مقدمة المؤلف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا ذا الجلال والإكرام على ما أكملت لنا من دين الإسلام ونصلي ونسلم على نبي الهدى والرحمة المبعوث بالكتاب والحكمة خاتم النبيين وإمام المرشدين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين
أما بعد فإن موعظة العامة والتصدي لإرشادهم في الدروس العامة من الأمور المهمة المنوطة بخاصة الأمة إذ هم أمناء الشرع ونور سراجه ومصابيح علومه وحفاظ سياجه وكان السلف يملون مما وقر في صدورهم ما يرونه أمس بحالهم وزمنهم ومكانهم ولما امتد الفتوح في الإسلام ابتدئ بجمع الهدي النبوي للأنام ثم اتسع العمران وعظمت الحضارة فأخذ ينمو التفريع والتخريج والانبساط في الفنون على نسبتها في الغزارة واستبحرت في فنون العلم الأسفار ودنت لمقتطفه مباحثه الكبار وصار المعول في بثه عليها والملجأ في تعرف حقائقه عليها وتنوعت في كل فن مصنفاته وزخرت من كل بحث مؤلفاته حتى حار طالبه في انتقاء الأحسن واستوقف كثرتها نظره في تخير الأتقن وأصبح التبصر في أجودها عنوان الذكاء والوقوف على أنفعها آية النباهة والارتقاء ولما كانت عظة العوام بإيقافهم على جواهر دين الإسلام وإعلامهم محاسن الدين وواجباته ونوافله ومحظوراته وما يأمر به من الأخلاق الكريمة ويزجر عنه من المساوئ الذميمة ليرتقوا إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم فيفوزوا بما في الاعتصام به سعادتهم وفلاحهم من أوجب الواجبات وآكد المفروضات لما أخذ الله على العلماء من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقف المدعوون على شرائعه تعالى فيما أمر وزجر ووعد وأوعد وبشر وأنذر فلزم الداعي إلى الله
____________________
(1/39)
تعالى أن يجتهد بفطنته لما يعينه في دعوته فينتخب من المدونات أنفعها وينتقي من لباب لبابها أرفعها إذ كثير مما اعتيد في المحافل تدريسه لم يكن على بناء إفادة العامة تأسيسه ولا برهان بعد عيان
موضوع ذكرى العامة موضوع جليل لا يصلح له إلا كل حكيم نبيل أتدري من المذكر أو الواعظ أو المرشد هو إنسان حافظ لحدود الله قائم على إرشاد العقول وتهذيب النفوس وتثقيف الأذهان وتنوير المدارك وتصحيح المعتقدات وإبانة سر العبادات وإماطة ما غشي الأفهام القاصرة من غياهب الجهالة وتراث الضلالة
المذكر وارث محمدي واقف على مقاصد التشريع وحكمته عالم مواضع الخلاف والوفاق سائس لسامعيه بما يلائمهم من الأحكام لا يصعد بهم قمم الشدة والتعسير ولا يهبط بهم إلى حضيض الترخيص غلوا في التيسير بل يسير بهم على جادة الحق وسواء الطريق
المذكر ينشر العلم النافع بين الناس ويحثهم على العمل به ويخاطبهم على قدر عقولهم ويتنزل لإرشادهم إلى لغتهم يعاشر بالنصح ويخالطهم لتأليف قلوبهم
المذكر هو العامل الأكبر في إخراج الناس من ظلمات الجهالة إلى نور العلم وتحريرهم من رق الخرافات والوهم وهو كالسراج فإذا لم ينتفع بضوئه فلا فائدة في وجوده وحق ما قيل لا يكون العالم عالما حتى يظهر أثر علمه في قومه إذ ليس مسؤولا عن نفسه وحدها بل عنها وعن عشيرته وأمته فمن الواجب عليه أن يعلم ويعظ ويبلغ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلى الجملة فالمذكر لا بد أن يكون كاملا في تعليمه كاملا في إرشاده كاملا في أخلاقه
وغير خاف أن مذكر العامة على قوة ملكته وسعة مداركه يضطر إلى مادة تعينه على ذكراه وتمد ذاكرته إذا أم مبتغاه ولكن أين تلك المادة الممدة فإني لم أر بين المصنفات على كثرتها ما ألف لذكرى العامة مستوفيا للشروط التامة بأن يفقهوا معناه ويدركوا منطوقه ومغزاه ويكون وافيا بحاجياتهم آتيا على جميع كمالياتهم مجردا عن دقائق المسائل قريب الأخذ للمتناول فيستعين به المذكر ويهتدي به المستبصر ولم أزل أترقب من نفحات التوفيق ما يهدئ البال إلى أن
____________________
(1/40)
رأيت بعد ما لونت في عام التدريس كل كتاب نفيس الأعوام الطوال أن من أنفع ما يقتبس منه عظة المؤمنين مواضيع تنتخب من إحياء علوم الدين للعلامة الإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي عليه الرحمة والرضوان ثم اتفق أن تذاكرت مع حكيم إمام واستطلعت رأيه الصائب في هذا المرام فقال متأسفا إن هذا الموضوع لم يصنف فيه إلا أن أحسن ما لدينا لذلك هو الإحياء بعد تجريده فعددت ذلك من بدائع الموافقات وأتذكر الآن أن أحد الأعلام في دمشق أشار على من استشاره من المدرسين بالإحياء فأخذ المدرس في قراءته بالحرف عملا بالأمر الصرف ثم شكا له ضيق صدره من مباحث لا تفقهها العوام ولا ينتفع بها إلا خاصة الأنام فأجابه بأن أمره كان لفصول تنتخب منه وقد تحققت بذلك كمال حذقه رحمه الله ورضي عنه لذلك عزمت سنة 1323 على اختصاره في جزأين موجزين على الشريطة السالفة أساير فيهما ترتيب أصله بلا مخالفة والمأمول أن تحظى بالغاية المتوخاة والضالة المنشودة وبالله المستعان وعليه التكلان
____________________
(1/41)
كتاب العلم فضيلة العلم
شواهده من القرآن آيات كثيرة منها قوله عز وجل { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط } فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفا وفضلا وقال الله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وقال عز وجل { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وقال تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وقال تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } رد حكمه في الوقائع إلى استنباطهم وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء في كشف حكم الله تعالى
وأما الأخبار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده وقال صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا
____________________
(1/42)
شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة وقال صلى الله عليه وسلم إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم وقال صلى الله عليه وسلم في تفضيل العلم على العبادة والشهادة فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي فانظر كيف جعل العلم مقارنا لدرجة النبوة وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها ولولاه لم تكن عبادة وقال صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب
ومن وصايا لقمان لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء فضيلة التعلم
أما الآيات فقوله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } وقوله عز وجل { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وقال صلى الله عليه وسلم لأن تغدو فتتعلم بابا من العلم خير من أن تصلي مئة ركعة وقال صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم
____________________
(1/43)
وقال أبو الدرداء لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة وقال أيضا العالم والمعلم شريكان في الخير وسائر الناس همج لا خير فيهم وقال الشافعي رضي الله عنه طلب العلم أفضل من النافلة وقال فتح الموصلي رحمه الله أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت قالوا بلى قال كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته كما أن غذاء الجسد الطعام ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وقال ابن مسعود رضي الله عنه عليكم بالعلم قبل أن يرفع ورفعه موت رواته وإن أحدا لم يولد عالما وإنما العلم بالتعلم فضيلة التعليم
أما الآيات فقوله عز وجل { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } والمراد هو التعليم والإرشاد وقوله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } وهو إيجاب للتعليم وقوله تعالى { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } وهو تحريم للكتمان كما قال
____________________
(1/44)
تعالى في الشهادة { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقال تعالى { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا } وقال تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } وقال تعالى { ويعلمهم الكتاب والحكمة } وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن لأن يهدي الله ربك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها وقال صلى الله عليه وسلم من علم علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار وقال صلى الله عليه وسلم إن الله سبحانه ملائكته وأهل سمواته وأرضه حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير وقال صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع
____________________
(1/45)
به أو ولد صالح يدعو له وقال صلى الله عليه وسلم الدال على الخير كفاعله وقال صلى الله عليه وسلم رحمة الله على خلفائي قيل ومن خلفاؤك قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله
ومن الآثار ما روي عن معاذ أنه قال تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على الدين والمصبر على البأساء والضراء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدى بهم أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أفعالهم يبلغ العبد به منازل الأبرار والدرجات العلى والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد ويمجد وبه يتورع وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام وهو إمام والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء وقال الحسن رحمه الله لولا العلماء لصار الناس مثل
____________________
(1/46)
البهائم أي إنهم بالتعلم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية بيان العلم الذي هو فرض عين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم فمنه ما يدرك به التوحيد ويعلم به ذات الله تعالى وصفاته ومنه ما تعرف به العبادات والحلال والحرام وما يحرم من المعاملات وما يحل ومنه ما تعلم به أحوال القلب ما يحمد منها كالصبر والشكر والسخاء وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص وما يذم كالحقد والحسد والغش والكبر والرياء والغضب والعداوة والبغضاء والبخل فمعرفة ما تكتسب به الأولى وما تجتنب به الثانية فرض عين كتصحيح المعتقدات والعبادات والمعاملات
____________________
(1/47)
كتاب عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة التي هي أحد مباني الإسلام
عقيدتهم في ذاته تعالى وتقدس أنه إله واحد لا شريك له قديم لا أول له مستمر الوجود لا آخر له أبدي لا نهاية له دائم لا انصرام له لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض الآجال بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم وأنه ليس بجسم مصور ولا يماثل موجودا ولا يماثله موجود ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام وأنه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول مرئي الذات بالأبصار في دار القرار نعمة منه ولطفا بالأبرار وإتماما منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه تعالى حي قادر جبار قاهر لا يعتريه قصور ولا عجز ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا يعارضه فناء ولا موت وأنه المنفرد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع وأنه عالم بجميع المعلومات محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر في جو
____________________
(1/48)
الهواء ويعلم السر وأخفى ويطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا به في أزل الآزال وأنه تعالى مدير للكائنات مدبر للحادثات فلا يجري في الملك والملكوت أمر إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وأنه تعالى سميع بصير لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق ولا يحجب سمعه بعد ولا يدفع رؤيته ظلام لا يشبه سمعه وبصره سمع وبصر الخلق كما لا تشبه ذاته ذات الخلق وأنه تعالى متكلم آمر ناه واعد متوعد وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله عليهم السلام وأنه تعالى كلم موسى عليه السلام بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد وأنه سبحانه وتعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته فكل ما سواه من إنس وجن وملك وسماء وأرض وحيوان ونبات وجماد ومدرك ومحسوس حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعا وأنشأه إنشاء بعد أن لم يكن شيئا إذ كان في الأزل موجودا وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد ذلك إظهارا لقدرته وتحقيقا لما سبق من إرادته ولما حق في الأزل من كلمته لا لافتقاره إليه وحاجته وأنه متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم فله الفضل والإحسان والنعمة والامتنان وأنه عز وجل يثيب عباده المؤمنين على الطاعات يحكم الكرم والوعد لا بحكم اللزوم له إذ لا يجب عليه لأحد فعل ولا يتصور منه ظلم ولا يجب لأحد عليه حق وأن حقه في الطاعات واجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا بمجرد العقل ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاؤوا به وأنه بعث النبي الأمي القرشي محمدا صلى الله عليه وسلم برسالته إلى العرب والعجم والجن والإنس وأنه ختم الرسالة والنبوة ببعثته فجعله آخر المرسلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنزل عليه كتابه الحكيم وشرح به دينه القويم وهدى به الصراط المستقيم وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر به وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون
____________________
(1/49)
وأنه تعالى قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته
وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور وندين بأن لا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه عليه السلام ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم أجمعين ونقول إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه وإن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون بالإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن الذين قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا ولا نقول على الله ما لا نعلم ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها عليهم
____________________
(1/50)
كتاب أسرار الطهارة
قال تعالى { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } وقال تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين }
وقال صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور وعنه بني الدين على النظافة ففطن ذوو البصائر بهذه الظواهر أن أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم الطهور نصف الإيمان عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه وتخريب الباطن وإبقاءه مشحونا بالأخباث والأقذار هيهات هيهات والطهارة لها أربع مراتب
المرتبة الأولى تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات
المرتبة الثانية تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام
المرتبة الثالثة تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة
____________________
(1/51)
المرتبة الرابعة تطهير السر عما سوى الله تعالى وهو طهارة الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين ولن ينال العبد الطبقة العالية إلا أن يجاوز الطبقة السافلة فلا يصل إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ من طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات وكلما عز المطلوب وشرف صعب مسلكه وكثرت عقباته فلا تظن أن هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينا نعم من عميت بصيرته عن تفاوت هذه الطبقات لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة التي هي كالقشرة الأخيرة الظاهرة بالإضافة إلى اللب المطلوب فصار يمعن فيها ويستوعب جميع أوقاته في الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة ظنا منه بحكم الوسوسة وتخبل العقل أن الطهارة المطلوبة الشريفة هي هذه فقط وجهالة بسيرة الأولين واستغراقهم جميع الهم والفكر في تطهير القلب وتساهلهم في أمر الظاهر حتى إن عمر رضي الله عنه مع علو منصبه توضأ من ماء في جرة نصرانية ولقد كانوا يصلون على الأرض في المساجد وكانوا يقتصرون على الحجارة في الاستنجاء فكانت عنايتهم كلهم بنظافة الباطن ولم ينقل عن أحد منهم سؤال في دقائق النجاسات وقد انتهت النوبة إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن هنا خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو صلى على الأرض من غير سجادة مفروشة أو توضأ من آنية كافر أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقبوه بالقذر فانظر كيف صار المنكر معروفا والمعروف منكرا وكيف اندرس من الدين رسمه كما اندرس حقيقته وعلمه إذا عرفت هذه المقدمة فلنتكلم الآن من مراتب الطهارة على الرابعة وهي نظافة الظاهر فنقول طهارة الظاهر ثلاثة أقسام
____________________
(1/52)
طهارة عن الخبث وطهارة عن الحدث وطهارة عن فضلات البدن وهي التي تحصل بالقلم والاستحداد استعمال النورة والختان وغيرها القسم الأول في طهارة الخبث
والنظر فيه يتعلق بالمزال والمزال به والإزالة الطرف الأول في المزال وهي النجاسة
الأعيان ثلاثة جمادات وحيوانات وأجزاء حيوانات أما الجمادات فطاهرة كلها إلا الخمر وكل منتبذ مسكر والحيوانات طاهرة كلها إلا الكلب والخنزير فإذا ماتت فكلها نجسة إلا خمسة
1 الآدمي
2 والسمك
3 والجراد
4 ودود التفاح وفي معناه كل ما يستحيل من الأطعمة
5 وكل ما ليس له نفس سائلة كالذباب والخنفساء وغيرهما فلا ينجس الماء بوقوع شيء منها فيه
وأما أجزاء الحيوانات فقسمان
أحدهما ما يقطع منه وحكمه حكم الميت والشعر لا ينجس بالجز والموت والعظم ينجس
الثاني الرطوبات الخارجة من باطنه فكل ما ليس مستحيلا ولا له مقر فهو طاهر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط وما له مقر وهو مستحيل فنجس إلا ما هو مادة الحيوان كالمني والبيض والقيح والدم والروث والبول نجس من
____________________
(1/53)
الحيوانات كلها ولا يعفى عن شيء من هذه النجاسات قليلها وكثيرها إلا عن خمسة
الأول أثر النجو بعد الإستجمار بالأحجار يعفى عنه ما لم يعد المخرج
والثاني طين الشوارع وغبار الروث في الطريق يعفى عنه مع تيقن النجاسة بقدر ما يتعذر الإحتراز عنه وهو الذي لا ينسب المتلطخ به إلى تفريط أو سقطة
الثالث ما على أسفل الخف من نجاسة لا يخلو الطريق عنها فيعفى عنه بعد الدلك للحاجة
الرابع دم البراغيث ما قل منه أو كثر إلا إذا جاوز حد العادة سواء كان في ثوبك أو في ثوب غيرك فلبسته
الخامس دم البثرات وما ينفصل منها من قيح وصديد دلك ابن عمر رضي الله عنه بثرة على وجهه فخرج منها الدم وصلى ولم يغسل وفي معناه ما يترشح من لطخات الدماميل التي تدوم غالبا وكذلك أثر الفصد إلا ما يقع نادرا من جراح أو غيره فيلحق بدم الاستحاضة ولا يكون في معنى البثرات التي لا يخلو الإنسان عنها في أحواله ومسامحة الشرع في هذه النجاسات الخمس تعرفك أن أمر الطهارة على التساهل وما أبدع فيها وسوسة لا أصل لها الطرف الثاني في المزال به
وهو إما جامد وإما مائع أما الجامد فحجر الاستنجاء وهو مطهر تطهير تخفيف بشرط أن يكون صلبا طاهرا منشفا غير محترم وأما المائعات فلا تزال النجاسات بشيء منها إلا الماء ولا كل ماء بل الطاهر الذي لم يتفاحش تغيره بمخالطة ما يستغنى عنه ويخرج الماء عن الطهارة بأن يتغير بملاقاة النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه فإن لم يتغير بملاقاة النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه لم ينجس لقوله صلى الله عليه وسلم خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو
____________________
(1/54)
ريحه الطرف الثالث في كيفية الإزالة
النجاسة إن كانت حكمية وهي التي ليس لها جرم محسوس فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها وإن كانت عينية فلا بد من إزالة العين وبقاء اللون بعد الحت والقرص معفو عنه ويعفى عن الرائحة إذا عسر إزالتها والعصر مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في اللون والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة ببقين فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقينا يصلي معها القسم الثاني طهارة الأحداث آداب قضاء الحاجة
ومنها الوضوء والغسل والتيمم ويتقدمها الاستنجاء فلنورد كيفيتها على الترتيب مع آدابها وسننها مبتدئين بسبب الوضوء وآداب قاضي الحاجة إن شاء الله تعالى
ينبغي أن يبعد عن أعين الناظرين في الصحراء وأن يستتر بشيء إن وجده وأن لا يكشف عورته قبل الإنتهاء إلى موضع الجلوس وأن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها وأن يتقي الجلوس في متحدث الناس وأن لا يبول في الماء الراكد وتحت الشجرة المثمرة وفي الثقب وأن يتقي الموضع الصلب ومهبات الرياح في البول استنزاها من رشاشه وأن يتكئ في جلوسه على الرجل اليسرى وإن كان في بنيان يقدم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ولا يستصحب شيئا عليه اسم الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يقول عند الدخول بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث وعند الخروج الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني وأن يستبرئ من البول بالنتر ثلاثا ولا يكثر التفكر في الاستبراء فيتوسوس
____________________
(1/55)
ويشق عليه الأمر وما يحس به من بلل فيقدر انه بقية الماء وقد كان أخفهم استبراء أفقههم فتدل الوسوسة على قلة الفقه ومن الرخصة أن يبول الإنسان قريبا من صاحبه مستترا عنه فعل ذلك رسول صلى الله عليه وسلم مع شدة حيائه ليبين للناس ذلك كيفية الاستنجاء
ثم يستنجي لمقعدته بثلاثة أحجار ومثلها كل خشن طاهر ثم يستنجي بالماء بأن يفيضه باليمنى على محل النجو ويدلك باليسرى حتى لا يبقى أثر يدركه الكف بحس اللمس ويترك الاستقصاء فيه بالتعرض للباطن فإن ذلك منبع الوسواس وليعلم أن كل ما لا يصل إليه الماء فهو باطن ولا يثبت حكم النجاسة للفضلات الباطنة ما لم تظهر وكل ما هو ظاهر وثبت له حكم النجاسة فحد طهوره أن يصل الماء إليه فيزيله ولا معنى للوسواس كيفية الوضوء
إذا فرغ من الاستنجاء وأراد القيام إلى الصلاة اشتغل بالوضوء ويبتدئ بالسواك ثم يجلس للوضوء مستقبل القبلة ويسمي ثم يغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما الإناء ثم يأخذ غرفة لفيه فيتمضمض بها ثلاثا ويغرغر إلا أن يكون صائما ثم يأخذ غرفة لأنفه ويستنشق ثلاثا ويصعد الماء بالنفس إلى خياشيمه ويستنثر ما فيها ثم يغرف غرفة لوجهه فيغسله من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول ومن الأذن إلى الأذن في العرض ويوصل الماء إلى منابت الشعور الأربعة الحاجبين والشاربين والعذارين والأهداب لأنها خفيفة في الغالب وإلى منابت اللحية الخفيفة وأما الكثيفة فيفيض الماء على ظاهرها ويندب تخليلها ويدخل الأصابع في محاجر العينين وموضع الرمص ومجتمع الكحل وينقيهما ثم يغسل يديه إلى مرفقيه ثلاثا ويحرك الخاتم ويبدأ باليمين ثم يستوعب رأسه بالمسح بأن يبل يديه ويلصق رؤوس أصابع يده اليمنى باليسرى ويضعهما على مقدمة الرأس
____________________
(1/56)
ويمرهما إلى القفا ثم يردهما إلى المقدمة ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد ثم يمسح رقبته بماء جديد ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ويخلل أصابعهما فإذا فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين ما يكره في الوضوء
يكره في الوضوء أن يزيد على الثلاث وأن يسرف في الماء توضأ صلى الله عليه وسلم ثلاثا وقال من زاد فقد أساء وظلم وقال سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور ويقال من وهن علم الرجل ولوعه بالماء في الطهور ويكره أن ينفض اليد فيرش الماء وأن يلطم وجهه بالماء لطما الاعتبار بالطهارة
متى فرغ من وضوئه وأقبل على الصلاة فينبغي أن يخطر بباله أنه طهر ظاهره وهو موضع نظر الخلق فينبغي أن يستحي من مناجاة الله تعالى من غير تطهر قلبه وهو موضع نظر الرب سبحانه وليتحقق أن طهارة القلب بالتوبة والخلو عن الأخلاق المذمومة والتخلق بالأخلاق الحميدة أولى من أن يقتصر على طهارة الظاهر كمن أراد أن يدعو ملكا إلى بيته فتركه مشحونا بالقاذورات واشتغل بتجصيص ظاهر الباب البراني من الدار وما أجدره بالتعرض للمقت والبوار كيفية الغسل
يغسل يديه ثلاثا ثم يستنجي ويزيل ما على بدنه من نجاسة إن كانت ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كما وصفنا إلا غسل القدمين فإنه يؤخرهما ثم يصب الماء على رأسه ثم على شقه الأيمن ثم الأيسر ثم يدلك ما أقبل من بدنه وما أدبر ويخلل شعر الرأس واللحية ويوصل الماء إلى منابت ما كثف منه وما خف وليس على المرأة نقض الضفائر إلا إذا علمت أن الماء لا يصل إلى خلال الشعور ويتعهد معاطف البدن
____________________
(1/57)
والغسل الواجب بأربعة بخروج المني والتقاء الختانين والحيض والنفاس وما عداه من الأغسال سنة كغسل العيدين والجمعة والإحرام والوقوف بعرفة ولدخول مكة ولمن غسل ميتا كيفية التيمم
من تعذر عليه استعمال الماء لفقده من بعد الطلب أو المانع له عن الوصول إليه من سبع أو حابس أو كان الماء الحاضر يحتاج إليه لعطشه أو لعطش رفيقه أو كان ملكا لغيره ولم يبعه إلا بأكثر من ثمن المثل أو كان به جراحة أو مرض وخاف من استعماله فساد العضو أو شدة الضنى فينبغي أن يصبر حتى يدخل عليه وقت الفريضة ثم يقصد صعيدا طيبا عليه تراب طاهر بحيث يثور منه غبار ويضرب عليه كفيه ضاما بين أصابعه ويمسح بهما جميع وجهه مرة واحدة ولا يكلف إيصال الغبار إلى ما تحت الشعور خف أو كثف ثم ينزع خاتمه ويضرب ضربة ثانية ويفرج فيها بين أصابعه ويمسح بكفه اليسرى يده اليمنى وبكفه اليمنى يده اليسرى وإذا صلى به الفرض فله أن يتنفل كيف شاء ويعيد التيمم لفرض ثان القسم الثالث من النظافة التنظيف عن الفضلات الطاهرة
وهي نوعان أوساخ وأجزاء النوع الأول الأوساخ والرطوبات المترشحة وهي ثمانية
الأول ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن والقمل فالتنظيف عنه مستحب بالغسل والترجيل والتدهين إزالة للشعث عنه وكان صلى الله عليه وسلم يدهن الشعر ويرجله غبا ويأمر به
الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن والمسح يزيل ما يظهر منه وما يجتمع في قعر صماخي أذنيه فينبغي أن ينظف برفق عند الخروج من الحمام
____________________
(1/58)
الثالث ما يجتمع في داخل الأنف ويزيله بالاستنشاق والاستنثار
الرابع ما يجتمع على الأسنان وطرف اللسان فيزيله السواك والمضمضة
الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد ويستحب إزالة ذلك بالغسل والتسريح بالمشط وترك الشعث في اللحية إظهارا للزهد وقلة المبالاة بالنفس محذور وتركه شغلا بما هو أهم منه محبوب وهذه أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل والناقد بصير والتلبيس غير رائج عليه بحال
السادس وسخ البراجم وهي معاطف ظهور الأنامل كانت العرب لا تكثر غسل ذلك لتركها غسل اليد عقيب الطعام فيجتمع في تلك الغضون وسخ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل البراجم
السابع تنظيف الرواحب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بتنظيفها وهي رؤوس الأنامل وما تحت الأظفار من الوسخ لأنها كانت لا يحضرها المقراض في كل وقت فتجتمع فيها أوساخ
الثامن الدرن الذي يجتمع على جميع البدن برشح العرق وغبار الطريق وذلك يزيله الحمام آداب الحمام
لا بأس بدخول الحمام دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات الشام وقال بعضهم نعم البيت بيت الحمام يطهر البدن ويذكر النار روي ذلك عن أبي الدرداء وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما وقال بعضهم بئس البيت بيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لآفته وذاك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب فائدته عند الاحتراز من آفته ولكن على داخل الحمام وظائف من السنن والواجبات فعليه واجبان في عورته وواجبان في عورة غيره أما الواجبان في عورته فهو أن يصونها عن نظر الغير ويصونها عن مس الغير فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده ويمنع الدلاك من مس الفخذ وما بين السرة إلى العانة والواجبان في
____________________
(1/59)
عورة الغير أن يغض بصر نفسه عنها وأن ينهى عن كشفها لأن النهي عن الكشف واجب وعليه ذكر ذلك وليس عليه القبول
وأما السنن فمنها النية وهو أن لا يدخل لعاجل دنيا ولا عابثا لأجل هوى بل يقصد به التنظف المحبوب تزينا للصلاة ويقدم رجله اليسرى عند الدخول ولا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فإنه المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه لا سيما الماء الحار فله مؤنة وفيه تعب وأن يتذكر حر النار بحر الحمام ويقدر نفسه محبوسا في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم فإنه أشبه بيت بجهنم النار من تحت والظلام من فوق نعوذ بالله من ذلك ولا بأس بأن يصافح الداخل ويقول عافاك الله ولا بأس بأن يدلكه غيره ويغمز ظهره وأطرافه ثم مهما فرغ من الحمام شكر الله عز وجل على هذه النعمة ويكره طبا صب الماء البارد على الرأس عند الخروج وكذا شربه ويكره للمرأة دخوله إلا لضرورة بمئزر سابغ النوع الثاني فيما يحدث في البدن من الأجزاء وهي ثمانية
الأول شعر الرأس ولا بأس بحلقه لمن أراد التنظيف ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويرجله
الثاني شعر الشارب يندب قص ما طال عن الشفة منه ولا بأس بترك السبالين
الثالث شعر الإبط تستحب إزالته في كل أربعين يوما فأقل
الرابع شعر العانة تستحب إزالته بالحلق أو بالنورة في المدة المتقدمة
الخامس الأظفار وتقليمها مستحب لشناعة صورتها إذا طالت ولما يجتمع فيها من الوسخ وليس في ترتيب قلمها مروي صحيح
السادس والسابع زيادة السرة وقلفة الحشفة أما السرة فتقطع في أول
____________________
(1/60)
الولادة وأما التطهير بالختان فلا بأس به في اليوم السابع من الولادة وإن خيف منه خطر فالأولى تأخيره
الثامن ما طال من اللحية روي عن بعض الصحابة والتابعين أخذ ما زاد عن القبضة وقال آخرون تركها عافية أحب والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى الطول المفرط فإنه قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبز إليه فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض خضابها بالسواد وتبييضها بالكبريت ونتفها ونتف الشيب منها والنقصان والزيادة فيها وتسريحها تصنعا لأجل الرياء وتركها شعثة إظهارا للزهد والنظر إلى سوادها عجبا بالشباب وإلى بياضها تكبرا بعلو السن وخضابها بالحمرة من غير نية تشبها بالصالحين فأما الخضاب بالسواد فقد روي فيه نهي لأنه قد يفضي إلى الغرور والتلبيس وأما تبييضها بالكبريت فقد يكون استعجالا لإظهار علو السن توصلا إلى التوقير وترفعا عن الشباب وإظهارا لكثرة العلم ظنا بأن كثرة الأيام تعطيه فضلا وهيهات فلا يزيد كبر السن الجاهل إلا جهلا فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها ومن كانت غريزته الحمق فطول المدة يؤكد حماقته وقد كان الشيوخ يقدمون الشباب بالعلم كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم ابن عباس وهو حديث السن على أكابر الصحابة ويسأله دونهم وقال ابن عباس رضي الله عنه ما آتى الله عز وجل عبده علما إلا شابا والخير كله في الشباب ثم تلا قوله عز وجل { قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } وقوله تعالى { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } وقوله تعالى { وآتيناه الحكم }
____________________
(1/61)
صبيا ) وقال أيوب السختياني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه وقيل لأبي عمرو بن العلاء أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير فقال إن كان الجهل يقبح به فالتعلم يحسن به
____________________
(1/62)
كتاب أسرار الصلاة ومهماتها
الصلاة عماد الدين وعصام اليقين وسيدة القربات وغرة الطاعات وقد استقصيت أصولها وفروعها في فن الفقه فنقتصر هنا على ما لا بد منه للمريد من أعمالها الظاهرة وأسرارها الباطنة فضيلة الأذان
قال صلى الله عليه وسلم لا يسمع نداء المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن وذلك محبوب مستحب إلا في الحيعلتين فإنه يقول فيهما لا حول ولا قوة إلا بالله وفي قوله قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها وفي التثويب أي قول مؤذن الفجر الصلاة خير من النوم صدقت وبررت وعند الفراغ يقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته
____________________
(1/63)
فضيلة المكتوبة
قال الله تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وقال صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وسئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لمواقيتها وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول إذا حضرت الصلاة قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها فأطفئوها فضيلة إتمام الأركان
قال صلى الله عليه وسلم من صلى صلاة لوقتها وأسبغ وضوءها وأتم ركوعها وسجودها وخشوعها عرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلى لغير وقتها ولم يسبغ وضوءها ولم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها عرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه
____________________
(1/64)
فضيلة الجماعة
قال صلى الله عليه وسلم صلاة الجمع تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وروى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم وقال عثمان رضي الله عنه مرفوعا من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة وقال محمد بن واسع ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة أخا أن تعوجت قومني وقوتا من الرزق عفوا بغير تبعة وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها وقال الحسن لا تصلوا خلف رجل لا يختلف إلى العلماء وقال ابن عباس رضي الله عنه من سمع المنادي فلم يجب لم يرد خيرا ولم يرد به فضيلة السجود
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة
____________________
(1/65)
وحط عنه بها سيئة وقال صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وقال تعالى { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } يعني نور الخشوع فإنه يشرق من الباطن على الظاهر وجوب الخشوع
قال الله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } ظاهر الأمر الوجوب والغفلة تضاد الذكر فمن غفل في صلاته كيف يكون مقيما لها لذكره تعالى وقال سبحانه { ولا تكن من الغافلين } وقال تعالى { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } جعل أول مراتب الفلاح الخشوع في الصلاة إعلاما بأن من فقده فهو بمراحل عن الفوز والنجاح الذي هو معنى الفلاح وقال صلى الله عليه وسلم إنما الصلاة تمسكن وتواضع وتضرع وتضع يديك تقول اللهم اللهم فمن لم يفعل فهي خداج وروي من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم
____________________
(1/66)
يزدد من الله إلا بعدا وحكي عن مسلم بن يسار أنه كان يصلي في مسجد البصرة فسقط حائط المسجد ففزع أهل السوق لهدته فما التفت ولما هنيء بسلامته عجب وقال ما شعرت بها وقال ابن عباس ركعتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه فضيلة المسجد وموضع الصلاة
قال الله عز وجل { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } وقال صلى الله عليه وسلم من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة وقال صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس وقال صلى الله عليه وسلم لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وقال صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا وليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم
____________________
(1/67)
أعمال الصلاة الظاهرة
إذا فرغ المصلي من الوضوء والطهارة من الخبث في البدن والمكان والثياب وستر العورة من السرة إلى الركبة فعليه أن ينتصب قائما متوجها إلى القبلة وليقرب من جدار الحائط فإن ذلك يقصر مسافة البصر ويمنع تفرق الفكر وليحجر على بصره أن يجاوز موضع سجوده وليدم هذا القيام كذلك إلى الركوع من غير التفات ثم ينوي أداء الصلاة بقلبه ويرفع يديه إلى حذو منكبيه مقبلا بكفيه إلى القبلة ويبسط الأصابع ولا يقبضها ولا يتكلف فيها تفريجا ولا ضما بل يتركها على مقتضى طبعها ويكبر ثم يضع اليدين على صدره ويضع اليمنى على اليسرى ولا ينفض يديه إذا فرغ من التكبير بل يرسلهما إرسالا خفيفا رفيقا وينبغي أن يضم الهاء من قوله الله ضمة خفيفة من غير مبالغة ولا يدخل بين الهاء والألف شبه الواو بين باء أكبر ورائه ألفا كأنه يقول أكبار ويجزم راء التكبير ولا يضمها القراءة
ثم يبتدى بدعاء الاستفتاح عقب التكبير قائلا الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكره وأصيلا أو وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين أو سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة ويقول بعدها آمين ولا يصلها بقوله ولا الضالين ويجهر بالقراءة في الصبح والمغرب والعشاء إلا أن يكون مأموما ويجهر بالتأمين ثم يقرأ السورة أو قدر ثلاث آيات من القرآن فما فوقها ولا يصل آخر السورة بتكبيرة الهوي بل يفصل بينهما بقدر قوله سبحان الله ويقرأ في الصبح من السور الطوال من المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الظهر والعصر والعشاء من أوساطه وفي الصبح في السفر { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } وكذلك في ركعتي الفجر والطواف والتحية
____________________
(1/68)
الركوع ولواحقه
ثم يركع ويراعي فيه أمورا وهو أن يكبر للركوع وأن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع وأن يمد التكبير إلى تمام الركوع وأن يضع راحتيه على ركبتيه في الركوع وأصابعه منشورة موجهة نحو القبلة على طول الساق وأن ينصب ركبتيه ولا يثنيهما وأن يمد ظهره مستويا لا يكون رأسه أخفض ولا أرفع وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه وتضم المرأة مرفقيها إلى جنبيها وأن يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا والزيادة إلى السبعة وإلى العشرة حسن إن لم يكن إماما ثم يرتفع من الركوع إلى القيام ويرفع يديه ويقول سمع الله لمن حمده ويطمئن في الإعتدال ويقول ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ويقنت في الصبح في الركعة الثانية بالكلمات المأثورة السجود
ثم يهوي إلى السجود مكبرا فيضع ركبتيه على الأرض ويضع جبهته وكفيه مكشوفة ويكبر عند الهوي ولا يرفع يديه مع غير الركوع ويجافي مرفقيه عن جنبيه ولا تفعل المرأة ذلك ويفرج بين رجليه ولا تفعل المرأة ذلك ويرفع بطنه عن فخذيه ولا تفعل المرأة ذلك ويضع يديه على الأرض حذاء منكبيه ولا يفرج بين أصابعهما بل يضمهما ولا يفترش ذراعيه على الأرض ويقول سبحان ربي الأعلى ثلاثا فإن زاد فحسن إلا أن يكون إماما ثم يرفع من السجود فيطمئن جالسا معتدلا فيرفع رأسه مكبرا ويجلس على رجله اليسرى وينصب قدمه اليمنى ويضع يديه على فخذيه والأصابع منشورة ولا يتكلف ضمها ولا تفريجها ويقول رب اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني واجبرني وعافني واعف عني ويأتي بالسجدة الثانية كذلك ويصلي الركعة الثانية كالأولى ويعيد التعوذ في الابتداء التشهد
ثم يتشهد في الركعة الثانية التشهد الأول ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويقبض أصابعه اليمنى إلا المسبحة ويشير بها
____________________
(1/69)
عند قوله إلا الله ويجلس في هذا التشهد على رجله اليسرى كما بين السجدتين وفي التشهد الأخير يستكمل الدعاء المأثور بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويجلس فيه على وركه الأيسر لأنه ليس مستوفزا للقيام بل هو مستقر ويضع رجله اليسرى خارجة من تحته وينصب اليمنى ثم يقول السلام عليكم ورحمة الله ويلتفت يمينا بحيث بري خده الأيمن وشمالا كذلك وينوي بالسلام من على يمينه من الملائكة والمسلمين في الأولى وينوي مثل ذلك في الثانية ولا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع روحه المنهيات
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الحاقن والحاقب والحازق وعن صلاة الجائع والمتلثم فأما الحاقن فمن البول والحاقب من الغائط والحازق صاحب الخف الضيق فإن كل ذلك يمنع الخشوع وفي معناه الجائع المهتم وفهم نهي الجائع من قوله صلى الله عليه وسلم إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء والنهي عن التلثم من حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه في الصلاة وقال الحسن كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع ويكره أيضا أن ينفخ في الأرض عند السجود وأن يسوي الحصا بيده وأن يستند في قيامه إلى حائط وقال بعض السلف أربعة في الصلاة من الجفاء الالتفات ومسح الوجه وتسوية الحصا وأن تصلي بطريق من يمر بين يديك تمييز الفرائض والسنن
ما تقدم يشتمل على فرائض وسنن وهيئات فالسنن من الأفعال رفع اليدين في تكبيرة الإحرام وعند الهوي إلى الركوع وعند الرفع منه والجلسة للتشهد الأول
____________________
(1/70)
والتورك والافتراش هيئات تابعة للجلسة وترك الالتفات هيئة للقيام وتحسين لصورته والسنن من الأذكار دعاء الاستفتاح والتعوذ وقول آمين وقراءة السورة وتكبيرات الانتقالات والذكر في الركوع والسجود والاعتدال والتشهد الأول والصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء في التشهد الأخير والتسليمة الثانية هذه السنن وما عداها فهو واجب واعلم أن الصلاة كالإنسان فروحها وحياتها أعني الخشوع وحضور القلب والإخلاص كروح الإنسان وحياته وأركانها تجري منها مجرى قلبه ورأسه وكبده إذ يفوت وجود الصلاة بفواتها كما ينعدم الإنسان بعدمها والسنن تجري منها مجرى اليدين والعينين والرجلين منه فهي لا تفوت الحياة بفواتها ولكن يصير المرء بفقدها مشوه الخلقة مذموما والهيئات تجري منها مجرى أسباب الحسن من الحاجبين واللحية والأهداب وحسن اللون ونحوها فمن اقتصر على أقل ما يجزئ من الصلاة كان كمن أهدى إلى ملك من الملوك عبدا مقطوع الأطراف فالصلاة قربة وتحفة تتقرب بها إلى حضرة ملك الملوك كوصيفة يهديها طالب القربة من السلاطين إليهم وهذه التحفة تعرض على الله عز وجل ثم ترد عليك يوم العرض الأكبر فإليك الخيرة في تحسين صورتها وتقبيحها فإن أحسنت فلنفسك وإن أسأت فعليها بيان الشروط الباطنة من أعمال القلب اشتراط الخشوع وحضور القلب
إعلم أن أدلة ذلك كثيرة فمن ذلك قوله تعالى { وأقم الصلاة لذكري } وظاهر الأمر الوجوب والغفلة تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره وقوله تعالى { ولا تكن من الغافلين } نهي وظاهره التحريم وقوله تعالى { حتى تعلموا ما تقولون } تعليل لنهي السكران وهو
____________________
(1/71)
مطرد في الغافل المستغرق الهم بالوسواس وأفكار الدنيا وقوله صلى الله عليه وسلم إنما الصلاة تمسكن وتواضع حصر بالألف واللام وكلمة إنما للتحقيق والتوكيد وقوله صلى الله عليه وسلم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء والمنكر وقال صلى الله عليه وسلم كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب وما أراد به إلاالغافل وقال صلى الله عليه وسلم ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها والتحقيق فيه أن المصلي مناج ربه عز وجل كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة ولو حلف الإنسان وقال لأشكرن فلانا وأثني عليه وأسأله حاجة ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في النوم لم يبر في يمينه ولو جرت على لسانه في ظلمة وذلك الإنسان حاضر وهو ولا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير بارا في يمينه إذ لا يكون كلامه خطابا ونطقا معه ما لم يكن هو حاضرا في قلبه فلو كانت تجري هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر إلا أنه في بياض النهار غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد يوجبه الخطاب إليه عند نطقه لم يصر بارا في يمينه ولا شك في أن المقصود من القراءة والأذكار الحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله عز وجل والقلب بحجاب الغفلة محجوب عنه فلا يراه ولا يشاهده بل هو غافل عن المخاطب واللسان يتحرك بحكم العادة فما أبعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب وتجديد ذكر الله عز وجل ورسوخ عقد الإيمان به
وبالجملة فحضور القلب هو روح الصلاة ومن عرف سر الصلاة علم أن الغفلة تضادها
____________________
(1/72)
بيان المعاني الباطنة التي بها تتميز حياة الصلاة
يجمع تلك المعاني على كثرتها ست جمل حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء فلنذكر تفاصيلها ثم أسبابها ثم العلاج في اكتسابها
أما التفاصيل فالأول حضور القلب ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به فيكون العلم بالفعل والقول مقرونا بهما ولا يكون الفكر جائلا في غيرهما والتفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب وهو اشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة تمنعه عن الفحشاء والمنكر والتعظيم وراء الحضور والفهم زائد عليهما والهيبة زائدة على التعظيم وهي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم والإجلال والرجاء الطمع بمثوبته تعالى ويقابله الخوف من عقابه تعالى بتقصيره والحياء استشعار تقصيره وتوهم ذنب
وأما أسباب هذه المعاني الستة فاعلم أن حضور القلب سببه الهمة فإن قلبك تابع لهمتك فلا يحضر إلا فيما يهمك ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلا بل جائلا فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها
وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما تقدم مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر وعلاج دفعها قطع موادها أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها
وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين
إحداهما معرفة جلال الله عز وجل وعظمته وهو من أصول الإيمان
الثانية معرفة حقارة النفس وخستها وكونها عبدا مسخرا مربوبا حتى يتولد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه فيعبر عنه بالتعظيم
وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ
____________________
(1/73)
مشيئته فيه مع قلة المبالاة به وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة وكلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة
وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة
وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظم حق الله عز وجل ويقوي ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقت وخفيت وهذه المعارف إذا حصلت يقينا انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء
فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه ففي معرفة السبب معرفة العلاج ورابطة جميع هذه الأسباب الإيمان واليقين بيان الدواء النافع في حضور القلب
اعلم أن المؤمن لا بد أن يكون معظما لله عز وجل وخائفا منه وراجيا له ومستحيا من تقصيره فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة ولا ينهى عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه
وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمرا خارجا أو أمرا باطنا
أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتبعه وينصرف فيه ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره ويتسلسل ويكون الإبصار سببا للافتكار ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لا بد وأن يتفرق به فكره وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه ويقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة
____________________
(1/74)
وأما الأسباب الباطنة فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لم ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب فهذا طريقه أن يرد النفس قهرا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهول المطلع ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره
فإن كان لا يسكن هائج أفكاره بهذا الدواء المسكن فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق وهو أن ينظر في الأمور الصارفة عن إحضار القلب ولا شك أنها تعود إلى مهماته وأنها إنما صارت مهمات بشهواته فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق كما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته وقال صلى الله عليه وسلم اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي وائتوني بإنبجانية أبي جهم بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كل ركن وشرط من أعمال الصلاة
إذا سمعت نداء المؤذن فأحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة وتشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة فإن المسارعين إلى هذا النداء هم ينادون باللطف يوم العرض الأكبر
وأما الطهارة فإذا أتيت بها في مكانك وهو طرفك الأبعد ثم في ثيابك وهو غلافك الأقرب ثم في بشرتك وهو قشرك الأدنى فلا تغفل عن لبك الذي هو ذاتك وهو قلبك فاجتهد له تطهرا بالتوبة والندم على ما فرطت وتصميم العزم على الترك في المستقبل فطهر بها باطنك فإنه موقع نظر معبودك
____________________
(1/75)
وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق فإن ظاهر بدنك موقع لنظر الخلق فما بالك في عورات باطنك وفضائح سرائرك التي لا يطلع عليها إلا ربك عز وجل فاحضر تلك الفضائح ببالك وطالب نفسك بسترها وتحقق أنه لا يستر عن عين الله سبحانه ساتر وإنما يكفرها الندم والحياء والخوف فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث وجود الخوف والحياء من مكامنها فتذل به نفسك ويستكن تحت الخجلة قلبك وتقوم بين يدي الله عز وجل قيام العبد المجرم المسيء الآبق الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكسا رأسه من الحياء والخوف
وأما الاستقبال فهو صرف لظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله تعالى أفترى أن صرف القلب من سائر الأمور إلى أمر الله عز وجل ليس مطلوبا منك هيهات فلا مطلوب سواه وإنما هذه الظواهر تحريكات للبواطن وضبط للجوارح وتسكين لها بالإثبات في جهة واحدة حتى لا تبغي على القلب فإنها إذا بغت وظلمت في حركاتها والتفاتها إلى جهاتها استتبعت القلب وانقلبت به عن وجه الله عز وجل فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك واعلم أنه كما لا يتوجه الوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها فلا ينصرف القلب إلى الله عز وجل إلا بالتفرغ عما سواه
وأما الاعتدال قائما فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل تنبيها على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبرؤ عن الترؤس والتكبر مع ذكر خطر القيام بين يدي الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل وهو مطلع عليك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله
وأما النية فعزم على إجابة الله عز وجل في امتثال أمره بالصلاة وإتمامها رجاء لثوابه وخوفا من عقابه وطلبا للقربة منه متقلدا للمنة منه بإذنه لك في المناجاة مع كثرة عصيانك فعظم في نفسك قدر مناجاته وانظر من تناجي وكيف تناجي وبماذا تناجي وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجل وترتعد فرائصك من الهيبة ويصفر وجهك من الخوف
وأما التكبير فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك فإن كان في
____________________
(1/76)
قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه أو كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل وأنت أطوع له منك لله تعالى فقد اتخذته إلهك وكبرته فيكون قولك الله أكبر كلاما باللسان المجرد وقد تخلف القلب عن مساعدته وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار وحسن الظن بكرمه سبحانه وعفوه
وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة والله سبحانه يتقدس عن أن تحده الجهات حتى تقبل بوجه بدنك عليه وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السموات والأرض فانظر إليه أمتوجه إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق متبع للشهوات أو مقبل على فاطر السموات وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة بالكذب ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بإنصرافه عما سواه فاجتهد في الحال في صرفه إليه وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقا وإذا قلت حنيفا مسلما فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده فإن لم تكن كذلك كنت كاذبا فاجتهد في أن تعزم عليه في الاستقبال وتندم على ما سبق من الأحوال وإذا قلت وما أنا من المشركين فأخطر ببالك الشرك الخفي كمن يقصد بعبادته وجه الله وحمد الناس فكن حذرا متقيا من هذا الشرك واستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير براءة عن هذا الشرك فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه وإذا قلت محياي ومماتي لله فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده وأنه إن صدر ممن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائما للحال وإذا قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسدا لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها وأن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه وتبديله بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك فإن من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو ليقتله فقال أعوذ منك بهذا الحصن الحصين وهو ثابت على مكانه ذلك لا ينفعه بل لا يفيده إلا بتبديل المكان فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن فلا يغنيه مجرد القول ومن اتخذ إلهه هواه فهو في
____________________
(1/77)
ميدان الشيطان لا في حصن الله تعالى واعلم أن من مكايده أن يشغلك في صلاتك بذكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ليمنعك عن فهم ما تقرأ فاعلم أن كل ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس فإن حركة اللسان غير مقصودة بل المقصود معانيها فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم فانو به التبرك لابتداء القراءة لكلام الله سبحانه وافهم أن معناها أن الأمور كلها بالله سبحانه وإذا كانت الأمور به تعالى فلا جرم كان الحمد لله ومعناه أن الشكر لله إذ النعم من الله ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله سبحانه بشكره لا من حيث أنه مسخر من الله عز وجل ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله تعالى فإذا قلت { الرحمن الرحيم } فأحضر في قلبك جميع أنواع لطفه لتتضح لك رحمته فينبعث به رجاؤك ثم استثر من قلبك التعظيم والخوف بقولك { مالك يوم الدين } أما العظمة فلأنه لا ملك إلا له وأما الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه ثم جدد الإخلاص بقولك { إياك نعبد } وجدد العجز والاحتياج والتبرؤ من الحول والقوة بقولك { وإياك نستعين } وتحقق أنه ما تيسرت طاعتك إلا بإعانته وأن له المنة إذ وفقك لطاعته ثم عين سؤالك ولا تطلب إلا أهم حاجاتك وقل { اهدنا الصراط المستقيم } الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك وزده شرحا وتفصيلا وتأكيدا واستشهادا بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين ثم التمس الإجابة وقل آمين ولو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله في جلاله وعظمته فناهيك بذلك غنيمة فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر منته وإحسانه ولكل واحد حق فالرجاء حق الوعد والخوف حق الوعيد والعزم حق الأمر والنهي والاتعاظ حق الموعظة والشكر حق المنة والاعتبار حق أخبار الأنبياء وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ويكون الفهم بحسب وفور العلم وصفاء القلب ودرجات ذلك لا تنحصر والصلاة مفتاح القلوب فيها تنكشف أسرار الكلمات فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار والتسبيحات أيضا ثم يراعي الهيبة في القراءة فيرتل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمل
وأما دوام القيام فإنه تنبيه على إقامة القلب مع الله عز وجل على نعت واحد
____________________
(1/78)
من الحضور قال صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل مقبل على المصلي ما لم يلتفت وكما تحب حراسة الرأس والعين عن الالتفات إلى الجهات فكذلك تجب حراسة السر عن الالتفات إلى غير الصلاة فإذا التفت إلى غيره فذكره باطلاع الله عليك وبقبح التهاون بالمناجى عند غفلة المناجي ليعود إليه والزم الخشوع للقلب فإن الخلاص عن الالتفات باطنا وظاهرا ثمرة الخشوع ومهما خشع الباطن خشع الظاهر قال صلى الله عليه وسلم وقد رأى رجلا مصليا يعبث بلحيته أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فإن الرعية بحكم الراعي ولهذا ورد في الدعاء اللهم أصلح الراعي والرعية وهو القلب والجوارح
وأما الركوع والسجود فينبغي أن تجدد عندهما ذكر كبرياء الله سبحانه وترفع يديك مستجيرا بعفو الله عز وجل من عقابه ثم تستأنف له ذلا وتواضعا بركوعك وتجتهد في ترقيق قلبك وتجديد خشوعك وتستشعر ذلك وعز مولاك واتضاعك وعلو ربك وتستعين على تقرير ذلك في قلبك بلسانك فتسبح ربك وتشهد له بالعظمة وأنه أعظم من كل شيء عظيم وتكرر ذلك على قلبك لتؤكده بالتكرار ثم ترتفع من ركوعك مؤكدا للرجاء في نفسك بقولك سمع الله لمن حمده أي أجاب لمن شكره ثم تردف ذلك بالشكر المتقاضي للمزيد فتقول ربنا لك الحمد وتكثر الحمد بقولك ملء السموات وملء الأرض ثم تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة فتمكن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب وإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلا فتسجد على الأرض فافعل فإنه أجلب للخشوع وأدل على الذل وإذا وضعت نفسك موضع الذل فاعلم أنك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله وأنك من التراب خلقت وإليه تعود فعند هذا جدد على قلبك عظمة الله وقل سبحان ربي الأعلى وأكده بالتكرار فإن الكرة الواحدة ضعيفة الآثار فإذا رق وظهر ذلك فلتصدق رجاءك في رحمة الله فإن رحمته تسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر فارفع رأسك مكبرا وسائلا
____________________
(1/79)
حاجتك وقائلا رب اغفر وارحم ثم أكد التواضع بالتكرار فعد إلى السجود ثانيا كذلك
وأما التشهد فإذا جلست له فاجلس متأدبا وصرح بأن جميع ما تدلي به من الصلوات والطيبات أي من الأخلاق الطاهرة لله وكذلك الملك لله وهو معنى التحيات وأحضر في قلبك النبي صلى الله عليه وسلم وقل سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وليصدق أملك في أنه يبلغه ويرد عليك ما هو أوفى منه ثم تسلم على نفسك وعلى عباد الله الصالحين ثم تأمل أن يرد الله سبحانه عليك سلاما وافيا بعدد عباده الصالحين ثم تشهد له تعالى بالوحدانية ولمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة مجددا عهد الله سبحانه بإعادة كلمتي الشهادة ومستأنفا للتحصن بها ثم ادع في آخر صلاتك بالدعاء المأثور مع التواضع والخشوع والضراعة والابتهال وصدق الرجاء بالإجابة وأشرك في دعائك أبويك وسائر المؤمنين واقصد عند التسليم السلام على الملائكة والحاضرين وانو ختم الصلاة به واستشعر شكر الله سبحانه على توفيقه لإتمام هذه الطاعة ثم أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصلاة وخف أن لا تقبل صلاتك وأن تكون ممقوتا بذنب ظاهر أو باطن فترد صلاتك في وجهك وترجو مع ذلك أن يقبلها بكرمه وفضله
هذا تفصيل صلاة الخاشعين { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم على صلاتهم يحافظون } و { الذين هم على صلاتهم دائمون } والذين هم يناجون الله على قدر استطاعتهم في العبودية فليعرض الإنسان نفسه على هذه الصلوات فبالقدر الذي يسر له منها ينبغي أن يفرح وعلى ما يفوته ينبغي أن يتحسر وفي مداواة ذلك ينبغي أن يجتهد وأما صلاة الغافلين فهي مخطرة إلا أن يتغمده الله برحمته نسأله تعالى أن يتغمدنا برحمته ومغفرته إذ لا وسيلة لنا إلا الاعتراف بالعجز عن القيام بطاعته
ومفتاح مزيد الدرجات هي الصلوات قال الله عز وجل { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون }
____________________
(1/80)
) فمدحهم بعد الإيمان بصلاة مخصوصة وهي المقرونة بالخشوع ثم ختم أوصاف المفلحين بالصلاة أيضا فقال { والذين هم على صلاتهم يحافظون } ثم قال تعالى في ثمرة تلك الصفات { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فوصفهم بالفلاح أولا وبوراثة الفردوس آخرا وما عندي أن هذرمة اللسان مع غفلة القلب تنتهي إلى هذا الحد ولذلك قال الله عز وجل في أضدادهم { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } فالمصلون هم ورثة الفردوس وهم المشاهدون لنور الله تعالى والمتمتعون بقربه ودنوه من قلوبهم فنسأل الله أن يجعلنا منهم الإمامة
على الإمام وظائف قبل الصلاة وفي القراءة وفي أركان الصلاة وبعد السلام أما الوظائف التي هي قبل الصلاة فست
أولها أن لا يتقدم للإمامة على قوم يكرهونه وأن لا يتقدم ووراءه من هو أفقه منه إلا إذا امتنع من هو أولى منه فله التقدم ويكره عند ذلك المدافعة
ثانيها أن يراعي الإمام أوقات الصلوات فيصلي في أوائلها ليدرك رضوان الله تعالى ففضل أول الوقت على آخره كفضل الآخرة على الأولى ولا ينبغي أن يؤخر الصلاة لانتظار كثرة الجمع بل عليه المبادرة لحيازة فضيلة أول الوقت فهي أفضل من كثرة الجماعة ومن تطويل السورة وقد تأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وكانوا في سفر وإنما تأخر للطهارة فلم ينتظر وقدم عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حتى فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة فقام يقضيها فأشفقوا من
____________________
(1/81)
ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحسنتم هكذا فافعلوا وذهب مرة يصلح بين قوم فتأخر عن صلاة الظهر فقدموا أبا بكر رضي الله عنه حتى جاء صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقام إلى جانبه وليس على الإمام انتظار المؤذن وإنما على المؤذن انتظار الإمام
ثالثها أن يؤم مخلصا لله عز وجل ومؤديا أمانة الله تعالى في طهارته وجميع شروط صلاته أما الإخلاص فبأن لا يأخذ عليها أجرة قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة
ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضا وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به أو المنذور له ليس كالأجرة والجعل انتهى قال الحارثي فالقائل بالمنع من أخذ الأجرة على نوع القرب لا يمنع من أخذ المشروط في الوقف
وأما الأمانة فهي الطهارة باطنا عن الفسق والكبائر والإصرار على الصغائر فالمترشح للإمامة ينبغي أن يحترز عن ذلك بجهده فإنه كالوفد والشفيع للقوم فينبغي أن يكون خير القوم وكذا الطهارة ظاهرا عن الحدث والخبث فإنه لا يطلع عليه سواه فإن تذكر في أثناء صلاته حدثا أو خرج منه ريح فلا ينبغي أن يستحي بل يأخذ بيد من يقرب منه ويستخلفه
رابعها أن لا يكبر حتى تستوي الصفوف فليلتفت يمينا وشمالا فإن رأى خللا أمر بالتسوية قيل كانوا يتحاذون بالمناكب ويتضامون بالكعاب ولا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة والمؤذن يؤخر الإقامة عن الأذان بقدر استعداد الناس للصلاة
____________________
(1/82)
خامسها أن يرفع صوته بتكبيرة الإحرام وسائر التكبيرات ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه وليؤخر المأموم تكبيره عن تكبيرة الإمام فيبتدىء بعد فراغه وأما وظائف القراءة فثلاث
أولها أن يسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد ويجهر بالفاتحة والسورة بعدها في جميع الصبح وأولتي العشاء والمغرب وكذلك المنفرد ويجهر بقوله آمين في الصلاة الجهرية وكذا المأموم ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الإمام معا لا تعقيبا
الثانية أن يكون للإمام في القيام ثلاث سكتات أولاهن إذا كبر لدعاء الاستفتاح الثانية إذا فرغ من الفاتحة الثالثة إذا فرغ من السورة قبل أن يركع وهي أخفها وذلك بقدر ما تنفصل القراءة عن التكبير فقد نهي عن التعجيل فيه ولا يقرأ المأموم وراء الإمام إلا الفاتحة وإن لم يسمع المأموم في الجهرية لبعده أو كان في السرية فلا بأس بقراءته السورة
الثالثة التخفيف أولى سيما إذا كثر الجمع لقوله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ اقرأ سورة سبح والسماء والطارق والشمس وضحاها
____________________
(1/83)
وأما وظائف الأركان فثلاثة
أولها أن يخفف الركوع والسجود فلا يزيد في التسبيحات على ثلاث
الثانية في المأموم ينبغي أن لا يسابق الإمام في الركوع والسجود بل يتأخر فلا يهوي للسجود إلا إذا وصلت جبهة الإمام إلى الأرض ولا يهوي للركوع حتى يستوي الإمام راكعا
الثالثة لا يزيد في دعاء التشهد على مقدار التشهد حذرا من التطويل ولا يخص نفسه بالدعاء بل يأتي بصيغة الجمع فيقول اللهم اغفر لنا وأما وظائف التحلل فثلاث
أولها أن ينوي بالتسليمتين السلام على القوم والملائكة
الثانية أن يثبت عقب السلام سيما إذا كان خلفه نسوة فلا يقوم حتى ينصرفن
الثالثة إذا وثب فينبغي أن يقبل بوجهه على الناس فضل الجمعة وآدابها
اعلم أن هذا يوم عظيم عظم الله به الإسلام وخص به المسلمين قال الله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فحرم الاشتغال بأمور الدنيا وبكل صارف عن السعي إلى الجمعة وقال صلى الله عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة وقال صلى الله عليه وسلم من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه والعذر مثل المطر والوحل والفزع والمرض والتمريض إذا لم يكن للمريض قيم ونحوها ويستحب الغسل فيه ولا بأس من تقريبه من الرواح ليكون أقرب عهدا بالنظافة ويستحب فيه أخذ الشعر وقلم الظفر وقص الشارب وتطييب الرائحة ولبس أحسن الثياب ويستحب البكور إلى الجامع وأن يكون في سعيه خاشعا متواضعا مبادرا إلى ندائه تعالى إلى الجمعة وينبغي أن لا يتخطى رقاب الناس ولا يمر بين أيديهم والبكور يسهل عليه ذلك فقد ورد وعيد شديد في تخطي
____________________
(1/84)
الرقاب ومهما كان الصف الأول متروكا خاليا فله أن يتخطى رقاب الناس لأنهم ضيعوا حقهم وتركوا مواضع الفضيلة قال الحسن البصري رضي الله عنه تخطوا رقاب الذين يقعدون على أبواب الجامع يوم الجمعة فإنه لا حرمة لهم وإذا دخل المسجد فليركع ركعتين وإن كان الإمام يخطب ولا يمر بين يدي الناس بل يجلس إلى أقرب أسطوانه أو حائط حتى لا يمرون بين يديه أعني بين يدي المصلي فإن ذلك منهي عنه ومن اجتاز به فينبغي أن يدفعه فإن لم يجد أسطوانه فلينصب بين يديه شيئا طوله قدر ذراع ليكون ذلك علامة لحده ويندب طلب الصف الأول فإن فضله كثير والقرب من الخطيب ليستمع الخطبة وتكره الصلاة في الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد وعليه أن يقطع الكلام عند خروج الخطيب بل يشتغل بجواب المؤذن ثم باستماع الخطبة وقال صلى الله عليه وسلم من قال لصاحبه والإمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا والإمام يخطب فلا جمعة له وهذا يدل على أن الإسكات ينبغي أن يكون بإشارة أو رمي حصاة لا بالنطق فإذا قضيت الصلاة فليرجع إلى شأنه ذاكرا الله عز وجل مفكرا في آلائه شاكرا الله تعالى على توفيقه خائفا من تقصيره وكان صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته ويستحب أن يكثر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم وفي ليلته وأن يتصدق فيه إلا على من سأل والإمام يخطب قال ابن مسعود إذا سأل الرجل في المسجد فقد استحق أن لا يعطى يعني هؤلاء السؤال في الجامع الذين يتخطون رقاب الناس إلا أن يسأل قائما أو قاعدا في مكانه من غير تخط وكره بعض السلف شراء الماء في المسجد من السقاء ليشربه أو يسبله حتى لا يكون مبتاعا في المسجد فإن البيع والشراء في المسجد مكروه وقالوا لا بأس لو أعطى الفضة خارج المسجد ثم شرب أو سبل في المسجد وينبغي أن يزيد في الجمعة في أنواع خيراته فإن الله سبحانه إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال
____________________
(1/85)
مسائل متفرقة يحتاج إلى معرفتها مسألة
الفعل القليل وإن كان لا يبطل الصلاة فهو مكروه إلا لحاجة وذلك في دفع المار وقتل العقرب وحاجته إلى الحك الذي يشوش عليه الخشوع ومهما تثاءب فلا بأس أن يضع يده على فيه وإن عطس حمد الله عز وجل في نفسه ولم يحرك لسانه وإن تجشأ فينبغي أن لا يرفع رأسه إلى السماء مسألة
يسن أن يقف الواحد عن يمين الإمام متأخرا عنه قليلا والمرأة الواحدة تقف خلف الإمام فإن كان معها رجل وقف الرجل عن يمين الإمام وهي خلف الرجل مسألة
المسبوق إذا أدرك آخر صلاة الإمام فهو أول صلاته فليوافق الإمام وليبن عليه وليقنت في الصبح في آخر صلاة نفسه وإن قنت مع الإمام وإن أدرك مع الإمام بعض القيام فلا يشتغل بالدعاء وليبدأ بالفاتحة وليخففها فإن ركع الإمام قبل تمامها وقدر على لحوقه في اعتداله عن الركوع فليتم فإن عجز وافق الإمام وركع وكان لبعض الفاتحة حكم جميعها فتسقط عنه بالسبق وإن ركع الإمام وهو في السورة فليقطعها وإن أدرك الإمام في السجود أو التشهد كبر للإحرام ثم جلس ولم يكبر بخلاف ما إذا أدركه في الركوع فإنه يكبر ثانيا في الهوي لأن ذلك انتقال محسوب له ولا يكون مدركا للركعة ما لم يطمئن راكعا في الركوع والإمام بعد في حد الراكعين فإن لم يتم طمأنينته إلا بعد مجاوزة الإمام حد الراكعين فاتته الركعة مسألة
من فاتته الظهر إلى وقت العصر فليصل الظهر أولا ثم العصر فإن وجد جماعة فليصل العصر ثم ليصل الظهر بعده فإن الجماعة بالأداء أولى مسألة
من صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة فالأحب قضاء الصلاة ولا يلزمه ولو رأى
____________________
(1/86)
النجاسة في أثناء الصلاة رمى بالثوب وأتم وأصل هذا قصة خلع النعلين حيث أخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عليهما نجاسة فخلعهما ولم يستأنف الصلاة مسألة
من ترك التشهد الأول أو شك فلم يدر أصلى ثلاثا أو أربعا أخذ باليقين وسجد سجدتي السهو قبل السلام فإن نسي فبعد السلام مهما تذكر على القرب مسألة
الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل أو جهل بالشرع لأن امتثال أمر الله عز وجل مثل امتثال أمر غيره وتعظيمه كتعظيم غيره في حق القصد ومن دخل عليه عالم فقام له فلو قال نويت أن أنتصب قائما تعظيما لدخول زيد الفاضل لأجل فضله متصلا بدخوله مقبلا عليه بوجهي كان سفيها عقله بل كما يراه ويعلم فضله تنبعث داعية التعظيم فتقيمه ويكون معظما إلا إذا قام لشغل آخر أو في غفلة واشتراط كون الصلاة ظهرا أداء فرضا في كونه امتثالا كاشتراط كون القيام مقرونا بالدخول مع الإقبال بالوجه على الداخل وانتفاء باعث آخر سواه وقصد التعظيم به ليكون تعظيما فإنه لو قام مدبرا عنه أو صبر فقام بعد ذلك بمدة لم يكن معظما ثم هذه الصفات لا بد وأن تكون معلومة وأن تكون مقصودة ثم لا يطول حضورها في النفس في لحظة واحدة وإنما يطول نظم الألفاظ الدالة عليها إما تلفظا باللسان وإما تفكرا بالقلب فمن لم يفهم نية الصلاة على هذا الوجه فكأنه لم يفهم النية فليس فيه إلا أنك دعيت إلى أن تصلي في وقت فأجبت وقمت فالوسوسة محض الجهل مسألة
لا ينبغي أن يتقدم المأموم على الإمام في الركوع والسجود والرفع منهما ولا في سائر الأعمال ولا ينبغي أن يساويه بل يتبعه ويقفو أثره فهذا معنى الاقتداء فإن تقدم عليه ففي بطلان صلاته خلاف وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير فيه وقال أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار
____________________
(1/87)
مسألة
حق على من حضر الصلاة إذا رأى من غيره إساءة في صلاته أن يغيره وينكر عليه وإن صدر من جاهل رفق بالجاهل وعلمه فمن ذلك الأمر بتسوية الصفوف ومنع المنفرد بالوقوف خارج الصف والإنكار على من يرفع رأسه قبل الإمام إلى غير ذلك من الأمور وعن عمر رضي الله عنه قال تفقدوا إخوانكم في الصلاة فإذا فقدتموهم فإن كانوا مرضى فعودوهم وإن كانوا أصحاء فعاتبوهم والعتاب إنكار على من ترك الجماعة ولا ينبغي أن يتساهل فيه وقد كان الأولون يبالغون فيه بيان نوافل العبادات
اعلم أن ما عدا الفرائض من الصلوات يسمى نافلة وتطوعا فمنه ما يتعلق بأسباب كالكسوف والاستسقاء ومنه ما يتعلق بأوقات كرواتب الصلاة ونحوها فمن الثاني راتبة الصبح وهي ركعتان يدخل وقتها بطلوع الفجر فإن دخل المسجد وقد قامت الصلاة فليشتغل بالمكتوبة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ثم إذا فرغ من المكتوبة قام إليهما وصلاهما وراتبة الظهر أربع قبلها وأربع بعدها وله الاقتصار على ركعتين قبل وبعد وراتبة العصر وهي أربع ركعات قبلها ولم تكن مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها كمواظبته على نافلة الظهر وراتبة المغرب وهما ركعتان بعد الفريضة وأما ركعتان قبلها بين أذان المؤذن وإقامته على سبيل المبادرة فكان يفعله كثير من الصحب وصح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها على سبيل التخيير وراتبة العشاء بعدها ركعتان أو أربع وأما الوتر فوقته بعد العشاء وأكثره إحدى عشرة ركعة وله أن يوتر بتسع وسبع وخمس وثلاث موصولة بتسليمة واحدة أو مفصولة بتسليمتين وجعله بعد التهجد في آخر الليل أفضل وأما صلاة الضحى فأكثر ما نقل في عدد ركعاتها ثمان وأقله ركعتان ووقتها بعد إشراق الشمس وارتفاعها وأما صلاة العيدين فهي سنة مؤكدة وشعار
____________________
(1/88)
من شعائر الدين ويستحب يوم العيد الاغتسال والتزين والتطيب وأما صلاة التراويح فهي عشرون ركعة وكيفيتها معروفة وأما صلاة الخسوف فركعتان ينادي لهما ويصليهما الإمام بالناس جماعة في المسجد وفي كل منهما ركوعان وسجودان ثم يخطب بعدهما ويأمر الناس بالصدقة والتوبة ووقتها عند ابتداء الخسوف إلى تمام الانجلاء وأما صلاة الاستسقاء فإذا غارت الأنهار وانقطعت الأمطار فيستحب للإمام أن يأمر الناس أولا بصيام ثلاثة أيام وما أطاقوا من الصدقة والخروج من المظالم والتوبة من المعاصي ثم يخرج بهم اليوم الرابع وبالعجائز والصبيان في ثياب بذلة واستكانة متواضعين ولو خرج أهل الذمة أيضا متميزين لم يمنعوا فإذا اجتمعوا في المصلى الواسع من الصحراء نودي الصلاة جامعة فصلى بهم الإمام ركعتين مثل صلاة العيد بغير تكبير ثم يخطب خطبتين ويكثر من الاستغفار والدعاء وأما صلاة الجنائز فكيفيتها معروفة وهي من فرائض الكفايات وإنما تصير نفلا في حق من لم تتعين عليه بحضور غيره وأما تحية المسجد فركعتان وهي سنة مؤكدة وإن اشتغل بفرض أو قضاء تأدى به التحية وحصل الفضل إذ المقصود أن لا يخلو ابتداء دخوله عن العبادة الخاصة بالمسجد وأما ركعتا الوضوء بعده فمستحبتان لأن الوضوء قربة ومقصودها الصلاة وأما صلاة الاستخارة فمن هم بأمر فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب و { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية الفاتحة و { قل هو الله أحد } فإذا فرغ دعا وقال اللهم إني استخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فقدره لي وبارك لي فيه ثم يسره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ويسمي حاجته الأوقات التي تكره فيها الصلاة
هي خمسة بعد العصر وبعد الصبح ووقت الزوال ووقت الطلوع والغروب تكره فيها صلاة لا سبب لها أما ما له سبب كقضاء راتبة وكسوف وجنازة فلا تكره فيها وسر النهي التوقي من مضاهاة عبدة الشمس وبعث الداعية والنشاط ففي تعطيل هذه الأوقات زيادة تحريض وبعث على انتظار قضاء الوقت
____________________
(1/89)
ما يقضى من النوافل
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر فقيل له أما نهيتنا عن هذا فقال هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني عنهما الوفد وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غلبه نوم أو مرض فلم يقم تلك الليلة صلى من أول النهار اثنتي عشرة ركعة فمن كان له ورد فعاقه عن ذلك عذر فينبغي أن لا يرخص لنفسه في تركه بل يتداركه في وقت آخر حتى لا تميل نفسه إلى الدعة والرفاهية فتداركه حسن على سبيل مجاهدة النفس فيقصد به أن لا يفتر في دوام عمله
____________________
(1/90)
كتاب أسرار الزكاة
جعل الله تعالى الزكاة أحد مباني الإسلام وأردف بذكرها الصلاة التي هي أعلى الأعلام فقال تعالى { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقال صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وشدد الوعيد على المقصرين فيها فقال { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ومعنى الإنفاق في سبيل الله إخراج الزكاة قال الأحنف بن قيس كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر فقال بشر
____________________
(1/91)
الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي في أقفائهم يخرج من جباههم ولهذا التشديد صار من مهمات الدين الكشف عن أسرار الزكاة ومعانيها الظاهرة والباطنة وفي ذلك فصول أداء الزكاة وشروطها
اعلم أنه يجب على مؤدي الزكاة مراعاة أمور
الأول البدار عقيب الحول وفي زكاة الفطر لا يؤخرها عن يوم الفطر ويدخل وقت وجوبها بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان ووقت تعجيلها شهر رمضان كله ومن آخر زكاة ماله مع التمكن عصى ولم يسقط عنه بتلف ماله وتمكنه بمصادفة المستحق وتعجيل الزكاة جائز
الثاني أن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر فإن أعين المساكين في كل بلدة تمتد إلى أموالها وفي النقل تخييب للظنون فإن فعل ذلك أجزأه في قول ولكن الخروج عن شبهة الخلاف أولى فليخرج زكاة كل مال في تلك البلدة ثم لا بأس أن يصرف إلى الغرباء في تلك البلدة
الثالث أن يقسم ماله بعدد الموجودين من الأصناف الثمانية في بلده ويوجد في جميع البلاد أربعة أصناف الفقراء والمساكين والغارمون والمسافرون أعني أبناء السبيل وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف
____________________
(1/92)
سر كون الزكاة من مباني الإسلام
في ذلك ثلاثة معان
المعنى الأول أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب و الأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم ولذلك قال الله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام قسم صدقوا التوحيد ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدخروا دينارا ولا درهما كما جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع أمواله وقسم دون هؤلاء وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقا سوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة قال نعم أما سمعت
____________________
(1/93)
قوله عز وجل { وآتى المال على حبه ذوي القربى } الآية واستدلوا بقوله عز وجل { ومما رزقناهم ينفقون } وبقوله تعالى { وأنفقوا من ما رزقناكم } فهو داخل في حق المسلم على المسلم ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجا أن يزيل حاجته عدا مال الزكاة والقسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة
المعنى الثاني التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال تعالى { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتيادا والزكاة بهذا المعنى طهرة أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى
المعنى الثالث شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال وما أخس من ينظر
____________________
(1/94)
إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله وظائف المزكي
الأولى التعجيل عن وقت الوجوب إظهارا للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى قلوب الفقراء ومبادرة لعوائق الزمان أن يعوق عن الخيرات وعلما بأن في التأخير آفات مع ما يتعرض العبد له من العصيان لو أخر عن وقت الوجوب ومهما ظهرت داعية الخير من الباطن فينبغي أن يغتنم فإن ذلك لمة الملك وما أسرع تقلب المؤمن والشيطان يعدكم الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر وله لمة عقيب لمة الملك فليغتنم الفرصة فيه
الوظيفة الثانية الإسرار فإن ذلك أبعد عن الرياء والسمعة قال تعالى { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وقد بالغ في فضل الإخفاء جماعة حتى اجتهدوا أن لا يعرف القابض المعطي فكان بعضهم يوصل إلى يد الفقير على يد غيره بحيث لا يعرف المعطي وكان يستكتم المتوسط شأنه ويوصيه بأن لا يفشيه كل ذلك توصلا إلى رضاء الرب واحترازا من الرياء والسمعة ومهما كا الشهرة مقصودة له حبط عمله
الثالثة أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيبا للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء فقد قال تعالى { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس
____________________
(1/95)
فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان وهذا لأن في الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء وهو هتك ستر الفقير فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وقد قال الله تعالى { وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية } ندب إلى العلانية أيضا لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيها ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال
الرابعة أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى قال الله تعالى { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } والمن أن يذكرها ويتحدث بها أو يستخدمه بالعطاء أو يتكبر عليه لأجل عطائه والأذى أن يظهرها أو يعيره بالفقر أو ينتهره أو يوبخه بالمسألة وأصل المن أن يرى نفسه محسنا إلى الفقير ومنعما عليه وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهنا به فحقه أن يتقلد منة الفقير ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرها في الفصل قبل لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه إما ببذل ماله إظهار لحب الله تعالى أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد
وأما الأذى فمنبعه رؤيته أنه خير من الفقير وهذا جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وخطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تمنى درجته كيف وقد جعله الله تعالى متجرة له حتى يخلصه من عهدته بقبوله منه
الخامسة أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها والعجب من
____________________
(1/96)
المهلكات وهو محبط للأعمال قيل لا يتم المعروف إلا بثلاث تصغيره وتعجيله وستره
السادسة أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأجله وأطيبه فإن الله تعالى طيب ولا يتقبل إلا طيبا وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو أهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } أي لا تأخذوه إلا مع كراهية وحياء وهو معنى الإغماض
السابعة أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة ولا يكتفي بأن يكون من عموم الأصناف الثمانية فإن في عمومهم خصوص صفات فليراع خصوصها وهي ستة
الأولى أن يطلب الأتقياء لأنهم يستعينون بالمال على التقوى فيكون شريكا لهم في طاعتهم بإعانته إياهم
الثانية أن يكون من أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة له على العلم والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم فقيل له لو عممت فقال إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم فتفريغهم للعلم أفضل
____________________
(1/97)
الثالثة أن يكون صادقا في تقواه وعلمه بالتوحيد وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه وأن الواسطة مسخر بتسخير الله إذ سلط عليه دواعي الفعل ويسر له الأسباب فأعطى ومن لم يصف باطنه عن رؤية الوسائط إلا من حيث أنهم وسائط فكأنه لم ينفك عن الشرك الخفي فليتق الله سبحانه في تصفية توحيده عن كدورات الشرك وشوائبه
الرابعة أن يكون مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلباب التحمل قال الله تعالى { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم وهذا ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة وبالكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال
الخامسة أن يكون معيلا أو محبوسا بمرض أو بسبب من الأسباب فيوجد فيه معنى قوله عز وجل { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } أي حبسوا في طريق الآخرة بعيلة أو ضيق معيشة أو إصلاح قلب { لا يستطيعون ضربا في الأرض } لأنهم مقصوصو الجناح مقيدو الأطراف فبهذه الأسباب كان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم العشرة فما فوقها وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء على مقدار العيلة وسئل عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال كثرة العيال وقلة المال
____________________
(1/98)
السادسة أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يحصى قال علي رضي الله عنه لأن أصل أخا من إخواني بدرهم أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهما والأصدقاء وإخوان الخير أيضا يقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب فليراع هذه الدقائق فهذه هي الصفات المطلوبة وفي كل صفة درجات فينبغي أن يطلب أعلاها فإن وجد من جمع جملة من هذه الصفات فهي الذخيرة الكبرى والغنيمة العظمى مصارف الزكاة وأصناف قابضيها
اعلم أنه لا يستحق الزكاة إلا مسلم اتصف بصفة من صفات الأصناف الثمانية المذكورين في كتاب الله تعالى
الصنف الأول الفقراء والفقير هو الذي ليس له مال ولا قدرة على الكسب فمن قدر على كسب فإن ذلك يخرجه عن الفقر وإن كان متفقها ويمنعه الاشتغال بالكسب عن التفقه فهو فقير ولا تعتبر قدرته وإن كان متعبدا يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات فليكتسب لأن الكسب أولى من ذلك
الصنف الثاني المساكين والمسكين هو الذي لا يفي دخله بخرجه فقد يملك ألف درهم وهو مسكين وقد لا يملك إلا فأسا وحبلا وهو غني والدويرة التي يسكنها والثوب الذي يستره على قدر حاله لا يسلبه اسم المسكين وكذا أثاث البيت أعني ما يحتاج إليه وذلك ما يليق به وكذا كتب الفقه لا تخرجه عن المسكنة فإنه محتاج إليها
الصنف الثالث العاملون وهم السعاة الذين يجمعون الزكوات ويدخل فيه الكاتب والمستوفي والحافظ والنقال
____________________
(1/99)
الصنف الرابع المؤلفة قلوبهم على الإسلام وهو الشريف الذي أسلم وهو مطاع في قومه وفي إعطائه تقريره على الإسلام وترغيب نظائره وأتباعه
الصنف الخامس الأرقاء يدفع إلى السيد ما يفك به رقبة العبد ويدفع للعبد أيضا ما يفك به رقبته
الصنف السادس الغارمون والغارم هو الذي استقرض في طاعة أو مباح وهو فقير فإن استقرض في معصية فلا يعطى إلا إذا تاب وإن كان غنيا لم يقض دينه إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة وإطفاء فتنة
الصنف السابع الغزاة الذين لهم مرسوم في ديوان المرتزقة فيصرف إليهم سهم وإن كانوا أغنياء إعانة لهم على الغزو
الصنف الثامن ابن السبيل وهو الذي شخص من بلده ليسافر في غير معصية أو اجتاز فيه فيعطى إن كان فقيرا وإن كان له مال ببلد آخر أعطي بقدر بلغته وظائف القابض وهي أربع
الأولى أن يفهم أن الله عز وجل أوجب صرفه إليه ليكفى همه ويكون عونا له على الطاعة فإن استعان به على المعصية كان كافرا لأنعم الله عز وجل مستحقا للبعد
____________________
(1/100)
والمقت من الله سبحانه
الثانية أن يشكر المعطي ويدعو له ويثني عليه ويكون شكره دعاؤه بحيث لا يخرج عن كونه واسطة ولكنه طريق وصول نعمة الله سبحانه إليه وللطريق حق من حيث جعله الله طريقا وواسطة وذلك لا ينافي رؤية النعمة من الله سبحانه فقد قال صلى الله عليه وسلم من لم يشكر الناس لم يشكر الله وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم وهو خالقها نحو قوله تعالى { نعم العبد إنه أواب } إلى غير ذلك وقال صلى الله عليه وسلم من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عنده نفسه وعند الناس صنيعه فوظيفة المعطي الاستصغار ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام وعلى كل عبد القيام بحقه وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلا
الثالثة أن ينظر فيما يأخذه فإن لم يكن من حله تورع عنه فلا يأخذ ممن أكثر كسبه من الحرام إلا إذا ضاق الأمر عليه وكان ما يسلم له لا يعرف له مالكا معينا فله أن يأخذ بقدر الحاجة فإن فتوى الشرع في مثل هذا أن يتصدق به وذلك إذا عجز عن الحلال
الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق ثم إذا تحققت حاجته فلا يأخذن مالا كثيرا بل ما يتمم كفايته من وقت أخذه إلى سنة فهذا أقصى ما يرخص فيه من حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخر لعياله قوت سنة ومن العلماء من ذهب إلى أن للفقير أن يأخذ مقدار ما يشتري به ضيعة فيستغني به طول عمره أو يهيئ بضاعة
____________________
(1/101)
ليتجر بها ويستغني لأن هذا هو الغنى وقد قال عمر رضي الله عنه إذا أعطيتم فأغنوا حتى ذهب قوم إلى أن من افتقر فله أن يأخذ بقدر ما يعود به إلى مثل حاله ولو عشرة آلاف درهم ولما تبرع أبو طلحة رضي الله عنه ببستانه قال له صلى الله عليه وسلم اجعله في قرابتك فهو خير لك فأعطاه حسان وأبا قتادة فحائط من تخل لرجلين كثير مغن صدقة التطوع وفضلها وآداب أخذها وإعطائها فضيلة الصدقة
من الأخبار قوله صلى الله عليه وسلم تصدقوا ولو بتمرة وفي رواية اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وقال صلى الله عليه وسلم كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وقال صلى الله عليه وسلم صدقة السر تطفيء غضب
____________________
(1/102)
الرب عز وجل وسئل صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفاقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وقال صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف إقرؤوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافا } وقال صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يكسو مسلما إلا كان في حفظ الله عز وجل ما دامت عليه منه رقعة
ومن الآثار قول عروة لقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفا وإن درعها لمرقع وكان عمر رضي الله عنه يقول اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على أولي الحاجة منا وقال ابن أبي الجعد إن الصدقة لتدفع سبعمائة باب من السوء وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضعفا
____________________
(1/103)
وجوب فضل إخفاء الصدقة
قال الله تعالى { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وفي الإخفاء خمسة معان
الأول أنه أبقى للستر على الآخذ فإن أخذه ظاهرا هتك ستر المروءة وكشف عن الحاجة وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف
الثاني أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه أخذ مع الاستغناء والحسد وسوء الظن والغيبة من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى قال أيوب السختياني إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسد وقال آخر خشية أن يقول إخواني من أين له هذا
الثالث إعانة المعطي على إسرار العمل فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر والإعانة على إتمام المعروف معروف دفع رجل إلى بعض العلماء شيئا ظاهرا فرده ودفع إليه شيئا آخر في السر فقبل فقيل له في ذلك فقال إن هذا عمل بالأدب في إخفاء معروفه فقبلته وذاك أساء أدبه في عمله فرددته عليه ورد بعضهم ما دفع إليه علانية وقال له إنك أشركت غير الله سبحانه فيما كان لله تعالى ولم تقنع بالله عز وجل فرددت عليك شركك
الرابع أن في إظهار الأخذ ذلا وامتهانا وليس للمؤمن أن يذل نفسه
الخامس الاحتراز عن شبهة الشركة لحديث من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها والأعمال بالنيات فينبغي للمخلص أن يكون مراقبا لنفسه حتى لا يتدلى بحبل الغرور ولا ينخدع بمكر الشيطان
نسأل الله الكريم حسن العون والتوفيق
____________________
(1/104)
كتاب أسرار الصوم
أعظم الله على عباده المنة بما دفع عنهم كيد الشيطان وخيب ظنه إذ جعل الصوم حصنا لأوليائه وجنة وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الصوم نصف الصبر قال تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فقد جاز ثواب الصوم قانون التقدير والحساب وناهيك في معرفة فضله قوله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يقول الله عز وجل إنما يذر شهوته وطعامه لأجلي فالصوم لي وأنا الذي أجزي به وهو موعود بلقاء الله تعالى في جزاء صومه قال صلى الله عليه وسلم للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند
____________________
(1/105)
لقاء ربه وقيل في قوله تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } كان عملهم الصيام لأنه قال { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغا ويجازف جزافا فلا يدخل تحت وهم و تقدير وجدير بأن يكون كذلك لأن الصوم إنما كان له ومشرفا بالنسبة إليه وإن كانت العبادات كلها له لمعنيين
أحدهما أن الصوم كف وترك وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد وجميع الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى والصوم لا يراه إلا الله عز وجل فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد
والثاني أنه قهر لعدو الله عز وجل فإن وسيلة الشيطان الشهوات وإنما تقوى بالأكل والشرب وفي قمع عدو الله نصرة الله سبحانه وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له قال تعالى { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } فمن هذا الوجه صار الصوم باب العبادة وصار جنة وإذا عظمت فضيلته إلى هذا الحد فلا بد من بيان شروطه الظاهرة والباطنة بذكر أركانه وسننه وشروطه الباطنة الواجبات والسنن الظاهرة واللوازم بإفساده
أما الواجبات الظاهرة فستة
الأول مراقبة أول شهر رمضان وذلك برؤية الهلال فإن غم فاستكمال ثلاثين يوما من شعبان ونعني بالرؤية العلم ويحصل بذلك قول عدل واحد ولا يثبت هلال شوال إلا بقول عدلين احتياطا للعبادة ومن سمع عدلا ووثق بقوله وغلب على ظنه صدقه لزمه الصوم وإن لم يقض القاضي به
____________________
(1/106)
الثاني النية ولا بد لكل ليلة من نية معينة جازمة ينوي فريضة صوم رمضان لله تعالى
الثالث الإمساك عن إيصال شيء إلى الجوف عمدا مع ذكر الصوم فيفسد صومه بالأكل والشرب والسعوط والحقنة ولا يفسد بالفصد والحجامة والاكتحال وإدخال الميل في الأذن والإحليل وما يصل بغير قصد من غبار الطريق أو ذبابة تسبق إلى جوفه أو ما يسبق إلى جوفه في المضمضة فلا يفطر إلا إذا بالغ في المضمضة فيفطر لأنه مقصر وهو الذي أردنا بقولنا عمدا فأما ذكر الصوم فأردنا به الاحتراز عن الناسي فإنه لا يفطر
الرابع الإمساك عن الجماع فإن جامع ناسيا لم يفطر وإن جامع ليلا أو احتلم فأصبح جنبا لم يفطر
الخامس الإمساك عن الاستمناء وهو إخراج المني قصدا بجماع أو بغير جماع فإن ذلك يفطر ولا يفطر بقبلة زوجته ولا بمضاجعتها ما لم ينزل لكن يكره ذلك إلا أن يكون شيخا أو مالكا لأربه فلا بأس بالتقبيل وتركه أولى
السادس الإمساك عن إخراج القيء فالاستقاء يفسد الصوم وإن ذرعه القيء لم يفسد صومه وإذا ابتلع نخامة من حلقه أو صدره لم يفسد صومه رخصة لعموم البلوى به إلا أن يبتلعه بعد وصوله إلى فيه فإنه يفطر عند ذلك
____________________
(1/107)
وأما لوازم الإفطار فأربعة القضاء والكفارة والفدية وإمساك بقية النهار تشبها بالصائمين
أما القضاء فوجوبه عام على كل مسلم مكلف ترك الصوم بعذر أو بغير عذر فالحائض تقضي الصوم وكذا المرتد أما الكافر والصبي والمجنون فلا قضاء عليهم ولا يشترط التتابع في قضاء رمضان ولكن يقضي كيف شاء متفرقا ومجموعا
وأما الكفارة فلا تجب إلا بالجماع وما عداه لا تجب به كفارة والكفارة عتق رقبة فإن أعسر فصوم شهرين متتابعين وإن عجز فإطعام ستين مسكينا مدا مدا
وأما إمساك بقية النهار فيجب على من عصى بالفطر أو قصر فيه ويجب الإمساك إذا شهد بالهلال عدل واحد يوم الشك والصوم في السفر أفضل من الفطر إلا إذا لم يطق
وأما الفدية فتجب على الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على ولديهما لكل يوم مد حنطة لمسكين واحد مع القضاء والشيخ الهرم إذا لم يصم تصدق عن كل يوم مدا سنن الصيام
تأخير السحور تعجيل الفطر بالتمر أو الماء قبل الصلاة الجود في شهر رمضان مدارسة القرآن الاعتكاف في العشر الأخير ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة الإنسان ولا بأس في المسجد بالطيب وعقد النكاح وبالأكل والنوم وغسل اليد في الطست فكل ذلك قد يحتاج إليه أنواع الصوم ودرجاته
اعلم أن الصوم ثلاث درجات صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية
____________________
(1/108)
أسرار الصوم وشروطه الباطنة هي ستة أمور
الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله تعالى
الثاني حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء
الثالث كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه ولذلك سوى الله عز وجل بين السمع وأكل السحت فقال تعالى { سماعون للكذب أكالون للسحت }
الرابع كف بقية الجوارح من اليد والرجل عن الآثام وعن المكاره وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار فلا معنى للصوم عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرا ويهدم مصرا وقد قال صلى الله عليه وسلم كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش فقيل هو الذي يفطر على الحرام وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام
الخامس أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات أن يدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الطعام فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار
____________________
(1/109)
إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عن الملكوت محجوب
السادس أن يكون قلبه بعد الإفطار مضطربا بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها التطوع بالصيام
اعلم أن استحباب الصوم يتأكد في الأيام الفاضلة وفواضل الأيام بعضها يوجد في كل سنة وبعضها يوجد في كل شهر وبعضها في كل أسبوع أما السنة فبعد أيام رمضان يوم عرفة ويوم عاشوراء والعشر الأول من ذي الحجة وكان صلى الله عليه وسلم يكثر صوم شعبان وفي الخبر أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم لأنه ابتداء السنة فبناؤها على الخير أحب وأرجى لدوام بركته وفي الخبر إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان ولهذا يستحب أن يفطر قبل رمضان أياما فإن وصل شعبان برمضان فجائز ولا يجوز أن يقصد استقبال رمضان بيومين أو ثلاثة إلا أن يوافق وردا له وكره بعض الصحابة أن يصام رجب كله حتى لا يضاهى بشهر رمضان
وأما ما يتكرر في الشهر فأول الشهر وأوسطه وآخره ووسطه الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر
____________________
(1/110)
وأما في الأسبوع فالاثنين والخميس والجمعة فيستحب فيها الصيام وتكثير الخيرات لتضاعف أجورها ببركه هذه الأوقات
وإذا ظهرت أوقات الفضيلة فالكمال في أن يفهم الإنسان معنى الصوم وأن سره تصفيه القلب وتفريغ الهم لله عز وجل
____________________
(1/111)
كتاب أسرار الحج
جعل الله البيت العتيق مثابة للناس وأمنا وأكرمه بالنسبة إلى نفسه تشريفا وتحصينا ومنا وجعل زيارته والطواف به حجابا بين العبد وبين العذاب ومجنا والحج من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وتمام الإسلام وكمال الدين وأجدر بها أن تصرف العناية إلى شرحها وتفصيل أركانها وسننها وآدابها وفضائلها وأسرارها فضائل الحج وفضيلة البيت ومكة والمدينة وشد الرحال إلى المساجد
قال الله عز وجل { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } قال قتادة لما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج نادى يا أيها الناس إن الله عز وجل بنى بيتا فحجوه وقال صلى الله عليه وسلم من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
____________________
(1/112)
ويروى أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة وكل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة وعن الحسن البصري رضي الله عنه أن صدقة درهم فيها بمئة ألف وكذلك كل حسنة بمئة ألف ويقال إن السيئات تضاعف بها كما تضاعف الحسنات ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة استقبل الكعبة وقال إنك لخير أرض الله عز وجل وأحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أني أخرجت منك لما خرجت
وما بعد مكة بقعة أفضل من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأعمال فيها أيضا مضاعفة قال صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وبعد مدينته الأرض المقدسة فإن الصلاة فيها بخمسمائة صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وما بعد هذه البقاع الثلاث فالمواضع فيها متساوية إلا الثغور فإن المقام بها للمرابطة فيها فيه فضل عظيم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى لأن المساجد بعد المساجد الثلاثة متماثلة ولا بلد إلا وفيه مسجد فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر شروط وجوب الحج وصحة أركانه وواجباته ومحظوراته
أما الشرائط فشرط صحة الحج اثنان الوقت والإسلام فيصح حج الصبي ويحرم بنفسه إن كان مميزا ويحرم عنه وليه إن كان صغيرا ويفعل به ما يفعل في الحج من الطواف والسعي وغيره وأما الوقت فهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر فمن أحرم بالحج في غير هذه المدة فهي
____________________
(1/113)
عمرة وجميع السنة وقت العمرة وأما شروط وقوعه عن حجة الإسلام فالبلوغ والعقل والوقت
وأما شرط لزومه فالاستطاعة وهي نوعان
أحدهما المباشرة وذلك له أسباب
أما في نفسه فبالصحة وأما في الطريق فبأن تكون خصبة آمنة بلا بحر مخطر ولا عدو قاهر وأما في المال فبأن يجد نفقة ذهابه وإيابه إلى وطنه وأن يملك نفقة من تلزمه نفقته في هذه المدة وأن يملك ما يقضي به ديونه وأن يقدر على راحلة أو كرائها بمحمل أو زاملة إن استمسك على الزاملة
وأما النوع الثاني فاستطاعة المعضوب بماله وهو أن يستأجر من يحج عنه بعد فراغ الأجير عن حجة الإسلام لنفسه ومن استطاع لزمة الحج وله التأخير ولكنه فيه على خطر فإن تيسر له ولو في آخر عمره سقط عنه وإن مات قبل الحج لقي الله عز وجل عاصيا بترك الحج وكان الحج في تركته يحج عنه وإن لم يوص كسائر ديونه ومن مات ولم يحج مع اليسار فأمره شديد عند الله تعالى قال عمر رضي الله عنه لقد هممت أن أكتب في الأمصار بضرب الجزية على من لم يحج ممن يستطيع إليه سبيلا وعن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس لو علمت رجلا غنيا وجب عليه الحج ثم مات قبل أن يحج ما صليت عليه وبعضهم كان له جار موسر فمات ولم يحج فلم يصل عليه
وأما الأركان التي لا يصح الحج دونها فخمسة الإحرام والطواف والسعي بعده والوقوف بعرفة والحلق على قول وأركان العمرة كذلك إلا الوقوف
____________________
(1/114)
وأما وجوه أداء الحج والعمرة فثلاثة
الأول الإفراد وذلك أن يقدم الحج وحده فإذا فرغ خرج إلى الحل فأحرم واعتمر
الثاني القران وهو أن يجمع فيقول لبيك بحجة وعمرة فيصير محرما بهما ويكفيه أعمال الحج وتندرج العمرة تحت الحج وعلى القارن دم شاة إلا المكي
الثالث التمتع وهو أن يجاوز الميقات محرما بعمرة ويتحلل بمكة ويتمتع يمحظورات الإحرام إلى وقت الحج ثم يحرم بالحج ويلزمه دم شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم النحر متفرقة أو متتابعة وسبعة إذا رجع إلى الوطن
وأما محظورات الحج والعمرة فستة
الأول اللبس للقميص والسراويل والخف والعمامة بل ينبغي أن يلبس إزار ورداء و نعلين ولا بأس بالمنطقة و الاستظلال في المحمل و لكن لا ينبغي أن يغطي رأسه وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه فإن إحرامها في وجهها
الثاني الطيب فليتجنب كل ما يعده العقلاء طيبا فإن تطيب أو لبس فعليه دم شاة
الثالث الحلق والقلم وفيهما الفدية أعني دم شاة ولا بأس بالكحل ودخول الحمام والفصد والحجامة وترجيل الشعر
الرابع الجماع وهو مفسد قبل التحلل الأول وفيه بدنه أو بقرة أو سبع شياه وإن كان بعد التحلل الأول لزمه البدنة ولم يفسد حجه
الخامس مقدمات الجماع كالقبلة والملامسة فهو محرم وفيه شاة ويحرم النكاح والإنكاح ولا دم فيه لأنه لم ينعقد
السادس قتل صيد البر أعني ما يؤكل فإن قتل صيدا فعليه مثله من النعم يراعي فيه التقارب في الخلقة وصيد البحر حلال ولا جزاء فيه
____________________
(1/115)
ترتيب الأعمال الظاهرة من أول السفر إلى الرجوع وهي عشر جمل
الجملة الأولى في السير من أول الخروج إلى الإحرام وفيها مسائل
الأولى في المال ينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الحلال الطيب ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالضعفاء والفقراء ويتصدق بشيء قبل خروجه فإن اكترى فليظهر للمكاري كل ما يريد أن يحمله من قليل أو كثير ليحصل رضاه فيه
الثانية في الرفيق ينبغي أن يلتمس رفيقا صالحا محبا للخير معينا عليه إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإن جبن شجعه وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره ويودع رفقاءه المقيمين وإخوانه وجيرانه فيودعهم ويلتمس أدعيتهم والسنة في الوداع أن يقول أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وكان صلى الله عليه وسلم يقول لمن أراد السفر في حفظ الله وكنفه زودك الله التقوى وغفر ذنبك ووجهك الخير أينما كنت
الثالثة في الخروج من الدار ينبغي إذا هم بالخروج أن يصلي ركعتين فإذا فرغ رفع يديه ودعا الله عن إخلاص وقال اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد والأصحاب احفظنا وإياهم من كل آفة وعاهة اللهم إنا نسألك في مسيرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضي اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد
الرابعة إذا حصل على باب الدار قال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله رب أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أذل أو أذل أو أزل أو أزل أو
____________________
(1/116)
أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي اللهم إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة بل خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك وقضاء فرضك واتباع سنة نبيك
الخامسة في الركوب فإذا ركب قال { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } الجملة الثانية في آداب الإحرام من الميقات إلى دخول مكة
الأدب الأول أن يغتسل وينوي به غسل الإحرام أعني إذا انتهى إلى الميقات الذي يحرم الناس منه ويتمم غسله بالتنظيف ويسرح لحيته ورأسه ويقلم أظفاره ويقص شاربه ويستكمل النظافة التي ذكرناها في الطهارة
الثاني أن يفارق الثياب المخيطة ويلبس ثوبي الإحرام فيرتدي ويتزر بثوبين أبيضين ويتطيب في ثيابه وبدنه
الثالث أن يصبر بعد لبس الثياب حتى تنبعث به راحلته إن كان راكبا أو يبدأ بالسير إن كان راجلا فعند ذلك ينوي الإحرام بالحج أو بالعمرة قرانا أو إفرادا كما أراد ويقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
الرابع يستحب تجديد التلبية في دوام الإحرام خصوصا عند اصطدام الرفاق و عند اجتماع الناس و عند كل صعود وهبوط وعند كل ركوب ونزول رافعا بها صوته بحيث لا يبح حلقه فإنه لا ينادي أصم ولا غائبا كما ورد في الخبر وكان صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه شيء قال لبيك إن العيش عيش الآخرة
____________________
(1/117)
الجملة الثالثة في آداب دخول مكة إلى الطواف
يستحب أن يغتسل بذي طوى وإذا وقع بصره على البيت فليقل لا إله إلا الله والله أكبر اللهم أنت السلام ومنك السلام ودارك دار السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام اللهم هذا بيتك عظمته وكرمته وشرفته اللهم فزده تعظيما وزده تشريفا وتكريما وزده مهابة وزد من حجه برأ وكرامة اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني جنتك وأعذني من الشيطان الرجيم ثم لا يعرج على شيء دون الطواف وهو طواف القدوم إلا أن يجد الناس في المكتوبة فيصلي معهم ثم يطوف الجملة الرابعة في الطواف
فإذا أراد افتتاح الطواف إما للقدوم وإما لغيره فينبغي أن يراعي أمورا ستة
الأول أن يراعي شروط الصلاة من طهارة الحدث والخبث في الثوب والبدن والمطاف وستر العورة فالطواف بالبيت صلاة ولكن الله سبحانه أباح فيه الكلام وليضطبع قبل ابتداء الطواف وهو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه اليمنى ويجمع طرفيه على منكبه الأيسر فيرخي طرفا وراء ظهره وطرفا على صدره ويقطع التلبية عند ابتداء الطواف ويشتغل بالأدعية المروية
الثاني إذا فرغ من الاضطباع فليجعل البيت على يساره وليقف عند الحجر الأسود وليتنح عنه قليلا ليكون الحجر قدامه فيمر بجميع الحجر بجميع بدنه في إبتداء طوافه وليجعل بينه وبين البيت قدر ثلاث خطوات ليكون قريبا من البيت فإنه أفضل
الثالث أن يقول قبل مجاورة الحجر بل في ابتداء الطواف بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ويطوف
الرابع أن يرمل في ثلاثة أشواط ويمشي في الأربعة الأخر على الهيئة المعتادة ومعنى الرمل الإسراع في المشي مع تقارب الخطا وهو دون العدو وفوق المشي
____________________
(1/118)
المعتاد والمقصود منه ومن الاضطباع إظهار الشطارة والجلادة والقوة هكذا كان القصد أولا قطعا لطمع الكفار وبقيت تلك السنة والأفضل الرمل مع الدنو من البيت فإن لم يمكنه للزحمة فالرمل مع البعد أفضل فليخرج إلى حاشية المطاف وليرمل ثلاثة ثم ليقرب إلى البيت في المزدحم وليمش أربعة وإن أمكنه استلام الحجر في كل شوط فهو الأحب وإن منعه الزحمة أشار باليد وقبل وكذلك استلام الركن اليماني يستحب من سائر الأركان
الخامس إذا تم الطواف سبعة فليأت الملتزم وهو بين الحجر والباب وهو موضع استجابة الدعوة وليلزق بالبيت وليتعلق بالأستار وليلصق بطنه بالبيت وليضع عليه خده الأيمن وليبسط عليه ذراعيه وكفيه وليقل اللهم يا رب البيت العتيق أعتق رقبتي من النار اللهم هذا مقام العائذ بك من النار وليدع بحوائجه الخاصة ويستغفر من ذنوبه
السادس إذا فرغ من ذلك ينبغي أن يصلي خلف المقام ركعتين وهما ركعتا الطواف وليدع بعد ركعتي الطواف وليقل اللهم يسر لي اليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الأخرى والأولى الجملة الخامسة في السعي
فإذا فرغ من الطواف فليخرج من باب الصفا فإذا انتهى إلى الصفا وهو جبل فيرقى فيه درجا في حضيض الجبل ثم يسعى بينه وبين المروة سبع مرات والطهارة مستحبة للسعي وليست بواجبة بخلاف الطواف الجملة السادسة في الوقوف وما قبله
الحاج إذا انتهى يوم عرفة إلى عرفات فلا يتفرغ لطواف لقدوم ودخول مكة قبل الوقوف وإذا وصل قبل ذلك بأيام فطاف طواف القدوم فيمكث محرما إلى اليوم السابع من ذي الحجة فيخطب الإمام بمكة خطبة بعد الظهر عند الكعبة ويأمر الناس بالاستعداد للخروج إلى منى يوم التروية والمبيت بها وبالغدو منها إلى عرفة
____________________
(1/119)
لإقامة فرض الوقوف بعد الزوال إذ وقت الوقوف من الزوال إلى طلوع الفجر الصادق من يوم النحر فينبغي أن يخرج إلى منى ملبيا ويمكث هذه الليلة بمنى فإذا أصبح يوم عرفة صلى الصبح فإذا طلعت الشمس على ثبير جبل سار إلى عرفات وليغتسل للوقوف ويجمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين وقصر الصلاة وليكثر من أنواع التحميد والتسبيح والتهليل والثناء على الله عز وجل والدعاء والتوبة ولا يصوم في هذا اليوم ليقوى على المواظبة على الدعاء ولا يقطع التلبية يوم عرفة بل الأحب أن يلبي تارة ويكب على الدعاء أخرى وليدع بما بدا له وليستغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات وليلح في الدعاء وليعظم المسألة فإن الله لا يتعاظمه شيء الجملة السابعة في بقية أعمال الحج
إذا أفاض من عرفة بعد غروب الشمس فينبغي أن يكون على السكينة والوقار فإذا بلغ المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء قاصرا لها بأذان وإقامتين ثم يمكث تلك الليلة بمزدلفة ويتزود الحصى منها ففيها أحجار رخوة فيأخذ سبعين حصاة فإنها بقدر الحاجة ثم ليغلس بصلاة الصبح وليأخذ في المسير حتى إذا انتهى إلى المشعر الحرام وهو آخر المزدلفة فيقف ويدعو إلى الإسفار ثم يدفع منها قبل طلوع الشمس حتى ينتهي إلى موضع يقال له وادي محسر فيستحب له أن يحرك دابته حتى يقطع عرض الوادي وإن كان راجلا أسرع في المشي ثم إذا أصبح يوم النحر خلط التلبية بالتكبير فيلبي تارة ويكبر أخرى فينتهي إلى منى ومواضع الجمرات وهي ثلاثة فيتجاوز الأولى والثانية فلا شغل له معهما يوم النحر حتى ينتهي إلى جمرة العقبة ويرمي بعد طلوع الشمس سبع حصيات رافعا يده مستقبلا القبلة أو الجمرة قائلا مع كل حصاة الله أكبر على طاعة الرحمن ورغم الشيطان اللهم تصديقا بكتابك واتباعا لسنة نبيك ثم ليذبح الهدي إن كان معه والأولى أن يذبح بنفسه وليقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وبك وإليك تقبل مني كما تقبلت من خليلك إبراهيم والتضحية بالبدن أفضل ثم بالبقر ثم بالشاة والضأن
____________________
(1/120)
أفضل من المعز والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء وليأكل منه إن كان من هدي التطوع ولا يضحين بالعرجاء والجدعاء والعجفاء ثم ليحلق بعد ذلك ومهما حلق بعد رمي الجمرة فقد حصل له التحلل الأول وحل له كل المحظورات إلا النساء والصيد ثم يفيض إلى مكة ويطوف كما وصفناه وهذا الطواف طواف ركن في الحج ويسمى طواف الزيارة وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر وأفضل وقته يوم النحر ولا تحل له النساء إلى أن يطوف فإذا طاف تم التحلل وحل الجماع وارتفع الإحرام بالكلية ولم يبق إلا رمي أيام التشريق والمبيت بمنى وهي واجبات بعد زوال الإحرام على سبيل الإتباع للحج
وأسباب التحلل ثلاثة الرمي والحلق والطواف الذي هو ركن ومهما أتى باثنين من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين ولا حرج عليه في التقديم والتأخير بهذه الثلاثة مع الذبح ولكن الأحسن أن يرمي ثم يذبح ثم يحلق ثم يطوف
ثم إذا فرغ من الطواف عاد إلى منى للمبيت والرمي فيبيت تلك الليلة بمنى فإذا أصبح اليوم الثاني من العيد وزالت الشمس اغتسل للرمي وقصد الجمرة الأولى ورمى إليها بسبع حصيات فإذا تعداها وقف مستقبل القبلة وحمد الله تعالى وهلل وكبر ودعا مع حضور القلب وخشوع الجوارح ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى ويرمي كما رمى الأولى ويقف كما وقف للأولى ثم يتقدم إلى جمرة العقبة ويرمي سبعا ويرجع إلى منزله ويبيت تلك الليلة بمنى ويصبح فإذا صلى الظهر في اليوم الثاني من أيام التشريق رمى في هذا اليوم إحدى وعشرين حصاة كاليوم الذي قبله ثم هو مخير بين المقام بمنى وبين العودة إلى مكة فإن خرج من منى قبل غروب الشمس فلا شيء عليه وإن صبر إلى الليل فلا يجوز له الخروج بل لزمه المبيت حتى يرمي يوم النفر الثاني واحدا وعشرين حجرا كما سبق وفي ترك المبيت والرمي إراقة دم وله أن يزور البيت في ليالي منى بشرط أن لا يبيت إلا بمنى ولا يتركن حضور الفرائض مع الإمام في مسجد الخيف فإن فضله عظيم الجملة الثامنة في صفة العمرة وما بعدها إلى طواف الوداع
من أراد أن يعتمر قبل حجه أو بعده فليغتسل ويلبس ثياب الإحرام كما سبق
____________________
(1/121)
في الحج ويحرم بالعمرة من ميقاتها وينوي العمرة ويلبي ويصلي ركعتين ويدعو بما شاء ثم يعود إلى مكة وهو يلبي حتى يدخل المسجد الحرام فإذا دخل المسجد ترك التلبية وطاف سبعا وسعى سبعا كما وصفنا فإذا فرغ حلق رأسه وقد تمت عمرته والمقيم بمكة ينبغي أن يكثر الاعتمار والطواف وليكثر شرب ماء زمزم وليرتو حتى يتضلع الجملة التاسعة في طواف الوداع
مهما عن له الرجوع إلى الوطن بعد الفراغ من إتمام الحج والعمرة فلينجز أولا أشغاله وليشد رحاله وليجعل آخر أشغاله وداع البيت ووداعه بأن يطوف به سبعا كما سبق ولكن من غير رمل واضطباع فإذا فرغ منه صلى ركعتين خلف المقام وشرب من ماء زمزم ثم يأتي الملتزم ويدعو ويتضرع قائلا اللهم أصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك أبدا ما أبقيتني واجمع لي خير الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير الجملة العاشرة في زيارة المدينة وآدابها
من قصد زيارة المدينة فليصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه كثيرا وليغتسل قبل الدخول وليتطيب وليلبس أنظف ثيابه فإذا دخلها فليدخلها متواضعا معظما ويقصد المسجد ويصلي فيه بجنب المنبر ركعتين ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقف عند وجهه وذلك بأن يستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر على نحو من أربعة أذرع من السارية التي في زاوية جدار القبر وليس من السنة أن يمس الجدار ولا أن يقبله فإن المس والتقبيل للمشاهد عادة النصارى واليهود بل الوقوف من بعد أقرب للاحترام فيقف ويقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله السلام عليك يا أمين الله السلام عليك يا حبيب الله السلام عليك يا صفوة الله السلام عليك يا أبا القاسم السلام عليك يا سيد المرسلين السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا رسول رب العالمين السلام عليك يا قائد الخير السلام عليك يا فاتح البر السلام عليك يا نبي الرحمة السلام عليك يا هادي الأمة
____________________
(1/122)
السلام عليك وعلى أهل بيتك وأصحابك الطيبين جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبيا عن قومه ورسولا عن أمته وصلى عليك أفضل الصلاة وأكمل ما صلى على أحد من خلقه كما استنقذنا بك من الضلالة وبصرنا بك من العماية وهدانا بك من الجهالة أشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت عدوك وهديت أمتك وعبدت ربك حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك وعلى أهل بيتك الطيبين وسلم وشرف وكرم وعظم ثم يتأخر قدر ذراع ويسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم يتأخر قدر ذراع أيضا ويسلم على الفاروق عمر رضي الله عنه ويقول السلام عليكما يا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعاونين له على القيام بالدين ما دام حيا والقائمين في أمته بعده بأمور الدين تتبعان في ذلك آثاره وتعملان بسنته فجزاكما الله خير ما جزى وزيري نبي عن دينه ثم يأتي الروضة فيصلي فيها ركعتين ويكثر من الدعاء ما استطاع ويستحب له أن يأتي أحدا ويزور قبور الشهداء وأن يأتي البقيع ويزور خياره وأن يأتي قباء في كل سبت ويصلي فيه وإن أمكنه الإقامة بالمدينة مع مراعاة الخدمة فلها فضل عظيم ثم إذا عزم على الخروج من المدينة فيستحب أن يأتي القبر الشريف ويعيد دعاء الزيارة ويسأل الله تعالى أن يرزقه العودة إليه ثم يصلي ركعتين في الروضة فإذا خرج فليخرج رجله اليسرى ثم اليمنى وليتصدق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدر عليه سنن الرجوع من السفر
يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون فإذا أشرف على مدينته يحرك الدابة ويرسل إلى أهله من يخبرهم بقدومه كيلا يقدم عليهم بغتة ولا ينبغي أن يطرق أهله ليلا وإذا دخل البلد فليقصد المسجد أولا وليصل ركعتين وإذا استقر في منزله فلا ينبغي أن ينسى ما أنعم الله به عليه من زيارة حرمه وقبر نبيه صلى الله عليه وسلم فيكفر تلك النعمة بأن يعود إلى الغفلة واللهو والخوض في المعاصي فما ذلك علامة الحج المبرور بل علامته أن يعود راغبا في الآخرة متأهبا للقاء رب البيت بعد لقاء البيت
____________________
(1/123)
& الباب الثالث في الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة & دقائق الآداب وهي سبعة
الأول أن تكون النفقة حلالا والهم مجردا لله تعالى وتعظيم شعائره ومن حج عن غيره فينبغي أن يكون قصده زيارة بيت الله تعالى ومعاونة أخيه المسلم بإسقاط الفرض عنه لا أن يتخذ ذلك مكسبه ومتجره ليتوصل بالدين إلى الدنيا فيطلب الدنيا بعمل الآخرة بل ليتوصل بالدنيا إلى الدين أي التمكن من الحج والزيارة فيه
الثاني التوسع في الزاد وطيب النفس بالبذل والإنفاق من غير تقتير ولا إسراف بل على الاقتصاد وبذل الزاد في طريق الحج نفقة في سبيل الله عز وجل قال ابن عمر من كرم الرجل طيب زاده في سفره
الثالث ترك الرفث والفسوق والجدال كما نطق به القرآن والرفث اسم جامع لكل لغو وفحش من الكلام ويدخل فيه مغازلة النساء ومداعبتهن والتحدث بشأن الجماع ومقدماته فإن ذلك يهيج داعية الجماع المحظور والداعي إلى المحظور محظور والفسق اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله عز وجل والجدل هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويناقض حسن الخلق فلا ينبغي أن يكون كثير الاعتراض على رفيقه وجماله وعلى غيرهم من أصحابه بل يلين جانبه ويخفض جناحه للسائرين إلى بيت الله عز وجل ويلزم حسن الخلق وليس حسن الخلق كف الأذى بل احتمال الأذى
الرابع أن يجتنب زي المترفين المتكبرين فلا يميل إلى أسباب التفاخر والتكاثر فيكتب في ديوان المتكبرين ويخرج عن حزب الصالحين وفي الحديث إنما الحاج الشعث التفث يقول الله تعالى { ثم ليقضوا تفثهم } والتفث الشعث والاغبرار وقضاؤه بالحلق وقص الشارب والأظفار
____________________
(1/124)
الخامس أن يرفق بالدابة فلا يحملها ما لا تطيق ولا يقف عليها الوقوف الطويل وينزل أحيانا عنها إحسانا إليها
السادس أن يتقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجبا عليه ويجتهد أن يكون من سمين النعم ونفيسه وليأكل منه إن كان تطوعا وليس المقصود اللحم إنما المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن صفة البخل وتزيينها بجمال التعظم لله عز وجل { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم }
السابع أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن إن أصابه ذلك فله بكل أذى احتمله وخسران أصابه ثواب فلا يضيع منه شيء عند الله عز وجل ويقال من علامة قبول الحج ترك ما كان عليه من المعاصي وأن يتبدل بإخوانه البطالين إخوانا صالحين وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة طريق الاعتبار بأعمال الحج الباطنة والتذكر لأسرارها ومعانيها
في كل واحد من أعمال المناسك تذكره للمتذكر وعبرة للمعتبر إذا انفتح بابها انكشف لكل خارج من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وغزارة فهمه وقد شرف الله البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه ونصبه مقصدا لعباده وجعل ما حواليه حرما لبيته تفخيما لأمره وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق ومن كل أوب سحيق شعثا غبرا متواضعين لرب البيت خضوعا لجلاله مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم وفي الإحرام والتلبية إجابة نداء الله عز وجل وفي دخول مكة تذكر الانتهاء إلى حرم الله فليخش أن لا يكون أهلا للقرب وليرج الرحمة وفي مشاهدة البيت إحضار عظمة البيت في القلب وتقدير مشاهدته لرب البيت لشدة تعظيمه إياه وفي الطواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله وما القصد طواف الجسم بل طواف القلب بذكر الرب وفي التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم طلب القرب حبا وشوقا للبيت ولرب البيت وتبركا بالمماسة والإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلق بشاب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه عنه المظهر
____________________
(1/125)
[ له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو عنه وفي السعي بين الصفا والمروة مضاهاة تردد العبد بفناء الملك جائيا وذاهبا مرة بعد أخرى إظهارا للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى وفي الوقوف بعرفة ورؤية ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات باختلاف اللغات تذكر اجتماع الأمم في عرصات القيامة وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول وفي تذكر ذلك إلزام القلب الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل ورجاء الحشر في زمرة الفائزين المرحومين وتحقيق الرجاء بالإجابة فالموقف شريف والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب النقية ولا ينفك الموقف عن طبقات من الصالحين وأرباب القلوب فإذا اجتمعت هممهم وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم وامتدت إليه أعناقهم وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة فلا تظنن أنه يخيب أملهم ويضيع سعيهم ويدخر عنهم رحمة تغمرهم وفي رمي الجمار انقياد للأمر إظهارا للرق والعبودية وقصد رمي وجه الشيطان وقصم ظهره وفي زيارة المدينة ومشاهدتها تذكر أنها البلدة التي اختارها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وجعل إليها هجرته وأنها داره التي شرع فيها فرائض ربه عز وجل وسننه وجاهد عدوه وأظهر بها دينه إلى أن توفاه الله عز وجل وأنها العرصة التي اختارها الله سبحانه لنبيه ولأول المسلمين وأفضلهم عصابة وأن فرائض الله سبحانه أول ما أقيمت في تلك العرصة وأنها جمعت أفضل خلق الله حيا وميتا صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
____________________
(1/126)
كتاب آداب تلاوة القرآن
قد امتن الله على عباده بنبيه المرسل وكتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حتى اتسع على أهل الافتكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار واتضح به سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم بما فصل فيه من الأحكام وفرق بين الحلال والحرام فهو الضياء والنور وبه النجاة من الغرور وفيه شفاء لما في الصدور من تمسك به فقد هدي ومن عمل به فقد فاز قال تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته والمواظبة على دراسته مع القيام بآدابه وشروطه والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة والآداب الظاهرة وذلك ما لا بد من بيانه وتفصيله فضل القرآن وأهله وذم المقصرين في تلاوته
قال صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن ثم رأى أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظمه الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن وقال
____________________
(1/127)
صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه وقال ابن مسعود إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين وقال عمرو بن العاص من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه
وقد جاء في ذم تلاوة الغافلين قوله صلى الله عليه وسلم ما آمن بالقرآن من استحل محارمه وقوله صلى الله عليه وسلم إقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرؤه وقال أنس رب تال للقرآن والقرآن يلعنه وقال ابن مسعود أنزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا إن أحدهم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به وقال بعض العلماء إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم نفسه ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم
____________________
(1/128)
ظاهر آداب التلاوة
الأدب الأول في حال القارئ وهو أن يكون على الوضوء واقفا على هيئة الأدب والسكون إما قائما وإما جالسا مستقبل القبلة مطرقا رأسه غير متربع ولا متكئ ولا جالس على هيئة التكبر فإن قرأ على غير وضوء أو كان مضطجعا في الفراش فله أيضا فضل ولكنه دون ذلك قال الله تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } فأثنى على الكل ولكن قدم القيام في الذكر ثم القعود ثم الذكر مضطجعا
الثاني في مقدار القراءة وللقراء عادات مختلفة في الاستكثار والاختصار والمأثور عن عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون القرآن في كل جمعة يقسمونه سبعة أحزاب
الثالث الترتيل هو المستحب في هيئة القرآن لأنا سنبين أن المقصود من القراءة التفكر والترتيل معين عليه ولذلك نعتت أم سلمة رضي الله عنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءته مفسرة حرفا حرفا قال ابن عباس رضي الله عنهما لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة وجلي أن الترتيل والتؤدة أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد
____________________
(1/129)
تأثيرا في القلب من الهذرمة والاستعجال
الرابع البكاء وهو مستحب مع القراءة ومنشؤه الحزن وذلك أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي
الخامس أن يراعي حق الآيات فإذا مر بآية سجدة سجد وكذلك إذا سمع من غيره سجدة سجد إذا سجد التالي ولا يسجد إلا إذا كان على طهارة وقد قيل في كمالها إنه يكبر رافعا يديه لتحريمه ثم يكبر للهوي للسجود ثم يكبر للارتفاع ثم يسلم
السادس أن يقول في مبتدأ قراءته أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وفي أثناء القراءة إذا مر بآية تسبيح سبح وكبر وإذا مر بآية دعاء واستغفار دعا واستغفر وإن مر بمرجو سأل أو بمخوف استعاذ يفعل ذلك بلسانه أو بقلبه
السابع الإسرار بالقراءة أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش على مصل فالجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر فيه ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت ويزيد في نشاطه للقراءة ويقلل من كسله فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل
الثامن تحسين القراءة وترتيبها من غير تمطيط مفرط يغير النظم فذلك سنة وفي الحديث زينوا القرآن بأصواتكم وفي آخر ليس منا من لم يتغن بالقرآن فقيل أراد به الاستغناء وقيل أراد به الترنم وترديد الألحان به وهو أقرب عند أهل اللغة واستمع صلى الله عليه وسلم إلى قراءة أبي موسى فقال لقد أوتي هذا من مزامير آل
____________________
(1/130)
داود ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن أعمال الباطن في التلاوة وهي سبعة
الأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في إيصال كلامه إلى أفهام خلقه
الثاني التعظيم للمتكلم فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعدله فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام
الثالث حضور القلب وترك حديث النفس والتجرد له عند قراءته وصرف الهم إليه عن غيره كان بعض السلف إذا قرأ سورة لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم فإن المعظم للكلام الذي يتلوه ويستبشر به ويستأنس لا يغفل عنه وفي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلا له فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره
الرابع التدبر وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره والمقصود من القراءة التدبر ولذلك سن فيه الترتيل لأن الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن قال علي رضي الله عنه لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآية يرددها
الخامس التفهم وهو أن يستوضح عن كل آية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل
____________________
(1/131)
على ذكر صفات الله عز وجل وذكر أفعاله وذكر أحوال الأنبياء وأحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا وذكر أوامره وزواجره وذكر الجنة والنار أما صفات الله عز وجل فكقوله { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وكقوله تعالى { الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها
وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل وجلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل فمن عرف الحق رآه في كل شيء ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قوله عز وجل { أفرأيتم ما تحرثون } { أفرأيتم ما تمنون } { أفرأيتم الماء الذي تشربون } { أفرأيتم النار التي تورون } فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني بل يتأمل في المني وهو نطفة متشابهة الأجزاء ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب وكيفية تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والجهل والتكذيب والمجادلة كما قال تعالى { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب وهو الصنعة التي منها صدرت هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة ويرى الصانع وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام فإذا سمع منها أنهم كذبوا وضربوا وقتل بعضهم ثم سمع نصرتهم في آخر الأمر فهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق وأما أحوال المكذبين كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه
____________________
(1/132)
السادس التخلي عن موانع الفهم فإن أكثر الناس منعوا عن فهم القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن ومن حجب الفهم أن يكون الهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها عن مخارجها وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل فلا يزال يحملهم على ترديد الحروف يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس
السابع التخصيص وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن فإن سمع أمرا أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور وإن سمع وعدا أو وعيدا فكذلك وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود أن تعتبر به وتأخذ من بضاعته ما تحتاج إليه فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ولذلك قال تعالى { ما نثبت به فؤادك } فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى وكيف لا يقدر هذا والقرآن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله خاصة بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد كما قال تعالى { لأنذركم به ومن بلغ } قال محمد القرظي من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه
____________________
(1/133)
ولذلك قال بعض العلماء هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات وننفذها في الطاعات
الثامن التأثر وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإن التضييق غالب على آيات القرآن فلا ترى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله عز وجل { وإني لغفار } ثم أتبع ذلك بأربعة شروط { لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } وقوله تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } ذكر أربعة شروط وحيث اقتصر ذكر شرطا جامعا فقال تعالى { إن رحمة الله قريب من المحسنين } فالإحسان يجمع الكل وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن وإلا كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالى { ألا لعنة الله على الظالمين } وفي قوله تعالى { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } وفي قوله { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } وفي قوله تعالى { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } إلى غير ذلك من الآيات فالقرآن يراد للعمل به وأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل وحظ العقل تفسير المعاني وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ
____________________
(1/134)
كتاب الأذكار والدعوات فضيلة الذكر
من الآيات قوله سبحانه وتعالى { فاذكروني أذكركم } وقال تعالى { اذكروا الله ذكرا كثيرا } وقال تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وقال تعالى { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } قال ابن عباس أي بالليل والنهار في البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والمرض والصحة والسر والعلانية وقال تعالى { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } وقال تعالى في ذم المنافقين { ولا يذكرون الله إلا قليلا }
ومن الأخبار قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وقال صلى الله عليه وسلم من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله عز
____________________
(1/135)
وجل وسئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال أن تموت ولسانك رطب بذكر الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإذا تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث
ومن الآثار قول الحسن الذكر ذكران ذكر الله عز وجل بين نفسك وبين الله عز وجل ما أحسنه وأعظم أجره وأفضل من ذلك ذكر الله سبحانه عند ما حرم الله عز وجل فضيلة مجالس الذكر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله عز وجل إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله تعالى فيمن عنده فضيلة التهليل
قال صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له وقال صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو
____________________
(1/136)
على كل شيء قدير كل يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مئة حسنة ومحيت عنه مئة سيئة الحديث فضيلة التسبيح والتحميد وبقية الأذكار
قال صلى الله عليه وسلم من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين وختم المئة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وقال صلى الله عليه وسلم من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مئة مرة حطت خطاياه وقال صلى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله تعالى أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت وقال صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم سر فضيلة الذكر
إن قلت ما بال ذكر الله سبحانه مع خفته على اللسان وقلة التعب فيه صار
____________________
(1/137)
أفضل وأنفع من جملة العبادات مع كثرة المشقة فيها فاعلم أن تحقيق هذا لا يليق إلا بعلم المكاشفة والقدر الذي يسمح بذكره في علم المعاملة أن المؤثر النافع هو الذكر على الدوام مع حضور القلب فأما الذكر باللسان والقلب لاه فهو قليل الجدوى بل حضور القلب مع الله تعالى على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على العبادات بل به تشرف سائر العبادات وهو غاية ثمرة العبادات العملية وللذكر أول وآخر فأوله يوجب الأنس والحب وآخره يوجب الأنس والحب ويصدر عنه والمطلوب ذلك الأنس والحب فضيلة الدعاء
قال الله تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي } وقال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } وقال تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وقال تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } وقال صلى الله عليه وسلم الدعاء مخ العبادة وقال صلى الله عليه وسلم سلوا الله تعالى من فضله فإنه تعالى يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج آداب الدعاء
الأول أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة ورمضان من الأشهر ويوم الجمعة من الأسبوع ووقت السحر من الليل قال تعالى { وبالأسحار هم يستغفرون }
____________________
(1/138)
الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال زحف الصفوف في سبيل الله تعالى وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلوات المكتوبة وخلف الصلوات وبين الأذان والإقامة وحالة السجود وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضا إذ وقت السحر وقت صفاء القلب وإخلاصه وفراغه من المشوشات ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهم وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله عز وجل
الثالث أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه ثم ينبغي أن يمسح بهما وجهه في آخر الدعاء قال عمر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه وقال ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه فهذه هيئات اليد ولا يرفع بصره إلى السماء
الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر قالت عائشة في قوله تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } أي بدعائك وقد أثنى تعالى على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال { إذ نادى ربه نداء خفيا } وقال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية }
الخامس أن لا يتكلف السجع في الدعاء والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته فما كل أحد يحسن الدعاء
السادس التضرع والخشوع والرغبة والرهبة قال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية }
السابع أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه قال صلى الله عليه وسلم لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مكره له وقال صلى الله عليه وسلم إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا
____________________
(1/139)
يتعاظمه شيء وقال صلى الله عليه وسلم ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل
الثامن أن يلح في الدعاء ويكرره ثلاثا وأن لا يستبطئ الإجابة
التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى ولا يبدأ بالسؤال ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويختم بها أيضا
العاشر وهو الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة فذلك هو السبب القريب في الإجابة فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } وقال صلى الله عليه وسلم من صلى علي من أمتي كتب له عشر حسنات وقيل يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد عبدك وعلى وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وروي أن عمر رضي الله عنه سمع بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/140)
يبكي ويقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته فقال عز وجل { من يطع الرسول فقد أطاع الله } بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بالذنب فقال تعالى { عفا الله عنك لم أذنت لهم } بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون يقولون { يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى أعطاه الله حجرا تتفجر منه الأنهار فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان سليمان أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فماذا بأعجب من البراق حين سرت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله عليك بأبي أنت وأمي لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله إحياء الموتى فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهي مشوية فقالت الذراع لا تأكلني فإني مسمومة بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد اتبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة سنه وطول عمره ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل ولقد لبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك ووضعت طعامك على الأرض ولعقت أصابعك تواضعا منك فصلى الله عليك وسلم
____________________
(1/141)
فضيلة الاستغفار
قال الله عز وجل { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } وقال تعالى { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } وقال تعالى { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } وقال تعالى { والمستغفرين بالأسحار } وقال تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم وقال صلى الله عليه وسلم من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب وقال صلى الله عليه وسلم إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة وكان صلى الله عليه وسلم يقول في الاستغفار اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت
____________________
(1/142)
المؤخر وأنت على كل شيء قدير وعن الفضيل رحمه الله استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين وعن رابعة العدوية رحمها الله استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير
وأما أوراد الصباح والمساء وخلف الصلوات وفي السحر فلنا فيها كتاب مستقل فليرجع إليه من أحب ذلك آداب النوم
الأول الطهارة والسواك
الثاني أن يعد طهوره وسواكه وينوي القيام للعبادة عند التيقظ
الثالث أن لا يبيت من له وصية إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه فإنه لا يأمن القبض من النوم
الرابع أن ينام تائبا من كل ذنب سليم القلب لجميع المسلمين لا يحدث نفسه بظلم أحد ولا يعزم على معصية إن استيقظ
الخامس أن يقتصد في تمهيد الفرش الناعمة
السادس أن لا ينام ما لم يبلغه النوم ولا يتكلف استجلابه إلا إذا قصد به الاستعانة على القيام في آخر الليل
السابع أن ينام مستقبل القبلة
الثامن الدعاء عند النوم بما ورد ومنه قراءة الإخلاص والمعوذتين وينفث بهن
____________________
(1/143)
في يديه ويمسح بهما وجهه وسائر جسده وآية الكرسي والتسبيح ثلاثا وثلاثين والتحميد كذلك والتكبير كذلك
التاسع أن يتذكر عند النوم أن النوم نوع وفاة والتيقظ نوع بعث وليتحقق أنه يتوفى على ما هو الغالب عليه من حب الله وحب لقائه أو حب الدنيا ويحشر على ما يتوفى عليه
العاشر الدعاء عند التنبه وليقل أولا الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ثم ليقرأ خواتم آل عمران { إن في خلق السماوات والأرض } الآيات وليسبح عشرا وليحمد كذلك وليكبر كذلك وليهلل كذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ثم يفتتح الصلاة ويصلي ركعتين خفيفتين ثم يصلي مثنى مثنى ما تيسر له ويختم بالوتر إن لم يكن قد صلى الوتر وكان ربما جهر بالقراءة وربما أسر وأكثر ما صح عنه في قيام الليل ثلاث عشرة ركعة بيان أن الأوراد للمتجرد للعبادة
اعلم أن الأوراد والأذكار المروية والوظائف الليلية والنهارية إنما تستحب للمتجرد للعبادة الذي لا شغل له غيرها أصلا بحيث لو ترك العبادة لجلس بطالا وأما العالم الذي ينفع الناس بعلمه في فتوى أو تدريس أو تصنيف فترتيبه الأوراد يخالف ترتيب العابد فإنه يحتاج إلى المطالعة للكتب وإلى التصنيف والإفادة ويحتاج إلى مدة لها لا محالة فإن أمكنه استغراق الأوقات فيه فهو أفضل ما يشتغل به بعد
____________________
(1/144)
المكتوبات ورواتبها ويدل على ذلك ما ذكرناه في فضيلة التعليم والتعلم في كتاب العلم وكيف لا يكون كذلك وفي العلم المواظبة على ذكر الله تعالى وتأمل ما قال الله تعالى وقال رسوله وفيه منفعة الخلق وهدايتهم إلى طريق الآخرة ورب مسألة واحدة يتعلمها المتعلم فيصلح بها عبادة عمره ولو لم يتعلمها لكان سعيه ضائعا وأما العامي والمتعلم فحضوره مجالس العلم والوعظ أفضل من اشتغاله بالأوراد وكذلك المحترف الذي يحتاج إلى الكسب لعياله فليس له أن يضيع العيال ويستغرق الأوقات في العبادات بل ورده في وقت الصناعة حضور السوق والاشتغال بالكسب ولكن ينبغي أن لا ينسى ذكر الله تعالى في صناعته فضيلة قيام الليل
من الآيات قوله تعالى { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } وقوله تعالى { أم من هو قانت آناء الليل } وقوله عز وجل { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } وقوله سبحانه { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } ومن الأخبار قول صلى الله عليه وسلم ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها ) وقوله صلى الله عليه وسلم إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم
____________________
(1/145)
يسأل الله تعالى خيرا إلا أعطاه إياه وقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم الأسباب المسهلة لقيام الليل
منها أن لا يكثر الأكل فيكثر الشرب فيغلبه النوم ويثقل عليه القيام ومنها أن لا يترك القيلولة بالنهار فإنها سنة الاستعانة على قيام الليل ومنها أن يعرف فضل قيام الليل بسماع هذه الآيات والأخبار حتى يستحكم به رجاؤه وشوقه إلى ثوابه فيهيجه الشوق لطلب المزيد والرغبة في درجات الجنان ومنها وهو أشرف البواعث الحب وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج به ربه وهو مطلع عليه مع مشاهدة ما يخطر بقلبه وأن تلك الخطرات من الله تعالى خطاب معه فإذا أحب الله تعالى أحب لا محالة الخلوة به وتلذذ بالمناجاة فتحمله لذة المناجاة بالحبيب على طول القيام بيان لذة المناجاة عقلا ونقلا
لا ينبغي أن تستبعد هذه اللذة إذ يشهد لها العقل والنقل فأما العقل فليعتبر حال المحب لشخص بسبب جماله أو لملك بسبب إنعامه وأمواله أنه كيف يتلذذ به في الخلوة ومناجاته حتى لا يأتيه النوم طول ليله فإن قلت إن الجميل يتلذذ بالنظر إليه وإن الله تعالى لا يرى فاعلم أنه لو كان الجميل المحبوب وراء ستر أو كان في بيت مظلم لكان المحب يتلذذ بمجاورته المجردة دون النظر ودون الطمع في أمر آخر سواه وكان يتنعم بإظهار حبه عليه وذكره بلسانه بمسمع منه وإن كان ذلك أيضا معلوما عنده فإن قلت إنه ينتظر جوابه فيتلذذ بسماع جوابه وليس يسمع كلام الله تعالى فاعلم إنه إن كان يعلم أنه لا يجيبه ويسكت عنه فقد بقيت أيضا لذة في عرض أحواله عليه ورفع سريرته إليه كيف والموقن يسمع من الله تعالى كل ما يرد على خاطره في
____________________
(1/146)
أثناء مناجاته فيتلذذ به وكذا الذي يخلو بالملك ويعرض عليه حاجاته في جنح الليل يتلذذ به في رجاء إنعامه والرجاء في حق الله تعالى أصدق وما عند الله أبقى وأنفع مما عند غيره وكيف لا يتلذذ بعرض الحاجات عليه في الخلوات وأما النقل فيشهد له أحوال قوام الليل في تلذذهم بقيام الليل واستقصارهم له كما يستقصر المحب ليلة وصال الحبيب حتى قيل لبعضهم كيف أنت والليل قال ما راعيته قط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملته بعد وقال علي بن بكار منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر وقال الفضيل بن عياض إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي وقال أبو سليمان أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وقال بعضهم ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة وقال بعضهم لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم وقال ابن المنكدر ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة وقيل لبعضهم كيف الليل عليك فقال ساعة أنا فيها بين حالتين أفرح بظلمته إذا جاء واغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط
____________________
(1/147)
طرق القسمة لأجزاء الليل
إحياء الليل له سبع مراتب
الأولى إحياء كل الليل وهو شأن الأقوياء الذين تجردوا لعبادة الله تعالى وتلذذوا بمناجاته وصار ذلك غذاء لهم وحياة لقلوبهم فلم يتعبوا بطول القيام وردوا المنام إلى النهار اشتهر ذلك عن أربعين من التابعين
الثانية أن يقوم نصف الليل
الثالثة أن يقوم ثلث الليل من النصف الأخير
الرابعة أن يقوم سدس الليل الأخير أو خمسه
الخامسة أن لا يراعي التقدير فينام ويقوم في أجزاء الليل مطلقا
السادسة أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين وحيث يتعذر عليه القيام في وسط الليل فلا ينبغي أن يهمل القيام قبل الصبح وقت السحر ولا يدركه الصبح نائما وهذه هي الرتبة السابعة
وأما قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث المقدار فلم يكن على ترتيب واحد بل ربما كان يقوم نصف الليل أو ثلثه أو تلثيه أو سدسه يختلف ذلك من الليالي ودل عليه قوله تعالى في الموضعين { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } ) فأدنى من ثلثي الليل كأنه نصفه ونصف سدسه
____________________
(1/148)
فإن كسر قوله { ونصفه وثلثه } كان نصف الثلثين وثلثه فيقرب من الثلث والربع وإن نصب كان نصف الليل وثلثه وقالت عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ يعني الديك وهذا يكون السدس فما دونه
____________________
(1/149)
كتاب آداب الأكل والدعوة والضيافة
إن الله تعالى أحسن تدبير الكائنات فخلق الأرض والسموات وأنزل الماء الفرات من المعصرات فأخرج به الحب والنبات وقدر الأرزاق والأقوات وحفظ بالمأكولات قوى الحيوانات وأعان على الطاعات والأعمال الصالحات بأكل الطيبات فشكرا له على ممر الأوقات
ولما كان مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب ولا طريق إلى الوصول للقائه إلا بالعلم والعمل ولا يمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات فمن هذا الوجه قال بعض السلف إن الأكل من الدين وعليه نبه قوله تعالى { كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } وها نحن نرشد إلى وظائف الدين في الأكل فرائضها وسننها وآدابها
____________________
(1/150)
بيان ما لا بد للآكل من مراعاته
وهو ثلاثة أقسام القسم الأول في الآداب المتقدمة على الأكل وهي خمسة
الأول أن يكون الطعام بعد كونه حلالا في نفسه طيبا في جهة مكسبه موافقا للسنة والورع لم يكتسب بسبب مكروه في الشرع ولا بحكم هوى ومداهنة في دين وقد أمر الله تعالى بأكل الطيب وهو الحلال وقدم النهي عن الأكل بالباطل على القتل تفخيما لأمر الحرام وتعظيما لبركة الحلال فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } إلى قوله { ولا تقتلوا أنفسكم } فالأصل في الطعام كونه طيبا وهو من الفرائض وأصول الدين
الثاني غسل اليد لأنها لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة
الثالث أن ينوي بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى ليكون مطيعا بالأكل ومن ضرورة هذه النية أن لا يمد اليد إلى الطعام إلا وهو جائع فيكون الجوع أحد ما لا بد من تقديمه على الأكل ثم ينبغي أن يرفع اليد قبل الشبع ومن فعل ذلك استغنى عن الطبيب
الرابع أن يرضى بالموجود من الرزق والحاضر من الطعام
الخامس أن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام ولو من أهله وولده فإن خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل وحده القسم الثاني في آدابه حالة الأكل
وهو أن يبدأ ببسم الله في أوله وبالحمد لله في آخره ويجهر به ليذكر غيره ويأكل باليمنى ويصغر اللقمة ويجود مضغها وما لم يبتلعها لا يمد اليد إلى الأخرى فإن
____________________
(1/151)
ذلك عجلة في الأكل وأن لا يذم مأكولا كان صلى الله عليه وسلم لا يعيب مأكولا كان إذا أعجبه أكله وإلا تركه وأن يأكل مما يليه إلا الفاكهة فله أن يجيل يده فيها ولا يضع على الخبز قصعة ولا غيرها إلا ما يؤكل به ولا يمسح يده بالخبز ولا ينفخ في الطعام الحار بل يصبر إلى أن يسهل أكله ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق ولا يجمع في كفه بل يضع النواة من فيه على ظهر كفه ثم يلقيها وكذا كل ما له عجم وثفل وأن لا يترك ما استرذله من الطعام ويطرحه في القصعة بل يتركه مع الثفل حتى لا يلتبس على غيره فيأكله وأن لا يكثر الشرب في أثناء الطعام إلا إذا غص بلقمة أو صدق عطشه
وأما الشرب فأدبه أن يأخذ الكوز بيمينه ويقول بسم الله ويشربه مصا لا عبا ولا يشرب قائما ولا مضطجعا وينظر في الكوز قبل الشرب ولا يتجشأ ولا يتنفس في الكوز بل ينحيه عن فمه بالحمد ويرده بالتسمية والكوز وكل ما يدار على القوم يدار يمنة وقد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنا وأبو بكر رضي الله عنه عن شماله وأعرابي عن يمينه فناول الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن ويشرب في ثلاثة أنفاس يحمد الله في أواخرها ويسمي الله في أوائلها القسم الثالث ما يستحب بعد الطعام
وهو أن يمسك قبل الشبع ثم يغسل يده ويتخلل ويرمي المخرج بالخلال وأن يشكر الله تعالى بقلبه على ما أطعمه فيرى الطعام نعمة منه قال الله تعالى { كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله } فإن أكل طعام الغير فليدع له وليقل اللهم أكثر خيره وبارك له فيما رزقته واجعلنا وإياه من الشاكرين وإن أفطر عند قوم فليقل أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وليكثر الاستغفار والحزن على ما أكل من شبهة ويستحب عقيب الطعام أن يقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا آداب الاجتماع على الأكل وهي سبعة
الأول أن لا يبتدئ بالطعام ومعه من يستحق التقديم بكبر سن أو زيادة فضل إلا أن يكون هو المتبوع والمقتدى به فحينئذ ينبغي أن لا يطول عليهم الانتظار إذا اشرأبوا للأكل واجتمعوا له
____________________
(1/152)
الثاني أن لا يسكتوا على الطعام ولكن يتكلمون بالمعروف
الثالث أن يرفق برفيقه في القصعة فلا يقصد أن يأكل زيادة عما يأكله فإن ذلك حرام إن لم يكن موافقا لرضا رفيقه مهما كان الطعام مشتركا بل ينبغي أن يقصد الإيثار ولا يأكل تمرتين في دفعة إلا إذا فعلوا ذلك أو استأذنهم فإن قلل رفيقه نشطه ورغبه في الأكل وقال له كل ولا يزيد في قوله كل على ثلاث فإن ذلك إلحاح وإضجار فأما الحلف عليه بالأكل فممنوع قال الحسن بن علي رضي الله عنهما الطعام أهون من أن يحلف عليه
الرابع أن لا يحوج رفيقه إلى أن يقول له كل أو يتفقده في الأكل بل يحمل عن أخيه مؤنة ذلك ولا ينبغي أن يدع شيئا مما يشتهيه لأجل نظر الغير إليه فإن ذلك تصنع بل يجري على المعتاد ولا ينقص من عادته شيئا في الوحدة ولكن يعود نفسه حسن الأدب في الوحدة حتى لا يحتاج إلى التصنع عند الاجتماع نعم لو قلل من أكله إيثارا لإخوانه ونظرا لهم عند الحاجة إلى ذلك فهو حسن وإن زاد في الأكل على نية المساعدة وتحريك نشاط القوم في الأكل فهو حسن
الخامس أن غسل اليد في الطست لا بأس به قال أنس إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته ولا تردها روي أن هارون الرشيد دعا أبا معاوية الضرير فصب الرشيد على يده في الطست فلما فرغ قال يا أبا معاوية أتدري من صب على يدك فقال لا قال صبه أمير المؤمنين فقال يا أمير المؤمنين إنما أكرمت العلم وأجللته فأجلك الله وأكرمك كما أجللت العلم وأهله وليصب صاحب المنزل بنفسه الماء على يد ضيفه هكذا فعل مالك بالشافعي رضي الله عنهما في أول نزوله
____________________
(1/153)
عليه وقال لا يروعك ما رأيت مني فخدمة الضيف فرض
السادس أن لا ينظر إلى أصحابه ولا يراقب أكلهم فيستحيون بل يغض بصره عنهم ويشتغل بنفسه ولا يمسك قبل إخوانه إذا كانوا يحتشمون الأكل بعده بل يمد اليد ويقبضها ويتناول قليلا قليلا إلى أن يستوفوا فإن امتنع لسبب فليعتذر إليهم دفعا للخجلة عنهم
السابع أن لا يفعل ما يستقذره غيره فلا ينفض يده في القصعة وعاء الأكل ولا يقدم إليها رأسه عند وضع اللقمة في فيه وإذا أخرج شيئا من فيه صرف وجهه عن الطعام وأخذ بيساره ولا يغمس اللقمة الدسمة في الخل فقد يكرهه غيره واللقمة التي قطعها بسنه لا تغمس في المرقة والخل ولا يتكلم بما يذكر من المستقذرات فضل تقديم الطعام إلى الزائرين وآدابه
تقديم الطعام إلى الإخوان فيه فضل كثير قال الحسن كل نفقة ينفقها الرجل يحاسب عليها إلا نفقته على إخوانه في الطعام فإن الله أكرم من أن يسأله عن ذلك وقال علي رضي الله عنه لأن أجمع إخواني على صاع من طعام أحب إلي من أن أعتق رقبة وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول من كرم المرء طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه وكانوا رضي الله عنهم يجتمعون على قراءة القرآن ولا يتفرقون إلا عن ذواق
وأما آدابه فبعضها في الدخول وبعضها في تقديم الطعام أما الدخول فليس من السنة أن يقصد قوما متربصا لوقت طعامهم فيدخل عليهم وقت الأكل فإن ذلك من المفاجأة وقد نهي عنه قال الله تعالى { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } يعني منتظرين حينه ونضجه أما إذا كان جائعا فقصد بعض إخوانه ليطعمه ولم يتربص به وقت أكله فلا بأس به وفيه إعانة لأخيه على حيازة ثواب الإطعام وهي عادة السلف فإن دخل ولم يجد صاحب الدار وكان واثقا بصداقته عالما بفرحه إذا أكل من طعامه فله أن يأكل بغير إذنه إذ المراد من الإذن الرضاء لا سيما في الأطعمة وأمرها على السعة فرب رجل يصرح بالإذن ويحلف وهو غير راض فأكل طعامه مكروه ورب غائب لم يأذن وأكل طعامه محبوب
____________________
(1/154)
وقد قال تعالى { أو صديقكم } قال الحسن الصديق من استروحت إليه النفس واطمأن إليه القلب كان محمد بن واسع وأصحابه يدخلون منزل الحسن فيأكلون ما يجدون بغير إذن فكان الحسن يدخل ويرى ذلك فيسر به ويقول هكذا كنا ومشى قوم إلى منزل سفيان الثوري فلم يجدوه ففتحوا الباب وأنزلوا السفرة وجعلوا يأكلون فدخل الثوري وجعل يقول ذكرتموني أخلاق السلف هكذا كانوا
وأما آداب التقديم فترك التكلف أولا وتقديم ما حضر كان الفضيل يقول إنما تقاطع الناس بالتكلف يدعو أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه عن الرجوع إليه ومن التكلف أن يقدم جميع ما عنده فيجحف بعياله ويؤذي قلوبهم قال بعضهم دخلنا على جابر رضي الله عنه فقدم لنا خبزا وخلا وقال لولا أنا نهينا عن التكلف لتكلفت لكم
الأدب الثاني وهو للزائر أن لا يقترح ولا يتحكم بشيء بعينه فربما يشق على المزور إحضاره فإن خيره أخوه بين طعامين فليختر أيسرهما عليه فإن علم أنه يسر باقتراحه ويتيسر عليه ذلك فلا يكره له الاقتراح قال بعضهم الأكل على ثلاثة أنواع مع الفقراء بالإيثار ومع الإخوان بالانبساط ومع أبناء الدنيا بالأدب
الأدب الثالث أن يشهي المزور أخاه الزائر ويلتمس منه الاقتراح مهما كانت
____________________
(1/155)
نفسه طيبة بفعل ما يفترح فذلك حسن وفيه أجر وفضل جزيل
الأدب الرابع أن لا يقول له هل أقدم لك طعاما بل ينبغي أن يقدم إن كان فإن أكل وإلا فيرفعه مسائل
الأولى رفع الطعام على المائدة فيه تيسير للأكل فلا كراهة فيه بل هو مباح ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم وما يقال إنه بدعة فجوابه أنه ليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته وليس في المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل ونحوه مما لا كراهة فيه
الثانية الأكل والشرب متكئا مكروه مضر للمعدة ومثله الأكل مضطجعا ومنبطحا
الثالثة السنة البداءة بالطعام قبل الصلاة وفي الحديث إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء وكان ابن عمر رضي الله عنهما ربما سمع قراءة الإمام ولا يقوم من عشائه نعم إن كانت النفس لا تتوق إلى الطعام ولم يكن في تأخير الطعام ضرر فالأولى تقديم الصلاة بيان ما يخص الدعوة والضيافة فضيلة الضيافة
قال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وفي أثر لا خير فيمن لا يضيف وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان قال إطعام الطعام وبذل
____________________
(1/156)
السلام وقال صلى الله عليه وسلم في الكفارات والدرجات إطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام
أما الدعوة فينبغي للداعي أن يعمد بدعوته الأتقياء دون الفساق قال صلى الله عليه وسلم أكل طعامك الأبرار وفي أثر لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي ولا يقتصر على الأغنياء خاصة بل يضم معهم الفقراء قال صلى الله عليه وسلم شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويحرم منها الفقراء وينبغي أن لا يهمل أقاربه في ضيافته فإن إهمالهم إيحاش وقطع رحم وكذلك يراعي الترتيب في أصدقائه ومعارفه فإن في تخصيص البعض إيحاشا لقلوب الباقين وينبغي أن لا يقصد بدعوته المباهاة والتفاخر بل استمالة قلوب الإخوان وإدخال السرور على قلوب المؤمنين وينبغي أن لا يدعو من يعلم أنه يشق عليه الإجابة وإذا حضر تأذى بالحاضرين بسبب من الأسباب وينبغي أن لا يدعو إلا من يحب إجابته
وأما الإجابة فهي سنة مؤكدة وقد قيل بوجوبها في بعض المواضع ولها خمسة آداب
الأول أن لا يميز الغني بالإجابة عن الفقير فذلك هو التكبر المنهي عنه
