواب عن المؤلفة, حيث كانت, لأنهم مع الغنى كانوا يأخذون لإعزاز الدين.
ومن قال بالقول الثاني قال: إن الغارم قد يأخذ مع الغنى, وكذلك ابن السبيل, وكذلك الغازي.
والأقرب إلى الظاهر هذا القول, فإن الله تعالى ذكر هذه الأصناف, فإن أراد المريد بالحاجة أنه لا بُد منها في جميعهم على بعض الوجوه فصحيح, فإن العامل وإن كان غنياً, ففي صرف أجرته إليه تقوية لأمر الصدقات, فالحاجة إليهم ماسة, وفي الصرف إلى المؤلفة قلوبهم تقوية الإسلام, فالحاجة واقعة, وكذلك الغارم بالديات, تمس الحاجة إليه لتسكين الفايزه, وتطفية الفتنة.
وقد استدل قوم في نصرة قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة, على أن ذكر العامل يدل على وجوب دفع الزكاة إليهم, وأنه لا يجوز أن يفرق بنفسه, وهذا فيه نظر, لأن ذكرهم يتضمّنُ أنهم إذا كانوا أعطوا نصيبهم, فأما إذا لم يكونوا فلا, وليس في الظاهر أنه لا بد منهم, كما أنه ليس في الظاهر أنه لا بد من رقاب وغارم ومؤلفة.
فأما المؤلفة, فقد قيل كان ذلك وزال.(3/72)
وقد قيل: للإمام أن يتألف قوماً إذا رأى في تأليفهم صلاحاً للمسلمين, لما فيه من دفع ضررهم أو الضرر بمكانهم, فله أن يدفع إليهم سهم المؤلفة قلوبهم, فإن الله تعالى لم يخص وقتاً دون وقت.
وأما الرقاب, فقد اختلف فيه.
فقال قائلون أراد به العتق, وهو قول ابن عباس, وكان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل من زكاته في عتق رقبة, وهو قول الحسن.
وقال الأكثرون: المراد به المكاتبون, وهو قول إبراهيم وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم, وعلل سعيد بن جبير وقال: لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء.
وذكر علي بن موسى القمي أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد, واختلفوا في عتق الرقاب, وذكر هو وجوهاً بينة في منع ذلك.
منها: أن العتق إبطال ملك وليس بتمليك, وما يدفعه إلى المكاتب تمليك, ومن حق الصدقة ألا تجري إلا إذا جرى فيها التمليك, وقوى ذلك بأنه لو دفع الزكاة عن الغارم في دينه من غير إذنه, لم يجزه من حيث إنه لم يملك, فلأن لا يجزى ذلك في العتق أولى.
وذكر أن في العتق جرّ الولاء إلى نفسه, وذلك لا يحصل في دفعه إلى المكاتب.
وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملك, وإن دفعه إلى السيد فقد ملكه الغنى, وإن دفعه بعد الشراء والعتق, فهو قاضٍ ديناً, وذلك وذلك لا يجوز في الزكاة.
وأما حق الغارمين, فقد قيل هو المستدين من غير سرف ولا وفاء في ماله بدينه, وروى قريب من ذلك عن ابن عمر وعائشة, وروى علي بن موسى القمي بإسناده عن الحسن بن علي أنه قال:
أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة:
لذي فقر مدقع, ولذي غرم مفظع, ولذي دم موجع, وعلى هذا إذا تحمل مما له فيها مصلحة للمسلمين.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم في حديث قبيصة بن مخارق أنه قال:
تحملت حمالة فأتيته صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: "يُؤديها عنك إذا جاءت نعم الصدقة", ثم قال: "أما علمت أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة:
رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش.(3/73)
ورجل أصابته فاقه وحاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجر من قومه, فخلت له المسألة, حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش ثم يمسك".
فدل قوله من تحمل حمالة, أن المسألة تحل له حتى يؤدي ثم يمسك, على أنه غني, لأنه لو كان فقيراً لم يلزمه أن يمسك, بل كان يحل له أن يسأل لفقره.
وظاهر الغارم يتناول الغارمين كلهم.
وقوله: وفي سبيل الله: قد قيل, إن المراد به الغازي وإن كان غنياً.
وقيل: هذا يختص بالفقير.
ومنهم من يقول: إن كان مستغنياً بالفيء ولم يعط, وإلا أعطى.
والظاهر أنه الغازي, وأنه لا فرق بين أن يكون محتاجاً أو معه من الفيء ما يحرم أخذ الصدقة, لأنه يحتاج لعدة جهاده وتقوية قلبه, إلى ما لا يحتاج إليه غيره, فصرف إليه جائز والحالة هذه.
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله".
وهذا موافق للظاهر.
وفي رواية: لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل.
وابن السبيل يأخذ الزكاة مع غناه, وقد قيل: هو مختص بمن يوجد مسافراً.
وقد قيل: يلحق به من يهم بسفر لا يضره تركه.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلتَهُم لَيقُولُنَّ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}, الآية: [65]:
فيه دلالة على أن اللاعب والخائض سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً, فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك.
ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر.
قوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفّارَ والمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيهِم}.
روى ابن مسعود أنه قال:
"جاهدهم بيدك, فإن لم تستطع فبلسانك, فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم".
وقال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف, والمنافقين باللسان.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )(3/74)
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [التوبة:74]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التوبة
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ}, الآية: [74]:
والذي قالوه من كلمة الكفر قول الخلامس بن سويد بن الصامت: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير.
وقول عبدالله بن أبي في قوله تعالى: {لَئِنْ رَجَعْنَا إلىَ المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَ}، وفيما قص الله تعالى علينا من نبأ المنافقين مع استيعابهم، دليل على أن توبة الزنديق مقبولة إذا لم يظهر الكفر.
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } [التوبة:75]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لنصَّدَّقْنَّ}, الآية: [75].
ذكر ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجالس الأنصار، إن سلم ذلك لأتصدق منه، ولأصلن منه، فلما سلم بخل بذلك، وهذا نذر التبرر المتفق عليه.
وقيل نزل ذلك في شأن المنافقين الذين عاهدوا ثم أخلفوا.
واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا، فعلي كذا لله تعالى، أنه يلزمه.(3/75)
وظاهر الآية لا يدل عليه، لأنه ليس بنذر، ولا قصد فعله، ولا إنه مما يقال فيه: لئن أتانا من فضله.
وقد استدل به على أن من قال إن آتاني الله مالاً تصدقت به وفعلت وصنعت.
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [التوبة:77]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النفاق
قوله تعالى: {فَأعْقَبَهُم نِفَاقاً في قُلُوبِهِمْ}:
يحتمل أن يكون ذلك من الله تعالى، ويحتمل أن يكون بعض المعاصي داعياً إلى البعض، فكأن البخل أعقب النفاق.
وأبان به أن بعض الأفعال قد تكون لطفاً في بعض، وبعضها فساداً في بعض.
وقد يدل ذلك على أن الذي عاهد لم يكن منافقاً من قبل.
فأعقبهم نفاقاً، ثبتوا عليه إلى الممات، وهو معنى قوله إلى يوم يلقونه.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة:80]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النفاق
قوله تعالى: {اسْتَغَفِر لَهُم أَوْلاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُم}, الآية: [80].
كلمة "أو" ها هنا ليست للتخيير، لأن التخيير، لا يصح مع قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ}.
وذكر السبعين كالمبالغة، مثل قول القائل: لو سألتني مائة مرة ما أجبتك، ولا يكون المراد به التحديد، وذلك معلوم من الفحوى.
ويدل عليه، أنه علل بأنهم كفروا بالله، والعلة قائمة بعد السبعين، فظهر أن ذلك ليس بتخيير، بل هو منع من الاستغفار.
وروي في بعض الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الآية: خيرني ربي، والصحيح الأول.(3/76)
{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة:84]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النفاق
قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً}, الآية: [84].
وكان قد صلى على عبد الله بن أبي، بناء على الظاهر من لفظ إسلامه، وأما لأنه لم يعرف نفاقهم، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.
{ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:91]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصّيال
قوله تعالى: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} الآية: [91].
يحتج به في إسقاط الضمان عن قاتل البهيمة الصائلة.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:100]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السّبق إلى الخيرات
قوله تعالى: {السّابِقُونَ الأَوَّلُونَ}, الآية: [100].
يدل على تفضل السابق إلى الخير على التالي، لأنه داع إليه بسبقه، والتالي تابع له، فهو إمام له وله أجر مثله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"من سن سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنة سيئةً", الحديث.(3/77)
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة:103]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِم صَدَقَةً}, الآية: [103]:
الأكثرون من المفسرين، على أن المراد بالآية الصدقات الواجبة في الأموال، وليس في الآية بيان مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه، وليس في الآية بيان شروط معتبرة في المأخوذ منه، ولا معتبرة في المأخوذ، ولا شروط في المؤدي، ولا شروط في الآخذ:
قوله تعالى: {تُطَهرهُم وتُزَكيهِم بِهَا}.
يدل على أن الله تعالى جعل الزكاة تطهيراً، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم طمأنينة لقلوبهم، وعلماً على أن الله تعالى غفر لهم، فإنه لا يصلي على قوم إلا أن يؤذن له في ذلك، ولا يؤذن له في ذلك إلا أن يكون مغفوراً له.
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [التوبة:107]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المساجد
قوله تعالى: {والّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ}, الآية: [107].
يدل على أن الأفعال تختلف بالقصود والإرادات، ولذلك قال:- {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى}, وإن الذي اتخذ لقصد التفريق بين المؤمنين لا تحل به حرمة، ولذلك قال: {لاَ تَقُم فِيهِ أَبَداً}, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )(3/78)
{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [التوبة:108]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبونَ أَنْ يَتَطَهّرُوا}, الآية: [108].
وذلك يدل على فضيلة الطهارة.
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [التوبة:109]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المساجد
قال: {أفَمَنْ أسّس بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْر أمّنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}, الآية: [109].
هو من المجاز المستحسن، وذم اتخاذ المسجد للطعن على الإسلام والتفريق بينهم، وبين أن هذا الصنيع يوجب انهيارهم في نار جهنم، فعبر عن ذلك بقوله: {أَمّنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ في نّارِ جَهَنّم}.
ثم أبان عن موتهم على الإصرار بقوله: {لاَ يَزَالُ بنْيَانُهُم الّذِي بَنَوْا رِيبةً في قُلُوبِهِم إلاّ أَنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُم}.
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:111](3/79)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
ومن المجاز المستحسن قوله تعالى: {إن اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُم}, الآية: [111].
فجعل بذل أنفسهم في الجهاد وإنفاقهم في ذلك طلباً للثواب بيعاً, وجعل ما طلبوه ثمناً.
ولما كان تعالى هو المرغب في ذلك والداعي إليه، وصف نفسه بأنه اشترى أنفسهم، كما وصفوا بأنهم باعوا وابتاعوا، وفي ذلك دلالة على عظم محل الجهاد ومنزلته.
ودل أن هذا التعبد كما ورد به القرآن، فكذلك التوراة والإنجيل.
ودل به على أن الله تعالى لا يخلف الوعد، ولذلك قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ}؟ ويدخل في الوعد الوعيد.
ثم أبان تعالى ما يتعلق به تمام البشارة في معاهدة الله عز وجل فقال:
{التّائِبُونَ العَابِدُونَ}، فبين الله تعالى أنه لا بد في المؤمن المجاهد أن يكون على هذه الصفات، وعند ذلك يكون مبشراً على ما قال في آخره: {وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ}.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة:112]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القيام بالطاعات والتجافي عن المنكرات
{وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}, الآية: [112].
وانطوت الآية على سائر العبادات من توبة وعبادة، وقيام بشكر، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر.
ثم أجمل ما يأتي على كل مكلف به، وهوالحفظ لحدود الله تعالى، فيدخل تحت ذلك اجتناب الكبائر كلها، والقيام بالطاعات كلها.(3/80)
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة:113]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد (الاستغفار للمشركين)
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنّبِيِّ والّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِينَ}, الآية: [113].
فأبان أنه لا يغفر لهم، وحرم ذلك، لأنه طلب مغفرة مأيوس منها سمعاً.
وأبان أن استفغار إبراهيم لأبيه، كان على توقع الإيمان منه إذا آمن، فلما علم أنه لا يؤمن امتنع من الاستغفار.
{ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
2)…أصول فقه (خبر الواحد)
قوله تعالى: {يَا أَيهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَادِقِينَ}, الآية: [119].
فيه دلالة على التأمل في الأقوال، وأن لا نتبع منها إلا ما دلت الدلالة عليه، وبان صدقه، فأما أن نأخذ تقليداً دون أن نعلم صدقه فلا وليس فيه دلالة على أخبار الآحاد والظنون، فإنها لا تقبل عندنا إلا إذا دل الدليل القاطع على وجوب اتباعها والعمل بها عند ذلك الدليل، الذي يوجب العلم به، معلوم صدقه حقيقة، فيكون الإتباع للصادق تحقيقاً.
وقال تعالى في سورة البقرة:
{لَيْسَ البِر أَنْ تُوَلوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمغْرِبِِ، وَلَكِنِ البِر مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ - إلى قوله - أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا}.
وهذه صفة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، المهاجرين والأنصار منهم، ثم قال في هذه الآية: {كُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ}.(3/81)
فدل على وجوب إتباعهم والإقتداء بهم، لإخباره أن من فعل ما ذكر في الآية فهم الذين صدقوا، ولا يدل ذلك على وجوب اتباع إجماعهم، إلا إذا بان بالدليل صدقهم فيه.
الأحكام الواردة في سورة ( التوبة )
{ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [التوبة:120]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ}, الآية: [120].
بيّن في هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته، إلا المعذورين ومن أرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود.
وقال الله عز وجل: {وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِم عَنْ نَفْسِهِ}, الآية: [120].
أي لا يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه، بل كان الواجب عليهم أن يوقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، وقد كان من المهاجرين والأنصار من يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويبذل نفسه للقتل، ليبقى بذلك رسول الله.
وقال تعالى: {وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفّارَ وَلا يَنَالُون مِنْ عَدُوٍ نَيْلاً كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}, الآية: [120].(3/82)
استدل به قوم على أن وطء ديارهم إذا جعل بمنزلة النيل من الكفار، وأخذ أموالهم، وإخراجهم من ديارهم - وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم - فهو بمنزلة نيل الغنيمة، ولذلك قال علي: ما وطىء قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا.
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة:122]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…أصول فقه (خبر الواحد)
3)…العلم
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَةً فَلّوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِ فِرْقَةٍ مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدِينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُم إذَا رَجَعُوا إليهِم لَعلّهُم يَحْذَرُونَ}, الآية: [122].
روي عن ابن عباس أنه نسخ بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً} فقال تعالى: ما لهم أن يتفرقوا في السرايا ويتركوا النبي عليه السلام في المدينة وحده ولكن تبقى بقية لتنفعه، ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وقال الحسن: لتتفقه الطائفة النافرة، ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها.
وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية.
قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدِّينِ}, الآية: [122].
فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها.
وفي الآية دلالة على وجوب طلب العلم، وأنه من فروض الكفاية في بعض المعلومات، وفرض عين في بعض.
وفيه دلالة على لزوم قبول خبر الواحد في أمور الديانات التي لا يجب على الكل معرفتها، ولا تعم الحاجة إليها.(3/83)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:123]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {يَا أيهَا الّذِين آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الكُفّارِ وَليَجِدُوا فِيكُم غِلْظَةً}, الآية: [123].
وقال في موضع آخر.
{قَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَةً}.
وأوجب قتال جميع الكفار في وقت واحد، وإن الممكن فيه قتال طائفة، وكان من قرب منهم أولى وأقرب إلى الجرم، وليس ذلك نافياً لقوله: {قَاتِلُوا المُشْرِكِينَ} فإنه إذا قال: {الّذِينَ يَلُونَكُم}، فإذا فرغ منهم وصارت الديار للإسلام فالذي يليهم بمثابته، حتى يستوعب الكفار.
الأحكام الواردة في سورة ( يونس )
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [يونس:15]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (النسخ)
قوله تعالى: {قَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}, الآية: [15].
يستدل به في منع نسخ الكتاب بالسنة، لأنه تعالى قال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}, الآية: [15].(3/84)
وهذا بعيد، فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظماً، ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قادراً عليه، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ، ولأن الذي يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا كان وحياً لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من الله تعالى.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس:59]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (القياس)
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَا أَنْزَلَ اللهُ لكُم مِن رِزقٍ فَجَعَلْتُم مِنْهُ حَراماً وحَلالاً، قُل اللهُ أَذِنَ لَكُم أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ}, الآية: [59].
يستدل به في القياس وهو بعيد، فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحريم والتحليل من الله، عند وجود نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في أن القياس دليل الله تعالى، فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [يونس:87]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {واجْعَلوا بُيُوتَكُم قِبْلة}, الآية: [87].
قال ابن عباس: كانوا خائفين من الظهور، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبلة، فيصلوا في بيوتهم، وفيه دليل على أن الصلاة في المسجد أفضل إلا لعذر.
الأحكام الواردة في سورة ( هود )
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [هود:15]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النيات
2)…الصلاة
3)…الصيام(3/85)
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنيَا وَزِيَنَتَهَا نُُوَفِّ إلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لاَ يُبخَسُونَ}, الآية: [15].
معناه معنى قوله: إنما الأعمال بالنيات، الحديث.
ويدل ذلك على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضا ن، ويدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة.
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } [هود:45]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأهل
2)…الوصية
قوله تعالى: {ونَادَى نُوحٌ رَبّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابني مِنْ أَهْلي}, الآية: [45].
سمى ابنه من أهله، وهذا يدل على أن من أوصى لأهله دخل تحته ابنه، ومن تضمنه منزله وهو في عياله، فدل قول نوح على ذلك، وقال تعالى في آية أخرى:
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعمَ المُجِيبُونَ، وَنَجّينَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ}.
فسمى جميع من تضمنه منزله من أهله.
وقوله عليه السلام ان ابني من أهلي: الذين وعدتني أن تنجيهم، فأخبر الله تعالى أنه ليس من أهلك الذي وعدت أن أنجيهم.
وقد قيل: إنه لم يكن ابنه حقيقة، وظاهر القرآن يدل على خلافه.
وفيه دليل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من النسب.
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [هود:61]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…عمارة الأرض
قوله تعالى: {واستَعْمَرَكُم فِيهَا}, الآية: [61].
يدل على وجوب عمارة الأرض، فإن الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى للوجوب.(3/86)
الأحكام الواردة في سورة ( هود )
{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [هود:69]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السَّلام
قوله تعالى: {قَالُوا سَلاَماً}, الآية: [69].
يدل على أن السلام الذي هو تحية الإسلام، كان تحية الملائكة.
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [هود:70]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (البيان)
قوله تعالى: {إنّا أُرْسِلنَا إلَى قَوْمِ لُوطِ}, الآية: [70].
ثم ساق الكلام، إلى أن قال: {فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبراهِيم الرَّوعُ وَجَاءَتهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطِ}, الآية: [74] - حين قالوا: {إنّا أُرْسِلنَا إلَى قَوْمِ لُوطِ}، الآية [70], لنهلكهم.
وقوله: {قالَ: إن فِيهَا لُوطاً - قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا}:
وذلك يحتج به من يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، لأن الملائكة أخبرت إبراهيم أنها تهلك قوم لوط، ولم تبين المنجين منهم، ومع ذلك إبراهيم عليه السلام جادلهم وقال: اتهلكونهم وفيهم كذا وكذا من المسلمين، وتعرف منهم أمر العذاب، وأنه عذاب واقع بهم لا محالة، أم يعفى عنهم إذا رجعوا؟ وهذا دلالة لا محالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهو بين حسن.
{ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود:87]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة(3/87)
قوله تعالى: {أصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَترُكَ مَا يَعْبدُ آبَاؤُنَا}, الآية: [87].
يستدل به على أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد قيل: الصلاة هاهنا الدين، فيستدل به على أن الصلاة تطلق بمعنى الدين.
الأحكام الواردة في سورة ( هود )
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [هود:113]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الهجر
قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ}, الآية: [113].
يدل على النهي عن مجالس الظالمين ومؤانستهم، والإنصات إليهم، وهو مثل قوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى معَ القَوْمِ الظّالِمِينَ}.
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود:114]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وأقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهارِ}, الآية: [114].
عنى بطرفي النهار على قول ابن عباس: الفجر، والعصر، وعنى بقوله: زلفاً من الليل المغرب والعشاء.
الأحكام الواردة في سورة ( يوسف )
{ قَالَ يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يوسف:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحَسد
قوله تعالى: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ}, الآية: [5].
وذلك يدل على جواز ترك إظهار النعمة، عند من يخشى غائلته حسداً وكيداً.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: استعينوا على حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود.(3/88)
{ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء (الحكم بالعلامة)
قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُم أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} الآية: [18].
يدل صدر الآية:
على جواز الحكم بالعلامة، فإنه لما رأى القميص صحيحاً قال: يا بني، ما عهدت والله الذئب حليماً.
وقوله: فصبر جميل، يدل على أن من أدب الدين حسن الصبر والعزاء، وترك الشكوى، وهو مثل قوله تعالى:
{الّذِينَ إذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ وإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف:19-20]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللقيط
قوله تعالى: {وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}, الآية: [19].
قال ابن عباس: أسرّه إخوته وكتموا أنه أخوهم، وبايعهم يوسف على ذلك الكتمان لئلا يقتلوه.
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما، أنه قضى في اللقيط أنه حر، وقرأ:
{وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيِه مِنَ الزَّاهِدِيِنَ}, الآية: [20].
وروى الزهري عن سفيان بن أبي جميل قال: وجدت منبوذاً على عهد عمر، فقال رحمه الله: عسى الغوير أبؤساً، فقيل إنه لا يتهم، فقال: هو ذاك ولاه أبي ولايته إذ هو حر الأصل في الظاهر.(3/89)
ومعنى قوله لعل الغوير أبؤساً: الغوير تصغير غار، وهو مثل: - معناه: عسى أن يكون البائس جاء من قبل الغار، فإنهم غمزوا الرجل. وقال: عسى أن يكون الأمر جاء من قبلك في هذا الصبي اللقيط، وأن يكون من مغالك، فلما شهد وآله بالستر، أمره بإمساكه، وقال ولاؤه لك، أي إمساكه والولاية عليه.
قوله تعالى: {وكَانُوا فِيِهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}, الآية: [20]:
قيل إن إخوته كانوا في الثمن من الزاهدين، فإن ما كان من أبيهم ألا يغيبوه عن وجه أبيه.
الأحكام الواردة في سورة ( يوسف )
{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } [يوسف:26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء (اللقطة)
قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهلِهَا}, الآية: [26].
روى ابن عباس أنه صبي في المهد.
وروى أيضاً أنه رجل، ومن الناس من يحتج بذلك في الحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص:
إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة، أن السلطان يتلوم في ذلك، فإن جاء غيرهم يطلبها، وإلا دفعها إليهم.
وقال أبو حنيفة ومحمد في متاع البيت: إذا اختلف فيه الرجل والمرأة فهو للرجل.
ولا يحكم في كثير من المواضع بمثله، فإنه لو تنازع عطار وسقاء قربة وهما متعلقان بها، فهي بينهما، ولأن الأشبه في حديث يوسف، والعلامة أن ذلك كان آية من جهة الله تعالى، وإلا فما يدريهم أن امرأة ورجلا إذا تداعيا أمراً بينهما، فيكون قد قُدّ قميص أحدهما أو قميصها، أو من الممكن أن يقال إن الرجل هم بها فطلبته ممتعضة وقدت قميصة من دبر، وليس في ذلك دلالة إلا من جهة خرق الله عز وجل العادة، بانطلاق الصبي في المهد.(3/90)
وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في حكومات، وأصل ذلك على هذه الآية، ولعل ذلك فيما طريقه التهمة، لا على سبيل بت الحكم، وقد يستحي الإنسان إذا ظهر مثل هذا منه للإقامة على الدعوى فيقر، فيحكم عليه بالإقرار.
{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [يوسف:44]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التعبير
قوله تعالى: {أَضْغَاثُ أَحلاَمٍ}, الآية: [44].
وقد كانت الرؤيا صحيحة، ولم تكن أضغاث أحلام، فإن يوسف عليه السلام عبرها على سني الخصب والجدب.
وهذا يبطل قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر، فإن الأقوام قالوا أضغاث أحلام، ولم تقع كذلك.
ويدل على فساد الرواية: أن الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [يوسف:50]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصَّبر
قوله تعالى: {فَلَمّا جَاءَه الرَّسولُ قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ}, الآية: [50].
يدل على ثبات النفس والصبر، وطلب براءة الساحة، ليكون أجل في صدره عند حضوره، وأقرب إلى أن يقبل منه ما دعاه إليه من التوحيد.
الأمّارة: الكثيرة الأمر بالشيء، والنفس بهذه الصفة، لكثرة ما يشتبه، وتنازع إليه مما يقع الفعل من أجله.
الأحكام الواردة في سورة ( يوسف )
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف:55]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…تزكية التفس
قوله تعالى: {اجعَلْني عَلَى خَزائِنِ الأَرْضِ إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}, الآية: [55].(3/91)
وصف نفسه بالعلم والحفظ، فدل ذلك أنه جائز أن يصف الإنسان نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، وأنه ليس من المحظور تزكية النفس لقوله: {فَلاَ تُزَكّوُا أَنفُسَكُم}.
{ وَقَالَ يابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [يوسف:67]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحَسد
قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وادْخُلُوا مِنْ أَبوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}, الآية: [67]:
ذهب به إلى حرف العين.
{ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف:72]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجَعالة
قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِملُ بَعِيرٍ}, الآية: [72]:
أصل في الجعالة، مثل أن يقول: من ردَّ إليّ عبدي الآبق فله كذا.
فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِملُ بَعِيرٍ وأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}, ظن ظانون أن ذلك كفالة، وليس بكفالة إنسان عن إنسان، وإنما كفل بذلك عن نفسه، وضمنه نعم هو جعاله.
الأحكام الواردة في سورة ( يوسف )
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…جواز الحيلة في التوصل الى المباح
قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}, الآية: [76].(3/92)
دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه من العظة والصلاح، وإستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغثاً فاضرِب بهِ وَلاَ تَحْنَثْ}.
وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر والذي أهداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله في ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام لهند: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك ووهدك بالمعروف".
وكان إذا أراد سفراً ورَّى بغيره.
وأرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان، أن ائتونا فإنا نستعين على بيضة المسلمين من ورائهم، فسمع ذلك نعيم بن مسعود، وكان موادعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان عند عينيه حين أرسلت بذلك بنو قريظة إلى الأحزاب، أبي سفيان بن حرب وأصحابه، فأقبل نعيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرها وما أرسلت به بنو قريظة إلى الأحزاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلنا أمرناهم بذلك، فقام نعيم بكلمة رسول الله من عند رسول الله، وكان نعيم رجلاً لا يكتم الحديث، قال: فلما ولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهباً إلى غطفان، فقال عمر: يا رسول الله، ما هذا الذي قلت؟ إن كان أمر من الله تعالى فامضه، وإن كان هذا رأياً رأيته من قبل نفسك، فإن شأن بني قريظة أهون من أن تقول شيء يؤثر عنك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
إن هذا رأي، إن الحرب خدعة.
وعن عمر أنه قال: إن لفي معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب.
وقال ابن عباس: ما سرني بمعاريض الكلام حمر النعم.
وقال إبراهيم حين سئل عن سارة من هي؟ فقال هي أختي، لئلا يأخذوها، وإنما أراد به أختي في الدين.
وقال إبراهيم حين تخلف ليكسر آلهتهم: إني سقيم، معناه إني سأسقم يعني أموت، كما قال تعالى إنك ميت، فعارض عن كلام مبهم سألوه عنه إلى غيره على وجه لا يلحقه في ذلك كذب.(3/93)
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [يوسف:88]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الإجارة)
قوله تعالى: {فَأَوْفِ لَنَا الكَيلَ}, الآية: [88].
وقال: ألا ترون أني أوف الكيل.
هذا مما يحتج به في أجرة الكيال والوزن أنها على البائع، فإنه إذا كان عليه أن يوفيَ الكيل, فيتعين عليه أن يقوم بمثونة ما يجب عليه.