الثاني أن لا يمتنع عن الإجابة لبعد المسافة كما لا يمتنع لفقر الداعي وعدم جاهه بل كل مسافة يمكن احتمالها في العادة لا ينبغي أن يمتنع لأجلها
____________________
(1/157)
الثالث أن لا يمتنع لكونه صائما بل يحضر فإن كان يسر أخاه إفطاره فليفطر وليحتسب في إفطاره بنية إدخال السرور على قلب أخيه ما يحتسب في الصوم وأفضل وذلك في صوم التطوع وإن تحقق أنه متكلف فليتعلل وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما من أفضل الحسنات إكرام الجلساء بالإفطار فالإفطار عبادة بهذه النية وحسن خلق فثوابه فوق ثواب الصوم ومهما لم يفطر فضيافته الطيب والمجمرة والحديث الطيب
الرابع أن يمتنع عن الإجابة إن كان الطعام طعام شبهة أو كان يقام في الموضع منكر أو كان الداعي ظالما أو فاسقا أو متكلفا طلبا للمباهاة والفخر
الخامس أن لا يقصد بالإجابة قضاء شهوة البطن فيكون عاملا في أبواب الدنيا بل يحسن نيته ليصير بالإجابة عاملا للآخرة فينوي الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرام أخيه المؤمن وزيارته ليكونا من المتحابين في الله وينوي صيانة نفسه عن أن يساء به الظن في امتناعه ويطلق اللسان فيه بأن يحمل على تكبر أو سوء خلق أو استحقار أخ مسلم أو ما يجري مجراه وكان بعض السلف يقول أنا أحب أن يكون لي في كل عمل نية حتى في الطعام والشراب فإن المباح يلتحق بوجوه الخيرات بالنية
وأما الحضور فأدبه أن يدخل الدار ولا يتصدر فيأخذ أحسن الأماكن بل يتواضع ولا يطول الانتظار عليهم ولا يعجل بحيث يفاجئهم قبل تمام الاستعداد ولا يضيق المكان على الحاضرين بالزحمة بل إن أشار إليه صاحب المكان بموضع لا يخالفه البتة فإنه قد يكون رتب في نفسه موضع كل واحد فمخالفته تشوش عليه ولا يجلس في مقابلة باب الحجرة الذي للنساء وسترهم ولا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام فإنه دليل على الشره ويخص بالتحية والسؤال من يقرب منه إذا جلس وإذا دخل ضيف للمبيت فليعرفه صاحب المنزل
____________________
(1/158)
عند دخوله القبلة وبيت الماء وموضع الوضوء وأن يغسل صاحب المنزل يده قبل القوم وقبل الطعام لأنه يدعو الناس إلى كرمه ويتأخر في آخر الطعام عنهم وعلى الضيف إذا دخل فرأى منكرا أن يغيره إن قدر وإلا أنكر بلسانه وانصرف وأما إحضار الطعام فله آداب خمسة
الأول تعجيل الطعام فذلك من إكرام الضيف ومهما حضر الأكثرون وغاب واحد أو اثنان وتأخروا عن الوقت الموعود فحق الحاضرين في التعجيل أولى من حق أولئك في التأخير وأحد المعنيين في قوله تعالى { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } أنهم أكرموا بتعجيل الطعام إليهم دل عليه قوله تعالى { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } وقوله { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين } والروغان الذهاب بسرعة وقيل في خفية قال حاتم الأصم العجلة من الشيطان إلا في خمسة فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إطعام الضيف وتجهيز الميت وتزويج البكر وقضاء الدين والتوبة من الذنب
الثاني ترتيب الأطعمة بتقديم الفاكهة أولا إن كانت فذلك أوفق في الطب فإنها أسرع استحالة فينبغي أن تقع في أسفل المعدة وفي القرآن تنبيه على تقديم الفاكهة في قوله تعالى { وفاكهة مما يتخيرون } ثم قال { ولحم طير مما يشتهون } ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم والثريد فإن جمع إليه حلاوة بعده فقد جمع الطيبات ودل على حصول الإكرام باللحم قوله تعالى في ضيف إبراهيم إذ أحضر العجل الحنيذ أي المحنوذ وهو الذي أجيد نضجه وهو أحد معنيي الإكرام أعني تقديم اللحم قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه أكل الطيبات يورث الرضاء عن الله وتتم هذه الطيبات بشرب الماء
____________________
(1/159)
البارد وصب الماء الفاتر على اليد عند الغسل قال المأمون شرب الماء بثلج يخلص الشكر وقال بعضهم الحلاوة بعد الطعام خير من كثرة الألوان والتمكن على المائدة خير من زيادة لونين وتزيين المائدة بالبقول مستحب أيضا
الثالث أن يقدم من الألوان ألطفها حتى يستوفي منها من يريد ولا يكثر الأكل بعده وعادة المترفين تقديم الغليظ ليستأنف حركة الشهوة بمصادفة اللطيف بعده وهو خلاف السنة فإنه حيلة في استكثار الأكل ويستحب أن يقدم جميع الألوان دفعة أو يخبر بما عنده
الرابع أن لا يبادر إلى رفع الألوان قبل تمكنهم من الاستيفاء حتى يرفعوا الأيدي عنها فلعل منهم من يكون بقية ذلك اللون أشهى عنده مما استحضروه أو بقيت فيه حاجة إلى الأكل فيتنغص عليه بالمبادرة
الخامس أن يقدم من الطعام قدر الكفاية فإن التقليل عن الكفاية نقص في المروءة والزيادة عليه تصنع قال ابن مسعود رضي الله عنه نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه وكره جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة وينبغي أن يعزل أولا نصيب أهل البيت حتى لا تكون أعينهم طامحة إلى رجوع شيء منه فلعله لا يرجع فتضيق صدورهم وتنطلق في الضيفان ألسنتهم
فأما الانصراف فله ثلاثة آداب
الأول أن يخرج مع الضيف إلى باب الدار وهو سنة وذلك من إكرام الضيف وتمام الإكرام طلاقة الوجه وطيب الحديث عند الدخول والخروج وعلى المائدة
الثاني أن ينصرف الضيف طيب النفس وإن جرى في حقه تقصير فذلك من حسن الخلق والتواضع
الثالث أن لا يخرج إلا برضاء صاحب المنزل وإذنه ويراعي قلبه في قدر الإقامة وإذا نزل ضيفا فلا يزيد على ثلاثة أيام فربما يتبرم به ويحتاج إلى
____________________
(1/160)
إخراجه نعم لو ألح رب البيت عليه عن خلوص قلب فله المقام إذ ذاك ويستحب أن يكون عنده فراش لضيف ينزل به آداب متفرقة
الأول حكي عن إبراهيم النخعي أنه قال الأكل في السوق دناءة ونقل عن بعض السلف فعله ووجه الجمع أنه يختلف بعادات البلاد وأحوال الأشخاص فمن لا يليق ذاك به لحاله أو عادة بلاده كان شرها وقلة مروءة ومن لا فلا حرج
الثاني قال بعض الأطباء لا تنكح من النساء إلا فتاة ولا تأكل من اللحم إلا فتيا ولا تأكل المطبوخ حتى يتم نضجه ولا تشربن دواء إلا من علة ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها ولا تأكلن طعاما إلا أجدت مضغه ولا تشربن فوق الطعام ولا تحبس البول والغائط وإذا أكلت بالنهار فنم وإذا أكلت بالليل فامش قبل أن تنام ولو مئة خطوة
الثالث يستحب أن يحمل الطعام إلى أهل الميت ولما جاء نعي جعفر بن أبي طالب قال صلى الله عليه وسلم إن آل جعفر شغلوا بميتهم عن صنع طعامهم فاحملوا إليهم ما يأكلون فذلك سنة وإذا قدم ذلك إلى الجمع حل الأكل منه
الرابع لا ينبغي أن يحضر طعام ظالم فإن أكره فليقلل الأكل تتمة
حكي أن بعضهم كان يمتنع عن إجابة الدعوة ويقول انتظار المرقة ذل وقال آخر إذا وضعت يدي في قصعة غيري فقد ذلت له رقبتي وقد أنكر بعضهم هذا
____________________
(1/161)
الكلام وقال هذا خلاف السنة قال الغزالي وليس كذلك فإنه ذل إذا كان الداعي لا يفرح بالإجابة ولا يتقلد بها منة وكان يرى ذلك يدا له على المدعو ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحضر لعلمه أن الداعي له يتقلد منة ويرى ذلك شرفا وذخرا لنفسه في الدنيا والآخرة فهذا يختلف باختلاف الحال فمن ظن به أنه يستثقل الإطعام وأنه يفعل ذلك مباهاة أو تكلفا فليس من السنة إجابته بل الأولى التعلل ولذلك قال بعض الصوفية لا تجب إلا دعوة من يرى أنك أكلت رزقك وأنه سلم إليك وديعة كانت لك عنده ويرى لك الفضل عليه في قبول تلك الوديعة منه فإذا علم المدعو أنه لا منة في ذلك فلا ينبغي أن يرد
____________________
(1/162)
كتاب آداب النكاح الترغيب فيه
قال الله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم } وهذا أمر وقال تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } وهذا منع من العضل ونهي عنه وقال تعالى في وصف الرسل ومدحهم { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل ومدح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء فقال { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } الآية وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فقد رغب عني وقال من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن
____________________
(1/163)
للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء هذا يدل على أن سبب الترغيب فيه خوف الفساد في العين والفرج والوجاء هو عبارة عن رض الخصيتين للفحل حتى تزول فحولته فهو مستعار للضعف عن الوقاع بالصوم وقال صلى الله عليه وسلم إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وهذا أيضا تعليل الترغيب لخوف الفساد وقال صلى الله عليه وسلم كل عمل ابن آدم ينقطع إلا ثلاث ولد صالح يدعو له الحديث ولا يوصل إلى هذا إلا بالنكاح
وأما الآثار فقال ابن عباس رضي الله عنه لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج يحتمل أنه جعله من النسك أو تتمة له أو أراد أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزوج ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب وكان يجمع غلمانه لما أدركوا ويقول إن أردتم النكاح أنكحتكم فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه
وأما فوائد النكاح فخمسة الولد وكسر الشهوة وتدبير المنزل وكثرة العشيرة ومجاهدة النفس بالقيام بهن ما يراعى من أحوال المرأة
الخصال المطيبة للعيش التي لا بد من مراعاتها في المرأة ليدوم العقد وتتوفر مقاصده ثمان الدين والخلق والحسن وخفة المهر والولادة والبكارة والنسب وأن لا تكون قرابة قريبة
الأولى أن تكون صالحة ذات دين فهذا هو الأصل وبه ينبغي أن يقع الاعتناء فإنها إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها وفرجها أزرت بزوجها وسودت بين الناس وجهه وشوشت بالغيرة قلبه وتنغص بذلك عيشه فإن سلك سبيل الحمية
____________________
(1/164)
والغيرة لم يزل في بلاء وإن سلك سبيل التساهل كان متهاونا بدينه وعرضه ومنسوبا إلى قلة الحمية والأنفة وإن كانت فاسدة الدين باستهلاك ماله أو بوجه آخر لم يزل العيش مشوشا معه فإن سكت ولم ينكره كان شريكا في المعصية مخالفا لقوله تعالى { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } وإن أنكر وخاصم تنغص العمر ولهذا بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحريض على ذات الدين فقال تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسبها ودينها فعليك بذات الدين تربت يداك )
الثانية حسن الخلق فإنها إذا كانت سليطة بذيئة اللسان كافرة للنعم كان الضرر منها أكثر من النفع والصبر على لسان النساء مما يمتحن به الأولياء
الثالثة حسن الوجه فذلك أيضا مطلوب إذ به يحصل التحصن والطبع لا يكتفي بالدميمة غالبا وما نقلناه من الحث على الدين ليس زجرا عن رعاية الجمال بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض مع الفساد في الدين فإن الجمال وحده في غالب الأمر يرغب في النكاح ويهون أمر الدين ويدل على الالتفات إلى معنى الجمال أن الإلف والمودة تحصل به غالبا وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة ولذلك استحب النظر فقال إذا أوقع الله في نفس أحدكم من امرأة فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما أي يؤلف بينهما وكان بعض الورعين لا ينكحون كرائمهم إلا بعد النظر احترازا من الغرور وقال الأعمش كل تزويج يقع على غير نظر فآخره هم وغم وروي أن رجلا تزوج على عهد عمر رضي الله عنه وكان قد
____________________
(1/165)
خضب فنصل خضابه فاستعدى عليه أهل المرأة إلى عمر وقالوا حسبناه شابا فأوجعه عمر ضربا وقال غررت القوم والغرور يقع في الجمال والخلق جميعا فيستحب إزالة الغرور في الجمال بالنظر وفي الخلق بالوصف والاستيصاف ولا يستوصف في أخلاقها وجمالها إلا من هو بصير صادق خبير بالظاهر والباطن لا يميل إليها فيفرط في الثناء ولا يحسدها فيقصر وقل من يصدق فيه بل الخداع والإغراء أغلب والاحتياط فيه مهم
الرابعة أن تكون خفيفة المهر فقد نهي عن المغالاة في المهر وتزوج بعض الصحابة على نواة من ذهب يقال قيمتها خمسة دراهم وزوج سعيد بن المسيب ابنته من أبي هريرة رضي الله عنه على درهمين ثم حملها هو إليه ليلا فأدخلها من الباب ثم انصرف ثم جاءها بعد سبعة أيام فسلم عليها وفي خبر من بركة المرأة سرعة تزويجها وسرعة رحمها أي الولادة ويسر مهرها وكما تكره المغالاة في المهر من جهة المرأة فيكره السؤال عن مالها من جهة الرجل ولا ينبغي أن ينكح طمعا في المال وإذا أهدى إليهم فلا ينبغي أن يهدي ليضطرهم إلى المقابلة بأكثر منه وكذلك إذا أهدوا إليه فنية طلب الزيادة نيه فاسدة وداخل في قوله تعالى { ولا تمنن تستكثر } أي تعطي لتطلب أكثر
الخامسة أن تكون المرأة ولودا فإن عرفت بالعقر فليمتنع عن تزويجها
السادسة أن تكون بكرا قال صلى الله عليه وسلم لجابر وقد نكح ثيبا هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك
السابعة أن تكون نسيبة أعني أن تكون من أهل بيت الدين والصلاح فإنها
____________________
(1/166)
ستربي بناتها وبنيها فإذا لم تكن مؤدبة لم تحسن التأديب والتربية وفي خبر تخيروا لنطفكم فإن العرق نزاع
الثامنة أن لا تكون من القرابة القريبة فإن ذلك يقلل الشهوة فهذه هي الخصال المرغبة في النساء
ويجب على الولي أيضا أن يراعي خصال الزوج ولينظر لكريمته فلا يزوجها ممن ساء خلقه أو خلقه أو ضعف دينه أو قصر عن القيام بحقها أو كان لا يكافئها في نسبها ومهما زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو مبتدعا أو شارب خمر فقد جنى على دينه وتعرض لسخط الله لما قطع من حق الرحم وسوء الاختيار قال رجل للحسن قد خطب ابنتي جماعة فممن أزوجها قال ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها آداب المعاشرة بعد العقد إلى الفراق والنظر فيما على الزوج والزوجة
أما الزوج فعليه مراعاة الاعتدال والأدب في اثني عشر أمرا في الوليمة والمعاشرة والدعابة والسياسة والغيرة والنفقة والتعليم والقسم والتأديب في النشوز والوقاع والولادة والمفارقة بالطلاق
الأدب الأول الوليمة وهي مستحبة قال أنس رضي الله عنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أثر صفرة فقال ما هذا فقال تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب فقال بارك الله لك أو لم ولو بشاة وأو لم رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية بتمر وسويق وتستحب تهنئته فيقول
____________________
(1/167)
من دخل على الزوج بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير ويستحب إظهار النكاح قال صلى الله عليه وسلم فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت
الأدب الثاني حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ترحما عليهن قال تعالى { وعاشروهن بالمعروف } وقال في تعظيم حقهن { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } وقال { والصاحب بالجنب } قيل هي المرأة وليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل
الثالث أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة فهي التي تطيب قلوب النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق وأرى عائشة لعب الحبشة بالمسجد واستوقفته طويلا وهو يقول لها حسبك وقال صلى الله عليه وسلم خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي وقال عمر رضي الله عنه ينبغي للرجل أن يكون مع أهله مثل الصبي وقال صلى الله عليه وسلم لجابر هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت والله لقد كان ضحوكا إذا ولج سكيتا إذا خرج آكلا ما وجد غير سائل عما فقد
الرابع أن لا ينبسط في الدعابة وحسن الخلق والموافقة باتباع هواها إلى حد يفسد خلقها ويسقط بالكلية هيبته عندها بل يراعي الاعتدال فيه فلا يدع الهيبة والانقباض مهما رأى منكرا ولا يفتح باب المساعدة على المنكرات البتة بل مهما رأى ما يخالف الشرع والمروءة تنمر وامتعض فبالعدل قامت السموات والأرض فكل ما جاوز حده انعكس على ضده فينبغي أن يسلك سبيل الاقتصاد في المخالفة
____________________
(1/168)
والموافقة وتتبع الحق في جميع ذلك ليسلم من شرهن فإن الغالب عليهن سوء الخلق ولا يعتدل ذلك منهن إلا بنوع لطف ممزوج بسياسة وعليه أن ينظر إلى أخلاقها أولا بالتجربة ثم ليعاملها بما يصلحها كما يقتضيه حالها
الخامس الاعتدال في الغيرة وهو أن لا يتغافل عن مبادئ الأمور التي تخشى غوائلها ولا يبالغ في إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتبع عورات النساء وفي رواية أن تبغت النساء ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره قال قبل دخول المدينة لا تطرقوا النساء ليلا فخالفه رجلان فسبقا فرأى كل واحد في منزله ما يكره وفي الحديث إن من الغيرة غيرة يبغضها الله عز وجل وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة لأن ذلك من سوء الظن الذي نهينا عنه وأما الغيرة في محلها فلا بد منها وهي محمودة وذلك في الريبة وكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في حضور المسجد سيما في العيدين فالخروج للمسجد مباح للمرأة العفيفة مباح برضاء زوجها ولكن القعود أسلم وينبغي أن لا تخرج إلا لمهم فإن الخروج للنظارات والأمور التي ليست مهمة تقدح في المروءة وربما تفضي إلى الفساد فإذا خرجت فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط فإن لم تكن فتنة فلا إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقيب أو منعن من الخروج إلا لضرورة
السادس الاعتدال في النفقة فلا ينبغي أن يقتر عليهن في الإنفاق ولا ينبغي أن يسرف بل يقتصد قال تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } قال ابن
____________________
(1/169)
سيرين يستحب للرجل أن يعمل لأهله في كل جمعة حلاوة وينبغي أن يأمرها بالتصدق ببقايا الطعام وما يفسد لو ترك فهذا أقل درجات الخير وللمرأة أن تفعل ذلك بحكم الحال من غير تصريح إذن من الزوج ولا ينبغي أن يستأثر عن أهله بمأكول طيب فلا يطعمهم منه فإن ذلك مما يوعز الصدور ويبعد عن المعاشرة بالمعروف ولا ينبغي أن يصف عندهم طعاما ليس يريد إطعامهم إياه وإذا أكل فيقعد العيال كلهم على مائدته وأهم ما يجب عليه مراعاته في الإنفاق أن يطعمها من الحلال ولا يدخل مداخل السوء لأجلها فإن ذلك جناية عليها لا مراعاة لها
السابع أن يتعلم المتزوج من علم الحيض وأحكامه ما يحترز به الاحتراز الواجب ويعلم زوجته أحكام الصلاة ويخوفها من الله إن تساهلت في أمر الدين فإن كان الرجل قائما بتعليمها فليس لها الخروج لسؤال العلماء وإن قصر علم الرجل ولكن ناب عنها في السؤال فأخبرها بجواب المفتي فليس لها الخروج فإن لم يكن ذلك فلها الخروج للسؤال بل عليها ذلك ويعصى الرجل بمنعها
الثامن إذا كان له نسوة فينبغي أن يعدل بينهن ولا يميل إلى بعضهن فإن خرج إلى سفر وأراد استصحاب واحدة أقرع بينهن فإن ظلم امرأة بليلتها قضى لها فإن القضاء واجب عليه وإنما عليه العدل في العطاء والمبيت وأما في الحب والوقاع فذلك لا يدخل تحت الاختيار وكان صلى الله عليه وسلم يطاف به محمولا في مرضه في كل يوم وكل ليلة فيبيت عند كل واحدة منهن ومهما وهبت واحدة ليلتها لصاحبتها ثبت الحق لها
التاسع التأديب في النشوز ومهما وقع بينهما خصام ولم يلتئم أمرهما فإن كان من جانبهما جميعا أو من الرجل فلا تسلط الزوجة على زوجها ولا يقدر على إصلاحها فلا بد من حكمين أحدهما من أهله والآخر من أهلها لينظرا بينهما ويصلحا أمرهما { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وأما إذا كان النشوز من المرأة خاصة فالرجال قوامون على النساء فله أن يؤدبها ويحملها على الطاعة قهرا ولكن
____________________
(1/170)
ينبغي أن يتدرج في تأديبها وهو أن يقدم أولا الوعظ والتحذير والتخويف فإن لم ينجح ولاها ظهره في المضجع أو انفرد عنها بالفراش وهجرها وهو في البيت معها من ليلة إلى ثلاث ليال فإن لم ينجح ذلك فيها ضربها ضربا غير مبرح ولا يضرب وجهها فذلك منهي عنه
العاشر في آداب الجماع يستحب أن يقدم عليه الحديث والمؤانسة وأن يغطي رأسه ويغض صوته ثم إذا قضى وطره فليتمهل على أهله حتى تقضي هي أيضا نهمتها ولا يأتيها في المحيض حتى تطهر وله أن يستمتع بجميع بدن الحائض ولا يأتيها في غير المأتى إذ حرم غشيان الحائض لأجل الأذى والأذى في غير المأتى دائم فهو أشد تحريما من إتيان الحائض وقوله تعالى { فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي في أي وقت شئتم وله أن يستمني بيديها وأن يستمتع بما تحت الإزار بما يشتهي سوى الوقاع وله أن يؤاكل الحائض ويخالطها في المضاجعة وغيرها ومن الآداب أن لا يعزل فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة فإن عزل فمن العلماء من أباحه ومنهم من أحله برضاها وحرمه بدون رضاها لئلا يؤذيها والصحيح الأول وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنه قال كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل وفي لفظ آخر كنا نعزل فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا وقد يبعث على العزل استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها خوفا من خطر الطلق أو الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء فإن قلة الحرج معين على الدين الحادي عشر في آداب الولادة وهي خمسة
الأول أن لا يكثر فرحه بالذكر وحزنه بالأنثى فإنه لا يدري الخير له في أيهما فكم من صاحب ابن يتمنى أن لا يكون له أو يتمنى أن تكون بنتا بل الثواب فيهن أكثر قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له ابنتان أو أختان فأحسن إليهما ما
____________________
(1/171)
صحبتاه كنت أنا وهو في الجنة كهاتين
الثاني أن يؤذن في أذن المولود حين ولادته
الثالث أن يسميه اسما حسنا ومن كان له اسم مكروه يستحب تبديله
الرابع العقيقة عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة وأن يتصدق بوزن شعره ذهبا أو فضة
الخامس أن يحنكه بتمرة أو حلاوة روي ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم
الثاني عشر في الطلاق وهو أبغض المباحات إلى الله تعالى وإنما يكون مباحا إذا لم يكن فيه إيذاء بالباطل ومهما طلقها فقد آذاها ولا يباح إيذاء الغير إلا بجناية من جانبها أو بضرورة من جانبه قال تعالى { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } أي لا تطلبوا حيلة للفراق وإن كرهها أبوه لا لغرض فاسد فليطلقها برا به ومهما آذت زوجها وبذت على أهله فهي جانية وكذلك مهما كانت سيئة الخلق أو فاسدة الدين وإن كان الأذى من الزوج فلها أن تفتدي ببذل مال ويكره للرجل أن يأخذ منها أكثر مما أعطى فإن ذلك إجحاف بها وتحامل عليها وتجارة على البضع قال تعالى { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } فرد ما أخذته فما دونه لائق بالفداء فإن سألت الطلاق بغير ما بأس فهي آثمة ثم ليراع الزوج في الطلاق أربعة أمور
____________________
(1/172)
الأول أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه فإن الطلاق في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه برعي حرام وإن كان واقعا لما فيه من تطويل العدة عليها فإن فعل ذلك فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها
الثاني أن يقتصر على طلقة واحدة لأنها تفيد المقصود ويستفيد بها الرجعة إن ندم في العدة وإذا طلق ثلاثا ربما ندم فيحتاج إلى أن يتزوجها محلل وإلى الصبر مدة وعقد المحلل منهي عنه ويكون هو الساعي فيه
الثالث أن يتلطف في التعلل بتطليقها من غير تعنيف واستخفاف وتطييب قلبها بهدية على سبيل الإمتاع والجبر لما فجعها به من أذى الفراق قال تعالى { ومتعوهن } وجه الحسن بن علي رضي الله عنهما بعض أصحابه لطلاق امرأتين من نسائه وقال قل لهما اعتدا وأمره أن يدفع إلى كل واحدة عشرة آلاف درهم
الرابع أن لا يفشي سرها لا في الطلاق ولا عند النكاح فقد ورد في إفشاء سر النساء وعيد عظيم حقوق الزوج على الزوجة
على الزوجة طاعة الزوج في كل ما طلب منها مما لا معصية فيه وقد ورد في تعظيم حق الزوج عليها أخبار كثيرة قال صلى الله عليه وسلم أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة وقال صلى الله عليه وسلم إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها قال ابن عباس أتت امرأة من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أيم وأريد أن أتزوج فما حق الزوج قال إن من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها فراودها عن نفسها وهي على ظهر بعير لا تمنعه ومن حقه أن لا تعطي شيئا من بيته إلا بإذنه فإن
____________________
(1/173)
فعلت ذلك كان الوزر عليها والأجر له ومن حقه أن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه فإن فعلت جاعت وعطشت ولم يتقبل منها وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو تتوب فحقوق الزوج على الزوجة كثيرة وأهمها أمران أحدهما الصيانة والستر والآخر ترك المطالبة مما وراء الحاجة والتعفف عن كسبه إذا كان حراما ومن حقها على الوالدين تعليمها حسن المعاشرة وآداب العشرة مع الزوج كما روي أن أسماء بن خارجة الفزاري قال لابنته عند التزوج إنك خرجت من العش الذي فيه درجت فصرت إلى فراش لا تعرفينه وقرين لا تألفينه فكوني له أرضا يكن لك سماء وكوني له مهادا يكن لك عمادا وكوني له أمة يكن لك عبدا لا تلحفي به فيقلاك ولا تباعدي عنه فينساك إن دنا منك فاقربي منه وإن نأى فابعدي عنه واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشمن منك إلا طيبا ولا يسمع إلا حسنا ولا ينظر إلا جميلا فالقول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها لا يكثر صعودها وإطلاعها قليلة الكلام لجيرانها لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول تحفظ بعلها في غيبته وحضرته وتطلب مسرته في جميع أمورها ولا تخونه في نفسها وماله ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق محترزة من أن يسمع غريب صوتها أو يعرفها بشخصها لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو تعرفه همها صلاح شأنها وتدبير بيتها مقبلة على صلاتها وصيامها وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضرا لم تستفهم ولم تعاوده في الكلام غيرة على نفسها وبعلها وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله وتقدم حقه على حق نفسها وحق سائر
____________________
(1/174)
أقاربها متنظفة في نفسها مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء مشفقة على أولادها حافظة للستر عليهم قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج
ومن آدابها أن لا تتفاخر على الزوج بجمالها ولا تزدري زوجها لقبحه
ومن آدابها ملازمة الصلاح والانقباض في غيبة زوجها والرجوع إلى اللعب والانبساط وأسباب اللذة في حضور زوجها
ومما يجب عليها من حقوق النكاح إذا مات عنها زوجها أن لا تحد عليه أكثر من أربعة أشهر وعشرة وتتجنب الطيب والزينة في هذه المدة قال صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت أكثر من ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ويلزمها لزوم مسكن النكاح إلى آخر العدة وليس لها الانتقال إلى أهلها ولا الخروج إلا لضرورة
ومن آدابها أن تقوم بكل خدمة في الدار تقدر عليها كما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
____________________
(1/175)
كتاب آداب الكسب والمعاش فضل الكسب والحث عليه
أما من الكتاب فقوله تعالى { وجعلنا النهار معاشا } فذكره في معرض الامتنان وقال تعالى { وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون } فجعلها ربك نعمة وطلب الشكر عليها وقال تعالى { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } وأما الأخبار فمنها قوله صلى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه وكان صلى الله عليه وسلم جالسا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جلد وقوة وقد بكر يسعى فقالوا ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم لا تقولوا هذا فإنه أن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان وقيل يا رسول الله أي الكسب أطيب قال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور وقال صلى الله عليه وسلم خير الكسب كسب العامل إذا نصح أي بأن
____________________
(1/176)
أتقن وتجنب الغش وقام بحق الصنعة وقال عمر رضي الله عنه لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة وقال ابن مسعود رضي الله عنه إني لأكره أن أرى الرجل فارغا لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته وقيل لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال أحمد هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي وقوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الطير فقال تغدو خماصا وتروح بطانا فذكر انها تغدو في طلب الرزق وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم ومن ليس له مال موروث فلا ينجيه من ذلك إلا الكسب والتجارة نعم ترك الكسب أفضل لعالم مشتغل بتربية علم الظاهر مما ينتفع الناس به في دينهم كالمفتي أي الفقيه والمفسر والمحدث وأمثالهم أو رجل مشتغل بمصالح المسلمين كالسلطان والقاضي والشاهد فهؤلاء إذا كان يكفون من الأموال المرصدة للمصالح أو الأوقاف المسبلة على الفقراء أو العلماء فإقبالهم على ما هم فيه أفضل من اشتغالهم بالكسب ولهذا أشار الصحابة على أبي بكر رضي الله عنهم بترك التجارة لما ولي الخلافة إذ كان ذلك يشغله عن المصالح وكان يأخذ كفايته من مال المصالح ورأى ذلك أولى ثم لما توفي أوصى برده إلى بيت المال ولكنه رآه في الابتداء أولى بيان العدل واجتناب الظلم في المعاملة
اعلم أن المعاملة قد تجري على وجه يشتمل على ظلم يتعرض به المعامل لسخط
____________________
(1/177)
الله تعالى وهذا الظلم يعنى به ما استضر به الغير وهو منقسم إلى ما يعم ضرره وإلى ما يخص المعامل القسم الأول فيما يعم ضرره وهو أنواع
الأول الاحتكار فبائع الطعام يدخر الطعام ينتظر به غلاء الأسعار وهو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع وذلك في وقت قلة الأطعمة وحاجة الناس إليه حتى يكون في تأخير بيعه ضرر ما أما إذا اتسعت الأطعمة وكثرت واستغنى الناس عنها ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة فانتظر صاحب الطعام ذلك ولم ينتظر قحطا فليس في هذا إضرار وأما إذا كان الزمان زمان قحط كان في ادخاره إضرار فلا ريب في تحريمه
ومع عدم الضرار لا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية فإنه ينتظر مبادئ الضرار وهو ارتفاع الأسعار وانتظار مبادئ الضرار محذور كانتظار عين الضرار ولكنه دونه وانتظار عين الضرار أيضا هو دون الإضرار فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم
الثاني ترويج الزيف من الدراهم في أثناء النقد فهو ظلم إذ يستضر به المعامل إن لم يعرف وإن عرف فسيروجه على غيره فيتردد في الأيدي ويعم الضرر ويتسع الفساد ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه لأنه هو الذي فتح هذا الباب قال بعضهم إنفاق درهم زيف أشد من سرقة مائة درهم لأن السرقة معصية واحدة وقد تمت وانقطعت وإنفاق الزيف قد يكون عليه وزرها بعد موته إلى مئة سنة أو مئتي سنة إلى أن يفنى ذلك الدرهم ويكون عليه ما فسد من نقص أموال الناس وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مئة سنة أو أكثر يعذب بها في قبره ويسأل عنها إلى آخر انقراضها قال تعالى { ونكتب ما قدموا وآثارهم } أي نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم كما نكتب ما قدموه وفي مثله قوله تعالى { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } وإنما أخر آثار أعماله من
____________________
(1/178)
سنة سيئة عمل بها غيره وفي الزيف أمور منها أنه إذا رد عليه شيء منه فينبغي أن يطرحه في بئر بحيث لا تمتد إليه اليد وإياه أن يروجه في بيع آخر فإن أفسده بحيث لا يمكن التعامل جاز ومنها أنه يجب على التاجر تعلم النقد لئلا يسلم إلى أحد زيفا وهو لا يدري فيكون آثما بتقصيره في تعلم ذلك العلم فلكل عمل علم به يتم نصح المسلمين فيجب تحصيله ومنها أنه إن كان في ماله قطعة نقرتها ناقصة عن نقد البلد فعليه أن يخبر به معامله وأن لا يعامل به إلا من لا يستحل الترويج في جملة النقد بطريق التلبيس فأما من يستحل ذلك فتسليمه إليه تسليط له على الفساد فهو كبيع العنب ممن يعلم أنه يتخذه خمرا وذلك محظور وإعانة على الشر ومشاركة فيه وسلوك طريق الحق بمثال هذا في التجارة أشد من المواظبة على نوافل العبادات والتخلي لها القسم الثاني ما يخص ضرره المعامل
فكل ما يستضر به المعامل فهو ظلم وإنما العدل بأن لا يضر بأخيه المسلم والضابط الكلي فيه أن لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه فكل ما عومل به وشق عليه وثقل على قلبه فينبغي أن لا يعامل غيره به بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره هذه جملته وأما تفصيله ففي أربعة أمور
الأول أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها لأنه كذب فإن قبل المشتري ذلك فهو تلبيس وظلم وإن لم يقبل فهو كذب وإسقاط مروءة وأما الثناء على السلعة بذكر القدر الموجود فيها من غير مبالغة وإطناب فلا بأس به ولا ينبغي أن يحلف عليها البتة فإنه إن كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر وإن كان صادقا فقد جعل الله تعالى عرضة لأيمانه وقد أساء فيه إذ الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة وفي الخبر ويل للتاجر من بلى والله ولا والله وويل للصانع من غد وبعد غد وفي الخبر اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب
____________________
(1/179)
الثاني أن يظهر جميع عيوب المبيع خفيها وجليها ولا يكتم منها شيئا فذلك واجب فإن أخفاه كان ظالما غاشا والغش حرام وكان تاركا للنصح في المعاملة والنصح واجب ومهما أظهر أحسن وجهي الثوب وأخفى الثاني كان غاشا وكذلك إذا عرض الثياب في المواضع المظلمة وكذلك إذا عرض أحسن فردي الخف أو النعل وأمثاله ويدل على تحريم الغش ما روي أنه مر صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاما فأعجبه فأدخل يده فرأى بللا فقال ما هذا قال أصابته السماء فقال فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا ويدل على وجوب النصح بإظهار العيوب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع جريرا على الإسلام ذهب لينصرف فجذب ثوبه واشترط عليه النصح لكل مسلم فكان جرير إذا قام إلى السلعة يبيعها بصر عيوبها ثم خيره وقال إن شئت فخذ وإن شئت فاترك فقيل له إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم وكان واثلة بن الأسقع واقفا فباع رجل ناقة له بثلثمائة درهم فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة فسعى وراءه وجعل يصيح به يا هذا أشتريتها للحم أو للظهر فقال بل للظهر فقال إن بخفها نقبا قد رأيته وإنها لا تتابع السير فعاد فردها فنقصها البائع مئة درهم وقال لواثلة رحمك الله أفسدت علي بيعي فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لأحد يبيع بيعا إلا أن يبين آفته ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا تبيينه فقد فهموا
____________________
(1/180)
من النصح أن لا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيارة المقامات بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم وهذا الأمر وإن كان يشق على النفس إلا أنه يتيسر على العبد باعتقاد أمرين
أحدهما أن تلبيسه العيوب وترويجه السلع لا يزيد في رزقه بل يمحقه ويذهب ببركته وقد يهلك الله ما يجمعه من التلبيسات دفعة واحدة فقد حكي أن واحدا كان له بقرة يحلبها ويخلط بلبنها الماء ويبيع فجاء سيل فغرق البقرة فقال بعض أولاده إن تلك المياه المتفرقة التي صببناها في اللبن اجتمعت دفعة واحدة وأخذت البقرة كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم البيعان إذا صدقا ونصحا بورك لهما في بيعهما وإذا كتما وكذبا نزعت بركة بيعهما وفي الحديث يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا فإذا تخاونا رفع يده عنهما فإذا لا يزيد مال من خيانة كما لا ينقص من صدقة
والمعنى الثاني الذي لا بد من اعتقاده ليتم له النصح ويتيسر عليه أن يعلم أن ربح الآخرة وغناها خير من ربح الدنيا وأن فوائد أموال الدنيا تنقضي بانقضاء العمر وتبقى مظالمها وأوزارها فكيف يستخير العاقل أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير والخير كله في سلامة الدين وفي الحديث ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ومن علم أن هذه الأمور قادحة في إيمانه وأن إيمانه رأس ماله في تجارته في الآخرة لم يضيع رأس ماله المعد لعمر لا آخر له بسبب ربح ينتفع به أياما معدودة وعن بعض التابعين أنه قال لو دخلت الجامع وهو غاص بأهله وقيل لي من خير هؤلاء ومن شرهم لقلت خيرهم أنصحهم لهم وشرهم أغشهم لهم والغش حرام في البيوع والصنائع جميعا ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه بل ينبغي أن يحسن الصنعة ويحكمها ثم يبين عيبها إن كان فيها غيب فبذلك يتخلص وسأل رجل حذاء ابن سالم فقال كيف لي أن أسلم في بيع النعال فقال اجعل الوجهين سواء ولا تفضل اليمنى على الأخرى وجود الحشو وليكن شيئا واحدا تاما وقارب بين الخرز ولا تطبق
____________________
(1/181)
إحدى النعلين على الأخرى ومن ذلك ما سئل عنه أحمد بن حنبل رحمه الله من الرفو بحيث لا يتبين قال لا يجوز لمن يبيعه أن يخفيه وإنما يحل للرفاء إذا علم أنه يظهره أو أنه لا يريدها للبيع فإن قلت فلا تتم المعاملة مهما وجب على الإنسان أن يذكر عيوب المبيع فأقول ليس كذلك إذ شرط التاجر أن لا يشتري للبيع إلا الجيد الذي يرتضيه لنفسه لو أمسكه ولا يحتاج إلى تلبيس فمن تعود هذا لم يشتر المعيب فإن وقع في يده معيب نادرا فليذكره وليقنع بقيمته باع ابن سيرين شاة فقال للمشتري أبرأ إليك من عيب فيها أنها تقلب العلف برجلها فهكذا كانت سيرة أهل الدين
الثالث أن لا يكتم في المعيار وذلك بتعديل الميزان والاحتياط فيه وفي الكيل فينبغي أن يكيل كما يكتال قال الله تعالى { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } ولا يخلص من هذا إلا بأن يرجح إذا أعطى وينقص إذا أخذ إذ العدل الحقيقي قلما يتصور فليستظهر بظهور الزيادة والنقصان فإن من استقصى حقه بكماله يوشك أن يتعداه وكان بعضهم يقول لا أشتري الويل من الله بحبة وكل من خلط بالطعام ترابا أو غيره ثم كاله فهو من المطففين في الوزن وقس على هذا سائر التقديرات حتى في الذرع الذي يتعاطاه البزاز إذا اشترى أرسل الثوب في وقت الذرع ولم يمده مدا وإذ باعه مده في الذرع ليظهر تفاوتا في القدر فكل ذلك من التطفيف المعرض صاحبه للويل
الرابع أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئا فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان ونهى عن النجش أما تلقي الركبان فهو أن يستقبل الرفقة ويتلقى المتاع ويكذب في سعر البلد فقد قال صلى الله عليه وسلم لا تتلقوا الركبان ومن تلقاها فصاحب
____________________
(1/182)
السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق ونهى أيضا أن يبيع حاضر لباد وهو أن يقدم البدوي البلد ومعه قوت يريد أن يتسارع إلى بيعه فيقول له الحضري اتركه عندي حتى أغالي في ثمنه وأنتظر ارتفاع سعره ونهى أيضا عن النجش وهو أن يتقدم إلى البائع بين يدي الراغب المشتري ويطلب السلعة بزيادة وهو لا يريدها وإنما يريد تحريك رغبة المشتري فيها فهذه المناهي تدل على أنه لا يجوز أن يلبس على البائع والمشتري في سعر الوقت ويكتم منه أمرا لو علمه لما أقدم على العقد ففعل هذا من الغش الحرام المضاد للنصح الواجب ومن ذلك أنه ليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار فإن فعل ذلك كان ظالما تاركا للعدل والنصح للمسلمين ومهما باع مرابحة بأن يقول بعت بما قام علي أو بما اشتريته فعليه أن يصدق ثم يجب عليه أن يخبر بما حدث بعد العقد من عيب أو نقصان الإحسان في المعاملة
قد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعا والعدل سبب النجاة فقط وهو يجري من التجارة مجرى سلامة رأس المال والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة وهو يجري من التجارة مجرى الربح ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة ولا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى { وأحسن كما أحسن الله إليك } وقال عز وجل { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وقال سبحانه { إن رحمة الله قريب من المحسنين } وينال المعامل رتبة الإحسان بواحد من ستة أمور
الأول في المغابنة فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ولكن يراعى فيه التقريب ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحا كثيرا وبه تظهر البركة
____________________
(1/183)
الثاني في احتمال الغبن والمشتري إن اشترى طعاما من ضعيف أو شيئا من فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل ويكون به محسنا وداخلا في قوله صلى الله عليه وسلم رحم الله سهل البيع وسهل الشراء وأما احتمال الغبن من الغني فليس محمودا بل هو تضييع مال من غير أجر ولا حمد وكان كثير من السلف يستقصون في الشراء ويهبون مع ذلك الجزيل من المال فقيل لبعضهم في ذلك فقال إن الواهب يعطي فضله وإن المغبون يغبن عقله
الثالث في استيفاء الثمن وسائر الديون والإحسان فيه مرة بالمسامحة وحط البعض ومرة بالإمهال والتأخير ومرة بالمساهلة في طلب جودة النقد وكل ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه وفي الخبر من أقرض دينارا إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله فإذا حل الأجل فأنظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلا بدين فأومأ إلى صاحب الدين بيده أي ضع الشطر ففعل فقال للمديون قم فأعطه
الرابع في توفية الدين ومن الإحسان فيه حسن القضاء وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه فقد قال صلى الله عليه وسلم خيركم أحسنكم قضاء ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر إليه ولو قبل وقته وإن عجز فلينو
____________________
(1/184)
قضاءه مهما قدر ومهما كلمه مستحق الحق بكلام خشن فليتحمله وليقابله باللطف اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لما ردد عليه كلامه صاحب الدين فهم به أصحابه فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ومن الإحسان أن يميل الحكم إلى من عليه الدين لعسره
الخامس أن يقبل من يستقيله فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع ولا ينبغي أن يرضي لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه وفي الخبر من أقال نادما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة
السادس أن يقصد في معاملته جماعة من الفقراء بالنسيئة وهو في الحال عازم على أن لا يطالبهم إن لم يظهر لهم ميسرة وكان من السلف من يقول لفقير خذ ما تريد فإن يسر لك فاقض وإلا فأنت في حل منه وسعة فهذه طرق تجارات السلف وبالجملة فالتجارة محك الرجال وبها يمتحن دين الرجل وورعه شفقة التاجر على دينه
لا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده فيكون عمره ضائعا وصفقته خاسرة وما يفوته من الربح في الآخرة لا يفي به ما ينال في الدنيا فيكون ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة بل العاقل ينبغي أن يشفق على نفسه وشفقته على نفسه بحفظ رأس ماله ورأس ماله دينه وتجارته فيه وإنما تتم شفقته على دينه بمراعاة سبعة أمور
الأول حسن النية في ابتداء التجارة فلينو بها الاستعفاف عن السؤال وكف الطمع عن الناس استغناء بالحلال عنهم واستعانة بما يكسبه على الدين وقياما بكفاية العيال ليكون من جملة المجاهدين به ولينو النصح للمسلمين وأن يحب لسائر الخلق ما يحب لنفسه ولينو اتباع طريق العدل والإحسان في معاملته كما ذكرناه ولينو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ما يراه في السوق فإذا أضمر هذه النيات كان
____________________
(1/185)
عاملا في طريق الآخرة فإن استفاد مالا فهو مزيد وإن خسر في الدنيا ربح في الآخرة
الثاني أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات فإن الصناعات والتجارات لو تركت بطلت المعايش وهلك أكثر الخلق فانتظام أمر الكل بتعاون الكل وتكفل كل فريق بعمل ومن الصناعات ما هي مهمة ومنها ما يستغنى عنها لرجوعها إلى طلب التنعم والتزيين في الدنيا فليشتغل بصناعة مهمة ليكون لقيامه بها كافيا عن المسلمين مهما في الدين
الثالث أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة وأسواق الآخرة المساجد قال الله تعالى { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } وكان السلف يبتدرون عند الأذان ويخلون الأسواق لأهل الذمة والصبيان
الرابع أن لا يقتصر على هذا بل يلازم ذكر الله سبحانه في السوق ويشتغل بالتهليل والتسبيح فذكر الله في السوق بين الغافلين أفضل
الخامس أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة وذلك بأن يكون أول داخل وآخر خارج
السادس أن لا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتقي مواقع الشبهات ومظان الريب ويستفتي قلبه فإذا وجد فيه حزازة اجتنبه وإذا حمل إليه سلعة رابه أمرها سأل عنها وكل منسوب إلى ظلم أو خيانة أو سرقة أو ربا فلا يعامله
السابع ينبغي أن يراقب جميع مجاري معاملته مع كل واحد من معامليه فإنه مراقب ومحاسب فليعد الجواب ليوم الحساب
____________________
(1/186)
كتاب الحلال والحرام فضيلة الحلال ومذمة الحرام
قال الله تعالى { كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } أمر بالأكل من الطيبات قبل العمل وقيل إن المراد به الحلال وقال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وقال تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } ثم قال { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ثم قال { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } ثم قال ( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) جعل أكل الربا في أول الأمر مؤذنا بمحاربة الله وفي آخره متعرضا للنار والآيات الواردة في الحلال والحرام لا تحصى وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال طلب الحلال فريضة على كل مسلم وقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة
____________________
(1/187)
على كل مسلم المراد به طلب علم الحلال والحرام وجعل المراد بالحديثيين واحدا ولما ذكر صلى الله عليه وسلم الحريص على الدنيا قال رب أشعث أغبر مشرد في الأسفار مطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يرفع يديه فيقول يا رب فأنى يستجاب لذلك وقال صلى الله عليه وسلم كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به وأما الآثار فقد ورد أن الصديق رضي الله عنه شرب لبنا من كسب عبده ثم سأل عبده فقال تكهنت لقوم فأعطوني فأدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء وكذلك شرب عمر رضي الله عنه من لبن إبل الصدقة غلطا فأدخل أصابعه وتقيأ وقال سهل التستري لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال أداء الفرائض بالسنة وأكل الحلال بالورع واجتناب النهي ظاهرا وباطنا والصبر على ذلك إلى الموت وكان بشر الحافي رحمه الله من الورعين فقيل له من أين تأكل فقال من حيث تأكلون ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وقال يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات أصناف الحلال ومداخله
اعلم أن تفصيل الحلال والحرام إنما يتولى بيانه كتب الفقه ويستغني المريد عن
____________________
(1/188)
تطويله بأن يكون له طعمه معينة يعرف بالفتوى حلها وكان لا يأكل من غيرها فأما من يتوسع في الأكل من وجوه متفرقة فيفتقر إلى علم الحلال والحرام كله ونحن الآن نشير إلى مجامعه في سياق يقسم وذلك أن المال إنما يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه
القسم الأول الحرام لصفة في عينه كالخمر والخنزير وغيرهما وتفصيله أن الأعيان المأكولة على وجه الأرض لا تعدو ثلاثة أقسام فإنها إما أن تكون من المعادن كالملح والطين وغيرهما أو من النبات أو من الحيوانات فأما المعادن فهي أجزاء الأرض وجميع ما يخرج منها فلا يحرم أكله إلا من حيث أنه يضر بالآكل أو في بعضها ما يجري مجرى السم والخبز لو كان مضرا لحرم أكله والطين الذي يعتاد أكله لا يحرم إلا من حيث الضرر
وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل العقل ويزيل الحياة أو الصحة فمزيل العقل البنج والخمر وسائر المسكرات ومزيل الحياة السموم ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها وكأن مجموع هذا يرجع إلى الضرر إلا الخمر والمسكرات فإن الذي لا يسكر منها أيضا حرام مع قلته
وأما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وتفصيله في كتب الفقه وما يحل أكله فإنما يحل إذا ذبح ذبحا شرعيا روعي فيه شروط الذابح والآلة والمذبح على ما يذكر في كتب الفقه وما لم يذبح ذبحا شرعيا أو مات فهو حرام ولا يحل إلا ميتتان السمك والجراد
القسم الثاني ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه ويتحصل منه أقسام
الأول ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش فهذا حلال وشرطه أن لا يكون المأخوذ مختصا بذي حرمة من الآدميين
الثاني المأخوذ قهرا ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أملاك الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منها الخمس وقسموها بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوها من كافر له حرمة وأمان وعهد
الثالث ما يؤخذ تراضيا بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي فيه الشروط المصححة مع ما تعبد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة
الرابع ما يحصل بغير اختيار كالميراث وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب
____________________
(1/189)
من وجه حلال ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإخراج الحج والزكاة والكفارة إن كان واجبا وبقي أقسام أخر ونحن أشرنا إلى جملتها ليعلم المريد أن كل ما يأكلها من جهتها ينبغي أن يستفتي فيه أهل العلم ولا يقدم عليه بالجهل فإنه كما يقال للعالم لم خالفت علمك يقال للجاهل لم لازمت جهلك ولم تتعلم بعد أن قيل لك طلب العلم فريضة على كل مسلم درجات الحلال والحرام
اعلم أن الحرام كله خبيث لكن بعضه أخبث من بعض والحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض وأصفى من بعض ولذا كان الورع عن الحرام على درجات فمنه الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء ومنه الورع عما يتطرق إليه احتمال التحريم ومنه ما لا شبهة في حله ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس ومنه ما لا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس ولكنه يتناول لغير الله ولا على نيه التقوي به على عبادة الله أو تتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية
وقد حكي عن ابن سيرين أنه ترك لشريكه أربعة آلاف درهم لأنه حاك في قلبه شيء مع اتفاق العلماء على أنه لا بأس به وكان لبعضهم مائة درهم على إنسان فحملها إليه فأخذ تسعة وتسعين وتورع عن استيفاء الكل خيفة الزيادة وكان بعضهم يتجر فكل ما يستوفيه يأخذه بنقصان حبة وما يعطيه يزنه بزيادة حبة ومن ذلك الاحتراز عما يتسامح به الناس فإن ذلك حلال في الفتوى ولكن يخاف من فتح بابه أن ينجر إلى غيره وتألف النفس الاسترسال وتترك الورع كما تورع بعضهم من أخذ تراب من حائط بيت كان يسكنه بكراء وكما روي أن عمر بن عبد العزيز كان يوزن بين يديه مسك للمسلمين فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال لما استبعد ذلك منه وهل ينتفع منه إلا بريحه ومنه أن بعضهم كان عند محتضر فمات ليلا فقال اطفئوا السراج فقد حدث للورثة حق في الدهن وأخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة وكان صغيرا فقال صلى الله عليه وسلم كخ كخ أي ألقها وتقيأ
____________________
(1/190)
الصديق رضي الله عنه من اللبن الذي سقاه إياه رفيقه وكان تكهن فأعطي اللبن أجرة له وذلك خيفة من أن يحدث الحرام فيه قوة مع أنه شربه عن جهل وكان لا يجب إخراجه ولكن تخلية البطن عن الخبيث من ورع الصديقين وبالجملة فكلما كان العبد أشد تشديدا على نفسه كان أخف ظهرا يوم القيامة وأبعد عن أن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وإذا علمت حقيقة الأمر فإليك الخيار فإن شئت فاستكثر من الاحتياط وإن شئت فرخص فلنفسك تحتاط وعلى نفسك ترخص والسلام مراتب الشبهات
قال صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه فهذا الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة والمشكل منها القسم المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو الشبهة فلا بد من بيانها فإن ما لا يعرفه الكثير فقد يعرفه القليل فنقول
الحلال المطلق ما خلا عن ذاته الصفات الموجبة للتحريم في عينه وانحل عن أسبابه تحريم أو كراهة
والحرام المحض هو ما فيه صفة محرمة لا يشك فيها كالخمر لشدته المطربة والبول لنجاسته أو حصل بسبب منهي عنه قطعا كالمحصل بالظلم والربا ونظائره وهذان طرفان ظاهران ويلتحق بالطرفين ما تحقق أمره ولكنه احتمل تغيره ولم يكن لذلك الاحتمال سبب يدل عليه والاحتمال المعدوم دلالته كالاحتمال المعدوم في نفسه وأما الشبهة فما اشتبه علينا أمره بأن تعارض لنا فيه اعتقادان صدرا عن سببين مقتضيين للاعتقادين وللشبهة مثارات المثار الأول للشبهة الشك في السبب المحلل والمحرم
فإن تعادل الاحتمالان كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك وإن غلب أحد الاحتمالين عليه بأن صدر دلالة معتبرة كان الحكم للغالب ولا
____________________
(1/191)
يتبين هذا إلا بالأمثال والشواهد فلنقسمه إلى أقسام أربعة
القسم الأول أن يكون التحريم معلوما من قبل ثم يقع الشك في المحلل فهذه شبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها
القسم الثاني أن يعرف الحل ويشك في المحرم فالأصل الحل وله الحكم
القسم الثالث أن يكون الأصل التحريم ولكن طرأ ما أوجب تحليله بظن غالب فهو مشكوك فيه والغالب حله فهذا ينظر فيه فإن استند غلبة الظن إلى سبب معتبر شرعا فالذي يختار فيه أنه يحل وأن اجتنابه من الورع مثاله أن يرمي إلى صيد فيغيب ثم يدركه ميتا وليس عليه أثر سوى سهمه ولكن يحتمل أنه مات بسقطة أو بسبب آخر فالمختار أنه حلال لأن الجرح سبب ظاهر وقد تحقق والأصل أنه لم يطرأ عليه غيره فطريانه مشكوك فيه فلا يدفع اليقين بالشك
القسم الرابع أن يكون الحل معلوما ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعا فيرفع الاستصحاب ويقضي بالتحريم مثاله أن يؤدي اجتهاده إلى نجاسة أحد الإناءين بالاعتماد على علامة معينة توجب غلبة الظن فتوجب تحريم شربه كما توجب منع الوضوء به المثار الثاني للشبهة شك منشؤه الاختلاط
وذلك بأن يختلط الحرام بالحلال ويشتبه الأمر ولا يتميز والخلط أنواع نوع يقع بعدد محصور كما لو اختلطت ميتة بذكية أو بعشر مذكاة أو اختلطت رضيعة بعشر نسوة فهذه شبهة يجب اجتنابها بالإجماع لأنه لا مجال للاجتهاد والعلامات في هذا وإذا اختلطت بعدد محصور صارت الجملة كالشيء الواحد فتقابل فيه يقين التحريم والتحليل فضعف الاستصحاب وجانب الحظر أغلب في نظر الشرع فلذلك ترجح
ونوع يقع فيه حرام محصور بحلال غير محصور كما لو اختلطت رضيعة أو عشر رضائع بنسوة بلد كبير فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح أهل البلد بل له أن ينكح من شاء منهن وذلك لغلبة الحل والحاجة جميعا إذ كل من ضاع له رضيع أو قريب أو محرم
____________________
(1/192)
بمصاهرة أو سبب من الأسباب فلا يمكن أن يسد عليه باب النكاح وكذلك من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعا لا يلزمه ترك الشراء والأكل فإن ذلك حرج وما في الدين من حرج ويعلم هذا بأنه لما سرق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجن وغل واحد في الغنيمة عباءة لم يمتنع أحد من شراء المجان والعباء في الدنيا وكذلك كل ما سرق وكذلك كان يعرف أن في الناس من يرابي في الدراهم والدنانير وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الناس الدراهم والدنانير بالكلية وأما إذا اختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر كحكم الأموال في زماننا هذا فإنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول شيء بعينه احتمل أنه حرام وأنه حلال إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام وقول القائل أكثر الأموال حرام في زماننا غلط منشئوه استكثار النفوس الفساد واستعظامها له وإن كان نادرا حتى ربما يظن أن الزنا وشرب الخمر قد شاع كما شاع الحرام فيتخيل أنهم الأكثرون وهو خطأ فإنهم الأقلون وإن كان فيهم كثرة وبالجملة فالأصل الحل ولا يرفع إلا بعلامة معينة المثار الثالث للشبهة أن يتصل بالسبب المحلل معصية
كالبيع في وقت النداء يوم الجمعة والذبح بالسكين المغصوبة والبيع على بيع الغير والسوم على سومه فكل نهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن الامتناع من جميع ذلك ورع لأن تناول الحاصل من هذه الأمور مكروه والكراهة تشبه التحريم ومثله كل تصرف يفضي في سياقه إلى معصية كبيع العنب من الخمار وبيع السلاح من قطاع الطريق وقد اختلف العلماء في صحة ذلك وفي حل الثمن المأخوذ منه والأقيس أن ذلك صحيح والمأخوذ حلال والرجل عاص بعقده كما يعصى بالذبح بالسكين المغصوب والذبيحة حلال فإنه يعصي عصيان الإعانة على المعصية ولا يتعلق ذلك بعين العقد والمأخوذ من هذا مكروه كراهية شديدة وتركه من الورع المهم
____________________
(1/193)
تنبيه
لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بدقائق الورع إلا بحضرة عالم متقن فإنه إذا جاوز ما رسم له وتصرف بذهنه من غير سماع كان ما يفسده أكثر مما يصلحه والمتنطعون هم الذين يخشى عليهم أن يكونوا ممن قيل فيهم { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي البحث والسؤال في الحرام والحلال
اعلم أن كل من قدم إليك طعاما أو هدية أو أردت أن تشتري منه أو تتهب فليس لك أن تفتش عنه وتسأل وتقول هذا مما لا أتحقق حله فلا آخذه بل أفتش عنه وليس لك أيضا أن تترك البحث مطلقا بل السؤال لا بد منه من مواقع الريبة ومنشأ الريبة بالنسبة لصاحب المال أن يكون مشكوكا فيه أو معلوما بنوع ظني يستند إلى دلالة وبالنسبة للمال أن يختلط حرامه بحلاله ويكون الحرام أكثر من يقين وجوده فإذا كان الحرام هو الأقل واحتمل أن لا يكون موجودا في الحال لم يكن الأكل حراما ولكن السؤال احتياط والامتناع عنه ورع وإنما يسأل من صاحب اليد إذا لم يكن متهما فإن كان متهما بأنه ليس يدري طريق كسب الحلال أو بأنه لا ثقة في أخباره وأمانته فليسأل من غيره فإذا أخبره عدل واحد قبله وإن أخبره فاسق علم من قرينة حاله أنه لا يكذب حيث لا غرض له فيه جاز قبوله لأن المطلوب ثقة النفس والمفتي هو القلب في مثل هذا الوضع وللقلب التفاتات إلى قرائن خفية يضيق عنها نطاق النطق فليتأمل فيه فإذا أطمأن القلب كان الاحتراز حتما واجبا كيفية خروج التائب من المظالم المالية
اعلم أن كل من تاب وفي يده مال مختلط فعليه وظيفة في تمييز الحرام وإخراجه ووظيفة أخرى في مصرف المخرج فلينظر فيهما
____________________
(1/194)
النظر الأول في كيفية التمييز والإخراج من تاب وفي يده ما هو حرام معلوم العين من غصب أو وديعة أو غيره فأمره سهل فعليه تمييز الحرام وإن كان ملتبسا مختلطا فإما أن يكون من ذوات الأمثال كالحبوب والنقود والأدهان أو يكون في أعيان متمايزة كالدور والثياب فإن كان في المتماثلات أو كان شائعا في المال كله كمن اكتسب المال بتجارة كذب في بعضها وكمن غصب دهنا وخلطه بدهن نفسه وفعل ذلك في الحبوب أو الدراهم والدنانير فإن كل معلوم القدر مثل أن يعلم أن قدر النصف من جملة ماله حرام فعليه تمييز النصف وإن أشكل فله طريقان الأخذ باليقين والأخرى الأخذ بغالب الظن والورع في الطريق الأولى فلا يستبقي إلا القدر الذي يتيقن أنه حلال
فأما إذا اشتبه دار أو ثوب بأمثالهما وكان فيهما تفاوت أخذ الحاكم من طالب بيعها قيمة الأنفس وصرف إلى الممتنع منه مقدار قيمة الأقل ويوقف قدر التفاوت إلى البيان والاصطلاح مسألة
من ورث مالا ولم يدر مورثه من أين اكتسبه أمن حلال أم من حرام ولم يكن ثم علامة فهو حلال باتفاق العلماء وإن علم أن فيه حراما وشك في قدره أخرج مقدار الحرام بالتحري وإن علم أن بعض ماله كان من الظلم فيلزمه إخراج ذلك القدر بالاجتهاد وقال بعض العلماء لا يلزمه والإثم على المورث
النظر الثاني في المصرف فإذا أخرج الحرام فله ثلاثة أحوال إما أن يكون له مالك معين فيجب الصرف إليه أو إلى وارثه وإن كان غائبا فينتظر حضوره أو الإيصال إليه وإن كانت له زيادة ومنفعة فلتجمع فوائده إلى وقت حضوره وإما أن يكون لمالك غير معين وقع اليأس من الوقوف على عينه ولا يدري أنه مات عن وارث أم لا فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك ويوقف حتى يتضح الأمر فيه وربما لا يمكن الرد لكثرة الملاك فهذا ينبغي أن يتصدق به لئلا يضيع وتفوت المنفعة على المالك وعلى غيره وله أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيرا
____________________
(1/195)
كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق فضيلة الألفة والأخوة
اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرق ثمرة سوء الخلق فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر وحسن الخلق لا يخفى في الدين فضيلته وهو الذي مدح الله سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم إذ قال { وإنك لعلى خلق عظيم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق وقال صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم محاسن الأخلاق ولا يخفى أن ثمرة الخلق الحسن الألفة وانقطاع الوحشة وقد ورد في الثناء على نفس الألفة سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين وحب الله من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع قال الله تعالى مظهرا عظيم منته على المؤمنين { فأصبحتم بنعمته إخوانا } أي بالألفة وذم التفرقة وزجر عنها
____________________
(1/196)
فقال تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال صلى الله عليه وسلم إن أقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وقال صلى الله عليه وسلم المؤمن آلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وقال صلى الله عليه وسلم من أراد الله به خيرا رزقه خليلا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وعنه ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه وعنه صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي وعنه صلى الله عليه وسلم إن أحبكم إلى الله الذين يألفون أو يؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان ومن الآثار ما روي عن الفضيل رحمه الله تعالى أنه قال هاه تريد أن تسكن الفردوس وتجاور الرحمن في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بأي عمل عملته بأي شهوة تركتها بأي غيظ كظمته بأي رحم
____________________
(1/197)
وصلتها بأي زلة لأخيك غفرتها بأي قريب باعدته في الله بأي بعيد قاربته في الله وقال أيضا نظر الرجل إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة تحقيق المحبة في الله
هو أن يحب المرء لا يحبه لذاته بل إلى حظوظه الأخروية منه كمن يحب أستاذه لأنه يتوسل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة فهذا من جملة المحبين في الله وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم فهو محب في الله بل الذي يتصدق بأمواله لله ويجمع الضيفان ويهيئ لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة تقربا إلى الله فأحب طباخا لحسن صنعته في الطبخ فهو من جملة المحبين في الله وكذا لو أحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله أو أحب من يخدمه بنفسه في غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه ويفرغه بذلك للعلم أو العمل ومقصوده من استخدامه في هذه الأعمال الفراغ للعبادة فهو محب في الله أو أحب من ينفق عليه من ماله ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه وجميع أغراضه التي يقصدها في دنياه ومقصوده من جملة ذلك الفراغ للعلم والعمل المقرب إلى الله فهو محب في الله فقد كان جماعة من السلف تكفل بكفايتهم جماعة من أولي الثروة وكان المواسي والمواسى جميعا من المتحابين في الله وكذا من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن وسواس الشيطان ويصون بها دينه أو ليولد له منها ولد صالح أو أحب زوجته لأنها آلة إلى هذه المقاصد الدينية فهو محب في الله وكذا إذا اجتمع في قلبه محبة الله والدنيا كمن أحب من يعلمه الدين ويكفيه مهمات الدنيا بالمواساة في المال فهو محب في الله وليس من شرط حب الله أن لا يحب في العاجل حظ البتة إذ الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدنيا والآخرة { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } وفي المأثور اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة ثم إذا قوي الحب في الله حمل على الموالاة والنصرة والذب بالنفس
____________________
(1/198)
والمال واللسان وتتفاوت الناس فيه بحسب تفاوتهم في حب الله عز وجل إلا أنه يمتحن الحب بالمقابلة بحظوظ النفس وقد يغلب بحيث لا يبقي للنفس حظا إلا فيما هو حظ المحبوب وقد يكون الحب بحيث يترك به بعض الحظوظ دون بعض كما تسمح نفسه بأن يشاطر محبوبه في نصف ماله أو في ثلثه أ وفي عشره فمقادير الأموال موازين المحبة إذ لا يعرف درجة المحبوب إلا بمحبوب يترك في مقابلته فمن استغرق الحب جميع قلبه لم يبق له محبوب سواه فلا يمسك لنفسه شيئا مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه سلم ابنته التي هي قرة عينه وبذل جميع ماله فحصل من هذا أن كل من أحب عالما أو عابدا أو أحب شخصا راغبا في علم أو في عبادة أو في خير فإنما أحبه في الله ولله وله فيه من الأجر والثواب بقدر قوة حبه بيان البغض في الله
اعلم أن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله ومن أحب لسبب فبالضرورة يبغض لضده وإظهار البغض يكون بكف اللسان عن مكالمته ومحادثته والإعراض والتباعد عنه وقلة الالتفات إليه أو بالاستخفاف والتغليظ في القول وذلك بحسب درجات الفسق والمعصية الصادرة منه أما ما يجري مجرى الهفوة التي يعلم أنه متندم عليها ولا يصر عليها فالأولى فيه الستر والإغماض الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته
اعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان قال صلى الله عليه وسلم المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ولا بد أن يتميز بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته وجملتها أن يكون عاقلا حسن الخلق غير فاسق ولا حريص على الدنيا أما العقل فهو
____________________
(1/199)
رأس المال وهو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتهما وإن طالت وقد قيل مقاطعة الأحمق قربان إلى الله وأما حسن الخلق فلا بد منه فإن من غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن وأطاع هواه فلا خير في صحبته وأما الفاسق المصر على فسقه فلا فائدة في صحبته بل مشاهدته تهون أمر المعصية على النفس وتبطل نفرة القلب عنها ولأن من لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأعراض قال الله تعالى { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } وقال تعالى { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } وقال تعالى { واتبع سبيل من أناب إلي } وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق وأوصى علقمة ابنه فقال يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤونة مانك واصحب من إذا مددت يدك بخير مدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها اصحب من إذا سألته أعطاك وإن سكت ابتداك وإن نزلت بك نازلة واساك اصحب من إذا قلت صدق قولك وإن حاولت أمرا آمرك وإن تنازعتهما آثرك قال علي رضي الله عنه
( إن أخاك الحق من كان معك ** ومن يضر نفسه لينفعك )
( ومن إذا ريب زمان صدعك ** شتت فيه شمله ليجمعك )
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله لا تصحب إلا أحد رجلين رجلا ترتفق به في أمر دنياك أو رجلا تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك والاشتغال بغير هذين حمق كبير وأما الحريص على الدنيا فصحبته سم قاتل لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه فمجالسة
____________________
(1/200)
الحريص على الدنيا تحرك الحرص ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا وتطلب صحبة العلماء والحكماء قال لقمان لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر حقوق الأخوة والصحبة
اعلم أن لأخيك عليك حقا في المال وفي الإعانة بالنفس وفي اللسان والقلب وفي العفو وفي الدعاء وفي الوفاء والإخلاص وفي التخفيف وفي ترك التكلف والتكليف وذلك يجعلها ثماني جمل الحق الأول في المال
روي أن مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وذلك لأنهما يتعاونان على غرض واحد وكذلك الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافقا في مقصد واحد فهما من وجه كالشخص الواحد وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء والمشاركة في المآل والحال وارتفاع الاختصاص والاستئثار والمواساة بالمال مع الأخوة على ثلاث مراتب
أدناها أن تنزله منزلة خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة
الثانية أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال
والثالثة هي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى رتبة المتحابين ومنتهى هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضا فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين فقد قال ميمون بن مهران من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليؤاخ أهل
____________________
(1/201)
القبور وأما الدرجة الأولى فليست أيضا مرضية عند ذوي الدين روي أن عتبة الغلام رحمه الله جاء إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف فقال خذ ألفين فأعرض عنه وقال آثرت الدنيا على الله أما استحييت أن تدعي الأخوة في الله وتقول هذا وأما الرتبة العليا فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله { وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض وكان منهم من لا يصحب من قال نعلي لأنه أضافه إلى نفسه وفهم من كان يعتق أمته إذا حدثته بمجيء أخيه وأخذه من ماله حاجته في غيبته سرورا بما فعل وقال زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذن قال لا قال فلستم بإخوان وقال ابن عمر رضي الله عنهما أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال أخي فلان أحوج مني إليه فبعث به إليه فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة وقال أبو سليمان الداراني لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي رضي الله عنه لعشرون درهما أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة درهم على المساكين ومن الصفاء في الأخوة الانبساط في بيوت الإخوان كما كان عليه كثير من السلف وقد قال تعالى { أو صديقكم } وقال { أو ما ملكتم مفاتحه } إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض إليه التصرف كما يريد وكان يتحرج عن الأكل بحكم التقوى حتى أنزل الله هذه الآية وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء
____________________
(1/202)
الحق الثاني في الإعانة بالنفس
وذلك في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة وهذه أيضا لها درجات فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة قال بعضهم إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية { والموتى يبعثهم الله } وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم يتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه بل كانوا يرون منهم ما لم يروا من أبيهم في حياته وكان أحدهم يتردد إلى باب دار أخيه يقوم بحاجته من حيث لا يعرفه أخوه وبهذا تظهر الشفقة والأخوة إذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها قال ميمون بن مهران من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته وبالجملة فينبغي أن تكون حاجه أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك وأن تكون متفقدا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك وتغنيه عن السؤال إلى الاستعانة ولا ترى لنفسك حقا بسبب قيامك بها بل تتقلد منة بقبوله سعيك في حقه وقيامك بأمره وقال عطاء تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم أو مشاغيل فأعينوهم أو كانوا نسوا فذكروهم وقال سعيد بن العاص لجليسي علي ثلاث إذا دنا رحبت به وإذا حدث أقبلت عليه وإذا جلس أوسعت له وقد قال تعالى { رحماء بينهم } إشارة إلى الشفقة والإكرام ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه
____________________
(1/203)
الحق الثالث في اللسان
وذلك بالسكوت مرة وبالنطق أخرى أما السكوت فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يماريه ولا يناقشه وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده ولا يسأل فربما يثقل عليه ذكره أو يحتاج إلى أن يكذب فيه وليسكت عن أسراره التي بثها إليه ولا يبثها إلى غيره البتة ولا إلى أخص أصدقائه ولا يكشف شيئا منها ولو بعد القطيعة والوحشة فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه فإن الذي سبك من بلغك ولا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإن السرور أولا به يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل وإخفاء ذلك من الحسد وبالجملة فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلا إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت فإذ ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن إنها إساءة في الظاهر أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله فهو من الغيبة وذلك حرام في حق كل مسلم ويزجرك عنه أمران
أحدهما أن تطالع أحوال نفسك فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما فهون على نفسك ما تراه من أخيك وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة كما أنك عاجز عما أنت مبتلى به ولا تستثقله بخصلة مذمومة فأي الرجال المهذب
والأمر الثاني أن تعلم أنك لو طلبت منزها عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ولن تجد من تصاحبه أصلا فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية والمنتهى فالمؤمن الكريم أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام وأما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ والعيوب قال ابن المبارك المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات وقال الفضيل الفتوة العفو عن زلات الإخوان ولذلك قال
____________________
(1/204)
عليه السلام استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرا ستره وإن رأى شرا أظهره بحث سوء الظن
وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضا وحده أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن يحمل على وجه خير فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فاحمله على سهو ونسيان إن أمكن وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا والتجسس في تطلع الأخبار والتحسس بالمراقبة بالعين فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين وهو الحقد والحسد ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف وأمر مخطر وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله
ومن ذلك أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه وله أن ينكره وإن كان كاذبا فليس الصدق واجبا في كل مقام فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب فله أن يفعل ذلك في حق أخيه فإن أخاه نازل منزلته وهما كشخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن هذه حقيقة الأخوة وقد قال عليه السلام من ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة وقال عليه السلام
____________________
(1/205)
إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة وقال المجالس بالأمانة وفي رواية إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره قيل لبعضهم كيف حفظك للسر قال أنا قبره فإن صدور الأحرار قبور الأسرار وأفشى بعضهم سرا له إلى أخيه ثم قال له حفظت فقال بل نسيت وقال العباس لابنه عبد الله إني أرى هذا الرجل يعني عمر رضي الله عنه يقدمك على الأشياخ فاحفظ مني خمسا لا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا يجربن عليك كذبا ولا تعصين له أمرا ولا يطلعن منك على خيانة فقال الشعبي كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف
ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك قال ابن عباس لا تمار سفيها فيؤذيك ولا حليما فيقليك وقد قال صلى الله عليه وسلم من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة هذا مع أن تركه مبطلا واجب وقد جعل ثواب النفل أعظم لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل وإنما الأجر على قدر
____________________
(1/206)
النصب وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمناقشة فإنها عين التدابر والتقاطع فإن التقاطع يقع أولا بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان وقال عليه السلام لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا وقد قال صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم وأشد الاحتقار المماراة فإن من رد على غيره كلاما فقد نسبه إلى الجهل أو الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش وفي حديث أبي أمامة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى فغضب وقال ذروا المراء لقلة خيره وذروا المراء فإن نفعه قليل وإنه يهيج العداوة بين الإخوان وقال بعض السلف من لاحى الإخوان وماراهم قلت مروءته وذهبت كرامته وقال غيره إياك ومماراة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم قال الحسن لا تشترى عداوة رجل بمودة ألف رجل وعلى الجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميز بمزيد العقل والفضل واحتقار المردود عليه بإظهار جهله وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل ولا معنى للمعاداة إلا هذا فكيف تضام الأخوة والمصافاة فقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه وقد قال عليه السلام إنكم لا تسعون
____________________
(1/207)
الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق والمماراة مضادة لحسن الخلق واعلم أن قوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة الحق الرابع على اللسان بالنطق
الأخوة كما تقتضي السكوت عن المكاره تقتضي أيضا النطق بالمحاب بل هو أخص بالأخوة لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور وإنما يراد الإخوة ليستفاد منهم لا ليتخلص عن أذاهم والسكوت معناه كف الأذى فعليه أن يتودد إليه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يحب أن يتفقد فيها كالسؤال عن عارض إن عرض وإظهار شغل القلب بسببه واستبطاء العافية عنه وكذا جملة أحواله التي يكرهها ينبغي أن يظهر بلسانه وأفعاله كراهتها وجملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء وقد قال عليه السلام إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره وإنما أمر بالإخبار لأن ذلك يوجب زيادة حب فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين ويتضاعف والتحاب بين المؤمنين مطلوب في الشرع ومحبوب في الدين ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم فيه الطريق فقال تهادوا تحابوا
ومن ذلك أن تدعوه بأحب أسمائه إليه في غيبته وحضوره قال عمر رضي الله عنه ثلاث يصفين لك ود أخيك أن تسلم عليه إذا لقيته أولا وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب أسمائه إليه
ومن ذلك أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة وكذلك الثناء على أولاده وأهله
____________________
(1/208)
وصنعته وفعله حتى على عقله وخلقه وهيئته وخطه وشعره وتصنيفه وجميع ما يفرح به وذلك من غير كذب وإفراط ولكن تحسين ما يقبل التحسين لا بد منه وآكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح فإن إخفاء ذلك محض الحسد
ومن ذلك أن تشكره على صنيعه في حقك بل على نيته وإن لم يتم ذلك وأعظم من ذلك تأثيرا في جلب المحبة الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض لعرضه بكلام صريح أو تعريض فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليط القول عليه والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب وتقصير في حق الأخوة وإهماله لتمزيق عرضه كإهماله لتمزيق لحمه فأخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم ولذلك شبهه الله تعالى بأكل لحوم الميتة فقال { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } فإذن حماية الأخوة بدفع ذم الأعداء وتعنت المتعنتين واجب في عقد الأخوة وقال بعضهم ما ذكر أخ لي بغيب إلا تصورته جالسا فقلت فيه ما يحب أن يسمع لو حضر
ومن ذلك التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيه إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال فإن كنت غنيا بالعلم فعليك مواساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفعه في الدين والدنيا فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة وذلك بأن تذكر آفات ذلك الفعل وفوائد تركه وتخوفه بما يكرهه في الدنيا والآخرة لينزجر عنه وتنبهه على عيوبه ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد فما كان على الملأ فهو فضيحة وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة قال ذو النون لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة ولا مع النفس إلا بالمخالفة