الأحكام الواردة في سورة ( الرعد )
{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة (الحيض)
قوله تعالى: {اللهُ يَعلَمُ مَا تَحمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ، وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِمِقدَارٍ}, الآية: [8].
قال قائلون: فيه دلالة عل ظهور الحيض في أيام الحمل، وهو المراد بقوله:
{وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ}، فلا جرم قال قائلون: إن الحامل تحيض، تعلقاً بهذا الظاهر.
وقال بعضهم: لا تحيض.
وقال آخرون: المراد به السقط ، فإنه من غيض الأرحام حقيقة.
وقال بعضهم: هو نقصان مدة الحمل، حتى يقابله قوله: {وَمَا تَزْدَادُ}، يعني في مدة الوضع، فجعلوا الغيض في ستة أشهر، وما تزداد: ما يزيد على ذلك.(3/94)
ويحتمل أن يكون معناه أن الله تعالى يعلم حمل كل أنثى، ويعلم ما تغيض الأرحام، وفي الدم والحيض في غير حال الحمل، وما تزداد بعد غيضها من ذلك، حتى يجتمع في رحمها الدم، وذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، فعلى هذا لا يدل ظاهر الآية على أن الحامل تحيض، إلا أن يقال إنه عام، فإذا بين الله تعالى في الأرحام أنها تغيض بالدم، فيجب أن يكون حيضاً، لأن الحيض هو الذي تساقط عن الرحم، والإستحاضة دم عرق لا من الرحم.
الأحكام الواردة في سورة ( إبراهيم )
{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم:25]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…معنى (الحين) وتصرفها
قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذنِ رَبِّهَا}, الآية: [25].
روي عن ابن عباس أنه قال: غدوة وعشية, ولعله أخذ ذلك من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}.
وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال: هي النخلة تطعم في كل ستة أشهر.
وعن علي أنه قال: الحين سنة.
وقال ابن المسيب: الحين شهران من حين تصرم النخل إلى حين تطلع.
وروي عنه أنه قال: النخلة لا يكون فيها أكلها إلا شهران.
وقال تعالى: {لَيَسْجُنُنّهُ حَتّى حِين}، وعنى به ثلاث عشرة سنة.
وقال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين}: يوم القيامة.
وعن عكرمة أن رجلاً قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن ذلك، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حين لا يدرك.
قوله تعالى: {وإنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لَكُم وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ}.
فأرى أن يمسك ما بين صرام النخل إلى حملها، فأعجبه ذلك.(3/95)
وبالجملة: للحين مصارف، ولم ير للشافعي تعيين مصرف من هذه المصارف، لأنه لم يوضع في اللغة لمعنى معين، والذي ذكره أبو حنيفة من تقييد الحين في الحلف بستة أشهر اتباعاً لعكرمة تحكم، وتخصيصه بإدراك النخل لا مأخذ له فلا معنى لاعتباره.
الأحكام الواردة في سورة ( الحجر )
{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر:72]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إنّهُم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون}, الآية: [72].
قال المفسرون: معناه: حياتك، فقوله: لعمرك: لغة.
وكره قوم ان يحلفوا بغير الله تعالى، وورد فيه خبر، وإن لم يقو إسناده وكرهوا أيضاً أن يقول: وحق الكعبة، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ما فيه من الحكم.
الأحكام الواردة في سورة ( النحل )
{ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
قوله تعالى: {والأَتْعامَ خَلَقَهَا لَكُم فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}, الآية: [5].
قال ابن عباس: الدفء اللباس.
وقال الحسن: الدفء ما استدفىء به من أصوافها، وأوبارها وأشعارها.
واستدل به قوم على جواز الإنتفاع بها في حالة حياة الحيوان وموته.
وليس ذلك بصحيح، فإنه تعالى قال: {لَكُم فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِع، ومِنهَا تَأْكُلُون}.
فبين أن منها ما أكلنا، فدل ذلك على إباحة هذه الثلاثة بشرط الزكاة.
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
2)…المطعومات
{والخَيْلَ والبِغَالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً}، الآية: [8], عظيم منة علينا.(3/96)
وذكر ذاكرون من أصحاب أبي حنيفة، أن في الآية دليل على تحريم لحومها، فيقولون:
في الأنعام ذكر الله تعالى في الكتاب، أنها للأكل، وفي البغال والحمير أنها للركوب والزينة، وذكروا في تحقيق ذلك أن الله تعالى ذكر في الأنعام منافع الركوب، وحمل الأثقال إلى البلاد، وذكر الجمال بها حين تريحون وحين تسرحون، فنبه على المنافع الأصلية، والنادرة، كالأكل والركوب على الأنعام، فلو كانت الخيل مأكولة لذكره.
ويجاب عنه، بأن الله تعالى لم يذكر ذلك، لأنه لا يعد للأكل عرفاً، وإنما يؤكل إذا أصابته زمانة، ونقصت قيمته، فلم يذكر الأكل بما فيه من نقصان وخسران. بخلاف الأنعام التي منها الأكل، وأن حمل الاثقال عليها هو المقصود.
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:14]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {وتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}, الآية: [14].
يحتج به أبو يوسف ومحمد والشافعي, فيمن حلف لا يلبس حلياً فلبس لؤلؤاً, أنه يحنث لتسمية الله تعالى إياه حلياً.
وأبو حنيفة لا يرى ذلك, لأن الحلى إذا أطلق لا يفهم منه اللؤلؤ, وذلك مكابرة منه.
الأحكام الواردة في سورة ( النحل )
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل:67]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأشربة (المسكرات)
قوله تعالى: {ومِنْ ثَمَرَاتِ النّخِيلِ والأعَنَابِ}, الآية: [67].
يدل على أن ذلك من الآيات التي يجب الإعتبار بها، لأنه عطف على ما تقدم.(3/97)
وفيه بيان عظيم نعم الله تعالى لهذين الجنسين، والأمر ظاهر في مزيتهما، لكثرة وجوه الإنتفاع بهما، بخلاف سائر الثمرات، فلذلك خصهما بالذكر.
فأمّا السَكَرْ ففيه أقوال:
قال الحسن: هو المسكر من الشراب.
وقال الأصم: أن السّكْر، كل ما حرمه الله تعالى من ثمرهما، والرزق الحسن ما أحله الله.
وقال الحسن: هو الشراب المستلذ وإن لم يسكر، والرزق الحسن: الرطب والعنب وما يتفرع عنهما.
والأقرب إلى الظاهر، هو ما يتخذ من الرطب والعنب، وما يتخذ من التين غيره، ويدخل فيما يتخذ منها السكر، وهو الشراب الذي يسكر، لأن ذلك هو مقتضى الآية، ويدخل في قوله رزقاً حسناً، ما يتخذ منهما من خل وزبيب وغيره، مما يؤكل في الطعام الطيب وكل ذلك نعمة منه.
والأقرب أن تحريم الخمر بعد ذلك.
ووجب الاعتبار بثمرات النخيل والأعناب، فأظهر ما ذكره في اللبن في قوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَناً خَالِصاً}، لأن ظهور الرطب والعنب من ذلك الرطب اليابس على اختلاف طعومهما، وذلك من أدل الدلائل على توحيد الله تعالى، ولذلك قال: {إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لِقَومٍ يَعْقِلُون}, الآية: [6].
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [النحل:75]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الملك)
قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مثلاً عَبْداً مَمْلوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شيءٍ} الآية: [75].
ذكر إسماعيل بن اسحق، أن المراد به عبد نفسه، وليس المراد عبداً للعباد، ويجوز أن يكون عبد الله.
وهذا بعيد، والظاهر أنه أي عبد كان.
واحتج به قوم في أنه لا يملك بالتمليك، فإنه لو ملك لقدر على شيء، وقد قال تعالى: {لاَ يَقْدِرُ عَلى شيءٍ}.(3/98)
ويمكن أن يجاب عنه، أن المراد به أنه إذا تصرف لا يمكنه أن يتصرف إلا بإذن غيره، كما يقال ذلك فيمن لا يملك أصلاً، وإلا فهذا اللفظ لا يدل على نفي ملك الطلاق، ونفي ملك النكاح، فهذا ما يدل عليه الظاهر دون ما سواه، ولذلك عقبه بقوله: {ومَنْ رَزَقْنَاهُ مِنّا رِزْقاً حَسنَاً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِراً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ}، فأبان بذلك أن نقيض هذا المعنى في العبد، عدم استقلاله بالإنفاق سراً وجهراً.
وقال الأصم: المراد به، المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسراً وأنضر وجهاً، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضرباً للمثل: فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم، فكيف جعلتم أحجاراً أمواتاً شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تسمع ولا تعقل؟ وهذا القول أولى بالظاهر، لأن العبد المملوك لا يكون جماداً، ولا يقال في الجماد لا يقدر على شيء، وهو بالصفة التي معها لا يجوز أن يقدر، فلا حاجة والحالة هذه إلى صرفه عن ظاهره، فبين تعالى أن هذا العبد إذا لم يساوي من رزقناه رزقاً حسناً، فهو ينفق منه سراً وجهراً مع اشتراكهما في الحيوانية والقدرة والآلة، فكيف يجوز التسوية بين الأصنام التي لا يتأتى منها ضرر ولا نفع، وبين مالك الأمر والخلق.
وإسماعيل بن اسحق روى عن ابن عباس، أن الآية واردة في رجل من قريش وعبده أسلما، وإنه كان مولى لعثمان يكفله وينفق عليه، ولذلك ذكر في الأبكم أنه لا يقدر على شيء كما ذكره في العبد، ثم لا يدل ذلك على أنه لا يملك.
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [النحل:98]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {فإذَا قَرَأْتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ}, الآية: [98].(3/99)
وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال:
"اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه".
وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة.
وقال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة قبل القراءة، ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ.
ونقل عن بعض السلف، التعوذ بعد القراءة مطلقاً، احتجاجاً بقوله تعالى: {فإذَا قَرَأْتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
ولا شك في أن ظاهر ذلك، يقتضى أن تكون الإستعاذة بعد القراءة كقوله تعالى: {فإذَا قَضَيْتُمُ الصلاَةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً}, إلا أن غيره محتمل مثل قوله: {وإذَا قُلْتُم فاعْدِلُوا}.
وقوله: {وإذَا سَألْتمُوهُن متاعاً فاسئلُوهُن مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ}.
ليس المراد به أن يسألا من وراء حجاب بعد سؤال متقدم، ومثله قول القائل:
فإذا قلت فأصدق وإذا أحرمت فاغتسل.
يعني فاغتسل قبل الإحرام.
والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك، كذلك، والإستعادة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان لعنه الله قبل القراءة.
قال الله تعالى: {وَما أَرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نبِي إلا إذَا تَمَنّى أَلْقَى الشّيْطَانَ}.
الأحكام الواردة في سورة ( النحل )
{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل:106]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد (الردة)
2)…الإكراه
3)…الطلاق والعتاق
4)…الزنا
قوله تعالى: {منْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإيمَانِ}, الآية: [106].(3/100)
وذلك يدل على أن حكم الردة لا يلزمه، غير أنه إن أمكنه أن يوري فيجب عليه أن يفعل وإلا كفر، ولو صبر حتى قتل شهيداً كان أعظم لأجره، وذلك يدل على أنه عند الإكراه قبيح أيضاً، غير ان المشرع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر، ولو لم يكن قبيحاً في نفسه، لوجب عليه أن يأتي به.
واستدل به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكره وعتاقه، وكل قول حمل عليه بباطل، نظراً لما فيه من حفظ حقه عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردته حفظاً على دينه، وإذا أكره على الزنا فلا يباح له الزنا، ولا يباح له القتل بالإكراه, فلولا الرخصة أمكن في الردة مثله، فكأن الذي يتلفظ بكلمة الردة مراده دفع الضرر، فليس يطلق على ما يأتي به الكفر، وما أراد الكفر لمعناه، وإنما أراد به دفع الضرر.
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل:123]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنيفاً}, الآية: [123].
إيجاب إتباع ملته، وقد بينا ذلك في أصول الفقه.
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [النحل:126]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القصاص
قوله تعالى: {وإنْ عَاقَبْتُم فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}, الآية: [126].(3/101)
وذلك يدل على المماثلة في القصاص، وعلى وجوب المثل في المثليات، والقيم العادية في المقومات، وقد وردت الآية في الكفار يوم أحد، حيث مثلوا ببعض القتلى، كحمزة بن عبد المطلب وغيره، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يمثل بسبعين من المشركين بدله، فنزل قوله تعالى: {وإنْ عَاقَبْتُم} الآية، وأبان أن الصبر أولى، ودل به على أن للولي الحق على غيره، وهو أن يعفو.
الأحكام الواردة في سورة ( الإسراء )
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التحسين والتقبيح
قوله عز وجل: {وَمَا كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً}, الآية: [15].
يدل على صحة قول أهل الحق في أنه لا تكليف قبل السمع، وأنه لا وجوب قبل إرسال الرسل، ولا يقبح ولا يحسن بالعقل، خلافاً لمن عدا أهل الحق، في كون العقل طريقاً إلى معرفة وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، ثم الأكثرون منهم على أنه يجوز أن يقتصر ببعض المكلفين على دليل العقل دون السمع، إذا كانت مصلحته فيما دل عليه العقل، وأنه يقع في علم الله أنه ينهض بما كلفه دليل العقل، والغرض بالشرائع المصلحة، وإذا كان المعلوم من حال بعضهم نهوضه بالتكاليف العقلية تلقياً من دليل العقل، لم يكن لإرسال الرسل إليهم فائدة، وإنما يرسل الله تعالى عندهم الرسول إلى من وقع في المعلوم أن تمسك المتمسك بالشريعة داعي إلى المصلحة في التكاليف العقلية، فيرسل الرسول إليه بأمور سمعية يعلم الله تعالى كونها داعية إلى المستحسنات العقلية، ويحرم عليه من السمعيات ما يعلم كونه داعياً إلى المستقبحات العقلية.(3/102)
فإذا لم يقع في المعلوم كون فعل من الأفعال داعياً إلى الواجب العقلي, ولا ناهياً عن القبيح العقلي، لم يكن للإرسال فائدة، وليس يجب أن يعلم الله تعالى ذلك من أحوال المكلفين جملة، وربما علم من أحوال بعضهم, فيجب إرسال الرسول إليه، وربما لا يعلم ذلك، فلا يجب إرسال الرسول إليه.
وفيهم من يقول: يجب على الله تعالى إرسال الرسل، لأن ذلك أقرب إلى مظاهرة الحجة وأقوى في معنى اللطف.
وهذا الإخفاء ببطلانه، إذ يلزم منه إبقاء الرسول أبداً أو توالي الرسل، لأن ذلك أقرب إلى اللطف، ولا شك أن إبقاء إبليس في الدنيا مع أعوانه أبعد عن اللطف من توالي الرسل، ومضاهرة الحجة بهم.
وربما قالوا: العبد لا يعرى من مصالح في دينه لا يعلمها إلا بالسمع, كما لا يعرى عن مصالح في الدنيا لا تعلم إلا بالخبر.
وهذا تحكم، ومن أين وجد ذلك؟
وإذا ثبت أن الأصح من قول المعتزلة المذهب الأول، فقال للمعتزلة: فما معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنّا مُعّذِّبِينَ حَتّى نَبْعثَ رسُولاً}؟ وعندكم يجوز في المعلوم أن ينهض العبد بالمصالح العقلية، من غير افتقار إلى أفعال تكون لطفاً في تلك المصالح وتعلم بالسمع، وقد قال تعالى:
{وَمَا كُنّا مُعّذِّبِينَ حَتّى نبعثَ رسُولاً}، وعندكم في تلك الحال يجب أن لا يبعث رسولاً ويعذب أن نبعث رسولاً لا يجوز لنا بعثه في بعض الأحوال.
وهم اختلفوا في الجواب عن الآية، فقال قائلون: المراد به عذاب الإستئصال في الدنيا، كقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهلِكَ القُرَى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رسُولاً}.
وهذا بعيد، فإن عذاب الاستئصال على حسب ما يقع في المعلوم كونه مصلحة، وإن كان الإستئصال مصلحة دون ابتعاث الرسل، وجب عندهم ذلك، فإن عذاب الإستئصال إنما استحقه من استحقه لمخالفة التكاليف، فإذا حصلت المخالفة قبل الرسل، فأي معنى لترك ذلك؟ وإن لم يكونوا مستحقين، فلا استئصال، لا بعد الرسل ولا قبلهم، وهذا بين حسن.(3/103)
وأجابوا من وجه آخر فقالوا: وما كنا معذبين فيما طريقه السمع، حتى نبعث رسولاً، فأما ما كان طريقه العقل فلا، وهذا بعيد، فإن التكاليف إذا كانت منقسمة، وأقوى القسمين التكاليف العقلية، والسمعية مبنية عليها، لكونها داعية إليها ولطفاً بها، فلا يجوز أن يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً.
وعندهم أنه يجب العذاب على ترك التكاليف العقلية، فتقدير الكلام: وما كنا نفعل ما يجب علينا فعله حتى نبعث رسولاً، ولا شك أن ذلك من الله تعالى إبانة عن وجه العدل في أفعاله، أو القهر وإنفاذ المشيئة، وذلك عندهم على إطلاق قبيح، وهو على أصلهم مثل قول القائل: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً، ويعني بذلك بعض السمعيات دون بعض، مع أن ذلك وغيره بمثابة.
واستدل به المعتزلة على رد قول بعض أصحابنا في أن الله سبحانه لا يعذب أطفال المشركين، لأنه إذا كان لا يعذب قبل إرسال الرسل، فهؤلاء الأطفال ثم يعلموا الرسل ولا لهم مكنة في معرفتهم، فكيف يعذبون بذنوب آبائهم؟
وهذا من المحتج به جهل، وذلك أن الله تعالى إنما عنى بقوله: {ومَا كُنا معذِّبين نبعثَ رسُولاً}، من يجوز إنفاذ الرسل إليهم, فيعذب على ترك ما كلف، فأما الأطفال فلا يعذبون عندنا على ترك ما كلفوا، وإنما جعل الله تعالى ذلك العذاب حكماً منه نافذاً، وقضاء ماضياً، كما يؤلم الأطفال والبهائم في الدنيا، فسقط ما قالوه جملة.
واستدل قوم بهذا في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام فآمنوا, فلا تكليف عليهم فيما مضى, وهذا صحيح. ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق العذاب من جهة العقل عندنا. وهو مضمون على قائله عندنا.
ولأبي حنيفة في ذلك خلاف, وله مأخذ فيه يستقيم على نظر الفقهاء من غير استمداد من أقوال المعتزلة, حتى لا يتوهم متوهم أن أبا حنيفة بنى تلك المسألة على أصول المعتزلة, فإنه بعيد منها, وذكرنا ذلك المأخذ في مسائل الخلاف في الكتاب الذي أفردناه للروايا.(3/104)
ثم أبان الله تعالى أنه لم يهلك القرى قبل إنبعاث الرسل, فليس لأنه يقبح ذلك منه إن فعل, ولكنه وعيد منه ولا خلف في وعده, فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده, كان على ما قاله تعالى:
{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَرْنَاهَا تَدْمِيراً}.
ليعلم أن من هلك إنما هلك بإرادته, فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها, ليحق القول السابق من الله تعالى.
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء:18-19]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوعد والوعيد
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيد العَاجِلةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ - إلى قوله - فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورا} الآية: [18, 19].
فيه دلالة على أمور، منها أن من يريد بما يتكلفه من الطاعات أحوال الدنيا، أو يريد تحصيل العاجلة بغير الطاعة فهو متوعد، مثل أن يتزهد مراءاة للناس، أو لاعتمادهم على أقواله وأئتمانهم له على أموالهم، فهو متوعد بالنار، وأن من يريد الله تعالى بمساعيه فله الثواب بحكم وعد الله تعالى.
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [الإسراء:23]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…بر الوالدين
قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ وبِالوَالِدَينِ إحْسَاناً}, الآية: [23].(3/105)
قرن ذكر الوالدين بعبادة الله سبحانه، فنبه به على عظيم إنعام الله تعالى المقتضي للشكر، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين، وبين إختلاف الوالدين، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال: {إمَا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُما}، فخص هذه الحالة بالذكر، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه، فيحتاجان إلى أن يلى من أمرهما للضعف النازل منهما، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد، وما يتصل بخدمة وإنفاق.
ودل قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُف}، على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور، فبين الله سبحانه تحريم هذا القدر من التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، مؤكداً لما تقدم ودالاً به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول:
ثم قال: {وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس، ولا ينفر عنه الطبع.
ثم أمر بمزيد التواضع فقال: {واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وهذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة والتعبير عن المقصود بلفظ المجاز، لأن الذل ليس له جناح، ولا يوصف بذلك، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع، وهو كقول امرىء القيس في وصف الليل:
* فقلت له لما تمطى بصلبه * وأردف أعجازاً وناء بكلكل *
يصف الليل المتقدم على هذا البيت في قوله:
* وليل كموج البحر أرخى سدوله * عليّ بأنواع الهموم ليبتلي *(3/106)
وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل فهو مجاز، وأراد به تكامله واستواءه.
ثم بين الله تعالى أن الذي يلزم لهما ليس مقصوراً على منافع الدنيا، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه، فقال: {وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً}.
بين العلة في لزوم الدعاء لهما، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين، أكثر مما يلزمه في غيرهما.
الأحكام الواردة في سورة ( الإسراء )
{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [الإسراء:26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحقوق (حقوق الله، حقوق العباد)
2)…التبذير
قوله تعالى: {وآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ}, الآية: [26].
أبان الله تعالى أن على كل واحد منا مراعاة مراتب مستحقي الحقوق، فبدأ بحق الله تعالى فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ} وقرنه بذكر الوالدين، وعقب ذلك بقوله: {وآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ}، وظاهر العطف أنه قريب الإنسان.
وقد قيل: عنى به قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأمر بالإحسان إلى الوالدين عام في جميع الناس، وكذلك ما عطف عليه من إيتاء ذي القربى.
قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
والتبذير عند الشافعي إنفاق المال في غير حقه، فلا تبذير في عمل الخير.
وقال مجاهد: لو انفق مداً في باطل كان تبذيراً.
وقد ثبت في سورة البقرة الحجر على المبذر، وما يتعلق به من الأحكام.
ثم أبان الله تعالى تحريم التبذير بقوله تعالى:
{إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَيَاطِين}, الآية: [27].
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [الإسراء:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة (الصدقات)(3/107)
قال تعالى في تخصيص نبيه صلى الله عليه وسلم:
{وإمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً}, الآية: [28].
وهو تأديب عجيب، وقول لطيف بديع، فإنه تعالى قال: وإمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا}: أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنا والقدرة فتحرمهم, وإنما يجوز له أن يعرض عنهم عند عجز يعرض, وعند عائق يعرض, وأنت عند ذلك ترجو من الله فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل, فإن قعد بك الحال عن المواساة {فَقُل لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً}، يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة فتقول: الله يرزق، والله يفتح بالخير.
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [الإسراء:29]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصدقات
2)…خطاب النبي، خطاب الأمة مع خروجه من الخطاب
قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَل يَدَكَ مغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ}, الآية [29].
هو مجاز عن البخل والجود ومراعاة الإقتصاد فيهما جميعاً، فقال: {وَلاَ تَجْعَل يَدَكَ مغْلُولَةً إلى عُنْقِكَ}: فلا تعطي من مالك شيئاً.
ولما كان العطاء في الأكثر باليد غير غل اليد عن الإمساك، فالذي لا يعطي شيئاً جعله بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، والعرب تصف البخيل بضيق اليد, فيقولون: فلان ضيق الكفين إذا كان بخيلاً، وقصير الباع، وفي ضده رجب الذراع طويل الباع طويل اليدين:
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لنسائه:
"أسرعكن بي لحاقاً أطولكن يداً".
وإنما أراد به كثرة الصدقة، فكانت زينب بنت جحش، لأنها كانت أكثرهن صدقة.
وقال الشاعر:
* وما كان أكثرهم سواما * ولكن كان أرحبهم ذراعا *
قوله تعالى: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ}، فلا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك.(3/108)
{فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}، يعني ذا حسرة على ما خرج من يدك.
وهذا الخطاب لغير النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر شيئاً لغد, وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه.
وقد كان كثير من فضلاء أصحابه ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم, فلم يعنفهم النبي عليه الصلاة والسلام, ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.
وإنما نهى الله تعالى عن الأفراط في الإنفاق, وإخراج جميع ما احتوت عليه يده من المال, من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده, فأما من وثق بموعود الله تعالى وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية.
وقد روي أن رجلاً أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فسلم إليه مثل بيضة من ذهب, فقال: يا رسول الله, أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها, فأعرض عنه, فعاد ثانياً فأعرض عنه, فعاد ثالثاً فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ورماه بها لو أصابته لعقرته, وقال: "يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه ثم يقعد ويتكفف وجوه الناس".
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير, فأنفق جميع ماله على النبي عليه الصلاة والسلام, وفي سبيل الله, حتى بقي في عباءة, فلم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.
فكل ذلك يدل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي عليه الصلاة والسلام, وإنما خوطب به غيره مثل قوله تعالى:
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.
{فَإنْ كُنتَ في شَكٍّ مِمّا أَنْزَلَنَا إلَيْكَ}.
فاقتضت هذه الآيات من قوله: {وَقَضَى رّبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ}, الأمر بالتوحيد, والإحسان إلى الوالدين, وإلى ذي القربى، واليتامى, والمساكين, وابن السبيل, والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله تعالى, والآمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط.
الأحكام الواردة في سورة ( الإسراء )(3/109)
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [الإسراء:31]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجنايات (القتل)
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم خَشْيَةَ إمْلاَقٍ}, الآية: [31].
وهو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه, فإنه كان من العرب من يقتل بناته خشية الفقر, لئلا يحتاج إلى الإنفاق عليهن, ويتوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته, فكان ذلك شائعاً فيهم وهي "الموءودة سئلت", والموءودة هي المدفونة حية؟ وكانوا يدفنون بناتهم أحياء.
وقال ابن مسعود: سئل النبي عليه الصلاة والسلام فقيل: "ما أعظم الذنوب؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك, وأن تقتل ولدك خيفة أن يأكل معك, وأن تزني بحليلة جارك".
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [الإسراء:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزنا
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إنّه كَانَ فَاحِشَةً}, الآية: [32].
يدل على تحريم الزنا, وهو الذي تعرى عن نكاح وعن شبهة نكاح.
ووصف الله تعالى نكاح امرأة الأب بما وصف الزنا به, فقال تعالى:
{وَلاَ تَنْكِحُوا مَانَكَحَ آباؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}.
وذلك يدل على مساواته في التحريم, وبينا ما يعترض به عليه.
واختلف العلماء في اللواط, وأنه هل يدخل تحت الزنا؟ والشروع فيه ليس من غرضنا.
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [الإسراء:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(3/110)
1)…الجنايات (القتل)
قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِّيِهِ سُلْطَاناً} الآية: [33].
السلطان مجمل يحتمل: الحجة والدية والقود، ويحتمل الجمع لا جرم، الشافعي يخير بين القتل وغيره، لأن الكل بالإضافة إلى اللفظ سواء.
قوله تعالى: {فَلاَ يُسْرِف في القَتْلِ}.
قال الحسن ومجاهد وسعيد بن هبير والضحاك.
لا يقتل غير قاتله، ولا يمثل به، وذلك أن العرب كانت تتعدى إلى غير القليل من الحميم والغريب، فلما جعل الله تعالى له سلطاناً نهاه عن التعدي، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ في القَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ}.
فإن كان لبعض القبائل طول على الأخرى، فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا بأن يقتل الحر منهم، وهذا في هذه الآية: {فَلاَ يُسْرِف في القَتْلِ} بأن يتعدى إلى غير القاتل.
ذكر اسماعيل بن اسحق المالكي، في قوله: لوليه، ما يدل على خروج المرأة عن مطلق الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق القصاص, كذلك قال، ولا أثر لعفوها وليس لها الإستبقاء.
ولم يعلم أن المراد بالولي هاهنا الوارث، وقد قال تعالى: {والمُؤْمِنُون والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال:
{والّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِنْ وَلاَيَتِهِم مِنْ شيءٍ}, الآية.
وقال تعالى: {وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللهِ}:
فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة.
احتج إسماعيل في ذلك بوجوه ركيكة منها:
أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، ولم يعلم أن ما كان بمعنى الجنس استوى فيه المذكر والمؤنث.(3/111)
ومما ذكره أن المرأة لا تستحق كل القصاص, لا بعض له، فلزمه من ذلك إخراج الزوج من جملة الأولياء في القصاص، وعلى أنه لم يمتنع أن تكون المرأة بنفسها لا تستحق، ولكنها مع غيرها كالورثة، واعتذر عن ذلك بأن سبب الورثة واحد، وقد اختلف السبب ههنا، فلزمه ألا يثبت القصاص بين الزوج والأخ ولا الأخ من الأم.
وذكر فيما ذكر أن المقصود من القصاص تقليل القتل، والمقصود بكثرة القتل الرجال دون النساء.
ولزم على هذا ألا يجب القصاص على المرأة بقتل الرجل، ولا على الرجل بقتل المرأة.
الأحكام الواردة في سورة ( الإسراء )
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (التجارة)
2)…معنى الأشدُّ
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بِالّتِيِ هي أَحْسَنُ}, الآية: [34].
قال مجاهد: التي هي أحسن التجارة, خص اليتيم بذلك, لأنه إليه أحوج, وعن الإستقلال أبعد, وإلى المرحمة والشفقة أقرب.
ذكر الرازي أن الله تعالى لما قال حتى يبلغ أشده, علم أن إيناس الرشد عند بلوغ الأشد لا يعتبر, ولو اعتبر لذكر كما قال:
{حَتّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْ آنَسْتُم مِنْهُم رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم}.
والأشد مذكور على وجوه مختلفة في القرآن, قال تعالى في موضع آخر:
{حَتّى إذَا بَلَغَ أشدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة}.
وقال في موضع آخر:
{ولَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوَى}، الآية.
وذكروا أنه بلوغ الحلم.
وذكروا أنه بلوغ أربعين سنة.
فليس للأشد مرد معلوم.(3/112)
ويجوز أن يكون المراد ببلوغ الأشد قبل الأربعين سنة, وتختلف أحوال الناس فيه, والذي ذكره من أن إيناس الرشد ليس معتبراً مع الأشد فبعيد, فإن الله تعالى قال: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، فاقتضى ذلك جواز التصرف إلى بلوغ الأشد مطلقاً, ولا يتحقق ذلك إلا عند جعل الأشد بمعنى البلوغ. والولي لا يتصرف في مال اليتيم بعد البلوغ, ولا أنه يسمى يتيماً إلى أربعين سنة.
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء:78]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إلَى غَسَقِ الليلِ} الآية: [78]:
قيل: دلوكها: زوالها, وقيل: غروبها, وقد وردت فيها آيات. فإن كان الدلوك الزوال, وقد دلت الآية على صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء, لقوله: لدلوك الشمس إلى غسق الليل.
قال ابن عباس: غسق الليل اجتماع الليل وظلمته, وقد قيل غسق الليل انتصابه, ووقت الإختيار للعشاء يمتد إلى ذلك الوقت.
قوله تعالى: {وقُرْآنَ الفَجْرِ}, مرتب على قوله: {أقِم}، فتقديره, أقم قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً.
وفيه دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر.
وقال قائلون: المراد بقوله: {وقُرْآنَ الفَجْرِ}: صلاة الفجر, فإنه يبعد تخصيص صلاة الفجر بالقراءة فيها, والصلاة كما تشتمل على القراءة تشتمل على ما عداها من الأذكار.
والأولون استدلوا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية: {ومِنَ الليلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لكَ}, والتهجد بالقراءة لا بصلاة الفجر.
ويجاب عنه, بأن المراد به التهجد بالصلاة, مرتباً على قوله: أقم الصلاة.(3/113)
{ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً } [الإسراء:110]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}, الآية: [110].
روي أن أبا بكر كان يخافت، وكان عمر يجهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لم لا تجهر؟ فقال: أناجي ربي وهو أعلم بحاجتي.
وقال لعمر: كيف تجهر؟ قال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أحسنتما، ثم نزلت هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: أرفع شيئاً، وقال لعمر: إخفض شيئاً.
وقالت عائشة في هذه الآية: أراد بها الدعاء والمسألة.
وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى فقال: "لقد أوتي أبو موسى من مزامر آل داود صلى الله عليه وسلم".
الأحكام الواردة في سورة ( الكهف )
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطاعات
قوله تعالى: {إنّا جَعَلْنَا مَا عَلى الأَرْضِ زِينةً لَها لِنَبْلُوَهُم أَيَهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}, الآية: [7].
وذلك يدل على أن ما جعله على وجه الأرض، جعله لطفاً لعباده، الذين أراد بهم الخير في إختيار الطاعات.(3/114)
{ وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } [الكهف:19]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الشركات)
قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُم هَذِهِ إلَى المَدِينَةِ}, الآية: [19].
يدل ذلك على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها, والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة, وإن كان فيهم من يأكل أكثر ومن يأكل أقل, وهو الذي يسميه الناس المناهدة, ويفعلونه في الأسفار, وذلك أنه قال: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُم هَذِهِ إلَى المَدِينَة} فأضاف الورق إلى الجميع.
ومثله قوله تعالى: {وإنْ تُخَالِطُوهُم فَإخْوَانُكُم}.
وفي الآية دليل على جواز الوكالة بالشراء, لأن الذي بعثوا به كان وكيلاً.
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً } [الكهف:23]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان (الإستثناء)
2)…العتاق (الإستثناء)
قوله تعالى: {ولاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ}, الآية: [23].
لأن المقصود بذلك ألا يكون محققاً لحكم المخبر عنه, فإنه إذا قال لأفعلن ذلك فلم يفعل كان كاذباً, وإن قال لأفعلن ذلك إن شاء الله, خرج عن كونه محققاً للمخبر عنه.(3/115)
فإن قال قائل: أي معنى في ذلك, ولا يتصور أن يفعل فاعل فعلاً إلا أن يشاء الله, هل ذكرت ذلك وعدم ذكره إلا بمثابة واحدة, وهل هذا إلا بمثابة من يقول لأفعلن ذلك إن كنت فاعلاً وإن كنت قادراً وإن شئت, وأي أثر لذكر شرط للفعل لا محالة في العقل, والجواب: أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم, غير أنه إذا قال القائل لأفعلن في وقت كذا, فقد أوهم أنه يفعل لا محالة, وأبان أن شرط الفعل يوجد, فإذا لم يفعل لعدم الشرط وهو مشيئة الله تعالى, أو عائق آخر, كان كاذباً في قوله عرفاً, وإذا قال لأفعلن كذا إن شاء الله, أو إن شاء زيد, فلم يقطع بأنه يفعل, بل ردد وميل القول, فكأنه قال: لا أدري هل أفعل أم لا, فهذا هو المعنى فيه, وكأن الله سبحانه أدب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {ولاَ تَقُولَنَّ لشيءٍ إني فاعلٌ ذلكَ غداً إلا أن يشاءَ اللهُ}.
أي كن متذكراً للعوائق, وناظراً في العواقب, ولعل عائقاً يعترض دون مرامك, فردد القول فيما لا يعلمه, لئلا يجري ما ينسب فيه إلى خلف في القول عرفاً.
ومن أجله قال علماؤنا: إذا حلف واستثنى لم يحنث إذا كان موصولاً, وإن انفصل يؤثر الإستثناء.
وروي عن معاذ بن جبل, عن رسول الله أنه قال: "إذا قال الرجل لعبده: أنت حر إن شاء الله, فهو حر, وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فليس بطالق".
وهذا حديث ضعيف, واهي السند مخالف للإجماع.
وقيل للمعتزلة: عندكم أن فعل الفاعل لا يتعلق بمشيئة الله تعالى, فما معنى قوله عندكم لأفعلن إن شاء الله تعالى, وهو يفعل وإن لم يشأ الله.
فأجابوا بأن معناه: إلا أن يشاء الله ألا يلجئني إليه, أو يقطعني عنه باخترام أو موت, فيخرج عن كونه قاطعاً على الخبر, فيحسن منه الخبر.(3/116)
وقال آخرون منهم: الغرض بالاستثناء, إخراج الخبر عن أن يكون قطعاً وخبراً تاماً من غير إرادة ما يجرى مجرى الشرط, فكأنه وضع في اللغة لهذه الطريقة التي تقتضى التوقف في الخبر, وهذا أقرب, لأن الاستثناء يؤثر في هذا الخبر, سواء وقع ممن له قصد إلى ما ذكرناه أ ومن لا قصد له فحمله على هذا الوجه الثاني أولى.
ومما قيل للمعتزلة: إذا قال قائل عبدي حر إن شاء الله فلا يعتق, وقياس قولكم أنه يعتق, لأن الله تعالى قد شاء ذلك تعبداً, وجوابهم عنه على ما قاله أبو علي الجبائي, أنه لم يخصص المتثنى المشيئة بطريق التعبد, ولو خصصه بذلك لصار حراً بأن ينوي بالإستثناء, مشيئة التعبد فقط.
نعم إذا أطلق الإستثناء فلا حرية, فأما إذا قيل الإستثناء, صار كأنه قال للمملوك: أنت حر إن أراد الله مني إعتاقك, وقد علم أن الله تعالى أراد ذلك مع سلامة الأحوال, وإنما تصح هذه الطريقة متى قيل لا بد في الاستثناء من تقييد, حتى يصير كالشرط, ويجري مجرى قول القائل: أنت حر إن دخل زيد الدار, وإن شاء زيد, فيمكن عند ذلك ادعاء مخالفة الإجماع على المعتزلة, فأما إذا قيل بالوجه الآخر, وهو ان الاستثناء يخرج الخبر عن كونه خبراً, إلى أن يكون مشكوكاً فيه موقوفاً فليس فيه دلالة.
الأحكام الواردة في سورة ( الكهف )
{ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَداً } [الكهف:24]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان (الإستثناء)
قوله تعالى: {واذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ}, الآية: [24].
قال ابن عباس: إنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة, لم يحنث إن كان حالفاً.
وذكر اسماعيل بن اسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله: {واذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ}، قال يستثنى إذا ذكر.
والأصح أن قوله: {واذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ} إبتداء كلام.(3/117)
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [الكهف:103]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الكُفر
قوله تعالى: {هل نُنَبِّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً}, الآية: [103].
فيه دليل على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن فيه, وقد حبط سعيه, الذي يوجب إحباط السعي إما فساد الإعتقاد أو المراءاة.
والمراد به ها هنا الكفر, فإن الله تعالى قال بعد ذكر هؤلاء:
{أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم ولِقَائِهِ}.
أبان عن كفرهم وأنه سبب ضياع أعمالهم.
{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [الكهف:110]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشِّرك
قوله تعالى: {ولاَ يُشْرِكْ بِعبَادَةِ ربّهِ أَحَداً}, الآية: [110].
دل على أن من عمل لغير الله تعالى مراءاة ومباهاة وطلباً للنجاة، فلا نصيب له في الآخرة، وقد مضى شرحه غير مرة.(3/118)
الأحكام الواردة في سورة ( مريم )
{ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدعاء
قوله تعالى: {إذْ نَادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}, الآية: [3].
يدل على أن افضل الدعاء ما هذه حاله، لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص.
{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [مريم:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدعاء
قوله تعالى: {وَهَنَ العَظْمُ مِنّي}, الآية: [4].
يدل على أنه يستحي للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه, وما يليق بالخضوع, لأن قوله: {وَهَنَ العَظْمُ مِنّي}، إظهار للخضوع, وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقيّا}, إظهار لعادات تفضله في إجابة أدعيته, ثم عقب ذلك بالمسألة فقال: {وإنِّي خِقْتُ المَوالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرِأَتي عَاقِراً فَهَبْ لي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً}.
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدعاء
{وإنِّي خِقْتُ المَوالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرِأَتي عَاقِراً فَهَبْ لي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً}, الآية: [5]:
يدل على أن رفع الحاجة إليه, إنما يستحب عند مخافة الضرر في الدين, فإنه خاف من أقاربه الفساد والشر, فطلب من الله تعالى ولداً يقوم بالدين بعده, فيرثه النبوة, ويرث من آل يعقوب, ولا يجوز أن يهتم بالدعاء هذا الاهتمام, ومراده أن يورثه المال, فإن ذلك مباين لطريقة الأنبياء, ولأنه جمع وراثته إلى وراثة آل يعقوب, ومعلوم أن ولد زكريا لا يرثهم.
فإن قيل: كيف أقدم على مسألة ما يخرق العادة من غير إذن!؟(4/1)
الجواب: أن ذلك جائز, في زمان الأنبياء, وفي القرآن ما كشف عن هذا المعنى, فإنه قال تعالى:
{كُلمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أنّى لكِ هذا قَالَتْ: هوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ}.
فلما رأى خارق العادة استحكم طعمه في إجابة دعوته, فقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيةً طَيِّبةً}.
الأحكام الواردة في سورة ( مريم )
{ أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [مريم:58]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {إذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجّداً وَبُكِيّا}، الآية: [58].
فيه دلالة على أن لتلاوة آيات الرحمن تأثيراً, فقال الحسن: إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً: في الصلاة.
وقال الأصم: المراد بآيات الله كتبه المتضمنة لتوحيده وحجته, وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها, ويبكون عند ذكرها.
والمروي عن ابن عباس, أن المراد به القرآن, خاصة وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوته ويبكون, ففي ذلك دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء, ولو كان كذلك لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مختصاً بإنزاله عليه.
واحتج الرازي به على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارىء, وهذا بعيد, فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى, وضم إلى السجود البكاء, وأبان به عن طريقه الأنبياء في تعظيمهم الله تعالى وآياته, وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند سماع آيات مخصوصة.(4/2)
{ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } [مريم:92-93]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…العتق
قوله تعالى:
{وَمَا يَنْبَغِي لِلرّحْمَنِ أَنْ يَتّخِذَ وَلَداً, إن كُل مَنْ في السّماواتِ والأَرْضِ إلاّ آتي الرَّحْمَنِ عَبْداً}, الآية: [92, 93]:
فيه دلالة على أن الولد لا يكون مملوكاً لأبيه خلافاً لمن قال: إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق إلا إذا أعتقه, وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الولادة والملك.
واستدل اسماعيل بن اسماعيل بن اسحاق بدليل آخر, ونقله الرازي في كتابه عنه فقال:
وقد اتفق أهل العلم على أن أمة الرجل إذا حملت منه، فإن الولد يتحرر في بطن أمه, مع أن العبرة في رق الولد برق الأم, وحرية الوالد لا تقتضي حرية الولد, فلم يكن عتق الولد من جهة كون الأب حراً, وإنما كان من جهة أن الولد لو علق رقيقاً, لكان ملكاً للوالد, ولا يثبت الملك للوالد على الولد أصلاً.
إلا أن الولد تم حر الأصل, لأنه لا حاجة إلى إثبات الرق والملك للولد, فعلق الولد حراً هنالك, حتى لا يثبت للوالد على الولد ملك.
وإذا اشترى, فلا يمكن أن يقال إن الملك لا يثبت, فإن الملك لو لم يثبت لم يصح الشراء, ولا بد من تصحيح الشراء.
وقال مالك: ينقل المالك الملك إلى المشتري, فيثبت له الملك بقدر ما يحصل به الإنتقال ضرورة تصحيح الشراء, وامتنع بعد ذلك ثبوت ملك الوالد عليه.(4/3)
وقال بعض العلماء: إن شراء الولد لا يثبت له ملكاً أصلاً, وإنما هو عقد عتاق, فإما أن يقال إن الملك يثبت حقيقة في زمان, وحصل العتق بعده في زمان آخر فلا, ولكن العتق ثبت مقارناً للشراء, وجعل الشراء عقد عتاق وإسقاط لملك المالك, لا على حقيقة شراء فيما سواه, ولم يجعل الشراء سبب الملك, لوجود الأبوة المنافية له, كما لم يجعل ملك المحل سبباً لملك الولد لوجود سبب ما ينافيه, فيقال حدث حراً, وكذلك يقال حصل الشراء مع الحرية.
فهذا قول فيه تأمل.
وعلى كل حال تبين به أنه لا يدوم ملك الوالد على ولده.
الأحكام الواردة في سورة ( طه )
{ إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…عِلّة الأمر بخلع النعلين
قوله تعالى: {اخْلَعْ نَعْلَيْكَ}, الآية: [12].
يحتمل أن يكون الأمر به تعبداً تبركاً بالموضع ليمسه قدمه حافياً.
وقد قيل: كان ذلك من جلد حمار ميت غير مدبوغ، فأمره بخلعه، لأنه لم يكن مدبوغاً، أو كان نجساً مدبوغاً مع الدبغ في شريعة موسى، ونسخ في شرعنا.
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } [طه:14]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَة لِذِكْرِي}, الآية: [14].
صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح فصلاها بعد طلوع الشمس وقال: "إن الله تعالى يقول: أقم الصلاة لذكري".
وقال عليه الصلاة والسلام: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك".
وفي السلف من خالف ذلك وقال: يصبر إلى مثل وقته ويصلي, وإذا فاتت الصبح يصليها من الغد, وهذا قول شاذ بعيد.(4/4)
الأحكام الواردة في سورة ( الأنبياء )
{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [الأنبياء:78]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء
2)…الإجتهاد
قوله تعالى في سورة الأنبياء:
{وَدَاوُدَ وسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ}, الآية: [78].
حكم داود بأن الشياء تسلم إلى صاحب الزرع ويقضى بها له.
وقال سليمان: تدفع إليه الغنم ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان.
وصار الحسن إلى مثل ذلك في شرعنا, إذ لم ير في شرعنا ناسخاً مقطوعاً به عنده.
وقال قائلون: سليمان أوحى إليه بذلك, فكان ناسخاً لما قضى به داود, وهذا على قول من منع اجتهاد الأنبياء في الوقائع.
وقال آخرون: بل اجتهد داود فلم يصب الأشبه وأصابه سليمان.
وقال آخرون: بل أخطأ خطأ مغفوراً له.
وقال آخرون: لا يجوز أن يكون ما حكما به مستدركاً بالإجتهاد, فإن الإجتهاد مبني على أصول, وذلك لا يستدرك إلا توقيفاً.
وهذا يحتمل الخلاف, فإن النظر في المصالح يجوز أن يقود إلى هذا: وأن داود أراد جبر حق صاحب الزرع, وسليمان أراد الجمع بين الحقين.
وأبو حنيفة لا يرى الضمان أصلاً على صاحب البهيمة, والشافعي يفصل بين الليل والنهار, وهو قول مالك.
والمسألة مستقصاة في أصول الفقه, ومتعلقنا منها بالآية ما ذكرناه فقط.(4/5)
الأحكام الواردة في سورة ( الحج )
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…خلق الإنسان
2)…الطلاق (العِدّة)
قوله تعالى: {إنْ كُنْتُم في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فإنّا خَلَقْنَاكُم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ}, الآي': [5].
قوله: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلّقَةٍ}, يقتضي أن لا تكون المضغة إنساناً كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب, وإنما نبهنا الله تعالى على كمال قدرته, بأن خلق الإنسان من غير إنسان, وهي المضغة والنطفة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب, وإذا لم يكن إنساناً يجوز أن يقال إنه ليس يحمل مثل النطفة.
ويحتمل أن يقال: إنه أصل الإنسان الذي ينعقد ويشتمل عليه الرحم وصار حملاً, وليس كالنطفة المجردة التي لا ندري ما يكون منها.(4/6)
وزعم اسماعيل بن اسحاق أن قوماً ذهبوا إلى أن السقط لا تنقضي به العدة, ولا تصير به أم ولد, وزعم أن هذا غلط, لأن الله تعالى أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخل فيما ذكر من خلق الناس كما ذكرت المخلقة, ودل على أن كل ما يكون من ذلك إلى خروج الولد من بطن أم فهو حمل, وقد قال تعالى: {وأُولاتُ الأَحْمالِ أجَلُهُن أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
وهذا لا حجة فيه, فإن الله تعالى لم يذكر أنه حمل, وإنما نبه على قدرته بأن خلقنا من المضغة والعلقة والتراب والنطفة, وليس الولد نطفة ولا مضغة, بل خلق منه الولد, وما دخلت العلقة في إسم الإنسان, ولا النطفة ولا المضغة التي ليست مخلقة.
وقوله تعالى: {وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهُن أنْ يَضعنَ حَمْلَهُن}، فالمراد به ما يسمى ولداً.
واستدل اسماعيل بن اسحاق أنه يرث بهذا وهو غلط, فإنه يرث عند الولادة حياً مستنداً إلى حالة كونه نطفة, ولا كلام فيه حتى لو طلقها من أربع سنين وأتت بولد, يعلم أنه في تلك الحالة كان نطفة يرث أيضاً, ولو انفصل ميتاً وقد تكامل خلقه لم يرث, وانقضت به العدة, فهما بابان متباينان.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج:25]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (المبايعات)
2)…المساجد
3)…الحج
4)…المعاملات (دور مكة)
5)…المعصية في مكة
قوله تعالى: {والمَسْجِدِ الحَرامِ الّذي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَواءً العَاكِفُ فيهِ والبَادِ}, الآية: [25].(4/7)
احتج به قوم على منع بيع دور مكة, فإنها مخلاة للساكنين, لا يتخصص سكانها بها, وهذا في غاية البعد, ولا شك أن أبنيتها لملاكها لا يزاحمون فيها دون إذنهم, إلا ما كان وقفاً على الصادر والوارد, وأكثر دور مكة كذلك.
وقوله تعالى: {سواءً العاكفُ فيهِ والبَادِ}, الآية: [25].
يظهر حمله على المسجد الذي لا يتخصص به قوم عن قوم, وأنه يشترك في الإنتفاع به قعوداً وصلاة كافة الناس.
وذكر إسماعيل به اسحاق عن علقمة بن فضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب, من احتاج سكن, ومن لم يحتج لم يسكن.
وروي أن عمر كان يمنع أن تغلق دور مكة في زمن الحج, وكانوا ينزلون حيث وجدوا، حتى كانوا يضربون الفسطاط في جوف الدور.
ونهى عمر أهل مكة أن يجعلوا لبيوتهم أبواباً.
وروي عن عمر أنه اشترى داراً بأربعة آلاف.
وبينا بعد قول من يقول لا اختصاص لأهل مكة بدورهم المعروفة بهم, الموروثة عن آبائهم وأسلافهم, وأن من شاء أزعجهم, وما زالوا يتصرفون فيها هدماً وبناء وبيعاً وإجارة وإعارة من غير نكير, ولعل عمر إنما فعل ذلك عند إزدحام الناس وضيق المنازل, فأباح ذلك لا أنه أزال ملك الرباع, وإلا فقد روي عنه أنه اشترى بها داراً بأربعة آلاف, ولا يمكن الجمع بينهما إلا على هذا الوجه.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فيهِ بِإلحَادٍ بظُلْمٍ}، الآية: معنى الإلحاد من المتعارف: الميل إلى الكفر, والظلم لفظ عام.
أبان الله تعالى أن الظلم فيه أعظم من الظلم فيما سواه.
{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [الحج:27]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {وأَذِّنَ في النّاسِ بالحَجِّ}, الآية: [27].(4/8)
ظاهره أنه خطاب لإبراهيم, لأنه مسوق على مخاطبته, بقوله تعالى: {وإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ}, الآية: [26].
وروي عن ابن عباس في ذلك, أن ابراهيم عند هذا الأمر نادى:
يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً, وقد أمركم أن تحجوه, فلم يبق إنس ولا جن إلا قالوا: لبيك اللهم لبيك.
وعن علي نضر الله وجهه مثل ذلك.
وعلى هذا يقولون إن رسول الله كان قد حج قبل الهجرة مرتين, فسقط الفرض عنه بذلك.
وهذا بعيد, فإنه إذا ورد في شرعه:
{وللهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ}, فلا بد من وجوب عليه, بحكم الخطاب في شرعه.
ولئن قيل: إنما خاطب من لم يحج, كان تحكماً وتخصيصاً بلا دليل, ويلزم عليه أن لا يجب بهذا الخطاب على من يحج على دين إبراهيم, وهذا في غاية البعد.
وقد أبان الله تعالى أنهم يأتون ركباناً ومشاة لا لنفس السفر, بل ليشهدوا منافع الدين والدنيا أيضاً من التجارة وغيرها.
والمقصود أن الاتعاب لغرض جائز.
الأحكام الواردة في سورة ( الحج )
{ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ } [الحج:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {ويَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ}, الآية: [28].
ذكرنا من قبل معنى المعلومات والمعدودات والاختلاف فيه.
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ}, الآية: [28].
وذلك في دماء النسك, وليس الأكل واجباً بالإتفاق, وإنما يؤكل من دماء النسك, وأما دماء الجنايات, فلا خلاف أن الناسك لا يأكل منها, ودم المتعة والقرآن دم جبر عند الشافعي, فلا يأكل منه، ويأكل منها عند أبي حنيفة, لأنه رأى الدين دم نسك, فليقع الكلام في ذلك الأصل.(4/9)
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ } [الحج:29-30]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
2)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ}, الآية: [29].
معناه: أنهم عند النحر ينتفون ويحلقون ويقلمون الأظافر, لأن الإحرام إذا منع من ذلك فعل عند التحلل, ويزيل ما به من التفث.
قوله تعالى: {فكُلُوا مِنْها وأَطْعِمُوا}:
يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه, ولا التصدق بجميعه.
قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم}: يدل على وجوب إخراج النذر, وإن كان دماً أو هدياً أو عمرة, ويدل على ذلك أن النذر لا يجوز أن يؤكل منه وفاء بالنذر.
وقد رتبه الله تعالى هذا الترتيب, فبين حكم النحر, ثم عطف عليه بأمور ثلاثة منها: قضاء التفث, والوفاء بالنذر, والطواف, فيجب حمل الطواف على ما يفعل بعد النحر, وهو طواف الزيارة, فإذا أتى به مع ما تقدم حل له النساء والطيب.
ثم عظم الأمر في قول الزور, ومنه أن قرنه بقوله تعالى:
{فاجتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}, الآية: [30].
{ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ}, الآية: [32].(4/10)
فيه إشارة لطيفة, وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه, فلا يدل على الإخلاص, فإن عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له محمل إلا تعظيم الشرع, وهو من تقوى القلوب.
الأحكام الواردة في سورة ( الحج )
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {لَكُم فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أجَلٍ مُسَمّى}, الآية: [33].
قال ابن عباس وابن عمر: لكم فيها منافع من ألبانها وأصوافها وظهورها، إلى أن تسمى بدناً، ثم محلها إلى البيت العتيق.
{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الحج:36]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…معنى القانع و المُعتَر
قوله تعالى: {وأَطْعِمُوا القَانِعَ والمُعْتَرّ}, الآية: [36].
القانع: هو الراضي بما رزق، والمعتر: هو الذي يسأل.
ويمكن أن يفهم منه تجزئة المذبوح ثلاثة أجزاء: للأكل، وإطعام القانع، والمعتر.
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج:39]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُم ظُلِمُوا}, الآية: [39].
أبان الله تعالى أن الغرض من قتالهم دفع ظلمهم، وأنهم إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
والخلفاء الراشدون كانوا بهذه المثابة، ففيه دلالة على صحة إمامتهم.(4/11)
الأحكام الواردة في سورة ( الحج )
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الحج:52]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الغرانيق
قوله: {وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نبيٍّ إلاّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشّيطانُ في أُمْنِيَتِهِ}, الآية: [52].
ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق لفظه، إلى تلك الغرانيق العلا، وبينا فساد ذلك، وبينا وجه الرواية الصحيحة في الأصول.
الأحكام الواردة في سورة ( المؤمنون )
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {والّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ}, الآية: [2]:
والمراد به عند المفسرين أن لا يتجاوز بصره مصلاه، ولا يلتفت ولا يحرك يديه، وقال عليه الصلاة والسلام: "اسكنوا في الصلاة، وكفوا أيديكم في الصلاة".
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {والّذِينَ هُمْ عَنِ اللَغْو مُعْرِضُونَ}, الآية: [3]:
اللغو: الباطل، وجعل قتادة ذلك وصفاً للمصلين، أي إن المؤمن في الصلاة معرض عن اللغو والرفث.
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون:5-6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح(4/12)
قوله تعالى: {والّذِينَ هُمْ لِفُروجِهِم حَافِظُونَ، إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم}, الآية: [5, 6]:
يقتضي تحريم المتعة، إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين.