ولا تظنن أن في نصح أخيك إيحاشا لقلبه فإن في تنبيهه على ما لا يعلمه عين الشفقة وهو استمالة القلوب أعني قلوب العقلاء وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم
____________________
(1/209)
فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها كان كمن ينبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك وقد همت بإهلاكك فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك والصفات الذميمة عقارب وحيات وهي في الآخرة مهلكات فإنها تلدغ القلوب والأرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر والأجساد وهي مخلوقة من نار الله الموقدة ولذلك كان عمر رضي الله عنه يستهدي ذلك من إخوانه ويقول رحم الله امرأ أهدى إلى أخيه عيوبه ومن كتاب بعض السلف لأخيه اعلم أن من قرأ القرآن وآثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين وقد وصف الله الكاذبين ببغضهم للناصحين إذ قال { ولكن لا تحبون الناصحين } وهذا في عيب هو غافل عنه فأما ما يظهره فلا بد من التلطف بنصحه بالتعريض مرة والتصريح أخرى إلى حد لا يؤدي إلى الإيحاش فإن علمت أن النصح غير مؤثر فيه وأنه مضطر من طبعه إلى الإصرار عليه فالسكوت عنه أولى وهذا كله فيما يتعلق بمصالح أخيك في دينه أو دنياه أما ما يتعلق بتقصيره في حقك فالواجب فيه الاحتمال والعفو والصفح والتعامي عنه والتعرض لذلك ليس من النصح في شيء نعم إن كان بحيث يؤدي استمراره عليه إلى القطيعة فالعتاب في السر خير من القطيعة والتعريض به خير من التصريح والمكاتبة خير من المشافهة والاحتمال خير من الكل الحق الخامس العفو عن الزلات والهفوات
هفوة الصديق إن كانت في دينه فلا بد من التلطف في نصحه كما قدمنا فإن أصر فمن السلف من رأى مقاطعته ومنهم من رأى إدامة حق مودته وبغض عمله وأما زلته في حقه بما يوجب إيحاشه فلا خلاف في أن الأولى العفو والاحتمال بل كل ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ويتصور تمهيد عذر فيه قريب أو بعيد فهو واجب بحق الأخوة فقد قيل ينبغي أن تستنبط لزلة أخيك سبعين عذرا فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك فتقول لقلبك ما أقساك يعتذر إليك أخوك سبعين عذرا فلا تقبله فأنت المعيب لا أخوك وقال الأحنف حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثا ظلم
____________________
(1/210)
الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة ومهما اعتذر إليك أخوك كاذبا كان أو صادقا فاقبل عذره فالمؤمن إن غضب فهو سريع الرضاء وينبغي أن لا يبالغ في البغضة عند الوقيعة قال تعالى { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } وقال عمر رضي الله عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وهو أن تحب تلف صاحبك الحق السادس الدعاء للأخ
فتدعو له في حياته ومماته بكل ما يحبه لنفسه ولأهله وكل متعلق به كما تدعو لنفسك وفي الحديث إذا دعا الرجل لأخيه في ظهر الغيب قال الملك ولك مثل ذلك وفي حديث آخر دعوة الرجل لأخيه في ظهر الغيب لا ترد وكان أبو الدرداء يقول إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم وكان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول وأين مثل الأخ الصالح أهلك يقتسمون ميراثك ويتنعمون بما خلفت وهو منفرد بحزنك مهتم بما قدمت وما صرت إليه يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى وعن بعض السلف الدعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء الحق السابع الوفاء والإخلاص
ومعنى الوفاء الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه فإن الحب إنما يراد للآخرة فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي وروي أنه صلى الله عليه وسلم أكرم عجوزا دخلت عليه فقيل له في ذلك فقال إنها كانت
____________________
(1/211)
تأتينا أيام خديجة وإن كرم العهد من الدين فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر لدلالته على قوة الشفقة والحب ومن ثمرات المودة في الله أن لا تكون مع حسد في دين ودنيا وكيف يحسده وكل ما هو لأخيه فإليه ترجع فائدته وبه وصف الله تعالى المحبين في الله تعالى فقال { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم } ووجود الحاجة هو الحسد
ومن الوفاء أن لا يتغير حاله في التواصل مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه والترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم قال الشاعر
( إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ** من كان يألفهم بالمنزل الخشن )
واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء له المخالفة والنصح لله
ومن آثار الصدق والإخلاص وتمام الوفاء أن تكون شديد الجزع من المفارقة نفور الطبع عن أسبابها كما قيل
( وجدت مصيبات الزمان جميعها ** سوى فرقة الأحباب هينة الخطب )
وأنشد ابن عيينة هذا البيت وقال لقد عهدت أقواما فارقتهم منذ ثلاثين سنة ما يخيل إلي أن حسرتهم ذهبت من قلبي
ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه
____________________
(1/212)
ومن الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه قال الشافعي رحمه الله إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك الحق الثامن التخفيف وترك التكلف والتكليف
وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه بل يروح سره من مهماته وحاجاته ويرفهه على أن يحمله شيئا من أعبائه فلا يكلفه القيام بحقوقه بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى استعانة به على دينه واستئناسا بلقائه وتقربا إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه وتحمل مؤنته قال بعضهم من اقتضى من إخوانه ما لا يقتضونه منه فقد ظلمهم ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتعبهم ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم وتمام التخفيف بطي بساط التكليف حتى لا يستحي منه فيما لا يستحي من نفسه وقال علي رضي الله عنه شر الأصدقاء من تكلف لك ومن أحوجك إلى مداراة وألجأك إلى اعتذار وقال الفضل إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه وكان جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما يقول أثقل إخواني علي من يتكلف لي وأتحفظ منه وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي
ومن التخفيف وترك التكلف أن لا يعترض في نوافل العبادات كان طائفة من الصوفية يصطحبون على أن أحدهم إن أكل النهار كله لم يقل له صاحبه صم وإن صام الدهر كله لم يقل له أفطر وإن نام الليل كله لم يقل له قم وإن صلى الليل كله لم يقل له نم وتستوي حالاته عنده بلا مزيد ولا نقصان وقد قيل من
____________________
(1/213)
سقطت كلفته دامت ألفته ومن خفت مؤنته دامت مودته وقال بعضهم إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به إذا أكل عنده ودخل الخلاء وصلى ونام فذكر ذلك لبعض المشايخ فقال بقيت خامسة وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه لأن البيت يتخذ للاستخفاء في هذه الأمور الخمس وإلا فالمساجد أروح لصلاة المتعبدين فإذا فعل هذه الخمس فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك إذ يقول أحدهم لصاحبه مرحبا وأهلا وسهلا أي لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة لك منا ولك عندنا سهولة في ذلك كله أي لا يشتد علينا شيء مما تريد
ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظن بهم ويسيء الظن بنفسه ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه وهذا في عموم المسلمين مذموم قال صلى الله عليه وسلم بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم
ومن تتمة الانبساط وترك التكلف أن يشاور إخوانه في كل ما يقصده ويقبل إشارتهم فقد قال تعالى { وشاورهم في الأمر } فهذا جامع حقوق الصحبة ولا يتم ذلك إلا بأن تنزل نفسك منزلة الخادم لهم فتقيد بحقوقهم جميع جوارحك
أما البصر فبأن تنظر إليهم نظر مودة يعرفونها منك وتنظر إلى محاسنهم وتتعامى عن عيوبهم ولا تصرف بصرك عنهم في وقت إقبالهم عليك وكلامهم معك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل من جلس إليه نصيبا من وجهه لا يظن جليسه إلا أنه أكرم الناس عليه وكان عليه السلام أكثر الناس تبسما وضحكا في وجوه أصحابه وتعجبا مما يحدثونه
وأما السمع فبأن تسمع كلامهم متلذذا بسماعه ومصدقا به ومظهرا للاستبشار به ولا تقطع حديثهم عليهم بمرادة ولا منازعة ومداخلة واعتراض فإن أرهقك عارض اعتذرت إليهم
____________________
(1/214)
وأما اللسان فقد ذكرنا حقوقه ومن ذلك أن لا يرفع صوته عليهم ولا يخاطبهم إلا بما يفقهون
وأما اليدان فأن لا يقبضهما عن معاونتهم في كل ما يتعاطى باليد
وأما الرجلان فبأن لا يتقدمهم إلا بقدر ما يقدمونه ولا يقرب منهم إلا بقدر ما يقربونه ويقوم لهم إذا أقبلوا ولا يقعد إلا بقعودهم ويقعد متواضعا حيث يقعد خاتمة في جملة من آداب المعيشة والمجالسة مع أصناف الخلق
قال بعض الحكماء إن أردت حسن المعيشة فالق صديقك وعدوك بوجه الرضا وتوقر من غير كبر وتواضع في غير مذلة وكن في جميع أمورك في أوسطها فكلا طرفي قصد الأمور ذميم ولا تنظر في عطفيك ولا تكثر الالتفات ولا تقف على الجماعات وإذا جلست فلا تستوفز وتحفظ من تشبيك أصابعك والعبث بلحيتك وخاتمك وتخليل أسنانك وإدخال أصبعك في أنفك وكثرة بصاقك وتنخمك وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وغيرها وليكن مجلسك هادئا وحديثك منظوما مرتبا وأصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط ولا تسأله إعادته واسكت عن المضاحك ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا شعرك ولا تصنيفك وسائر ما يخصك ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين ولا تتبذل تبذل العبد ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحدا على الظلم ولا تعلم أهلك وولدك فضلا عن غيرهم مقدار مالك فإنهم إن رأوه قليلا هنت عندهم وإن كان كثيرا لم تبلغ قط رضاهم وخوفهم من غير عنف ولن لهم من غير ضعف وإذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجتك ولا تكثر الإشارة بيدك ولا تكثر الالتفات إلى من وراءك وإذا هدأ غيظك فتكلم ولا تجعل مالك أكرم من عرضك وإذا دخلت مجلسا فالأدب فيه البداية بالتسليم وترك التخطي لمن سبق والجلوس حيث اتسع وحيث يكون أقرب إلى التواضع وأن تحيي بالسلام من قرب منك عند الجلوس ولا تجلس على الطريق فإن جلست فأدبه غض البصر ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وعون الضعيف وإرشاد
____________________
(1/215)
الضال ورد السلام وإعطاء السائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والارتياد لموضع البصاق ولا تبصق في جهة القبلة وإياك أن تمازح لبيبا أو غير لبيب فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يجترئ عليك ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط فليذكر الله عند قيامه قال النبي صلى الله عليه وسلم من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك بيان حق المسلم والرحم والجوار
اعلم أن الإنسان لحاجته لمخالطة من هو من جنسه لم يكن له بد من تعلم آداب المخالطة وكل مخالط ففي مخالطته أدب والأدب على قدر حقه وحقه على قدر رابطته إما القرابة وهي أخصها أو أخوة الإسلام وهي أعمها وينطوي في معنى الأخوة الصداقة والصحبة وإما الجوار وإما صحبة السفر والمكتب والدرس والصداقة أو الأخوة ولكل واحد من هذه الروابط درجات فالقرابة لها حق ولكن حق الرحم المحرم آكد وللمحرم حق ولكن حق الوالدين آكد وكذلك حق الجار ولكن يختلف بحسب قربه من الدار وبعده ويظهر التفاوت عند النسبة حتى إن البلدي في بلاد الغربة يجري مجرى القريب في الوطن لاختصاصه بحق الجوار في البلد وكذلك حق المسلم يتأكد بتأكد المعرفة والاختلاط حقوق المسلم
هي أن تسلم عليه إذا لقيته وتجيبه إذا دعاك وتشمته إذا عطس وتعوده إذا مرض وتشهد جنازته إذا مات وتبر قسمه إذا أقسم عليك وتنصح له إذا استنصحك وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك ومنها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك قال صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر
____________________
(1/216)
وعنه صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا
ومنها أن لا يؤذي أحدا من المسلمين بفعل ولا قول قال صلى الله عليه وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم والمهاجر من هجر السوء واجتنبه وعنه صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يروع مسلما
ومنها أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه قال صلى الله عليه وسلم إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد
ومنها أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض ففي الحديث لا يدخل الجنة قتات
ومنها أن لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام مهما غضب عليه قال صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام وقالت عائشة رضي الله عنها ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله وفي الحديث ما زاد الله رجلا بعفو إلا عزا
____________________
(1/217)
ومنها أن يحسن إلى كل من قدر عليه منهم ما استطاع لا يميز بين الأهل وغير الأهل وفي أثر اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت من أهله وفي آخر رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع المعروف إلى كل بر وفاجر ولم يكن أحد يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أقبل عليه بوجهه ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه
ومنها أن لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه بأن يستأذن ثلاثا فإن لم يؤذن له انصرف
ومنها أن يخالق الجميع بخلق حسن ويعامله بحسب طريقته
ومنها أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان وفي الحديث ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا والتلطف بالصبيان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا قدم من سفره تلقي بالصبيان ثم يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة وليسميه فيأخذه فيضعه في حجره فربما بال الصبي ثم يغسل ثوبه صلى الله عليه وسلم بعد
ومنها أن يكون مع كافة الخلق مستبشرا طلق الوجه رقيقا قال صلى الله عليه وسلم أتدرون على من حرمت النار قالوا الله ورسوله أعلم قال على اللين الهين السهل القريب وقال صلى الله عليه وسلم اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة
ومنها أن لا يعد مسلما بوعد إلا ويفي به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة عطية
____________________
(1/218)
وقال العدة دين وقال ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان
ومنها أن ينصف الناس من نفسه ولا يأتي إليهم إلا بما يحب أن يؤتى إليه قال صلى الله عليه وسلم يا أبا الدرداء أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما
ومنها أن يزيد في توقير من تدل هيئته وثيابه على علو منزلته فينزل الناس منازلهم
ومنها أن يصلح ذات البين بين المسلمين مهما وجد إليه سبيلا قال صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة إصلاح ذات البين وفي الحديث ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا وهذا يدل على وجوب الإصلاح بين الناس لأن ترك الكذب واجب ولا يسقط الواجب إلا بواجب آكد منه وقال صلى الله عليه وسلم كل الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإن الحرب خدعة أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما أو يكذب لامرأته ليرضيها
ومنها أن يستر عورات المسلمين كلهم قال صلى الله عليه وسلم من ستر على مسلم ستره
____________________
(1/219)
الله تعالى في الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم لا يرى المؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا دخل الجنة وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا الناس ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته وروي عن بعض الخلفاء أنه كان يعس من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته فقال وأنت أيها الأمير لا تعجل فإن كنت عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاثا قال الله تعالى { ولا تجسسوا } وقد تجسست وقال الله تعالى { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وقد تسورت علي وقد قال الله تعالى { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } الآية وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام فقال الأمير هل عندك من خير إن عفوت عنك قال نعم والله لئن عفوت عني لا أعود إلى مثلها أبدا فعفا عنه وخرج وتركه وقد قال صلى الله عليه وسلم كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل السوء سرا ثم يخبر به وقال صلى الله عليه وسلم من أسمع خبر قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم
____________________
(1/220)
القيامة
ومنها أن يتقي مواضع التهم صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا عصوا الله بذكره وكان هو السبب فيه كان شريكا قال الله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } وقال صلى الله عليه وسلم كيف ترون من سب أبويه فقالوا وهل من أحد يسب أبويه فقال نعم يسب أبوي غيره فيسبون أبويه وقال عمر رضي الله عنه من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من أساء به الظن
ومنها أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة ويسعى في قضاء حاجته بما يقدر قال صلى الله عليه وسلم اشفعوا تؤجروا
ومنها أن يبدأ من يلقى بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام قال الله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وقال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم قالوا بلى يا رسول الله قال أفشوا السلام بينكم وعنه صلى الله عليه وسلم يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم عن القوم واحد أجزأ عنهم وكان
____________________
(1/221)
أنس رضي الله عنه يمر على الصبيان فيسلم عليهم ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما وعصبة من الناس قعود فأومأ بيده بالسلام وقال صلى الله عليه وسلم إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بداله أن يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الأخيرة وروي أن من تمام التحية المصافحة وقال الحسن المصافحة تزيد في الود ولا بأس بقبلة يد المعظم في الدين تبركا به وتوقيرا له وروي أنه صلى الله عليه وسلم أذن في تقبيل يده ورأسه والانحناء عند السلام منهي عنه والالتزام والتقبيل قد ورد عند القدوم من السفر والأخذ بالركاب في توقير العلماء ورد به الأثر فعل ذلك ابن عباس بركاب زيد ابن ثابت وقال صلى الله عليه وسلم لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا ويستحب للداخل إذا سلم ولم يجد مجلسا أن لا ينصرف بل يقعد وراء الصف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد إذ إقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فوجد فرجة فجلس فيها وأما الثاني فجلس خلفهم وأما الآخر فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه وسلمت أم هانئ على النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/222)
فقال من هذه فقيل له أم هانئ فقال عليه السلام مرحبا يا أم هانئ
ومنها أن يصون عرض أخيه ونفسه وماله عن ظلم غيره مهما قدر ويرد عنه ويناضل دونه وينصره فإن ذلك يجب عليه بمقتضى أخوة الإسلام وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من امرئ مسلم ينصر مسلما في موضع ينتهك فيه عرضه وتستحل حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصره وما من امرئ خذل مسلما في موطن تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته
ومنها تشميت العاطس قال عليه السلام في العاطس يقول الحمد لله على كل حال ويقول الذي يشمته يرحمكم الله ويرد عليه العاطس فيقول يهديكم الله ويصلح بالكم ويستحب إذا عطس أن يغض صوته ويخمر وجهه وإذا تثاءب أن يضع يده على فيه
ومنها أنه إذا بلي بذي شر فينبغي أن يجامله ويتقيه قال بعضهم خالص المؤمن مخالصة وخالق الفاجر مخالقة فإن الفاجر يرضى بالخلق الحسن في الظاهر وقال أبو الدرداء إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وهذا معنى المداراة وهو مع من يخاف شره قال الله تعالى { ادفع بالتي هي أحسن } قال ابن عباس في معنى قوله تعالى { ويدرؤون بالحسنة السيئة } أي الفحش والأذى
____________________
(1/223)
بالسلام والمداراة وقال في قوله تعالى { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } قال بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة وقالت عائشة رضي الله عنها استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو فلما دخل آلان له القول حتى ظننت أن له عنده منزلة فلما خرج قلت له لما دخل قلت الذي قلت ثم ألنت له القول فقال يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس إتقاء فحشه وفي الخبر ما وقى الرجل به عرضه فهو له صدقة وقال محمد بن الحنفية ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله له فرجا
ومنها أن يختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين وقد روي أن سليمان عليه السلام في ملكه كان إذا دخل المسجد فرأى مسكينا جلس إليه وقال مسكين جالس مسكينا وفي الخبر لا تغبطن فاجرا بنعمة فإنك لا تدري إلام يصير بعد الموت فإن من ورائه طالبا حثيثا
____________________
(1/224)
وأما اليتيم فقال صلى الله عليه وسلم من ضم يتيما حتى يستغني فقد وجبت له الجنة وقال صلى الله عليه وسلم أنا وكافل اليتيم كهاتين وهو يشير بأصبعيه وقال صلى الله عليه وسلم من وضع يده على رأس يتيم ترحما كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة وقال صلى الله عليه وسلم خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه
ومنها النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور على قلبه قال صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وعنه من أقر عين مؤمن أقر الله عينه يوم القيامة وعنه من فرج عن مؤمن مغموم أو أعان مظلوما غفر له وعنه إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن وأن يفرج عنه غما أو يقضي عنه دينا أو يطعمه من جوع
ومنها أن يعود مرضاهم وأدب العائد خفة الجلسة وقلة السؤال وإظهار الرقة والدعاء بالعافية وغض البصر عن عورات الموضع وعند الاستئذان لا يقابل الباب ويدق برفق ولا يقول أنا إذا قيل له من وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم إذا عاد
____________________
(1/225)
المسلم أخاه أو زاره قال الله تعالى طبت وطاب ممشاك وتبوأت منزلا في الجنة وعن عثمان رضي الله عنه قال مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من شر ما تجد قاله مرارا ويستحب للعليل أيضا أن يقول أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وقال طاووس أفضل العبادة أخفها وجملة أدب المريض حسن الصبر وقلة الشكوى والضجر والفزع إلى الدعاء والتوكل بعد الدواء على خالق الدواء
ومنها أن يشيع جنائزهم قال صلى الله عليه وسلم من شيع جنازة فله قيراط من الأجر فإن وقف حتى دفن فله قيراطان والقيراط مثل أحد جبل عظيم في المدينة المنورة والقصد من التشييع قضاء حق المسلمين والاعتبار
ومنها أن يزور قبورهم والمقصود من ذلك الدعاء والاعتبار وترقيق القلب قال صلى الله عليه وسلم ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه وعن حاتم الأصم من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم وقال ميمون بن مهران خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى
____________________
(1/226)
وقال يا ميمون هذه قبور آبائي كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلاث وأصاب الهوام من أبدانهم ثم بكى وقال والله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله
وآداب المعزي خفض الجناح وإظهار الحزن وقلة الحديث وترك التبسم
وآداب تشييع الجنازة لزوم الخشوع وترك الحديث وملاحظة الميت والتفكر في الموت والاستعداد له والإسراع بالجنازة سنة
فهذه جمل آداب تنبه على آداب المعاشرة مع عموم الخلق والجملة الجامعة فيه أن لا تستصغر منهم أحدا حيا كان أو ميتا فتهلك لأنك لا تدري لعله خير منك فإنه وإن كان فاسقا فلعله يختم لك بمثل حاله ويختم له بالصلاح ولا تنظر إليهم في حال دنياهم بعين التعظيم فإن الدنيا صغيرة عند الله صغير ما فيها ولا تبذل لهم دينك لتنال من دنياهم فتصغر في أعينهم ثم تحرم دنياهم ولا تعادهم بحيث تظهر العداوة إلا إذا رأيت منكرا في الدين فتعادي أفعالهم القبيحة ولا تسكن إليهم في ثنائهم عليك في وجهك وحسن بشرهم لك فقد لا يكون لذلك حقيقة باطنا ولا تشك إليهم أحوالك فيكلك الله إليهم ولا تطمع أن يكونوا لك في الغيب والسر كما في العلانية فذلك طمع كاذب ولا تطمع فيما في أيديهم فتستعجل الذل وإذا سألت أخا منهم حاجة فقضاها فهو أخ مستفاد وإن لم يقض فلا تعاتبه فيصير عدوا تطول عليك مقاساته ولا تشتغل بوعظ من لا ترى فيه مخايل القبول فلا يسمع منك ويعاديك وليكن وعظه عرضا واسترسالا من غير تنصيص على الشخص وإذا بلغك منهم غيبة أو رأيت منهم شرا فكل أمرهم إلى الله واستعذ بالله من شرهم ولا تشغل نفسك بالمكافأة فيزيد الضرر وكن فيهم سميعا لحقهم أصم عن باطلهم نطوقا بحقهم واحذر صحبة أكثر الناس فإنهم لا يقيلون عثرة ولا يغفرون زلة ولا يسترون عورة ويحاسبون على النقير والقطمير ويحسدون على القليل والكثير ولا تعول على مودة من لم تخبره حق الخبرة بأن تصحبه مدة فتجربه في أحواله أو تعامله بالدينار والدرهم أو تقع في شدة فتحتاج إليه أو تسافر معه فإن رضيته في هذه
____________________
(1/227)
الأحوال فاتخذه أبا لك إن كان كبيرا وابنا لك إن كان صغيرا أو أخا إن كان مثلا لك فهذه جملة آداب المعاشرة مع أصناف الخلق حقوق الجوار
اعلم أن الجوار يقتضي حقا وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام فيستحق الجار المسلم ما يستحق كل مسلم وزيادة إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم الجيران ثلاثة جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك فانظر كيف اثبت للمشرك حقا بمجرد الجوار وقال صلى الله عليه وسلم أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما وقال صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره وقال صلى الله عليه وسلم لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه وقال صلى الله عليه وسلم لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول ما لي
____________________
(1/228)
أراكم عنها معرضين والله لأرمينها بين أكتافكم وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب ذلك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها فقال صلى الله عليه وسلم هي في النار وعن النبي صلى الله عليه وسلم أربعون دارا جار قال الزهري يعني أربعين عن يمينه ويساره وخلفه وبين يديه واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط بل احتمال الأذى بل لا بد فوقه من الرفق وإسداء الخير والمعروف وحكي أن ابن المقفع بلغه أن جارا له يبيع داره في دين ركبه وكان يجلس في ظل داره فقال ما قمت إذا بحرمة ظل داره إن باعها معدما فدفع إليه ثمن الدار وقال لا تبعها وجملة حق الجار أن يبدأ بالسلام ولا يكثر عن حاله السؤال ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة ويقوم معه في العزاء ويهنئه في الفرح ويظهر الشركة في السرور معه ويصفح عن زلاته ولا يطلع من السطح إلى عوراته ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره ولا يضيق طريقه إلى الدار ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره ويستر ما ينكشف له من عوراته وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته ولا يسمع عليه كلاما ويغض بصره عن حرمته ولا يديم النظر إلى خادمته ويتلطف لولده في كلمته ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه هذا إلى جملة الحقوق التي ذكرناها لعامة المسلمين
____________________
(1/229)
حقوق الأقارب والرحم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أنا الرحمن وهذه الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل قال أتقاهم لله وأوصلهم لرحمه وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وقال صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط كان له يعجبه عملا بقوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال يا رسول الله هي في سبيل الله وللفقراء والمساكين فقال عليه السلام وجب أجرك واقسمه في أقاربك حقوق الوالدين والولد
لا يخفى أنه إذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام وأمسها الولادة فيتضاعف تأكد الحق فيها قال صلى الله عليه وسلم بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك وقال رجل يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما قال نعم
____________________
(1/230)
الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وقال صلى الله عليه وسلم إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى الأب وعنه صلى الله عليه وسلم رحم الله والدا أعان ولده على بره أي لم يحمله على العقوق بسوء عمله وعنه صلى الله عليه وسلم ساووا بين أولادكم في العطية وعنه أيضا من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه ويستحب الرفق بالولد رأى الأقرع بن حابس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسن فقال إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فقال عليه السلام إن من لا يرحم لا يرحم وقال معاوية للأحنف بن قيس ما تقول في الولد قال يا أمير المؤمنين ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة
____________________
(1/231)
وبهم نصول على كل جليلة فإن طلبوا فأعطهم وإن غضبوا فأرضهم يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم ولا تكن عليهم قفلا ثقيلا فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك فقال معاوية لله أنت يا أحنف لقد أرضيتني عمن سخطت عليه من ولدي ووصله بعطية عظمى
واعلم أن أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات وإن لم تجب في الحرام المحض وليس للولد أن يسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما وقال صلى الله عليه وسلم حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده
____________________
(1/232)
كتاب العزلة والمخالطة
اعلم أن من السلف من آثر العزلة لفوائدها كالمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم والتخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء إلى غير ذلك وأما أكثر السلف فذهبوا إلى استحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان والتآلف والتحبب إلى المؤمنين والإستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى وإن فوائد العزلة المتقدمة يمكن نيلها من المخالطة بالمجاهدة ومغالبة النفس وبالجملة فللمخالطة فوائد عظيمة تفوت بالعزلة
فإن قلت ما هي فوائد المخالطة والدواعي إليها فاعلم أنها هي التعليم والتعلم والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب والاستئناس والإيناس ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق أو اعتياد التواضع أو استفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها
فأما العلم والتعليم فهما أعظم العبادات في الدنيا ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة والمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة ومن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران ولهذا قال النخعي وغيره تفقه ثم اعتزل ومن اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس وغايته أن يستغرق في الأوقات بأوراد يستوعبها ولا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور ويكون في أكثر أحواله
____________________
(1/233)
ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد فالعلم هو أصل الدين ولا خير في عزلة العوام والجهال
وأما التعليم ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم والمتعلم
وأما الانتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة إذ لا يتأتى إلا بالمخالطة ومن اكتسب من وجهه وتصدق منه كان أفضل من المعتزل المشتغل بالنافلة
وأما النفع فهو أن ينفع الناس إما بماله أو ببدنه فيقوم بحاجاتهم على سبيل الحسبة ففي النهوض بقضاء حوائج المسلمين ثواب وذلك لا ينال إلا بالمخالطة ومن قدر عليه مع القيام بحدود الشرع فهو أفضل له من العزلة
وأما التأديب بنصح الغير والتأدب ونعني به الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات فهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة
وأما الاستئناس والإيناس فهو مستحب لأمر الدين وذلك فيمن يستأنس بمشاهدة أحواله وأقواله في الدين وقد يتعلق بحظ النفس ويستحب إذا كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج دواعي النشاط في العبادة فإن القلوب إذا كربت عميت والنفس لا تألف الحق على الدوام ما لم تروح وفي تكليفها الملازمة داعية للفترة وقد قال ابن عباس لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس فلا يستغني المعتزل إذن عن رفيق يستأنس بمشاهدته ومحادثته في اليوم والليلة ساعة فليجتهد في طلب من لا يفسد عليه في ساعته تلك سائر ساعاته فقد قال صلى الله عليه وسلم المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين والقصور عن الثبات على الحق ففي ذلك متروح للنفس وفيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه
وأما نيل الثواب فبحضور الجنائز وعيادة المرضى وحضور الجماعة في سائر الصلوات أيضا لا رخصة في تركه إلا لخوف ضرر ظاهر يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة ويزيد عليه وذلك لا يتفق إلا نادرا وكذلك في حضور الإملاكات والدعوات ثواب من حيث إنه إدخال سرور على قلب مسلم
وأما إنالة الثواب فهو أن يأذن بعيادته وتعزيته في المصائب وتهنئته على النعم
____________________
(1/234)
فإنهم ينالون بذلك ثوابا فينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها التي ذكرناها وعند ذلك قد ترجح العزلة وقد ترجح المخالطة
وأما التواضع فإنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة وقد يكون الكبر سببا في اختيار العزلة أو مخافة أن لا يوقر في المحافل أو لا يقدم أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأبقى على اعتقاد الناس في تعبده وزهده وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يحبون أن يزوروا ويفرحون بتقرب العوام والأمراء إليهم ولو كان الاشتغال بنفسه هو الذي يبغض إليه المخالطة وزيارة الناس لبغض إليه زياراتهم له ولكن اعتزاله سببه شدة اشتغاله بالناس لأن قلبة متجرد للالتفات إلى نظرهم إليه بعين الوقار والاحترام والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه
أحدهما أن التواضع والمخالطة لا تنقص عن منصب من هو متكبر بعلمه أو دينه
الثاني أن الذي شغل نفسه بطلب رضاء الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه مغرور لأنه لو عرف الله حق المعرفة علم أن الخلق لا يغنون عنه من الله شيئا وأن ضرره ونفعه بيد الله بل رضاء الناس غاية لا تنال فرضاء الله أولى بالطلب ولذلك قال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى والله ما أقول لك إلا نصحا إنه ليس إلى السلامة من الناس من سبيل فانظر ماذا يصلحك فافعله فإذن من حبس نفسه في البيت لتحسن اعتقادات الناس فيه فهو في عناء حاضر في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون وبالجملة فلا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات في علم بحيث لو خالطه الناس لضاعت أوقاته أو كثرت آفاته
وأما التجارب فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجاري أحوالهم والعقل الغريزي ليس كافيا في تفهم مصالح الدين والدنيا وإنما تفيدها التجربة والممارسة ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب فالصبي إذا اعتزل بقي غمرا جاهلا بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال وبالجهل يحبط العمل الكثير وبالعلم يزكو
____________________
(1/235)
العمل القليل ولولا ذلك ما فضل العلم على العمل وقد قضى الشرع بتفضيل العالم على العابد حتى قال صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي إذا عرفت ما تقدم من الفوائد والآفات يتبين لك الأفضل من المخالطة والعزلة وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال
____________________
(1/236)
كتاب آداب السفر
اعلم أن كل من سافر وكان مطلبه العلم والدين أو الكفاية للاستعانة على الدين كان من سالكي سبيل الآخرة وكان له في سفره شروط وآداب إن أهملها كان من عمال الدنيا وأتباع الشيطان وإن واظب عليها لم يخل سفره عن فوائد تلحقه بأعمال الآخرة وإليك جملة من أقسام الأسفار
القسم الأول السفر في طلب العلم وهو إما واجب وإما نفل وذلك بحسب كون العلم واجبا أو نفلا وذلك العلم إما علم بأمور دينية أو بأخلاقه في نفسه أو بآيات الله في أرضه وقد قال عليه السلام من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ورحل جابر بن عبد الله من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبد الله بن أنيس حتى سمعه عنه وقال الشعبي لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك مهم فإن من لا يطلع على خبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها والنفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات فإذا امتحنت بمشاق الغربة وقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعيوبها وأما آيات الله في أرضه ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر ففيها قطع متجاورات وفيها الجبال
____________________
(1/237)
والبراري والبحار وأنواع الحيوان والنبات وما من شيء منها إلا وهو شاهد لله بالوحدانية
القسم الثاني أن يسافر لأجل العبادة من حج أو جهاد وفي الحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى
القسم الثالث أن يكون السفر للهرب من سبب مشوش للدين وذلك أيضا حسن فالفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء والمرسلين وقد كان من عادة السلف رضي الله عنهم مفارقة الوطن خيفة من الفتن وروي أن بعضهم قيل له إلى أين قال بلغني عن قرية فيها رخص أريد أن أقيم بها فقيل له وتفعل هذا قال نعم إذا بلغك أن قرية فيها رخص فأقم بها فانه أسلم لدينك وأقل لهمك وهذا هرب من غلاء السعر
القسم الرابع السفر هربا مما يقدح في البدن كالطاعون أو في المال كغلاء السعر أو ما يجري مجراه ولا حرج في ذلك بل ربما يجب الفرار في بعض المواضع وربما يستحب في بعض بحسب وجوب ما يترتب عليه من الفوائد أو استحبابه ولكن يستثنى الطاعون منه فلا ينبغي أن يفر منه لورود النهي فيه وبالجملة فالسفر ينقسم إلى مذموم ومحمود ومباح والمذموم منه حرام كالسفر للعاق لوالديه ومنه مكروه كالخروج من بلد الطاعون والمحمود منه واجب كالحج وطلب العلم الذي هو فريضة على كل مسلم ومنه مندوب كزيارة العلماء للتخلق بأخلاقهم وآدابهم وتحريك الرغبة للاقتداء بهم واقتباس الفوائد العلمية من أنفاسهم وأما المباح فمرجعه إلى النية فمهما كان قصده بطلب المال مثلا التعفف عن السؤال ورعاية ستر المروءة على الأهل والعيال والتصدق بما يفضل عن مبلغ الحاجة صار هذا المباح بهذه النية من أعمال الآخرة ولو خرج إلى الحج وباعثه الرياء والسمعة لخرج عن كونه من أعمال الآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات
____________________
(1/238)
آداب المسافر من أول نهوضه إلى آخر رجوعه
الأدب الأول أن يبدأ برد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لمن تلزمه نفقته وبرد الودائع إن كانت عنده ولا يأخذ لزاده إلا الحلال الطيب وليأخذ قدرا يوسع به على رفقائه ولا بد في السفر من طيب الكلام وإطعام الطعام ومن إظهار مكارم الأخلاق والسفر من أسباب الضجر ومن أحسن خلقه في الضجر فهو الحسن الخلق وتمام حسن خلق المسافر بالإحسان إلى المكاري ومعاونة الرفقة بكل ممكن وإعانة المنقطع بمركوب أو زاد وتمام ذلك مع الرفقاء بمزاح ومطايبة في بعض الأوقات من غير فحش ومعصية ليكون ذلك شفاء لضجر السفر ومشاقه
الثاني أن يختار رفيقا فلا يخرج وحده فالرفيق ثم الطريق وليكن رفيقه ممن يعينه على الدين فيذكره إذا نسي ويعينه ويساعده إذا ذكر فإن المرء على دين خليله ولا يعرف الرجل إلا برفيقه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده وقال إذا كنتم ثلاثة في السفر فأمروا أحدكم وليؤمروا أحسنهم أخلاقا وأرفقهم بالأصحاب وأسرعهم إلى الإيثار وطلب الموافقة وإنما يحتاج إلى الأمير لأن الآراء تختلف في مصالح السفر ولا نظام إلا في الوحدة ولا فساد إلا من الكثرة وإنما انتظم أمر العالم لأن مدبر الكل واحد و { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }
الثالث أن يودع رفقاء الحضر والأهل والأصدقاء وليدع عند الوداع بقوله لمودعه استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وليدع المقيم له بقوله زودك الله التقوى وغفر ذنبك ووجهك للخير حيث توجهت وليصل المسافر قبل سفره ركعتين صلاة الاستخارة وإذا حصل على باب الدار فليقل بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله رب أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي فإذا ركب فليقل { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون }
____________________
(1/239)
الرابع أن يرفق بالدابة إن كان راكبا فلا يحملها ما لا تطيق ولا يضربها في وجهها فإنه منهي عنه ويستحب أن ينزل عن الدابة أحيانا يروحها بذلك ويدخل السرور على المكاري ويروض بدنه حذرا من خدر الأعضاء بطول الركوب وليحذر أن يحمل فوق المشروط شيئا وإن خف فإن القليل يجر إلى الكثير قال رجل لابن المبارك وهو على دابة احمل لي هذه الرقعة إلى فلان فقال حتى استأذن المكاري فإني لم أشارطه على هذه الرقعة فانظر كيف لم يلتفت إلى قول الفقهاء إن هذا مما يتسامح فيه ولكن سلك طريق الورع
الخامس أن يحتاط إن كان في قافلة فلا يمشي منفردا لأنه ربما يغتال أو ينقطع ويكون بالليل متحفظا عند النوم وينبغي أن يتناوب الرفقاء في الحراسة بالليل وأن يستصحب مرآة ومقراضا ومسواكا ومشطا وليحذر التنطع في الطهارة فقد كان الأولون يكتفون بالتيمم ويغنون أنفسهم عن نقل الماء ولا يبالون بالوضوء من الغدران ومن المياه كلها ما لم يتيقنوا نجاستها حتى توضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جرة نصرانية
السادس في آداب الرجوع من السفر كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم يرسل إلى المدينة من يبشر بقدومه وكان صلى الله عليه وسلم ينهى أن يطرق المرء أهله ليلا فيقدم عليهم بغتة فيرى ما يكرهه وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم دخل المسجد أولا وصلى ركعتين ثم دخل البيت وينبغي أن يحمل لأهل بيته وأقاربه تحفة من مطعوم أو غيره على قدر إمكانه فإن الأعين تمتد إلى القادم من السفر والقلوب تفرح به فيتأكد الاستحباب في تأكيد فرحهم وإظهار التفات القلب في السفر إلى ذكرهم بما يستصحب في الطريق لهم
هذه جملة من الآداب الظاهرة وأما الآداب الباطنة ففي الفصل الأول بيان
____________________
(1/240)
جملة منها وجملته أن لا يسافر إلا إذا كان زيادة في علمه في السفر وينوي في دخول كل بلدة أن يرى شيوخها الحكماء ويجتهد أن يستفيد من كل واحد أدبا أو كلمة لينتفع بها وينفع بها وإذا قصد زيارة أخ له فلا يقم عنده أكثر من ثلاثة أيام فذلك حد الضيافة إلا إذا شق على أخيه مفارقته ولا يشغل نفسه بما لا فائدة فيه فإن ذلك يقطع بركة سفره ما لا بد للمسافر من تعلمه من رخص السفر
اعلم أن المسافر يحتاج في أول سفره إلى أن يتزود لدنياه وآخرته أما زاد الدنيا فالطعام والشراب وما يحتاج إليه من نفقة فإن خرج من غير زاد فلا بأس به إذا كان سفره في قافلة أو بين قرى متصلة وإن ركب البادية وحده أو مع قوم لا طعام معهم ولا شراب فإن كان ممن يصبر على الجوع أسبوعا أو عشرا مثلا أو يكتفي بالحشيش فله ذلك وإن لم يكن له قوة الصبر على الجوع ولا الاجتزاء بالحشيش فخروجه من غير زاد معصية فإنه ألقى نفسه بيده إلى التهلكة وليس معنى التوكل التباعد عن الأسباب بالكلية وإلا لوجب أن يصبر حتى يسخر الله له ملكا أو شخصا آخر حتى يصب الماء في فيه
وأما زاد الآخرة فهو العلم الذي يحتاج إليه في طهارته وصومه وصلاته وعباداته وذلك أن السفر يفيد في الطهارة رخصتين مسح الخفين والتيمم وفي صلاة الفرض رخصتين القصر والجمع وفي النفل رخصتين أداءه على الراحلة وأداءه ماشيا وفي الصوم رخصة واحدة وهي الفطر
فأما المسح على الخفين فقال صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن فكل من لبس الخف على طهارة مبيحة للصلاة ثم أحدث فله أن يمسح على خفه من وقت حدثه ثلاثة أيام ولياليهن إن كان مسافرا أو يوما وليلة إن كان مقيما
وأما التيمم فالتراب بدل عن الماء عند العذر كبعده عن منزله بحيث لو مشى إليه لم يلحقه غوث القافلة إن صاح أو استغاث أو نزل على الماء عدو أو سبع أو
____________________
(1/241)
احتاج إليه لعطشه أو عطش أحد رفقائه فيتيمم في هذه الصور وإن بيع الماء بثمن المثل لزمه الشراء أو بعبن لم يلزمه
وأما القصر فله أن يقتصر في كل واحدة من الظهر والعصر والعشاء على ركعتين ولا يصير مسافرا إلا بمفارقة عمران البلد
وأما الجمع بين الظهر والعصر في وقتيهما وبين المغرب والعشاء في وقتيهما فذلك أيضا في كل سفر طويل مباح وفي جوازه في السفر القصير قول ثم إن قدم العصر إلى الظهر فلينو الجمع بين الظهر والعصر في وقتيهما قبل الفراغ من الظهر وليؤذن للظهر وليقم وعند الفراغ يقيم للعصر وإن أخر الظهر إلى العصر فيجري على هذا الترتيب
وأما النافلة فقد جوز أداؤها على الراحلة كي لا يتعوق عن الرفقة بسببها وكان صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته أينما توجهت به دابته وأوتر عليه السلام على الراحلة وليس على المتنفل الراكب في الركوع والسجود إلا الإيماء ويجعل سجوده أخفض من ركوعه
وأما استقبال القبلة فلا يجب لا في ابتداء الصلاة ولا في دوامها ولكن صوب الطريق بدل عن القبلة فليكن في جميع صلاته إما مستقبلا للقبلة أو متوجها في صوب الطريق لتكون له جهة يثبت فيها وجوز للمسافر أيضا التنفل له ماشيا فيومئ بالركوع والسجود ولا يقعد للتشهد وحكمه حكم الراكب لكن ينبغي أن يتحرم بالصلاة مستقبلا للقبلة وكل هارب من عدو أو سيل أو سبع فله أن يصلي الفريضة راكبا أو ماشيا كما ذكرناه في التنفل
وأما الفطر في رمضان للمسافر فهو مرخص له والصوم أفضل له إلا أن كان يضره فالإفطار له أفضل
____________________
(1/242)
كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين والمهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين لو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة وشاعت الجهالة وخربت البلاد وهلك العباد فنعوذ بالله أن يندرس من هذا القطب عمله وعلمه وأن ينمحي بالكلية حقيقته ورسمه وأن تستولي على القلوب مداهنة الخلق وتنمحي عنها مراقبة الخالق وأن يسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات إسترسال البهائم وأن يعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فلا معاذ إلا به ولا ملجأ إلا إليه
ينحصر هذا الكتاب في مقاصد
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته والمذمة في إهماله
دل على ذلك من الآيات قوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ففي الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى { ولتكن } أمر وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر بقوله { وأولئك هم المفلحون } وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين وقال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة } فقد
____________________
(1/243)
نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف فالذي هجر الأمر بالمعروف خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية وقال تعالى { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } وهذا غاية التشديد إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر وقال عز وجل { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بين أنهم كانوا خير أمة وقال تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون } فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء وقال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه وتسهيل طرق الخير وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان وقال تعالى { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } فبين أنهم أثموا بترك النهي وقال تعالى { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } الآية فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين وقال تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما }
ومن الأخبار ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا
____________________
(1/244)
يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده وقد روي في ذلك من الأحاديث ما لا يحصى وبهذه الأدلة يظهر كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به الشروط التي بها يتحقق التصدي للإنكار
الأول كونه منكرا وهو ما كان محذور الوقوع في الشرع ولفظ المنكر أعم من لفظ المعصية فإن من رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يريق الخمر وكذا أن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه وليس ذلك معصية في حق المجنون ولا يختص المنكر بالكبائر بل كشف العورة في الحمام والخلوة بالأجنبية وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنها
الثاني أن يكون المنكر ظاهرا بغير تجسس فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية ولا أن يتجسس عليه وقد نهى الله تعالى عنه في قوله { ولا تجسسوا } وكذا لو رئي فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه
الثالث أن يكون كونه منكرا معلوما بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا نكران فيه فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي ما هو من مجاري الاجتهاد يعني المسائل المختلف فيها بين الأئمة إذ لا يعلم خطأ المخالف قطعا بل ظنا فلا بد أن يكون المنكر متفقا عليه وكذا إنما ينكر على الفرق المبتدعة في خطئهم المعلوم على القطع بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد درجات القيام بالإنكار
الأولى التعريف أي تعريف المزجور أن ما يفعله منكر فإنه قد يقدم عليه بجهله فلعله إذا عرف أنه منكر تركه فيجب تعريفه باللطف من غير عنف فإن في
____________________
(1/245)
التعريف كشفا للعورة وإيذاء للقلب فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق فتقول له إن الإنسان لا يولد عالما ولقد كنا جاهلين فعلمنا العلماء فالصواب هو كذا وكذا فيتلطف به هكذا ليصل التعريف من غير إيذاء فإن إيذاء المسلم حرام محذور كما أن تقريره على المنكر محظور وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول ومن آذى بالإنكار فهذا مثاله
الدرجة الثانية النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى وذلك فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكرا كالذي يواظب على الشرب أو على الظلم أو على اغتياب المسلمين أو ما يجري مجراه فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك وتحكى له سيرة السلف وعبادة المتقين وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب بل ينظر إليه نظر المترحم عليه
الدرجة الثالثة التعنيف بالقول الغليظ وذلك عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام { أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } ولا يفحش في سبه ولهذه الرتبة أدبان
أحدهما أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف
والثاني أن لا ينطق إلا بالصدق ولا يسترسل فيه فيطيل لسانه بما لا يحتاج إليه بل يقتصر على قدر الحاجة
الدرجة الرابعة التغيير باليد وذلك كإراقة الخمر وإتلاف المنكر المتمول أو دفعه عن محرم وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وأما الإراقة والإتلاف فإلى الولاة ومأذونيهم كالضرب والحبس آداب القائم بالأمر والنهي
جملتها ثلاث صفات العلم والورع وحسن الخلق
أما العلم فليعلم مواقع الأمر والنهي ليقتصر على حد الشرع فيه
وأما الورع فليردعه عن مخالفة معلومة ولا يحمله على مجاوزة الحد المأذون شرعا غرض من الأغراض وليكون كلامه مقبولا فإن الفاسق يهزأ به إذا أمر أو نهى ويورث ذلك جراءة عليه
____________________
(1/246)
وأما حسن الخلق فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأساسه والعلم والورع لا يكفيان فيه فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعة ما لم يكن في الطبع قبول له بحسن الخلق وبوجود هذه الصفات الثلاث يصير الإرشاد من القربات وبه تندفع المنكرات وإن فقدت لم يندفع المنكر وقد حكي أن المأمون وعظه واعظ وعنف له في القول فقال يا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } فليكن اقتداء المرشد في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم & المنكرات المألوفة في العادات & منكرات المساجد
اعلم أن المنكرات تنقسم إلى مكروهة ومحظورة فإذا قلنا هذا منكر مكروه فاعلم أن المنع منه مستحب والسكوت عليه مكروه وليس بحرام وإذا قلنا منكر محظور أو قلنا منكر مطلقا فنريد به المحظور ويكون السكوت عليه مع القدرة محظورا فمما يشاهد كثيرا في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهي عنه ومن رأى مسيئا في صلاته فسكت عليه فهو شريكه ومنها قراءة القرآن ملحونة فيجب النهي عن ذلك وتلقين الصحيح والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادرا على التعلم فليمنع عن القراءة قبل التعلم فانه عاص به ومنها تراسل المؤذنين في الأذان وتطويلهم بمد كلماته فذلك منكر مكروه ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم الكذب والأضاليل والخرافات فيجب الإنكار عليهم ومنها التحلق يوم الجمعة لبيع الأدويه والأطعمة والتعويذات وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشادهم الأشعار وما يجري مجراه فكل ذلك منكر يمنعون منه ومنها بيع الأطعمة والأدوية والكتب وكذا الخياطة فيطلب المنع منه لأن المساجد لم تبن لهذا ومنها دخول المجانين المعروفين الآن بالمجاذيب والصبيان والسكارى فإنهم يجنبون المساجد وقد أوسعنا الكلام
____________________
(1/247)
على منكرات المساجد وبدعها وعوائدها في كتاب أفردناه لذلك فليرجع إليه من أراده منكرات الأسواق
من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب فمن قال اشتريت هذه السلعة مثلا بعشرة وأربح فيها كذا وكان كاذبا فهو فاسق وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكا له في الخيانة وعصى بسكوته وكذا إذا علم به عيبا فيلزمه أن ينبه المشتري عليه وإلا كان راضيا بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل من عرفه تغييره بنفسه أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره ومنها بيع الملاهي وتلبيس انخراق الثياب بالرفو وكل ما يؤدي إلى التلبيسات وذلك يطول إحصاؤه فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره منكرات الشوارع
من المنكرات المعتادة فيها وضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطرق وإخراج الأجنحة فكل ذلك منكر إن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة وإن لم يؤد إلى ضرر أصلا لسعة الطريق فلا يمنع منه نعم يجوز وضع الحطب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة والمرعي هو الحاجة التي تراد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع وإلا فلا منع إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر بحيث منع الملاك منه وكذلك طرح القمامة على جوانب الطرق وتبديد قشور البطيخ أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذلك إرسال الماء من الميازيب المتخرجة
____________________
(1/248)
من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب أو يضيق الطريق وكذلك الثلج الذي يطرحه شخص في الطريق والماء الذي يجتمع فيه من ميزاب معين فعلى الأول والثاني كسح الطريق منهما وأما مياه المطر فتلك على محتسبي البلدة كسحها من الطريق وكذلك إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس فيجب منعه منه منكرات الحمامات
منها كشف العورات والنظر إليها ومن جملتها كشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ بل من جملتها إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها ومنها الانبطاح على الوجه بين يدي الدلاك لتغميز الأفخاذ والأعجاز فهذا مكروه إن كان مع حائل ولا يحرم إلا إذا خشي حركة الشهوة ومنها أن يكون في مداخل بيوت الحمام ومجاري مياهها حجارة ملساء مزلقة يزلق عليها الغافلون فهذا منكر ويجب قلعه وإزالته وينكر على الحمامي إهماله فإنه يفضي إلى السقطة وقد تؤدي السقطة إلى انكسار عضو أو انخلاعه وكذلك ترك الصابون على أرض الحمام منكر وفي الحمام أمور أخر مكروهة تقدمت في كتاب الطهارة منكرات الضيافة
منها فرش الحرير للرجال وتبخير البخور في مجمرة ذهب أو فضة والشرب في أواني الفضة ومنها سماع القينات أي النساء المغنيات ومنها أن يكون الطعام حراما أو الموضع مغصوبا ومنها أن يكون فيها من يتعاطى شرب الخمر فلا يجوز الحضور وإن كان فيها مضحك بالحكايات وأنواع النوادر فإن كان يضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور وعند الحضور يجب الإنكار عليه وإن كان ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح أعني ما يقل منه فأما إتخاذه صنعة وعادة فليس بمباح ومنها الإسراف في الطعام والبناء فهو منكر بل في المال منكران أحدهما الإضاعة والآخر الإسراف فالإضاعة تفويت مال بلا فائدة يعتد بها كإحراق الثوب وتمزيقه وفي معناه صرف المال إلى النائحة والمنكرات وقد يطلق على الصرف إلى المباحات في جنسها ولكن مع المبالغة والمبالغة تختلف بالإضافة إلى الأحوال قال تعالى { ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } وقال تعالى { ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا }
____________________
(1/249)
وقال تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } فمن لم يملك إلا مائة دينار مثلا ومعه عياله وأولاده ولا معيشة لهم سواه فأنفق الجميع في وليمة فهو مسرف يجب منعه منه وكذا لو صرف جميع ماله إلى نقوش حيطانه وتزيين بنيانه فهو أيضا إسراف محرم وأما فعل ذلك ممن له مال كثير فليس بحرام لأن التزيين من الأغراض الصحيحة وكذلك القول في التجمل بالثياب والأطعمة فذلك مباح في جنسه ويصير إسرافا باعتبار حال الرجل وثروته المنكرات العامة
اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف فأكثر الناس جاهلون بالشرع في البلاد فكيف في القرى والبوادي فواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد والعرب ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الباقين وبالجملة فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات ثم يعلم ذلك أهل بيته ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه ثم إلى أهل محلته ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السواد المكتنف ببلده ثم إلى أهل البوادي وهكذا إلى أقصى العالم فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به كل قادر عليه قريبا كان أو بعيدا
____________________
(1/250)
كتاب الآداب النبوية والأخلاق المحمدية بيان تأديب الله تعالى صفية محمدا صلوات الله عليه بالقرآن
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق فكان يقول في دعائه اللهم حسن خلقي وخلقي ويقول اللهم جنبني منكرات الأخلاق فاستجاب الله تعالى دعاءه وفاء بقوله عز وجل { ادعوني أستجب لكم } فأنزل عليه القرآن وأدبه فكان خلقه القرآن وإنما أدبه القرآن بمثل قوله تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقوله { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } وقوله { واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } وقوله { فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين } وقوله { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
____________________
(1/251)
وقوله { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } وقوله { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا } وأمثال هذه التأديبات في القرآن لا تحصر وهو عليه الصلاة والسلام المقصود الأول بالتأديب والتهذيب ثم منه يشرق النور على كافة الخلق فإنه أدب بالقرآن وأدب الخلق به ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق ثم لما أكمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } ثم بين صلوات الله عليه للخلق أن الله يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها قال علي رضي الله عنه يا عجبا لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاة وفي الحديث إن الله حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومن ذلك حسن المعاشرة وكرم الصنيعة ولين الجانب وبذل المعروف وإطعام الطعام وإفشاء السلام وعيادة المريض المسلم وتشييع الجنازة وحسن الجوار لمن جاورت مسلما كان أو كافرا وتوقير ذي الشيبة المسلم وإجابة الطعام والدعاء عليه والعفو والإصلاح بين الناس والجود والكرم والسماحة وكظم الغيظ واجتناب المحارم والغيبة والكذب والبخل والشح والجفاء والمكر والخديعة والنميمة وسوء ذات البين وقطيعة الأرحام وسوء الخلق والتكبر والفخر والاختيال والاستطالة والبذخ والفحش والتفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان والظلم قال أنس رضي الله عنه فلم يدع نصيحة جميلة إلا وقد دعانا إليها وأمرنا بها ولم يدع غشا أو عيبا إلا حذرناه ونهانا عنه ويكفي من ذلك كله هذه الآية { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن }
____________________
(1/252)
الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) وقال معاذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح وأنهاك أن تسب حكيما أو تكذب صادقا أو تطيع آثما أو تعصي إماما عادلا أو تفسد أرضا وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية فهكذا أدب عباد الله ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب بيان جمل من محاسن أخلاقه صلوات الله عليه
كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعف الناس لم تمس يده قط يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط ويضع سائر ذلك في سبيل الله لا يسأل شيئا إلا أعطاه ثم يعود على قوت عامه فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام فاستقرض وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويخدم في مهنة أهله وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد ويجيب دعوة الحر والعبد ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويكافئ عليها ويأكلها ولا يأكل الصدقة ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين يغضب لربه ولا يغضب لنفسه وقد وجد من أصحابه قتيلا بين اليهود فلم يجف عليهم ولا زاد على مر الحق بل وداه بمائة ناقة وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقوون به وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد إن وجد تمرا
____________________
(1/253)
دون خبز أكله وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز بر أو شعير أكله وإن وجد حلواء أو عسلا أكله وإن وجد لبنا دون خبز اكتفى به وإن وجد بطيخا أو رطبا أكله لا يأكل متكئا ولا على خوان لم يشبع من خبز بر ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى إيثارا على نفسه لا فقرا ولا بخلا وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا وأسكتهم في غير كبر وأبلغهم في غير تطويل وأحسنهم بشرا لا يهوله شيء من أمور الدنيا خاتمه من فضة يلبسه في خنصره الأيمن والأيسر يركب الحمار ويردف خلفه عبده أو غيره يعود المرضى في أقصى المدينة يحب الطيب ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل ويتألف أهل الشرف بالبر لهم يصل رحمه ولا يجفو على أحد يقبل معذرة المعتذر إليه يمزح ولا يقول إلا حقا ضحكه التبسم من غير قهقهة يرى اللعب المباح فلا ينكره يسابق أهله وترفع الأصوات عليه من الجفاة فيصبر لم يرتفع على عبيده في مأكل ولا ملبس لا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد له منه من صلاح نفسه يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكينا لفقره ولا يهاب ملكا لملكه يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستويا قد جمع الله تعالى له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل والصحاري في فقر وفي رعاية الغنم يتيما لا أب له ولا أم فعلمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة وأخبار الأولين والآخرين وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا وفقنا الله لطاعته في أمره والتأسي به في فعله آمين يا رب العالمين بيان جملة أخرى من آدابه وأخلاقه
مما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما ضرب بيده أحدا قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك وما كان يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته وقال أنس رضي الله عنه والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه لم فعلته ولا لامني نساؤه إلا قال
____________________
(1/254)
دعوه إنما كان هذا بكتاب وقدر وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف وكان إذا لقي أحدا من أصحابه بدأه بالمصافحة وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال ألك حاجة ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه لأنه كان حيث انتهى به المجلس جلس وكان يكرم من دخل عليه حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه وكان يوثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته وكان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه حتى كأن مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف مجلسه وتوجهه للجالس إليه ومجلسه مع ذلك حياء وتواضع وأمانة قال تعالى { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم واستمالة لقلوبهم ويكني من لم تكن له كنية فكان يدعى بما كناه بها ويكني أيضا النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن ويكني أيضا الصبيان فيستلين به قلوبهم وكان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضاء وكان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس وأنفع الناس للناس ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات وكان إذا قام من مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك بيان كلامه وضحكه صلوات الله عليه
كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس منطقا وأحلاهم كلاما ويقول أنا أفصح العرب وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير يحفظه سامعه ويعيه وكان جهير الصوت أحسن الناس نغمة لا يتكلم في غير حاجة ولا يقول في الرضاء والغضب إلا الحق ويعرض عمن تكلم بغير جميل ويكني عما اضطره الكلام إليه مما يكره وكان إذا سكت تكلم جلساؤه ولا يتنازع عنده في الحديث ويعظ بالجد والنصيحة وكان أكثر الناس تبسما وصحكا في وجوه أصحابه وتعجبا مما تحدثوا به
____________________
(1/255)
وخلطا لنفسه بهم ولربما ضحك حتى تبدو نواجذه وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء به وتوقيرا له وكان إذا نزل به الأمر فوض الأمر إلى الله وتبرأ من الحول والقوة واستنزل الهدى فيقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم أخلاقه صلوات الله عليه في الطعام والشراب
كان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد وإذا وضعت المائدة قال بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة تصل بها نعمة الجنة وكان لا يأكل الحار ويقول إن الله لم يطعمنا نارا فابردوه وكان يأكل مما يليه ويأكل خبز الشعير والقثاء بالرطب وكان أكثر طعامه الماء والتمر وأحب الطعام إليه اللحم وكان يأكل الثريد باللحم ويحب القرع وكان يحب من الشاة الذراع والكتف ولا يحب منها الكليتين ولا الذكر والأنثيين ولا المثانة والغدد والحياء ويكره ذلك وكان لا يأكل الثوم ولا البصل وما ذم طعاما قط إن أعجبه أكله وإن كرهه تركه وكان يعاف الضب والطحال ولا يحرمهما وكان إذا فرغ قال الحمد لله اللهم لك الحمد أطعمت فأشبعت وسقيت فأرويت لك الحمد غير مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه وكان إذا أكل اللحم
____________________
(1/256)
غسل يديه غسلا جيدا وكان يشرب في ثلاث دفعات ويمص الماء مصا ولا يعبه عبا ولا يتنفس في الإناء بل ينحرف عنه وكان ربما قام في بيته فأخذ ما يأكل بنفسه أو يشرب أخلاقه صلوات الله عليه في اللباس
كان صلى الله عليه وسلم يلبس من الثياب ما وجد وأكثر لباسه البياض وكانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين وكان قميصه مشدود الأزرار وربما حل الأزرار وكان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة وكان ربما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره فأم به الناس وكان له كساء أسود يلبسه ثم وهبه وكان يتختم وربما خرج وفي خاتمة خيط مربوط يتذكر به الشيء وكان يختم به على الكتب وكان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمامة وربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلي إليها وكان إذا لبس ثوبا لبسه من قبل ميامنه ويقول الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس وإذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره وكان إذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا ثم يقول ما من مسلم يكسو مسلما لله إلا كان في ضمان الله وحرزه حيا وميتا وكان له فراش من أدم حشوه ليف وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقتين تحته وكان من خلقه تسمية دوابه وسلاحه ومتاعه عفوه صلى الله عليه وسلم مع القدرة
كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة فقد كان في حرب فرأى رجل من المشركين في المسلمين غرة فجاء حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال من يمنعك مني فقال الله قال فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله السيف وقال من يمنعك مني فقال كن خير آخذ قال قل أشهد أن لا إله إلا
____________________
(1/257)
الله وأني رسول الله فقال لا غير أني لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله فجاء أصحابه فقال جئتكم من عند خير الناس وكم استؤذن صلى الله عليه وسلم في قتل من أساء إليه وقيل دعنا يا رسول الله نضرب عنقه وهو يأبى وينهي ثم يقبل معذرة المعتذر إليه وربما قال رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر وكان صلى الله عليه وسلم يقول لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر إغضاؤه صلوات الله عليه عما كان يكرهه
كان صلى الله عليه وسلم رقيق البشرة لطيف الظاهر والباطن يعرف في وجهه غضبه ورضاه وكان لا يشافه أحدا بما يكرهه بال أعرابي في المسجد بحضرته فهم به الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه البول ثم قال له إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا سخاؤه وجوده صلوات الله عليه
كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئا وكان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال كان أجود الناس كفا وأوسع الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله وما سئل عن شيء قط إلا أعطاه وإن رجلا أتاه فسأله فأعطاه غنما سدت ما
____________________
(1/258)
بين جبلين فرجع إلى قومه وقال أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة وما سئل شيئا قط فقال لا وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير ثم مال إليها فقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منها وجاءه رجل فسأله فقال ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال عمر يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال الرجل
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف السرور في وجهه ولما قفل من حنين جاءت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا شجاعته صلى الله عليه وسلم
كان صلوات الله عليه أكرم الناس وأشجعهم قال علي رضي الله عنه لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا وقال أيضا كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولما غشيه المشركون نزل عن بغلته فجعل يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فما رئي يومئذ أحد أشد منه
____________________
(1/259)
تواضعه صلوات الله عليه
كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا في علو منصبه وكان يركب الحمار موكفا عليه قطيفة وكان مع ذلك يستردف وكان يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك ويخصف النعل ويرقع الثوب وكان يصنع في بيته مع أهله في حاجتهم وكان أصحابه لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وكان يجلس بين أصحابه مختلطا بهم كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل عنه وكان إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم رفقا بهم وتواضعا لهم وكانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحيانا ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ويضحكون فيتبسم هو إذا ضحكوا ولا يزجرهم إلا عن حرام خلقته الكريمة صلوات الله عليه
وكان صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير وكان أزهر اللون ولم يكن بالآدم ولا الشديد البياض وكان شعره ليس بالسبط ولا الجعد وشعر رأسه يضرب إلى شحمة أذنيه لم يبلغ شيبه عشرين شعرة بيضاء في رأسه ولا في لحيته وكان واسع الجبهة أزج الحاجبين سابغهما أهدب الأشفار مفلج الأسنان كث اللحية وكان يعفي لحيته ويأخذ من شاربه وكان عظيم المنكبين بين كتفيه خاتم النبوة وكان يمشي الهوينا كأنما يتقلع من صخر شذرة من معجزاته صلوات الله عليه
اعلم أن من شاهد أحواله صلى الله عليه وسلم وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته مع ما يروى من عجائب أجوبته في مضايق
____________________
(1/260)
الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذي يعجز العقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك استمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن ذلك كله لا يتصور لمفتر ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتى إن العربي القح كان يراه فيقول والله ما هذا وجه كذاب فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده وإنما أوردنا بعض أخلاقه لتعرف محاسن الأخلاق وليتنبه لصدقه صلى الله عليه وسلم وعلو منصبه ومكانته العظيمة عند الله إذ آتاه الله جميع ذلك وهو أمي لم يمارس العلم ولم يطالع الكتب ولم يسافر قط في طلب علم بل نشأ بين أظهر الجهال من الأعراب يتيما ضعيفا مستضغفا فمن أين حصل له محاسن الأخلاق والآداب ومعرفة مصالح الفقه مثلا دون غيره من العلوم فضلا عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه وغير ذلك من خواص النبوة لولا صريح الوحي ومن أين لقوة البشر الاستقلال بذلك فلو لم يكن له إلا هذه الأمور الظاهرة لكفى وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما لا يستريب فيه محصل فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار من غير تطويل فنقول استفاض أنه صلى الله عليه وسلم أطعم النفر الكثير من الطعام القليل في منزل جابر ومنزل أبي طلحة ويوم الخندق ومرة أطعم أكثر من ثمانين رجلا من أقراص شعير حملها أنس في يده فأكلوا كلهم حتى شبعوا من ذلك وفضل لهم ونبع الماء من بين أصابعه صلوات الله عليه فشرب أهل العسكر كلهم وهم عطاش وتوضؤوا من قدح صغير ضاق عن أن يبسط عليه السلام يده فيه وأراق وضوءه في عين تبوك ولا ماء فيها ومرة أخرى في بئر الحديبية فجاشتا بالماء فشرب من عين تبوك أهل الجيش وهم ألوف حتى رووا وشرب من بئر الحديبية ألف وخمسمائة ولم يكن فيها قبل ذلك ماء ورمى صلوات الله عليه جيش العدو بقبضة من تراب فعميت عيونهم ونزل بذلك القرآن في قوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وحن الجزع الذي كان يخطب عليه إليه لما عمل له المنبر حتى سمع منه جميع أصحابه مثل صوت الإبل فضمه إليه فسكن ودعا اليهود إلى تمني الموت وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه فحيل بينهم وبين تمنيه كما أخبر وأخبر عليه السلام بالغيوب فأنذر عثمان بأن بلوى تصيبه بعدها الجنة وبأن
____________________
(1/261)
عمارا تقتله الفئة الباغية وأن الحسن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين وأخبر عليه السلام عن رجل قاتل في سبيل الله أنه من أهل النار فظهر ذلك بأن ذلك الرجل قتل نفسه وهذه كلها أشياء إلهية لا تعرف البتة بشيء من وجوه تقدمت المعرفة بها لا بنجوم ولا بكشف ولا بخط ولا بزجر لكن بإعلام الله تعالى له ووحيه إليه واتبعه سراقة بن مالك فساخت قدما فرسه في الأرض حتى استغاثه فدعا له فانطلق الفرس وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سوار كسرى فكان كذلك وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء اليمن وأخبر بمن قتله وأخبر عليه السلام أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي فخدشه يوم أحد خدشا لطيفا فكانت منيته فيه وأطعم عليه الصلاة والسلام السم فمات الذي أكله معه وعاش هو صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنين وكلمه الذراع المسموم وأخبر عليه السلام بمصارع صناديد قريش ووقفهم على مصارعهم رجلا رجلا فلم يتعد واحد منهم ذلك الموضع وأنذر عليه السلام بأن طوائف من أمته يغزون في البحر فكان كذلك وزويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها وأخبر بأن ملك أمته سيبلغ ما زوي له منها فكان كذلك فقد بلغ ملكهم من أول المشرق من بلاد الترك إلى آخر
____________________
(1/262)
المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر وأخبر فاطمة ابنته رضي الله عنها بأنها أول أهله لحوقا به فكان كذلك وأخبر نساءه أطولهن يدا أسرعهن لحوقا به فكانت زينب أطولهن يدا بالصدقة وأولهن لحوقا به رضي الله عنها ومسح ضرع شاة لا لبن لها فدرت وكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود رضي الله عنه وفعل ذلك مرة أخرى في خيمة أم معبد الخزاعية وندرت عين بعض أصحابه فردها عليه السلام بيده فكانت أصح عينيه وأحسنهما وتفل في عين علي رضي الله عنه وهو أرمد يوم خيبر فصح من وقته وبعثه بالراية إلى غير ذلك من آياته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم ومن يستريب في انخراق العادة على يده ويزعم أن آحاد هذه الوقائع لم ينقل تواترا بل المتواتر هو القرآن فقط كمن يستريب في شجاعة علي رضي الله عنه وسخاوة حاتم الطائي ومعلوم أن آحاد وقائعهم غير متواترة ولكن مجموع الوقائع يورث علما ضروريا ثم لا يتمارى في تواتر القرآن وهو المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق وليس لنبي معجزة باقية سواه صلى الله عليه وسلم إذ تحدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغاء الخلق وفصحاء العرب وجزيرة العرب حينئذ مملوءة بآلاف منهم والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم وكان ينادي بين أظهرهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله إن شكوا فيه وقال لهم { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل }
____________________
(1/263)
هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) قال ذلك تعجيزا لهم فعجزوا عن ذلك حتى عرضوا أنفسهم للقتل ونساءهم وذراريهم للسبي وما استطاعوا أن يعارضوا ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه ثم انتشر ذلك بعده في أقطار العالم شرقا وغربا قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر إلى زماننا هذا فلم يقدر أحد على معارضته فأعظم بغباوة من ينظر في أحواله ثم في أقواله ثم في أفعاله ثم في أخلاقه ثم في معجزاته ثم في استمرار شرعه إلى الآن ثم في انتشاره في أقطار العالم ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبعد عصره مع ضعفه ويتمه ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه فما أعظم توفيق من آمن به وصدقه واتبعه في كل ورد وصدر فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للاقتداء به في الأخلاق والأفعال والأحوال والأقوال بمنه وسعة جوده آمين