قوله: {إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم}.
لا بد أن يكون خطاباً للرجال، فإن المرأة لا تستحل بملك اليمين شيئاً من أمر البضع.
الأحكام الواردة في سورة ( المؤمنون )
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المؤمنون:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {والّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِم يُحَافِظُونَ}, الآية: [9]:
المحافظة عليها في الوقت، ويحتمل أنهم يحافظون على مواقيتها وركوعها، ومراعاة حدودها وشروطها.
{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون:60]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…قبول الطاعات
قوله تعالى: {والّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}, الآية: [60].
وروي عن عائشة أنها قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
{الّذِينَ يؤتونَ ما آتَوا وقلوبهُم وَجِلة} أهو الرجل يشرب الخمر ويسرق؟ فقال: "لا يا عائشة، ولكنه، الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه".
وقال الحسن: لقد أدركت أقواماً كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها.
{ أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون:61]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المسارعة إلى الخيرات
قوله تعالى: {أُوَلَئِكَ يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ}, الآية: [61].
مدح المسارعين.
الأحكام الواردة في سورة ( المؤمنون )
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } [المؤمنون:67](4/13)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {مُستَكبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهجُرُونَ}, الآية: [67].
إختلفوا في السمر، فروى شعبة عن ابن المنهال بن أبي برزة عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه كان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها.
الأحكام الواردة في سورة ( النور )
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النور:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (الزنا)
2)…الحدود (اللواط)
قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّاني}, الآية: [2]:
إعلم أن الزنا كان معروفاً في اللغة قبل الشرع, مثل اسم السرقة والقتل, وكان موضوعاً للفعل الخاص القبيح, وأطلق على فعل خاص حقيقة, وجعل وطء رجل إمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة, نكاح بمطاوعتها زنا, وذلك إنما علم بالسمع, ولولا السمع لحسن ذلك, لأن استمتاعه بها وهي راضية, بمنزلة إستخدامه لا فيما ينتفعان به فلا مضرة ولا ظلم.
والأصل أن النفع العاجل لا يحرم إلا بالسمع, وقد اختلف الأمم في استقباح هذا الجنس:
فقوم من العرب كانوا يسيبون الإماء, ويطلبون النسل.
ومنهم من كان يرضى بأن يكون نساؤهم بغايا.
ومنهم من كان يرضى بنكاح الزانيات.
ومتى قيل إن في الزنا إختلاط الأنساب والجهل بتمييزها، والعقل يشهد بقبح ما يرفع الأنساب ويبطله.(4/14)
فالجواب, أن ثبوت النسب إنما يجب أن نعرفه, لما يتعلق به من الأحكام الشرعية, فأما من جهة العقل فلا يلزم ذلك, فإن عرف المرء بالظاهر أن الابن مخلوق من مائة سُرَّ به, وإلا لم يجب أن يعرف ذلك, وإذا كانت الأنساب لا يجب معرفتها عقلاً, ولا حكم يجب أن يتعلق بها من جهة العقل, لولا العلم بها لما تم, فمن أين أن العقل المؤدي إلى الجهل بالأنساب يقبح.
ولئن قيل: إذا لم يتخصص الولد بوالد, فمن يربي الولد وينهض بكفايته؟
فيقال: وحيث قيل هذا أب, لم يجب عقلاً أن يقوم بكفايته, وتولده من مائه من أين أوجب عليه عقلاً أن يقوم بمئونته وكفايته وتربيته؟
نعم إن ذلك تلقى من السمع.
وحيث لا يكون كذلك, فيجب على الناس عقلاً السعي فيما فيه صلاحهم وبقاء جنسهم, وهذا بين.
وإذا ثبت ذلك, فقد اختلف العلماء في مسائل, وأن اسم الزنا هل يتناولها؟ وليس نعني به أن يتعرف ذلك من جهة اللغة, ولكن الزنا صار في الشرع اسما لمحظور خاص, فهل نقول إن ذلك المحظور هل وجد, فنرجع الخلاف إليه ؟ مثل قولنا: المجامع في الدبر هل يكون زانياً؟ وواطء أمه وأخته وابنته باسم النكاح؟ هل يكون تحريم فعله كتحريم فعل من زنا بأجنبية أو زنا بها قبل النكاح حتى يسمى زنا؟
واختلفوا في أحكام شرعية لإختلاف عقائدهم في أنها متعلقة باسم الوطء, أو بمعنى يختص به الحلال, مثل تحريم المصاهرة.
واختلفوا في تحريم المصاهرة.
واختلفوا في تحريم المخلوقة من ماء الزنا, فإنهم اختلفوا في أن تحريم بنته إنما كان لمكان النسب, أو لمكان أنها تولدت من مائة مطلقاً.
وإذا وطئها في دبرها أو لاط بغلام, فقد اختلفوا فيه على حسب اختلافهم في أن الزنا أوجب الحد, لكونه مستنكراً في النفوس والطباع, وهو مؤذن بالهتكة والفضيحة, فإذا كان كذلك, فاللواط أعظم وأشنع في هذا الباب.
ومنهم من يرى أن السبب في تعظيم تحريمه, ما يتولد من فساد النسل وإختلاط الأنساب.(4/15)
وظن ظانون أن كتاب الله تعالى لا ينبىء عن دخول اللواط تحت اسم الزنا, لأن الله سبحانه وتعالى قال: {الزّانِيةُ والزّاني}.
فقيل لهم: لم يذكر في الظاهر الزاني بها والزانية به, بل أطلق ذلك, فانطلق على اللواط.
فأجابوا بأن المفهوم من الظاهر, أن الفعل منهما لا من أحدهما.
ومتى قيل: إذا لم يفهم ذلك من قوله والسارق والسارقة, بل دخل فيها السارق من غيرها, فكذلك هاهنا.
فأجابوا بأن الزنا لا يكون إلا بينهما, ومن فعلهما, والسرقة ينفرد بها أحدهما فافترقا.
وهذا ركيك عندنا, وأول ما فيه أن لا يدخل في عمومه الزاني بالمجنونة والصغيرة والمكرهة على الزنا والحربية, إذا لم تعرف أحكام الإسلام, إلى غير ذلك من المسائل التي لا خلاف في تناول عموم اسم الزنا لها.
ولأنه تعالى إذ قال: {الزّانِيةُ والزّاني}, فليس يعني به شخصين فقط, وإنما ذلك للجنس, وإذ كانت الألف واللام لإبانة الجنس, فكأنه ذكر الرجل الزاني مطلقاً, وذكر جنس الزانيات, فلا يجب أن يفهم منه زناه بها حتى يخرج منه اللواط, وعلى أن الذي ذكروه لا فرج فيه, فإنه إذا لاط بها مطاوعة, فهي زانية وهو زاني.
نعم: نقول إنه لا يتناول لواط الرجل بالرجل, وهو لا يقدح في المقصود, بعد أن ثبت كون اللواط في الجملة داخلاً تحت اسم الزنا, فبطل ما توهموه.
نعم الوطء دون الفرج لا يعد زنا, لا حقيقة لغة ولا شرعاً: أما اللغة, فإسم الزنا أطلق حقيقة علىالكامل في جنسه, وله مقدمات ووسائل لا يعد زنا حقيقة, وإنما هو مجاورة للزنا أو موصلة إليه.
فإذا ثبت الكلام في الإسم, فقد اختلف الناس في الداخلين تحت هذا الاسم, فقالت الخوارج: الكل داخلون فلا رجم عندهم.
وأثبت غيرهم الرجم ثم اختلفوا, فمنهم من يعمل بالآية عموماً ويضم الرجم إلى المحصن بعد الجلد, أكثر الفقهاء لا يرون ذلك.(4/16)
فإذاً المراد بالآية البكران, فأما الثيبان المحصنان فحدهما الرجم, وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عزا ولم يجلده, ولذلك تخصصت الآية بخبر عبادة حيث روى: "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
ويجوز به إستخراج جنس المحصنين من عموم اللفظ, مع أنهم شطر الزناة وأكبر, ومع أن المبالغة في الزجر في اقتضاء ذكر الرجم أولى منها باقتضاء ذكر الجلد, الذي لا يظهر له وقع, بالإضافة إلى الرجم.
قوله تعالى: {فاجلِدُوا}.
قصد به بيان المبالغة في الزجر, وعقبه بقوله: {ولاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ في دينِ اللهِ إنْ كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ}, الآية: [2].
فكيف ينتظم مع هذا أن يكون الرجم مشروعاً في ذلك الوقت في حق الثيب, وهم كثر الناس أو شطرهم, ولا يتعرض له أصلاً ولا يذكره؟
فلا بد أن يقال: إن في ذلك الوقت ما كان الرجم مشروعاً, ثم شرع الله تعالى الرجم بعده, فصار ناسخاً للجلد في حق الثيب, وليس يجوز إطلاق لفظ التخصيص في كل موضع, بل للكلام قرائن أحوال, يعلم بها مقصود المتكلم ضرورة, وهذا مما لا يمكن فيه إغفال الرجم وإرادة الجلد في حق الأبكار, فإنه يتضمن ما ذكرناه, فلا يجوز أن يقال: إن الرجم قد كان في حق المحصن، لكنه لم يذكر في هذه الآية.
واختلف الناس في العبد, هل يدخل فيه, وكذلك الأمة؟ والصحيح أنهم دخلوا فيه, ولكن خصصوا بقوله تعالى: {فَعَليْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ}.
ويجوز أن يطلق قوله تعالى: {فاجْلِدُوُا كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}, الآية: [2]. ولا يراد به العبيد والإماء, لأن المقصود به المبالغة في الزجر, وذلك يقتضي بيان الأكثر الأعظم من الزاجر.
واختلفوا في الذمي هل يدخل فيه؟ ومذهب مالك, أن الذميين لا يحدان إذا زنيا, والظاهر ينفي الفرق بين المسلم والكافر.(4/17)
إذا ثبت هذا, فقد قال الله تعالى: {فاجْلِدُوا}, وهذا عام, إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام هو الذي يتولى ذلك في حق الرعايا, والسيد في حق مملوكه عند الشافعي, وإذا لم يكن إمام, فإن أفضى إستيفاء الحدود من جهة صلحاء الناس إلى هرج وفتنة لم يجز, وإن لم يفضِ إليه جاز.
ثم لم يختلف السلف في أنه كان جلد الزانيين في إبتداء الإسلام ما قاله الله تعالى: {فأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ}, {فآذُوهُمَا} فكان حد المرأة بالحبس, والأذى بالتعيير, وكان حد الرجل, بالتعيير, ثم نسخ في غير المحصن بقوله: {الزَّانِيَةُ والزَّاني فاجْلِدُوا}, مع ما بينا فيه من الكلام, وفي المحصن الرجم, وكأن حديث عبادة بعد قوله تعالى: {واللاَتي يأتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُم} وقد قال عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني, خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلاً". وبين النبي عليه الصلاة والسلام بحديث عبادة المراد بالسبيل.
إذا ثبت هذا, فقد اختلف العلماء في المحصن وغير المحصن كما قدمناه من قبل, والشافعي يضم النفي إلى الجلد في حق البكر, وليس في الآية ما ينفيه, فإن النفي يجوز أن لا يذكر عند ذكر مائة جلدة وإشهار المجلود به, وهذا مما شرحناه في مسائل الفقه, وليس في الظاهر ما ينفي الحد ولا ما يثبته, فهو مأخوذ من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأوجب الشافعي الرجم على الذميين, كما أوجب على المسلمين, تلقيا من الخبر النص في حق الذميين من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم".(4/18)
ومالك يقول: إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لم يكن لليهود من ذمة, وتحاكموا إليه فحكم بينهما بحكم التوراة, فلم يكن في قتله نقض ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا بعد في إجراء أحكامهم عليهم, وهذا بعيد, فإن قتل الكافر إن جاز, فإنما يجوز بغير وجه الرجم, والرجم لم يكن مشروعاً, فيحرم بحكم شرعنا، فكيف يجوز اجراؤه عليهم على موجب دينهم؟
وإذا ثبت ذلك, فقد قال تعالى: {فاجْلِدُوا}, فالظاهر يقتضي فعل أول ما يسمى جلداً, فإذا فعله واستوفى العدد, فقد وفى الظاهر حقه, وما زاد على ذلك على أصل التحريم.
ولا يجوز أن يتخير الجلاد بين التخفيف والتشديد, فإنه لا يجوز أن يتخير الإنسان بين عقوبة مسلم وتركها.
والمفسرون والفقهاء, حملوا ظاهر الآية على ما جرت به العادة من فعل الضرب أو التأديب.
وروى علي بن موسى القمي أنه صلى الله عليه وسلم أوتي برجل قد أصاب حداً, وأوتي بسوط شديد, فقال: دون هذا, وأوتي بسوط دونه فقال: هذا.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر برجل يضرب الحد فقال: لا ترفع إبطك.
وعنه أنه اختار سوطاً بين السوطين.
فيجب إتباع السنة في ذلك وهو المتعارف في الضرب, ولم يختلفوا في أن هذا الجلد يفرق على جسمه, لأنه المتعارف المتعالم, فإنه إن جمع في مكان واحد خيف عليه القتل, وخرج عن طريقه الضرب.
ولا خلاف أنه يتقي في باب الضرب مواضع المقاتل, والمواضع التي يشين الأثر فيها كالوجه والمذاكر.. وكل ذلك ليس مأخوذاً من اسم الجلد, وإنما هو مأخوذ من معنى الحد, والمقصود به.
وظن ظانون أن معنى قوله: {وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ في دينِ اللهِ}, تشديد الضرب, وروي ذلك عن قتادة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب.
وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب.
وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف.. وقال الثوري: ضرب الزنا أشد من ضرب القاذف.
وضرب القذف أشد من ضرب الشرب.
والظاهر يقتضي التسوية, وهو مذهب مالك والشافعي.(4/19)
وقوله تعالى: {ولا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رأْفَةٌ}, يحتمل أن يكون في ترك الحد وتضييعه, وقد يكون في نقصانه, فلا معنى لتخصيصه ببعض هذه المحامل.
قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ}, الآية: [2]: اختلف في المراد بالطائفة, فحملها بعضهم على العشرة, وقالوا أقلها عشرة ولا نهاية للأكثر, وقال آخرون: أقله رجل إلى ألف, والأظهر أنه ثلاثة.. ومما احتجوا به من أن حد الزنا ينبغي أن يكون أشد من حد القذف والشرب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بضرب الشارب بالجريد والنعال, وضرب الزاني إنما يكون بالسوط, وهذا فيه نظر, فإن ضرب الشارب ما كان مقدراً, والكلام فيما تقدر منه بمبلغ معلوم, وحين أمر بضرب الشارب بالنعال, كان حد الشرب كالتعزير.
ومما قالوه أن القاذف يجوز أن يكون صادقاً, فلم يقطع بجريمته, والزنا بخلافه, فكيف يسوي بين الضربين, وهذا هوس, فإن الشرع ما أوجب الحد إلا عند القطع بكذبه وبقوله شرعاً, فلا حاصل لما قالوه, ولذلك ردت شهادته, وقال تعالى: {فإذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُون}, الآية: [13]. وعلى أنا أظهرنا مزية الزنا بزيادة الجلدات, فمن أين يجب ظهور المزية ووصف الضرب من جهة الشدة.
{ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (الزنا)
قوله تعالى: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ}, الآية: [3].
روى إسماعيل بن إسحاق عن ابن مسعود أنه قال في الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها: إنهما زانيان ما عاشا.
وروي مثله عن عائشة وعن علي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا تاب الرجل حل له أن يتزوجها.(4/20)
وروي عن ابن عمرو بن عباس فيمن زنى بها ثم تزوجها, أن أوله سفاح وآخره نكاح, فأما المروي في سبب نزول الآية, فهو أن رجلاً كان يقال له مرثد كان يحمل الأسرى وله صديقة بمكة يقال لها عنان من البغايا, قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أنكحني عناناً, فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد علي شيئاً حتى نزلت هذه الآية, فقال لي: يا مرثد, إن الزاني لا ينكح إلا زانية.
ونقل عن سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم}, ودليل النسخ, أنه جوز للزاني أن ينكح مشركة, وذلك غير جائز, فإنه منسوخ بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ}.
وقال بعضهم: هو وارد في نفس الوطء لا في عقد النكاح, فكأنه قال: وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك, فأما من المؤمن فلا يقع.
وهذا بعيد, فإن قوله: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ}، يقتضي تقدير كونه زانياً, وإن النكاح ممتنع إما نهياً وإما خبراً, فلا يجوز حمله على الوطء. ووطىء الزانية محرم على غير الزاني, كتحريمه على الزاني, فأقوى التأويلات أن الآية نزلت في بغايا الجاهلية, والمسلم ممنوع من التزوج بهن, فإذا تبن وأسلمن صح النكاح, وإذا ثبت ذلك, فلا يجب كونه منسوخاً.
وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي إلى أن المجلود في الزنا لا يتزوج إلا مجلودة مثله, فإن تزوج غير زانية, فرق بينهما بظاهر هذه الآية عملاً بالظاهر.
ولكن يلزمه عليه أنه يجوز للزاني أن يتزوج بالمشركة, ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك.(4/21)
وهذا في غاية البعد, وخروج عن الإسلام بالكلية, بما قال هؤلاء, إن الآية منسوخة في المشركة خاصة دون الزانية, وهؤلاء يروون عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر مثل مذهبهم, ورووا عن المقبري عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله, واستدلوا عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ - إلى قوله - مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدانٍ}, فإنه تعالى لم يبح عند الضرورة وخوف العنت إلا بشرط الإحصان, ففي حال الضرورة لأن يحرم أولى.
واستدلوا عليه أيضاً بما ثبت من وقوع الفرقة باللعان, لأنه قد أقر بأنها زنت, فإذا صح الزنا ببينة, فالمنع من تزوجها أولى.
وأما الكلام في الآية فعلى ما تقدم, وأما الأخبار فمتعارضة والقياس لا وجه له بإقرار نفسه فيما يوجب الفرقة, فلما ثبت بالإجماع أن لا فرقة في هذه الحالة, ثبت أن عند اللعان إنما تجب الفرقة لأمر آخر, إذ لو وجب لكونها زانية, لكان اعترافه بذلك فيها, كاعترافه بأنها أخته من نسب أو رضاع, في ألا ينتظر في تحريمها عليه أمر سواه.
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (القذف)
قوله تعالى: {وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحصَنَاتِ}, الآية: [4].
والإحصان يختلف معناه باختلاف مواضعه على ما شرحه الفقهاء.
والمعتبر هاهنا في إحصان المقذوف: البلوغ, والعقل, والإسلام, والحرية, والعفة من الزنا, وكثير من ذلك لا يدل عليه اللفظ.(4/22)
وليس في نفس اللفظ من طريق اللغة, إلا دلالة تخصيص الرمي بالزنا, إلا أن يشبه أن يكون المراد به ذلك, مع ما ذكرنا من الإحصان, ثم لما اجتمعت الأمة في حق المحصنة على أن معنى الرمي بالزنا, جعلوا المحصن في معنى المحصنة.
وقوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}: يدل على أن شهادة الأربعة شرط في إثبات الزنا, وليست لصفات الأربع ذكورة وعدالة وحرية ذكر, لكن الإجماع منعقد عليه, وليس في الآية رمي المرأة الرجل, ولكنها في معناه شرعاً.
واختلف الناس في التعريض بالقذف, فمالك يوجب به الحد, والشافعي وكافة العلماء على خلافه, ولا شك أن الشرع إذا علق الحد على الصريح, فالمحتمل دونه, فلا يلحق به, سيما في الحدود التي تدرأ بالشبهات.
ومن أقوى ما يتعلق به في ذلك ما قاله الشافعي, من أن التعريض بالخطبة لم يلحق بالصريح مع القرائن الدالة على مقصود المتعرض, فليكن في القذف كذلك, فإنه أولى بالسقوط بالشبهة.
وإذا ثبت ذلك, فقد اختلف العلماء في حد العبد, فقال أكثر العلماء عليه إذا قذف أربعون.
وقال الأوزاعي: بجلد ثمانين.
وعن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود, أنه قال في عبد قذف حراً أن يجلد ثمانين.
وقال أبو الزناد: جلد عمر بن عبد العزيز عبداً في الفرية ثمانين.
وقال الله تعالى:
{فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}, وفهمنا من ذلك أن حد الزنا حق الله تعالى, وأنه ربما كان أخف ممن قبلت نعم الله عليه, فحسن ممن عظمت نعم الله تعالى عليه, وأما حد القذف فحق الآدمي وجب للجناية على عَرض المقذوف, والجناية لا تختلف بالرق والحرية, وربما قالوا: لو كانت تختلف لذكرها كما ذكرنا في الزنا؟ وغاية ما يقال أن العبد منزجر عن قذف الحر أكثر من إنزجار الحر.
واختلف في حد القاذف دون مطالبة المقذوف, فقال ابن أبي ليلى:
يحده الإمام وإن لم يطالبه المقذوف.(4/23)
وقال مالك: لا يحده الإمام قبل طلبه, إلا أن يكون الإمام قد سمعه فيحده, إذا كان مع الإمام شهود عدول.
وهذا مشكل على أبي حنيفة, إذا جعله حقاً لله تعالى, فإن حق الله تعالى كيف يتوقف على طلب الآدمي, وإذا لم يسقط بإسقاطه, كيف يتوقف على طلبه؟ فهو مناقضة منهم.
واعلم أن قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَداً}, الآية: [4]: حكم من الله تعالى في القاذف بأربعة شهداء, فعلق الشرع على القذف عند إظهارالعجز عن إقامة الشهادة ثلاثة أحكام:
أحدها: جلد ثمانين.
والثاني: بطلان الشهادة.
والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب.
فقال قائلون: بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد, وهو قول الشافعي والليث بن سعد.
وقال أبو حنيفة: شهادته قبل الحد مقبولة.
والذي ذكره الشافعي ظاهر جداً, فإن الحد لا يقام عليه إلا بعد الحكم بفسقه, فأما أن يتقدم إقامة الحد الحكم بفسقه فكلا, ولا يبتدأ بإقامة الحد عليه إلا بعد ظهور عجزه, لا أن بإقامة الحد يظهر عجزه.
وبالجملة: الامتناع من إقامة الحد مع تردد الخبر بين الصدق والكذب أمثل من الحكم بفسقه والتردد في شهادته, فإن الشهادة ترد بالتهمة والشبهة, فكيف يتأتى لعاقل أن يقول ذلك.
ونقرر ذلك على وجه آخر فنقول: الموجب لرد الشهادة لا يجوز أن يكون هذا الحد, فإن إقامة الحد من فعل غيره فيه, فلا يجوز أن يؤثر, ولأنه إلى التكفير أقرب, فالحدود كفارات لأهلها.
فهذه المسألة مقتبسة من الآية.
المسألة الأخرى: أن شهادة القاذف تقبل بعد التوبة, خلافاً لأبي حنيفة.(4/24)
وظن ظانون أن هذه المسألة مبنية على أن الإستثناء إذا تعقب جملاً, هل ترجع إلى الجميع أم إلى الجملة الأخيرة؟ ومن يرده إلى الجملة الأخيرة يحتج برجوعه إليه في مثل قوله تعالى: {إلاّ آل لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهُم أجْمَعِينَ إلاّ امْرأَتَهُ} فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم, ولو قال: لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهم, فقوله إلا درهم يرجع إلى الثلاثة.
وهذه جهالة, فإن فيما قالوه إذا كان الاستثناء من الاستثناء, والاستثناء من النفي اثبات, ومن الاثبات نفي, وقد تعذر الرد إليهما على اختلافهما فيرجع إلى الأقرب, ولا خلاف في أن الاستثناء في قوله تعالى: {إنما جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْديهِم - إلى قوله - إلاَّ الَذِينَ تَابُوا} يرجع إلى الجميع ويتعلق بالكل، وكذلك في قوله: {ولاَ جُنُبَاً إلاّ عَابِرِي سَبيلٍ حَتّى تَغْتَسِلوا وإنْ كُنتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ - إلى قوله - فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}. والتَّيمم راجع إلى الجميع.
وكل ذلك مستغنى عنه. فإنا على القولين جميعاً نرى قبول شهادته بعد التوبة، فإن علة رد شهادته رميه وفسقه لا إقامة الحد عليه، لما بينا من أن إقامة الحد عليه من فعل غيره فيه، فلا يؤثر في شهادته، فهو أقرب إلى التفكير كما روى في الحدود، والتوبة إذا رفعت علة رد الشهادة وهو الفسق. دار القول. فإن المعلول لا يثبت دون العلة فاعلمه، هذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.
وعندهم أن الله تعالى قال: {والّذِينَ يَرْمُونَ - إلى قوله - ولاَ تَقْبَلُوا لَهُم} وعندهم: إن رمى قبلت شهادته، فقد خالفوا ظاهر الآية وما خالفنا.(4/25)
وظن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه تعالى لما قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، فإذا أتى بأربعة شهداء فساق فلا حد عليه، فإنه أتى بأربعة شهداء وذلك بالفساق، فلو جاء بأربعة من المحدودين والكافرين، فلا يسقط الحد عنه، وكذلك العبيد، ولا شك أن لفظ الشهداء ليس فيه هذا التفصيل فهو به متحكم، ولأنه تعالى لما قال: "فإن يأتوا بالشهداء"، يعني: إذا لم يأت بالشهداء الذين يحصل منهم الصدق، ويقبل قولهم، فأولئك كاذبون، فأما أن يجيء بأربعة لا يصدقهم الشرع في إثبات الزنا، فكيف يمكن أن يدرأ الحد عنه؟ فهذا مقطوع به، وربما بنى ذلك على أن الفاسق من أهل الشهادة، وذلك مجرد لفظ، فلا معنى إذا تبين أن الفاسق لا يجوز أن تقبل شهادته في الحدود، وإن ظهر عند القاضي بالقرائن صدقه، ولا يجوز إقامة الحد على المشهود عليه بشهادتهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.
وعند الشافعي يجب الحد على الشهود وعلى القاذف جميعاً.
ومن أعجب الأمور أنهم قالوا: العدول إذا شهدوا على الزنا متفرقين. فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يحدون.
وقال الشافعي: لا يحدون وتقبل شهادتهم، مع أنه جاء بأربعة شهداء.
الأحكام الواردة في سورة ( النور )
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [النور:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (اللّعان)
قوله تعالى: {والّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُم}، الآية: [6].
دل به على أن الأول لم يتناول الزوجات، أعني قوله: {والّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ}.
ويحتمل أن يقال إنه تناول، ولكن جعل هذا محلفاً، وأقيم لعانه مقام الشهادة، فإنه تعالى استثناه عن الشهادة.(4/26)
قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُم فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمِ}: وترتب على ذلك اللعان متى كان حجة دامغة، فمتى لم يدفع الزوج بلعانه، كان بمثابة الأجنبي الذي لا يدفع الحد بالشهادة، وإذا لم يجعل الشرع اللعان حجة، فلا فرق بين أن يقذف حرة أو أمة، أو يكون القاذف حراً أو عبداً، فإنه حجة خاصة لمكان حاجة الزوجية.
وأبو حنيفة يرى اللعان شهادة من وجه، حتى لا يصح من العبد، مع أن حقيقة الشهادة لا تعتبر، فإن الشهادة في الأصل تصديق الغير، والملاعن يصدق نفسه، فحيث لا تعتبر الشهادة ومعناها. كيف تعتبر صفتها الزائدة على معناها، فإن الشرائط تابعة للحقيقة، وهذا لا مخلص منه. وربما قال:
إن اللعان شهادة في هذا المعنى, ثم لم يوفر عليها مقتضاها, فإن شهادة الحر على الأمة الكافرة مقبوله, ثم لا يلاعن المسلم والحر زوحته الكافرة والأمة, وعند ذلك نرجع إلى أصل آخر فنقول: في اللعان معنى العقوبة فاللعان شرع قائماً مقام الحد, ولا حد على الرجل المسلم يقذف زوجة, الأمة والكافرة, ومن قبل كان يرى اللعان شهادة, والشهادة تمتنع من الرقيق تعظيماً لرتبة الشهادة, فإذا جعلهما حداً, كان شرعها باعتبار تحقيق من يلاعن, فمن عد بزنا ممن يجمع بين المتناقضين فنقول: اللعان شهادة, فلا يصح ممن لا يدلي بمنصب الحرية, ثم يحط اللعان إلى رتبة الحد المشروع إهانة للحدود, ويقال سبحان الله, عد اللعان مخلصاً وتخفيفاً من الله تعالى, فكيف يعد إهانة, وقد شرع إكراماً وإعظاماً؟
فهذه المناقضات كيف يمكن تلفيقها, ثم يرى اللعان شهادة ويقول: إنه إذا لاعن فلا حد عليها, فإن بمجرد قوله لا يمكن إثبات حد على المرأة, ثم يقول: إذا لاعن الزوج فقد حد, فإذا أكذب نفسه كيف يرجع بعد ذلك إلى إيجاب الحد عليه ثانياً, أفترى أنا نوجب الحد مرة ومرة أخرى؟ فكيف يطمع الفقيه في الجواب عن ذلك؟(4/27)
ومما قاله: إن اللعان حد, وإذا قذف الزوج وامتنع من اللعان لا يحد, بل يحبس حتى يلاعن, وإذا لاعن حبست المرأة, ولا حد عليها, فإنه لو لزمها الحد كان ذلك إيجاب الحد عليها بمجرد قوله, ثم قال:
واللعان حد, وقد وجب اللعان عليها بمجرد قوله, فسبحان الله, كيف تلفقت لهم هذه الخرافات والمتناقضات؟
{ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } [النور:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (اللّعان)
قال الله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}, الآية: [8]:
فجعل لعانها دارئاً للعذاب عنها.
وعندهم أن اللعان حد, والحد يدرأ العذاب, وهي لا عذاب عليها، وهي لا تحبس لعين الحبس, وإنما تحبس للعان, فلعانها يدرأ لعانها على هذا التقدير.
فانظر كيف توالت غلطات الخصم في فهم معنى هذه الآية, وقال: لو أتى بمعظم كلمات اللعان, قام مقام الكل, وهو خلاف القرآن, وخلاف قياس الحد أيضاً, فإنه لا يكتفي فيه بالأكثر, وإذا ثبت فساد نظر من يخالف, فنذكر ما رآه الشافعي, قال رحمه الله:
إن الله تعالى شرع اللعان, وعلمنا يقيناً أن شرع اللعان رخصه لمكان الحاجة, فلما تأملنا الحاجة, قلنا يجوز أن يكون الأصل في تلك الحاجة هي والنسب الذي يتعرض للثبوت, ولا طريق إلى نفيه إلا باللعان, فكان اللعان موضوعاً أصلياً لهذا المعنى, وإنما جوز اللعان في النكاح, مع إمكان قطع النكاح بطريق آخر, لأن الزوج لما أراد أن يعيرها ويفضحها بما صدر منها, فجعل الشرع اللعان مشروعاً في النكاح دون النسب, وهذا المقصود قريب, بالإضافة إلى مقصود رفع النسب.(4/28)
وإذا ثبت ذلك وجب شرع اللعان دون النكاح لأجل الولد, حتى إذا طلق امرأته ثلاثاً وادعت حملاً, فللزوج أن يلاعن, وعلى هذا اللعان في النكاح والوطء بالشبهة, فإن رضي الله عنه فهم أمراً آخر فقال: إذا قذف امرأته بأجنبي وسماه في اللعان, فلا حد عليه للأجنبي, فإنه صار مصدقاً شرعاً في تلك الواقعة, فصار ذلك شبهه في درء الحد عنه, فهذا نوع من القياس فهمه في موضع الرخصة لفهم خصوص الحاجة.
وأبو حنيفة, رأى أن اللعان حجة خاصة شرعت في النكاح, فلا يثبت إلا في النكاح, ولا شك أن الذي قاله إعراض عن المعنى الخاص المفهوم من وضع اللعان, على أنه ناقص من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قال: {يَا أَيّهَا النَبِيُّ إذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ}.
وقال: {وإذَا طَلّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}.(4/29)
فحكم بطلاق النساء, ثم إنه صار إلى طلاق البائنة المختلفة من غير نكاح, مع أن الطلاق من خاصة النكاح, فهلا كان كذلك, بل هذا إلى ترجيح, وذلك أنه ليس في إيقاع الطلاق على المختلفة حاجة معقولة شرع الطلاق لأجلها في الأصل, بل الحاجة التي شرع الطلاق لأجلها معدومة في حق المختلفة, فأما هاهنا, فالحاجة التي شرع اللعان لأجلها, التي لا تدفع لها إلا باللعان متحققة في النكاح الفاسد, وبعد الطلاق, فأولى بصحة اللعان. والوجه الآخر في الترجيح, هو أنا إذا شرعنا اللعان في حق المطلقة, لم يخصص ولم يناقض, وقلنا الولد بنفي اللعان دون النكاح مطلقاً, وأبو حنيفة إذا أوقع الطلاق بعد البينونة, لم يمكنه إخراج الطلاق عن كونه متعلقاً بالنكاح, فإنه لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد خلافاً لأحمد, ولا بعد البينونة وإنقضاء العدة, وإن بقيت له طلقتان عليها, واعتقد في ذلك أنا لو نفذنا الطلاق عليها, صار المحل ينقاد تصرفه فيه مبتذلاً من غير ولاية له عليه, وذلك في غاية البعد, إذا لم يكن المحل بالتصرف متأثراً, ولا يزول بالتصرف عن المحل حكم وصفه, وإذا جوزوا تصرف الأجنبي موقوفاً من حيث إن المحل لا يتأثر به, والطلاق إذا لم يكن له حكم ظاهر في المحل, فيجب أن يقع على الأجنبية, وإن هم زعموا أنه يفوت حل المحل, وذلك تأثيراً يظهر في المحل, فيقتضي هذا أن يكون حكم الطلاق الذي هو خاصية النكاح تفويت ما يستفاد بأصل الولادة, غير متعلق بالنكاح, وذلك جهل مفرط.. وعلى أن الذي ذكر من جواز الابتذال في مدة العدة, إنما يفعل إذا كان جنس العدة مقتضى ولانية, فأما إذا كان حكماً شرعياً يثبت حيث لا نكاح كالنكاح الفاسد, فلا ينبغي أن يقع به الطلاق أصلاً, وهذا كلام معترض غير متعلق بمقصودنا ولا محيص لهم عنه.(4/30)
وناقضوا أيضاً وقالوا: لو قذف امرأته وماتت بعد القذف بطلاق أو غيره, فلا حد عليه ولا لعان, وقالوا: لا ينتفي الحمل باللعان, مع أن الخبر إنما ورد في الحمل وحده.
ولما رأى الشافعي اللعان حجة خاصة قال: قذف الزوجة مثل قذف الأجنبية, لأنها محصنة عفيفة مثل الأجنبية, ويجب على غيره الحد بقذفها, ويجب عليه الحد بقذف مثلها, إلا أن الشرع جعل اللعان مخلصاً, فإذا امتنع من اللعان, كان على قياس الأجنبي يقذف الأجنبية, وهذا بين معلوم من القرآن, وإذا كان اللعان خاصاً في حق الأزواج, فالشافعي يقول:
جعله الشرع حجة وصدقة فيها, وجعل لها طريقاً إلى مدافعة حجته فقال:
{ويَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ}, فلا بد من إثبات عذاب, ولا يجوز أن يكون ذلك العذاب سجناً, فإن الحبس لا يراد لعينه, وإنما يراد لغيره, فلا بد أن يكون الحبس لطلب أمر وراء الحبس يحبس لأجله, ولا يجوز أن يكون الأمر هو اللعان, فإنها ربما كانت كاذبة في لعانها, فكيف يجوز إجبارها على اللعان, وقد قال كثير من العلماء: إن العذاب في عرف الشرع عبارة عن الحد, سيما إذا عرف بالألف واللام, وذلك ينصرف إلى المعهود, وهذا لا بأس به, وإن كان يرد عليه بأن العذاب قد لا يختص بالحد, قال الله تعالى:
{إلاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ ألِيمٌ}, ولم يرد الحد.
وقال تعالى: {لأُعَذِّبَنهُ عَذَاباً شَدِيداً}, ولم يرد به الحد.
ويهون الجواب عن كل ذلك, وليس في التقصي عنه كبير فائدة, فإن الغرض يحصل دونه.
إذا ثبت ذلك, فقد قال عثمان البتي: لا أرى ملاعبة الزوج امرأته ينقص شيئاً, وأحب أن يطلق, والذي ذكره قوي من حيث المعنى والتوقيف, إذ ليس في كتاب الله أنه إذا لاعن ولاعنت يجب وقوع الفرقة, وورد في الأخبار الصحاح, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين, وألحق الولد بالإبن.. وقال عليه الصلاة والسلام:
"المتلاعنان لا يجمعان".(4/31)
"ولو بقي النكاح إلى وقت التفريق فهما مجتمعان".
{ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور:12-13]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحدود (القذف)
قوله تعالى: {لَوْلاَ إذْ سَمِعتُمُوهُ ظنَّ المُؤمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِم خَيْراً}, الآية: [12].
إي بإخوانهم خيراً, وفيه دليل على أنه لا يحكم بالظن في مثل ذلك, وأن من عرف بطريقة الصلاح لا يعدل عن هذا لظن فيه الخبر محتمل.
قوله تعالى: {لَولاَ جاءُوا عليهِ بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}, الآية: [13].
دليل على أن الأربع حد في هذا الباب, لا يجوز أن ينقضي منه شيء.
ودليل على أن القاذف مكذب شرعاً, إذا لم يأت بأربعة شهداء، فإن كان في أمر عائشة يقطع بتكذيبهم في الغيب, وقال علماؤنا: من صدق قذفه عائشة فهو كافر, لأنه راد لخير الله تعالى الدال على كذبهم.
وعلى هذا قال أصحابنا فيمن وجد رجلا مع امرأة فاعترفا بالنكاح, أنه لا يجب تكذيبهما, بل يجب تصديقهما.
وقال مالك: إنهما يحدان ما لم يقيما بينة على النكاح, وهذا يخالف ظاهر هذه الآية, وهلى هذا بنى أبو حنيفة جواز بيع درهم ودينار بدرهمين ودينارين أنا تخالف بينهما تحسيناً للظن بالمؤمنين.
وقال الشافعي قريباً من هذا فيمن وصى بطبل وله طبلان: طبل لهو, وطبل حرب, أنه يحمل على طبل الحرب تحسيناً للظن بالمؤمنين, وحمل أمورهم على ما يجوز.
إلا أن أبا حنيفة كدر صفو هذا المعنى بإيجاب الحد على المشهود عليه بشهادة شهود الزوايا, بناء على بعد في إثبات الزنا, وهذه الآيات إلى خاتمة الآيات في قوله:(4/32)
{إنَّ الّذِينَ يُحِبُونَ أن تَشِيعَ الفَاحِشةُ في الّذيِن آمنُوا لهُم عذاب ألِيم}:
تدل على وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين, ومحبة الخير والصلاح, والزجر عن إشهار الفاحشة وإستنباطها بدقائق الحيل والحكم بالظن والحسبان.
وعلى قريب منه يدل قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وقال عليه الصلاة والسلام: "من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو شهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله".
"ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه".. رواه ابن عمر.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير".
الأحكام الواردة في سورة ( النور )
{ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور:22]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {ولاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُم والسّعَةِ}, الآية: [22].
نزلت هذه الآية في شأن أبي بكر، فإنه حلف أن لا ينفق على مسطح الذي تكلم في إفك عائشة، وذلك يدل على أن الأولى بالإنسان إذا حلف على أمر فرأى غيره خيراً منه، أن يحنث ولا يستمر على اليمين.
وفيه دليل على بطلان قول أبي حنيفة في أن الأيمان تحرم، وإن الكفارة وجبت لكون المحلوف عليه محرماً بحكم يمينه، وهذا أمر ليس في هذا المعنى, وقد قال قوم: إذا حنث فلا كفارة, وكفارته أن يفعل ما هو خير، وهذا بعيد، فإن صحيح الخبر يخالفه، فإن عليه السلام قال:
"فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".(4/33)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النور:27]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الاستئذان
قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرِ بُيُوتِكُم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا}, الآية: [27].
نقل عن ابن عباس أنه قال: قوله: {حَتّى تَسْتَأْنِسُوا} غلط من الكاتب.
ولا ينبغي أن يصح هذا عنه, فإن القرآن ثبت جميعه بحروفه وكلماته بطريق اليقين, ولا يجوز أن يضيع منه شيء بأمثال هذه الأسباب فإن الله تعالى ضمن حفظه.
إذا ثبت ذلك, قال أبو أيوب الأنصاري, قلنا: يا رسول الله, عرفنا السلام في الإستئناس.
قال: يتكلم الرجل بتسبيح أو تكبير ويتنحنح, يؤذن به أهل البيت.
وفي قراءة ابن مسعود: حتى تستأذنوا.
وقال ابن عباس: تستأذن على أمك وعلى أختك, وكل من لا يجوز أن ترى منها عورة.
وما نرى الأمر في السلام يبلغ مبلغ الوجوب, إلا أن الإستئذان لا بد منه, وهذا الاستئذان ليس له حد عرفاً, ولكن ورد في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث, فإن أذنوا وإلا فارجع.
رواه أبو موسى وأبو سعيد عن رسول الله, وفيه قصة مع عمر ذكرناها في أصول الفقه.
{ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [النور:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الاستئذان
قوله: {فإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أحَداً فَلاَ تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُم}, الآية: [28].
معناه أنه ليس يجوز أن يقول ليس فيها أحد يمنع، فالدخول مباح، بل الحظر أصل، إلى أن يرد الإذن، لأنه تصرف في ملك الغير.(4/34)
وقوله: {حَتّى يُؤْذَنَ لَكُم}، أي حتى تجدوا من يأذن لكم، وإن كان الآذن صبياً أو رسولاً فيجوز الدخول.
الأحكام الواردة في سورة ( النور )
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [النور:30]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…غض البصر
قوله تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُم}, الآية: [30].
فلم يذكر تعالى ما يغض البصر منه ويحفظ الفرج, غير أن ذلك معلوم بالعادة, أن المراد به المحرم غير المحل:
فإن قيل: فهذا الخطاب خاصة للمؤمنين, أو يدخل معهم سائر المكلفين؟
فالجواب أن ظاهره للمؤمنين, ولكن المراد به كل الناس, من حيث علم أن ما يحل من ذلك وما يحرم لا تختلف أحوالهم فيه, وغض البصر قد يجب على كل حال في أمور, وقد يجب في حال دون حال في غيرها, فما ثبت أنه عورة, فغض البصر عنه واجب, وما ليس بعورة, فيجب أيضاً كذلك, إلا لغرض صحيح, فإنه يباح عند ذلك.(4/35)
{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور:31]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها}, الآية: [31].
يعني إلا ما لا بد من النظر إليه, مثل ما يظهر من الثياب والدملج والخلخال والخاتم, والذي يتعلق بالمناظر, وما يباح منها وما لا يباح منها, يستقصى في كتب الفقه.
والمراد بما ملكت أيمانكم على المذهب الصحيح الأطفال, فأما الرجال فلا, إلا أن يكون محرماً, والظاهر يقتضي خلاف ذلك, ولكن قياس الشرع يأبى مقتضى ذلك الظاهر.
وقيل المراد بقوله: {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الإماء, حتى لا يتوهم متوهم أنهن لسن من نسائهن في قوله تعالى: {أوْ نِسَائِهِنَّ}:
واختلفوا في قوله: {غَيرِ أُولي الإرْبَة مِنَ الرِّجَال}, فقال قوم: هو العنين, وقال آخرون: هو الأبله, وقال آخرون: هو الأحمق الذي لا إرب له.(4/36)
{ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم}, الآية: [32].
ظاهره الأمر من الله تعالى بالنكاح الأيامى.
واختلفوا في ذلك, فمنهم من قال: المأمورون هم الأولياء, وهو مذهب الشافعي.
وفيه دليل على عدم استقلالهم.
ومنهم من قال: كل أحد إذا كان ولياً أو مأذوناً له.
والمقصود أنه إذا حصلت الرغبة منها وجب الإنكاح, وأنه لا يجوز العضل والمنع, وذلك يقتضي الاختصاص بالأولياء والحاكم, فإن هؤلاء الذين يجب عليهم التزويج دون الأجانب.
واستدل أصحاب الشافعي بما تعقبه من قوله: {والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم وإمَائِكُم}, وأن ذلك لما دل على سبب ولايتها, فكذلك في حق غيرها, وهذا تلقي الظاهر من اقتران المسلمين ذكراً, وذلك يدل على تساويهما حكماً من وجه آخر, وهو أن الإنكاح قد يجب في حق الأيم والبكر البالغة, إذا طلب, وليس يجب في حق العبد والأمة.
فليس قوله: {وأنْكِحُوا}, مما يمكن إجراؤه في الجميع على حد واحد, لأن منه ما يجب ومنه ما لا يجب, وهذا مما لا خفاء به, فاعلمه.
الأحكام الواردة في سورة ( النور )(4/37)
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {ولْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتّى يُغنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ}, الآية: [33].
أمرهم بالتعفف - عند تعذر النكاح - عما حرمه الله تعالى, وذلك على الوجوب.
وفيه دليل على أن إباحة الاستمتاع موقوفة على النكاح, ولذلك يحرم ما عداه, ولا يفهم منه التحريم بملك اليمين, لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المال لا يقدر على شراء الحارية غالباً.
وفيه دليل على بطلان نكاح المتعة, ودليل على تحريم الاستمناء.
1)…العتق (الكتابة)
قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيراً}.
روي عن عطاء أنه قال: ما أراه إلا واجباً, وهو قول عمر بن دينار.
واعلم أن إيجاب ذلك لا محمل له إلا التوقيف, وإلا فإجبار المالك على إزالة ملكه لا وجه له, ولا يقتضيه أصل الشرع وقياسه, لأن الكتابة بعيدة عن قياس الأصول, وتقتضي الأصول بطلانها, فيشبه أن يكون قوله: {فكَاتِبوهُم إن عَلِمتُم فِيهِم خَيراً}, رخصة في الكتابة رفعاً للحرج المتوهم, مثل قوله تعالى:
{وإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا}.
ومثل قوله: {فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وابْتًغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ}.
وكل ذلك رفع للحرج.(4/38)
وكذلك, إذا قلنا الأصل امتناع الكتابة, إلا أن الشرع أرخص فيها وجوزها بطريق الرخصة, فمطلق الأمر فيه لا يظهر منه الوجوب.
ولأن تعليقها بابتغاء العبد مما يدل على أنها غير واجبة, ولو وجبت لوجبت حقاً للشرع, غير متعلقة بابتغاء العبد.
والذي يخالف في ذلك وينصر مذهب عطاء يقول: إنما احتمل الشرع مخالفة قياس القواعد ابتغاء تحصيل العتق الذي هو حق الله تعالى, والمقصود به تفريغ العبد بحريته لطاعة الله تعالى, بعد أن كان كثيراً من أوقاته لغير حق الله عز وجل.
وإذا ثبت أن الأمر كذلك, فقد وضع الله تعالى ذريعة لتحصيل هذه المكرمة شرعاً بلفظ الوجوب.
فمخالفة قياس الأصول كانت لتعظيم أمر الحرية, فمن أين مبعث الوجوب؟
نعم في قوله تعالى: {وإذَا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا}, و {فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فانْتَشِرُوا}, كل ذلك لغرض غير غرض الشهادة وغير مقصود الشرع, وهاهنا هذا فيه تحصيل الحرية, فاحتمل فيه ما احتمل من مخالفة قياس الأصول لهذا المعنى, حتى جعل له في الزكاة قسط, ولم يجعل ذلك إلا ليتوصل به إلى الحرية, وأوجب كثير من العلماء فيه التأجيل إرفاقاً بالعبد, فكان هذا الإرفاق مقصود الشرع بلفظ الأمر الدال على الوجوب, فما الذي منع من وجوبه؟
يبقى أن يقال: ولو كان واجباً لما توقف على ابتغاء العبد.
قالوا: إذا لم يتمكن العبد, فإجباره على الإضرار بنفسه لا وجه له, وإن كان العبد قادراً على الاكتساب, فلا شك في أنه لا يقصر في حق نفسه في سعي الكتابة, فبنى الشرع على الغالب, ونظيره أن الشرع أوجب الطهارة لدخولها في محاسن الأخلاق, وتحقيقاً لمقصود النظافة والوضاءة وإحياء لمراسم العبادة, وعلم الشرع أن إيجابها عند تغيير الأكوان يجر حرجاً, فوضع مراسم تفي بالمقصود.. كذلك هاهنا.(4/39)
وهذا الذي ذكروه لا وجه له, فإن الترغيب فيه ليزيل عن القلوب ما فيها من منافاة قياس الأصول, ولو وجبت الكتابة لوجبت لمقصودها, وهو العتق, كالطهارة لما وجبت وجبت للصلاة, والعتق لا يجب بالإجماع.
ولا يتحتم بالاتفاق.
وقولهم إنها أوجبت ذريعة فضرب من الهذيان, فإن السيد قادر على استكساب العبد دون الكتابة, فليس يتجدد له بالكتابة حق.
وفيه إزالة ملكه من غير أن يحصل على مقابل له, فهذا تمام ما يستدل به على نفس الوجوب.
ثم قال تعالى: {وآتُوهُم مِنْ مَالِ اللهِ الّذي آتاكُم}, الآية: [33].
قال الشافعي: ثم أمر من يكاتب بالإيتاء, ولا يتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء, ولا يمكن حمله على الزكاة, فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة إلى عبده إجماعاً.
ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط, لأنه ليس بإيتاء للمال, وإنما يدل عليه من حيث المعنى, لأن قوله: {مِنْ مَالِ اللهِ الّذي آتاكُم}, لا بد أن يحمل على ملك تجدد بعد الكتابة, وصار مالاً مستحقاً للسيد, فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه.
وقال إسماعيل بن إسحاق في الرد على الشافعي: كيف تكون الكتابة ندباً والإيتاء واجباً؟ وإذا تبرع به لزمه أحكامه وتوابعه والقضايا المتعلقة به؟ ومعلوم أن النكاح غير واجب, وإذا نكح وجب فيه أحكام لها, وإذا طلق فلها المتعة واجبة على الزوج.
ومما ذكر أن إطلاق مال الله تعالى لا يقتضي إلا الزكاة, ومال الله تعالى في عرف الشرع لا يفهم منه إلا الزكاة, وما عداه لا يضاف إلى الله تعالى بحكم الإطلاق, وقد قسم الله تعالى الحقوق إلى ما يضاف إلى الله عز وجل, وإلى ما يضاف إلى الآدمي, وإن كان الكل حقاً لله تعالى.
والجواب أن هذا لما وجب بحق الله تعالى, ولغرض الحرية, وحسن أن يقال: مال الله تعالى, لأنه قصد به وجه الله عز وجل وتحصيل ثوابه.(4/40)
وربما قالوا: إن السيد لا يستحق على المكاتب مالاً, حتى يصح أن يقال في الحط, إنه مال آتاه السيد, إنما كان مستحقاً له, فأما ما ليس مستحقاً له فلا يقال فيه توهم ما يملكه ويستحقه, فإذا لم يكن دين المكاتب مستحقاً عليه, فمن أي وجه يوصف السيد بأنه آتاه مالاً, وما آتاه شيئاً ملكه, ولا شيئاً استحقه.
ويجاب عنه بأنه يجوز أن يطلق ذلك, إذا كان المال ينساق إليه, فكأنه آتاه ماله من حيث إنه ينساق إليه.
وبالجملة, قوله: {وآتوهُم من مالِ اللهِ الذِي آتاكُم}، مجاز في الحط من وجوه بينة وحقيقة في الزكاة, وقوله: {فَكَاتِبُوهُم إنْ عَلِمْتُم فِيهِم خَيْراً وآتُوهم}, حقيقة أنه خطاب للسادة الذين يكاتبون, مع أنه يجوز أن يحمل على وجه آخر بطريق المجاز, فلم يسلم كل واحد من المحملين على مجاز, فإن كان كذلك, فلا يظهر مذهب الشافعي من حيث التعلق بالظاهر, ويتجه للشافعي أن يقول: إيتاء المكاتب الصدقات فهم من قوله تعالى: {وفي الرِّقَابِ}، فهذا لا بد أن يكون له فائدة زائدة, تشهد له أن ما آتاه الواحد منا, يجب أن يكون على وجه إذا حصل عند المعطى يتصرف فيه, ولم يحصل للسيد عليه بدلاً يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه, ولو كان الإيتاء واجباً, لكان وجوبه متعلقاً بالعبد, ويكون العبد هو الموجب وهو المسقط وذلك مستحيل, لأنه إذا كان العبد يوجبه وهو بعينه يسقطه, استحال وجوبه, لتنافي الإيجاب والإسقاط.
وبالجملة, ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط, ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب الشافعي من مسألة الإيتاء, ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة, وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات.
واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية, فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة, فحل ذلك محل الصلاة والصيام.
ثم اختلفوا بعد ذلك, فمنهم من قال: يعقل من ظاهرها التأجيل: إذا لم يكن شرطاً فيها لم تكن كتابة.(4/41)
وقال بعضهم: بل لا يعقل ذلك من الظاهر, وهذا أظهر, فإن الشيء قد يُكتب ولا تأجيل فيه, كما قد يكتب وهناك تأجيل, فالظاهر لا يدل على ذلك, وقول من يقول إنها تجوز حالة, وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجسة موقوف على الدليل, لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه.
واختلفوا في صورة الكتابة, فقال بعضهم: يكفي أن يكاتبه على دراهم معدودة فيعتق بالآداء في وقته.
وقال بعضهم: بل لا بد أن يقول: فإذا أديته إلي فأنت حر, ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة, لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح, فتحريره له تعلق بصفة تصح, فلا بد من ضم ذلك إليه.
ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة, لأنا لو خلينا العقل, لكان يبطل, لأنه أزال ملكه بملكه, إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى, لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص, لم يبلغ حد الملك, ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص.
وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه.
1)…الحدود (الزنا)
قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُم عَلَى البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصناً}, الآية: [33].
روي عن جابر في سبب نزول الآية, أن عبدالله بن أبي بن سلول كانت له جارية يكرهها على الزنا.
والعبرة بمطلق اللفظ, فتدل الآية بمطلقها على تحريم الإكراه على الزنا, وعلى تحريم أخذ البدل, وهو المراد بنهيه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي, وتدل على أن الإكراه يصح في الزنا فيما يحصنها, لأنه مفعول فيها, فعلى كل الأقاويل يجوز أن تكره عليه, ويدل على أنها إذا أكرهت فلا إثم عليها, فإن الله تعالى قال: {فإنَ اللهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, الآية: [33].
فإن قيل: فإذا لم يكن عليها إثم لمكان الإكراه, فما الذي يغفر؟ فجوابها أن يقول:(4/42)
لما كان لولا الإكراه لكان عليها إثم في ذلك, زال الإثم لمكان الإكراه, وبين أن دخول الإكراه فيه هو الذي أزال عقابه, ولذلك ألحقه بباب ما يغفر, وهذا كما قال الله سبحانه في تناوله الميتة بلا إثم للمضطر: {فإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم}.
{إنْ أَرَدْنَ تَحَصناً}:
إنما ذكر تصوير الإكراه, لأن الإكراه لا يتصور إلا مع بذلها نفسها, فذكر إرادة التحصن تصوير الإكراه.
قوله تعالى: {وإذَا دُعُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُم إذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُون}, الآية: [48].
فيه دليل على أن من ادعى على غيره حقاً ودعاه إلى الحاكم, وجبت عليه إجابته والمسير معه إليه, وعلى الحاكم أن يعد به عليه.
الأحكام الواردة في سورة ( النور )
{ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صلاةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [النور:58-59]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الاستئذان
قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم والّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُم}, الآية: [58].(4/43)
قال المفسرون: هذا في الإماء, فأما في العبيد فلا, لأنه ذكر بلفظ مذكر, بناء على لفظ المماليك المتناول للرجال والنساء, ولو حملناه على العبد البالغ, استوى في وجوب الاستئذان هذه الأوقات وغيرها, من حيث يحرم عليه أن ينظر إلى عورة سيده وبدن سيدته, ولو حمل على ما دون البلوغ, حصلت فائدته في قوله: {والّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ}, إلا أنه يقال بين إتفاق حال الفريقين في ذلك, ودل على صحة ذلك بقوله: {وإذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَما اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم}, الآية: [59].