____________________
(1/264)
2 كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب
الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره وزين صورة الإنسان بحسن تقويمه وتقديره وفوض تحسين الأخلاق إلى اجتهاد العبد وتشميره واستحثه على تهذيبها بتخويفه وتحذيره وسهل على خواص عباده تهذيب الأخلاق بتوفيقه وتيسيره والصلاة والسلام على محمد عبد الله ونبيه وبشيره ونذيره الذي كان تلوح أنوار النبوة من بين أساريره ويستنشق حقيقة الحق من مخايله وتباشيره وعلى آله وأصحابه الذين حسموا مادة الباطل فلم يتدنسوا بقليله ولا بكثيره
أما بعد فالخلق الحسن صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية فالعناية بضبط قوانين العلاج
____________________
(1/265)
لأمراض القلوب في مرضها وفوت حياة باقية أولى وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة عللها وأسبابها ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى { قد أفلح من زكاها } وإهمالها هو المراد بقوله { وقد خاب من دساها } ونحن نشير في هذا الكتاب إلى جمل من أمراض القلوب وكيفية القول في معالجتها بعونه تعالى بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق
قال الله تعالى لنبيه مثنيا عليه ومظهرا نعمته لديه { وإنك لعلى خلق عظيم } وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن وقال صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وعنه صلى الله عليه وسلم الدين حسن الخلق وهو أن لا تغضب وقيل يا رسول الله ما الشؤم قال سوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وقيل له يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة
____________________
(1/266)
الخلق تؤذي جيرانها بلسانها قال لا خير فيها هي من أهل النار وقال صلى الله عليه وسلم إن الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بهما وقيل يا رسول الله أي المؤمنين أفضلهم إيمانا قال أحسنهم خلقا وقال صلى الله عليه وسلم إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق وقال صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا حسب كحسن الخلق وعن الحسن من ساء خلقه عذب نفسه وقال وهب مثل السيئ الخلق كمثل الفخارة المكسورة لا ترقع ولا تعاد طينا وقال الفضيل لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب من أن يصحبني عابد سيئ الخلق ما قاله السلف في حسن الخلق وشرح ماهيته
اعلم أنه روي عنهم في ذلك ما هو كالثمرة والغاية من ذلك ما قاله الحسن رحمه الله حسن الخلق بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى وقال الواسطي هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى وقال
____________________
(1/267)
أيضا هو إرضاء الخلق في السراء والضراء وقيل غير ذلك مما هو من ثمرات حسن الخلق وأما حقيقة الخلق فهي هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة خلقا حسنا وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا وإنما قلنا إنها هيئة راسخة لأن من يصدر عنه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم وأمهات الأخلاق وأصولها أربعة الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ونعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأحوال الاختيارية ونعني بالعدل حالة للنفس وقوة بها يسوس الغضب والشهوة ويحملها على مقتضى الحكمة ويضبطها في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها ونعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هي قوة اليقين وهي ثمرة العقل ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال { أشداء على الكفار رحماء بينهم } إشارة إلى أن للشدة موضعا وللرحمة موضعا فليس الكمال في الشدة بكل حال ولا في الرحمة بكل حال
____________________
(1/268)
بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة
اعلم أن بعض من غلبت عليه البطالة استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها فإن الطباع لا تتغير فنقول لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول الموجودات منقسمة
إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله كالسماء والكواكب بل أعضاء البدن داخلا وخارجا وسائر أجزاء الحيوانات وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله
وإلى ما وجد وجودا ناقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه وشرطه قد يرتبط باختيار العبد فإن النواة ليست بتفاح ولا نخل إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها ولا تصير تفاحا أصلا ولا بالتربية فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلا ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى نعم الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول وليس المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل ولو انقطع الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على
____________________
(1/269)
إمساك المال وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعا وبالجملة أن يكون في نفسه قويا ومع قوته منقادا للعقل ولذلك قال الله تعالى { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وصفهم بالشدة وإنما تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل الجهاد وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك إذ قال صلى الله عليه وسلم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ولكن لا يقول إلا حقا فكان عليه الصلاة والسلام لا يخرجه غضبه عن الحق وقال تعالى { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ممكن وهو المراد بتغيير الخلق فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها عن الانبساط إلى الفواحش وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال فدل أن ذلك ممكن والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها والذي يدل على أن المطلوب هو الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعا وهو وسط بين طرفي التبذير والتقتير وقد أثنى الله تعالى عليه فقال { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } وقال تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والجمود قال الله تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وقال في الغضب { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقال صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوساطها
____________________
(1/270)
بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة
قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضا وهذا الاعتدال يحصل على وجهين
أحدهما بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفي سلطان الشهوة والغضب بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع
والوجه الثاني اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفا مجاهدا نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعا له وتيسير عليه فيصير به جوادا وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقا له وطبعا فيتيسر عليه وجميع الأخلاق المحمودة شرعا تحصل بهذا الطريق وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذا فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال دون الذي يبذله عن كراهة والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة وما لم تترك جميع الأفعال السيئة وما لم يواظب عليها مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها ويكره الأفعال القبيحة ويتألم بها كما قال صلى الله عليه وسلم وجعلت قرة عيني في الصلاة ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ولا ينال كمال السعادة به ولذلك قال الله تعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } ثم لا يكفي في نيل السعادة الموعودة على حسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر ولا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين ومصير العبادات لذيذة فإن
____________________
(1/271)
العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك فإنا نرى المقامر المفلس قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بيته وتركه مفلسا ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائما على رجليه وهو لا يحس بألمهما لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحلقها في جو السماء فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف وإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فإنه مقتضى طبع القلب فإنه أمر رباني وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه وإنما غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب وهما سببان لحياتها فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معينا له على حب الله تعالى وعلى دينه فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض فإذن قد عرفت بهذا قطعا أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء فتصير طبعا وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح أعني النفس والبدن فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب والأمر فيه دور
وإذا تحققت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير إخوان الصلاح إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعا واعتيادا وتعلما فهو غاية الفضيلة ومن كان رذلا بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل وبين الرتبتين من اختلفت فيه هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صفته وحالته { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
____________________
(1/272)
{ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق
قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالا فنقول مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال فكذلك كل مولود يولد معتدلا صحيح الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم وكما أن البدن إن كان صحيحا فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة وإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد القوة إليها واكتساب زيادة صفائها وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها وكما أن العلة الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة وبالعكس فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها فيعالج مرض الجهل بالتعلم ومرض البخل بالتسخي ومرض الكبر بالتواضع ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفا وكما أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله تعالى مرض
____________________
(1/273)
يدوم بعد الموت أبد الآباد وبالجملة فالطريق الكلي في معالجة القلوب هو سلوك مسلك المضادة لكل ما تهواه النفس وتميل إليه وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } والأصل المهم في المجاهدة الوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختبارا فينبغي أن يصبر ويستمر فإنه إن عود نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت عافانا الله تعالى من فسادها بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه
اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق
الطريق الأول أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويتبع إشارته في مجاهدته وهذا شأن التلميذ مع أستاذه فيعرفه أستاذه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه
الطريق الثاني أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا يلاحظ أحواله وأفعاله فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه ينبهه عليه فهكذا كان يفعل الأكابر من أئمة الدين كان عمر رضي الله عنه يقول رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي وكان يسأل حذيفة ويقول له أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه فكل من كان أوفر عقلا وأعلى منصبا كان أقل إعجابا وأعظم اتهاما لنفسه وفرحا بتنبيه غيره على عيوبه وقد آل الأمر في أمثالنا إلى
____________________
(1/274)
أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا ويكاد هذا أن يكون مفصحا عن ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربا لتقلدنا منه منة وفرحنا به واشتغلنا بإزالة العقرب وقتلها وإنما نكايتها على البدن ولا يدوم ألمها يوما فما دونه ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبد الآباد ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له وأنت أيضا تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب وأصل كل ذلك ضعف الإيمان فنسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنه وفضله
الطريق الثالث أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساويا ولعل انتفاع الانسان بعدو مشاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم
الطريق الرابع أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموما فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتصف به غيره فلا ينفك هو عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه فليتفقد نفسه ويطهرها عن كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديبا فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب وهذا كله من حيل من فقد شيخا مربيا ناصحا في الدين وإلا فمن وجده فقد وجد الطبيب فليلازمه فإنه يخلصه من مرضه بيان تمييز علامات حسن الخلق
اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه قد هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق فإن حسن الخلق هو الإيمان وسوء الخلق هو النفاق وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في
____________________
(1/275)
كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق قال الله تعالى { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } وقال عز وجل { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } وقال عز وجل { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } وقال تعالى { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } إلى آخر السورة فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقال عليه السلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وقال صلى الله عليه وسلم من كان
____________________
(1/276)
يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا وقال لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه وقال عليه السلام لا يحل لمسلم أن يروع مسلما وقال صلى الله عليه وسلم إنما يتجالس المتجالسان بأمانه الله عز وجل فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه
وأولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفا فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابي فجذبه جذبا شديدا وكان عليه برد غليظ الحاشية قال أنس رضي الله عنه حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه فقال يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه قال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
حكي أن الأحنف بن قيس قيل له ممن تعلمت الحلم فقال من قيس بن عاصم قيل له وما بلغ من حلمه قال بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات
____________________
(1/277)
فدهشت الجارية فقال لها لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى
وروي أن عليا كرم الله وجهه دعا غلاما فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه فقام إليه فرآه مضطجعا فقال أما تسمع يا غلام قال بلى قال فما حملك على ترك إجابتي قال أمنت عقوبتك فتكاسلت فقال امض فأنت حر لوجه الله تعالى
وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله يا مرائي فقال يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة
فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة فاعتدلت أخلاقها ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى وهو منتهى حسن الخلق فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه فيظن بها حسن الخلق بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق فإنها درجه رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول نشوئهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم
اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه وقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن
____________________
(1/278)
الأخلاق ويحفظه من قرناء السوء ولا يعوده التنعم ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال ومهما رأى فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته وأول ذلك ظهور أوائل الحياء فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه وهذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه وأن يقول عليه بسم الله عند أخذه وأن يأكل مما يليه وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره وأن لا يحدق في النظر إليه ولا إلى من يأكل وأن لا يسرع في الأكل وأن يجيد المضغ وأن لا يوالي بين اللقم ولا يلطخ يده ولا ثوبه وأن يعود الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتما وأن يقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم وبأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بالطعام الخشن أي طعام كان وأن يحبب إليه من الثياب ما ليس بملون وحرير ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه ويكرر ذلك عليه ومهما رأى على صبي ثوبا من الحرير أو ملونا فينبغي أن يستنكره ويذمه وأن يحفظ عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة وعن مخالطة كل من يسمعه ما يرغبه فيه فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابا حسودا سروقا نماما لحوحا ذا فضول وضحك وكياد ومجانة وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب ثم يشتغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين ولا يحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه
____________________
(1/279)
فإن أظهر ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة فعند ذلك إن عاد ثانيا فينبغي أن يعاتب سرا ويعظم الأمر فيه ويقال له إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه وليكن الأب حافظا هيئة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحيانا والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح وينبغي أن يمنع عن النوم نهارا فإنه يورث الكسل ولا يمنع منه ليلا ولكن يمنع الفرش الوطيئة حتى تتصلب أعضاؤه ولا يسخف بدنه فلا يصبر على التنعم بل يعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح فإذا تعود ترك فعل القبيح ويعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل ويعود أن لا يكشف أطرافه ولا يسرع المشي ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه أو بشيء من مطاعمه وملابسه بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره والتلطف في الكلام معهم ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئا بداله بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ وأن الأخذ لؤم وخسة ودناءة وأن ذلك من دأب الكلب فإنه يبصبص في انتظار لقمة والطمع فيها وبالجملة يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب فإن آفة حب الذهب والفضة أضر من آفة السموم على الصبيان بل وعلى الكبار أيضا وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يتمخط ولا يتثاءب بحضرة غيره ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلا على رجل ولا يضع كفه تحت ذقنه ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل ويعلم كيفية الجلوس ويمنع كثرة الكلام ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه فعل أبناء اللئام ويمنع اليمين رأسا صادقا كان أو كاذبا حتى لا يعتاد ذلك في الصغر ويعود حسن الاستماع مهما تكلم غيره مممن هو أكبر منه سنا وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان ويجلس بين يديه ويمنع من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والسب ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب المكتب فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائما يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة
____________________
(1/280)
في الخلاص منه رأسا وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه وكل من هو أكبر منه سنا من قريب وأجنبي وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم وأن يترك اللعب بين أيديهم ومهما بلغ سن التمييز فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع ويخوف من السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش فإذا وقع نشوؤه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور
____________________
(1/281)
كتاب آفات اللسان بيان خطر اللسان
اعلم أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة منه إلا بالنطق بالخير فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه وقال معاذ بن جبل قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول فقال يا ابن جبل وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم وعنه صلى الله عليه وسلم من كف لسانه ستر الله عورته ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت وعنه عليه الصلاة والسلام اخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان
____________________
(1/282)
جمل من آفات اللسان الآفة الأولى الكلام فيما لا يعني
اعلم أن رأس مال العبد أوقاته فمهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثوابا في الآخرة فقد ضيع رأس ماله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وسببه الباعث عليه هو الحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها وعلاج ذلك كله أن يعلم أن أنفاسه رأس ماله وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الخيرات الحسان فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين الآفة الثانية فضول الكلام
وهو أيضا مذموم وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر ويمكنه أن يجسمه ويكرره ومهما تادى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين فالثانية فضول أي فضل عن الحاجة وهو أيضا مذموم لما سبق وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر
واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر بل المهم محصور في كتاب الله تعالى قال الله عز وجل { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } وقال صلى الله عليه وسلم طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق الفضل من ماله فانظر كيف قلب الناس الأمر في ذلك فأمسكوا فضل المال وأطلقوا فضل اللسان قال عطاء إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو تنطق لحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها أتنكرون أن عليكم
____________________
(1/283)
حافظين { كراما كاتبين } { عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه وقال ابن عمر إن أحق ما طهر الرجل لسانه وفي أثر ما أوتي رجل شرا من فضل في لسان الآفة الثالثة الخوض في الباطل
وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتكبر الجبابرة ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة فإن ذلك مما لا يحل الخوض فيه وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض في الباطل وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا وفي الحديث أعظم الناس خطايا يوم القيام أكثرهم خوضا في الباطل وإليه الإشارة بقوله تعالى { وكنا نخوض مع الخائضين } وبقوله تعالى { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } وعنه صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة
____________________
(1/284)
الآفة الرابعة المراء والجدال
وذلك منهي عنه قال صلى الله عليه وسلم لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه وعنه صلى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد أن هداهم الله إلا أوتوا الجدل وعنه لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا
وقال بلال بن سعد إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته وقال ابن أبي ليلى لا أماري صاحبي فإما أن أكذبه وإما أن أغضبه وما ورد في ذم المراء والجدال أكثر من أن يحصى
وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض فكل كلام سمعته فإن كان حقا فصدق به وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه
والواجب إن جرى الجدل في مسألة علمية السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد والنكادة أو التلطف في التعريف لا في معرض الطعن وأما قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه فهي المجادلة المحظورة التي لا نجاة من إثمها إلا بالسكوت وما الباعث عليها إلا الترفع بإظهار العلم والفضل والتهجم على الغير بإظهار نقصه وهما صفتان مهلكتان ولا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل ويقدح في قائله بكل ما يتصور له فيثور
____________________
(1/285)
الشجار بين المتماريين وأما علاجه فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله والسبعية الباعثة له على تنقيص غيره الآفة الخامسة الخصومة
وهي أيضا مذمومة وهي وراء الجدال والمراء وحقيقتها لجاج في الكلام ليستوفي به مال أو حق مقصود وفي الحديث إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ولا تكون الخصومة مذمومة إلا إن كانت بالباطل أو بغير علم كالذي يدافع قبل أن يعلم الحق في أي جانب أو يمزج بخصومته كلمات مؤذية لا حاجة لها في نصرة الحجة وإظهار الحق أو يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره مع أنه قد يستحقر ذلك القدر من المال وفي الناس من يصرح به ويقول إنما قصدي عناده وكسر غرضه وإني إن أخذت منه هذا المال ربما رميت به في بئر ولا أبالي وهذا مقصوده اللدد والخصومة واللجاج وهو مذموم جدا فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا فإن ضبط اللسان في الخصومة على قدر الاعتدال متعذر والخصومة توغر الصدر وتهيج الغضب وإذا هاج نسي المتنازع فيه وبقي الحقد بين المتخاصمين حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات وأقل ما فيه تشويش خاطره حتى إنه في صلاته يشتغل بمحاجة خصمه فلا يبقى الأمر على حد الواجب فالخصومة مبدأ كل شر وكذا المراء والجدال فينبغي أن لا يفتح بابه إلا لضرورة وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة وذلك متعذر جدا نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام وقد قال الله تعالى { وقولوا للناس حسنا } وقال ابن عباس رضي الله عنهما من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه السلام وإن كان مجوسيا إن الله تعالى يقول { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن }
____________________
(1/286)
منها أو ردوها ) وقال ابن عباس أيضا لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه وفي الحديث الكلمة الطيبة صدقة وقال عمر رضي الله عنه البر شيء هين وجه طليق وكلام لين وقال بعض الحكماء الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح وقال آخر كل كلام لا يسخط ربك إلا أنك ترضي به جليسك فلا تكن به عليه بخيلا فلعله يعوضك منه ثواب المحسنين الآفة السادسة التقعر في الكلام
وهو التشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه فإنه من التكلف الممقوت إذ ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ التذكير والخطابة من غير إفراط ولا إغراب فلرشاقة اللفظ تأثير في ذلك الآفة السابعة الفحش والسب وبذاءة اللسان
وهو مذموم ومنهي عنه ومصدره الخبث واللؤم قال صلى الله عليه وسلم إياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ونهى رسول الله عليه السلام عن أن تسب قتلى بدر من المشركين فقال لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء ألا إن البذاء لؤم وقال عليه السلام ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء وعنه إن
____________________
(1/287)
الله لا يحب الفاحش المتفحش الصياح في الأسواق وحد الفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يدلون عليها بالرموز والكناية قال ابن عباس إن الله حيي كريم يعفو ويكنو كنى باللمس عن الجماع فالمسيس والمس والدخول كنايات عن الوقاع وليست بفاحشة وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعبير وكل ما يستحيا منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش
والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم ومن عادتهم السب
روي أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصني فقال عليك بتقوى الله وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه يكن وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئا قال فما سببت شيئا بعده وعنه صلى الله عليه وسلم سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وعنه صلى الله عليه وسلم ملعون من سب والديه وفي رواية من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا يا رسول الله كيف يسب الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب الآخر أباه
____________________
(1/288)
الآفة الثامنة اللعن
اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بلعان واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل وهو الكفر والظلم وفي لعن فاسق معين خطر فليتجتنب ولو بعد موته بل قد يكون أشد إن كان فيه أذى للحي وفي الحديث لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم فإنه مذموم وفي الخبر إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه الآفة التاسعة الغناء والشعر
والمذموم منهما ما اشتمل على محرم أو دعاء إليه كتشبيب بمعين وهجاء وتشبه بالنساء وتهييج لفاحشة ولحوق بأهل الخلاعة والمجون وصرف الوقت إليه ونحو ذلك وما خلا عن ذلك فهو مباح الآفة العاشرة المزاح
والمنهي عنه المذموم منه هو المداومة عليه والإفراط فيه فأما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك والضغينة في بعض الأحوال ويسقط المهابة والوقار وأما ما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأمزح ولا أقول إلا حقا ألا إن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقا وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك
____________________
(1/289)
الناس كيفما كان وقد قال عمر من مزح استخف به وقال سعيد بن العاص لابنه يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فيجترىء عليك وقيل لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح ويقال المزاح مسلبة للنهى مقطعة للأصدقاء ومن الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد وهو خطأ وبالجملة فإن كنت تقدر على أن تمزح ولا تقول إلا حقا ولا تؤذي قلبا ولا تفرط فيه وتقتصر عليه أحيانا على الندور فلا حرج عليك فيه من مطايباته صلى الله عليه وسلم ما روي أن عجوزا أتته فقال لها لا يدخل الجنة عجوز فبكت فقال لها إنك لست بعجوز يومئذ قال الله تعالى { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا } وجاءت إمرأة إليه صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي يدعوك قال ومن هو أهو الذي بعينه بياض قالت والله ما بعينه بياض فقال بلى إن بعينه بياضا فقالت لا والله فقال صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وبعينه بياض وأراد بالبياض المحيط بالحدقة
وجاءت امرأة أخرى فقال يا رسول الله احملني على بعير فقال بل نحملك على ابن البعير فقالت ما أصنع به إنه لا يحملني فقال صلى الله عليه وسلم ما من بعير إلا وهو ابن بعير
وقال أنس كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير وكان رسول الله
____________________
(1/290)
يأتيهم ويقول أبا عمير ما فعل النغير النغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور وقالت عائشة رضي الله عنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فقال تعالي حتى أسابقك فشددت علي درعي ثم خططنا خطا فقمنا عليه واستبقنا فسبقني وقال هذه مكان ذي المجاز وذلك أنه جاء يوما ونحن بذي المجاز وأنا جارية قد بعثني أبي بشيء فقال أعطينيه فأبيت وسعيت وسعى في أثري فلم يدركني
وقالت أيضا كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت خزيرا وجئت به فقلت لسودة كلي فقالت لا أحبه فقلت والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك فقالت ما أنا ذائقته فأخذت بيدي من الصحفة شيئا منه فلطخت به وجهها ورسول الله جالس بيني وبينها فخفض لها ركبته لتستقيد فتناولت من الصحفة شيئا فمسحت به وجهي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك وعن أبي سلمة أنه كان صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي رضي الله عنهما فيرى الصبي لسانه فيهش له
وقال عيينة الفزاري والله ليكونن لي الابن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط فقال صلى الله عليه وسلم إن من لا يرحم لا يرحم
____________________
(1/291)
فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل
وقال صلى الله عليه وسلم مرة لصهيب وبه رمد وهو يأكل تمرا أتأكل التمر وأنت رمد فقال إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله فتبسم صلى الله عليه وسلم قال بعض الرواة حتى نظرت إلى نواجذه
وكان نعيمان الأنصاري رجلا مزاحا لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فيقول يا رسول الله هذا قد اشتريته لك واهديته لك فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أعطه ثمن متاعه فيقول له صلى الله عليه وسلم أولم تهده لنا فيقول يا رسول الله إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام الآفة الحادية عشرة السخرية والاستهزاء
وهو محرم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه وقد يكون ذلك بالمحاكاة في القول والفعل وقد يكون بالإشارة والإيماء ومرجع ذلك إلى استحقار الغير والضحك عليه والاستهانة به والاستصغار له وعليه نبه قوله تعالى { عسى أن يكونوا خيرا منهم } أي لا تستحقره استصغارا فلعله خير منك وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المرح وقد سبق ما يذم منه وما يمدح
____________________
(1/292)
وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به لما فيه من التحقير والتهاون وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم أو على أفعاله إذا كانت مشوشة كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته لعيب فيه فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها الآفة الثانية عشرة إفشاء السر
وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف والأصدقاء قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة وعنه الحديث بينكم أمانة فافشاء السر خيانة وهو حرام إذا كان فيه إضرار ولؤم إن لم يكن فيه إضرار الآفة الثالثة عشرة الوعد الكاذب
فإن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وقال صلى الله عليه وسلم العدة عطية وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال { إنه كان صادق الوعد } ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش وقد كان مني إليه شبه الوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني قد زوجته ابنتي
وعن عبد الله بن أبي الخنساء قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه فقال يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك
وكان ابن مسعود لا يعد وعدا إلا ويقول إن شاء الله وهو الأولى ثم
____________________
(1/293)
إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر فإن كان عند الوعد عازما على أن لا يفي فهذا هو النفاق قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وقال صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وهذا ينزل على من إذا وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضا كما يحترز من حقيقته ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذورا من غير ضرورة فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وعد أبا الهيثم خادما فأتى بثلاثة من السبي فأعطى اثنين وبقي واحد فأتت فاطمة رضي الله عنها تطلب منه خادما وتقول ألا ترى أثر الرحى بيدي فذكر موعده لأبي الهيثم فجعل يقول كيف بموعدي لأبي الهيثم فآثره على فاطمة لما كان قد سبق من موعده له مع أنها كانت تدير الرحى بيدها الضعيفة ولقد كان صلى الله عليه وسلم جالسا يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال إن لي عندك موعدا يا رسول الله قال صدقت فاحتكم ما شئت فقال أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها قال هي لك وقال احتكمت يسيرا الآفة الرابعة عشرة الكذب في القول واليمين
وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب قال صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإنه مع
____________________
(1/294)
الفجور وهما في النار وعنه إن الكذب باب من أبواب النفاق وعنه كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب ومر صلى الله عليه وسلم برجلين يتبايعان شاة ويتحالفان يقول أحدهما والله لا أنقصك من كذا وكذا ويقول الآخر والله لا أزيدك على كذا وكذا فمر بالشاة وقد اشتراها أحدهما فقال أوجب أحدهما بالإثم والكفارة وعنه صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم المنان بعطيته والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره وعنه صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان وقال عليه السلام لمعاذ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبذل الطعام وخفض الجناح بيان ما رخص فيه من الكذب
اعلم أن الكذب إنما حرم لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره وقد يتعلق به مصلحة فيكون مأذونا فيه وربما كان واجبا كما إذا كان في الصدق سفك دم امرئ قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب وكما إذا كان لا يتم
____________________
(1/295)
مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه أو تعاشر الزوجين إلا بالكذب فالكذب مباح إلا أنه يقتصر فيه على حد الضرورة لئلا يتجاوز إلى ما يستغنى عنه وفي معنى ذلك وردت أحاديث كثيرة قال ثوبان الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلما أو دفع عنه ضررا بيان الحذر من الكذب بالمعاريض
قد نقل عن السلف إن في المعاريض مندوحة عن الكذب وإنما أرادوا إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا ولكن التعريض أهون ومثال التعريض ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض وقال ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله وكان معاذ بن جبل عاملا لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم وما كان قد أتاها بشيء فقال كان عندي ضاغط قالت كنت أمينا عند رسول الله وأبي بكر فبعث عمر معك ضاغطا وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر فلما بلغه ذلك دعا معاذا وقال بعثت معك ضاغطا قال ما أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك فضحك عمر وأعطاه شيئا فقال أرضها به ومعنى قوله ضاغطا رقيبا وأراد به الله تعالى وكان النخعي إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية قولي له اطلبه في المسجد ولا تقولي ليس ههنا كيلا يكون كذبا ومما تباح به المعاريض قصد تطييب قلب الغير بالمزاح كقوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة
____________________
(1/296)
عجوز وقوله للأخرى الذي في عينه بياض وللأخرى نحملك على ولد البعير كما تقدم
ومما يتسامح به ما جرت به العادة في المبالغة كقوله قلت لك كذا مائة مرة فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة إلا أنه إذا لم يكن قال ذلك إلا مرة واحدة كان كذبا
وأما ما يعتاد التساهل به في الكذب في مثل أن يقال كل الطعام فيقول لا أشتهيه فذلك منهي عنه وهو حرام إن لم يكن فيه غرض صحيح ومثل ذلك أن يقول يعلم الله فيما لا يعلمه
وأما الكذب في حكاية المنام فالإثم فيه عظيم وفي الحديث إن من أعظم الفرية أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يري عينيه في المنام ما لم ير أو يقول علي ما لم أقل الآفة الخامسة عشرة الغيبة
قد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه الكريم وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة فقال تعالى { ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } وقال صلى الله عليه وسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والغيبة تتناول العرض وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته
____________________
(1/297)
ومن تتبع عورته يفضحه ولو في جوف بيته وعن مجاهد انه قال في قوله تعالى { ويل لكل همزة لمزة } الهمزة الطعان في الناس واللمزة الذي يأكل لحوم الناس وقال بعضهم أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس وقال ابن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك بيان معنى الغيبة وحدودها
اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته أما البدن فذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان وأما النسب فبأن تقول أبوه فاسق أو خسيس أو زبال أو نحوه مما يكرهه وأما الخلق فبأن تقول سيئ الخلق بخيل متكبر مراء شديد الغضب جبان متهور وما يجري مجراه وأما في أفعاله فكقولك هو سارق كذاب شارب خمر خائن ظالم متهاون بالصلاة أو الزكاة لا يحترز من النجاسات ليس بارا بوالديه ونحوه وأما فعله فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس كثير الكلام كثير الأكل نؤوم يجلس في غير موضعه وأما في ثوبه فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب ونحوه
والقول الجامع في الغيبة ما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه وإنما حرم الذكر باللسان لما فيه من تفهيم الغير نقصان أخيه وتعريفه بما يكرهه ولذا كان التعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول والإشارة والإيماء
____________________
(1/298)
والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام فمن أومأ بيده إلى قصر أحد أو طوله أو حاكاه في المشي كما يمشي فهو غيبة والكتابة عن شخص في عيب به غيبة لأن القلم أحد اللسانين وكذا قولك من قدم من السفر أو بعض من مر بنا اليوم إذا كان المخاطب يفهمه فهو غيبة وكذا من يفهم عيب الغير بصيغة الدعاء كقوله الحمد لله الذي لم يبتلنا بكذا وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان لكن ابتلي بما يبتلى به كلنا وهو كذا فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغى إليه ويعلم ما يقول فيذكر الله تعالى ويستعمل اسمه آلة له في تحقيق خبثه وكذلك يقول ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به فيكون كاذبا في دعوى الاغتمام لأنه لو اغتم به لاغتم بإظهار ما يكرهه وكذلك يقول ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه وهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت عظيم ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكان يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول عجيب ما علمت أنه كذلك كنت أحسب فيه غير هذا عافانا الله من بلائه فإن كل ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة بل الساكت شريك المغتاب إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف وفي الحديث من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق وفي رواية من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة الأسباب الباعثة على الغيبة
منها التشفي وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه فإنه إذا هاج غضبه
____________________
(1/299)
فيشتفي بذكر مساوئه فسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع وقد يمتنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن في الباطن فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة
ومنها موافقة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة وقد يغضب رفقاؤه فيضطر إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوئ
ومنها إرادة التصنع والمباهاة وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره
ومنها الحسد يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه حتى يكفوا عن الثناء عليه وإكرامه لأنه يثقل عليه ذلك
ومنها اللعب والهزل وتزجية الوقت بالضحك فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة والتعجب
ومنها السخرية والاستهزاء استحقارا له ومنشؤه التكبر واستجهال المستهزأ به
وثمة أسباب غامضة فيها دسائس للشيطان وهي أن يذكر إنسان في حالة التعجب أو الرحمة أو الغضب لله تعالى فيقول مثلا تعجبت من فلان كيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل فيكون تعجبه من المنكر لصدقه أو يقول مسكين فلان غمني أمره وما ابتلي به وهو صادق في الاغتمام وكذا قد يغضب على منكر قارفه إنسان فيظهر غضبه ويذكر اسمه والواجب في ذلك ستر اسمه وعدم إظهاره على غيره ولا عذر في ذكر الاسم في ذلك بيان العلاج الذي به يمنع اللسان عن الغيبة
اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل وعلاج كف اللسان عن الغيبة إجمالا أن يعلم أنه يتعرض لسخط الله تعالى إذا اغتاب لارتكابه ما نهى الله عنه فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفا من ذلك وينفعه أيضا أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيبا اشتغل
____________________
(1/300)
بعيب نفسه وذكر قوله صلى الله عليه وسلم طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ومهما وجد عيبا فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك الغيب كعجزه وهذا إن كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره وإن كان أمرا خلقيا فالذم له ذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها وإذا لم يجد العبد عيبا في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه برئ من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم الذنوب وينفعه أيضا أن يعلم أن تألم غيره كتألمه بغيبة غيره له فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه وبالجملة فمن قوي إيمانه انكف عن الغيبة لسانه بيان تحريم الغيبة بالقلب وذلك بسوء الظن
اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره ظنا بأمر سيئ فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه ولكن المنهي عنه أنه يظن والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب فقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل فإن لم ينكشف كذلك فإنما الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق وقد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } وفي الحديث إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء وحينئذ فإذا خطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك
____________________
(1/301)
وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر فإن قلت فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث فتقول أمارة عقد الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفورا ما ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتمام بسببه والمخرج منه أن لا يحققه أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح وربما يلقي الشيطان أن هذا من فطنتك وسرعة تنبهك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه
ومن ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضا منهي عنه قال الله تعالى { ولا تجسسوا } فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه وقد مضى في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته بيان الأعذار المرخصة في الغيبة
اعلم أنه إذا لم يمكن التوصل إلى غرض صحيح في الشرع إلا بذكر مساوئ الغير فإنه يرخص فيه ولا إثم وذلك في أمور
منها التظلم وذلك كمظلوم يرفع ظلامته على إنسان إلى أمير ليستوفي له حقه إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا بنسبته إلى الظلم قال صلى الله عليه وسلم إن لصاحب الحق مقالا وعنه مطل الغني ظلم
ومنها الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح
ومنها الاستفتاء كما يقول للمفتي ظلمني أبي أو زوجتي أو أخي إذا لم يفد
____________________
(1/302)
الإبهام أو التعريض وذلك لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي أفآخذ من غير علمه فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها عليه السلام إذ كان قصدها الاستفتاء
ومنها تحذير المسلم من الشر كما إذا علمت من إنسان ضررا فحذرت شخصا منه وكالمزكي يطعن في الشاهد إذا سئل عنه وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة
ومنها أن يكون الإنسان معروفا بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش فلا حرج في ذكره لضرورة التعريف ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن قد صار مشهورا به نعم إن وجد عنه معدلا وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى ولذلك يقال للأعمى البصير عدولا عن اسم النقص
ومنها أن يكون مجاهرا بالفسق متظاهرا به ولا يكره أن يذكر به فلا غيبة له بما يتظاهر به بيان كفارة الغيبة
اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج من حق الله سبحانه ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته إن قدر عليه ولم يخش محذورا وقال الحسن يكفيه الاستغفار دون الاستحلال وفي الحديث أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم
____________________
(1/303)
إني قد تصدقت بعرضي على الناس أي لا أطلب مظلمة في القيامة منه ولا أخاصمه وليس المراد إباحة تناول عرضه بل العفو عن جريمته وقد قال تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وفي الحديث أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك الآفة السادسة عشرة النميمة
قال الله تعالى { هماز مشاء بنميم } وقال تعالى { ويل لكل همزة لمزة } قيل الهمزة النمام وقال تعالى { حمالة الحطب } قيل إنها كانت نمامة حمالة للحديث وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة نمام وعنه صلى الله عليه وسلم أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات
____________________
(1/304)
وحد النميمة هو كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه ثالث وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال وسواء كان ذلك عيبا ونقصا في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود عليه
والباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له أو التفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل
وكل من حملت إليه نميمة فعليه أن لا يسارع إلى صدقه لقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وأن ينهاه وينصح له وأن لا يظن بالغائب سوءا وأن لا يحمله ذلك على التجسس
وقال الحسن من نم إليك نم عليك وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته وكيف لا وهو لا ينفك عن الغدر والخيانة والإفساد بين الناس وهو ممن يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وقال تعالى { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } والنمام منهم وقال صلى الله عليه وسلم إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره والنمام منهم وقيل لمحمد بن كعب القرظي أي خصال المؤمن أوضع له فقال كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد وقال بعضهم لو صح ما نقله النمام إليك لكان هو المجترئ بالشتم عليك والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك
____________________
(1/305)
الآفة السابعة عشرة كلام ذي الوجهين
وهو ذو اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه من الثناء عليه في معاداته وذمه الآخر ووعده بأن ينصره على خصمه وهو من علامات النفاق نعم إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه لم يكن ذا لسانين ولا منافقا فإن الإنسان قد يصادق متعاديين وأما لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النمام لأن النمام ينقل من أحد الجانبين فقط وهذا يزيد النقل من الجانب الآخر ويزيد أن يحسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه نعم من ابتلي بمراعاة أحد الجانبين في قول ما لضرورة وخاف من تركه فهو معذور فإن اتقاء الشر جائز قال أبو الدرداء رضي الله عنه إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إئذنوا له فبئس رجل العشيرة هو ثم لما دخل ألان له القول فلما خرج قلت يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول فقال يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم وإلا فلا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل فإن فعل فهو منافق بل ينبغي أن ينكر فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه وللضرورات حكمها الآفة الثامنة عشرة المدح
وهو منهي عنه في بعض المواضع أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها والمدح يدخله ست آفات أربع من المادح واثنتان في الممدوح فأما المادح
فالأولى أنه قد يفرط فيه فينتهي به إلى الكذب
والثانية أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون مضمرا له ولا معتقدا لجميع ما يقوله فيصير به مرائيا منافقا
والثالثة أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه
والرابعة أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال
____________________
(1/306)
الحسن من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصى الله في الأرض
وأما الممدوح فيضره من وجهين
أحدهما أنه يحدث فيه كبرا وإعجابا وهما مهلكان
الثاني هو أنه إذا أثنى عليه فرح وفتر ورضي عن نفسه وقل تشميره للعمل
فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوبا إليه
وعلى الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور ويتذكر أنه يعلم من نفسه ما لا يعلمه المادح وأنه لو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وكان علي رضي الله عنه إذا أثني عليه يقول اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون وعلى المادح أن لا يجزم القول إلا بعد خبرة باطنة سمع عمر رضي الله عنه رجلا يثني على رجل فقال أسافرت معه قال لا قال أخالطته في المبايعة والمعاملة قال لا قال فأنت جاره صباحه ومساءه قال لا فقال والله الذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه وفي الحديث إن كان أحدكم لا بد مادحا أخاه فليقل أحسب فلانا ولا أزكي على الله أحدا الآفة التاسعة عشرة الخطأ في دقائق لفظية
ينبغي التنبيه لدقائق الخطأ في فحوى الكلام والحذر عن الغفلة عنها لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته مثاله ما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم لا يقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكا وتسوية وهو على خلاف الاحترام وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل أعوذ
____________________
(1/307)
بالله وبك ولولا الله وفلان ويجوز أن يقول أعوذ بالله ثم بك ولولا الله ثم فلان وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه فيقول لولاه لسرقنا الليلة
وقال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم قال عمر فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها
وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل غلامي وجاريتي ولا يقل المملوك ربي ولا ربتي وليقل سيدي وسيدتي فكلكم عبيد الله والرب الله سبحانه وتعالى
وقال صلى الله عليه وسلم لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم
فعلى المتكلم أن يوافقه ورع حافظ ومراقبة لازمة ليسلم عن الخطر الآفة العشرون سؤال العوام عن الغوامض
من حق العوام الاشتغال بالعمل الصالح إلا أن الفضول خفيف على القلب والعامي قد يفرح بالخوض في العلم إذ الشيطان يخيل إليه أنه من العلماء وأهل الفضل ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى قد يتكلم بما هو كفر ولا يدري وكل من سأل عن علم غامض ولم يبلغ فهمه تلك الدرجة فهو مذموم فإنه بالإضافة إليه عامي وفي الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام تنبيه على المنع من السؤال
____________________
(1/308)
قبل أوان استحقاقه إذ قال { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } فلما سأل عن السفينة أنكر عليه حتى اعتذر وقال { لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } فلما لم يصبر حتى سأل ثلاثا قال { هذا فراق بيني وبينك } وفارقه فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات فيجب منعهم من ذلك وزجرهم
____________________
(1/309)
كتاب ذم الغضب والحقد والحسد
إن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع الأفئدة وإنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد وقد انكشف للناظرين بنور اليقين إن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال { خلقتني من نار وخلقته من طين } فإن شأن الطين السكون والوقار وشأن النار التلظي والاستعار والحركة والاضطراب ومن نتائج الغضب الحقد والحسد وبهما هلك من هلك وفسد من فسد ومفيضهما مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا كان الحقد والحسد والغضب مما يسوق العبد إلى مواطن العطب فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساوئه ليحذر ذلك ويتقيه ويميطه عن القلب إن كان وينفيه وهاك بيان ذلك بعونه تعالى بيان ذم الغضب
قال الله تعالى { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الآية ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل ومدح المؤمنين بما أنزل عليهم من السكينة وروي أن رجلا قال يا رسول الله مرني بعمل وأقلل قال لا تغضب ثم أعاد عليه
____________________
(1/310)
فقال لا تغضب وقال صلى الله عليه وسلم ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب
وعن جعفر الغضب مفتاح كل شر وقال بعض الأنصار رأس الحمق الحدة وقائده الغضب ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم والحلم زين ومنفعة والجهل شين ومضرة والسكوت عن جواب الأحمق جوابه وقال الحسن من علامات المسلم قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وعلم في حلم وكيس في رفق وإعطاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وإحسان في قدرة وتحمل في رفاقة وصبر في شدة لا يغلبه الغضب ولا تجمح به الحمية ولا تغلبه شهوة ولا تفضحه بطنة ولا يستخفه حرصه ولا تقصر به نيته فينصر المظلوم ويرحم الضعيف ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء درجات الناس مع الغضب
اعلم أن قوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب وانتشاره في العروق وارتفاعه إلى أعالي البدن كما ترتفع النار والماء الذي يغلي في القدر فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها
ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث من التفريط والإفراط والاعتدال
____________________
(1/311)
أما التفريط ففقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية فقال { أشداء على الكفار } وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب
وأما الإفراط فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ولا يبقى للمرء معه بصيرة وفكرة ولا اختيار بل يصير في صورة المضطر ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة ولو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن وإنما قبحت صورة الباطن أولا ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانيا فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس المثمر بالثمرة فهذا أثره في الجسد
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ
وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن وقد يمزق ثوب نفسه ويلطم نفسه وقد يضرب بيده على الأرض وربما يعتريه مثل الغشية وربما يضرب الجمادات والحيوانات أو يكسر القصعة أو يشتم البهيمة أو ترفسه دابة فيرفسها ويقابلها بذلك كالمجنون
وأما أثره في القلب فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح فهذه ثمرة الغضب المفرط
وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس وهو أيضا مذموم إذ من
____________________
(1/312)
ثمراته عدم الغيرة على الحرم وهو صونها قال صلى الله عليه وسلم إن سعدا لغيور وأنا أغير من سعد والله أغير مني وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب ولذلك قيل كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها
ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات وقد قال تعالى { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله }
ففقد الغضب مذموم وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية وينطفيء حيث يحسن الحلم وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال خير الأمور أوساطها زوال الغضب بالرياضة وغيرها
اعلم أنه ما دام الإنسان يحب شيئا ويكره شيئا فلا يخلو من الغيظ والغضب لأنه من مقتضى الطبع إلا أنه قد تفيد الرياضة في محو قوته وذلك بالمجاهدة وتكلف الحلم والاحتمال مدة حتى يصير الحلم والاحتمال خلقا راسخا فالرياضة ليست لينعدم غيظ القلب لأنه غير ممكن ولكن ليستعمله على حد يستحبه الشرع ويستحسنه العقل وذلك بكسر سورته وتضعيفه حتى لا يشتد هيجان الغيظ في الباطن وينتهي ضعفه إلى أن لا يظهر أثره في الوجه وقد يتصور فقد الغيظ بغلبة نظر التوحيد أو بأن يعلم أن الله يحب منه أن لا يغتاظ فتطفئ شدة حبه لله تعالى غيظه أو بأن يشتغل القلب بضروري أهم من الغضب فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه
____________________
(1/313)
بيان الأسباب المهيجة للغضب
قد عرفت أن علاج كل علة بحسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بد من معرفة أسباب الغضب وأسبابه المهيجة له هي الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعبير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على حصول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعا ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالتها بأضدادها فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع وتميت العجب بمعرفتك بنفسك وتزيل الفخر بأنك من جنس أقل مخلوق إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد وإنما الفخر بالفضائل والفخر والعجب أكبر الرذائل وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة وأما الهزء فتزيله بالتكرم على إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك وأما التعيير فبالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب وأما شدة الحرص فبالصبر على مر العيش وبالقناعة بقدر الضرورة طلبا لعز الاستغناء وترفعا عن ذل الحاجة وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة وحاصل رياضتها الرجوع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها ثم المواظبة على مواظبة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة هينة مألوفة على النفس فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضا من الغضب الذي يتولد منها وأشد البواعث للغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة وعزة نفس حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وهذا من الجهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل ويعالج هذا الجاهل بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ فإن ذلك منقول عن الأنبياء والعلماء بيان علاج الغضب بعد هيجانه
ما تقدم هو حسم لمواد الغضب حتى لا يهيج فإذا جرى سبب هيجه فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل أما العلم فهو أمور
الأول أن يتفكر فيما ورد في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال
____________________
(1/314)
فيرغب في ثوابه وتمنعه الرغبة في الأجر عن الانتقام وينطفئ عنه غيظه
الثاني أن يخوف نفسه بعقاب الله لو أمضى غضبه وهل يأمن من غضب الله عليه يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى العفو
الثالث أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو عن المصائب فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة
الرابع أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي ومشابهة الحليم الهادي التارك للغضب للأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء ويخير نفسه بين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأراذل الناس وبين أن يتشبه بالعلماء والأنبياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء بهؤلاء إن كان قد بقي معه مسكة من عقل
الخامس أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام ويمنعه من كظم الغيظ مثل قول الشيطان له إن هذا يحمل منك على العجز والذلة وتصير حقيرا في أعين الناس فيقول لنفسه ما أعجبك تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله وذلك يعظمه عند الله فما له وللناس وأما العمل فأن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإن كنت قائما فاجلس وإن كنت جالسا فاضطجع ويستحب أن يتوضأ بالماء البارد فإن الغضب من النار والنار لا يطفئها إلا الماء فضيلة كظم الغيظ
قال الله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } دلت الآية على أن الكاظمين من المتقين وأن مغفرة ربهم تنالهم وجنته أعدت لهم فما أفضل هذا الجزاء
____________________
(1/315)
وقال صلى الله عليه وسلم من كف غضبه كف الله عنه عذابه ومن اعتذر إلى ربه قبل الله عذره ومن خزن لسانه ستر الله عورته وقال صلى الله عليه وسلم أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة وروي أن رجلا من جفاة الأعراب قال لعمر رضي الله عنه والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه فقال له رجل يا أمير المؤمنين ألم تسمع قول الله تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين فسكن عمر رضي الله عنه وعفا عنه فضيلة الحلم
اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا فلا يهيج الغيظ وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب وهو الحلم الطبيعي وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وإنكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفا وفي الحديث إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم إشارة إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولا وتكلفه كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم وعنه صلى الله عليه وسلم إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وعن الحسن في قوله تعالى { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } قال حلماء
____________________
(1/316)
إن جهل عليهم لم يجهلوا وعن مجاهد في آية { وإذا مروا باللغو مروا كراما } أي إذا أوذوا صفحوا وعن علي رضي الله عنه ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك وأن لا تباهي الناس بعبادة الله وإذا أحسنت حمدت الله تعالى وإذا أسأت استغفرت الله تعالى وقال أكثم دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر وقال معاوية لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله وصبره شهوته ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم وقال معاوية لعمرو بن الأهتم أي الرجال أشجع قال من رد جهله بحلمه قال أي الرجال أسخى قال من بذل دنياه لصلاح دينه وقال معاوية لعرابة بم سدت قومك قال كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني فهو أفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه وقال أنس بن مالك في قوله تعالى { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } هو الرجل يشتمه أخوه فيقول إن كنت كاذبا فغفر الله لك وإن كنت صادقا فغفر الله لي وعن علي ابن الحسين رضي الله عنهما أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فقال بعضهم جمع له خمس خصال محمودة الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعده من الله عز وجل وحمله على الندم
____________________
(1/317)
والتوبة ورجوعه إلى المدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير بيان القدر الذي يجوز به الانتصار من الكلام
اعلم أن كل ظلم صدر من شخص فلا يجوز مقابلته بمثله فلا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ولا مقابلة التجسس بالتجسس ولا السب بالسب وكذلك سائر المعاصي وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقابلة التعيير فقال إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه وقال قوم تجوز المقابلة بما لا كذب فيه قالوا والنهي النبوي عن مقابلة التعيير بمثله نهي تنزيه والأفضل تركه ولكنه لا يعصى به قالوا والذي يرخص فيه أن تقول من أنت ويا أحمق ويا جاهل إذ ما من أحد إلا وفيه حمق وجهل فقد آذاه بما ليس بكذب وكذلك قوله يا سيئ الخلق يا ثلابا للأعراض وكان ذلك فيه وكذلك قوله لو كان فيك حياء لما تكلمت وما أحقرك في عيني بما فعلت واستدلوا بالحديث المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم فأثبت للمظلوم انتصارا إلى أن يعتدي
فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق قال الغزالي ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ولكن الأفضل تركه فإنه يجره إلى ما وراءه ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ولكن يعود سريعا وفي الحديث خير بني آدم البطيء الغضب السريع الفيء وشرهم السريع الغضب البطيء الفيء
____________________
(1/318)
معنى الحقد ونتائجه الوخيمة وفضيلة الرفق
اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقدا ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى وقد قال صلى الله عليه وسلم المؤمن ليس بحقود والحقد ثمرة الغضب والحقد يثمر أمورا منكرة
الأول الحسد وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به وهذا من فعل المنافقين
الثاني أن يزيد على إضمار الحسد في الباطن فيشمت بما أصابه من البلاء
الثالث أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك
الرابع وهو دونه أن تعرض عنه استصغارا له
الخامس أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وعورة
السادس أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه
السابع إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه
الثامن أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صله رحم أو رد مظلمة وكل ذلك حرام وأقل درجات الحقد لو احترز عن هذه الآفات الثماني أن يترك البشاشة أو الرفق والعناية والقيام بحاجاته أو المعاونة على المنفعة له وكله مما ينقص الدرجة في الدين ويفوت الثواب الجزيل
ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح وكان قريبه لأمر ما نزل قوله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم }
____________________
(1/319)
فقال أبو بكر نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه والأولى أن يبقى على ما كان عليه فإن أمكنه أن يزيد في الإحسان مجاهدة للنفس وإرغاما للشيطان فذلك مقام الصديقين وهو من فضائل أعمال المقربين فضيلة العفو والإحسان
اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقا فيسقطه ويبرأ عنه من قصاص أو غرامة قال الله تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقال تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى } وقال صلى الله عليه وسلم التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله والعفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله ) وقال صلى الله عليه وسلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه دخل على أمير يعرض له بالعفو فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته ومن بيعهم إياه وطرحهم له في الجب فقال باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس ثم قال أيها الأمير ماذا صنع الله به أداله منهم ورفع ذكره وأعلى كلمته وجعله على خزائن الأرض فماذا صنع حين أكمل له أمره وجمع له أهله قال { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } فعفا ذلك
____________________
(1/320)
الأمير وروي أن ابن مسعود سرقت له دراهم فجعلوا يدعون على من أخذها فقال لهم اللهم إن كان حملته على أخذها حاجة فبارك له فيها وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه وقال معاوية عليكم بالحلم والاحتمال فإذا أمكنتكم الفرصة فعليكم بالصفح والإفضال فضيلة الرفق
اعلم أن الرفق محمود ويضاده العنف والحدة والعنف نتيجة الغضب والفظاظة والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وحفظها على حد الاعتدال ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق وبالغ فيه فقال من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من خير الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة عليك بالرفق فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه
وسر الترغيب في الرفق والثناء عليه هو كون الطباع إلى العنف والحدة أميل وإن كان العنف في محله حسنا فإن الحاجة قد تدعو إليه ولكن على الندور والكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف فيعطي كل أمر حقه
____________________
(1/321)
ذم الحسد
اعلم أن الحسد أيضا من نتائج الحقد الذميم وللحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى وقد ورد في ذمه أخبار كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقوله لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله ومن الآثار قول بعض السلف إن أول خطيئة كانت هي الحسد حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله الحسد على المعصية وعن ابن سيرين رحمه الله ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على أمر الدنيا وهي حقيرة في الجنة وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار وقال بعضهم الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضا ولا ينال من الخلق إلا جزعا وغما ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالا حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه
الحسد نوعان
أحدهما كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه
وثانيهما عدم محبة زوالها وتمني مثلها وهذا يسمى غبطة فالأول حرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر وهو يستعين بها على محرم كإفساد وإيذاء فلا يضر محبة زوالها عنه من حيث هي آلة الفساد ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وإن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض وذلك لا عذر فيه ولا رخصة وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك
____________________
(1/322)
منه مضرة وإلى هذا أشار القرآن بقوله { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان وقال تعالى { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } أي لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد وأما المنافسة فليست بحرام بل قد تكون مطلوبة قال تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } وقال تعالى { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } وقال صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله علما فهو يعمل به ويعلمه الناس فلا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له وأما تمني عين نعمة الغير بانتقالها إليه لرغبته فيها بحيث يكون مطلوبه تلك النعمة لا زوالها فهو مذموم لقوله تعالى { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } وأما تمنيه لمثل ذلك فليس مذموما فاعرف الفرق أسباب الحسد
للحسد المذموم مداخل كثيرة وأسباب عديدة
فمنها العداوة والبغضاء وهذا أشد أسباب الحسد فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد والحقد يقتضي منه التشفي والانتقام فإن عجز المتنغص عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند
____________________
(1/323)
الله تعالى فمهما أصابت عدوه بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه وبالجملة فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما وإنما غاية التقي أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه
ومنها التعزز وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره
ومنها حب الرياسة وطلب الجاه بأن يكون منفردا عديم النظير غير مشارك في المنزلة يسوءه وجود مناظر له في المنزلة
ومنها خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله بحيث يشق عليه أن يوصف عنده حسن حال عبد فيما أنعم عليه ويفرح بذكر فوات مقاصد أحد واضطراب أموره وتنغص عيشه فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع ومعالجته شديدة لأنه خبث في الجبلة لا عن عارض حتى يتصور زواله وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد بذلك ويقوي قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة أعاذنا المولى من ذلك بلطفه وكرمه بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب
اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقا أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة أما كونه ضررا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده وعدله الذي أقامه في ملكة بخفي حكمته فاستنكرت ذلك واستبشعته وهذه جناية في حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وناهيك بهما جناية على الدين وقد انضاف إلى ذلك أنك فارقت أولياءه وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى وشاركت إبليس والكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب وأما كونه ضررا في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به ولا تزال في كمد
____________________
(1/324)
وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم فتبقى مغموما ضيق الصدر فقد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقدا ولا تزول النعمة عن المحسود بحسدك ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلا أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة فما أعجب من يتعرض لسخط الله من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه فهذه هدايا تهديها إليه إذ تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلسا محروما كما حرمت في الدنيا عن النعمة فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة وصرت مذموما عند الخالق والخلائق شقيا في الحال والمآل ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية ومن تفكر بهذا بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه وأما العمل النافع فيه فهو أن يكلف نفسه نقيض ما يتقاضاه الحسد وذلك بالتواضع للمحسود والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة فتعود القلوب إلى التآلف والتحاب وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جدا إلا أنها مرة على القلوب جدا ولكن النفع في الدواء المر فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء وإنما تهون مرارة هذا الدواء أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضاء بقضاء الله تعالى
____________________
(1/325)
كتاب ذم الدنيا
الآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك فلا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرآن لظهورها وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميتة فقال أترون هذه الشاة هينة على أهلها قالوا من هوانها ألقوها قال والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وقال صلى الله عليه وسلم حب الدنيا رأس كل خطيئة وقال صلى الله عليه وسلم إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون بيان الدنيا المذمومة
اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور
____________________
(1/326)
باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي فنقول
دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك فالقريب الداني يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام
القسم الأول ما يصحبك في الآخرة ويبقى معك ثمرته بعد الموت وهو العلم النافع والعمل الصالح
القسم الثاني وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلا كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجات والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات أي في السرف فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة
القسم الثالث وهو متوسط بين الطرفين كل حظ عاجل معين على أعمال الآخرة وهو ما لا بد منه ليتأتي للإنسان البقاء والصحة التي بها يصل إلى العلم والعمل وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول لأنه معين على الأول ووسيلة إليه فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولا للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة وإن أخذ ذلك بقصد حظ النفس فهو من الدنيا فإذن الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى وإليه الإشارة بقوله تعالى { ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } ومجامع الهوى خمسة أمور وهي ما جمعه الله تعالى في قوله { أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد }
____________________
(1/327)
والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسة سبعة يجمعها قوله تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } وبالجملة فكل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا بيان حقيقة الدنيا في نفسها
اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل وإنما الأعيان الموجودة التي لدينا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام المعادن والنبات والحيوان
أما النبات فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي
وأما المعادن فيطلبها للآلات والأواني كالنحاس والرصاص وللنقد كالذهب والفضة ولغير ذلك من المقاصد
وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم أما البهائم فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة وأما الإنسان فقد يطلب الآدمي ليستخدم كالغلمان أو ليتمتع به كالجواري والنسوان ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } وهذا من الإنس { والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة } وهذا من الجواهر والمعادن وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها { والخيل المسومة والأنعام } وهي البهائم والحيوانات { والحرث } وهو النبات والزرع فهذه هي أعيان الدنيا إلا أن لها مع العبد علاقتين علاقة مع القلب وهو حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا ويدخل في هذه العلاقة جميع
____________________
(1/328)
صفات القلب المعلق بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر وهذه هي الدنيا الباطنة وأما الظاهرة فهي كالأعيان التي ذكرناها
العلاقة الثانية مع البدن وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين علاقة القلب بالحب وعلاقة البدن بالشغل ولو عرف نفسه وعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لقوامه ليتقوى بها على إصلاح دينه حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته وبقي ملازما لسياسة الشهوات ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فقد كانوا على المنهج القصد وعلى السبيل الواضح فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط بل كان أمرهم بين ذلك قواما وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى
____________________
(1/329)
كتاب ذم البخل وذم المال
ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظرا في المال خاصة بل في الدنيا عامة والمال بعض أجزائها الجدير بإفراد البحث عنه إذ فيه آفات وغوائل وللإنسان من فقده صفة الفقر ومن وجوده وصف الغنى وهما حالتان يحصل بهما الاختيار والامتحان ثم للفاقد حالتان القناعة والحرص وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة وللحريص حالتان طمع فيما في أيدي الناس وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق والطمع شر الحالتين وللواجد حالتان إمساك بحكم البخل والشح وإنفاق وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة وللمنفق حالتان تبذير واقتصاد والمحمود هو الاقتصاد وهذه أمور متشابهة وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم ونحن نشرحه بعونه تعالى بيان ذم المال وكراهة حبه
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } وقال تعالى { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } فمن اختار ماله وولده على ما عند الله فقد خسر وغبن خسرانا مبينا وقال تعالى { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى }
____________________
(1/330)
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال تعالى { ألهاكم التكاثر } وقال صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتقش بين أن محبهما عابد لهما ومن عبد حجرا فهو عابد صنم أي من قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم وهو شرك إلا أن الشرك خفي وجلي نعوذ بالله منهما وقال صلى الله عليه وسلم يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وقال صلى الله عليه وسلم ما ذئبان ضاريان أرسلا في غنم بأكثر إفسادا فيها من حب الشرف والمال والجاه في دين الرجل المسلم وقال صلى الله عليه وسلم هلك المكثرون إلا من قال به في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم وعن يحيى بن معاذ قال الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه فإنه إن لدغك قتلك سمه قيل وما رقيته قال أخذه من حله
____________________
(1/331)
ووضعه في حقه وعنه رحمه الله مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلها للعبد في ماله عند موته قيل وما هما قال يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله بيان مدح المال والجمع بينه وبين الذم
اعلم أن الله تعالى قد سمي المال خيرا في مواضع من كتابه العزيز فقال جل وعز { إن ترك خيرا } وقال تعالى ممتنا على عباده { ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } وقال صلى الله عليه وسلم نعم المال الصالح للرجل الصالح ولا تقف على وجه الجمع بين الذم والمدح إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وآفاته حتى ينكشف لك أنه خير من وجه وشر من وجه وأنه محمود من حيث هو خير ومذموم من حيث هو شر فإنه ليس بخير محض ولا هو شر محض بل هو سبب الأمرين جميعا وما هذا وصفه فيمدح تارة ويذم أخرى بيان تفصيل آفات المال وفوائده
قدمنا أن المال فيه خير وشر فمن عرف فوائده وغوائله أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره أما الفوائد فدنيوية ودينية أما الدنيوية فمعروفة وأما الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع
النوع الأول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة كالسفر للحج والعلم وإما فيما يقويه على العبادة من مطعم وملبس ومسكن ومنكح وضرورات المعيشة وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة
النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس وهو أربعة أقسام الصدقة والمروءة ووقاية العرض وأجرة الاستخدام
أما الصدقة فلا يخفى ثوابها
وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والاشراف في ضيافة وهدية وإعانة وما يجري مجراها فإن هذه لا تسمى صدقة بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج
____________________
(1/332)
إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة وهذا أيضا مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها
وأما وقاية العرض فنعني به بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء ودفع شرهم وهو أيضا مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية ففي الحديث ما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافأة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة
وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان كثيرة ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته
النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين وناهيك بها خيرا فهذه جملة فوائد المال في الدين
وأما الآفات فدينية ودنيوية وأما الدينية فثلاث
الأولى أن تجر إلى المعاصي فإن المال يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور
الثانية أنه يجر إلى التنعم في المباحات والتمرن عليه حتى يصير مألوفا عنده ومحبوبا لا يصبر عنه وإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في الكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه وذلك من شؤم المال
الثالثة أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران وأما الآفات الدنيوية فكثيرة كالخوف والحزن والغم والهم والتعب في
____________________
(1/333)
دفع الحساب وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه والفكر في خصومة الشركاء ومنازعتهم
وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها فإن ترياق المال أخذه من حله وصرفه في الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات نسأله تعالى السلامة والعون بلطفه وكرمه بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة والاقتصاد
ينبغي للفقير أن يكون قانعا منقطع الطمع عن الخلق غير متلفت إلى ما في أيديهم ولا حريصا على اكتساب المال كيف كان لئلا يتدنس بذل الحرص فيجره إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا وعلاج ذلك لا يكون إلا بأمور
الأول الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق وهو الأصل في القناعة فإن من كثر خرجه واتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة وفي الحديث ما عال من اقتصد وعنه صلى الله عليه وسلم ثلاث منجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب وعنه صلى الله عليه وسلم الاقتصاد وحسن السمت والهدي الصالح جزء من بضعة وعشرين جزءا من النبوة
الثاني أن يتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه
الثالث أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل والمداهنة
____________________
(1/334)
الرابع أن يكثر تأمله في تنعم الكفرة والحمقى ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة الفجار أو الأبرار فيهون عليه الصبر على القليل والقناعة باليسير
الخامس أن يفهم ما في جمع المال من الخطر كما ذكرنا في آفات المال ويتم ذلك بأن ينظر أبدا إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة وعماد الأمر الصبر بيان فضيلة السخاء
اعلم أن المال إن كان مفقودا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص وإن كان موجودا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام وهو أصل من أصول النجاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أحاديث كثيرة منها خلقان يحبهما الله تعالى حسن الخلق والسخاء وخلقان يبغضهما سوء الخلق والبخل وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله في قضاء حوائج الناس وعنه صلى الله عليه وسلم إن من موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام وقال أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه وأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة وقال صلى الله عليه وسلم إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار وإن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار وجاهل سخي أحب أحب إلى الله من عالم بخيل وأدوأ الداء
____________________
(1/335)
البخل وقال صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وكل ما انفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلقها وقال صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة والدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان وعن الحسن بن علي الكرم هو التبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل وعن عبد الله بن جعفر أمطر المعروف مطرا فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا وإن أصاب اللئام كنت له أهلا ومن سخاء السلف ما حكي أن ابن عامر اشترى دارا بتسعين ألف درهم فلما كان الليل سمع بكاء أهلها فسأل فقيل يبكون لدراهم فقال يا غلام إيتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعا وكان الليث بن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكينا وعن أسماء بن خارجة أن عبد الملك سأله عن خصال حدث بها عنه فأجابه أسماء ما
____________________
(1/336)
مددت رجلي بين يدي جليس لي قط ولا صنعت طعاما قط فدعوت عليه قوما إلا كانوا أمن علي مني عليهم ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئا فاستكثرت شيئا أعطيته إياه وعن الشافعي أن حماد بن أبي سليمان انقطع زره وهو راكب فمر على خياط وأراد النزول فبادره الخياط وحلف عليه أن لا ينزل وأصلح له زره وهو راكب فأخرج له صرة فيها عشرة دنانير وسلمها له واعتذر إليه من قلتها قال الشافعي لا أزال أحب حمادا لما بلغني عنه وأنشد الشافعي لنفسه
( يا لهف قلبي على مال أجود به ** على المقلين من أهل المروءات )
( إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ** ما ليس عندي من إحدى المصيبات )
وعن الربيع بن سليمان قال أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله فقال يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى فقال له سعيد ما يبكيك قال أبكي على الأرض أن تأكل مثلك فأمر له بمائة ألف أخرى وروي أن عليا كرم الله وجهه بكى فقيل ما يبكيك فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام أخاف أن يكون الله قد أهانني وروي أن رجلا أتى صديقا له فدق عليه الباب فقال ما جاء بك قال علي أربعمائة درهم دين فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي فسألته امرأته فقال أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي فرحم الله من هذه أخلاقهم وغفر لهم بيان ذم البخل
قال الله تعالى { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وقال تعالى { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }
____________________
(1/337)
وقال صلى الله عليه وسلم إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة بخيل وعنه صلى الله عليه وسلم إن الله يبغض البخيل في حياته السخي عند موته وقال صلى الله عليه وسلم خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وعن علي كرم الله وجهه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غورا في نار جهنم البخل أو الكذب وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم إنك إذا لبخيل وقال صلى الله عليه وسلم لوفد بني لحيان من سيدكم قالوا جد بن قيس إلا أنه رجل فيه بخل فقال صلى الله عليه وسلم وأي داء أدوأ من البخل ولكن سيدكم عمرو بن الجموح وكان عمرو يولم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج وعن علي رضي
____________________
(1/338)
الله عنه قال والله ما استقصى كريم قط حقه قال الله تعالى { فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض } وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين وقال ابن المعتز أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه بيان الإيثار وفضله
اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات فأرفع درجات السخاء الإيثار وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج والبذل مع الحاجة أشد وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ولو وجدها مجانا لأكلها فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه فانظر ما بين الرجلين فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } فقد روي أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد عجب الله من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم ونزلت { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى والإيثار أعلى درجات السخاء وكان ذلك من دأب
____________________
(1/339)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سماه الله تعالى عظيما فقال تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم }
قيل خرج عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم قال ما رأيت قال فلم آثرت به هذا الكلب قال ما هي بأرض كلاب إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت أن أشبع وهو جائع قال فما أنت صانع اليوم قال أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء إن هذا الغلام لأسخى مني فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه
وقال عمر رضي الله عنه أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلم يزل كل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول
وقال حذيفة العدوي انطلقت يوم اليرموك من أيام فتوح الشام أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه فإذا أنا به فقلت أسقيك فأشار إلي أن نعم فإذا رجل يقول آه فأشار ابن عمي إلي انطلق به إليه قال فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت أسقيك فسمع به آخر فقال آه فأشار هشام انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما
اعلم أن المال خلق لحكمة وهو صلاحه لحاجات الخلق فيمكن إمساكه عن
____________________
(1/340)
صرفه إلى ما خلق الصرف إليه ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه ويمكن التصرف فيه بالعدل وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ ويبذل حيث يجب البذل فالإمساك حيث يجب البذل بخل والبذل حيث يجب الإمساك تبذير وبينهما وسط هو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء وقد قيل له { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } وقال تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين البسط والقبض وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب ولا بد أن يكون قلبه طيبا به غير منازع له فيه ثم إن الواجب بذله قسمان واجب بالشرع وواجب بالمروءة والعادة والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة فإن منع واحدا منهما فهو بخيل ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة أو يؤديها ولكنه يشق عليه فإنه بخيل بالطبع أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله أو من وسطه فهذا كله بخل
ومن واجب المروءة ترك المضايقة والاستقصاء في المحقرات فإن ذلك مستقبح واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص فمن كثر ماله استقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة ويستقبح من الرجل المضايقة مع أهله وأقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب ويستقبح من الجار ما لا يستقبح مع البعيد ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة وبالجملة فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة ومن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون عن طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد فإنه يشتري المدح بماله ومثله من يبعثه عليه الخوف من الهجاء أو ملامة الخلق فإنه ليس من الجود لأنه مضطر إليه بهذه البواعث وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد
____________________
(1/341)
بيان علاج البخل
اعلم أن البخل سببه حب المال ولحب المال سببان
أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل
الثاني أن يحب عين المال ويلتذ بوجوده وإن علم أنه زائد عن حاجاته بقية عمره وقدمنا أن علاج كل علة بمضادة سببها فيعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم ويعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه وكم من ولد لم يرث من أبيه مالا وحاله أحسن ممن ورث وبأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر ويعالج قلبه أيضا بكثرة التأمل في الأخبار الواردة في ذم البخل ومدح السخاء وما توعد الله به على البخل من العقاب العظيم ومن الأدوية النافعة كثرة التأمل في أحوال البخلاء ونفرة الطبع عنهم واستقباحهم له فإنه ما من بخيل إلا ويستقبح البخل من غيره ويستثقل البخيل من أصحابه فيعلم أنه مستثقل ومستقذر في قلوب الناس مثل سائر البخلاء في قلبه ويعالج قلبه أيضا بأن يتفكر في مقاصد المال وأنه لماذا خلق فلا يحفظ منه إلا قدر حاجته والباقي يدخره لنفسه في الآخرة بأن يحصل له ثواب بذله فهذه الأدوية من جهة المعرفة والعلم فإذا عرف بنور البصيرة أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلا فإذا تحركت الشهوة فينبغي أن يجيب الخاطر الأول ولا يتوقف فإن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه
____________________
(1/342)
كتاب ذم الجاه والرياء
اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم بل المحمود الخمول إلا من شهره الله لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه قال الله تعالى { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا } جمع بين إرادة الفساد والعلو في الأرض وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعا وقال عز وجل { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } وهذا أيضا متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها وفي الحديث حسب امرئ من الشر أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وروي في فضيلة الخمول عنه صلى الله عليه وسلم رب أشعت أغبر ذي طمرين
____________________
(1/343)
لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وعنه صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر جواظ والأخبار في مذمة الشهرة وفضيلة الخمول كثيرة ومعلوم أن المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب وحب الجاه منشأ كل فساد ثم إن المذموم هو طلب الشهرة والحرص عليها فأما وجودها من الله تعالى من غير تكلف من العبد فليس بمذموم بيان الحد الذي يباح فيه الجاه
اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها أي القدرة على التصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه فحكم الجاه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا وينقطع بالموت والدنيا مزرعة الآخرة فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة فحب الجاه والمال لأجل التوسل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية وما لم يتوصل إلى اكتسابه بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام
والقول الفصل في طلب المنزلة والجاه في قلوب الناس أن يقال يطلب ذلك على ثلاثة أوجه وجهان مباحان ووجه محظور
____________________
(1/344)
أما الوجه المحظور فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة
وأما أحد المباحين فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه وسلم في ما أخبر عنه الرب تعالى { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما وكان محتاجا إليه وكان صادقا فيه
والثاني أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به فهذا أيضا مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز ولا يجوز هتك الستر كالذي يخفي عمن يريد استئجاره أنه يشرب الخمر ولا يلقي إليه أنه ورع فإن قوله إني ورع تلبيس وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب
ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده فإن ذلك رياء وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله فكيف يكون مخلصا فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية وذلك يجري مجرى اكتساب المال بالحرام من غير فرق وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال سبب حب المدح وبغض الذم
لا يعرف طريق العلاج لذلك ما لم يعرف سببه لأن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض
لحب المدح والتذاذ القلب به أسباب
الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال ومهما شعرت بكمالها ارتاحت واهتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها
السبب الثاني أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ
____________________
(1/345)
الثالث أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لا سيما إذا كان ممن يعتد بثنائه في ملأ فيكون المدح ألذ والذم أشد على النفس فأما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم بعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وما بعدها فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه فبطلت اللذات كلها بيان علاج حب الجاه
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتودد إليهم والمراءاة لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب فإذن حب الجاه من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب وعلاجه مركب من علم وعمل أما العلم فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على قلوب الناس إن صفا وسلم فآخره الموت فليس هو من الباقيات الصالحات فلا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها وأما العمل فبأن يأنس بالخمول ليسقط من نفوسهم ويستعين عليه بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول وينظر في أحوال السلف وإيثارهم ثواب الآخرة على زخرف الدنيا بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم
اعلم أن أكثر الخلق إنما هلكوا بخوف مذمة الناس وحب مدحهم فصارت حركاتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفا من الذم وذلك من المهلكات فيجب معالجته وطريقه ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم فمن الأسباب استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا فإن كنت متصفا بها فإن كانت كالثروة والجاه فهذه لا تستحق المدح فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيما تذروه الرياح وهذا من قلة
____________________
(1/346)
العقل وإن كانت كالعلم والورع فهذه وإن استحقت المدح إلا أنه لا ينبغي الفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون
ومن الأسباب الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح وهو أيضا يرجع إلى قدرة عارضة لا ثبات لها ولا تستحق الفرح بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به كما نقل ذلك عن السلف لأن آفات المدح على الممدوح عظيمة كما تقدم في آفات اللسان وقال النبي صلى الله عليه وسلم مرة للمادح ويحك قصمت ظهره بيان علاج كراهة الذم
يفهم ذلك مما تقدم والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال إما قد يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة وإما أن يكون صادقا ولكن قصده الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذبا
فإن كان صادقا وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه بل ينبغي أن تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه فينبغي أن تفرح به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها فأما اغتمامك بسببه وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل
وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلا به لتقلع عنه وذلك من أسباب سعادتك فينبغي أن تفرح به لأن تنبهك بقوله غنيمة وجميع مساوئ الأخلاق مهلكة في الآخرة والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن تغتنمه وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به
الحالة الثالثة أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا تشتغل بذمه بل تتفكر في ثلاثة أمور
أحدها إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه وما ستره الله من عيوبك أكثر فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه
والثاني أن ذلك كفارة لبقية مساوئك وذنوبك وكل من اغتابك فقد أهدى
____________________
(1/347)
إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله
وأما الثالث فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه كما قال صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد
ومما يهون عليك كراهية المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبك وأصل الدين القناعة وبهما ينقطع الطمع عن المال والجاه وما دام الطمع قائما كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالبا وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب الجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جدا بيان ذم الرياء
وهو طلب الجاه والمنزلة بالعبادات اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار
أما الآيات فقوله تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون } وقوله عز وجل { والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور } قال مجاهد هم أهل الرياء وقال تعالى { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } فمدح
____________________
(1/348)
المخلصين بنفي كل إرادة سوى وجه الله والرياء ضده وقال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } نزل ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك وقال صلى الله عليه وسلم إن أخوف ما اخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جاز العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء وقال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله عز وجل عملا فيه مثقال ذرة من رياء وقال صلى الله عليه وسلم إن أدنى الرياء شرك وقال صلى الله عليه وسلم إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلا تصدق بيمينه فكان يخفيها عن شماله ولذلك ورد إن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفا
____________________
(1/349)
وروي أن المسيح عليه السلام كان يقول إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلى فليرخ ستر بابه
ومن الآثار ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا يطأطئ رقبته فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو أمامة الباهلي رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال أنت أنت لو كان هذا في بيتك وقال الضحاك لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم فإن الله تعالى لا شريك له بيان حقيقة الرياء وجوامع ما يراءى به
اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير والمراءى به كثير ويجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهو البدن والزي والقول والعمل والأتباع والأشياء الخارجة فأما الرياء في الدين بالبدن فكإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين غلبة خوف الآخرة وكتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر ومثله خفض الصوت وإغارة العينين ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم أو متوقر للدين أو ضعيف القوة من الجوع وعن هذا روي إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء
وأما الرياء بالهيئة والزي فمثل تشعيث الشعر وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة ومقتد بالصالحين ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبها بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن ومنه التقنع فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ومنه الطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم
____________________
(1/350)
ليوهم أنه من أهل العلم والمراؤون بالزي على طبقات كل طبقة منهم يرى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه وإلى ما فوقه وإن كان مباحا بل هو عنده بمنزلة الذبح وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريقة ورغب في الدنيا
وأما الرياء بالقول فرياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لإظهار شدة العناية بأحوال الصالحين وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام والمبادرة إلى أن الحديث صحيحأو غير صحيح لإظهار الفضل فيه والمجادلة على قصد إفحام الخصم
وأما الرياء بالعمل فكمراءاة المصلي بطول القيام وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات
وأما المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يتكلف أن يستزير عالما من العلماء ليقال إن فلانا قد زار فلانا أو عابدا من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه أو أميرا من الأمراء ليقال إنهم يتبركون به وكالذي يكثر ذكر الشيوخ وطواف البلاد ليتباهى عند خصمه
فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد لاعتقاده أنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال
ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس مع ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد ومنهم من يريد انتشار الصيت ومنهم من يريد الاشتهار عند الأمراء لتقبل شفاعته فيقوم له جاه عند العامة ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو كان من الحرام وهؤلاء شر طبقات المرائين حكم الرياء
اعلم أن الرياء إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فأما المراءاة بما ليس من العبادات فقد تكون مباحة كتسوية العمامة والشعر وتحسين الثوب لئلا تزدريه أعين الناس واحترازا من ألم المذمة وطلبا لراحة الأنس بالإخوان وقد تكون طاعة كما
____________________
(1/351)
إذا كان متبوعا وعمله المذكور يرغب في اتباعه واستمالة القلوب إليه وقد تكون مذمومة كما إذا حملت على ما لا يجوز أو دعت إلى أمور محظورات وبالجملة فحكمها تابع للغرض المطلوب بها وأما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فالمرائي فيها يبطل عبادته ويعصي ويأثم والمعني فيه أمران
أحدهما يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل اليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك
الثاني يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله كما ورد ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواريه أو غلام من غلمانه فإن هذا استهزاء بالملك إذا لم يقصد التقرب إليه بخدمته بل قصد بذلك عبدا من عبيده فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضرا ولا نفعا وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله وأنه أولى بالتقرب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى فهذا من كبائر المهلكات ولذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله وعن هذا كان شركا خفيا وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من مصالح حاله أكثر مما يملكه الله تعالى مع أن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لها ضرا ولا نفعا فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا فكيف في يوم { لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا } بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله تعالى درجات الرياء
اعلم أن أغلظ أنواع الرياء هو الرياء بأصل الإيمان وصاحبه مخلد في النار وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب وهذا هو النفاق المذكور
____________________
(1/352)
في القرآن الكريم في مواضع شتى وذلك مما يقل في زماننا ويلحق به من يجحد الجنة والنار والدار الآخرة أو يعتقد طي بساط الشرع والأحكام ميلا إلى أهل الإباحة أو يعتقد كفرا وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المنافقين المرائين المخلدين في النار
وقسم من الرياء دون الأول بكثير كمن يحضر الجمعة أو الصلاة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة لكن خوفا من الناس أو يزكي أو يحج كذلك فيكون خوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت
وقسم يرائي بالنوافل يكسل عنها في الخلوة ثم يبعثه الرياء على فعلها كحضور الجماعة وعيادة المريض واتباع الجنازة وصوم عرفة وعاشوراء خوفا من المذمة وطلبا للمحمدة ويعلم الله تعالى أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض وهذا أيضا عظيم ولكن دون ما قبله
وقسم يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفا من مذمته وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالا لعبادة الصوم خوفا من المذمة فهذا أيضا من الرياء المحظور لأن فيه تقديما للمخلوقين على الخالق فإن قال المرائي إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فيقال له هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك فإن ضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك فلو كان باعثك الدين لكانت شفقتك على نفسك أكثر
وقسم يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة في القراءة على الصورة المعتادة وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه
وقسم يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضا كحضوره الجماعة قبل
____________________
(1/353)
القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يراءى به وبعضه أشد من بعض والكل مذموم بيان المراءى لأجله
اعلم أن للمرائي مقصودا لا محالة وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض وله درجات
أشدها أن يكون مقصوده التمكن من معصية كالذي يرائي بعباداته ويظهر التقوى والورع وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى منصبا أو يسلم إليه تفرقة مال ليستأثر بما قدر عليه منه أو يودع الودائع فيأخذها أو يتوصل إلى التحبب بامرأة لفجور ونحوه أو يحضر مجالس العلم والتذكير وقصده النظر لأمرد فهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته ويقرب منهم من يقترف جريمة وهو مصر عليها فيظهر التقوى لينفي التهمة عن نفسه
ثانيها أن يكون غرضه نيل حظ من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة كالذي يظهر العلم والعبادة ليرغب في تزويجه أو إعطائه فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول
الثالثة أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خوفا من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلا فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار
وكذلك يسبق إلى الضحك أو يبدو منه المزاح فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح ويتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئا من ذلك وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء فلا يشرب خوفا من أن يعلم الناس أنه غير صائم أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بإني صائم ولكن يقول لي عذر وهو جمع بين خبيثين فإنه يري أنه صائم ثم يري أنه مخلص
____________________
(1/354)
ليس بمراء وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائيا فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذرا تصريحا أو تعريضا بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم أو يقول أفطرت تطييبا لقلب فلان لأنه محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بدا من تطييب قلبه ومثل أن يقول إن أبوي أو أحدهما يشفقان علي يظنان أن لو صمت لمرضت فلا يدعاني أصوم فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى الإنسان إلا لرسوخ عرق الرياء في الباطن
أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبسا وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه ومن أشد المهلكات بيان الرياء الخفي الذي هوأخفى من دبيب النمل
اعلم أن الرياء جلي وخفي فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه وأخفى منه قليلا هو ما لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضا ولكنه مع ذلك مستبطن في القلب وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور ولولا التفات القلب إلى الناس ما ظهر سروره عند اطلاع الناس فلقد كان الرياء مستكنا في القلب استكنان النار في الحجر فأظهر منه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتا وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضيا خفيا أن يتكلف سببا يطلع عليه بالتعريض أو بالشمائل كخفض
____________________
(1/355)
الصوت وآثار الدموع وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الإطلاع ولا يسر بظهور طاعته ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعادا في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن خاليا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون
ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي يجتهدون في إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في يوم القيامة بإخلاصهم إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزي والد عن ولده
فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ومهما أدرك من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فلو كان مخلصا لما بالى بالناس لعلمه أنهم لا يقدرون على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب
فإن قلت فما نرى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم فنقول السرور منقسم إلى محمود ومذموم فالمحمود مثل أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به وألطافه به إذ لا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا }
ومثل أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون له أجر العلانية بما اظهر وأجر السر بما قصده أولا ومن اقتدي به في طاعة فله
____________________
(1/356)
مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور
ومثل أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع وبميل قلوبهم إلى الطاعة فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله وعلامة الإخلاص في هذا الورع أن يكون فرحه بحمدهم غيره مثل فرحه بحمدهم إياه
وأما السرور المذموم فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجه ويقابلوه بالإكرام فهذا مكروه بيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط
إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالما عن الرياء إلا إذا ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به وأظهره فهذا مخوف وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه محبط وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من العمل وكان عقد على الإخلاص فإن كان مجرد سرور فلا يؤثر في العمل وإن كان رياء باعثا على العمل وختم العبادة به حبط أجره لأن الواجب عليه أداء عمل خالص لوجه الله والخالص ما لا يشوبه شيء فلا يكون مؤديا للواجب مع هذا الشوب وأما الرياء الذي يقارن حال العقد كأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء فإن استمر عليه حتى سلم فلا خلاف في أنه يقضي ولا يعتد بصلاته وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر ورجع قبل التمام فالأرجح أنه لا تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف لأن باعثه في الرياء في ابتداء العقد دون امتثال الأمر فلم ينعقد افتتاحه فلم يصح ما بعده بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه
عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته
وفي علاجه مقامان
أحدهما قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه
____________________
(1/357)
والثاني دفع ما يخطر منه في الحال المقام الأول في قلع عروقه وأصوله
وأصله حب المنزلة والجاه وإذا فصل رجع إلى ثلاثة أصول وهي حب لذة المحمدة والفرار من ألم الذم والطمع فيما في أيدي الناس فهذه الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء وعلاجه أن يعلم مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله تعالى وما يتعرض له من العقاب والمقت الشديد والخزي الظاهر فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط عليه من ثواب الأعمال فإنه يسهل عليه قطع الرغبة عنه كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سما أعرض عنه ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمدهم رزقا ولا أجلا ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد وقد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته وأما ذمهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئا ما لم يكتب الله عليه ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة ولا يبغضه إلى الله إن كان محمودا عند الله فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه والعاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه فهذا من الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش فلا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله به المقام الثاني في دفع العارض منه أثناء العبادة
وذلك لا بد أيضا من تعلمه فإن من جاهد نفسه بقلع مغارس الرياء وقطع الطمع واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فقد لا يتركه الشيطان في أثناء العبادة بل يعارضه بخطرات الرياء فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق دفع ذلك بأن قال ما
____________________
(1/358)
لك وللخلق علموا أو لم يعلموا والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد ذكر ما رسخ في قلبه من قبل آفة الرياء وتعرضه للمقت الإلهي وخسرانه الأخروي بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات
اعلم أن في إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء قال الحسن إن السر أحرز العملين ولكن في الإظهار أيضا فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والإظهار قسمان
أحدهما في نفس العمل والآخر بالتحدث بما عمل
القسم الأول إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم من سن سنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيره ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب فالسر أفضل من علانية لا قدوة فيها أما العلانية للقدوة فأفضل من السر ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وقوله عليه السلام له أجرها واجر من عمل بها ولكن على من يظهر العمل وظيفتان
إحداهما أن يظهره حيث يعلم أن يقتدى به أو يظن ظنا ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق وربما يقتدي به أهل محلته وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من
____________________
(1/359)
غير فائدة وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به
الثانية أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه إلى الإظهار بعذر الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه مقتدى به فليحذر العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا والسلامة في الإخفاء وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء
القسم الثاني أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في هذا أشد لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة وللنفس لذة في إظهار الدعاوي عظيمة إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون والحكم فيه أن من قوي قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز بل مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات لأنه ترغيب في الخير والترغيب في الخير خير وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء بيان الخطأ في ترك الطاعات خوفا من الرياء
من الناس من يترك العمل خوفا من أن يكون مرائيا به وذلك غلط وموافقة للشيطان وجر إلى البطالة وترك للخير فما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على قلبك بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل فإن قال لك الشيطان أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهية الرياء وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى وإن لم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك
____________________
(1/360)
بيان ما على المريد قبل العمل وبعده وفيه
اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع طاعاته ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله لا يرجو إلا الله فأما من خاف غيره وارتجاه اشتهى اطلاعه على محاسن أحواله فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت وإحباط العمل وليراقب نفسه عند الطاعات العظيمة الشاقة فإن النفس تكاد تغلي حرصا على الإفشاء فينبغي أن يثبت قدمه ويتذكر في مقابلة عظم عمله ملك الآخرة ونعيم الجنة أبد الآباد وعظم غضب الله على من طلب بطاعته ثوابا من عباده ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلا من عمله خائفا أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه فيكون شاكا في قبوله ورده مجوزا أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها ويكون هذا الشك والخوف في دوام عمله وبعده وأما في الابتداء فيكون متيقنا أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه
والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة العلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه فإن ذلك يحبط الأجر فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكبر باستتباعه أو ترددا منه في حاجة فقد أخذ أجره فلا ثواب له غيره نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره ولكن خدمه التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذا كان لا يريده ولا يستبعده منه لو قطعه ويجب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله ويتعلم لله ويعبد لله ويخدم المعلم لله لا يكون له في قلبه منزلة ولا في قلب الخلق فإن العباد أمروا ألا يعبدوا إلا الله ولا يريدوا بطاعتهم غيره
وأما المعتزل عن الناس فينبغي له أن يلزم قلبه ذكر الله والقناعة بعلمه ولا يخطر بقلبه معرفة الناس زهده واستعظامهم محله فإن ذلك يغرس الرياء في صدره حتى تتيسر عليه العبادات في خلوته به وإنما سكونه لمعرفة الناس باعتزاله واستعظامهم لمحله وهو ولا يدري أنه المخفف للعمل عليه فاستشعار النفس عز
____________________
(1/361)
العظمة في القلوب يكون باعثا في الخلوة فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة فلو تغيروا عن اعتقادهم به لم يجزع ولم يضق به ذرعا إلا كراهة ضعيفة إن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه ولو كان في عبادة واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعا ولم يدخله سرور بسبب إطلاعهم عليه ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عن إقبال الغني زيادة هزة في نفسه لإكرامه إلا إذا كان في الغني زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرما له بذلك الوصف لا بالغنى فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع
ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى الله من قلبك وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات منغصة في أيام متقاربة
____________________
(1/362)
كتاب ذم الكبر والعجب ما ورد في ذم الكبر
قال تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } وقال تعالى { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } وقال تعالى { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } وقال تعالى { إنه لا يحب المستكبرين } وقال { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }
وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر وقال عليه السلام يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن
____________________
(1/363)
نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة بخيل ولا جبار وقال صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا وجاء في فضل التواضع قوله صلى الله عليه وسلم ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله وعنه صلى الله عليه وسلم طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة وعنه عليه السلام من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله
وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته ولو سمعته من أجهل الناس قبلته بيان حقيقة الكبر وآفته
اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس والظاهر هو أعمال تصدر من الجوارح وتلك الأعمال أكثر من أن تحصى وآفته عظيمة وغائلته هائلة وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال
____________________
(1/364)
ذرة من كبر وإنما صار حجابا دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها لأن المتكبر لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين ولا يقدر على ترك الحقد ولا يقدر أن يدوم على الصدق ولا يقدر على ترك الغضب ولا يقدر على كظم الغيظ ولا يقدر على ترك الحسد ولا يقدر على النصح اللطيف ولا يقدر على قبول النصح ولا يسلم من الإزراء بالناس ومن اغتيابهم وبالجملة فما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ به عزه وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له وفيه وردت الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين
ومنشؤه استحقار الغير وازدراؤه واستصغاره ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بهاتين الآفتين بقوله الكبر بطر الحق وغمص الخلق أي ازدراؤهم واستحقارهم وهم عباد الله أمثاله أو خير منه وهذه الآفة الأولى وبطر الحق هو رده وهي الآفة الثانية فكل من رأى أنه خير من أخيه واحتقر أخاه وازدراه ونظر إليه بعين الاستصغار أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر ونازع الله في حقه
ووجه الآفة الأولى أن الكبر والعز والعظمة لا تليق إلا بالملك القادر فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر واستعظام النفس واستحقار الغير فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله ومثاله أن يأخذ الغلام تاج الملك فيضعه على رأسه ويجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال وما أشد استجراءه على مولاه وما أقبح ما تعاطاه فالخلق كلهم عباد الله وله العظمة والكبرياء عليهم فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه
ووجه الآفة الثانية أن من سمع الحق من عبد من عباد الله واستنكف عن قبوله وتشمر لجحده فما ذاك إلا للترفع والتعاظم واستحقار غيره حتى تأبى أن ينقاد له وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين إذ وصفهم الله تعالى فقال { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }
____________________
(1/365)
) فكل من يتضح له الحق على لسان أحد ويأنف من قبوله أو يناظر للغلبة والإفحام لا ليغتنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق وكذلك من تحمله الأنفة على عدم قبول الوعظ كما قال تعالى { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم } بيان ما به التكبر
اعلم أنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني هو العلم والعمل والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار فهذه سبعة أسباب
الأول العلم وما أسرع الكبر إلى بعض العلماء فلا يلبث أن يستشعر في نفسه كمال العلم فيستعظم نفسه ويستحقر الناس ويستجهلهم ويستخدم من خالطه منهم وقد يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم وسبب كبره بالعلم أمران
أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما في الحقيقة فإن العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر قال تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء }
ثانيهما أن يخوض في العلم وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيئ الأخلاق فإنه لم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات فبقي خبيث الجوهر فإذا خاض في العلم صادف العلم من قلبه منزلا خبيثا فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره وقد ضرب وهب لهذا مثلا فقال العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المر مرارة والحلو كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة
____________________
(1/366)
حلاوة فكذلك العلم يحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها فيزيد المتكبر كبرا والمتواضع تواضعا وهذا لأن من كانت همته الكبر هو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبرا وإذا كان الرجل خائفا مع علمه فازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه فيزداد خوفا
الثاني العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة الكبر واستمالة قلوب الناس العباد فيترشح منهم الكبر في الدين والدنيا أما في الدنيا فهو أنهم يتوقعون ذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس وكأنهم يرون عبادتهم منة على الخلق وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا وهو الهالك تحقيقا مهما رأى ذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله مغتر آمن من مكره غير خائف من سطوته وكيف لا يخاف ويكفيه شرا احتقاره لغيره قال صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء شرا أن يحقر أخاه المسلم وكثير من العباد إذا استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له ولا يشك في أنه صار ممقوتا عند الله وذلك لعظم قدر نفسه عنده وهو جهل وجمع بين الكبر والعجب والاغترار بالله وقد ينتهي الحق والغباوة ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول سترون ما يجري عليه وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من كراماته وأن الله ما أراد إلا الانتقام له مع أنه يرى طبقات من الكفار يسبون الله ورسوله وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من قتلهم ومنهم من ضربهم ثم إن الله أمهل أكثرهم ولا يعاقبهم في الدنيا بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة أفيظن هذا الجاهل المغرور أنه أكرم على الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لم ينتقم لأنبيائه به ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله السلف بعد انصرافه من عرفات كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم فانظر إلى الفرق بين الرجلين هذا يتقي الله ظاهرا وباطنا وهو وجل على نفسه مزدر لعمله وذاك يضمر من الرياء والكبر والغل ما هو ضحكة للشيطان به ثم إنه يمتن على الله بعمله ومن آثار الكبر في العابد أن يعبس وجهه
____________________
(1/367)
كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا في الذيل حتى يضم إنما الورع في القلوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التقوى ههنا وأشار إلى صدره فقد كان صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقا وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا كما قال تعالى { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }
الثالث التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا وعلما وقد يتكبر بعضهم فيأنف من مخالطة الناس ومجالستهم وقد يجري على لسانه التفاخر به فيقول لغيره من أنت ومن أبوك فأنا فلان ابن فلان ومع مثلي تتكلم وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه قال قاولت رجلا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له يا ابن السوداء فغضب صلى الله عليه وسلم وقال يا أبا ذر ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل فقال أبو ذر فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي فانظر كيف نبهه صلى الله عليه وسلم على أن ذلك جهل وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل
الرابع التفاخر بالجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس
الخامس الكبر بالمال وذلك يجري بين الأمراء والتجار في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه وكل ذلك جهل بفضيلة الفقر وآفة الغنى
السادس الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف
السابع التكبر بالأتباع والأنصار والعشيرة والأقارب
فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض
____________________
(1/368)
نسأله تعالى العون بلطفه ورحمته بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر
اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ونظره شزرا وإطراقه رأسه وجلوسه متربعا أو متكئا وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد ويظهر في مشيته وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه ومنها أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه ومنها أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع ومنها أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته والتواضع خلافه روي أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف أقوم إلى المصباح فأصلحه فقال ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه قال أفأنبه الغلام فقال هي أول نومة نامها فقام وملأ المصباح زيتا فقال الضيف قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين فقال ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء وخير الناس من كان عند الله متواضعا
ومنها أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته وهو خلاف عادة المتواضعين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وقال علي لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله ومنها اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع وعلامة المتكبر فيه حرصه على التزين للناس للشهرة والمخيلة وأما طلب التجمل لذاته في غير سرف ولا مخيلة فليس من الكبر والمحبوب الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة بالجودة ولا بالرداءة وقد قال صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ومنها أن يتواضع بالاحتمال إذا
____________________
(1/369)
سب وأوذي وأخذ حقه فذلك هو الأصل
وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيه فينبغي أن يقتدى به ومنه ينبغي أن يتعلم
وقد قال ابن أبي سلمة قلت لأبي سعيد الخدري ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم فقال يا ابن أخي كل لله واشرب لله والبس لله وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كان يحلب الشاة ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويشتري الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده يصافح الغني والفقير ويسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير يجيب إذا دعي ولا يحقر ما دعي إليه لين الخلق جميل المعاشرة طليق الوجه شديد في غير عنف متواضع في غير مذلة جواد من غير سرف رقيق القلب زادت عائشة رضي الله عنها وإنه صلى الله عليه وسلم لم يمتلئ قط شبعا ولم يبث إلى أحد شكوى وإن كانت الفاقة لأحب إليه من اليسار والغنى
فمن طلب التواضع فليقتد به صلى الله عليه وسلم ومن لم يرض لنفسه بذلك فما أشد جهله فلقد كان أعظم خلق الله منصبا في الدنيا والدين فلا عز ولا رفعة إلا في الاقتداء به بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع
اعلم أن الكبر من المهلكات وإزالته فرض عين ولا يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة وفي معالجته مقامان
أحدهما قلع شجرته من مغرسها في القلب
الثاني دفع العارض منه بالأسباب التي قد يتكبر بها
____________________
(1/370)
المقام الأول في استئصال اصله
علاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما
أما العلمي فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا التواضع وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وأما معرفته نفسه فهو أيضا يطول ولكنا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته قال تعالى { قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره } فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا وقد كان في حيز العدم دهورا وأي شيء أخس من العدم ثم خلقه الله من أقذر الأشياء إذ خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظما ثم كسا العظم لحما فهذا بداية وجوده فما صار شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت إذ لم يخلق في إبتدائه كاملا بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلاله قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل قدرته فهذا معنى قوله تعالى { من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره } ثم امتن عليه فقال { ثم السبيل يسره } وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد عدمها ليعرف خسة ذاته فيعرف بها ذاته فيعرف بها نفسه وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا فمن كان هذا بدءه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء وهو على التحقيق أضعف الضعفاء ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره
____________________
(1/371)
لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض والآفات يهدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى فيجوع كرها ويعطش كرها ويمرض كرها ويموت كرها لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا يريد أن يعلم الشيء فيجهله ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله ويختطف روحه ويسلب جميع ما يهواه في دنياه فهو مضطر ذليل إن ترك بقي وإن اختطف فني عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ولا شيء من غيره فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه وأنى يليق الكبر به لولا جهله فهذا وسط أحواله فليتأمله وأما آخره فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى { ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره } ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود جمادا كما كان أول مرة لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة ثم تبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه ويأكل الدود أجزاءه فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه الحيوان ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان وليته بقي كذلك فما أحسنه لو ترك لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلا فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء مشققة ممزقة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد وجهنم تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة فيقال له اقرأ كتابك فيقول وما هو فيقال كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تتكبر بنعيمها وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما تنطق به أو تعمله من قليل أو كثير وصغير وكبير قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو تساق إلى دار العذاب فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من مخازيه فإذا شاهده قال { يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } فهذا آخر أمره وهو معنى قوله تعالى { ثم إذا شاء أنشره } فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم بل
____________________
(1/372)
ماله وللفرح فضلا عن البطر فقد ظهر له أول حاله ووسطه ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يصير مع البهائم ترابا ولا يكون إنسانا يسمع خطابا أو يلقى عذابا فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو فكيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر حقا يكفيه ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر
وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين كما وصفناه من شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أحوال الصالحين ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا وقيل الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عمادا ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما وبالركوع وبالسجود وقد كان العرب قديما يأنفون من الانحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم وبه أمر سائر الخلق المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المتقدمة
ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي ونحن نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع أسبابه السبعة
الأول النسب فمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أن هذا جهل من حيث أنه تعزز بكمال غيره ومن كان خسيسا فمن أين تجبر خسته بكمال غيره وبمعرفة نسبه الحقيقي أعني أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده البعيد تراب وقد عرف الله تعالى نسبه فقال { وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } فإذا كان أصله من التراب وفصله من النطفة فمن أين تأتيه الرفعة فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ومن عرفه لا يتكبر بالنسب
____________________
(1/373)
الثاني الكبر بالجمال ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال إذ خلق من أقذار ووكل به في جميع أجزائه الأقذار وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار وجماله لا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمحت بهذه الأسباب فمعرفة ذلك تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها
الثالث الكبر بالقوة ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط الله عليه من العلل والأمراض وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز أو أن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته وأن حمى يوم تحلل من قوته ما لا ينجبر في مدة فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة فلا ينبغي أن يفتخر بقوته ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل وأي افتخار في صفة يسبقك بها البهائم
السبب الرابع والخامس الغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بالمناصب والولايات وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان وهذا أقبح أنواع الكبر فلو ذهب ماله أو احترقت داره لعاد ذليلا وكم في اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل فأف لشرف يسبقه به يهودي أو يأخذه سارق في لحظة فيعود ذليلا مفلسا
السادس الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وعلاجه بأمرين
أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وخطره أعظم
ثانيهما أن يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده وأنه إذا تكبر صار ممقوتا عند الله بغيضا فهذا مما يزيل التكبر ويبعث على التواضع وإذا دعته نفسه للتكبر على فاسق أو مبتدع فليتذكر ما سبق من ذنوبه وخطاياه لتصغر نفسه في عينه وليلاحظ إبهام عاقبته وعاقبة الآخر فلعله يختم له بالسوء ولذاك بالحسنى حتى يشغله الخوف عن التكبر عليه ولا يمنعه ترك التكبر عليه أن يكرهه ويغضب لفسقه بل يبغضه ويغضب لربه إذ أمره أن يغضب عليه من غير تكبر عليه
السابع التكبر بالورع والعبادة وذلك فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد قال وهب بن منبه ما تم عقل عبد حتى
____________________
(1/374)
يكون فيه خصال وعد منها خصلة قال بها ساد مجده وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه وإنما الناس عنده فرقتان فرقة هي أفضل منه وأرفع وفرقة هي شر منه وأدنى فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه وإن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به وإن رأى من هو شر منه قال لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفا من العاقبة ويقول لعل بر هذا باطن فذلك خير له ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال وبري ظاهر فذلك شر لي فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها قال فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه
والذي يدل على فضيلة هذا الإشفاق قوله تعالى { يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } وقال تعالى { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات بالدؤوب على الإشفاق فقال تعالى مخبرا عنهم { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } { وهم من خشيته مشفقون } فمتى زال الإشفاق والحذر غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك والتواضع دليل الخوف وهو مسعد
فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال
فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة فإذا وقعت الواقعة عادت إلى
____________________
(1/375)
طبعها فعن هذا لا ينبغي أن يكتفى في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر من النفس وبيانه أن يمتحن النفس بالامتحانات الدالة على استخراج ما في الباطن والامتحانات كثيرة فمنها وهو أولها أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والشكر له على تنبيهه فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول ما أحسن ما فطنت له وقد كنت غافلا عنه فجزاك الله خيرا كما نبهتني له فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له قبوله ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر
الامتحان الثاني أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم فإن ثقل ذلك عليه فهو متكبر فليواظب عليه تكلفا حتى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر
وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال أو يجلس بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع وهو عين الكبر فإن ذلك يخف على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر بإظهار التواضع أيضا بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بجنبهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن
الامتحان الثالث أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإن ثقل ذلك عليه فهو كبر فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر
الامتحان الرابع أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء
وكل ذلك من أمراض القلوب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك وقد أهمل
____________________
(1/376)
الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى { إلا من أتى الله بقلب سليم } بيان غاية الرياضة في خلق التواضع
اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان ووسط فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرا وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة والوسط يسمى تواضعا والمحمود أن يتواضع في غير مذلة وتخاسس فإن
( كلا طرفي قصد الأمور ذميم ** )
وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي وضع شيئا من قدره الذي يستحقه والعالم إذا دخل عليه دنيء فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وغدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهو أيضا غير محمود بل المحمود عند الله العدل وهو أن يعطي كل ذي حق حقه فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيرا منه فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره بيان ذم العجب وآفاته
اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا } ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال عز وجل { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال
____________________
(1/377)
تعالى { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وهذا أيضا يرجع إلى العجب بالعمل وقد يعجب الإنسان بعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال ابن مسعود الهلاك في اثنتين القنوط والعجب وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر والقانط لا يسعى ولا يطلب والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى وقد قال تعالى { فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تعتقدوا أنها بارة وقال تعالى { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } والمن نتيجة استعظام الصدقة واستعظام العمل هو العجب بيان آفة العجب
اعلم أن آفات العجب كثيرة فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى هذا مع العباد وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها فبعض ذنوبه لا يذكرها لظنه أنه مستغن عن تفقدها وما يتذكره منها فيستصغره فلا يجتهد في إزالته بل يظن أنه يغفر له وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها وذلك أن المعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان وأن له عند الله منة وحقا بأعماله التي هي نعمة من نعمه ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها وإن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة ومن
____________________
(1/378)
الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم منه وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره فيصر عليه ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويصر على خطاياه
فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يغتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه وقد استغنى وهو الهلاك الصريح نسأل الله العظيم حسن التوفيق لطاعته بيان علاج العجب على الجملة
اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده وعلة العجب الجهل المحض فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل وذلك أن المعجب بجماله أو قوته أو نسبه وما لا يدخل تحت اختياره إنما يعجب بما ليس إليه لأن كل ذلك من فضل الله وإنما هو محل لفيضان جوده تعالى فله الشكر والمنة لا لك إذ أفاض على عبده ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة فإذن منشأ العجب بذلك هو الجهل وإزالة ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كلها من عند الله تعالى نعمة ابتدأه بها قبل الاستحقاق وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من زوال النعمة قال الله تعالى { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا } قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو خير الناس ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ومهما غلب الخوف على القلب شغله خشية سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها وأنى لذي بصيرة أن يعجب بعمله ولا يخاف على نفسه فإذن هذا هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب
____________________
(1/379)
بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه
اعلم أن مجموع ما به العجب ثمانية أقسام
الأول أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته وحسن صوته وينسى أنه نعمة من الله تعالى وهو بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه التفكر في أقذار باطنه في أول أمره وفي آخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع
الثاني البطش والقوة كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم { من أشد منا قوة } وعلاجه أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه
الثالث العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضا عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره ويستقصر علمه وعقله وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا وإن اتسع علمه وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري فإن القاصر العقل لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد به عجبا
الرابع العجب بالنسب الشريف حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف ومذمة النفس ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب فليشرف بما شرفوا به ولذلك قال تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }
____________________
(1/380)
أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في اصل واحد ثم ذكر فائدة النسب فقال { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال صلى الله عليه وسلم إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية أي كبرها كلكم بنو آدم وآدم من تراب ولما نزل قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملا لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب قريش فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى بهم في التقوى والتواضع وإلا كان طاعنا في نسب نفسه بلسان حاله مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع والتقوى والخوف والإشفاق
الخامس العجب بنسب الأمراء وأعوانهم دون نسب العلم والدين وهذا غاية الجهل وعلاجه أن يتفكر في منكراتهم وما جروا على الناس من المحظورات فيشكر الله أن عصمه من تبعاتهم
السادس العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والعشيرة والأقارب كما قال الكفار { نحن أكثر أموالا وأولادا } وكما قال المؤمنون يوم حنين لا نغلب اليوم من قلة وعلاجه ما ذكرناه في الكبر وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم وأن كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ثم كيف يعجب وهم سيفارقونه إذا مات ودفن وحده ذليلا مهانا ويسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب ولا يغنون عنه
____________________
(1/381)
شيئا ويهربون منه يوم القيامة { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه } فكيف تعجب بمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك وكيف تتكل على من لا ينفعك وتنسى نعم من يملك نفعك وضرك
السابع العجب بالمال كما أخبر تعالى عن ذاك الكافر إذ قال { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال وينظر إلى فضيلة الفقراء وخفة حسابهم وكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بماله ولا يخلو من تقصير في القيام بحقوق المال من أخذه من حله ووضعه في حقه وأن مآل المتهور في الجمع والمنع إلى الخزي والبوار