ذكر إسماعيل بن إسحاق ان ابن عباس كان يقول: "ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم" وذلك يوافق ما قلناه.
وروى أن نفراً سألوا ابن عباس عن هذه الآية فقال: إن الله غفور رحيم, رفيق بالمؤمنين, يحب السترة, وكان الناس لا سترة لبيوتهم, فربما دخل الخادم أو اليتمية, والرجل مع أهله في الخلوة, فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات.
وإنما خص الله تعالى في هذه الأوقات, لأنها في الغالب يخلو فيها المرء بأهله, ولذلك قال: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُم}، فنبه به على أنها أوقات تكشف العورة فيها وفي مثلها, لا يجوز لمن ليس ببالغ أن يدخل ويهجم.
فأما في سائر الأوقات, فالعادة أن يكون المرء مستتراً عادلاً عن التكشف, فجائز للخدم والصغار أن يدخلوا بلا إذن, لأنه كالمحتاج إليهم من حيث لا يستغني عنهم في خدمة الدار, ولذلك وصفهم الله تعالى بأنهم: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم} كما قال عليه السلام في الهرة: "إنها من الطوافين عليكم" لما صعب التحرز منها.
ولو جرت عادة تقوم بالتكشف في غيرها من الأوقات, فذلك الوقت كهذه الأوقات في منع من لم يبلغ الحلم من الدخول بلا إذن, ولو جرت عادة قوم في الأوقات الثلاثة بالتستر, فالأوقات الثلاثة كغيرها.(4/44)
{ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } [النور:60]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
قوله تعالى: {والقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} الآية: [60].
وعنى به الكبيرة السن, وجوز لها أن تضع الرداء أو اللحاف أو الخمار, قال ابن عباس:
المراد به الجلباب من فوق الخمار, ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عرة, لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها, فالعجوز والشابة سواء, وإن كان بين الناس, فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا نفس الخمار, لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية, ومع الخمار قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف, فإبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات, لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة, فلذلك قال في أخره: {وأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَهُنَّ}.(4/45)
{ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [النور:61]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الزَّمنى
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ}, الآية: [61].
روى إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن المسيب, أن هذه الآية نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيحهم مع الأعمى والأعرج وعند الأقارب, وكانوا يأمرونهم بأن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك, وكانوا يتقون الأكل خشية أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة, فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى أيضاً, أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل, عزلوا الأعمى والأعرج والمريض كراهة أن يصيبوا من الطعام ما يصيبون, فأنزل الله تعالى هذه الآية.(4/46)
وذكر الحسن أن المراد به رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في باب الجهاد, وأن قوله: {وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُم}, الآية: [61]. كلام مستأنف, فقد كان أحجهم لا يحلب ناقة إلا أن يجد من يشرب من لبنها, ولا يأكل في بيت أحد تكرماً, فأنزل الله تعالى هذه الآية, وهو الذي اختاره الأكثرون, ويحمل قوله: {وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُم} على أن ذلك كان رخصة في الأول, وأباح تعالى الأكل من مال من ذكره, وأباح أن يأكلوا من البيوت التي مفاتيحها في أيديهم, وبيوت أصدقائهم دون إذن, حضروا أم غابوا, ثم نسخ ذلك بما ظهر في الشرع, من أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه, ودل على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيِّ إلاّ أَنْ يُؤذَنَ لَكُم إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنّاهُ}, وقد كان في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من كان لهن الآباء والإخوان, فلما عم بالنهي علم به النسخ.
فإن قيل: فما الذي يليق بالظاهر؟ فجوابنا أنه يبعد أن يكون المراد به: ليس على الأعمى حرج, إلا ما يتصل بالأداء, لأنه رفع الحرج والجناح عنه, ثم إنه ذكر بعد ذلك أمراً مخصوصاً, فوجب حمله على ذلك الأمر, فأما قوله تعالى: {وَلاَ على أَنْفُسِكُم أنْ تأكُلُوا مِن بُيُوتِكُم}, فلعل الأولى من الأقوال, أنه ورد فيمن كان يأذن ويشح من هذه الطائفة, وكان القوم يتوقون لبعض هذه الوجوه التي رويناها, فبين الله تعالى أن إباحة ذلك إن كان وارداً مع طيب النفس, لا وجه للنسخ فيه.
فإذا قيل: فإن كان كذلك, فلم إذا خصصهم بالذكر, وعند الإذن وطيب النفس الكل سواء؟(4/47)
فالجواب أنهم خصوا بالذكر, لأنهم كانوا يتقدمون عند السفر والغزوات إلى أقربائهم, وإلى من خلفوهم من الزمنى والعرجي والعميان, أن يأكلوا من منازلهم, فنزلت الآية على هذا السبب, فلذلك خصوا بالذكر.. فأما حمله على أن ذلك يحل بلا إذن فبعيد.
ودل بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ اشْتَاتاً} على أمور:
منها أنه يحل للجماعة أن يجتمعوا على طعامها, وإن كان أكلها من ذلك الطعام يتفاضل, وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم, من حيث إنهم لا يستوون في قدر ما ظهر من الطعام, ثم يتفاضلون في الأكل, فأباح الله تعالى ذلك.
ومنها: أن مؤاكلة من يقصر أكله عن أكل الباقين, لأن الأعمى إذا لم يبصر, فلا يمكنه أن يأكل أكل البصير, فأباح الله تعالى ذلك, وأباح انفراد المرء عن الجماعة في الأكل, ويجوز أن يظن ذلك مستقبحاً في الشرع كما يستقبحه أهل المروءة.
الأحكام الواردة في سورة ( النور )
{ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [النور:61]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السَّلام(4/48)
قوله تعالى: {فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُم}, الآية: [61].
حمله الحسن على سلام البعض على البعض, لما فيه من البركة والدعاء الصالح وتآلف القلوب.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن جماعة, أن المراد به أن يسلم المرء على نفسه إذا لم يكن هناك غيره يسلم عليهم, ومن السنة أن يقول:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, وهذا أليق بالظاهر.
ولا خلاف في أنه لو كان في الدار غيره, صرف السلام إليه, وليس في الظاهر تخصيص, وذلك يقوي قول الحسن.
وفيه وجه آخر: وهو أن السلام بالشرع صار كالمخاطبة.
وقال الفقهاء في تسليم الرجل في الصلاة: أنه يجب أن ينوي من خلفه إن كان إماماً أو ينوي الملائكة أو الحفظة, ومعلوم أن المرء قبل دخول البيت هو مندوب إلى أن يسلم على نفسه فيقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, لأنه كالدعاء, مما يجرى فيه الخطاب.
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور:62]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…طاعة الرسول
2)…الجهاد
قوله تعالى: {إنّما المُؤْمِنُونَ - إلى قوله - وإذا كانًوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوه}, الآية: [62].
يدل على أن من الايمان أن يستأذنوا الرسول في الإنصراف عنه في كل أمريجتمعون معه فيه, وقد روى مجاهد, أن المراد به الجمعة والغزو.
وقال الحسن: الجمعة والأعياد وكل ما فيه خطبة.(4/49)
ثم خير الله تعالى رسوله في اختيار من يغزو معه, وبين أن الذي ينعته رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له أن يتخلف ويحيل على غيره.
والذي يشهد به الظاهر, أن كل أمر جامع للرسول عليه السلام فيه غرض, فليس لهم أن ينصرفوا عنه ما دام الغرض قائماً, ويدخل فيه الغزو والجماعات, ولكن هذا الأمر هو أخص بالغزو, فإنهم قد كانوا يتفرقون عنه من غير إذنه, فيؤثر ذلك في الغرض المطلوب, فمنع الله تعالى من ذلك, وبين أن الأمر في انصرافه موقوف على إذنه بقوله: {لِبَعْضِ شَأْنهِمِ}، على أنه لا يجوز لهم أن يستأذنوا, إلا إذا عرضت لهم حاجة تقتضي ذلك, لأنه إذا لم يكن لهم حاجة, فملازمة الرسول أولى.
وفيه دلالة على ما يلزم من أدب الدين, وأدب النفس, فمن هذا الوجه قال الحسن:
لا فرق بين الرسول والإمام فيما يلزمهم من ذلك ولا يمنع من حيث تضمن هذا الظاهر أدب النفس أن يكون الأولى بالمراد:
إذا اجتمع جمع لخير أن لا يتفرق عنهم إلا بإذن, لما في تفرقته من اختلال ذلك الأمر المطلوب, والإجتماع عليه أقرب إلى التعاون على التقوى..
وقوله تعالى: {واسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللهَ}, يدل على أن الرسول عليه الصلاة السلام لا يحل له أن يستغفر إلا لمن تكامل إيمانه, لأنه شرط فيه تقدم فيما ذكرناه.
ويحتمل أن يراد به أن من أذن له في مفارقة الجهاد لبعض شأنه, يكون في الظاهر مقصراً أو متأخراً في الفضل عن غيره, فأمر الله تعالى نبيه أن يستغفر لهم, ليكون إستغفاره جبراً لهذا النقص, فلا ينكسر عند ذلك قلب هذا المتأخر عن الجمع.
{ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(4/50)
1)…الأتّباع
قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُم كَدعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً}, الآية: [63].
فالمروي عن ابن عباس أنهم كانوا يقولون:
يا محمد, يا أبا القاسم, فنهاهم الله تعالى عن ذلك وقال:
قولوا: يا نبي الله, يا رسول الله, وهو المروي عن عكرمة والضحاك, وحمله مجاهد على خفض الصوت والتواضع, وهو معنى قوله تعالى:
{إنَّ الّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُم عِنْدَ رَسُولِ اللهِ}...
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}, الآية: [63]:
أراد به ذكر ما تقدم من تسللهم, وذلك يدل على وجوب امتثال مطلق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بيناه في أصول الفقه.
الأحكام الواردة في سورة ( الفرقان )
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } [الفرقان:48]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
قوله تعالى: {وأَنْزَلْنَا مِنَ السّماءِ ماءً طَهُوراً}, الآية: [48].
قال قائلون: وصف الماء بأنه طهور, يفيد أنه يصلح للتطهير, وأنه يقع به هذا الحكم, كقولهم فطور وسحور إذا صلح لذلك.
وقال آخرون: إنه يفيد المبالغة في التطهير, والمعنى بيّن.
ولا اختلاف أن للماء هذا الحكم, إذا كان على خلقته وهو ينزل من السماء, فما دام على نعت المنزل من السماء وفي قرار الأرض, فهو طهور ومطلق.
وإذا خالفه غيره, انقسم المخالط أقساماً: فمنه ما يكون نجساً, ومنه ما يكون طاهراً.
وإذا كان المخالط نجساً, فمالك لا يحكم بنجاسة الماء, ويبقيه على حكم وصفه الأصلي.
وأبو حنيفة يقول: ما دام يتوهم خلوص النجاسة إلى الماء الذي يغترف منه, فلا يجوز التوضؤ به.
والشافعي يقول: يعول على القلتين, وبعد ذلك لا يؤخذ من الظاهر, وإنما يؤخذ من المعنى.. وبعضه مأخوذ من الظاهر.(4/51)
والماء المستعمل مختلف فيه بين العلماء, فالظاهر يقتضي جواز التوضؤ به, والقليل من النجاسة لا يمنع من إطلاق اسم الماء عليه لغة, ولكن امتناع التوضؤ به لدليل آخر.
ومتى قيل: فالماء إذا جعل طهوراً, فهو يطهر ماذا؟
قيل: إنه يطهر على وجهين:
أحدهما: طهارة الأحداث.
والثانية: الجنب.
فأما طهارة الحدث, فصريان غسل ووضوء, ولكل واحد منهما سبب, فسبب الغسل الجنابة والحيض والنفاس, ويتبع الجنابة التقاء الختانين وإن لم ينزل.
وأسباب الوضوء مستقصاه في كتب الفقه مع ما فيها من إختلاف العلماء.
واختلف الناس في الماء, هل خص بالتطهير في الأنجاس كلها؟
فمنهم من قال ذلك.
ومنهم من قال غير قوله.. وشرح ذلك في كتب الفقه.
والذي يجوز إزالة النجاسة بغير الماء, ليس يجوزه بطريق القياس على الماء فقط, فإن من الممكن أن يقال إن التعبد بإزالة النجاسة, فإن لم تكن نجاسة زال محل التعبد, ولأجل ذلك صار داود مع نفي القياس إلى إزالة النجاسة بغير الماء, لا قياساً لغير الماء على الماء, لكن لزوال محل التعبد, فهذا تمام هذا الفن.
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [الفرقان:54]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً}, الآية: [54].
يدل على أن الله سبحانه جعل الماء سبب الإجتماع والتآلف والرضاع والخقونة.
وفيه إشارة إلى المحرمات بالسبب والنسب, وأن كل ذلك تولد من الماء.
وفيه دليل على أن حرمة المصاهرة تثبت بطريق الكرامة لا بطريق النقمة والعقوبة, ولذلك قال الشافعي: لا يتعلق بالزنا وتحريم المصاهرة.
الأحكام الواردة في سورة ( الشعراء )
{ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } [الشعراء:84]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(4/52)
1)…حسن الأحدوثة
قوله تعالى: {واجْعَلْ لي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِين}, الآية: [84].
فنبه على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل.
{ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } [الشعراء:224]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشعر
قوله عز وجل في حق الشعراء:
{والشعَراءُ يَتّبِعُهُمُ الغَاوُونَ}, الآية: [224].
فيه دليل على كراهة اللهج بالشعر في مدح أو قدح، من غير أن يحقق معناه؛ لاكتساب مال.
الأحكام الواردة في سورة ( النمل)
لا توجد أحكام فى المصدر للسورة الكريمة
الأحكام الواردة في سورة ( القصص )
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [القصص:27]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {إنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ايْنَتَيّ هَاتَيْن}, الآية: [27].
فيه دليل على جواز جعل منافع الحر صداقاً شرعاً.
{ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص:55]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السَّلام
قوله تعالى: {وإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ - إلى قوله - سَلاَمٌ عَلَيْكُم}, الآية: [55].
هو سلام متاركة, وليس بتحية, ومثله قوله:
{وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}.
وقوله تعالى: {واهْجُرْني مَلِيّاً}.
قال إبراهيم: {سَأسْتَغْفِرُ لكَ ربّي}.
ومن الناس من اقتبس منه جواز مفاتحة الكفار بالسلام, وليس كذلك, لما وصفنا من أن السلام يتصرف إلى معنيين.
والمراد به هاهنا, معنى المتاركة.(4/53)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكفار:
"لا تبدؤوهم بالسلام, فإن بدؤوكم فابدؤوهم, وأنه إذا سلم عليكم أهل كتاب فقولوا: وعليكم".
الأحكام الواردة في سورة ( العنكبوت )
{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…بر الوالدين
قوله تعالى: {ووَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيهِ حُسْناً}, الآية: [8].
قد ذكرنا من قبل ما يتعلق ببر الوالدين.
{ اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ}: الآية: [45].
روى ابن عباس وابن مسعود: تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وقال ابن مسعود: الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها.
وإنما قيل: تنهى عن الفحشاء والمنكر, لاشتمالها على أفعال وأذكار لا يتخللها شيء من أمور الدنيا, ولا فرض هو بهذه المنزلة, فهي تنهى عن المنكر وتدعو إلى المعروف, بمعنى أن ذلك مقتضاها.
قوله تعالى: {ولَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ}, الآية: [45].
قال مجاهد: لذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم له بطاعته.
{ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَالهنَا وَالهكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت:46](4/54)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…مجادلة الكتابيين
قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالتي هي أَحْسَنُ} الآية: [46].
قال قتادة: نسخها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِين}, وقوله: {وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ}:
قوله تعالى: {إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}, الآية: [46]:
يعني إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم, وهو نحو قوله تعالى: {ولاَ تقاتلوهُم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقَاتِلُوكُم فيهِ فإنْ قَاتَلُوكُم فاقْتُلُوهُم}.
وقال مجاهد: إلا الذين ظلموا منهم: مانعي الجزية.
وقيل إلا الذين ظلموا منهم: بالثبات على كفرهم بعد إقامة الحجة.
الأحكام الواردة في سورة ( الروم )
{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم:39]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الرِّبا
قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَا في أَمْوالِ النّاسِ}: الآية: [39].
في معناه: أن تهب الشيء تريد أن تثاب عليه بما هو أفضل منه, فذلك الذي لا يربو عند الله تعالى, ولا يؤجر صاحبه عليه ولا إثم فيه.
{وَمَا آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وجْهَ اللهِ}, وهو الرجل نعطي ليثاب عليه.
وعن عكرمة, قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَا في أَمْوالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِندَ اللهِ}.
الربا ربوان: ربا حلال وربا حرام, فأما الربا الحلال: فهو أن تهدي هدية تلتمس بها ما هو خير منها.
وروى زكريا عن الشعبي في قوله تعالى:
{وَمَا آتَيْتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَا في أَمْوالِ النّاسِ}, قال: كان الرجل يسافر مع الرجل, فيجعل له من ربح ماله ليتجر له بذلك.(4/55)
وعن الضحاك في هذه الآية: أن الربا الحلال كالرجل, يهدي ليثاب بأفضل منه, فذلك لا له ولا عليه, ليس فيه أجر لا عليه فيه إثم.
وروى منصور عن إبراهيم في قوله: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِر}, قال: لا تعطى لتزداد.
الأحكام الواردة في سورة ( لقمان )
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [لقمان:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…معنى (لهو الحديث)
قوله تعالى: {ومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الحَدِيثِ}, الآية: [6].
قال ابن عباس: هو الغناء, والله الذي لا إله إلا هو يردها ثلاث, ومثله عن مجاهد وزاد فيه: هو الغناء والاستماع إليه.
وقال الحسن: هم الكفر والشرك, وأنهم يضلون عن سبيل الله بغير علم.
وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى به أهل الباطل واللعب, وذلك أن المعنيّ بذلك, النضر بن الحارث, الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه قد كان يشتري كتباً فيها أحاديث الفرس, فكان يتلهى بها في مجالسهم ويجعلها كالمعارضة للقرآن.
وهذ الأقوال أليق بالظاهر, لأن الغناء لا يطلق عليه الوصف بأنه حديث ولا إضلال, وإنما يطلق ذلك على الأحاديث الكاذبة الجارية مجرى القدح في القرآن, على ما روي فيما كان يتعاطاه النضر بن الحارث, فمن هذا الوجه يدل على أن الاقدام على كل قوم بغير علم لا يحسن, لأن الله تعالى قبح ذلك من حيث إنه كان إقداماً بغير علم.
{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان:14]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…بر الوالدين
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}, الآية: [14].(4/56)
بيناه في مواضع.
1)…أقل الحمل
قوله تعالى: {وَفِصالُهُ في عَامَيْنِ}, الآية: [14].
وفي آية أخرى: {وَحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}.
فنحصل من مجموع الآيتين أن الحمل أقله ستة أشهر.
فاستدل به ابن عباس على مدة الحمل, واتفق أهل العلم عليه.
الأحكام الواردة في سورة ( لقمان )
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [لقمان:15]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (الإجماع)
قوله تعالى: {واتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ}, الآية: [15]. مثل قوله: {وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}. إلا أن دلالة هذا على الإجماع أبعد لأن وصية لقمان لابنه لا تقتضي الاحتجاج بالإجماع.
{ يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [لقمان:17]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصَّبر
قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وأْمُرْ بِالمعْرُوفِ وانْه عَنِ المُنْكَرِ، واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}، الآية: [17], من الناس في الأمر بالمعروف، فظاهره يقتضي وجوب الصبر.
{ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [لقمان:18]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الكِبرْ
قوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ}، الآية: [18], نهي عن التكبر.(4/57)
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )
{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [الأحزاب:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الظهار
2)…التبني
قوله تعالى: {الّلائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمّهَاتِكُم}, الآية: [4]:
أبان الله تعالى أنها لا تصير أمه بمجرد قوله, وألزمه تحريماً غايته الكفارة.
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُم أَبْنَاءَكُم}, الآية: [4].
قيل: نزلت في زيد بن حارثة, وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه, فكان يقال له: زيد بن محمد, وهذا يدل على نسخ السنة بالقرآن, لأن الحكم الأول ثابت بغير القرآن ونسخه بالقرآن.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ}, الآية: [4].
يعني أنه لا حكم له, وإنما هو قول لا معنى له ولا حقيقة.
{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التبني
قوله تعالى: {ادْعُوهُم لآبَائِهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْد اللهِ فإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم فَإخْوَانُكُم في الدِّينِ وَمَواليكُم}, الآية: [5].
فيه إباحة اطلاق الأخوة، وحظر اطلاق اسم الأبوة من غير جهة النسب.
قوله تعالى: {ولَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ}, الآية: [5]:
قال قتادة: معناه أنك لو دعيت رجلاً لغير أبيه, وأنت ترى أنه أبوه, ليس عليك بأس.(4/58)
وسمع عمر رجلاً يقول:
اللهم اغفر لي خطاياي, فقال استغفر الله في العمد, فأما في الخطأ فقد تجوز عنك.
وكان يقول: ما أخاف عليكم الخطأ, وإنما أخاف عليكم العمد.
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } [الأحزاب:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الوصايا
قوله تعالى: {إلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيَائِكُم مَعْرُوفاً}, الآية: [6].
أنزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني.
وعن الحسن قال: أن تصلوا أرحامكم.
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } [الأحزاب:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
قوله تعالى: {النّبِي أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم}, الآية: [6].
معناه ما قاله عليه الصلاة والسلام: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه, وأيما رجل مات وترك دنيا فإلي, وإن ترك مالاً فهو لورثته".
وقيل في معنى: {النّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ}, أنه أحق أن يختار ما دعاه النبي عليه الصلاة والسلام إليه من غيره, وما تدعوه أنفسهم إليه, وهو أحق بأن يحكم على الإنسان في نفسه, لوجوب طاعته المقرونة بطاعة الله عز وجل.
1)…النكاح
قوله تعالى: {وأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُم}, الآية: [6]:(4/59)
يحتمل أن يكون بمعنى الاجلال والتعظيم، والثاني: في تحريمه نكاحهن، وليس لأنهن كالأمهات في القضايا كلها، ولا يجعلن أخوات للنساء، ولا إرث لهن منا ولا محرمية.
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب:21]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة}, الآية: [21].
يحتج به بعض الناس في وجوب التأسي بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [الأحزاب:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النّبِي قُل لأزْوَاجِكَ إنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا}, الآية: [28].
ظاهر الآية التخيير بين الدنيا والآخرة والله ورسوله, وليس فيه ذكر الطلاق.
وقد قال قوم: إنه كناية عن التخيير للطلاق على شرائطه, ولذلك قالت عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأته قالت: خيرنا رسول الله وكان طلاقاً.
وفي بعض الأخبار: ما خيرناه فلم يعد طلاقاً.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور به, وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: أنا ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك, فقالت: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا على الآخرة, فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة وفي النكاح.(4/60)
واعلم أن اختيارهن الدنيا وزينتها وإرادتهن الطلاق, لا يجوز أن يكون صريحاً في الطلاق, ولا كناية, وإنما ذلك إرادة المفارقة, فكان القياس أن الزوج يطلقها إن شاء, غير أن الطلاق لا بد أن يكون مستحقاً واجباً, إذ لو لم يكن مستحقاً واجباً ما كان للتخير معنى, فإذا تبين أن ذلك طريق خلاصهن, فوجوب الفراق لا محالة يقتضي بتخييره, فإن النكاح صار مستحق الرفع وهذا بين.
{ يانِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [الأحزاب:30]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجزاء من جنس العمل
قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النّبِيِّ مَنْ يَأتِ مِنكُنَّ بَفَاحِشةٍ مُبَيّنَةٍ}, الآية: [30].
فيه وجهان, أحدهما: أن تضعيف عذابهن لتضاعف نعم الله تعالى عليهن, ولذلك قال:
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ والحِكْمَةَ}, الآية: [34].
وهذا لا نقطع به, فإن مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام, يجوز أن تكون سبباً في تخفيف العقوبة عنهن والتجاوز عن سيئاتهن, فالحق هو الوجه الثاني, وهو عظم الضرر في جرأتهن يإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ}.
{ يانِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [الأحزاب:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء (صوت المرأة)
قوله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ}, الآية: [32].(4/61)
يريد تلييناً للقول يطمع أهل الريب.
وفيه دليل على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال.
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [الأحزاب:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء (صوت المرأة)
قوله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ}، الآية: [33].
قيل لسوده بن زمعة: لم لا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ فقالت: والله لقد حججت واعتمرت، ثم أمرني الله تعالى أن أقر في بيتي، فوالله ما أخرج من بيتي، فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها.
قوله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَةِ الأُولَى}, الآية: [33].
أي المشي على تكسر وتغنج وإظهار المحاسن للرجال.
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [الأحزاب:36]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم}, الآية: [36].
وذلك يدل على أن أوامر الله تعالى ورسوله على الوجوب.
وقال الله تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ}، وذلك يؤكد ما تقدم.(4/62)
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [الأحزاب:37]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (القياس)
2)…النكاح
3)…خطاب النبي، خطاب الأمة
قوله تعالى: {فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنيِنَ حَرَجٌ}, الآية: [37].
دلت الآية على أحكام عدة منها:
الإبانة عن علة الحكم في إباحتة ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام, وأن ذلك قد اقتضى إباحته للمؤمنين, فدل ذلك على إثبات القياس في الأحكام, واعتبار المعاني في إيجابها.
والثاني: أن النبوة من جهة النبي عليه الصلاة والسلام لا تمنع جواز النكاح.
والثالث: أن الأمة مساوية للنبي عليه الصلاة والسلام في الحكم, إلا ما خصه الله تعالى, أخبر أنه أجاز ذلك للنبي ليكون المؤمنون مساوين له فيه.
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )
{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الأحزاب:42]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرةً وأَصِيلاً}, الآية: [42]:
يعني صلاة الصبح والعصر.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [الأحزاب:49](4/63)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
2)…الطلاق
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُم طَلّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}, الآية: [49].
يدل على أن لا طلاق قبل النكاح، فإنه رُتِّب عليه بكلمة ثم.
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب:50]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النّبِيُّ إنّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}, الآية: [50].
فيه دليل على إباحة الأزواج لرسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً, وتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا مهر أو بلفظ الهبة, إلا أن التعري عن المهر أظهر من لفظ الهبة, لأنه فسوق على قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}, وذلك المهر, ثم قال: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعكَ}.
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )(4/64)
{ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } [الأحزاب:51]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}, الآية: [51].
قال أبو رزين: في هذه الآية المرجئات: ميمونة, وصفية وسودة, وجويرية, وأم حبيبة.
وكانت عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب سواء في القسم.
وكان صلى الله عليه وسلم يسوي بينهن.
وقد قيل: ما أرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة منهن, ولكن وهب نسوة منهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصصهن, فظاهر الآية يقتضي تخيير النبي عليه الصلاة والسلام في إرجاء من شاء منهن وإيواء من شاء منهن, وليس يمتنع أن يختار إيواء الجميع إلا سودة, فإنها رضيت بأن تجعل يومها لعائشة.
وقوله تعالى: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}, الآية: [51].
يعني إيواء من أرجأ منهن.
وفيه دليل على أن القسم لم يكن واجباً على النبي عليه الصلاة والسلام, وأنه كان مخيراً في القسم لمن شاء منهن وترك من شاء.
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [الأحزاب:52]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}, الآية: [52].
قال مجاهد, من بعد ما سمى له من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة.(4/65)
وقال ناس: له أن يشتري اليهودية والنصرانية, فهو معنى قوله {إلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}.
ولا شك أن ظاهر الآية يقتضي تحريم سائر النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم, سوى من كن عنده حتى حل له النساء, وهذا يوجب نسخ الآية, وليس في القرآن ما يوجب نسخها فهي منسوخة بالسنة.. ويحتج به على جواز نسخ القرآن بالسنة.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } [الأحزاب:53]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء
قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيَّ إلاّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمُ إلَى طَعَامٍ}, الآية: [53]:
كان ذلك بعد نزول الحجاب، ودل عليه قوله تعالى: {وإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}.
الأحكام الواردة في سورة ( الأحزاب )
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } [الأحزاب:55](4/66)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء
قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَائِهِنَّ ولاَ أَبْنَائِهِنَّ}, الاية: [55]:
فيه بيان زوال حكم الحجاب في حق ذوي الأرحام, وعنى بما ملكت أيمانهن الإماء.
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب:59]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أحكام النساء
قوله تعالى: {يَا أَيُهَا النّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}, الآية: [59].
الجلباب: الرداء، فأمرهن بتغطية وجوهن ورؤوسهن، ولم يوجب على الإماء ذلك.
{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب:60]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…تحريم الإيذاء
قوله تعالى: {لئِن لَم يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ والّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ}, الآية: [60]. فيه دليل على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
الأحكام الواردة في سورة ( سبأ )
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصور والتماثيل
قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}, الآية: [13].(4/67)
يدل على جواز اتخاذ الصور في ذلك، وأنه نسخ في ديننا.
1)…الآداب
قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً}, الآية: [13].
قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي أهل داود، قيل: وما هن يا رسول الله قال:
العدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنا والفقر، وخشية الله في السر والعلانية".
الأحكام الواردة في سورة ( فاطر )
{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [فاطر:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}, الآية: [12].
فيه دليل على أن من حلف لا يلبس الحلى، حنث بلبس اللؤلؤ.
{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [فاطر:37]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التوحيد
قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النّذِيرُ}, الآية: [37].
يجوز أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون الدلائل على التوحيد، وصفات الله تعالى وصدق الرسل.
الأحكام الواردة في سورة ( يس )
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس:78-79]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (القياس)(4/68)
2)…الزكاة
3)…الطهارة
قوله تعالى: {مَن يُحْيِ العِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}, الآية: [78، 79].
فيه دليل على استعمال القياس والاعتبار والتعلق بطريق الأولى, فإن الابتداء أصعب من الإعادة, والإعادة أيسر من الابتداء, والقادر على الأعظم قادر على الأهون الأدون لا محالة.
فاستدل قوم من أصحاب الشافعي بذلك على أن العظام فيها حياة, وقد بينا ضعف ذلك في الفقه, وبينا أن الحياة تطلق بمعنى حياة النمو وذلك حقيقة في العظم والشعر, والأخرى الحس ولا يتحقق ذلك في العظام.
الأحكام الواردة في سورة ( الصافات )
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات:102]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أمر إبراهيم بذبح إسماعيل
قوله تعالى: {إنّي أَرَى في المَنَامِ أنّي أَذْبَحُكَ}, الآية: [102].
ظاهره أنه كان مأموراً بذبح الولد, ويجوز أن لا يكون في المأمور به سوى التل للجبين, ولكن ظن إبراهيم عليه السلام أنه يتعقبه الأمر بالذبح فقال: {إني أَرَى في المَنامِ إنّي أذْبَحُكَ}.
أي ما يدل على أني أذبحك.
ويحتمل أن يكون قد أمر بذبحه حقيقة, ولكنه لو قدر ذلك, فلا يصح نسخه عند من لا يجوز النسخ, قبل إمكان الأمر, لأن الذبح متى كان حسناً في وقت, فلا يجوز أن يصير في ذلك الوقت قبيحاً عندهم, فيصعب عليهم الخروج عند ذلك.
ويحتمل أن يكون قد ذبح ولكنه كان يلتئم ويبرأ, وهذا أبعد الاحتمالات، لأنه لو كان جرى ذلك, لكان قد نبه الله تعالى عليه تعظيماً لرتبة إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما, وكان أولى بالشأن من هذا, ولو حصل الفراغ من امتثال الأمر الأول ما تحقق الفداء.(4/69)
إذا ثبت, فقد احتج قوم من أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مصيرهم, إلى من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة عندهم, وقالوا: إن الله تعالى جعل الأمر بذبح الولد, في حالة حرم ذبح الولد سبباً لوجوب ذبح شاة, فيجوز أن يكون إيجاب الواحد منا ذبح ولده على نفسه سبباً لذبح شاة, ويجعل اللفظ عبارة عن ذبح شاة.
وهذا إغفال منهم, فإنه إن ثبت أن إبراهيم كان مأموراً بذبح الولد, فقد ارتفع الأمر إلى بدل جعل فداء, فكان الأمر متقرراً في الأصل, ثم أزيل ونسخ إلى بدل, وفيما نحن فيه لا أمر بذبح الولد, بل هو معصية قطعاً, فلم يكن للأمر تعلق بذبح الولد بحال, فإذا لم يتعلق به بحال, فلا يجوز أن يجعل له فداء وخلفاً, وقد استقصينا هذا في كتب الفقه وهو مقطوع به.
{ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [الصافات:141]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات (الاستهام والقرعة)
قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ}, الآية: [141].
يحتج به من يرى للقرعة أثراً في تعيين المستحق بعد تردد الحق في أعيان لا سبيل إلى نفيه عنها, ولا إثباته في جميعها, فتدعو الحاجة إلى القرعة, وهذا بين.
نعم في مثل واقعة يونس لا تجري القرعة, لأن إلقاء مسلم في البحر لا يجوز, وفي ذلك الزمان جاز, فرجع الإختلاف إلى نفس الحق.
وأما قولنا الحق تردد في مَحَالٍّ وأعيان؛ فلا يجوز إخراجه منها, فذلك شيء ثابت, وهو موضع احتجاجنا.
الأحكام الواردة في سورة ( ص )
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ } [ص:18]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْرَاقِ}, الآية: [18].
عن ابن عباس أنه قال:
لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت: {إنّا سَخّرْنَا الجِبالَ مَعَهُ يُسبِحن بالعَشِيِّ والإشْراقِ}.(4/70)
وعلى صلاة الضحى تأول ابن عباس قوله تعالى: {في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغُدُوِّ والآصَالِ}.
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } [ص:21]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…عقائد (عصمة الأنبياء)
قوله تعالى: {وهَلْ أتَاكَ نَبأ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ}, الآية: [21].
ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر, أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة كان قد خطبها غيره, ويقال: هي أوريا, فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه, وزاهدين في الخاطب الأول, ولم يكن لذلك عارفاً, وقد كان يمكنه أن يعرف فيعدل عن هذه الرغبة وعن الخطبة لها, فلم يفعل ذلك من حيث أعجب بها, إما وصفاً أو مشاهدة على غير تعمد, وقد كان لداود من النساء العدد الكثير, وذلك الخاطب لا امرأة له, فنبهه الله تعالى على ما فعل, بما كان من تسور الملكين, وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض, لكي يفهم من ذلك موضع العتب, فيعدل عن هذه الطريقة, ويستغفر ربه من هذه الصغيرة.
ومتى قيل: فكيف يجوز أن يقول الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض, وهو كذب, والملائكة لا تكذب وهي منزهة عن ذلك؟
فالجواب عنه: أنه لا بد في الكلام من مقدمة, فكأنهما قالا: قدرنا كأنا خصمان بغى بعضنا على بعض, فاحكم بيننا بالحق, وعلى هذا يحمل قولهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة, لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر, فالمراد به إيراده على سبيل التقدير لينبه داود على ما فعل.
والقول في هذا مستقصى في تبرئة الأنبياء صلوات الله عليهم.(4/71)
{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص:24]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وخَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ}, الآية: [24]:
لا يرى فيه الشافعي سجدة لها، لأنه لا يرى التعلق بشريعة من قبلنا، ولأنها توبة، فليس فيه دلالة على الأمر بالسجود لنا، وإنما يعلم السجود عند ذلك توقيفاً.
الأحكام الواردة في سورة ( ص )
{ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص:26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء
قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ ولاَ تَتَّبِعِ الهَوَى}, الآية: [26].
فيه بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين، لقرابة أو لجاهه، أو سبب يقتضى الميل.
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص:44]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضْرِبُ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ}, الآية: [44].
فروى عن ابن عباس ان امرأة أيوب قال لها إبليس:(4/72)
إذا داويته وشفيته تقولين لي: أنت داويته، فأخبرت بذلك أيوب، فعضب وقال: ذلك الشيطان، وحلف أنه إن شفاني الله تعالى لأضربنك مائة سوط، فأخذ شماريخ فيها قدر مائة، فضربها ضربة واحدة.
وذلك خلاف قياس الأصول، والضغث هو ملء الكف من الخشب والعود والشماريخ، ونحو ذلك، فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك, فقد بر في يمينه، لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْنَثْ}، وهو قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة ومحمد وزفر.. وقال مالك: لا يبر. ورأى أن ذلك مختصاً بأيوب، وقال لا يحنث.
وإذا قال افعل ذلك، ولا تحنث، علم أنه جعله باراً إذ لا واسطة.
وفي الآية دليل على أن للزوج أن يضرب زوجته، وأن للرجل أن يحلف ولا يستثني، فهذا تمام القول في المعنى.
الأحكام الواردة في سورة ( الزمر )
لا توجد أحكام فى مصدر الكتاب للسورة الكريمة
الأحكام الواردة في سورة ( غافر )
لا توجد أحكام فى مصدر الكتاب للسورة الكريمة
الأحكام الواردة في سورة ( فصلت )
{ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت:34]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالّتِي هي أَحْسَنُ}, الآية: [34].
كان ذلك قبل فرض القتال.
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت:44]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القُرآن
قوله تعالى: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرآناً أَعْجَمِيّاً}, الآية: [44].
فيه دليل على أن القرآن بلغة العرب، وأنه ليس أعجمياً... وإذا نقل عن اللسان العربي إلى غيره لم يكن قرآناً.(4/73)
الأحكام الواردة في سورة ( الشورى )
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى:20]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}, الآية: [20].
هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله, فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها, فهجرته إلى ما هاجر إليه".
فيه دليل على أن من حج عن غيره, لا يقع الحج عن الحاج, ومن توضأ للتبرد والتنظيف لا يكون متوضئاً للصلاة, ولا يصح وضوءه عن جهة القربة شرعاً.
{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [الشورى:23]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…صلة الرحم
قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ في القُرْبَى}, الآية: [23].
قال قائلون في معناه: محبة الأقارب.
قال قائلون: معناه إلا المودة في القربى إلى الله تعالى, أي التقرب إلى الله عز وجل, والمودة بالعمل الصالح, ويدل عليه ما بعده: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}.
وقد قيل في معناه: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوه مع القرابة التي بينكم وبينه, وخاطب بذلك قريشاً, لأن كل قريش كانت بينها وبين رسول الله عليه السلام رحم ماسة وقرابة.
{ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } [الشورى:39](4/74)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الآداب (العزّة، العفو)
قوله تعالى: {والّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}, الآية: [39].
قال إبراهيم النخعي في معنى الآية: يكره للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق.
وقال السدي: هم ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
وقد ندبنا الله تعالى في مواضع من كتابه إلى العفو عن حقوقنا قيل الناس, فمنها قوله تعالى: {وأنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتّقْوَى}.
وقوله في شأن القصاص: {وَلِيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أن يَغْفِر اللهُ لَكُم} وأحكام هذه الآي غير منسوخة.
قوله تعالى: {والّذِينَ إذا أَصابَهُم البَغْيُ هُم يَنَتَصِرُونَ}:
يدل ظاهره على أن الإنتصار في هذه المواضع أفضل, ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله تعالى, وإقام الصلاة, وهو محمول على ما ذكره إبراهيم النخعي, أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق, وهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك.
والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً.
الأحكام الواردة في سورة ( الشورى )
{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [الشورى:41]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القصاص
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِك مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}, الآية: [41].
يقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}, الآية [43]: وذلك محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الإنتصار منه بدلالة ما قبله.
الأحكام الواردة في سورة ( الزخرف )
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف:18](4/75)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…اللباس والزينة
قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشّأُ في الحِلْيَةِ}، فيه دليل على إباحة الحلى للنساء والإجماع منعقد عليه، والأخبار في ذلك لا تحصى.
{ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف:22-24]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (التقليد)
قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمّةٍ وإنّا عَلَى آثارِهِمِ مُهْتَدُونَ - إلى قوله - أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهَدَى مِمّا وَجَدْتُّم عَلَيْهِ آبِائَكُم}, الآية [22و24]:
فيه دلالة على إبطال التقليد, لذمه إياهم على تقليد آبائهم, وتركهم النظر فيما دعاهم الرسول عيه الصلاة والسلام إليه.
{ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الزخرف:86]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشهادات
قوله تعالى: {إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الآية: [86]:
يدل على معنيين:
أحدهما: أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم, فإن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة.
والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها, أن يكون الشاهد عالماً بها, ونحوه ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"إذا رأيت مثل الشمس فاشهدوا وإلا فدع".(4/76)
الأحكام الواردة في سورة ( الجاثية )
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الجاثية:14]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لّلذينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ}, الآية: [14].
قال: نسخها قوله تعالى: {اقْتُلُوا المُشرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم}.(4/77)
الأحكام الواردة في سورة ( الأحقاف )
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَاذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الأحقاف:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التوحيد
قوله تعالى: {ائْتُوني بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}:
فيه بيان مسالك الأدلة بأسرها:
فأولها: المعقول, وهو قوله تعالى: {قُلْ أَرَأْيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السّمَاواتِ}.
وهو احتجاج بدليل العقل أن الجماد لا يجوز أن يدعى من دون الله, وأنه لا يضر ولا ينفع, ثم قال: {ائْتُوني بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا}.
فيه بيان أدلة السمع.
أو أثارة من علم.
الأحكام الواردة في سورة ( محمد )
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {فَإذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ - إلى قوله - فَإِمّا مَناً بَعْدُ وإمّا فِدَاءً حَتّى تَضَعَ الحرْبُ أوْزَارَها} الآية: [4].(5/1)
فيه بيان كيفية الجهاد, وما يجب التمسك به في محاربتهم, فبين أولاً ما يجب عند لقاء الكفار, والمنعَة قائمة, وهو ضرب الرقاب, لأن عند ذلك تجب هذه الطريقة, ثم بين الحكم إذا نحن أثخناهم وبنّنّا امتناعهم, فأمر أن نشدهم في الوثاق فإما أن نمن أو نفادى, وهذا لأنه تعالى كان قد حرم الأسر بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ}:
فأباح بهذه الآية أسرهم إذا أثخناهم بالجراح وغيره, وبين أن أمرهم إلى الإمام, فإن شاء منَّ عليهم بإطلاق من غير فداء, وإن شاء فادى, وإن شاء قتل, على ما يراه الأصلح للإسلام والمسلمين.
ودل بقوله: {حَتّى تَضَعَ الحرْبُ أَوْزَارَهَا}: أن ذلك غاية فيما تقدم ذكره, ولا يجوز أن يكون غاية في حكم الأسرى, فإذاً يجب أن يكون غاية في حكم, ما كان يجب أن يكون غاية في المقاتلة, فكأنه بين أن أثقال الحرب من قبلهم إذا زالت, فللمؤمنين مفارقة السلاح, ويدعوا الحرب إلى حال أخرى.
قال الحسن: في الآية تقديم وتأخير, فكأنه قال: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها, ثم قال: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق.
وزعموا أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يده أن يقتله بل هو بالخيار في ثلاثة مراتب: إما أن يمن أو يفادى أو يسترق.
وقال السدي فيما رواه إسماعيل بن اسحاق: إن ذلك منسوخ بقوله تعالى: {اقتُلُوا المُشْرِكِينَ حيثُ وَجَدْتمُوهُم}.
وقال قتاده مثله, وجعل ناسخه قول تعالى: {فإمّا تَثْقَفَنّهُم في الحَرْبِ فشَرِّدْ بِهِم مَنْ خَلْفَهُمْ}.
وقال إسماعيل بن اسحاق: المن والفداء حقه في الأسير إذا تمكن منه, ولا يمنع ذلك من القتل الذي سنه الله تعالى في الكفار, فكأن الله تعالى حرم المن والفداء قبل التمكن, وأذن فيهما بعد التمكن, والقتل في الحالتين من حيث الكفر سائغ.
وروى في قوله تعالى: {حتّى تَضَعَ الحرْبُ أوْزَارَهَا} أقوال:(5/2)
روي عن الحسن: حتى يعبد الله ولا يشرك به, وعن مجاهد: حتى لا يكون دين إلا الإسلام.
وعن سعيد بن جبير ومجاهد في رواية أخرى:
حتى يخرج عيسى بن مريم فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة, وتأمن الشاة من الذئب.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد:33]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (هل يجب الامر بالشروع فيه)
قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ ولاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}, الآية: [33].
احتج به قوم في أن التحلل من التطوع, صلاة كان أو صوماً بعد التلبس به لا يجوز, لأن فيه إبطال العمل, وقد نهى الله تعالى عنه.
والجواب عنه: أن المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض, وذلك العمل المفروض ينهى الرجل عن إحباط ثوابه, فأما ما كان فعلاً فلا, فإنه ليس واجباً عليه.
فإن زعموا أن اللفظ عام.
قلنا: العام يجوز تخصيصه ووجه تخصيصه أن الفعل تطوع والتطور يقتضي تخيراً, وهذا مستقصى في كتب الفقه.
{ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد:35]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ} الآية: [35].
فيه دليل على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة, وتحريم ترك الجهاد إلا عند العجز عن مقابلتهم, لضعف يكون بالمسلمين والعياذ بالله.
وهذا اتمام ما أردناه في هذه السورة.(5/3)
الأحكام الواردة في سورة ( الفتح )
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح:16]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شدِيدٍ}, الآية: [16].
المراد به: فارس والروم.
وقيل: المراد به بني حنيفة.
وفيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, لأن أبا بكر دعاهم إلى قال فارس والروم, ولزمهم بذلك إتباع طاعة من يدعوهم إليه.
قوله تعالى: {تُقاتِلُونَهُم أَوْ يُسْلِمُونَ فإنْ تُطِيعُوا يُؤتِكُم اللهُ أَجْراً حَسَناً وإنْ تَتوَلّوا كَمَا تَوَلّيْتُم مِنْ قَبْل يُعَذِبكُم عَذَاباً أَلِيماً} الآية: [16].
أوعدهم على التخلف عن دعاء من دعاهم إلى قتال هؤلاء, فدل ذلك على صحة إمامتهما, إذ كان المتولى عن طاعتهما مستحقاً للعذاب, ولا يجوز أن يكون الداعي لهم هوازن وثقيف يوم حنين, لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه الصلاة والسلام, لأنه قال:
{فقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّا}.
فدل أن المراد بالدعاء غير الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.(5/4)
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح:25]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الحج
قوله تعالى: {والهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ}, الآية: [25].
ولو كان بلغ الحرم وذبح فيه لم يكن ممنوعاً عن بلوغ الحرم, ثم لما وقع الصلح زال المنع, فبلغ محله في الحرم, وذلك أنه إذا حصل المنع في أدنى وقت, فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى: {يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ}.
وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر.. فالأول احتجاج أصحاب الشافعي, والثاني تأويل أصحاب أبي حنيفة, والأول أظهر, فإنه لو ذبح في الحرم لم يطلق على الشيء الواحد أنه منع عن بلوغه محله, وقد وصل محله, وليس كما احتجوا به في الآية, فإن الكيل منع في وقت وقيل: {إنْ لَمْ تَأْتُوني بِهِ فَلاَ كَيْلَ لكم} مطلقاً, وإن أحضرتموه فلكم الكيل, وهاهنا بخلافه, فإن الهدي بعد الصلح إن بلغ محله لم يجز أن يقال إنه بعينه منع عن محله, وهذا ظاهر بين.
وأصحاب أبي حنيفة يحتجون بقوله: {يَبْلُغ مَحِلّهُ}, وذلك يدل على أن المحل هو الحرم.. وقال: {ولاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُم حَتّى يَبلُغَ الهَدْيُ مَحِلّه} وهو الحرم.
1)…الجهاد
قوله تعالى: {لَوْ تَزَيّلُوا لَعَذَّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا منْهُم عَذَاباً أَلِيماً}, الآية: [25].(5/5)
فيه دلالة على ما قاله الشافعي ومالك, إنه لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين, ولو تزيل المؤمنون لعذب الكفار.. وكذلك في إحراق الحصون إذا كان فيه أسارى المسلمين.
وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري جوزوا رمي حصون الكافرين, وإن اشتملت على الأسارى والأطفال من المسلمين, وزادوا فقالوا:
لو تترس الكفار بأطفال المسلمين رمى المشركون, وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة.. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية فيه.
نعم, لا يمنع نصب المجانق على الحصون مع اشتمالها على أطفال المشركين مع أنه لا عصمة للأطفال تحقيقاً للحكم بكفرهم, ولأطفال المسلمين عصمة وحرمة.
ويحتج الشافعي أيضاً بقوله تعالى: {ولَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ونِسَاءٌ مُؤمِنَاتٌ}, الآية: [25], وفيه دلالة على منع رمي الكفار لأجل من فيهم من المسلمين.
وتمام الاحتجاج بقوله تعالى: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطُئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}, الآية: [25]. فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم.
الأحكام الواردة في سورة ( الحجرات )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأتّباع
2)…أصول فقه (القياس)
قوله تعالى: {يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدِّموا بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ}, الآية: [1]:
قيل: إنها نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه.
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل ورد وصدر.(5/6)
وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه.. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…القضاء (شهادة الفاسق)
قوله تعالى: {إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بنبإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ}، الآية: [6]:
فيه دليل على أن خبر الفاسق لا يعمل به.
قيل: وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما لا يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل قوله: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله.. وكذلك قوله: وقد أنفذ فلان هذا إليك هدية، فإنه يقبل ذلك.. كذلك يقبل خبر الكافر في مثله.
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {فَإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللهِ}، الآية : [9].
فيه دلالة على جواز قتال البغاة، وأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه أخذ علي رضي الله عنه قتال الفئة الباغية بالسيف، وكان معه كبار الصحابة:
وقال صلى الله عليه وسلم لعمار: "ستقتلك الفئة الباغية".(5/7)
والذي ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد خير من القائم".
وإنما أراد به الفئة التي يقتل الناس فيها من جهة الدنيا والعصبية والحمية، من غير إمام تجب طاعته.
الأحكام الواردة في سورة ( الحجرات )
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {إنّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم}، الآية : [10].
يعني أنهم إخوة في الدين.
وقوله: {فَأَصْلِحُوا}: يدل على وجوب الاصلاح عند التنازع بين المسلمين.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات:11]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السخرية
2)…النَّبز
قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، الآية: [11].
نهى الله تعالى بهذه الآية عن عيب من لا يستحق أن يعاب تحقيراً له، لأن ذلك هو معنى السخرية به، فأخبر أنه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا، فعسى أن يكون المسخور منه خيراً في الآخرة، وخيراً عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {ولاَ تَلْمِزُوا أَنْفسَكُم}، الآية: [11].(5/8)
قال أبو بكر رحمه الله: هو كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أنْفُسَكُم} أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يلمز بعضكم بعضاً لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخيه قاتل نفسه، وكقوله: {فَسَلمُوا عَلَى أَنْفُسِكُم} أي يسلم بعضكم على بعض.
واللمز: العيب، يقال لمزه إذا عابه، ومنه قوله: {ومنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ}.
فأما من كان معنياً بالفجور فتعينه بما فيه جائز، قال الحسن في الحجاج: اللهم إنك أنت امته فاقطع عنا سنته، وفي رواية شينه، فإنه أتانا أخفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله تعالى، برجل جمثة، ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوت الصلاة، لا من الله يتقى، ولا من الناس يستحي، فرقه الله تعالى وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل.. ثم قال الحسن: هيهات والله، حال دون ذلك السوط والسيف.
قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}، الآية : [11].
ذكر عن الحسن أنه كان أبو ذر عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينه وبين رجل منازعه، فقال له أبو ذر: "يا ابن اليهودية، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما ترى هاهنا بين أحمر وأسود ما أنت أفضل منه بالتقوى"، قال فنزلت هذه الآية: {وَلا تَنَابَزُوا بالألْقابِ}.
قال قتادة: ذلك لأن لا تقول لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق.
والنهي يختص بما يكرهه الإنسان، فأما الأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة، وقد سمى النبي عليه الصلاة والسلام علياً أبا تراب وقال لأنس: يا أبا الأذنين، وغير النبي عليه الصلاة والسلام أسماء قوم فسمى العاص عبد الله، وسمى شهاباً هشاماً، وسمى حزناً سهلاً.(5/9)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الغيبة
قوله تعالى: {ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً}، الآية : [12].
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الغيبة فقال: هي ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته.
وروى أبو هريرة أن الأسلمي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد على نفسه بالزنا، فرجمه رسول الله، فسمع صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: أنظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلاب، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شار شايل برجله فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، فقال: انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار. فقالا: يا رسول الله، من يأكل من هذا؟ فقال: ما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها.
الأحكام الواردة في سورة ( الحجرات )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الظن(5/10)
قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كثيراً منَ الظَّنِ إنَّ بَعْضَ الظّنِّ إثْمٌ}، الآية: [12].
يدل على أنه لم ينه عن جميعه.
ففي الظنون ما هو محظور، مثل سواء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة.
وكل ظن استند العلم به إلى دليل يقيني، فالعمل به واجب. كالشهادات وقبولها وقيم المتلفات والأقيسة.
وقد يكون الظن مباحاً، كقول أبي بكر لعائشة رضي الله عنها: ألقى في روعي أن ذا بطن خارجة جارية، فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه.
وأما الظن المندوب إليه، فهو حسن الظن بالأخ المسلم.
ويجوز أن لا يظن الخير ولا الشر.
الأحكام الواردة في سورة ( ق )
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق:39]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وَسَبحْ بِحَمْد رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ}، الآية: [39].
اختلف في معناها، فقال قائلون: عنى به صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ}.
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ق:40]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
وقال ابن عباس وقتادة: المراد به صلاة العصر.
قوله تعالى: {ومنَ اللّيلِ فَسَبِّحْهُ وأَدْبَارَ السُّجُودِ}, الآية: [40].
قال مجاهد: هي صلاة الليل, ويجوز أن يراد به صلاة المغرب والعتمة وأدبار السجود على قول أكثر المفسرين: ركعتان بعد المغرب, وأدبار النجوم ركعتان قبل الفجر.
وعن ابن عباس مثله.(5/11)
وعن مجاهد عن ابن عباس: وأدبار السجود: إذا وضعت جبهتك على الأرض فسبح ثلاثاً.
الأحكام الواردة في سورة ( الذاريات )
{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات:17]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللّيلِ مَا يَهْجَعُونَ}, الآية: [17].
ورد في صلاة الليل، وأنهم كانوا لا يزورون.
{ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:18]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}, الآية: [18].
قال: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.
{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ } [الذاريات:19]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {وفي أمْوالِهِم حَقّ للسّائِلِ والمَحْرُومِ}, الآية: [19].
هو الزكاة, إذ لا فرض في المال سواها، ووراء ذلك ربما وجبت حقوق مثل النفقات وضروب المواساة:
قوله تعالى: {للسّائِلِ والمَحْرُومِ}:
الذي يطلب فلا يرزق، ويكون مجازفاً.
الأحكام الواردة في سورة ( الطور )
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [الطور:48]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…ذكر الله
قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}, الآية: [48]:
قال ابن مسعود: حين تقوم من كل مكان تقول: "سبحانك اللهم وبحمدك, لا إله إلا أنت, استغفرك وأتوب إليك".(5/12)
وهذا فيه بعد, فإن قوله حين تقوم, لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام, والتسبيح يكون وراء ذلك, فدل أن المراد به حين تقوم من كل مكان فتقول: "سبحانك اللهم وبحمدك, لا إله إلا أنت, استغفرك وأتوب إليك".
الأحكام الواردة في سورة ( الطور )
لا توجد أحكام فى مصدر الكتاب للسورة الكريمة
الأحكام الواردة في سورة ( النجم )
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3-4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الإجتهاد
قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}, الآية: [3و4]:
يحتج به من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث.
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم:32]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصغائر
قوله: {إلاَّ اللّمَمَ}, الآية: [32]:
يجوز أن يراد به الصغائر المغفورة عند اجتناب الكبائر.
وقيل: هو أن يصيب الذنب ثم يتوب.
وقيل: اللمم مفارقة الشيء، من غير أن يدخل فيه.
{ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [النجم:38]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…عدم تعدي الأثام
قوله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}, الآية: [38], كقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْماً فإنّما يَكسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}, وقوله: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا}, وقوله: {وأَنْ لَيسَ لِلإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}, الآية: [39].(5/13)
الأحكام الواردة في سورة ( القمر )
{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } [القمر:28]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…المعاملات
قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ}, الآية: [28].