الثامن العجب بالرأي الخطأ قال تعالى { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } وقال تعالى { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وقد أخبر رسول الله صلوات الله عليه أن بذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقا وكل معجب برأيه { كل حزب بما لديهم فرحون } وعلاجه أن يتهم رأيه أبدا فلا يغتر به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقل صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمير في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم ومع ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور والصواب لمن لم يتفرغ لاستغراق عمره في العلم أن لا يخوض في المذاهب بل يشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات والشفقة على المسلمين نسأله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من الاغترار بخيالات الجهال
____________________
(1/382)
كتاب ذم الغرور
إن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا وبقي في العمى فاتخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا ولما كان الغرور أم الشقاوات ومنبع الهلكات لزم شرح مداخله ومجاريه وتفصيل ما يكثر وقوع الغرور فيه ليحذره المريد بعد معرفته فيتقيه فالموفق من العباد من عرف مداخل الآفات والفساد فأخذ منها حذره وبنى على الحزم والبصيرة أمره بيان ذم الغرور وحقيقته
اعلم أن قوله تعالى { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } وقوله تعالى { ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني } الآية كاف في ذم الغرور وقال صلى الله عليه وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان فمن اعتقد أنه على
____________________
(1/383)
خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه فأكثر الناس إذن مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم
وأشد الغرور غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فأما غرور الكفار فقد أشير إليه في قوله تعالى { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } وعلاج هذا الغرور إما التصديق بالإيمان وإما بالبرهان أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } وفي قوله عز وجل { وما عند الله خير } وقوله { والآخرة خير وأبقى } وقوله { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك طوائف من الكفار فصدقوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان ومنهم من قال نشدتك الله أبعثك الله رسولا فكان يقول نعم فيصدق هذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور
وأما المعرفة بالبيان والبرهان فأن تعرف فساد ما وسوس به الشيطان من الغرور بالتبصر في دعوى الأنبياء والعلماء وتصديقهم فإنه أيضا يزيل الغرور وهو مدرك يقين العوام وأكثر الخواص ومثالهم مريض لا يعرف دواء علته وقد اتفق الأطباء وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه تطمئن نفس المريض إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين الطبية بل يثق بقولهم ويعمل به ولو بقي معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه عددا وأغزر منه فضلا وأعلم منه بالطب بل لا علم له بالطب فيعلم كذبه
____________________
(1/384)
بقولهم ولا يعتقد كذبهم بقوله ولا يغتر في علمه بسببه ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوها مغرورا فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن التقوى هي الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل وهم الأنبياء والحكماء والعلماء واتبعهم علية الخلق على أصنافهم وشذ منهم آحاد ممن غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم إلى التمتع فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا الآخرة وكذبوا الأنبياء فكما أن قول الصبي والمعتوه لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغبي الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة أقوال الأنبياء والعلماء وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الخلق وهو يقين جازم يستحث على العمل لا محالة والغرور يزول به
وأما غرور العصاة من المسلمين فبقولهم إن الله كريم وإنا نرجو عفوه واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين وأن نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم وأين معاصي العباد في بحار كرمه وإنا موحدون فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان مستدرجاتهم التمسك بصلاح الآباء وعلو رتبتهم كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع وظنهم أنهم أكرم على الله من آبائهم إذ آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى أينسى المغرور أن نوحا عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة فلم يرد فكان من المغرقين { فقال رب إن ابني من أهلي } فقال تعالى { يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } وأن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ويصير عالما بعلم أبيه ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه فالتقوى فرض عين فلا يجزي فيه والد عن ولده شيئا وكذا العكس بيان الغلط في تسمية التمني والغرور رجاء
فإن قلت فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته
____________________
(1/385)
ومغفرته وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ذلك فقال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه رجاء حتى خدع به الجهال وقد شرح الله الرجاء فقال { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال قال الله تعالى { جزاء بما كانوا يعملون } وقال تعالى { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريما يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم افتراه العقلاء في انتظاره متمنيا مغرورا أو راجيا وهذا للفرق بين الرجاء والغرة قيل للحسن قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم يترجحون فيها من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه
وكما أن الذي يرجو في الدنيا ولدا وهو بعد لم ينكح فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله ولم يعمل صالحا ولم يترك المعاصي فهو مغرور فكما أنه إذا نكح بقي مترددا في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات وترك السيئات وبقي مترددا بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه ويرجو أن يثبته حتى يموت على التوحيد ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا }
____________________
(1/386)
موضع الرجاء المحمود
فإن قلت فأين موضع الرجاء المحمود فاعلم أنه محمود في موضعين
أحدهما في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان وأنى تقبل توبتك فيقنطه من رحمة الله تعالى فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر أن الله يغفر الذنوب جميعا وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال تعالى { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور
الثاني أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } الآيات
فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء وكل رجاء أوجب فتورا في العبادة وركونا إلى البطالة فهو غرة كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل ففتره الشيطان عن التوبة والعبادة وقال له لك رب كريم فهذا غرة وعند هذا يجب أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ويقول إنه مع انه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله تعالى وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور وقد كان السلف يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وإنهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون
____________________
(1/387)
بكرم الله وعفوه كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينا فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم وقد قال تعالى { ولمن خاف مقام ربه جنتان } { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمنا بيان بعض أصناف المغترين
فمنهم فرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان لا يعذب مثلهم ولو نظروا بعين البصيرة لعلموا أن العلم إنما يراد لمعرفة الحلال والحرام ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل وقد ورد فيمن لا يعمل بعلمه ما فيه أشد الترهيب كقوله تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } فأي خزي أعظم من التمثيل بالحمار
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا عنها الصفات الذميمة من الكبر والحسد والرياء وطلب العلا وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاد والعباد فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فتعهدوا الأعمال وما تعهدوا القلوب والقلب هو الأصل إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم ومثال هؤلاء قبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها جيفة
____________________
(1/388)
وفرقة اقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح العباد وخصصوا اسم الفقه بها وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة فلم يتفقدوا الجوارح كاللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وسائر المهلكات فهؤلاء مغرورون من وجهين من حيث العمل ومن حيث العلم
أما من العمل فقد قدمنا أولا وجه الغرور فيه ومثالهم مثال المريض إذا تعلم نسخة الدواء واشتغل بتكرارها وتعليمها المرضى ولم يشتغل بشربها واستعمالها أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا هيهات هيهات فلا بد من شربه وصبره على مرارته على أنه بعد على خطر من شفائه
وأما غروره من حيث العلم فحيث اقتصر على علم المعاملات وظن أنه علم الدين وترك علم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما طعن في المحدثين وقال إنهم نقلة أخبار وحملة أسفار لا يفقهون وترك أيضا علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه عن الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته وهو الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على التقوى فإن الفقه هو الفقه عن الله ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى إذ قال تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم
وفرقة اشتغلوا بالوعظ والتذكير والتكلم في أخلاق النفس والزهد والإخلاص وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بها وهم منفكون عنها عند الله لحرصهم على السمعة وحسدهم لمن يتقدمهم من أقرانهم وغيظهم على من يثني على معاصريهم وجمعهم لحطام الدنيا فهؤلاء أعظم الناس غرة
وفرقة منهم قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها ولو في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه إذا حفظ كلام الزهاد فقد أفلح ونال الغرض وصار مغفورا له من غير أن يحفظ باطنه عن الآثام وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم
____________________
(1/389)
وفرقة اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة فأفنوا أعمارهم في ذلك وأعرضوا عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها كمن ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه وهو غرور إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف أدوات فاللب هو العمل والذي فوقه كالقشر للعمل فالقانعون به مغترون إلا من اتخذه منزلا فلم يعرج عليه إلا بقدر حاجته فتجاوزه حتى وصل إلى لباب العمل فحمل نفسه عليه فصفاها من الشوائب والآفات غرور أرباب العبادة وهم فرق عديدة
منهم فرقة تعمقوا حتى خرجوا إلى العدوان والسرف كالذي يغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرضى المحكوم بطهارته في الشرع ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة إذ توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال مخافة من الوقوع في الحرام
ومنهم فرقة غلب عليها الوسوسة في نية الصلاة فلا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة على زعمه وقد يوسوسون في التكبير حتى قد يغيرون صيغة التكبير لشدة الاحتياط فيه على زعمهم يفعلون ذلك في أول الصلاة ثم يغفلون في جميع الصلاة فلا يحضرون قلوبهم ويغترون بذلك ويظنون أنهم على خير عند ربهم
وفرقة تغلب عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء وتصحيح المخارج في جميع صلاته لا يهمه غيره ذاهلا عن معنى القرآن والاتعاظ به وصرف الفهم إلى أسراره وهذا من أقبح أنواع الغرور فإنه لم يكلف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى مجلس سلطان وأمر أن يؤديها على وجهها فأخذ يؤدي الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو في ذلك غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فما أحراه بأن يقام عليه التأديب ويحكم عليه بفقد العقل
____________________
(1/390)
وفرقة اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليلة مرة ولسان أحدهم يجري وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه ومثاله مثال عبد كتب إليه مولاه كتابا وأشار عليه فيه بالأوامر والنواهي فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما أمره به مولاه إلا أنه يكرر الكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق للعقوبة ومهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور نعم تلاوته إنما تراد لكيلا ينسى بل لحفظه وحفظه يراد لمعناه ومعناه يراد للعمل به والانتفاع بمعانيه وقد يكون له صوت طيب فهو يقرؤه ويلتذ به ويغتر باستلذاذه ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله تعالى وسماع كلامه وإنما هي لذته في صوته فليتفقد قلبه وليخش ربه
وفرقة اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبواطنهم عن الحرام عند الإفطار وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل الفرائض ويطلب النفل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور
وفرقة اغتروا بالحج فيخرجون إلى الحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجة الإسلام ويضيعون في الطريق الصلاة والفرائض ولا يحذرون من الرفث والخصام ثم يحضر البيت بقلب ملوث بذميم الأخلاق لم يقدم تطهيره على حضوره وهو مع ذلك يظن أنه على خير من ربه فهو مغرور
وفرقة جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بذلك ولم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا ظاهرهم وباطنهم فقلوبهم معلقة ببلادهم ملتفتة إلى قول من يعرفه إن فلانا مجاور بمكة وتراه يقول قد جاورت بمكة كذا وكذا سنة ثم إنه قد يجاور ويمد عين طمعه إلى أوساخ أموال الناس ويظهر فيه الرياء وجملة من المهلكات كان عنها بمعزل لو ترك المجاورة ولكن حب المحمدة وأن يقال إنه من المجاورين ألزمه المجاورة مع التضمخ بهذه الرذائل فهو أيضا مغرور
____________________
(1/391)
وفرقة زهدت في المال وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد أو المدارس وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب بالرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين وباء بأعظم المهلكين فهذا مغرور إذ ظن أنه من الزهاد في الدنيا وهو لم يفهم معنى الدنيا ولم يدر أن منتهى لذاتها الرياسة وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقا وحسودا ومتكبرا ومرائيا ومتصفا بجميع خبائث الأخلاق وقد يؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطاول بذلك على الناس وينظر إليهم بعين الاستحقار ويعجب بعمله ويتصف بجملة من خبائث القلوب وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب الدنيا ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا وهو مغرور ومع ذلك فربما لا يخلو عن توقير الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن المائلين إلى غيره وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه
وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح ولا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات ويتوهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير مؤاخذ بأحوال القلب وقد يظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته وهيهات وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح ثم لا يخلو هذا المغرور من سوء خلقه مع الناس وخشونته وتلوث باطنه بالرياء وحب الثناء فإذا قيل له أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك وصدق به وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيا عند الله ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه
وفرقة حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم
____________________
(1/392)
غرور المتصوفة وهم فرق كثيرة
ففرقة منهم اغتروا بالزي والهيئة والمنطق فيجلسون على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية وكل ذلك من أوائل منازل التصوف مع أنهم لم يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئا منها
وفرقة ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ لأنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلا عن العوام حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء ويقول إنهم عن الله محجوبون ويدعي لنفسه الوصول إلى الحق وأنه من المقربين وهو عند الله من المنافقين وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين لم يحكم قط علما ولم يهذب خلقا ولم يرتب عملا ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه
وفرقة وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام فبعضهم يقول إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي وبعضهم يقول الأعمال بالجوارح ولا وزن لها وإنما النظر إلى القلوب وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في الحضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقلوبهم فيها وكل هذا من وساوس يخدعهم الشيطان بها والإباحية من الكفار المارقين نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين
وفرقة ادعوا حسن الخلق والتواضع والسماحة فتصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا قوما وتكلفوا بخدمتهم واتخذوا ذلك شبكة للرياسة وجمع المال فيجمعون من الحرام والشبهات وينفقون عليهم لتكثر أتباعهم وينتشر بالخدمة اسمهم وما باعثهم إلا الرياء والسمعة
____________________
(1/393)
وثمة فرق أخر لا يحصى غرورها والغرض من ذلك التنبيه على أمثلة تعرف الأجناس دون الاستيعاب فإن ذلك يطول غرور أرباب الأموال
والمغترون منهم فرق ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد وما يظهر للناس ليتخلد ذكرهم أو يذيع صيتهم وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك وقد يكون بناؤها من جهات محظورة تعرضوا لسخط الله في كسبها وكان الواجب ردها إلى ملاكها إما بأعيانها وإما رد بدلها عند العجز وقد يكون الأهم التفرقة على المساكين وهم لا يفعلون ذلك خيفة أن لا يظهر ذلك للناس فيكون غرضهم في البناء الرياء وجلب الثناء مع أن صرف المال إلى من في جواره أو بلده من فقراء وأيتام أهم وأفضل وأولى من الصرف إلى المساجد وزينتها فما خف عليهم الصرف إلى المساجد إلا ليظهر ذلك بين الناس وهناك محظور آخر وهو أنه قد يصرف المال إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش المنهي عنها لشغلها قلوب المصلين والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب وذلك يفسد قلوب المصلين فوبال ذلك كله يرجع إليه وهو مع ذلك يغتر به ويرى أنه من الخيرات مع أنه تعرض لما لا يرضي الله تعالى
وفرقة ينفقون الأموال في الصدقات على المساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشكر وإفشاء المعروف ويكرهون التصدق في السر ويرون إخفاء الفقير لما يأخذه منهم جناية عليهم وكفرانا وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى وربما تركوا جيرانهم جياعا ولذلك قال ابن مسعود في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه وقال أبو نصر التمار إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء فقال له كم أعددت للنفقة فقال ألفي درهم قال بشر فأي شيء تبتغي لحجتك تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله قال ابتغاء مرضاة الله
____________________
(1/394)
قال فإن اصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك قال نعم قال اذهب فأعطها عشرة أنفس مديون يقضي دينه وفقير يرم شعثه ومعيل يحيي عياله ومربي يتيم يفرحه وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل فإن إدخالك السرور على قلب مسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك فقال يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر رحمه الله تعالى وأقبل عليه وقال له المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين
وفرقة من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال فقد اشتغل بطلب فضائل وهو مستغن عنها ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بطبخ دواء يسكن به الصفراء ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى دواء ولذلك قيل لبشر إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة فقال المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء
وفرقة غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في حاجاتهم أو من يحتاجون إليه في المستقبل للاستسخار في خدمة أو من لهم فيه على الجملة غرض أو يسلمون إلى من يعينه واحد من الأكابر ممن يستظهر بحشمه لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجاته وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع لله تعالى وهو فاجر إذ طلب بعبادة الله عوضا من غيره وغرور أصحاب الأموال لا يحصى وإنما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على أجناس الغرور
____________________
(1/395)
وفرقة أخرى من عوام أرباب الأموال اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل والاتعاظ أجرا وهم مغرورون لأن فضل مجلس الذكر لكونه مرغبا في الخير فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل فإن ضعفت عن الحمل على العمل فلا خير فيها وما يراد لغيره فإذا قصر عن الأداء إلى ذلك الغير فلا قيمة له وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ وتدخله رقة كرقة النساء فيبكي ولا عزم وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزيد على أن يصفق بيديه ويقول يا سلام سلم أو نعوذ بالله أو سبحان الله ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور وإنما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فيسمع ما يجري أو الجائع الذي يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف وذلك لا يغني عنه من مرضه وجوعه شيئا فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئا فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييرا يغير أفعالك حتى تقبل على الله تعالى إقبالا قويا أو ضعيفا وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا
فإن قلت ما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يمكن الاحتراز منه إذ لا يقوى أحد على الحذر من خفايا هذه الآفات قلت الإنسان إذا فترت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطريق في الوصول إلى الغرض حتى أن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات استسخرها إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي كل ذلك لأن همه أمر دنياه فلو أهمه أمر آخرته فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه ولما تخاذل عن تقويم قلبه ظنه محالا وليس ذلك بمحال لأنه شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته وقويت همته بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا ونظم أسبابها
فإن قلت قد قربت الأمر فيه مع أنك أكثرت في ذكر مداخل الغرور فبم ينجو العبد من الغرور فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور بالعقل والعلم والمعرفة فهذه ثلاثة أمور لا بد منها
____________________
(1/396)
أما العقل فأعني به الفطرة الغريزية والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق الأشياء لأن أساس السعادات كلها العقل والكياسة
وأما المعرفة فأن يعرف نفسه وربه ويعرف الدنيا والآخرة فإذا عرف ذلك ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها وبمعرفة الدنيا الرغبة عنها ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه والمال وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب إليه من رضاء الله تعالى فلا يمكنه الخلاص من الغرور فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى المعنى الثالث وهو العلم أعني العلم بما يقربه من الله وما يبعده عنه فيعرف من العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها ومن العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع وما هو مستغن عنه فيعرض عنه ومن المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله فإن المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم ويعلم طريق علاجه ويعرف من المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفا عن المذمومة بعد محوها
فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور وأصل ذلك كله أن يغلب حب الله على القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة وتصح به النية ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها نسأل الله العون والتوفيق وحسن الخاتمة آمين
____________________
(1/397)
كتاب التوبة حقيقة التوبة
اعلم أن التوبة معنى ينتظم من ثلاثة أمور علم وحال وفعل والأول موجب للثاني والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضاه سنة الله في الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها سموما مهلكة وحجابا بين العبد وبين كل محبوب فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى انبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال وبالماضي وبالاستقبال أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابسا وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالخير والقضاء إن كان قابلا للخير فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك يطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم كالمقدمة والترك كالثمرة وبهذا الاعتبار جاء في الأثر الندم توبة إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه بيان وجوب التوبة وفضلها
اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات وهو واضح بنور البصيرة عند
____________________
(1/398)
من شرح الله بنور الإيمان صدره فإن من عرف أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى وأن كل محجوب عنه شقي لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات ولا مقرب من لقائه إلا الإقبال على الله بدوام ذكره وعلم أن الذنوب سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم وهكذا الإيمان الحاصل عن البصيرة ومن لم يترشح لهذا المقام فيلاحظ ما ورد من الآيات والآثار فقد قال تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } وهذا أمر على العموم وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } ومعنى النصوح الخالص لله تعالى خاليا عن الشوائب
ويدل على فضل التوبة قوله تعالى { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وقال ( عليه الصلاة والسلام ) التائب من الذنب كمن لا ذنب له والأخبار في ذلك كثيرة وجوب التوبة على الفور وعلى الدوام
لا يخفى أن وجوبها على الفور أمر لا يستراب فيه إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور والعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا على تركها فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان وهو المراد بقوله ( عليه الصلاة والسلام ) لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وذلك لكون
____________________
(1/399)
الزنا مبعدا عن الله تعالى موجبا للمقت كسائر المعاصي لأنها للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فكما أنها تغير مزاج الإنسان ولا تزال تجتمع حتى تفسده فيموت دفعة كذلك تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملا تحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين
وأما وجوب التوبة على الدوام وفي كل حال فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المذهلة عن ذكر الله فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله وكل ذلك نقص وله أسباب وترك أسبابه بالتشاغل بضدها رجوع عن طريق إلى ضده والمراد بالتوبة الرجوع ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص وإنما يتفاوتون بالمقادير فأما الأصل فلا بد منه ولهذا قال عليه السلام إنه ليغان على قلبي حتى استغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة الحديث ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره
وإنما أطلقنا الوجوب في كل حال والتوبة عن بعض ما ذكر من الفضائل لا الفرائض لأنا نعني بالواجب ما لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبة في الوصول إليه كما يقال الطهارة واجبة في صلاة التطوع أي لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليها إلا بها
واعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته من اتباع الشهوات أصلا وليس معنى التوبة تركها فقط بل تمام التوبة بتدارك ما مضى وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة فإن تراكمت ظلمة الشهوات صارت رينا كما يصير بخار النفس في
____________________
(1/400)
وجه المرآة عند تراكمه خبثا كما قال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } فإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصور في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام أتبع السيئة الحسنة تمحها فإذن لا يستغني العبد في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات
ولقد صدق أبو سليمان الداراني حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقا أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة وإن ضاعت منه و صار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد وكل ساعة من العمر بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد وتنقذك من شقاوة الأبد وأي جوهر أنفس من هذا فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا فإن كنت لا تبكي على هذه المصيبة فذلك لجهلك ومصيبتك بجهلك أعظم من كل مصيبة ونوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فعند ذلك ينكشف لكل مفلس إفلاسه ولكل مصاب مصيبته وقد رفع الناس عن التدارك كما قال تعالى { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها } وقد قيل في
____________________
(1/401)
معنى الآية إنه يقول حالتئذ يا ملك الموت أخرني يوما أتوب فيه إلى ربي وأتزود صالحا لنفسي فيقول فنيت الأيام فلا يوم فيقول فأخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتزهق نفسه ولمثل هذا يقال { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } وقوله تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } معناه عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أتبع السيئة الحسنة تمحها ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين
أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو
الثاني أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو فيأتي الله بقلب غير سليم ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم بيان أن التوبة الصحيحة مقبولة
اعلم أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة فإن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة كما لا طاقة لظلام الليل مع بياض النهار وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول فإنما عليك التزكية والتطهير وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له وهو المسمى فلاحا في قوله { قد أفلح من زكاها }
فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب فلا يقوى الصابون على قلعه فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى
____________________
(1/402)
تصير طبعا ورينا على القلب فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب نعم قد يقول باللسان تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب وذلك لا ينظف الثوب أصلا ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به فهذا حال امتناع أصل التوبة وهو غير بعيد بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله بالكلية
هذا البيان كاف عند ذوي البصائر في قبول التوبة ولكنا نعضد جناحه ببعض آيات وأخبار فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة ولا يوثق به قال تعالى { غافر الذنب وقابل التوب } وقال سبحانه { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } وقال صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وبسط اليد كناية عن طلب التوبة وقال صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له بيان ما تكون عنه التوبة وهي الذنوب
اعلم أن التوبة ترك الذنب ولا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا فمعرفة الذنوب إذا واجبة والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل ثم إن مثارات الذنوب تنحصر في أربع صفات صفات ربوبية وصفات شيطانية وصفات بهيمية وصفات سبعية
فأما ما يقتضي النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر والفخر وحب المدح والثناء وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول أنا ربكم الأعلى وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها
____________________
(1/403)
ذنوبا وهي المهلكات العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي
الثانية هي الصفة الشيطانية التي منها يتشعب الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمنكر وفيه يدخل الغش والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال
الثالثة الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ومنه يتشعب الزنا واللواط والسرقة وأكل مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات
الرابعة الصفة السبعية ومنها يتشعب الغضب والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال ويتفرع عنها جمل من الذنوب
فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس وبعضها على العين والسمع وبعضها على اللسان وبعضها على البطن والفرج وبعضها على اليدين والرجلين وبعضها على جميع البدن ولا حاجة إلى بيان تفصيل ذلك فإنه واضح انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر
اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر وقد كثر الاختلاف فيها فقال قائلون لا صغيرة ولا كبيرة بل كل مخالفة لله فهي كبيرة وهذا ضعيف إذ قال تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } وقال تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } وقال بعض السلف كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر وقد روي عن الصحابة والتابعين في عدد الكبائر أقوال وذهب أبو طالب المكي إلى أنها سبع عشرة جمعها من الأخبار والآثار
أربع في القلب وهي الشرك بالله والإصرار على معصيته والقنوط من رحمته والأمن من مكره وأربع في اللسان وهي شهادة الزور وقذف المحصن والسحر واليمين الغموس وهي التي يحق بها باطلا أو يبطل بها حقا وقيل هي
____________________
(1/404)
التي يقتطع بها مال امرئ مسلم باطلا ولو سواكا من أراك سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار وثلاث في البطن وهي شرب الخمر والمسكر من كل شراب وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وهو يعلم واثنتان في الفرج وهما الزنا واللواط واثنتان في اليدين وهما القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهو الفرار من الزحف أن يفر الواحد من اثنين والعشرة من العشرين وواحدة في جميع الجسد وهو عقوق الوالدين وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما وإن سألاه حاجة فلا يعطيهما وإن يسباه فيضربهما ويجوعان فلا يطعمهما هذا كلام أبي طالب وهو قريب إلا أنه لم يرد تفصيلها بعد ولا حد جامع بل ورد بألفاظ مختلفات والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها وإلى ما يعلم أنها معدودة في الصغائر وإلى ما يشك فيه فلا يدرى حكمه وربما قصد الشارع الإبهام ليكون العباد على وجل وحذر فلا يتجرؤون على الصغائر ثم إن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع مجاهدا نفسه فإن امتنع لعجز أو خوف فهذا لا يصلح للتكفير أصلا بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب
اعلم أن الصغيرة تكبر بأسباب منها الإصرار والمواظبة ولذلك قيل لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار فكبيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها يكون العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب عليها العبد ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه وذلك القدر لو صب عليه دفعة واحدة لم يؤثر ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأعمال أدومها وإن قل
ومنها أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى وكلما استصغره كبر عند الله تعالى لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به واستصغاره يصدر عن الإلف به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات والمحذور
____________________
(1/405)
تسويده بالسيئات وقد روي أن المؤمن يرى ذنبه كحبل فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره وكذلك يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل ويتجاوز عن العامي في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف لأن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف
ومنها السرور بالصغيرة والفرح بها فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت وعظم أثرها في تسويد قلبه كمن يقول أما رأيتني كيف مزقت عرضه وكيف فضحته حتى خجلته وكيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته فهذا وأمثاله مما تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات
ومنها أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدري أنه إنما يمهل مقتا ليزداد بالإمهال إثما فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله به وذلك لأمنه من مكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله
ومنها أن يأتي الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذي سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه أو أشهده فعله فهما جنايتان انضمتا إلى جناية فتغلظت بهما فإن انضاف إلى ذلك ترغيب الغير فيه صارت جناية رابعة وتفاحش الأمر
ومنها أن يكون المذنب عالما يقتدى به فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه وفي الخبر من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا وكما يتضاعف وزر العالم على الذنب فكذلك يتضاعف ثوابه على الحسنات إذا اتبعوا فحركات المقتدى بفعالهم في طوري الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بالربح وإما بالخسران تمام التوبة وشروطها ودوامها
ذكرنا أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا فالندم هو توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب وعلامته طول الحسرة والحزن واسكاب الدمع والفكر فمن استشعر عقوبة نازلة بولده طال عليه مصيبته وبكاؤه وأي عزيز أعز
____________________
(1/406)
عليه من نفسه وأي عقوبة أشد من النار وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي وأي مخبر أصدق من الله ورسوله ولو حدثه إنسان واحد يتطبب أن مرض ولده لا يبرأ وأنه سيموت منه لطال في الحال حزنه فليس ولده بأعز من نفسه ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله ورسوله ولا الموت بأشد من النار ولا المرض بأدل على الموت من المعاصي على سخط الله تعالى والتعرض بها إلى النار فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع ومن علامته أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في قلبه بدلا من حلاوتها فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة كمن ينفر عن عسل فيه سم ولو كان في غاية الجوع والشهوة للحلاوة فوجدان التائب مرارة الذنب كذلك يكون وذلك لعلمه بأن كل ذنب فذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان ولما عز مثل هذا الإيمان عزت التوبة والتائبون فلا ترى إلا معرضا عن الله تعالى متهاونا بالذنوب مصرا عليها فهذا شرط تمام الندم وينبغي أن يدوم إلى الموت وينبغي أن يجد هذه المرارة في جميع الذنوب
وأما القصد الذي ينبعث منه وهو إرادة التدارك فله تعلق بالحال وهو يوجب ترك كل محظور هو ملابس له وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال وله تعلق بالماضي وهو تدارك ما فرط وبالمستقبل وهو دوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت
ومن أهم ما يجب تداركه الحقوق المالية فمن تناول مالا بغضب أو خيانة أو غبن في معاملة بنوع تلبيس كترويج زائف أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو أكل أجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنهم ليستحلهم أو ليؤدي حقوقهم لهم أو لورثتهم وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق قبل أن يحاسب في القيامة وليناقش قبل أن يناقش فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات بقدر كثرة مظالمه فهذا طريق كل تائب في رد المظالم الثابتة في ذمته أما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكا معينا وما لا يعرف له مالكا فعليه أن يتصدق به فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار
وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو بعيبهم في الغيبة فليطلب كل من تعرض له بلسانه أو آذى قلبه بفعل من أفعاله فمن وجده وأحله
____________________
(1/407)
بطيب قلب منه فذلك كفارته ومن مات أو غاب أو تعذر استحلاله فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات
ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة أقسام العباد في دوام التوبة
اعلم أن التائبين في التوبة على أربع طبقات
الطبقة الأولى أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه إلا الزلات التي لا ينفك البشر عنها في العادات فهذا هو الاستقامة على التوبة وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة التوبة النصوح واسم هذه النفس الساكنة النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية
الطبقة الثانية تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وترك كبائر الفواحش كلها إلا أنه ليس ينفك عن ذنوب تعتريه لا عن عمد ولكن يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يقدم عزما على الإقدام عليها ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعرضه لها وهذه النفس جديرة بأن تكون هي النفس اللوامة إذ تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وقصد وهذه أيضا رتبة عالية وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى وهي أغلب أحوال التائبين لأن الشر معجون بطينة الآدمي قلما ينفك عنه وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الحسنات فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك في غاية البعد وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى إذ قال تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة } فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه قال تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم
____________________
(1/408)
لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه وفي الخبر لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة أي الحين بعد الحين وفي الخبر كل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقص التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين
الطبقة الثالثة أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ثم تغلبه الشهوة في بعض الذنوب فيقدم عليها عن قصد لعجزه عن قهر الشهوة إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك جملة من الذنوب وهو يود لو كفي شرها في حال قضاء الشهوة وعند الفراغ يتندم ويقول ليتني لم أفعله وسأتوب عنه وأجاهد نفسي في قهرها لكنه يسول نفسه ويسوف توبته يوما بعد يوم فهذه النفس هي التي تسمى النفس المسولة وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة إن تداركه الله بفضله ألحقه بالسابقين وإلا فيخشى عليه
الطبقة الرابعة أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله بل ينهمك انهماك الغافل في اتباع شهواته فهذا من جملة المصرين وهذه النفس هي النفس الأمارة بالسوء الفرارة من الخير ويخاف على هذا سوء الخاتمة وانتظاره مع هذه الحالة المغفرة من الله تعالى غرور فإن المقصر عن الطاعة المصر على الذنوب الغير السالك سبيل المغفرة المنتظر للغفران يعد عند أرباب القلوب من المعتوهين كما أن من خرب بيته وضيع ماله وترك نفسه وعياله جياعا يزعم أنه ينتظر فضل الله بأن يرزقه كنزا يجده تحت الأرض في بيته الخرب يعد عند ذوي البصائر من الحمقى المغرورين
____________________
(1/409)
فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار وطلب المال بالتجارة والعجب من عقل هذا المعتوه وترويجه حماقته إذ يقول إن الله كريم وجنته ليست تضيق على مثلي ومعصيتي ليست تضره ثم تراه يركب البحار ويقتحم الأوعار في طلب الدينار وإذا قيل له إن الله كريم ودنانير خزائنه ليست تقصر عن فقرك وكسلك بترك التجارة ليس يضرك فاجلس في بيتك فعساه يرزقك من حيث لا تحتسب فيستحمق قائل هذا الكلام ويستهزئ به ويقول ما هذا الهوس السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة وإنما ينال ذلك بالكسب وهكذا قدره مسبب الأسباب وأجرى به سنته ولا تبديل لسنة الله ولا يعلم المغرور أن رب الآخرة ورب الدنيا واحد وأن سنته لا تبديل لها فيهما جميعا وأنه قد أخبر إذ قال { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فنعوذ بالله من الضلال ما يفعله التائب بعد الذنب
اعلم أن الواجب على التائب إن كان جرى عليه ذنب إما عن قصد وشهوة غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق هو أن يبادر إلى التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضادها فإن لم تساعده النفس على العزم على الترك لغلبة الشهوة فقد عجز عن أحد الواجبين فلا ينبغي أن يترك الواجب الثاني وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة فيمحوها فيكون ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فالحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح ولتكن الحسنة في محل السيئة وفيما يتعلق بأسبابها فأما بالقلب فليكفره بالتضرع إلى الله تعالى في سؤال المغفرة والعفو ويتذلل تذلل العبد الآبق ويخفض من كبره فيما بين العباد وكذلك يضمر بقلبه الخيرات للمسلمين والعزم على الطاعات وأما باللسان فبالاعتراف بالظلم والاستغفار فيقول رب ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار المأثورة وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات وبالجملة فينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم ويجمع سيئاته ويجتهد في دفعها بالحسنات
واعلم أنه ليس كل استغفار نافعا ففي خبر المستغفر من الذنب وهو مصر
____________________
(1/410)
عليه كالمستهزئ بآيات الله وقال بعض السلف الاستغفار باللسان توبة الكذابين وقالت رابعة استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير وذلك لأن الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة أستغفر الله وكما يقول إذا سمع صفة النار نعوذ بالله منها من غير أن يتأثر به قلبه وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان ولا جدوى له فأما إذا انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نية ورغبة فهذه حسنة في نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيئة وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار حتى قال صلى الله عليه وسلم ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ثم إن للتوبة ثمرتين
إحداهما تكفير السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له
والثانية نيل الدرجات
وللتكفير أيضا درجات فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية وبعضه تخفيف له ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة فالاستغفار بالقلب والتدارك بالحسنات وإن خلا عن حل عقدة الإصرار فليس يخلو عن الفائدة أصلا فلا ينبغي أن تظن أن وجودها كعدمها فإنه لا تخلو ذرة من خير عن أثر كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها وذرات المعاصي فلا تنفيها فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله أصلا بل أقول الاستغفار باللسان أيضا حسنة إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعات بغيبة مسلم أو فضول كلام فرابعة بقولها استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير لا تظن أنها تذم حركة اللسان من حيث أنه ذكر الله بل تذم غفلة القلب فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه
____________________
(1/411)
دواء التوبة وطريق العلاج لحل عقدة الإصرار
اعلم أن شفاء التوبة لا يحصل إلا بالدواء وكل داء حصل من سبب فدواؤه إبطاله ولا يبطل الشيء إلا بضده ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة ولا يضاد الغفلة إلا العلم ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة
وأما الأنواع النافعة في حل عقدة الإصرار وحمل الناس على ترك الذنوب فهي أربعة أنواع
الأول أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذا ما ورد من الأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين
الثاني حكايات الأنبياء والسلف الصالحين وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم فذلك شديد الوقع ظاهر النفع في قلوب الخلق مثل أحوال آدم صلى الله عليه وسلم في عصيانه وما لقيه من الإخراج من الجنة ونحوها فإنه لم يرد بها القرآن والأخبار ورود الأسمار بل الغرض بها الاعتبار والاستبصار لتعلم أن الأنبياء عليهم السلام لم يتجاوز عنهم في الذنوب الصغار فكيف يتجاوز عن غيرهم في الذنوب الكبار فهذا أيضا مما ينبغي أن يكثر جنسه على أسماع المصرين فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة
الثالث أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته فينبغي أن يخوف به وفي خبر إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقال بعض السلف ليست اللعنة سوادا في الوجه ونقصانا في المال إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه وهو كما قال لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد فإذا لم يوفق للخير ويسر له الشر فقد أبعد والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب ومن مجالسة الصالحين بل يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون وبالجملة فالأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا فمن ابتلي بشيء منها كان عقوبة له وإن أصابته نعمة كانت استدراجا له ويحرم جميل الشكر حتى يعاقب على كفرانه وأما
____________________
(1/412)
المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة في حقه جزاء على طاعته ويوفق لشكرها وكل بلية كفارة لذنوبه وزيادة في درجاته
الرابع ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة وغير ذلك
والمدار في هذا الباب على الفكر النافع وهو الفكر في عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم وليعتبر بأنه لو مرض فأخبره طبيب نصراني بأن شرب الماء البارد يضره ويسوقه إلى الموت وكان الماء البارد ألذ الأشياء عنده تركه مع أن الموت ألمه لحظة ومفارقته للدنيا لا بد منها فيقول كيف يليق بعقلي أن يكون قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات عندي دون قول نصراني طبيب يدعي الطب بلا معجزة على طبه وكيف يكون عذاب النار عندي أخف من عذاب المرض وكل يوم في الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا ومتى استشعر قلبه ذلك انبعث خوفه وإذا قوي الخوف تيسر بمعونته الصبر وتوفيق الله وتيسيره من وراء ذلك فمن أعطى من قلبه حسن الإصغاء واستشعر الخوف فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره الله تعالى لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسيسره الله للعسرى فلا يغني عنه ما اشتغل به من ملاذ الدنيا مهما هلك وتردى وما على الأنبياء إلا شرح طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى
____________________
(1/413)
كتاب الصبر والشكر فضيلة الصبر
قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال عز من قائل { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا } وقال تعالى { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } وقال تعالى { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } وقال تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر ووعد الصابرين بأنه معهم فقال تعالى { إن الله مع الصابرين } وجمع لهم بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } ومن الأخبار قوله صلى الله عليه وسلم الصبر نصف
____________________
(1/414)
الإيمان وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال الصبر والسماحة حقيقة الصبر وأقسامه
اعلم أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى وباعث الدين هو ما هدي إليه الإنسان من معرفة الله ورسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب وهي الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وباعث الهوى هو مطالبة الشهوات بمقتضاها فمن ثبت حتى قهره واستمر على مخالفة الشهوة التحق بالصابرين وإن تخاذل وضعف حتى غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها التحق بأتباع الشياطين
ثم إن باعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال
أحدها أن يقهر داعي الهوى فلا تبقى له قوة المنازعة ويتوصل إليه بدوام الصبر وعند هذا يقال من صبر ظفر والواصلون إلى هذه الرتبة هم الأقلون فلا جرم هم الصديقون المقربون { الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا }
الحالة الثانية أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين فيسلم نفسه إلى جند الشياطين ولا يجاهد وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون وهم الذين استرقتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكموا أعداء الله في قلوبهم { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } فخسرت صفقتهم
الحالة الثالثة أن يكون الحرب سجالا بين الجندين فتارة له اليد عليها وتارة لها عليه وهذا من المجاهدين يعد لا من الظافرين وأهل هذه الحالة هم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم
والتاركون للمجاهدة مع الشهوات مطلقا يشبهون بالأنعام بل هم أضل
____________________
(1/415)
سبيلا إذ البهيمة لم تخلق لها المعرفة والقدرة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات وهذا قد خلق له ذلك وعطله فهو الناقص حقا
وإذا دامت التقوى وقوي التصديق بما في العاقبة من الحسنى تيسر الصبر بيان مظان الحاجة إلى الصبر وأن العبد لا يستغني عنه في حال من الأحوال
اعلم أن جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين ما يوافق هواه وما لا يوافقه بل يكرهه وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منهما وهو في جميع الأحوال لا يخلو عن هذين النوعين فإذن لا يستغني قط عن الصبر
النوع الأول ما يوافق الهوى وهو الصحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العشيرة واتساع الأسباب وكثرة الأتباع والأنصار وجميع ملاذ الدنيا وما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الأمور فإنه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال والركون إليها والانهماك في ملاذها المباحة أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والزوج والولد فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } وقال عز وجل { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية ومعنى الصبر عليها أن لا يركن إليها وأن لا يرسل نفسه في الفرح بها وأن يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق وفي بدنه ببذل المعونة للخلق وفي لسانه ببذل الصدق وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه وهذا الصبر متصل بالشكر وإنما كان الصبر على السراء أشد لأنه مقرون بالقدرة والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة اللذيذة وقدر عليها فلهذا عظمت فتنة السراء
النوع الثاني ما لا يوافق الهوى والطبع وذلك إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي أو لا يرتبط باختياره كالمصائب أو لا يرتبط باختياره ولكن له اختيار في إزالته كالتشفي من المؤذي بالانتقام منه فهذه ثلاثة أقسام
القسم الأول ما يرتبط باختياره وهما ضربان
____________________
(1/416)
الضرب الأول الطاعة والعبد يحتاج إلى الصبر عليها لأن منها ما تنفر عنه النفس بسبب الكسل كالصلاة أو بسبب البخل كالزكاة أو بسببهما جميعا كالحج والجهاد وكل ذلك يحتاج إلى صبر
الضرب الثاني المعاصي وقد جمع الله تعالى أنواع المعاصي في قوله تعالى { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } فما أحوج العبد إلى الصبر عنها سيما ما لا يثقل منها على النفس كالغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وأنواع المزح المؤذي للقلوب وضروب الكلمات التي يقصد بها الإزراء والاستحقار والقدح في الموتى ولمصير ذلك معتادا في المحاورات بطل استقباحها من القلوب لعموم الأنس بها وهي من أكبر الموبقات
القسم الثاني ما لا يرتبط هجومه باختياره وله اختيار في دفعه كما لو أوذي بفعل أو قول وجني عليه في نفسه أو ماله فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا وتارة يكون فضيلة قال تعالى { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } وقال تعالى { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } أي تصبروا على المكافأة ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره فقال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } وقال صلى الله عليه وسلم صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك
القسم الثالث ما لا يدخل تحت حصر الاختيار كالمصائب مثل موت الأعزة وهلاك الأموال وزوال الصحة بالمرض وعمى العين وفساد الأعضاء وسائر أنواع البلاء فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر وإنما ينال درجة الصبر في المصائب بترك الجزع وشق الجيوب وضرب الخدود والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم لأن هذه الأمور داخلة تحت
____________________
(1/417)
اختياره فينبغي أن يجتنب جميعها ويظهر الرضاء بقضاء الله تعالى ويبقى مستمرا على عادته ويعتقد أن ذلك كان وديعة فاسترجعت كما روي عن أم سليم رحمها الله قالت توفي ابن لي وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت فهيأت له إفطاره فجعل يأكل فقال كيف الصبي فقلت بحمد الله لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة ثم تصنعت له أحسن ما كنت أتصنع له قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته ثم قلت ألا تعجب من جيراننا قال ما لهم قلت أعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا فقال بئس ما صنعوا فقلت هذا ابنك كان عارية من الله تعالى وإن الله قبضه إليه فحمد الله واسترجع ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال اللهم بارك لهما في ليلتهما قال الراوي فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرؤوا القرآن
ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع القلب ولا فيضان العين بالدمع لأن ذلك مقتضى البشرية ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه فقيل له في ذلك فقال هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء بل ذلك لا يخرج أيضا عن مقام الرضاء
وقد ظهر لك بهذه التقسيمات أن وجوب الصبر عام في جميع الأحوال والأفعال حتى من اعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على وساوس الشيطان باطنا
____________________
(1/418)
فإن اختلاج الخواطر لا يسكن ولا يزال في شغل دائم بسببها يضيع به الزمان وقد يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات ولا تظنن أن الشيطان يخلو عنه قلب فارغ بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم وسيلانه مثل الهواء في القدح فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة فكذلك القلب المشغول بفكر مهم في الدين يخلو عن جولان الشيطان وإلا فمن غفل ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ولذلك قال تعالى { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } وفي خبر إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ وهذا لأن الشاب إذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغا ولم يبق قلبه فارغا بل يعشش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ ثم تزدوج أفراخه أيضا وهكذا ولذا قال الحلاج لما سئل عن التصوف هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك فإذن حقيقة الصبر وكماله الصبر عن كل حركة مذمومة وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه دواء الصبر وما يستعان به عليه
اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد الشفاء فالصبر وإن كان شاقا أو ممتنعا فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل وقد قدمنا أن الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين مع باعث الهوى وكل مصارعين أردنا أن يغلب أحدهما الآخر فلا طريق لنا فيه إلا تقوية من أردنا أن تكون له اليد العليا وتضعيف الآخر فلزمنا ههنا تقوية باعث الدين وتضعيف باعث الشهوة فأما تقوية باعث الدين فإنما تكون بطريقين
أحدهما إطماعه في فوائد المجاهدة وثمراتها في الدين والدنيا وذلك بأن
____________________
(1/419)
يكثر فكره في الأخبار التي أوردناها في فضل الصبر وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة
الثاني أن يصارع باعث الهوى بالتدريج إلى أن يقمع تلك الصفات التي رسخت فيه
وأما تضعيف باعث الشهوة فبقطع الأسباب المهيجة له كغض البصر الذي يحرك القلب أو الفرار من الصور المشتهاة بالكلية أو تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي يشتهيه كالنكاح فإن كل ما يشتهيه الطبع ففي المباحات من جنسه ما يغني عن المحظورات منه ومن عود نفسه مخالفة الهوى غلبها مهما أراد فهذا منهاج العلاج في جميع أنواع الصبر بيان فضيلة الشكر
اعلم أن الله تعالى قرن الشكر بالذكر في كتابه فقال تعالى { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } وقال تعالى { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } وقال تعالى { وسنجزي الشاكرين } وقطع تعالى بالمزيد مع الشكر فقال سبحانه { لئن شكرتم لأزيدنكم } ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر حقيقة الشكر
اعلم أن الشكر ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم معرفة النعمة من
____________________
(1/420)
المنعم والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه ويتعلق ذلك العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق وأما باللسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه وأما بالجوارح فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته بيان الشكر في حق الله تعالى
اعلم أن العبد لا يكون شاكرا لمولاه إلا إذا استعمل نعمته في محبته أي فيما أحبه لعبده لا لنفسه وأما إذا استعمل نعمته فيما كرهه فقد كفر نعمته كما إذا أهملها وعطلها وإن كان هذا دون الأول إلا أنه كفران للنعمة بالتضييع وكل ما خلق في الدنيا إنما خلق إلة للعبد ليتوصل به إلى سعادته
ثم إن فعل الشكر وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى عما يكرهه ولتمييز ذلك مدركان
أحدهما السمع ومستنده الآيات والأخبار
الثاني بصيرة القلب وهو النظر بعين الاعتبار لإدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه إذ ما خلق شيئا في العالم إلا وفيه حكمة وتحت الحكمة مقصود وذلك المقصود هو المحبوب وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية أما الجلية فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل بها الفرق بين الليل والنهار فيكون النهار معاشا والليل لباسا فتتيسر الحركة عند الإبصار والسكون عند الاستتار فهذا من جملة حكم الشمس لا كل الحكم فيها بل فيها حكم أخرى كثيرة دقيقة وكذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار وذلك لانشقاق الأرض بأنواع النبات مطعما للخلق ومرعى للأنعام وقد انطوى القرآن على جملة من الحكم الجلية التي تحملها أفهام الخلق دون الدقيق الذي يقصرون عن فهمه إذ قال تعالى { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا } الآية وأما الحكمة في سائر الكواكب فخفية لا يطلع عليها كافة الخلق والقدر الذي يحتمله فهم الخلق إنها زينة للسماء لتستلذ العين بالنظر إليها وأشار إليه قوله تعالى { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب }
____________________
(1/421)
) فجميع أجزاء العالم سماؤه وكواكبه ورياحه وبحاره وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعضاء حيواناته لا تخلو ذرة من ذراته عن حكم كثيرة من حكمة واحدة إلى عشر إلى ألف إلى عشرة آلاف وكذا أعضاء الحيوان تنقسم إلى ما يعرف حكمتها كالعلم بأن العين للإبصار واليد للبطش والرجل للمشي وهكذا فإذن كل من استعمل شيئا في جهة غير الجهة التي خلق لها ولا على الوجه الذي أريد به فقد كفر فيه نعمة الله تعالى فمن ضرب غيره بيده فقد كفر نعمة اليد إذ خلقت له اليد ليدفع بها عن نفسه ما يهلكه ويأخذ ما ينفعه لا ليهلك بها غيره ومن نظر إلى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين إذ خلقت ليبصر بها ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بها ما يضره فيهما وكذا من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه فخلقت لتقدر بهما الأموال فتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء ولحكم أخرى فكل من عمل فيهما عملا يخالف الغرض المقصود منهما فقد كفر نعمة الله فيهما فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكذا من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة ناجزة مهمة ومن غير غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى في خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث بل للطاعة والأعمال المعينة على الطاعة وأما الشجر فإنما خلقه الله تعالى وجعل له العروق وساق إليه الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوئه فينتفع به عباده فكسره قبل منتهى نشوئه لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل فإن كان له غرض صحيح فله ذلك إذ الشجر والحيوان جعلا فداء لأغراض الإنسان فإنهما جميعا فانيان هالكان فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعا وإليه الإشارة بقوله تعالى { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وبالجملة فمن فهم حكمة الله تعالى في جميع أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر واستقصاء ذلك يطول
____________________
(1/422)
السبب الصارف للخلق عن الشكر
اعلم أنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة فإنهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النعم ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها ثم إنهم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه الحمد لله الشكر لله ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها وهي طاعة الله عز وجل فلا يمنع من الشكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلا غلبة الشهوة واستيلاء الشيطان ما يشترك فيه الصبر والشكر
اعلم أنه ما من نعمة من النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تكون بلاء بالإضافة ونعمة كذلك فرب عبد تكون له الخيرة في الفقر والمرض ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى قال الله تعالى { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } وقال تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } وكذلك الزوجة والولد والقريب وأمثالها فإن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وفيه حكمة ونعمة أيضا فإذن في خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضا إما على المبتلى أو على غير المبتلى فإذن كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق ولا نعمة مطلقة فيجتمع فيها على العبد وظيفتان الصبر والشكر جميعا فإن قلت فهما متضادان فكيف يجتمعان إذ لا صبر إلا على غم ولا شكر إلا على فرح فاعلم أن الشيء الواحد قد يغتم به من وجه ويفرح به من وجه آخر فيكون الصبر من حيث الاغتمام والشكر من حيث الفرح وفي كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح العاقل بها ويشكر عليها
أحدهما أن كل مصيبة ومرض فيتصور أن يكون أكبر منها إذ مقدورات الله تعالى لا تتناهى فلو ضعفها الله وزادها ماذا كان يرده ويحجزه فليشكر إذ لم تكن أعظم منها في الدنيا
الثاني أنه كان يمكن أن تكون مصيبته في دينه وفي الخبر اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا
____________________
(1/423)
الثالث أنه ما من عقوبة إلا ويتصور أن تؤخر إلى الآخرة ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخر تهون المصيبة فيخف وقعها ومصيبة الآخرة تدوم فلعله لم تؤخر عقوبته إلى الآخرة وعجلت عقوبته في الدنيا فلم لا يشكر الله على ذلك
الرابع أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب وكان لا بد من وصولها إليه وقد وصلت ووقع الفراغ واستراح من بعضها أو من جميعها فهذه نعمة
الخامس أن ثوابها أكثر منها فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة وكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذي يؤلم في الحال وينفع في المآل فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة والأخبار الواردة في ثواب الصبر على المصائب كثيرة ويكفي في ذلك قوله تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }
ثم مع فضل النعمة في البلاء كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة وكان يستعيذ من شماتة الأعداء وغيرها وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم سلوا الله العافية فما أعطي أحد أفضل من العافية إلا اليقين وأشار باليقين إلى عافية القلب عن مرض الجهل والشك فعافية القلب أعلى من عافية البدن وفي دعائه صلى الله عليه وسلم وعافيتك أحب إلي
فنسأل الله تعالى المان بفضله على جميع خلقه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين
____________________
(1/424)
كتاب الخوف والرجاء
الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود فلا يقود إلى قرب الرحمن إلا أزمة الرجاء ولا يصد عن نار الجحيم إلا سياط التخويف فلا بد إذا من بيان حقائقهما بيان حقيقة الرجاء
قد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبذر فيه والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته سمي انتظاره رجاء وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلا ثم انتظر الحصاد منه سمي انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء وإن بث البذر في أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا سمي انتظاره تمنيا لا
____________________
(1/425)
رجاء فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذ بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان انتظاره رجاء حقيقيا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات أو ترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور قال صلى الله عليه وسلم الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا } وذم الله تعالى صاحب البستان إذ دخل جنته وقال { ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا } فإذن العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب ولذلك قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } معناه أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله وقال تعالى { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور } فأما من ينهمك فيما يكرهه الله تعالى ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقي ولا تنقية قال يحيى بن معاذ من أعظم الاغترار عندي
____________________
(1/426)
التمادي في الذنوب على رجاء العفو من غير ندامة وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة وانتظار زرع الجنة ببذر النار وطلب دار المطيعين بالمعاصي وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز وجل مع الإفراط
( ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ** إن السفينة لا تجري على اليبس )
فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى والتنعم بمناجاته والتلطف في التملق له فإن هذه الأحوال لا بد وأن تظهر على كل من يرجو ملكا من الملوك أو شخصا من الأشخاص فكيف لا يظهر ذلك في حق الله تعالى فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمني بيان حقيقة الخوف
اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال والعلم بأسباب المكروه وهو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه وذلك الإحراق هو الخوف فالخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي وتارة يكون بهما جميعا وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته بجلال الله تعالى واستغنائه وأنه لا يسأل عما يفعل وهو يسألون تكون قوة خوفه فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا أخوفكم لله وكذلك قال الله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن وعلى الجوارح وعلى الصفات أما في البدن فبالنحول والبكاء وأما في الجوارح فبكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافيا لما فرط واستعدادا للمستقبل وأما في الصفات فبأن يقمع الشهوات ويكدر اللذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سما فتحترق الشهوات
____________________
(1/427)
بالخوف وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والاستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات وما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان وهي مجامع مقامات أهل الجنان قال الله تعالى { هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } وقال تعالى { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم الدواء الذي يستجلب به الخوف
اعلم أن من قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار فيطالع أحوال الخائفين وأقوالهم وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين فلا يتمارى في أن الاقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغبياء أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرين وكان أشد الناس خوفا حتى روي أنه سمع قائلا يقول لطفل مات هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال ما يدريك أنه كذلك والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا على جنازة عثمان بن مظعون وكان من المهاجرين الأولين لما قالت أم
____________________
(1/428)
سلمة هنيئا لك الجنة فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك والله لا أزكي أحدا بعد عثمان وروي في حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئا لك هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول هنيئا لك الجنة فقال صلى الله عليه وسلم من هذه المتألية على الله تعالى وما يدريك لعل فلانا كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم وهو صلى الله عليه وسلم يقول شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد كقوله تعالى { ألا بعدا لعاد قوم هود } { ألا بعدا لثمود } { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا إذ لو شاء لآتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة { ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة }
____________________
(1/429)
أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة إما خافضة قوما كانوا مرفوعين في الدنيا وإما رافعة قوما كانوا مخفوضين في الدنيا وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى { وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت } وفي عم يتساءلون { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } الآية وقوله تعالى { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا }
والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } لكان كافيا إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها وأشد منه قوله تعالى { فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين } وقوله تعالى { ليسأل الصادقين عن صدقهم } وقوله تعالى { سنفرغ لكم أيها الثقلان } وقوله تعالى { أفأمنوا مكر الله } الآية وقوله { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وقوله { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الآيتين وكذلك قوله تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر } إلى آخر السورة فهذه أربعة شروط للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } وخوف الكاملين لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى
____________________
(1/430)
وخفايا أفعاله ومعاني صفاته فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي بالتحذير من الأمن وكيف يؤمن تغير الحال وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وإن القلب أشد تقلبا من القدر في غليانها وقد قال معاذ بن جبل رضي الله عنه إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه وروي عن مخاوف الأنبياء والصحابة والتابعين ومن بعدهم ما لا يحصى ونحن أجدر بالخوف منهم ولكن صدتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا قرب الرحيل ينبهنا ولا كثرة الذنوب تحركنا ولا خطر الخاتمة يزعجنا ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا وركبنا البحار والبراري وخاطرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ثم إذا طمحت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا اللهم اغفر لنا وارحمنا والذي إليه رجاؤنا جل جلاله يقول { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } { ولا يغرنكم بالله الغرور } { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } ثم كل ذلك لا ينبهنا ولا يخرجنا عن أودية غرورنا وأمانينا فما هذه إلا محنة هائلة إن لم يتفضل الله علينا بتوبة نصوح يتداركنا بها فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا بمنه وفضله
____________________
(1/431)
كتاب الفقر والزهد فضيلة الفقر والفقراء الراضين الصادقين
عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال وعنه صلى الله عليه وسلم يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام و عنه صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم معافى في جسمه آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ولما طلبت سادات العرب وأغنياؤهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحي عن مجلسه فقراء الصحابة ترفعا عن مجالستهم إذا جلسوا إليه نزل قوله تعالى { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم } يعني الفقراء { تريد زينة الحياة الدنيا } يعني الأغنياء { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } يعني الأغنياء واستأذن ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من أشراف
____________________
(1/432)
قريش فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى } يعني ابن أم مكتوم { أما من استغنى فأنت له تصدى } يعني هذا الشريف وقال يحيى بن معاذ حبك للفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين وعن علي رضي الله عنه مرفوعا أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه الراضي عن الله تعالى آداب الفقير في فقره