يدل على جواز المهايأة على الماء.
الأحكام الواردة في سورة ( الرحمن )
{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [الرحمن:68]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (عطف الخاص على العام)
قوله تعالى: {فِيهمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ}, الآية: [68].
يحتج به من يخرج الرمان والنخل من مطلق اسم الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، هذا ظاهر الكلام.
والشافعي يقول: هو كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً للهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}.
الأحكام الواردة في سورة ( الواقعة )
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة:77-79]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
قوله تعالى: {إنّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ، في كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهّرُون}, الآية: [77-79].
يدل على منع مس المصحف من غير وضوء.
الأحكام الواردة في سورة ( الحديد )
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَائِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد(5/14)
قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ}, الآية: [10].
عنى به فتح الحديبية, ودل به على أن فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين, أو لكثرة المحنة به لقلة المسلمين وكثرة الكفار, وهو مثل قوله تعالى: {الّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةٍ}.
الأحكام الواردة في سورة ( المجادلة )
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق (الظّهار)
قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا}, الآية: [1].
وهي مفتتحة بذكر الظهار, وكان طلاقاً جاهلياً, فجعله الشرع على حكم آخر.
وروى أصحاب الأخبار: جاءت خولة بنت ثعلبة إلى النبي وزوجها أوس بن الصامت فقالت:
إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه, فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
ما أراك إلا حرمت عليه, وهو حينئذ يغسل رأسه فقالت: أنظر جعلني الله فداك يا رسول الله, فقال: ما أراك إلا حرمت عليه, فكرر ذلك مراراً, فأنزل الله تعالى:
{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا}.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت عليه", ظاهره يعني به تحريم الطلاق, وإلا فحكم الظهار بينه الله تعالى من بعد, وهذا يحتج به من يجوز رفع الحكم بعد ثبوته في الشيء الواحد في الوقت الواحد, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "حرمت عليه", ثم حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق, وذلك القول بعينه في شخص واحد بعينه, والنسخ عند من يخالف هؤلاء, يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي.
وغاية جواب المخالف, أن من الممكن أن الله تعالى وعد رسوله بذلك, فلم يحكم بالطلاق جزماً, وإنما ذكره معلقاً.(5/15)
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [المجادلة:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق (الظّهار)
قوله تعالى: {وإنّهُم لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ}, الآية: [2].
يدل على أن ذلك منكرٌ لأنه كذب.
{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق (الظّهار)
قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}, الآية: [3].
اعتبر العود, وقد اختلف الناس فيه, وأبو حنيفة, يقول: هو استباحة الوطء, فعليه الكفارة قبل الاستباحة, ومعنى الاستباحة العزم على الوطء.
والشافعي يقول: هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه أن يطلقها فيه فلا تطلق.
ورأى الشافعي أن ذلك أشبه بالعود, لأنه إذا رآها, كالأم فلم يمسكها, فإن الأم لا تمسك بالنكاح, وأما العزم على الفعل, فهو عزم على محرم, فلا أثر له قبل مواقعة المحرم.
الأحكام الواردة في سورة ( الحشر )
{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِي الأَبْصَارِ } [الحشر:2](5/16)
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {هُوَ الّذي أخْرجَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيارِهِم}، الآية: [2].
وعنى به جلاء بني النضير من اليهود، فمنهم من خرج إلى خيبر، ومنهم من خرج إلى الشام.
ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي لا تجوز الآن، وإنما جاز في أول الإسلام ثم نسخ، والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم.
{ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [الحشر:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوهَا قائِمةً عَلَى أُصُولِهَا}، الآية: [5].
قال مجاهد: كل نخلة لينة.
وقيل: اللينة كرام النخيل.
وقيل: إنه نهى بعض المهاجرين عن القطع، وقال: إنما هي مغانم للمسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى وتحليل من قطعها عن الإثم، وهو يدل على أن كل مجتهد مصيب، وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود الرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم.
ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ذلك فسكت، فيؤخذ الحكم من تقريره فقط، ويجوز لنا إحراق زرعهم إذا لم يمكنا نقله، والمواشي تذبح وتحرق على هذا الوجه.(5/17)
{ وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الحشر:6-7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {ومَا أفَاءَ اللهُ على رَسُولِهِ مِنْهُم فَمَا أوْجَفْتُم عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ولاَ رِكَابٍ}، الآية: [6].
كانت لرسول الله عليه الصلاة والسلام خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، ولم يكن لأحد فيه حق إلا لمن جعله النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما ذكر ما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، ذكر ما أوجف عليه المسلمون.
فقال تعالى: {مَا أفاء اللهُ عَلى رسُولِهِ مِن أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ ولِلرَسُولِ}، الآية: [7].
وذلك يمنع تنزيهاً للغانمين، ثم نسخ ذلك بقوله: {واعْلَموا أنّما غنِمْتُم مِن شَيءٍ}.(5/18)
ولما فتح عمر العراق، سأل قوم من الصحابة قسمتها بينهم، فقال: إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم، واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله: {والّذيِنَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهِمِ}، الآية: [10]، وشاور علياً في ذلك، فأشار عليه بترك القسمة، وأن يقر أهلها عليها، وأن يضع الخراج عليها، ففعل، فقال أصحاب أبي حنيفة: فالآية غير منسوخة إذاً، فإنها غير مضمومة إلى آية الغنيمة في الأراضي المفتتحة، فإن رأى قسمتها أصلح وأعود على المسلمين فعل، ثم قال: وتقدير الآيتين: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين، وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك.
والذي ذكروه بعيداً جداً، فإن قوله: {والذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم}، ليس لهم حقاً في الغنيمة، وأن غير من شهد الوقعة يستحق، والعجب أن الذين هم في الحياة لا يستحقون إذا لم يشهدوا الوقعة، فكيف يستحق من جاء بعدهم، فدل أن معنى الآية ظاهرها وهو قوله: {والّذينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهِم يقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنَا ولإخوَانِنَا الّذينَ سَبَقُونا بِالإيمَانِ}، الآية: [10]، وهو ندب الآخرين إلى الثناء على الأولين, فدل أن الحق ما قاله الشافعي، إن ما كان غنموه من الأراضي وغيرها فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين، فمن طابت نفسه عن حقه فللإمام أن يجعلها وقفاً عليهم، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بما له، وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم.
الأحكام الواردة في سورة ( الحشر )
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الآداب (الإيثار)(5/19)
قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}, الآية: [9].
والخصاصة الحاجة, فأثنى الله تعالى عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقون عليهم, وإن كانوا هم محتاجين إليه, ووردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه الإنسان, ولكن إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه بالصبر على الفقر, وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه, ألا ترى أنه قال: يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف وجوه الناس, فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه صفته, فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم فلم يكونوا على هذه الصفة, بل كانوا كما قال تعالى: {والصَّابِرِينَ في البَأْسَاءِ والضّرَّاءِ وحِينَ البَأْسِ}.
فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك, والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
الأحكام الواردة في سورة ( الممتحنة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } [الممتحنة:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {لاَ تَتّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أوْلِيَاءَ}, الآية: [1].
فيه دلالة على أن خوف الجائحة على المال والولد لا يبيح التقية في دين الله تعالى, وأن العذر الذي أبرزه حاطب بن أبي بلتعه لا أثر له.
ويحتمل أن يقال إن ذلك لم يكن إكراماً, وإنما كان تودداً إليهم, لما كان يأمل من نفع من جهتهم.(5/20)
{ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة:8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
2)…الجهاد
قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عنِ الّذِينَ يُقَاتِلُوكُم في الدّينِ}, الآية: [8].
فيه دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب، ووجوب النفقة للأب الكافر الذمي، وأما الحربي فيجب قتله.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الممتحنة:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النكاح
قوله تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفّارِ}, الآية: [10], أو بظاهر قولها.
وفيه دليل على ارتفاع النكاح, فإنه تعالى منع ردها إلى زوجها, وأوجب عليها رد ما أنفق عليها.
وفيه تنبيه على أن المنع من الرد لمكان الإسلام, فإنه تعالى قال: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفّارِ}, فلم يجعل الفرقة لاختلاف الدارين على ما قاله أبو حنيفة, وإنما جعل للإسلام.
الأحكام الواردة في سورة ( الممتحنة )(5/21)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الممتحنة:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
2)…الزكاة
قوله تعالى: {إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ}, الآية: [10].
كان الشرط في صلح الحديبية أن يرد على المشركين من هاجر إلى المدينة, ممن كان مسلماً, ونزلت سورة الممتحنة عن الصلح فكان من أسلم من نسائهن تسأل: ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت هرباً من زوجها ردت عليه, وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت وردت على زوجها ما أنفق عليها.
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الممتحنة:12]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطاعة في المعروف
قوله تعالى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ}, الآية: [12].(5/22)
هو عموم في جميع طاعات الله تعالى, وقد علم الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بمعروف, إلا أنه شرط في النهي عن عصيانه إذا أمرهن بالمعروف, لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة الله تعالى, إذ شرط في طاعة خير العالمين أن يأمر بالمعروف, وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وكذلك لا يجب طاعة أئمة العلم فيما يتعلق بالأغراض المتأولة, ولا يسوغ لمسلم اتباعهم.
وقال عليه الصلاة والسلام: "من اتبع مخلوقاً في معصية الخالق سلط الله عليه ذلك المخلوق" وفي لقظ آخر: "عاد حامده من الناس ذاماً".
1)…النكاح
قوله تعالى: {ولاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيْدِيِهنَّ وأرْجُلِهِنَّ}, الآية: [12].
قال ابن عباس: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
الأحكام الواردة في سورة ( الصف )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}, الآية: [2].
يحتج به في وجوب الوفاء بالنذر، في نذر اللجاج، على أحد قولي الشافعي.
الأحكام الواردة في سورة ( الجمعة )
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {إذَا نُوديَ للصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}, الآية: [9].
وليس في الآية تعيين الصلاة، إلا أن الاتفاق منعقد على أن المراد به الجمعة, والمراد بالنداء الأذان.
1)…الصلاة
2)…المعاملات (البيوع)
قوله تعالى: {فاسْعَوا إلَى ذِكْرِ اللهِ}, الآية: [9].(5/23)
قرأ عمرو بن مسعود: فامضوا, قال عبدالله: لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي.
ويجوز أن يكون ذلك تفسيراً كما قال: {إنَّ شَجَرَة الزَّقُومِ طَعَامُ الأثِيمِ}.
وقيل: السعي بمعنى العمل, كما قيل: {وأنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}.
قوله تعالى: {فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللهِ}, الآية: [9]: يحتمل أن يريد به الصلاة, ويحتمل الخطبة, وهو عموم فيهما, وإنما ثبت وجوبهما بدليل آخر غير هذا اللفظ.
نعم في هذا اللفظ دليل على أن هناك ذكر يجب السعي إليه, فأما عين الذكر فلا دليل عليه.
قال مالك, قوله: {وذُرُوا البَيْعَ}: يدل على فساد البيع, ورآه أخص من العمومات الواردة في البيع, ورأى أن البيع لما حرم دل على فساده, وهذا مما بينا فساده في أصول الفقه.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…أصول فقه (الإباحه - الأمر بعد الحظر)
قوله تعالى: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فِضْلِ اللهِ}, الآية: [10].
بالتصرف في التجارة وغيرها، فهو إباحة.
الأحكام الواردة في سورة ( الجمعة )
{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الجمعة:11]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {وتَرَكُوكَ قَائِماً}, الآية: [11]: يدل على أن الإمام يخطب قائماً، فإنهم كانوا انفضوا من الخطبة.(5/24)
الأحكام الواردة في سورة ( المنافقون )
{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [المنافقون:1-2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللهِ - إلى قوله - اتّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُنّةً}, الآية: [1, 2].
فمنه قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى به اليمين كان يميناً.
وأبو حنيفة يجعلها دون الله يميناً, لأن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله ولم يقولوا: نشهد بالله, وقال تعالى: {فَشَهَادَةُ أحَدِهِم أرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}.
والشافعي يقول: أشهد, ينبىء عن مبالغة ما, ولكن إذا لم يقرنه بذكر الله لم يدل على معنى اليمين, فإن خاصية اليمين في ذكر اسم الله تعالى, أو صفة من صفاته.
{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } [المنافقون:10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {وأَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْنَاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتي أَحَدَكُمُ المَوْتُ}, الآية: [10].
فيه دلالة على أنه يجب تعجيل الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً.(5/25)
الأحكام الواردة في سورة ( التغابن )
لا توجد أحكام فى مصدر الكتاب للسورة الكريمة
الأحكام الواردة في سورة ( الطلاق )
{ ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [الطلاق:1]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدّتِهِنَّ}, الاية: [1].
شرحنا معناه في سورة البقرة.
وزمان الطلاق المشروع المعلوم من هذه الآية زمان الطهر لا غير, لا جرم قال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر مسها فيه.
وقوله تعالى: {لِعِدّتِهِنَّ}.
يدل على أن الطهر إن جعل وقت الطلاق, فالثاني والأول والثالث سواء, وأن اللفظ عموم فيه.
وقد ظن قوم أنه لما قال: {لِعِدّتِهِنَّ}, فينبغي أن ينتظم الكلام على العدة.
وهذا باطل, فإن فعل الطلاق من الزوج, إنما يتصور في سماعه, وإنما الشامل الحاوي وقت العدة والعدة وقت الطلاق.
قوله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ}, الآية: [1].
فيه دليل على وجوب السكنى لها ما دامت في العدة, فإن بيوتهن التي نهى الله تعالى عن إخراجهن منها, هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق, فأمره بإقرارها في بيتها, ونسبه إليها بالسكنى, كما قال: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ}.
قوله تعالى: {إلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}, الآية: [1].
فالفاحشة تحتمل البذاء, وتحتمل الزنا وتحتمل النشوز.(5/26)
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [الطلاق:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
قوله تعالى: {وأَشْهِدُوا ذَويْ عَدْلٍ مِنْكُم}, الآية: [2].
يدل على الإشهاد, إلا أن الإشهاد لا يظهر انصرافه إلى الطلاق الذي يستحق الزوج به أبداً من غير حاجة إلى فترة, والرجعة هي التي إذا تأخرت إلى انقضاء العدة امتنعت.
{ وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [الطلاق:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق
قوله تعالى: {والّلائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إنِ ارْتَبْتُم}, الآية: [4].
فدلت الآية على إثبات الإياس بعد ارتياب, فلا يجوز أن يكون قوله {إنِ ارْتَبْتُم} إثبات حكم الإياس في أول الآية, فلا جرم اختلف أهل العلم في الريبة المذكورة في الآية, فروي أن أبي بن كعب قال: يا رسول الله, إن عدداً من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار وذوات الأحمال أجلهن, فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأبان أن سبب نزول هذه الآية كان ارتيابهن في عددهن, صغير أو كبير من الصغار والكبار, فتقدير الكلام؛ {والّلائي يَئِسْن مِنَ المَحيض من نِسائِكُم إن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ}, الآية: [4].
واختلف السلف في التي ترتفع حيضتها, فروي سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال:(5/27)
أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها, فإنه ينتظر بها تسعة أشهر, فإن استبان بها حمل فذاك, وإلا اعتدت بعد ستة أشهر بثلاثة أشهر.
وأمر ابن عباس بالتربص بستة أشهر وقال: تلك الريبة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه:
التي ترتفع حيضتها تبقى إلى سن اليأس, ثم تعتد بثلاثة أشهر, وهو الحق, فإن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر, والمرتابة ليست بآيسة.
قول تعالى: {وأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}, الآية: [4].
ولم يختلف السلف والخلف في أن عدة المطلقة الحامل في أن تضع حملها..
واختلف السلف في عدة المتوفى عنها زوجها, وأنها تعتد بأقصى الأجلين أو بوضع الحمل:
فقال علي رضي الله عنه بأقصى الأجلين.
وقال عمر رضي الله عنه في نفر من الصحابة: إنها تعتد بوضع الحمل.
ولا شك أن قوله تعالى: {وأُولاَتُ الأَحْمَالِ}, معطوف على ذكر المطلقات, غير أنه عموم, وقد نزل بعد قوله تعالى: {والّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُم} على ما قال ابن مسعود, وأنه قال: من شاء لاعنته, ما نزلت: {وأُولاَتُ الأَحْمَال أَجَلُهُنَّ}, إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها.. فكان قوله: {والّذِينَ يُتَوَفّوْنَ} عام في كل من يتوفى عنها زوجها, وقوله: {وأُولاَتُ الأَحْمَال}، عموم ورد بعده.. ولا دليل من الأول على تخصيص الثاني, فوجب اعتبار المتأخر.
الأحكام الواردة في سورة ( الطلاق )
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [الطلاق:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطلاق(5/28)
قوله تعالى: {وإنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}, الاية: [6].
يدل على أنه لا نفقة للحامل.
نعم قوله : {وإنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ}, وإن عم الرجعية والبائنة, وللرجعية النفقة في عموم الأحوال, فذلك خرج بدليل الإجماع, وبقي ما عداه على موجب المفهوم من الآية, ويزيده تأكيد أنه أطلق السكنى, وقيد النفقة, فلو كان الحكم فيها سواء لم يكن لذلك معنى قوله تعالى: {فإنْ أَرْضَعْنَ لَكُم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}, الآية: [6].
دلت الآية على أحكام:
منها إذا ارضعت بأن ترضعه بأجر مثلها, لم يكن للأب أن يسترضع غيرها بمثل ذلك الأجر.
ويدل على أن الأم أحق بحضانة الولد.
ويدل على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل, وإن احتمل أن يراد به غير ذلك.
قوله تعالى: {وإن تَعَاسَرْتُم فَسترضعُ له أُخرى}.
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [الطلاق:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النفقات
قوله: {لينفقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتهِ}, الآية: [7].
يدل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الزوج في يساره وإعساره, وأن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر كفايتها.
قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ مَا آتَاهَا}, الآية: [7].
فيه دليل على أنه لا يجوز التفريق بين الزوج والمرأة, لعجزه عن نفقتها, لأن الله تعالى لم يوجب النفقة في هذه الحالة.(5/29)
والذي يخالف هذا من أصحاب الشافعي يقول: إنما فرقنا بينهما لا لأنه ترك واجباً عليه في هذه الحالة من النفقة, ولكنه عجز عن الإمساك بالمعروف, فعليه التسريح بالإحسان, فإنه إذا صار لا بد من أحدهما فمتى فات أحدهما تعين الثاني, ولا شك أن العاجز عن نفقة عبده أو أمته أو بهيمته لا يجب عليه نفقتها, لكن يجبر على بيع المملوك, كذلك هاهنا. ولأجله ارتفع الحبس عنها في الدار, وإن لم تجب النفقة على ما ذكروه.
الأحكام الواردة في سورة ( التحريم )
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [التحريم:1-2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الأيمان والنذور
قوله تعالى: {يَا أيُّهَا النّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}, الآية: [1].
قيل: إن الآية وردت في تحريم العسل.
وقيل: وردت في تحريم مارية لما أصابها في بيت حفصة, فعلمت به, فخرجت منه فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ فقالت: بلى فحرمها فنزلت الآية.
والأشبه هذا, فإنه تعالى قال: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}؟ وفي حديث العسل, روي أنه حلف, وروي أنه حلف في الجارية أيضاً, واحتجوا عليه بقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُم تَحِلّةَ أَيْمَانِكُم}, الآية: [2].
ولا أيمان في مجرد التحريم.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة(5/30)
1)…الآداب (تعليم الأولاد)
قوله تعالى: {قُوُا أَنْفُسَكُم وَأَهْلِيكُم}, الآية: [6].
قال علي رضي الله عنه في تفسيره: علموا أنفسكم وأهليكم الخير.
وقال الحسن: نعلمهم ونأمرهم وننهاهم.
وهذا يدل على أن علينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير, وما لا يستغنى عنه من الأدب, وهو معنى قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْهَا}, ونحو قوله: {وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.
وفي الحديث "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر".
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [التحريم:9]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجهاد
قوله تعالى: {جَاهِد الكُفّارَ والمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْوَاهُم جَهَنّم}, الآية: [9]:
وفيه دليل على التشدد في دين الله تعالى.
من سورة الملك وحتى سورة الجن لاتوجد لها أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( المزمل )
{ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } [المزمل:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {قُمِ اللّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً}, الآية: [2].
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قام هو وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً، ثم أنزل الله تعالى التخفيف في آخر السورة، فكان قيام الليل تطوعاً بعد كونه فريضة.(5/31)
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المزمل:20]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {فاقْرَءُوا مَا تَيسر مِنَ القُرْآنِ}, الآية: [20].
فنسخ به قيام الليل المفروض فكان ندباً.
ودلت الآية على لزوم فرض القراءة في الصلاة، بقوله تعالى: {فاقْرَءُوا مَا تَيسر مِنَ القُرْآنِ}.
الأحكام الواردة في سورة ( المدثر )
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الطهارة
قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر}, الآية: [4].
يدل على وجوب تطهير الثياب من النجاسات للصلاة.
وقال عكرمة: أمره أن لا يلبس ثيابه على عذره، وذلك محتمل.
{ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [المدثر:6]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التمنن
قوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِر}, الآية: [6].
أي لا تمنن حسناتك عند الله تعالى مستكثراً، فينقصك ذلك عند الله تعالى.(5/32)
الأحكام الواردة في سورة ( القيامة )
{ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة:14]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الشهادات
قوله تعالى: {بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}, الآية: [14].
يدل على قبول شهادة الإنسان على نفسه.
الأحكام الواردة في سورة ( الإنسان )
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [الإنسان :8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصدقات
قوله تعالى: {وأَسِيراً}, الآية: [8].
يدل على أن إطعام المشرك يتقرب به إلى الله تعالى، غير أنه صدقة التطوع، وأما المفروض فلا دليل عليه.
الأحكام الواردة في سورة ( المرسلات )
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } [المرسلات:25-26]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الجنائز
قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتََاً، أَحْيَاءً وَأمْوَاتاً}, الآية: [25، 26].
وعنى بالكفات الضمام، فأراد به تعالى أنها تضمهم في الحالتين جميعاً.
وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ودفن شعره وسائر ما يزايله.
من سورة النبأ وحتى سورة المطففين لاتوجد لها أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( الانشقاق )
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } [الانشقاق:16-17]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…معنى الشفق
قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشّفَقِ}, الآية: [16].
قال مجاهد: الشفق النهار, ألا تراه قال: {واللّيْلِ وَمَا وَسَقَ}, الآية: [17].
وقال قائلون: الشفق البياض.
وقال آخرون: الحمرة, وعلى كل واحد من اللفظين أمارات, واللفظ يحتملهما جميعاً.
{ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } [الانشقاق:21]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…طاعة الله(5/33)
قوله تعالى: {وإذَا قُرِىءَ عَلَيْهِم القُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}, الآية: [21]:
لا يظهر في سجود التلاوة، لأن ذلك يبعد أن يكون مراداً من بين الواجبات كلها، فدل أن المراد به أنهم لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بموجباته.
سورة البروج والطارق لا توجد لهما أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( الأعلى )
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى:14-15]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الزكاة
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّّى}, الآية: [14و15].
يدل على زكاة الفطر وزكاة المال.
وذكر اسم ربه، يدل على ذكر يناسب الزكاة، وذلك تكبيرات العيد.
من سورة الغاشية وحتى سورة الليل لاتوجد لها أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( الضحى )
{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [الضحى:9-10]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الآداب
قوله تعالى: {فَأمّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرَ}, الآية: [9]:
يحتمل أن يكون نهياً عن قهره وظلمه وأخذ ماله، وخص اليتيم بالذكر، لأنه لا ناصر له إلا الله، فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه.
وأما قوله: {وأمّا السَائِلَ فَلاَ تَنْهَر}. الآية: [10].
فيه نهي عن إغلاظ القول له، لأن الانتهار هو الزجر وإغلاظ القول.
الأحكام الواردة في سورة ( الشرح )
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [الشرح:7-8]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الدعاء والعبادة
قوله تعالى: {فإذَا فَرَغْتَ فانْصَبْ، وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}, الآية: [7, 8]:
في العبادة والدعاء.
سورة التين والعلق لا توجد لهما أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( القدر )
{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…ليلة القدر(5/34)
قوله تعالى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر}, الآية: [3]:
ليس فيها ليلة القدر, وإنما فضيلة الزمان بكثرة ما يقع فيه من الفضائل, وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
واختلفت الروايات عن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة القدر, ولا دليل في الآية على التعيين, وليس في الشرع قاطع على التعيين, ولذلك إذا قال لأمرأته أنت طالق ليلة القدر لا تطلق حتى يمضي حول, لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك, ولم يثبت إختصاصها بوقت, فلا يتقن وقوع الطلاق إلا بمضي حول.
الأحكام الواردة في سورة ( البينة )
{ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } [البينة:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…النيّة
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ}, الآية: [5]:
يدل على وجوب النية في العبادات، لأن الإخلاص عمل القلب، وهو أن يريد وجه الله تعالى بالعمل، ولا يراد غيره به أصلاً.
من سورة الزلزلة وحتى سورة قريش لاتوجد لها أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( الماعون )
{ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون:5]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة
قوله تعالى: {الّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ}, الآية: [5].
أي مؤخرون لها عن ميقاتها.
{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون:7]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…العاربة
قوله: {وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ}, الآية: [7]: كل ما فيه منفعة.
الأحكام الواردة في سورة ( الكوثر )
{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر:2]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…الصلاة(5/35)
قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ}, الآية: [2].
قال الحسن: صلاة يوم النحر والبدن.
قال مجاهد وعطاء: صل الصبح بجمع، وانحر البدن بمنى.
الأحكام الواردة في سورة ( الكافرون )
لا توجد أحكام فى مصدر الكتاب للسورة الكريمة
الأحكام الواردة في سورة ( النصر )
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [النصر:3]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…التسبيح
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}, الآية: [3].
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي عليه الصلاة والسلام فيما يكثر أن يقول قبل أن يموت: سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك.
سورة المسد والإخلاص لا توجد لهما أحكام فى مصدر الكتاب
الأحكام الواردة في سورة ( الفلق )
{ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق:4]
قائمة بأسماء المباحث في علوم القرآن التي تضمنتها الآيات الكريمة
1)…السحر
2)…الحَسد
عن عقبة بن عامر قال: بينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء, إذ غشيتنا ريح شديدة مظلمة فجعل رسول الله يتعوذ بأعوذ برب الفلق, وأعوذ برب الناس ويقول:
"يا عقبة, تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما".
و {النّفّاثَاتِ في العُقَدِ}, الآية: [4]: السواحر ينفثن على العليل, ويرقونه بكلام هو كفر وتعظيم للكوكب, ويطعمن العليل الأدوية الحارة الضارة والسموم القاتلة, ويحتلن في التوصل إلى ذلك, ويزعمن أن ذلك من رقاهن, ومن أردن نفعه نفثن عليه, وأوهمن أنهن نفعنه بذلك, وربما أضفن إلى ذلك بعض الأدوية النافعة.
وروت عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين, فإذا استعنتم فاغتسلوا".
وقال قوم من الفلاسفة: إن ضرر العين, إنما هو من جهة شيء ينفصل من العين ويتصل بالمعاين.
والحق في ذلك إذا اتفق ضرر فهو من فعل الله تعالى, وإنما يفعل ذلك عند إعجاب الإنسان بما يراه, تذكيراً له لأن لا يركن إلى الدنيا ولا يعجب بشيء منها.(5/36)
وعن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"من رأى شيئاً يعجبه فقال: بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره شيء".
الأحكام الواردة في سورة ( الناس )
لا توجد لها أحكام فى مصدر الكتاب
تم الكتاب بحمد الله ومنه, وقد أتينا على جمل ما يحتاج إليه من أحكام الفقه اشتمل القرآن عليها, وأوضحنا قدر مقصودنا من اختلاف العلماء, وبيان أقرب الأقوال إلى معاني القرآن, ولم نغادر جهداً في تلخيص ما أردناه وحذف الحشو المستغنى عنه.
ونسأل الله تعالى أن يجعل سعينا مصروفاً إلى ابتغاء مرضاته, وإبتغاء الزلفى لديه, فإنه رؤوف رحيم بعباده, وصلى لله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً.(5/37)