اعلم أن للفقير آدابا في باطنه وظاهره ومخالطته وأفعاله ينبغي أن يراعيها
فأما أدب باطنه فأن لا يكون فيه كراهية لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر أعني أنه لا يكون كارها فعل الله تعالى من حيث أنه فعله وإن كان كارها للفقر
وأما أدب ظاهره فأن يظهر التعفف والتجمل ولا يظهر الشكوى والفقر بل يستر فقره ففي الحديث إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال وقال تعالى { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }
وأما في أعماله فأدبه أن لا يتواضع لغني لأجل غناه قال علي كرم الله وجهه ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله تعالى وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل فهذه رتبة وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم لأن ذلك من مبادئ الطمع وينبغي أن لا يسكت عن ذكر الحق مداهنة للأغنياء وطمعا في العطاء
وأما أدبه في أفعاله فأن لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه فإن ذلك جهد المقل وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غنى
____________________
(1/433)
آداب الفقير في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال
ينبغي أن يلاحظ الفقير فيما جاءه ثلاثة أمور نفس المال وغرض المعطي وغرضه في الأخذ
أما نفس المال فينبغي أن يكون حلالا خاليا عن الشبهات فإن كان فيه شبهة فليحترز من أخذه
وأما غرض المعطي فلا يخلو إما أن يكون غرضه تطييب قلبه وطلب محبته وهو الهدية أو الثواب وهو الصدقة والزكاة أو الذكر والرياء والسمعة
أما الأول وهو الهدية فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ينبغي أن لا يكون فيها منة فإن كان فيها منه فالأولى تركها فإن علم أن بعضها مما تعظم المنة فليرد البعض دون البعض
الثاني أن يكون للثواب المجرد وذلك صدقة أو زكاة فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق للزكاة فإن اشتبه عليه فهو محل شبهة وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه فإن كان مقارفا لمعصية في السر لو علمها المعطي لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه فهذا حرام أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوي ولم يكن فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه
الثالث أن يكون غرض السمعة والرياء والشهرة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا يقبله إذ يكون معينا على غرضه الفاسد
وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر أهو محتاج إليه فيما لا بد له منه أو مستغن عنه فإن كان محتاجا إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له الأخذ قال صلى الله عليه وسلم من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله إليه فلا يرده فأما إذا كان ما أتاه زائدا على حاجته فلا يخلو إما أن يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من الرفق والسخاء فإن كان مشغولا بنفسه فلا وجه لأخذه
____________________
(1/434)
وإمساكه وإن كان متكفلا بحقوق الفقراء فليأخذ ما زاد على حاجته فإنه غير زائد على حاجة الفقراء وليبادر به إلى الصرف إليهم وبالجملة فالزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء وفتنة لينظر الله إليك ماذا تعمل فيه وقدر الحاجة يأتيك رفقا بك فلا تغفل عن الفرق بين الرفق والابتلاء قال الله تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب المضطر إليه
اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات قال صلى الله عليه وسلم من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه لحم وفي لفظ آخر كانت مسألته خدوشا وكدوحا في وجهه وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد وكان صلى الله عليه وسلم يأمر كثيرا بالتعفف عن السؤال وسمع عمر رضي الله عنه سائلا يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه عش الرجل فعشاه ثم سمعه ثانيا يسأل فقال ألم أقل لك عش الرجل قال قد عشيته فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا فقال لست سائلا ولكنك تاجر ثم أخذ المخلاة ونثرها يبن يدي أبل الصدقة وضربه بالدرة وقال لا تعد ولولا أن سؤاله كان حراما لما ضربه ولا أخذ مخلاته وإنما استجاز ذلك رضي الله عنه لكونه لاح له فيه أنه رآه مستغنيا عن السؤال وعلم أن من أعطاه شيئا فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذبا فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم فبقي مالا لا مالك له فوجب صرفه إلى المصالح وإبل الصدقة وعلفها من المصالح نعم يباح السؤال بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فالضرورة كسؤال الجائع عند
____________________
(1/435)
خوفه على نفسه موتا أو مرضا وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه وهو مباح ما دام السائل عاجزا عن الكسب فإن القادر على الكسب وهو بطال ليس له السؤال إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته وأما المستغني فهو الذي يطلب الشيء وعنده مثله وأمثاله فسؤاله حرام قطعا وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد وكمن يسأل الكراء لفرس ولا ينبغي أن يأخذ ما يعلم أن باعثه الحياء فإنه حرام محض وما يشك فيه فليستفت قلبه فيه وليترك حزاز القلب فإنه الإثم وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهرته فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وقد ورد في وعيد من يسأل وهو غني قوله صلى الله عليه وسلم من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمرا فليستقل منه أو ليستكثر وقد ورد في حد الغنى المحرم للسؤال آثار مختلفة متنوعة يمكن تنزيلها على اختلاف أحوال المحتاجين إذ الحاجة لا تقبل الضبط فأمرها منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن كان سالكا طريق الآخرة نسأله تعالى حسن التوفيق بلطفه فضيلة الزهد وحقيقته
قال تعالى { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } وقال تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه لما نزل قوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله }
____________________
(1/436)
) قال صلى الله عليه وسلم تبا للدنيا تبا للدينار والدرهم فقلنا يا رسول الله نهانا الله عن كنز الذهب و الفضة فأي شيء ندخر فقال صلى الله عليه وسلم ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته وعنه صلى الله عليه وسلم السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا والسخاء ثمرة الزهد والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة وعنه صلى الله عليه وسلم ازهد في الدنيا بحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس
ثم إن أصناف ما فيه الزهد تكاد تخرج عن الحصر وقد ذكر الله تعالى في آية واحدة سبعة منها فقال تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } ثم رده في آية أخرى إلى خمسة فقال عز وجل { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد } ثم رده في موضع آخر إلى اثنين فقال تعالى { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } ثم رد الكل إلى واحد في موضع آخر فقال { ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى }
____________________
(1/437)
) فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس في الدنيا فينبغي أن يكون الزهد فيه
والحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلها إلى ما هو خير منها علما بأن المتروك حقير بالإضافة إلى المأخوذ
واعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد وليس كذلك فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد بل لا بد من الزهد في حظوظ النفس وينبغي أن يعول الزاهد في باطنه على ثلاث علامات
الأولى أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود كما قال تعالى { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم }
الثانية أن يستوي عنده ذامه ومادحه
الثالثة أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة
____________________
(1/438)
كتاب النية والأخلاص والصدق فضيلة النية
قال الله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } وقال تعالى { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } والمراد بتلك الإرادة هي النية وقال صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه وفي حديث أنس بن مالك لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال إن بالمدينة أقواما ما قطعنا واديا ولا وطئنا موطئا يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة إلا شركونا في ذلك وهم بالمدينة قالوا وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا قال حبسهم العذر فشركوا
____________________
(1/439)
بحسن النية وقال صلى الله عليه وسلم يبعث كل عبد على ما مات عليه وفي حديث أبي هريرة من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان ومن ادان دينا وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية
اعلم أن الأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام طاعات ومعاص ومباحات
فأما المعاصي فلا تتغير عن موضعها بالنية أعني أن المعصية لا تنقلب طاعة بالنية كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره أو يطعم فقيرا من مال غيره أو يبني مدرسة أو مسجدا بمال حرام وقصده الخير فهذا كله جهل والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر فإن عرفه فهو معاند للشرع وإن جهله فهو عاص بجهله إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع فكيف يمكن أن يكون الشر خيرا هيهات ولذلك قال سهل رحمه الله تعالى ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل قيل يا أبا محمد هل تعرف شيئا أشد من الجهل قال نعم الجهل بالجهل وهو كما قال لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم فمن يظن بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم وكذلك أفضل ما أطيع الله تعالى به العلم ورأس العلم العلم بالعلم كما أن رأس الجهل الجهل بالجهل وقد قال تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } نعم للنية دخل في المعاصي وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها
____________________
(1/440)
القسم الثاني الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها أما الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير فإن نوي الرياء صارت معصية وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نية ثواب إذ كل واحدة حسنة ثم تضاعف كل حسنة بعشرة أمثالها كما ورد ومثاله القعود في المسجد فإنه طاعة ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين
أولها أن يعتقد أنه بيت الله وأن داخله زائر الله
ثانيها أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في صلاة
ثالثها الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات
رابعها عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد
خامسها التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به
سادسها أن يقصد إفادة العلم بأمر معروف ونهي عن منكر إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكا معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته
سابعها أن يستفيد أخا في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله
ثامنها أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة فهذا طريق تكثير النيات وقس به سائر الطاعات إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره له فبهذا تزكو الأعمال وتتضاعف الحسنات
القسم الثالث المباحات وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات كالتطيب مثلا فإنه بقصد التلذذ والتنعم مباح وأما إذا نوى به اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويح جيرانه ليستريحوا بروائحه ودفع الرائحة الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه وزيادة فطنته وذكائه ليسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر فهذا وأمثاله من النيات الحسنة التي لا يعجز عنها من غلب طلب الخير على قلبه مما ينال بها معالي الدرجات وأما من قصد بالتطيب إظهار التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق ليذكر بذلك أو ليتودد إلى قلوب النساء الأجنبيات أو
____________________
(1/441)
لغير ذلك فهذا يجعل الطيب معصية ويكون في القيامة أنتن من الجيفة والمباحات كثيرة لا يمكن إحصاء النيات فيها فقس بهذا الواحد ما عداه ولهذا قال بعض السلف إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي للخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين فمن قصد من الأكل التقوي على العبادة ومن الوقاع تحصين دينه وتطييب قلب أهله والتوصل به إلى ولد صالح يعبد الله تعالى بعده كان مطيعا بأكله ونكاحه وبالجملة فإياك ثم إياك أن تستحقر شيئا من حركاتك فلا تحترز من غرورها وشرورها ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب فإن الله مطلع عليك وشهيد { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وقد قال الحسن إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول بيني وبينك الله فيقول والله ما أعرفك فيقول بلى أنت أخذت لبنة من حائطي وأخذت خيطا من ثوبي فهذا وأمثاله من الأخبار قطع قلوب الخائفين فإن كنت من أولي العزم والنهى ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك فضيلة الإخلاص وحقيقته
قال الله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقال تعالى { ألا لله الدين الخالص } وقال تعالى { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله } وقال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وعن علي كرم الله وجهه لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن
____________________
(1/442)
جبل أخلص العمل يجزك منه القليل وقال يعقوب المكفوف المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته
واعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصا ويسمى الفعل المصفى المخلص إخلاصا والإخلاص يضاده الإشراك فمن ليس مخلصا فهو مشرك إلا أن الشرك درجات وقد جرى العرف على تخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب فإذا امتزج قصد التقرب بباعث آخر من رياء أو غيره من حظوظ النفس فقد خرج عن الإخلاص ومثاله أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر أو ليتخلص من عدو له أو يصلي بالليل لغرض دنيوي أو يتعلم العلم أو يخدم العلماء والصوفية لذلك أو يعود مريضا ليعاد إذا مرض أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله أو يفعل شيئا من ذلك ليعرف بالخير ويذكر به وينظر إليه بين الصلاح والوقار فمهما كان باعثه التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور فقد خرج عمله عن حد الإخلاص وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى وتطرق إليه الشرك وبالجملة كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وزال به إخلاصه فإن الخالص من العمل هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى وهذا لا يتصور إلا من محب لله لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار ولذا كان علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب فإذ ذاك يتيسر الإخلاص وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله ويكون فيها مغرورا لأنه لا يرى وجه الآفة فيها فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو
____________________
(1/443)
لا يشعر فضيلة الصدق ودرجاته
قال الله تعالى { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا
والصدق درجات
الأولى صدق اللسان وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق وكمال صدق القول الاحتراز عن المعاريض فقد قيل في المعاريض مندوحة عن الكذب وذلك لأنها تقوم مقام الكذب إلا أن ذلك مما تمس إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة في بعض الأحوال وفي تأديب الصبيان والنسوان ومن يجري مجراهم وفي الحذر عن الظلمة وفي قتال الأعداء والاحتراز عن إطلاعهم على الأسرار فمن اضطر إلى شيء من ذلك فصدقه فيه أن يكون نطقه فيه لله فيما يأمره الحق به ويقتضيه الدين فإذا نطق به فهو صادق وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه لأن الصدق ما أريد لذاته بل للدلالة على الحق والدعاء إليه فلا ينظر إلى صورته بل إلى معناه نعم في مثل هذا الموضع ينبغي أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى سفر ورى بغيره وذلك كي لا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصد وليس هذا من الكذب في شيء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا أو أنمى خيرا ورخص في النطق على وفق المصلحة في ثلاثة مواضع من أصلح بين اثنين ومن كان له زوجتان ومن كان في مصالح الحرب والصدق ههنا يتحول إلى النية فلا يراعى فيه الإ صدق النية وإرادة الخير فمهما صح قصده وصدقت نيته وتجردت للخير إرادته صار صادقا وصديقا
____________________
(1/444)
كيفما كان لفظه ثم التعريض فيه أولى وطريقه ما حكي عن بعضهم أنه كان يطلبه بعض الظلمة وهو في داره فقال لزوجته خطي بأصبعك دائرة وضعي الأصبع على الدائرة وقولي ليس هو ههنا واحترز بذلك عن الكذب ودفع الظالم عن نفسه فكان قوله صدقا وأفهم الظالم أنه ليس في الدار وهذا الذي ذكرناه من الاحتراز عن صريح اللفظ وعن المعاريض إلا عند الضرورة هو الكمال الأول في صدق الأول وهناك كمال ثان وهو أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } فإن قلبه إن كان منصرفا عن الله تعالى مشغولا بأماني الدنيا وشهواته فهو كذب وكقوله { إياك نعبد } وكقوله أنا عبد الله فإنه إذا لم يتصف بحقيقة العبودية وكان له مطلب سوى الله لم يكن كلامه صدقا ولو طولب يوم القيامة بالصدق في قوله أنا عبد الله لعجز عن تحقيقه فإنه إن كان عبدا لنفسه أو عبدا لدنيا أو عبدا لشهواته لم يكن صادقا في قوله وكل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الخميصة سمى كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له وإنما العبد الحق لله عز وجل من أعتق من غير الله تعالى واشتغل بالله وبمحبته وتقيد ظاهره وباطنه بطاعته فلا يكون له مراد إلا الله تعالى
الدرجة الثانية الصدق في النية والإرادة ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية
الثالثة صدق العزم وهو الجزم فيه بقوة والصادق فيه هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات كلها قوة تامة ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد بل تسخو نفسه أبدا بالعزم المصمم الجازم على الخيرات كمن يقول إن رزقني الله مالا تصدقت بشطره وإن أعطاني الله ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق فصدق هذه العزيمة هو سخاء نفسه بما نوى
الرابعة في الوفاء بالعزم فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في
____________________
(1/445)
الوعد والعزم والمؤونة فيه خفيفة فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم وهذا يضاد الصدق فيه ولذلك قال الله تعالى { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فقد روي عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع قال فشهد أحدا في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال إلى أين فقال واها لريح الجنة إني أجد ريحها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة فقالت أخته ما عرفت أخي إلا بثيابه فنزلت هذه الآية { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }
وقال مجاهد رجلان خرجا على ملأ من الناس قعود فقالا إن رزقنا الله تعالى مالا لنصدقن فبخلوا به فنزلت { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } فجعل العزم عهدا وجعل الخلف فيه كذبا والوفاء به صدقا
الخامسة الصدق في الأعمال وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به فمن وقف على هيئة الخشوع في صلاته لا يرائي غيره ولكنه في الباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته فهو كاذب بلسان الحال في عمله غير صادق فيه فالصدق فيه هو استواء السريرة والعلانية بأن يكون باطنه مثل ظاهره أو خيرا من ظاهره
____________________
(1/446)
( إذا السر والإعلان في المؤمن استوى ** فقد عز في الدارين واستوجب الثنا )
( فإن خالف الإعلان سرا فماله ** على سعيه فضل سوى الكد والعنا )
ثم درجات الصدق لا نهاية لها وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقا في الجميع فهو الصديق حقا
____________________
(1/447)
كتاب المحاسبة والمراقبة بيان لزوم المحاسبة
قال الله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } وقال تعالى { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } وقال تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد } وقال تعالى { يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وقال تعالى { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وقال تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه } وقال تعالى { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
____________________
(1/448)
استدل بذلك أرباب البصائر أن الله تعالى لهم بالمرصاد وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات فتحققوا أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته فحتم على كل حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فانقضاء هذه الأنفاس ضائعة أو مصروفة إلى ما يجلب الهلاك خسران عظيم هائل لا تسمح به نفس عاقل بيان مشارطة النفس إذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه لمشارطة النفس فيقول لها ما لي بضاعة إلا العمر ومهما فني فقد فني رأس المال ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنسأ في أجلي وأنعم علي به ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا حتى أعمل فيه صالحا فاحسبي أنك قد توفيت ثم قد رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها فلا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك وتبقى عندك حسرة لا تفارقك وإن دخلت الجنة فألم الغبن وحسرته لا يطاق وقد قال بعضهم هب أن المسيء قد عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين أشار به إلى الغبن والحسرة وقال الله تعالى { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن } فهذه وصيته لنفسه في
____________________
(1/449)
أوقاته ثم ليستأنف لها وصية في أعضائه السبعة وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل فيوصيها بحفظها عن معاصيها
أما العين فيحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم أو إلى عورة مسلم أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار ثم إذا صرفها عن هذا لم يقنع به حتى يشغلها بما فيه تجارتها وربحها وهو ما خلقت له من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ومطالعة كتب الحكمة للاتعاظ والاستفادة
وهكذا ينبغي أن يفصل الأمر عليها في عضو عضو لا سيما اللسان والبطن
أما اللسان فلأنه منطلق بالطبع ولا مؤونة عليه في الحركة وجنايته عظيمة بالغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس ومذمة الخلق والأطعمة واللعن والدعاء على الأعداء والمماراة في الكلام وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير وتكرار العلم والتعليم وإرشاد عبد الله إلى طريق الله وإصلاح ذات البين وسائر خيراته
وأما البطن فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال واجتناب الشبهات ويمنعه من الشهوات وهكذا يشرط عليها في جميع الأعضاء واستقصاء ذلك يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعتها ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة وكيفية الاستعداد لها بأسبابها وكذا فيمن يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس قلما يخلو يوم عن مهم جديد وواقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها والانقياد للحق في مجاريها ويحذرها مغبة الإهمال ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }
____________________
(1/450)
فضيلة المراقبة
روي أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلوات الله عليه عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وقد قال تعالى { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } وقال تعالى { ألم يعلم بأن الله يرى } وقال تعالى { إن الله كان عليكم رقيبا } وقال الله تعالى { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون } وسئل بعضهم عن قوله تعالى { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } فقال معناه ذلك لمن راقب ربه عز وجل وحاسب نفسه وتزود لمعاده وقال رجل للجنيد بم أستعين على غض البصر فقال بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه حقيقة المراقبة
المراقبة هي ملاحظة الرقيب وانصراف الهم إليه ويعنى بها حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة وتثمر تلك الحالة أعمالا في الجوارح وفي القلب أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب وملاحظته إياه وأما المعرفة فهي العلم بأن الله مطلع على الضمائر عالم بالسرائر رقيب على أعمال العباد قائم على كل نفس بما كسبت وأن سر القلب في حقه مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف ثم للمراقب
____________________
(1/451)
في أعماله نظران نظر قبل العمل ونظر في العمل أما قبل العمل فلينظر همه وحركته أهي لله خاصة أو لهوى النفس ومتابعة الشيطان فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق فإن كان لله تعالى أمضاه وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكف عنه ثم لام نفسه على رغبته فيه وهمه به وميله إليه وعرفها سوء فعلها وأنها عدوة نفسها وأما النظر الثاني للمراقبة عند الشروع في العمل فذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه ويحسن النية في إتمامه ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه
وهذا ملازم له في جميع أحواله لأنه لا يخلو إما أن يكون في طاعة أو في معصية أو في مباح فمراقبته في الطاعات بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها عن الآفات وإن كان في معصية فمراقبته بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكير وإن كان في مباح فمراقبته بمراعاة الأدب ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها ولا يخلو العبد في جملة أحواله عن بلية لا بد له من الصبر عليها ونعمة لا بد له من الشكر عليها وكل ذلك من المراقبة بل لا ينفك العبد في كل حال من فرض الله تعالى عليه إما فعل يلزمه مباشرته أو محظور يلزمه تركه أو ندب حث عليه ليسارع به إلى مغفرة الله تعالى ويسابق به عباد الله أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وفيه عون له على طاعته ولكل واحد من ذلك حدود لا بد من مراعاتها بدوام المراقبة { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ومن كان فارغا من الفرائض وقدر على الفضائل فينبغي أن يلتمس أفضل الأعمال ليشتغل بها فإن من فاته مزيد ربح وهو قادر على دركه فهو مغبون والأرباح تنال بمزايا الفضائل بيان محاسبة النفس بعد العمل
قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال وقال تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه بالندم عليه وقال تعالى { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون }
____________________
(1/452)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم مائة مرة وقال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وقال مالك بن دينار رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا إذا علمت هذا فينبغي أن يكون للمرء في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصا منهم على الدنيا وكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة وقلة التوفيق ومعنى المحاسبة مع الشريك أن ينظر في رأس المال وفي الربح والخسران ليتبين له الزيادة من النقصان فإن كان من فضل حاصل استوفاه وشكره وإن كان من خسران طالبه بضمانه وكلفه تداركه في المستقبل فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل والفضائل وخسرانه المعاصي وموسم هذه التجارة جملة النهار ومعاملة نفسه الأمارة بالسوء فليحاسبها على الفرائض أولا فإن أداها على وجهها شكر الله تعالى عليه ورغبها في مثلها وإن فوتها من أصلها طالبها بالقضاء وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل وإن ارتكب معصية اشتغل بعقوبتها ومعاتبتها ليستوفي منها ما يتدارك به ما فرط كما يصنع التاجر بشريكه وليتكفل بنفسه من الحساب ما سيتولاه غيره في صعيد القيامة توبيخ النفس ومعاتبتها
اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وقد خلقت أمارة بالسوء ميالة إلى الشر فرارة من الخير وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة رجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها قال الله تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }
____________________
(1/453)
وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها وأنها أبدا تتعزز بفطنتها وهدايتها ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الحمق فتقول لها يا نفس ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقا أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب فمالك تشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ليس بآت أما تتدبرين قوله تعالى { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم } ويحك يا نفس إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حياءك
ويحك يا نفس لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه أفتظنين أنك تطيقين عذابه هيهات هيهات جربي نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام أو قربي أصبعك من النار ليتبين لك قدر طاقتك أم تغترين بكرم الله وفضله فما لك لا تعولين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك فإذا أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضي إلا بالدينار والدرهم فما لك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلم لا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبدا من عبيده فيحمل إليك حاجته من غير سعي منك ولا طلب أفتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها وأن رب الآخرة والدنيا واحد وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يا نفس أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته فتجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة ولبد وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك أفتظنين أن العبد ينجو بغير سعي هيهات كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبة والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحصن التوحيد وخندق الطاعات
____________________
(1/454)
وإنما كرم الله تعالى في أن عرفك طريق التحصن ويسر لك أسبابه لا في أن يدفع عنك العذاب دون حصنه انظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يدي الله وبأي لسان تجيبين وأعدي للسؤال جوابا وللجواب صوابا واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مقامة وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود واعلمي أنه ليس للدين عوض ولا للإيمان بدل ولا للجسد خلف ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة واقبلي هذه النصيحة فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار
فهذه طريق القوم في معاتبة نفوسهم ومقصودهم منها التنبيه والاسترعاء ومن أهمل المعاتبة لم يكن لنفسه مراعيا ويوشك أن لا يكون الله عنه راضيا
____________________
(1/455)
كتاب التفكر فضيلة التفكر
اعلم أنه قد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى وأثنى على المتفكرين فقال تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا } وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قوما تفكروا في الله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله وروي في السنة تفكر ساعة خير من عبادة سنة وقال حاتم من العبرة يزيد العلم ومن الذكر يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف وقال الشافعي رحمه الله تعالى استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر ثم إن ثمرة الفكر هي العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها لأنه الذي ينقل من المكارة إلى المحاب ويهدي إلى استثمار العلوم ونتاج المعارف والفوائد
____________________
(1/456)
بيان مجاري الفكر
اعلم أن أنواع مجاري الفكر أربعة الطاعات والمعاصي والصفات المهلكات والصفات المنجيات
فأما المعاصي فينبغي أن يفتش الإنسان صبيحة كل يوم جميع أعضائه السبعة ثم بدنه هل هو في الحال ملابس لمعصية بها فيتركها أو لابسها بالأمس فيتداركها بالترك والندم أو هو متعرض لها في نهاره فيستعد للاحتراز والتباعد عنها فينظر في اللسان ويقول إنه متعرض للغيبة والكذب وتزكية النفس والاستهزاء بالغير والمماراة والممازحة والخوض فيما لا يعني إلى غير ذلك من المكاره فيقرر أولا في نفسه أنها مكروهة عند الله تعالى ويتفكر في شواهد القرآن والسنة على شدة العذاب فيها فيحترز منها ويتفكر في سمعه أنه يصغي به إلى الغيبة والكذب وفضول الكلام وإلى اللهو وأنه ينبغي أن يحترز عنه ويتفكر في بطنه أنه إنما يعصي الله تعالى فيه بالأكل والشرب إما بكثرة الأكل من الحلال وذلك مكروه عند الله وإما بأكل الحرام والشبهة فيتفكر في الاحتراز عن مداخله ويتفكر في طريق الحلال وموارده ويقرر على نفسه أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها فهكذا يتفكر في أعضائه حتى يحفظها
وأما الطاعات فينظر أولا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير أو كيف يجبر نقصانها بالنوافل
ثم يرجع إلى عضو فيتفكر في الأفعال التي تتعلق به مما يحبه الله تعالى فيقول إن العين خلقت للنظر في ملكوت السموات والأرض عبرة ولتستعمل في طاعة الله تعالى وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله وأنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن والسنة فلم لا أفعله وأنا قادر على أن أنظر إلى فلان المطيع بعين التعظيم فأدخل السرور على قلبه فلم لا أفعله وكذلك يقول في سمعه إني قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة وعلم فمالي أعطله وقد أنعم الله علي به وأودعنيه لأشكره فمالي أكفر نعمة الله فيه بتضييعه وتعطيله وكذلك يتفكر في اللسان ويقول إني قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والوعظ والتودد إلى قلوب أهل الصلاح وبالسؤال عن أحوال الفقراء وإدخال السرور على قلب زيد الصالح وعمرو العالم بكلمة طيبة وكل كلمة طيبة فإنها صدقة وكذلك يتفكر في ماله فيقول أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني فإني مستغن عنه ومهما احتجت
____________________
(1/457)
إليه رزقني الله تعالى مثله وإن كنت محتاجا الآن فأنا إلى ثواب الإيثار أحوج مني إلى ذلك المال وهكذا يفتش عن جميع أعضائه وجملة بدنه وأمواله بل عن دوابه وأولاده فإن كل ذلك أدواته وأسبابه ويقدر على أن يطيع الله تعالى بها فيستنبط بدقيق الفكر وجوه الطاعات الممكنة بها ويتفكر فيما يرغبه في البدار إلى تلك الطاعات ويتفكر في إخلاص النية فيها وقس على هذا سائر الطاعات
وأما الصفات المهلكة التي محلها القلب فيعرفها مما تقدم وهي استيلاء الشهوة والغضب والبخل والكبر والعجب والرياء والحسد وسوء الظن والغفلة والغرور وغير ذلك ويتفقد من قلبه هذه الصفات ويتفكر في طريق العلاج لها مما سلف ذكره
وأما المنجيات فهي التوبة والندم على الذنوب والصبر على البلاء والشكر على النعماء والخوف والرجاء والزهد في الدنيا والإخلاص والصدق في الطاعات ومحبة الله وتعظيمه والرضا بأفعاله والشوق إليه والخشوع والتواضع له مما تقدم ذكره فيتفكر كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى الله تعالى فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم وأن العلوم لا يثمرها إلا أفكار فإذا أراد أن يكتسب لنفسه أحوال التوبة والندم فليفتش ذنوبه أولا وليتفكر فيها وليجمعها على نفسه وليعظمها في قلبه ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في الشرع فيها وليحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت الله تعالى حتى ينبعث له حال الندم وإذا أراد أن يستثير من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله وأياديه عليه وفي إرساله جميل ستره عليه وإذا أراد حال المحبة والشوق فليتفكر في جلال الله وجماله وعظمته وكبريائه وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه وإذا أراد حال الخوف فلينظر أولا في ذنوبه الظاهرة والباطنة ثم لينظر في الموت وسكراته ثم فيما بعده من سؤال القبر وحياته وعقاربه وديدانه ثم في هول النداء عند نفخة الصور ثم في هول المحشر عند جميع الخلائق على صعيد واحد ثم في المناقشة في الحساب والمضايقة في النقير والقطمير ثم ليحضر في قلبه صورة جهنم وأهوالها وسلاسلها وأغلالها وزقومها وصديدها وأنواع العذاب
____________________
(1/458)
فيها وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها وأنهم إذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وهلم جرا إلى جميع ما ورد في القرآن من شرحها وإذا أراد أن يستجلب حال الرجاء فلينظر إلى الجنة ونعيمها وأشجارها وحورها وولدانها ونعيمها المقيم وملكها الدائم فهكذا طريق الفكر الذي يطلب به العلوم التي تثمر اجتلاب أحوال محبوبة أو التنزه عن صفات مذمومة
وأما ذكر مجامع تلك الأحوال فلا يوجد فيه أنفع من قراءة القرآن بالتفكر فإن القرآن جامع لجميع المقامات والأحوال وفيه شفاء للعالمين فيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الأحوال وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العبد ويردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة بغير تدبر وفهم فليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة فإن تحت كل كلمة منها أسرارا لا تنحصر ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب بعد صدق المعاملة
____________________
(1/459)
وكذلك مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوتي جوامع الكلم وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة ولو تأملها العالم حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول عمره بيان كيفية التفكر في خلق الله تعالى
اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه وكل ذرة من الذرات ففيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته وإحصاء ذلك غير ممكن فلنذكر من الموجودات ما يدرك بحس البصر فإنه الأقرب إلى الأفهام وذلك من الآيات التي حث على التفكر فيها القرآن الكريم آية الإنسان
من آياته تعالى الإنسان المخلوق من النطفة وأقرب شيء إليك نفسك وفيك من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه فيا من هو غافل عن نفسه وجاهل بها كيف تطمع في معرفة غيرك وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وذكر أنه مخلوق من نطفة قذرة فقال { قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره } وقال تعالى { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } وقال تعالى { ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى } وقال تعالى { ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم } ثم ذكر تعالى كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاما فقال تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة } الآية فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليسمع لفظه ويترك التفكر في معناه فانظر الآن إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة
____________________
(1/460)
لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وكبر وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متشابهة متساوية إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص وفي آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات ما لو ذهبنا إلى وصفها لانقضى فيها الأعمار
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ثم جعلها قواما للبدن وعمادا له ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه مفتقرا للتردد في حاجاته لم يجعل عظمه عظما واحدا بل عظاما كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر حفرا غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها فصار الإنسان إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما تراه فمنها ما يخص القحف واللحي الأعلى واللحي الأسفل
____________________
(1/461)
والبقية هي الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن وبعضها حادة تصلح للقطع وهي الأنياب والأضراس والثنايا ثم جعل الرقبة مركبا للرأس ثم ركب الرقبة على الظهر وركب الظهر من اسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز ثم عظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين وتعداد ذلك يطول فانظر كيف خلق جميع ذلك من نطفة سخيفة رقيقة والقصد أن ينظر في مدبرها وخالقها كيف قدرها وخالف بين أشكالها وخصصها بعددها المخصوص لأنه لو زاد عليها واحدا لكان وبالا على الإنسان يحتاج إلى قلعه ولو نقص منها واحدا لكان نقصانا يحتاج إلى جبره ثم أمر الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين وعددها ومنابتها وانشعابها أعجب من هذا كله وشرحه يطول وكل ذلك صنع الله في قطرة ماء قذرة فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السموات وكواكبها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السموات تنفك عن حكمة وحكم بل هي أحكم خلقا وأتقن صنعا وأجمع للعجائب من بدن الإنسان بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات ولذلك قال تعالى { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا وتأمل أنه لو اجتمع الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته وكيفية خلقته بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه فالعجب منك لو نظرت إلى صورة تأنق النقاش في تصويرها لكثر تعجبك منه وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب والترائب ثم أخرجها منها وشكلها فأحسن تشكيلها وقدرها فأحسن تقديرها وتصويرها وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها وزين ظاهرها وباطنها ورتب عروقها وأعصابها وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعلها سميعة بصيرة عالمة ناطقة وخلق لها الظهر أساسا لبدنها والبطن حاويا لآلات غذائها والرأس جامعا لحواسها ففتح العينين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئتها ثم
____________________
(1/462)
حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السموات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها فهو ينظر إليها ثم شق أذنيه وأودعهما ماء مرا ليحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها وحوطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى صماخها ولتحس بدبيب الهوام إليها وجعل فيها تحريفات واعوجاجات لتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه من النوم صاحبها إذا قصدها دابة في حال النوم ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله وفتح منخريه وأودع فيه حاسة الشم ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته وليستنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه وترويحا لحرارة باطنه وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقا وترجمانا ومعربا عما في القلب وزين الفم بالأسنان ولتكون آلة الطحن والكسر والقطع فأحكم أصولها وحدد رؤوسها وبيض لونها ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم وخلق الشفتين وحسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه وليتم بها حروف الكلام ثم خلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت وخلق للسان قدرة للحركات والتقطيعات لتقطع الصوت في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر حتى اختلفت بسببها الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقان حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة ثم زين الرأس بالشعر والأصداغ وزين الوجه باللحية والحاجبين وزين الحاجب برقة الشعر واستقواس الشكل وزين العينين بالأهداب ثم خلق الأعضاء الباطنة وسخر كل واحد لفعل مخصوص فسخر المعدة لنضج الغذاء والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم والمثانة لقبول الماء حتى تخرجه في طريق الإحليل والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ثم خلق اليدين وطولهما لتمتد إلى المقاصد وعرض الكف وقسم الأصابع الخمس وقسم كل أصبع بثلاث أنامل ووضع الأربع في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الجميع وبهذا الترتيب صلحت اليد للقبض والإعطاء ثم خلق الأظفار على رؤوسها زينة للأنامل وعمادا لها من ورائها حتى لا تتقطع وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل وليحك بها بدنه عند الحاجة ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه
____________________
(1/463)
ولو في النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل ثم خلق هذا كله من النطفة وهي في داخل الرحم في ظلمات ثلاث فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه ثم انظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته فإنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي ثم لما كان بدنه سخيفا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف واستخرجه من بين الفرث والدم سائغا خالصا وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن وأنبت منها حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي ثم فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيقا جدا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجا فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخر خلق الأسنان إلى تمام الحولين لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ويحتاج إلى طعام غليظ ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن فأنبت له الأسنان عند الحاجة لا قبلها ولا بعدها فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثاث اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليه للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزا عن تدبير نفسه فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجا حتى بلغ وتكامل فصار مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا إما كفورا أو شكورا مطيعا أو عاصيا مؤمنا أو كافرا تصديقا لقوله تعالى { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } فانظر إلى اللطف والكرم ثم إلى القدرة والحكمة تبهرك عجائب الحضرة الربانية والعجب كل العجب ممن يرى خطا حسنا أو نقشا حسنا على حائط فيستحسنه فيصرف جميع همته إلى التفكر في النقاش والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكيف اقتدر عليه ولا يزال يستعظمه في نفسه ويقول ما أحذقه
____________________
(1/464)
وما أكمل صنعته وأحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا يدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته
فهذه نبذة من عجائب بدنك التي لا يمكن استقصاؤها فهو أقرب مجال لفكرك وأجلى شاهد على عظمة خالقك وأنت غافل عن ذلك مشغول ببطنك وفرجك لا تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل وتشبع فتنام وتشتهي فتجامع وتغضب فتقاتل والبهائم تشاركك في معرفة ذلك وإنما خاصية الإنسان التي حجبت البهائم عنها معرفة الله تعالى بالنظر في ملكوت السموات والأرض وعجائب الآفاق والأنفس إذ بها يدخل العبد في زمرة الملائكة المقربين ويحشر في زمرة النبيين والصديقين مقربا من حضرة رب العالمين وليست هذه المنزلة للبهائم ولا لإنسان رضي من الدنيا بشهوات البهائم فإنه شر من البهائم بكثير إذ لا قدرة للبهيمة على ذلك وأما هو فقد خلق الله له القدرة ثم عطلها وكفر نعمة الله فيها فأولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا وإذا عرفت طريق الفكر في نفسك فتفكر في الأرض التي هي مقرك ثم في أنهارها وبحارها وجبالها ومعادنها ثم ارتفع منها إلى ملكوت السموات آية الأرض
من آياته تعالى أن خلق الأرض فراشا ومهادا وسلك فيها سبلا فجاجا وجعلها ذلولا لتمشوا في مناكبها وجعلها قارة لا تتحرك وأرسى فيها الجبال أوتادا لها تمنعها من أن تميد ثم وسع أكنافها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها وقد أكثر تعالى في كتابه العزيز من ذكر الأرض ليتفكر في عجائبها فظهرها مقر الأحياء وبطنها مرقد الأموات قال الله تعالى { ألم نجعل الأرض }
____________________
(1/465)
كفاتا أحياء وأمواتا ) فانظر إلى الأرض وهي ميتة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأخضرت وأنبتت عجائب النبات وخرجت منها أصناف الحيوانات ثم انظر كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف أودع المياه تحتها ففجر العيون وأسال الأنهار تجري على وجهها وأخرج من الحجارة اليابسة ومن التراب الكدر ماء رقيقا صافيا زلالا وجعل به كل شيء حي فأخرج به فنون الأشجار والنبات من حب وعنب وقضب وزيتون ونخل ورمان وفواكه كثيرة لا تحصى مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والصفات والروائح يفضل بعضها على بعض في الأكل تسقى بماء واحد وتخرج من أرض واحدة فإن قلت إن اختلافها باختلاف بذورها وأصولها فمتى كان في النواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب ومتى كان في حبة واحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ثم انظر إلى أرض البوادي وفتش ظاهرها وباطنها فتراها ترابا متشابها فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ألوانا مختلفة ونباتا متشابها وغير متشابه لكل واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر فانظر إلى كثرتها واختلاف أصنافها وكثرة أشكالها ثم اختلاف طبائع النبات وكثرة منافعه وكيف أودع الله تعالى العقاقير المنافع الغريبة فهذا النبات يغذي وهذا يقوي وهذا يحيي وهذا يقتل وهذا يبرد وهذا يسخن وهذا يفرح وهذا ينوم فلم تنبت من الأرض ورقة ولا نبتة إلا وفيها منافع لا يقوى البشر على الوقوف على كنهها وكل واحد من هذا النبات يحتاج الفلاح في تربيته إلى عمل مخصوص ولو أردنا أن نذكر اختلاف أجناس النبات وأنواعه ومنافعه وأحواله وعجائبه لانقضت الأيام في
____________________
(1/466)
وصف ذلك فيكفيك من كل نبذة يسيرة تدل على طريق الفكر فهذه عجائب النبات آية أصناف الحيوانات
اعلم أن من آياته تعالى أصناف الحيوانات وانقسامها إلى ما يطير وإلى ما يمشي وانقسام ما يمشي إلى ما يمشي على رجلين وعلى أربع وعلى عشر وعلى مائة كما يشاهد في بعض الحشرات ثم انقسامها في المنافع والصور والأشكال والأخلاق والطباع فانظر إلى طيور الجو وإلى وحوش البر وإلى البهائم الأهلية تر فيها من العجائب ما لا تشك معه في عظمة خالقها وقدرة مقدرها وحكمة مصورها وكيف يمكن أن يستقصى ذلك بل لو أردنا أ ن نذكر عجائب البقة أو النملة أو النحلة أو العنكبوت وهي من صغار الحيوانات في بنائها بيتها وفي جمعها غذاءها وفي إلفها لزوجها وفي ادخارها لنفسها وفي حذقها في هندسة بيتها وفي هدايتها إلى حاجاتها لم نقدر على ذلك وكل يشهد بشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته لفاطره الحكيم وخالقه القادر العليم فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلا عن سائر الحيوانات
وهذا الباب أيضا لا حصر له فإن الحيوانات وأشكالها وطباعها غير محصورة وإنما سقط تعجب القلوب منها لأنسها بكثرة المشاهدة نعم إذا رأى حيوانا ولو دودا تجدد تعجبه وقال سبحان الله ما أعجبه والإنسان أعجب الحيوانات وليس يتعجب من نفسه بل لو نظر إلى الأنعام التي ألفها ونظر إلى أشكالها وصورها ثم إلى منافعها وفوائدها من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها التي جعلها الله لباسا لخلقه وأكنانا لهم في ظعنهم وإقامتهم وآنية لأشربتهم وأوعية لأغذيتهم وصوانا لأقدامهم وجعل ألبانها ولحومها أغذية لهم ثم جعل بعضها زينة للركوب وبعضها حاملة للأثقال قاطعة للبوادي والمفازات البعيدة لأكثر الناظر التعجب من حكمة خالقها ومصورها فإنه ما خلقها إلا بعلم محيط بجميع منافعها سابق على خلقه إياها فسبحان من الأمور مكشوفة في علمه من غير تفكر ومن غير
____________________
(1/467)
تأمل وتدبر ومن غير استعانة بوزير أو مشير فهو العليم الخبير الحكيم القدير فلقد استخرج بأقل القليل مما خلقه صدق الشهادة من قلوب العارفين بتوحيده فما للخلق إلا الإذعان لقهره وقدرته والاعتراف بربوبيته والإقرار بالعجز عن معرفة جلاله وعظمته فمن ذا الذي يحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وإنما غاية معرفتنا الاعتراف بالعجز عن معرفته فنسأل الله تعالى أن يكرمنا بهدايته بمنه ورأفته آية البحار
من آياته تعالى البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض وفيها من عجائب الحيوان والجواهر أضعاف ما تشاهده على وجه الأرض كما أن سعته أضعاف سعة الأرض أنظر كيف خلق الله اللؤلؤ ودوره في صدفه تحت الماء وانظر كيف أنبت المرجان من صم الصخور ثم تأمل ما عداه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه ثم انظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء وسير فيها التجار وطلاب الأموال وغيرهم وسخر لهم الفلك لتحمل أثقالهم
وأعجب من ذلك كله الماء ما هو أظهر من كل ظاهر وهو كيفية قطرة الماء وهو جسم رقيق لطيف سيال مشف متصل الأجزاء كأنه شيء واحد لطيف التركيب سريع القبول للتقطيع به حياة كل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات فلو احتاج العبد إلى شربة ماء ومنع منها لبذل جميع خزائن الأرض وملك الدنيا في تحصيلها لو ملك ذلك ثم لو شربها ومنع من إخراجها لبذل جميع خزائن الأرض وملك الدنيا في إخراجها
فالعجب من الآدمي كيف يستعظم الدينار والدرهم ونفائس الجواهر ويغفل عن نعمة الله في شربة ماء إذا احتاج إلى شربها أو الاستفراغ عنها بذل جميع الدنيا فيها فتأمل في عجائب المياه والأنهار والآبار والبحار ففيها متسع للفكر ومجال وكل ذلك شواهد متظاهرة وآيات متناصرة ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلال بارئها معربة عن كمال حكمته آية الهواء وعجائب الجو
ومن آياته تعالى الهواء اللطيف فإن شاء جعله نشرا بين يدي رحمته كما قال
____________________
(1/468)
سبحانه { وأرسلنا الرياح لواقح } فيصل بحركته روح الهواء إلى الحيوانات والنباتات فتستعد للنماء وإن شاء جعله عذابا على العصاة من خليقته كما قال تعالى { إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر }
ثم انظر إلى عجائب الجو وما يظهر فيه من الغيوم والرعود والبروق والأمطار والثلوج والشهب والصواعق فهي عجائب ما بين السماء والأرض وقد أشار القرآن إلى جملة ذلك في قوله تعالى { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } وهذا هو الذي بينهما وأشار إلى تفصيله في مواضع شتى حيث قال تعالى { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } وحيث تعرض للرعد والبرق والسحاب والمطر فتأمل السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله تعالى إذا شاء ومتى شاء وهو مع رخاوته حامل للماء الثقيل وممسك له في جو السماء إلى أن يأذن الله في إرسال الماء وتقطيع القطرات حتى يصيب الأرض قطرة قطرة فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يخلقوا منها قطرة لعجزوا وكل ذلك من فضل الجبار القادر لا إله إلا هو آية السموات
ومن آياته تعالى ملكوت السموات وما فيها من الكواكب وقد عظم الله تعالى أمر السموات والنجوم في كتابه فما من سورة إلا وتشتمل على تفخيمها في مواضع وكم من قسم في القرآن بها كقوله تعالى { والسماء والطارق } وقوله تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } وقد علمت أن عجائب النطفة القذرة عجز عن معرفتها الأولون والآخرون وما أقسم الله بها فما
____________________
(1/469)
ظنك بما أقسم الله تعالى به وأحال الأرزاق عليه وأضافها إليه فقال تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } وأثنى على المتفكرين فيه فقال { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } فارفع رأسك إلى السماء وانظر فيها وفي كواكبها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ومن غير تغير في سيرها بل تجري جميعا في منازل مرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طي السجل للكتب وتدبر كثرة كواكبها واختلاف ألوانها وكيفية أشكالها ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة ثم هي تطلع في كل يوم وتغرب ولولا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولم تعرف المواقيت ولأطبق الظلام على الدوام أو الضياء على الدوام فكان لا يتميز وقت المعاش عن وقت الاستراحة وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على ترتيب مخصوص وانظر كيف أمسكها من غير عمد ترونها ومن غير علاقة من فوقها وعجائب السموات لا مطمع في إحصاء عشر عشير جزء من أجزائها وإنما هذا تنبيه على طريق الفكر وعلى الجملة فما من كوكب من الكواكب إلا ولله تعالى فيه حكم كثيرة وكل العالم كبيت واحد والسماء سقفه فالعجب منك أنك تدخل بيت غني فتراه مزوقا بالصبغ مموها بالذهب فلا ينقطع تعجبك منه ولا تزال تذكره وتصف حسنه طول عمرك وأنت أبدا تنظر إلى هذا البيت العظيم وإلى أرضه وإلى سقفه وإلى هوائه وإلى عجائب أمتعته وغرائب حيواناته ثم لا تتحدث فيه ولا تلتفت بقلبك إليه ليس لك هم إلا شهوتك اشتغلت بأنواع الغرور وغفلت عن النظر في جمال ملكوت السموات والأرض فاستكثر من معرفة عجيب صنع الله تعالى لتكون معرفتك بجلاله وعظمته أتم والله الملهم
____________________
(1/470)
كتاب ذكر الموت وما بعده فضيلة ذكر الموت
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكثروا من ذكر هاذم اللذات وعنه صلوات الله عليه أكثروا من ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا وعنه عليه الصلاة والسلام كفى بالموت واعظا وعنه أكيس الناس أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة
وعن مطرف بن عبد الله قال إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه
واعلم أن المنهمك في الدنيا المكب على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه لا
____________________
(1/471)
محالة عن ذكر الموت فلا يذكره وإذا ذكر به كرهه ونفر منه أولئك هم الذين قال الله فيهم { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } ثم الناس إما منهمك وإما تائب مبتدئ وإما عارف منته
أما المنهمك فلا يذكر الموت وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته وهذا يزيده ذكر الموت من الله بعدا
وأما التائب فإنه يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية فيفي بتمام التوبة
وأما العارف فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد للقائه لحبيبه والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب
ثم إن أنجع طريق في ذكر الموت أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله فيتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم وأنه مثلهم وستكون عاقبته كعاقبتهم فملازمة هذه الأفكار مع دخول المقابر ومشاهدة المرضى هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب فيستعد له ويتجافى عن دار الغرور ومهما طاب قلبه بشيء من الدنيا ينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد من مفارقته نظر ابن مطيع ذات يوم إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى فقال والله لولا الموت لكنت بك مسرورا ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ثم بكى رحمه الله تعالى فضيلة قصر الأمل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك وعن
____________________
(1/472)
علي رضي الله عنه رفعه إن أشد ما اخاف عليكم خصلتان اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا
وسبب طول الأمل حب الدنيا والأنس بها والجهل باستبعاد الموت فجأة ولا يدري أن ذلك غير بعيد فإن الموت لا وقت له من شباب وشيب وكهولة ومن صيف وشتاء وخريف وربيع ومن ليل ونهار فلا يقدر نزول الموت به مع رؤياه من مات بين يديه ولا يقدر أن تشيع جنازته وهو لا يزال يشيع الجنائز فما أغفله وما أجهله فسبيله أن يقيس نفسه بغيره ويعلم أنه لا بد وأن تحمل جنازته ويدفن في قبره ولا علاج لذلك إلا الإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب فمهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير المبادرة إلى العمل وحذر آفة التأخير
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك وقال صلى الله عليه وسلم نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ أي إنه لا يغتنمهما ثم يعرف قدرهما عند زوالهما وكان الحسن يقول في موعظته المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل رحم الله امرأ نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه ثم قرأ هذه الآية { إنما نعد لهم عدا } يعني الأنفاس آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخولك في قبرك
وسبب التأخير هو الأنس بالدنيا وشهواتها والتسويف فلا يزال يسوف ويؤخر ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر وهكذا على
____________________
(1/473)
التدرج يؤخر يوما بعد يوم ويفضي به شغل إلى شغل بل إلى أشغال إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته وأكثر أهل النار وصياحهم من سوف يقولون واحزناه من سوف والمسوف المسكين لا يدري أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخا ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا فراغ قط هيهات فما يفرغ منها إلا من اطرحها
( فما قضى أحد منها لبانته ** وما انتهى أرب إلا إلى أرب )
نساله تعالى أن لا يجعل لنا بعد الموت حسرة إنه سميع الدعاء بيان سكرة الموت والاعتبار بالجنائز وزيارة القبور
اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديرا بأن يتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته وحقيقا بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده لا سيما وهو في كل نفس بصدده كما قال بعض الحكماء كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك
واعلم أن الجنائز عبرة للبصير وفيها تنبيه وتذكير لا لأهل الغفلة فإنها لا تزيدهم مشاهدتها إلا قسوة لأنهم يظنون أنهم أبدا إلى جنازة غيرهم ينظرون ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون أو يحسبون ذلك ولكنهم على القرب لا يقدرون ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا يحسبون فبطل حسبانهم وانقرض على القرب زمانهم فلا ينظر عبد إلى جنازة إلا ويقدر نفسه محمولا عليها فإنه محمول عليها على القرب وكأن قد ولعله في غد أو بعد غد قال ثابت البناني كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعا باكيا فهكذا كان خوفهم من الموت والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه ولا يتفكر واحد منهم إلى ما شاء الله في جنازة نفسه وفي حاله إذا حمل عليها ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى
____________________
(1/474)
نسينا الله تعالى واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا فنسأل الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة
فمن آداب حضور الجنازة التفكر والتنبه والاستعداد و المشي أمامها على هيئة التواضع ومن آدابه حسن الظن بالميت وإن كان فاسقا وإساءة الظن بالنفس وإن كان ظاهرها الصلاح فإن الخاتمة مخطرة لا يدرى حقيقتها
وأما زيارة القبور فهي مستحبة على الجملة للتذكر والاعتبار وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم أذن في ذلك بعد وأما النساء فلا يفي خير زيارتهن بشرها لأنهن يكثرن الهجر على رؤوس المقابر ولا يخلون في الطريق عن تكشف وتبرج وهذه عظائم والزيارة سنة فكيف يحتمل ذلك لأجلها نعم لا بأس بخروج المرأة في ثياب بذلة ترد أعين الرجال عنها وذلك بشرط الاقتصار على الدعاء وترك الحديث على رأس القبر
والمستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبر القبلة مستقبلا لوجه الميت وأن يسلم ولا يمسح القبر ولا يمسه ولا يقبله فإن ذلك من عادة النصارى قال نافع كان ابن عمر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على أبي وينصرف وكان بعض السلف إذا وقف على باب المقابر يقول آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم وتجاوز عن سيئاتكم وقبل الله حسناتكم فالمقصود من زيارة القبور للزائر الاعتبار بها وللمزور الانتفاع بدعائه فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت ولا عن الاعتبار به وإنما يحصل له الاعتبار به بأن يتصور في قلبه الميت كيف تفرقت أجزاؤه وكيف يبعث من قبره وأنه على القرب سيلحق به ويستحب الثناء على الميت وأن لا يذكر إلا بالجميل قال صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا بيان المأثور عند موت الولد
حق على من مات ولده أو قريب من أقاربه أن ينزله في تقدمه عليه في الموت
____________________
(1/475)
منزلة ما لو كان في سفر فسبقه الولد إلى البلد الذي هو مستقره ووطنه فإنه لا يعظم عليه تأسفه لعلمه أنه لاحق به على القرب وليس بينهما إلا تقدم وتأخر وهكذا الموت فإن معناه السبق إلى الوطن إلى أن يلحق المتأخر وإذا اعتقد هذا قل جزعه وحزنه لا سيما وقد ورد في موت الولد من الثواب ما يعزى به كل مصاب فعن أبي هريرة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي وإنما ذكر السقط تنبيها بالأدنى على الأعلى وإلا فالثواب على قدر محل الولد من القلب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار فقالت امرأة أو اثنان يا رسول الله قال أو اثنان وليخلص الوالد الدعاء لولده عند الموت فإنه أرجى دعاء وأقربه إلى الإجابة وقف أبو سنان على قبر ابنه فقال اللهم إني قد غفرت له ما وجب لي عليه فاغفر له ما وجب لك عليه فإنك أجود وأكرم ووقف أعرابي على قبر ابنه فقال اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه من بري فهب له ما قصر فيه من طاعتك وينبغي أن يتذكر عند موت الولد الفجائع الكبرى ليتسلى بها عن شدة الجزع فما من مصيبة إلا ويتصور ما هو أعظم منها وما يدفعه الله في كل حال فهو الأكثر ذكرى ما بعد الموت من البرزخ وأهوال القيامة
كما أن للموت شدة في أحواله وسكراته وخطرا في خوف العاقبة كذلك الخطر في مقاساة ظلمة القبر وديدانه ثم لمنكر ونكير وسؤالهما ثم لعذاب القبر وخطره إن كان مغضوبا عليه وأعظم من ذلك كله الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور
____________________
(1/476)
والبعث يوم النشور والعرض على الجبار والسؤال عن القليل والكثير ونصب الميزان لمعرفة المقادير ثم جواز الصراط ثم انتظار النداء عند فصل القضاء إما بالإسعاد وإما بالإشقاء فهذه أحوال وأهوال لا بد لك من معرفتها ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق ثم تطويل الفكر في ذلك لينبعث من قلبك دواعي الاستعداد لها وأكثر الناس لم يدخل الإيمان باليوم الآخر صميم قلوبهم ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم ويدل على ذلك شدة تشمرهم واستعدادهم لحر الصيف وبرد الشتاء وتهاونهم بحر جهنم وزمهريرها مع ما تكتنفه من المصاعب والأهوال بل إذا سئلوا عن اليوم الآخر نطقت به ألسنتهم ثم غفلت عنه قلوبهم ومن أخبر بأن ما بين يديه من الطعام مسموم فقال لصاحبه الذي أخبره صدقت ثم مد يده لتناوله كان مصدقا بلسانه ومكذبا بعمله وتكذيب العمل أبلغ من تكذيب اللسان فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتا من شدة الصعقة شاخص العين نحو النداء وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاهم وقد أزعجهم الرعب مضافا إلى ما كان عندهم من الهموم والغموم وشدة الانتظار لعاقبة الأمر كما قال الله تعالى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } فتفكر في الخلائق وذلهم وانكسارهم واستكانتهم انتظارا لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة وأنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم متحير كتحيرهم فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بدلت الأرض غير الأرض والسموات وطمس الشمس والقمر وأظلمت الأرض واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة وازدحموا في الموقف شاخصة أبصارهم منفطرة قلوبهم فتأمل يا مسكين في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه والخجلة والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار تعالى وأنت عار مكشوف ذليل متحير مبهوت منتظر لما يجري عليك القضاء بالسعادة أو بالشقاوة وأعظم بهذه الحال فإنها عظيمة واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه القاهر سلطانه القريب أوانه يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت { وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } يوم ترى السماء فيه قد
____________________
(1/477)
انفطرت والكواكب من هوله قد انتثرت والنجوم الزواهر قد انكدرت والشمس قد كورت والجبال قد سيرت والعشار قد عطلت والوحوش قد حشرت والبحار قد سجرت والنفوس إلى الأبدان قد زوجت والجحيم قد سعرت والجنة قد أزلفت
وقد وصف الله بعض دواهي يوم القيامة وأكثر من أساميه لتقف بكثرة أساميه على كثرة معانيه فليس المقصود بكثرة الأسامي تكرير الأسامي والألقاب بل الغرض تنبيه أولي الألباب فتحت كل اسم من أسماء القيامة سر وفي كل نعت من نعوتها معنى فاحرص على معرفة معانيها فمن أساميها يوم القيامة ويوم الحسرة ويوم الندامة ويوم المحاسبة ويوم الزلزلة ويوم الصاعقة ويوم الواقعة ويوم القارعة ويوم الغاشية ويوم الراجفة ويوم الحاقة ويوم الطامة ويوم الصاخة
____________________
(1/478)
ويوم التلاق ويوم التناد ويوم الجزاء ويوم الوعيد ويوم العرض ويوم الوزن ويوم الفصل ويوم الجمع ويوم البعث ويوم الخزي ويوم عسير ويوم الدين ويوم النشور ويوم الخلود ويوم لا ريب فيه ويوم لا تجزي
____________________
(1/479)
نفس عن نفس شيئا ويوم تشخص فيه الأبصار ويوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
فالويل كل الويل للغافلين يرسل الله لنا سيد المرسلين وينزل عليه الكتاب المبين ويخبرنا بهذه الصفات من نعوت يوم الدين ثم يعرفنا غفلتنا ويقول { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم } ثم يعرفنا قرب القيامة فيقول { اقتربت الساعة وانشق القمر } { إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا } { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } ثم يكون أحسن أحوالنا أن نتخذ دراسة هذا القرآن عملا فلا نتدبر معانيه ولا ننظر في كثرة أوصاف هذا اليوم وأساميه ولا نستعد للتخلص من دواهيه فنعوذ بالله من هذه الغفلة إن لم يتداركنا الله بواسع رحمته صفة السؤال
ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأحوال فيما يتوجه عليك من السؤال شفاها من غير ترجمان فتسأل عن القليل والكثير والنقير والقطمير فبينا أنت في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها إذ نزلت ملائكة من أرجاء السماء إلى موقف العرض على الجبار فيقومون صفا صفا محدقين بالخلائق من الجوانب وينادون واحدا بعد واحد فعند ذلك ترتعد الفرائص وتضطرب الجوارح وتبهت العقول ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ولا تعرض قبائح أعمالهم على الجبار ولا يكشف سترهم على ملأ الخلائق وقبل الابتداء بالسؤال يظهر نور العرش { وأشرقت الأرض بنور ربها }
____________________
(1/480)
) وأيقن قلب كل عبد بإقبال الجبار لمساءلة العباد وظن كل واحد أنه ما يراه أحد سواه وأنه المقصود بالأخذ والسؤال دون من عداه فيبدأ سبحانه بالأنبياء { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } فيا لشدة يوم تذهل فيه عقول الأنبياء من شدة الهيبة ثم يؤخذ واحد واحد فيسأله الله تعالى شفاها عن قليل عمله وكثيره وعن سره وعلانيته وعن جميع جوارحه وأعضائه فكيف ترى حياءك وخجلتك وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك وأياديه ومساويك فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك وأنت بقلب خافق وطرف خاشع وأعطيت كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فكم من فاحشة نسيتها فتذكرتها وكم من طاعة غفلت عن آفاتها فانكشف لك عن مساويها فليت شعري بأي قدم تقف بين يديه وبأي لسان تجيب وبأي قلب تعقل ما تقول وفي الخبر لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع خصال عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم فأعظم يا مسكين بحياتك عند ذلك وبخطرك ثم لا تغفل عن الفكر في الميزان وتطاير الكتب إلى الشمائل والأيمان { فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية } صفة الخصماء ورد المظالم
اعلم أنه لا ينجو من خطر الميزان إلا من حاسب في الدنيا نفسه ووزن فيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل أن يموت توبة نصوحا ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله تعالى ويرد المظالم حبة بعد حبة حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة ولا فريضة فهذا يدخل الجنة بغير حساب وإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه فهذا يأخذ بيده
____________________
(1/481)
وهذا يقبض على ناصيته وهذا يقول ظلمتني وهذا يقول شتمتني وهذا يقول استهزأت بي وهذا يقول جاورتني فأسأت جواري وهذا يقول عاملتني فغششتني وهذا يقول أخفيت عيب سلعتك عني وهذا يقول كذبت في سعر متاعك وهذا يقول رأيتني محتاجا وأنت غني فما أكرمتني وهذا يقول وجدتني مظلوما وكنت قادرا على دفع الظلم عني فما راعيتني فبينما أنت كذلك وقد أنشبت الخصماء فيك مخالبهم وأنت مبهوت متحير من كثرتهم إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } فعند ذلك ينخلع قلبك وتتذكر ما أنذرك الله على لسان رسوله حيث قال { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء } فما أشد ترحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم وما أشد حسراتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل وكشف عن فضائحك ومساويك فاحذر من التعرض لسخط الله وعقابه الأليم واستقم على صراطه المستقيم فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم خف على صراط الآخرة ونجا ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا وأثقل ظهره بالأوزار وعصى تعثر في أول قدم من الصراط وتردى القول في أهوال جهنم وقانا الله عذابها
يا أيها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه واصرف الفكر إلى موردك فإنك أخبرت بأن النار مورد للجميع إذ قال سبحانه { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } فأنت من الورود على يقين ومن النجاة في شك فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه وتأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من
____________________
(1/482)
دواهي القيامة ما قاسوا فبينما هم في كربها وأهوالها وقوفا ينتظرون حقيقة أنبائها وتشفيع شفعائها إذ أحاطت المجرمين ظلمات ذات شعب وأظلت عليهم نار ذات لهب وسمعوا لها زفيرا يفصح عن شدة الغيظ و الغضب فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب وجثت الأمم على الركب حتى أشفق البرءاء من سوء المنقلب فهناك تسوق الزبانية المجرمين إلى العذاب الشديد وينكسونه في قعر الجحيم ويقولون له { ذق إنك أنت العزيز الكريم } فاسكنوا دارا يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير شرابهم فيها الحميم ومستقرهم الجحيم شدت أقدامهم إلى النواصي واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها يا مالك قد نضجت منا الجلود يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود فتقول الزبانية هيهات لات حين أمان ولا خروج لكم من دار الهوان فاخسؤوا فيها ولاتكلمون ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون فعند ذلك يقنطون وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف يدعون بالويل والثبور وتغلي بهم النار كغلي القدور تهشم بمقامع الحديد جباههم فيتفجر الصديد من أفواههم وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون فكيف بك لو نظرت إليهم وقد اسودت وجوههم أشد سواد من الحميم وأعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وكسرت عظامهم ومزقت جلودهم ولهيب النار سار في بواطن أجزائهم وحيات
____________________
(1/483)
الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم هذا بعض جملة أحوالهم وانظر إلى تفاوت الدركات فإن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا فكما أن إكباب الناس على الدنيا يتفاوت فمن منهمك مستكثر كالغريق فيها ومن خائض فيها إلى حد محدود فكذلك تناول النار لهم متفاوت فإن الله لا يظلم مثقال ذرة فلا تترادف أنواع العذاب على كل من في النار كيفما كان بل لكل واحد حد معلوم على قدر عصيانه وذنبه إلا أن أقلهم عذابا لو عرضت عليه الدنيا لافتدى بها من شدة ما هو فيه فيا لحسرة هؤلاء وقد بلوا بما بلوا به ولم يبق معهم شيء من نعيم الدنيا ولذاتها
فانظر يا مسكين في هذه الأهوال والعجب منك حيث تضحك وتلهو وتشتغل بمحقرات الدنيا ولست تدري بماذا سبق القضاء في حقك فإن قلت فليت شعري ماذا موردي وإلى ماذا مآلي ومرجعي وما الذي سبق به القضاء في حقي فلك علامة تستأنس بها وتصدق رجاءك بسببها وهو أن تنظر إلى أحوالك وأعمالك فإن كلا ميسر لما خلق له فإن كان قد يسر لك سبيل الخير فأبشر فإنك مبعد عن النار وإن كنت لا تقصد خيرا إلا وتحيط بك العوائق فتدفعه ولا تقصد شرا إلا ويتيسر لك أسبابه فاعلم أنك مقضي عليك فإن دلالة هذا على العاقبة كدلالة المطر على النبات ودلالة الدخان على النار فقد قال الله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } فاعرض نفسك على الآيتين وقد عرفت مستقرك من الدارين صفة الجنة وأصناف نعيمها
اعلم أن تلك الدار التي عرفت همومها وغمومها يقابلها دار أخرى فتأمل في نعيمها وسرورها فإن من بعد من إحداهما استقر لا محالة في الأخرى فسق نفسك بسوط التقوى لتنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم فتفكر في أهل الجنة وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر الياقوت متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل محفوفة
____________________
(1/484)
بالغلمان والولدان مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يخافون فيها ولا يحزنون ومن ريب المنون آمنون فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها ويوقن بأنه لا يموت أهلها ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها كيف يأنس ويتهنأ بعيش دونها والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت والجوع والعطش وسائر أصناف الحدثان لكان جديرا بأن يهجر الدنيا بسببها وأن لا يؤثر عليها ما التصرم والتنغص من ضرورته كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرور ممتعون لهم فيها كل ما يشتهون وإلى وجه الله الكريم ينظرون وينالون بالنظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ومهما أردت أن تعرف صفة الجنة فاقرأ القرآن فليس وراء بيان الله تعالى بيان وأقرأ قوله تعالى { ولمن خاف مقام ربه جنتان } إلى آخر سورة الرحمن واقرأ سورة الواقعة وسورة الإنسان وغيرها من السور ففيها ما يدلك على أن ثمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما ورد في الأثر ويكفي من الاطلاع على جملتها ما بينا وقد ورد في تفصيل صفاتها كثير من الأخبار المدونة في الأسفار الكبار واعلم أن درجات الآخرة متفاوتة فإن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وكما أن بين الناس في الطاعات الظاهرة والأخلاق الباطنة المحمودة تفاوتا ظاهرا فكذلك فيما يجازون به تفاوت ظاهر فإن كنت تطلب أعلى الدرجات فاجتهد أن لا يسبقك أحد بطاعة الله تعالى فقد أمرك الله بالمسابقة والمنافسة فيها فقال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين }
____________________
(1/485)
وقال تعالى { إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون }
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونستغفرك من كل ما زلت به القدم أو طغى به القلم يا واسع المغفرة يا أرحم الراحمين قال مؤلفه رحمه الله
تم بحمده تعالى اختصار إحياء علوم الدين ليلة الجمعة السادسة عشرة من ربيع الثاني قبيل العشاء سنة 1324 هـفي دارنا ظاهر باب الجابية في زقاق العلامة المكتبي على يد جامعه الفقير محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح القاسمي الدمشقي عفا المولى عن زلله بمنه وفضله آمين
____________________
(1/486)